ابن زُريق لم يمتْ
جلسَ بفخرٍ متعالٍ لا يناسب إخفاقاته المتكرّرة التي
كبدّته خسائر جسيمة بالتّرقيات وساعات عمل إضافية مجانية حدّ تسلّخ إبطيه ،
وتعفّن أصابع قدميه في حذائه الرّسميّ العتيد ، ولكن هذه هي لحظة الانتصار
المنتظرة ، رقصّ رجلاً فوق رجل ، وقال بثقـةٍ فضفاضةٍ تناسب ابتسامـة شدقيه
: " هذا هـو الدّليل " رفـع المدير حاجبيه ثم قطبهما دون مبالاةٍ ، وقال :
" الدليل على ماذا ؟ "
قال باعتزاز من حلّق فوق سوامق الجبال ووطئ الغيوم
بقدميه : " الدليل على أنّ ابن زريق لم يمت ".
هزّ المدير رأسه ، وطوّح كتفيه كناية عن أمرٍ لم
يفهمه الموظّف ، وقال : " من هو ابن زريق هذا ؟ "
-" صاحب القصيدة العينيّة الشّهيرة ".
-" أيّ عينّية ؟ ". سأل المدير بصبر فارغ وتقزّزٍ.
أجاب الموظّف بحماس طفلٍ مدرسيّ ، وانتصب على قدميه
، وضمّ فخداً إلى الآخر ، وشدّ معدته بزفير عميق ، وقال جاحظ العينين يبذل
جهدًا كي لا ينسى ما حفظ :
الذي قال :
" لا تعذليه إنّ العذل يولعه
قد قلتِ حقًا و
لكن ليـس يسمعه
جاوزتِ في لومه حدًّا أضرّ
به من حيث
قدّرتْ أنّ اللوم ينفعه
فاستعملي الرّفق في تأنيبه بدلاً
من لومه فهو
مُضنى القلب موجعه "
قال المدير باستهزاء بادٍ : " وماذا قال أيضًا ؟ "
قال :
" وإنْ تنلْ أحدًا منا منيته
فما الذي بقضاء
الله نصنعه "
نقر المدير بأصابعه ذات الأصابع الشّجريّة السّمينة
على زجاج مكتبه ، وقـال : " كفاك يا رجل : مَنْ هو ابن زريق هذا ؟ "
-" هو ابن زريق البغدادي ؟ "
سأل المدير وهو يراود غضبًا يكاد يسحقه. " ومن هو
ابن زريق البغدادي هذا ؟ أهو عميل عندنا أم موظّف ؟ تكلّم سريعًا لا وقت
عندي أبدّده عليك وعليه ".
-قهقه الموظّف قهقهة مصنوعة بدقة ، وقال : " بل هو
لص كبير ، أراد أن يخدعنا ، بل ويخدع كلّ النّاس والتّاريخ والشّعر الجميل
وآلاف العصافير ، وجعل من القصيدة التي أسمعتكَ مطلعها طريقه إلى ذلك ، لقد
أثبتتْ تحرياتي السّريّة أنّه كان شاعرًا مغمورًا وعاشقًا لعوبًا وتاجرًا
فاشلاً في بغداد ،وبعد تحريرها على أيدي أمريكا الفاتحة بعد قرون من احتلال
العراقيين لها قرّر أن يركب الموجة ، ويخدع الجميع ، ويستغلنا نحن
الأمريكيين الطيبين ، أمّن على حياته في فرع شركتنا في دارفور ، ثم تسلّل
بشكل غير شرعي إلى إسبانيا ، وادّعى أنّها الأندلس ، وموطن الأجداد العرب ،
وأعدّ العدّة ، وكتب هذه القصيدة المسروقة من متحف اللّوفر منذ وفاة صموئيل
شامير الذي كتبها عن معاناة شعبه إبّان محارق النازيين له ، ومثّل دور
الميت حزنًا وكمدًا وهمًا ، ودُفن في فناءٍ مجهول ، ثم جاءت زوجته اللّئيمة
لتطالب بقيمة التّأمين على حياته بعد أن نشرتْ قصيدته المسروقة على
الإنترنت ، فتغنّى بها العرب ، وطربتْ لها رمال الصحراء ، وسار بها الحداة
وعازفو الربّابة. وللحقّ كادتْ تخدعنا ، وتحصل على التأمين لتسعد به وذلك
اللئيم ، لكن ذكائي بل وخبثي وأنفي الحسّاس لكلّ خداع كشف حيلته ، وعرف أنّ
موته ليس أكثر من إقامة مشروطة في القبر إلى حين انتهاء مدة عقوبة فقره ،
وأنّ زوجته اللئيمة بدأت تخيط من خوص دجلة والفرات غيومًا متلبّدة ، وكدت
أسمع صريخ الرّعد ، وأرى وهج البرق ، لكن في اللّحظة المناسبة اسيقظ صموئيل
من قبره ، وأعلن ملكيته للعينيّة ، وفضح أكاذيب ابن زريق ذلك الأعرابي
الجلف السّارق ، عندها قبضتُ بمساعدة قوات التّحرير الأمريكيّة على ابن
زريق متلبسًا بالموت في قبره ، وألزمناه بالغرامات ، وحرّمنا عليه قول كلمة
" علوج " ، وإلى الأبد.
صمتْ الموظّف ليرى أثر كلامه على وجه مديره الذي
راعه مدى الشبه بين قسماته وأحافير وجه خنزيره " بولي " ثم ازدرد ريقه ،
وأخذ جرعة ماء من كأسٍ أمامه.
فانتهره المدير قائلاً بتوتر : " ثم ماذا حدث ؟ بدأت
أُعجبُ بكَ الموظف الذّكي ".
استأنف الموظف بكبرٍ لا يليق بصفرته الشّاحبة : " ثم
استصدرتُ قرارًا قانونيًا عاجلاً نظرًا لمدى تضرّر الشّاعر الملهم صموئيل
واستياء قبيلته التائهة في ضفاف بلاد البحيرات بإعدام ابن زريق بقصيدته ".
-" وهل أُعدم بحق ؟ "
-" نعم ، بالتأكيد ".
-" أحسنت وماذا بعد ؟ "
-" استرددتُ من ورثته مال التأمين ، علمًا بأنّنا لم
نكن قد دفعناه لهم أصلاً ".
-" رائع. ومن دفعه ؟ "
-" دفعه كلّ عربيّ أحمق حفظ عينيته المسروقة ".
-" رائع !!! وماذا بعد ؟ "
-" وردتني آلاف التقاريـر من مصادر موثوقـة تُفيد
بأنّ ابن زريق بحق هذه المـرة لم يمت !!! "
أحزان هندسية
(1)
أحزان نقطة المركز
هو المركز في الاهتمام ، يشعر بأنّ الدّنيا تدور من
حوله ، وهو في المركز لا يتحرّك ، ولكنّه لسبب لا يستطيع أن يصوغه بالكلمات
يتمنّى لو كان له حظٌّ كذلك في الدوران حيث الانعتاق والانفلات ، ويشعر
بأنّ هذا المركز الذي يقع فيه ، ويجعله قبلة الرّعاية والعناية هو ذاته
الذي يكبّله ويقيّده ويفرض وصاية كلّ من حوله عليه ، على الرّغم من أنّ
أمّه تقول إنّ عمره الآن يكاد يبلغ السابعة عشرة ، إذن فهو كبير مثل أخيه
مأمون ، وأصدقائه الصّغار في دار الرّعاية الخاصة أمثال لما وجواد وذلك
الأشقر الصّغير الذي ينسى اسمه كثيرًا ، إذن فلماذا يعامل معاملة الأطفال ؟
ربما وجوده في المركز هو السّبب.
في البيت مآل اهتمام الكلّ ورعايتهم ، يطعمونه
ويغسلون جسده ، ويقومون بكلّ أموره ، ويربتون عليه كقطٍّ شاميٍّ مدلّل ،
وفي الشّارع تفرض أمّه أو معلمته أو مرافقة الباص الخاص الذي يستقلّه
وصولاً إلى مدرسته عليه وصاياتها واهتمامها ، وفي المدرسـة كذلك هو نقطة
المركـز ، فلا يدرس في صفٍّ تقليديّ ، فيه طلبة ومقاعد ومعلّمة ، بل يدرس
وحـده في مقعد أزرق مزركش ، وفي غرفة وحده ، ومع معلّمة متفرّغة له ، فلا
يسعد بلحظة مشاكسةٍ ، أو حركة فوضى أو تشتّتِ انتباه ، وفي باحة المدرسة
ترافقه معلمة ، تعدّل مشيته ، وترعاه ، وتعدّ أنفاسه عليه ، وكلّ ذلك سببه
أنّه مهم ونقطة مركز حياة أمّه كما قالت له كلما احتجَّ على الحَجْرِ على
حريّته ، وعلى إجباره على لزومه البيت دون إخوته الذين يخرجون بحريّة ، حتى
أخته زينة التي تصغره بسنوات ، ويستطيع أن يحملها بيديه لساعات دون أن
يتعب تحظّى بحريّة دونها حرّيته.
ليته كان قادرًا على أن يصوغ احتجاجه في كلمات ،
وليته كان قادرًا على نطق كلماته بسهولةٍ دون تأتأة وتلعثم واضطراب إذن
لقال للجميع : إنّه يكره نقطة المركز اللّعينة ، ويكره أنّه طفل منغوليّ
كما يلقّبه الأطفال في الشّارع كلّما أطلّ عليهم من شرفة منزله ، لابدّ أن
منغولي تعني أنّه يعيش في المركز ، لا تعني " ابني حبيبي " كما قالتْ له
أمّه ، التي تكذبُ عليه كثيرًا بما يخصّ أزمته مع نقطة المركز التي يشغلها
، وتبكي بحرقة وهي تحضنه.
(2)
أحزان خطّين متوازيين
عندما تعارفا كان خطّين متوازيين ، لكن بانحراف نحو
مركز واحد اسمه النّجاح والطّموح ، وكان من المؤكّد إنّها سيتقاطعان أو
يلتقيان في نقطة ما ، أمّلا طويلاً أن تكون المركز ، وفي وتيرة النّشاط
والدأب ، وحمـأة الإنجاز وُلدتْ ومضة بينهما جعلتَ الدّرب أجمل ، والمسافة
أقصر ، وكان العشق بينهما.
كلّ منهما نشأ يبرز في حقله ، وينجز الكثير ، هو سار
قدمًا في تولّي المناصب ، حتى أصبح وكيلاً للوزارة ، وهي سارتْ قدمًا حتى
أدركتْ المجد الإبداعي المسرحيّ الذي نشَدتْ ، واقتربتْ لحظة التقاء
الخطّين في نقطة مركز ، وأعدّا العـدّة ، واشتريا خاتميّ الزواج ، ووهبا
وقتهما من أجل التّفاصيل الصغيرة التي يحتاجان إليها لإكمال مراسيم زواجهما
، وفي تلك التفاصيل كمنتْ عواصف الفرقة والشّقاق ، هي اجتهدتْ وتعبتْ وتريد
مكاسب وغنائم تناسب تضحياتها ، وهو اجتهد وتعب ويريد استسلامًا وخنوعًا له
يناسبان رجولته وسطوته ، هي عنيدة وهو متشدّد ، هي لن تقبل بالخسارة ، وهو
لا يؤمن بالتّنازل ، هي تخلع خاتم الخطوبة ، وهو لا يبالي ، كلاهما يؤمن
بموقفه الذي لا يتغيّر ، ويؤمن بأنّه مستقيم لا ينحني ، ولا ينحرف قَيْد
أنملة عن شأنه وموقفه ، يسير كلّ منهما في طريقه ، يغدوان خطّن متوازيينِ
لا يمكن أن يلتقيا أبدًا مهما طال بهما الطريق ، مهما تجاورا.
في البداية ما كان أحدهما ليبالي بالآخر ، وكلٌّ
منهما أشاح بوجهه عن الآخر ، وحثّا كلّ طاقتيهما على الرّكض والمزيد من
الإنجاز ، فطال بهما المشوار ، إذ كان مشوار العمر ، وعندما لاحتْ لهما
نقطة النّهاية ، محمّلين بكبرهما وحرمانهما وذكرياتهما المكسورة تنهّدا
وتمنيا بصدق آسف محمّلٍ بالحسرة لو لم يكونا خطّين متوازيين ، إذن لكانا
التقيا منذ زمن ، وسعدا ، وما عرفا أحزان التّنائي ، وصقيع اللّوعة ، لكن
قدرهما كان التجاور أبدًا دون لخطة لقاء.
(3)
أحزان مثلّث
القانون الهندسي يؤكّد أنّ زوايا المثّلث بنفس
الإنفراج أو الحدّة ، لذا فهي صورة عن بعضها ، ونسخةً مكرّرة لثلاث مرات عن
حالة واحدةٍ ، لكن قانون الأحزان يؤكّد غير ذلك ، فزوايا المثلث عنده غير
متكافئة ، فبعضها منفرج على الآخران ، وبعضها الآخر ضامٌ على ألمه ، في حين
بعض منها يلتزم الحياد ، وأضلاعه غير متكافئة في الطّول ، فبعضها طويل
بألمه ، وبعضها الآخر قصير بحسبه ونسبه ، أمّـا حزنها هي ، فزاويته منفرجة
على ألم الرّوح ، وفي زاويتين أخريتين يقف اللّوم والموت الّلذان يعصرانها.
في زاويـة الموت يسكن ابنها الوحيد بمساحاته
الممتدّة على السّعادة والطّموح والصّحة ، هو كلّ ثروتها من الحياة في وسط
غابة من الأحزان والوحدة ورحيل الأحبّة ، كان يريد أن يكرّس جسده كي يكون
أشهر ملاكم عرفه تاريخ الملاكمة ، ولكن الموت أراد أن يستردّ روحه ، فكان
لجبروت إرادته الغلبة ، فأكل روحه في حادثٍ رياضي مريع ، ولفظ جسده سليمًا
معافىً ينبض بالحياة بعقل لا يعرف من تعويذة الحياة إلاّ وجيب قلبٍ لا
يتوقّف إلاّ بعد أيامٍ طويلة ومعاناة موصولة. فتقررّ الأم في لحظة انتحار
مجازفة أن تتبرّع بأعضاء ابنها الصّحيحة من قلب ورئة وكلىً وكبد وجلد وعظام
وقرنيتي عينيه إلى مرضى في حاجة إليها ؛ فهي تريد أن توزّع حياة ابنها
الآفلة على أرواح أخرى ، فيسعد المرضى بقرارها ، وتبكي هي بحرقة كسيفة.
وفي زاوية ثالثة يصبّ المجتمع لومه على قلبها الذي
أصبح مقبرة نديّة تضمّ رفات ابنها بحنان ولهفة ، وينعى عليها أن تمزّق
سكينة فقيدها الأعزّ ، وتدفنه مسلوب الأعضاء ، لتهبها لغرباء لا تعرفهم ،
ولا يعرفون شيئًا عن معاناتها أو عن رحيل ابنها. لكنّها تضرب صفحًا عن لوم
مجتمعها ، وعن خرافات بخله المقيتة ، وتهب أعضاء ابنها للمرضى السّبعة ،
فيشفون ، وهي ما كان لها أن تشفى لولا أنّها نعمتْ بسماع قلب ابنها ينبض من
جديد في صدر فتىً يافع ، وبقرنيتي ابنها تبصران النّور في وجه طفلة صغيرة ،
وبلمس جلد ابنها يتمدّد على جسد طفل صغير ، فامتلأت حنايا زاوياها عزاءً ،
وكادتْ تُقسم على أنّ ابنها ما يزالُ على قيد الحياة.
(4)
أحزان مربّع
يجوز كذلك في عُرف الأحزان أن تتساوى زوايا الحزن
وتتماثل أطوال أضلاع الحسرة إذا كان هناك أربعة متحابيّن يفشلون في وضع
صيغة وئام تتسع لهم معًا دون إقصاءٍ لزاوية أو أن كسرٍ لضلعٍ آدميّ أو
هندسيّ ، هما وحيدًا أمّيهما ، وهما يتيمان دون أبوين ، وصدفة الزّواج
التقليدي هم من جمعتْ بين ذاتيهما التي تذوّقتْ بأنسهما أوّل رشفات العسّل
النّقي المصفّى ، فوجدتها حلوة سائغة ، فما عرفتْ شبعًا منها ولا اكتفاء ،
وكان من الممكن أن يعيشا في نعيم الزّواج لولا أنّ لكلٍّ منهما أم تعدّ
الابن مُلكًا من أملاكها ، لا تقبل فيه منازعًا ، حار الزوجان طويلاً في
مربعهما الأسطوريّ الملعون ، فكلّ فيه عاشق ومعشوق ، ولكن لا يمكن أن
يُتبادل الحُبُّ فيه بين الزوايا الأربع في آن ، وإذا سعد اثنان ، فعلى
اثنين آخرين أن يتعسا بشدّة ، وكان الفصل الأوّل من الهناء من حظِّ الزوجين
العاشقين ، ثم تفرّقا بأسىً بضغطٍ وكيدٍ من أميهما ، فسعدتا وشقيا الزّوجان
، وضاقا ذرعًا بالحياة ، وانكمشا في كائنين حزينين لا يرواحان مكانهما ،
ولا ينتظران مستقبلاً أو يشفقان على حاضراً أو حتى يحنّا إلى ماضٍ ولّى دون
رجعه ، فانتقلَ حزنهما إلى أميهما اللتين أخفقتا في إصلاح ما أفسدتا ،
فغدوا جميعاً مربعاً حزيناً لا يعرف السّعادة ؛ لأنّ زواياه أحبّتْ بغير
ما يجب.
(5)
أحزان دائرة
يكون الحزن أكبر عندما يكون دائرياً لا يعرف نهاية
أو توقّف ، ويتجدّد من حيث يجب أن ينتهي ، ويكون لعنة مقدّسـة مغلقة لا
تعويذة لفكِّها عندما يسقط على قلبها ممن تحبّ دون أن يبغوا ذلك ، طفلاها
هما من أضاعا النّصف الأحلى والأبهج من شبابها وعنفوان أنوثتها ، وما كان
طِفْلا أحشائها ، بل طِفْلا أمّها وأبيها ، ولم يكن لهما معيلاً ومحبًّا
وراعيًـا ومنفقًا عليهما خلاها ، ولما استبدلا ريشهما بزغب ، وطارا ، كانتْ
قد احترفتْ الانتظار ، وأعدّتْ الحقائب لتبحث عن شريك ليقاسمها ما تبقى من
رمق رغبتها ، لكنّ طفليها الآخرين كان عندها قد كُسرتْ أجنحتهم كبرًا
وعجزًا ، واحتاجا إلى رعايتها وحبّها ، هي لم تلدهما كذلك ، بل هما من
ولداها ، فهما أبوها وأمّها ، ومن جديد دخلتْ دائرة التّضحية الملعونة
بقدسيتها ، وراحتْ توفّي نذرها الذي ما اختارته لتهب نصفها الحزين الأخير
إلى والديها الطفلين ، وكذلك كان.
الفزّاعة
ملابسه رثّة، قبّعته قديمة، فيها خرقٌ كبير، قدماه
خشبيات ، عيناه زرّان مختلفا اللّون، وفمهُ مخاطٌ على عجل، ولا أذنين له،
وقلبه من القشّ، وخصره نحيل، وجسده مصلوبٌ ليل نهار، ولكنّه يحبّها، لا
يحبّها فقط ؛لأنّها هي من خاطته، وزرعته في هذا المكان، ولكنّه يحبّها؛
لأنّها رقيقة ولطيفة، ويعشق صوتها ذا الرّنين العذب كلّما غنّت.
صنعته بيديها الصّغيرتين النّاعمتين منذ أشهر طويلة،
وزرعته في هذا المكان من حقل الفراولة كي يفزع الطّيور والعصافير، ويمنعها
من مداهمة الحقل وأكل الثّمار، وقد قام بعمله على أتمّ وجه يُرجى، أوّلاً؛
لأنّه فزّاعة وقد خٌلق ليفزع الطّيور، ثانياً ؛لأنّه يحبّها، ويريد أن
يحافظ لها على محصولها المتواضع الذّي من الواضح أنّها تعتاش منه.
لا يتذكّر كيف بدأ قلبه القشّيّ بالعزف، ولكنّ صوتها
كان أوّل من حرّك الحياة في ذاته، كان كسير الرّقبة، متدلّي الرّأس، متراخي
الأعضاء منذ أن نُصب في مكانه، لكنّ قلبه أخذ بالخفقان عندما سمع صوتها
الشّجيّ، كانت حافية القدمين، رنين خلخالها ودفق لهاثه هو كلّ ما يسمع وهي
غارقة في الاعتناء بأشتال الفراولة، إلى أن انتصفت الشّمس في كبد السّماء،
وبدأت خيوطها بمداعبة شعرها العسليّ الهائج كامرأة غجريّة، وجادت قريحتها
وقتئذٍ بدندناتٍ عذبة محمّلةٍ بصوتها الشّجيّ، كانت أغنيةً حزينة كسيرة
تناسب وحدتها ومشقّتها في الأرض، لحظتها شعر بأنّ قلبه ينبض، وأنّ الحياة
تدبّ في أوصاله الخائرة فتصلبها، وفي جسده الكسير فترفعه، وفي قلبه الميت
فتحيه، وتهبه وجيباً لا ينضب، ومنذ تلك اللّحظة غدا أسير صوتها العذب.
كان يراقبها ليل نهار دون أن يكلّ أو أن يتعب، في
عصر يومٍ ما تعبت من العمل في الحقل، فأسندتْ ظهرها إلى ركيزته الخشبيّة
لترتاح، كم كان سعيداً بجسدها اللّين وهو يركن إليه!! ابتسمتْ له ،وقالتْ
بعد أن ألقت نظرةً عجلى على الثّوب الذّي يلبسه: "يا له من ثوبٍ قديم! لا
تحزن يا عزيزي، غداً أصنع لك ثوباً آخر يليق بك، وبجهودك التّي تبذلها"
وعادت من جديد إلى إسناد ظهرها عليه، وهي تأكل شيئاً من الفراولة المزروعة
بالقرب منهما بشهية مثيرة.
تمنّى لحظتئذ لو أنّه يملك الجرأة الكافية ليردّ
عليها، وليشكرها على لطفها، وليرجوها أن تُسمِعه أغنيةً يحبّ أن يسمعها
منها دون كللٍ أو ملل، لكنّه خشي أن يفزعها هي الأخرى، ولعلّه خشي أكثر أن
ترفضه، وتقشعرّ من منظره، فينكسر قلبه القشّيّ دون رحمة.
وصدقت وعدها، وفي اليوم الثاني كسته ثوباًجديداً، من
رائحته أدرك أنّها قد خاطته من ثوبٍ قديم لها، شعر بسعادةٍ عظمى وهو يغرق
في كساءٍ يحمل رائحة جسدها الزّاهد بكثيرٍ من العرق، شعر بأنّه يملك سعادة
الدّنيا، فأذناه تسمعان صوتها الخلاّب، وأنفه يشمّ أريجها العذب، وجسده
يحتضن ثوبها، وعيناه تراقبانها بفضول أينما ذهبت.
لا يعلم شيئاً عنها ولا عن تاريخها، إلاّ بمقدار
الأشهر القليلة التّي عاشها مصلوباً في أرضها، كانت أرضها صغيرة، مسيّجةً
بسياجٍ خشبيٍّ قديم، لا يعلم ماذا يكون وراءه، ولا يعرف في أيّ البلاد تقع
هذه المزرعة، وهي تعيش في كوخٍ كبيرٍ قديم، ومن الواضح أنّها تعيش فيه
وحدها، فهو لم يلمح عندها أحداً من أشهر، ومن مكانه هذا يستطيع أن يرى غرفة
المعيشة وغرفة نومها التّي تقضي الكثير من الوقت فيها، يرى الكثير من
الصّور المسجونة في براويز فضّيّة وخشبيّة على طول سطح مدفأةِ غرفة
المعيشة، ولكنّه لا يستطيع أن يرى أو يخمّن لمن تكون.
قليلاً ما تغادر البيت والمزرعة، لتعود سريعاً
محمّلةً بالفاكهة والخضار واللّحوم وبعض مستلزمات الأرض ، فيقدّر أنّها
كانت في السّوق. يسعده مرآها وهي قادمةٌ من البعيد، متدثرةً بشالها
المخمليّ القديم، وهي تدندن بأغانيها الشّجيّة، يكاد يطير للقائها، وليحمل
الأكياس التّي تتكبّد حملها مسافةً تبدو طويلةً من لهاثها ومن احمرار
وجنتيها.
هذا اليوم من بدايته بدا استثنائيّاً ،ويومئُ إلى
استقبال ضيفٍ ما، هي لم تعمل كثيراً في الحقل، وأمضتْ يومها في كوخها
الصّغير، من نافذتَيْ غرفة النّوم والمعيشة اللّتَيْن تواجهانه راقب
حركاتها، كان من الواضح أنّها معنيّةٌ بتهيئة المنزل والطّعام، مع الغروب
بدأت بتجميل نفسها، لبستْ ثوباً قرمزيّاً ساحراً يظهر أديمها الأسمر،
ومشّطتْ شعرها العسليّ، وأرخته أنهاراً هائجةً على كتفيها، قدّر أنّها
مثارة وسعيدة، وحار مَنْ أو ماذا لعلّها تنتظر اللّيلة؟
أخذت بعزف البيانو الذّي قلّما تعزف عليه، وأخذتْ
تصدح بأغنيةٍ شجيّة، كانت مستغرقةً في غنائها الملائكيّ، وكان يذوب في مسك
كلماتها، إلى أن دخل ذلك الوسيم الذّي أقلّته درّاجة هوائيّة قبل دقائق،
كان يحمل باقةً صغيرةً من الفلِّ البلديّ، قبّلها، وطوّق خصرها بيديه،
واندسّ إلى جانبها على البيانو يعزف معها، كان عزفهما على أوتار قلبه الذّي
أدرك معنى الحزن والغيرة لأوّل مرّة. لكنّه كان سعيداً لأجلها على الرّغم
من حزنه، وتمنّى من كلّ قلبه الذّي يملك أمنيات صغيرة صادقة لو أنّه يهجر
مكانه ،ويقرع باب بيتها، وينضمّ إليهما، ولكنّه كان يعرف تماماً أن لا مكان
له هناك!
راقبهما طويلاً من مكانه، تناولا من طعامِ العشاء،
وعزفا معاً من جديد، ثمّ راقصها على أنغام موسيقى المسجّل، سارتْ الأمور
على نحو يستطيع أن يصفه بالانسجام وبالحبّ، لكن ما لم يستطع أن يفهمه هو
التّغيّر الذّي حدث بعد ذلك، فقد تعالى صراخهما، وبدا أنّ ناراً تشتعل
بينهما، ثمّ غادر المكان غاضباً، وصكّ الباب بقوّة كادتْ تخلعه، ارتمت
حبيبته على أريكةٍ قريبةٍ من الباب، وانخرطت في البكاء، كان صوت بكائها لا
يقلّ جمالاً وتأثيراً في نفسه عن صوت غنائها، قدّر أنها حزينة جدّاً، وفي
حاجةٍ إلى قلبٍ يحبّها بشدّة، لقلبه مثلاً، كاد يناديها من مكانه ليسألها
عن سبب حزنها، ولكنّه تذكّر أنّه لا يعرف اسمها، فهو لم يسمع أحداً يناديها
باسمها من قبل حتّى يعرفه، فكّر قليلاً، ثمّ استجاب إلى وجيب قلبه، ترجّل
عن مكانه، وقطع الحقل الصّغير، داس دون أن يقصد بعض حبّات الفراولة
الحمراء، لم يقرع الباب، فتحه دون انتظــار ، ودخل إلى الكوخ .. .
اللوحة اليتيمة
" قصة حقيقية"
" إلى روح طارق العسّاف الذي
ابتعله الماء، ويتّم لوحته "
ثُبِتتْ على واجهة مخملية بارزة، الأضواء المُسلّطة
عليها أبرزت أحزانها ووحدتها، كانت تقبع في صدر المعرض، تواجه تماما ًعينيّ
كلّ من يدلف إلى القاعة ذات البلاط الرخامي والجدران المخمّرة بستائر
مخملية خضراء، حصلت على الكثير من الصور الفوتوغرافية من قبل مراسلي الصحف
والمجلات، كانت تراقب جموع الحاضرين بحزن خاص يناسب خطوطها السوداء التي
تحاصر بقعاً لونية صفراء يتيمة في حدادٍ أسود.
كلّ لوحة من اللوحات التي كانت مصلوبة مثلها على
واجهة مخملية نعمت بحشدٍ من الأصدقاء والمعارف، وبابتسامة عريضة على وجه
راسمها إلا هي، فقد كانت وحيدة، تفتقد جموعاً تحمل ابتسامة فوز، وتفتقد
بشكل خاص أنامل صغيرة رسمتها على عَجل.
كانت لوحة ًتشكيليةً تحمل اسم " غوّار "، رسمها طارق
العسّاف ؛ ليكرّس بها أحلام الطفولة، وليبرز فيها شخصية طفولته المفضلة
المتجسدة في غوّار، وليبث في ألوانها القاتمة خيالات حرمانه، وليزرع في
بقعها الصفراء أمل رجولته التي تقف على أعتاب طفولته، لتدلف إلى جسده،
فتكونه رجلاً أسمر بازغاً من شابٍ نحيلٍ صغيرٍ، في عينيه العسجدتين آلاف
الطائرات الورقية ذات الأذيال المزركشة التي تطير فوق سطح بيته، فيطاردها
بعبثية وشقاوة هما أجمل ما في طفولته البريئة، ثم يرسمها بألوان خرافية لا
يملك أن يشتري أيّاً منها ؛ لأنّه لا يريد أن يكبّد أسرته المستورة الحال
أيّ نفقات إضافية، ولو كانت نفقات زهيدة، ليرسم بها لوحة صغيرة تفتح طاقة
على أحلامه، وعلى موهبته المتفتحة كزهرة بريّة.
لم يذهب إلى مدرسة الفنون، ولم يلتحق بأي نادٍ
للرسم، وقليلة هي حصص الرسم التي عرفها في مدرسته الحكومية القديمة، ذات
الأسوار المهترئة، لكن قلبه كان ينبوعاًً للصور والألوان، كان يتقن لغة
الصّور، ويفكّ رموز وطلاسم الألون، يكفيه أن يبتسم ابتسامته الخجولة
السمراء، ثم ينتحي زاوية لدقائق أو لساعاتٍ، قد يقعد القرفصاء، ويسند
اللوحة إلى حضنه، وقد يركن بها إلى أيّ حائط قريب، ثم يشرع بكسي عريها
بألوانه، خطوط تنبع من قلبه، ألوان تمتزج بمقدار ذوقه، ووفق غريزته التي
جُبلت بقدرة عجيبة على تذوق الألوان، واستجلاء جمالياتها، واللعب بظلالها
ودرجاتها، دقائق من العمل الهادئ المنقطع على ذاته، ثم تكون اللوحة، التي
يطير فرحاً بها، تفخر طفولته الولود بلوحته المولود الجديد، يدور بها على
أهل البيت، يعرض عليهم سحنتها الجميلة، يتبّرع بشرح معانيها، ثم تلاقي
مصيرها، قد تكون هدية لصديق، أو واجباً مدرسياً لمعلم الفن، أو مساعدة سخية
لأحد أبناء الجيران الذين تقصّر موهبتهم دون رسم لوحة تقتضيها حاجتهم في
المدرسة أو في الجامعة أو حتى في مسابقة.
موهبته كانت كنزه الذي لا تمانع نفسه الطاهرة في
مشاركة أي أحدٍ به، بل يسرّه أن يطلع أيّ أحدٍ على وافر سحره، وجلي
إبداعه، وإن كانت أمّه ترجو أن يكون نصيبه من الدراسة والاجتهاد والحياة
والحظ بقدر نصيبه من ملكة الألوان، ومن سلطان حضورها، تتأمّل لوحاته،
تقرّبها من صدرها، تبتسم له ابتسامة عريضة تتربّع في قسماتها الهادئة، ثم
تقول مقيمةً إيّاها: " رائعة". فيبتسم طارق الذي يرفض أن تضمه إلى صدرها،
وأن تقبّله ؛ لأنّه رجل، والرجال في عُرف طفولته لا تقبّلهم أمهاتهم
كالأطفال الصغار. يأخذ لوحته، ويطير بها إلى سرب الأصدقاء، وما أكثرهم
كانوا في ركب المدرسة، وعرصات الحي وملعب كرة القدم الترابي الممتدّ على
طول الشريط الغربي للحي الذي يسكنه !!
كان مصروفه قد نَفِِدَ تماماً إلا من قروش معدودة
عندما عرف من أحد الأصدقاء القليلين الذين يشترون الصحيفة اليومية أنّ
مسابقة إبداعية للشباب على مستوى الدولة تفتح أبوابها للشباب الصغار مثله
للتقدّم لمسابقة الرسم بلوحات من رسمهم، كان باب قبول اللوحات يكاد يغلق
بعد يوم، ولكن المبلغ المرصود للجائزة كان مبلغاً مستحيلاً وحلماً خيالياً
لطفولته الجافة، قدر أنّه بهكذا مبلغ كبير يستطيع أن يجود بعشرات الهدايا
على عائلته، ولا سيما على أمّه الحنون التي يجد حنان الدنيا في حضنها، بل
ويستطيع أن يشتري عدّة رسم كاملة، ومن أجود الأنواع من محلات الرسم
المتخصصة في العاصمة، لكن عليه قبل دراسة خطة إنفاق الجائزة المأمول فيها
أن يرسم اللوحة المناسبة، وأن يوصلها بنفسه إلى المركز الثقافي الملكي، حيث
تسلّم اللوحات المشاركة وَفْق ما هو مكتوب في الإعلان.
ليلة واحدة كانت أمامه لرسم لوحته، كانت ذاكرته
مخزناً يعجّ بآلاف الصّور والخطوط، ولكن المشكلة كانت في الألوان، وفي
القماش الذي يحتاجه ليرسم عليه، ثم في الإطار الذي تشترط لجنة المسابقة
الإبداع الشبابي أن يتوّفر للوحة ؛ ليعطيها الهيبة والشكل المطلوبين، لكنّه
لم يكن يملك من الألوان إلا الأسود والأصفر، ثم أنّ لا وقت عنده لتجهيز
الإطار المطلوب، فضلاً عن أنّ مصروفه الشهري كاد ينفد، ولا يستطيع أن يكبّد
عائلته المزيد من النفقات،" إذن ما العمل؟! " حدثّ نفسه.
كانت عدّة رسمه تنحصر في الوقت الحاضر في لونين
وقطعة قماش، وخلا ذلك لا شيء، حتى أنّه لم يكن يملك فرشاة رسم، ولم يكن
هناك وقت لينتظر الصباح ؛ ليمر علىّ معلم الرسم في المدرسة،ليستعير منه
فرشاة رسم لحين إنجاز لوحته، ثم إنّه لن يذهب غداً إلى المدرسة، بل سيفرغ
نفسه للذهاب إلى العاصمة، وليدفع بلوحته المفترضة إلى لجنة مسابقة الإبداع
الشبابي، إذن الحلّ الوحيد هو أن يستعين بأنامله الصغيرة التي لوّحت الشمس
أديمها لرسم لوحته المبتغاة، وسيكون نجمه التلفزيوني المفضل غوار هو بطل
لوحته.
في الصباح كان طارق عساف يحتضن لوحته بحرص من يحمل
إيقونه مقدسة، ويعدّ الدقائق في الباص الذي ما فتىء يتوقف ويسير، يحمّل
ركاباً وينزل آخرين ليسلم لوحته إلى لجنة المسابقة، مسّد عليها بحنان
بأنامله الصغيرة التي ما زالت ملطخة باللونين : الأسود والأصفر، مع أنّه
بذل جهداً كبيراً ليزيل أثرهما عن أنامله،لكن دون فائدة. كانت لوحته مغلّفة
بورق زينة الهدايا، وبدون إطار، مخالفة بذلك أحد الشروط الرئيسية لقبول
اللوحات الفنية.
لكن أمل الفوز كان رائده، دلف إلى المركز الثقافي
الذي يعجّ بمئات المتسابقين ممن هم في مثل سنه أو دونه أو أكبر مع ذويهم
؛ليقدموا أعمالهم الإبداعية في موعدها الأخير للجنة المسابقة، كان الدور
كبيراً، لكنّه انتظره مبتهجاً فخوراً بلوحته، التي تفوق بجمالها ودقتها كلّ
اللوحات التي رآها في أيدي أصحابها.كان صف تقديم اللوحات قصيراً مقارنةً
بصف الإبداعات الادبية كالقصة والخاطرة والخطبة والقصيدة، تحفّز الأمل في
نفسه بعد أن قبل موظف المركز أن يستقبل لوحته التي تفتقر إلى أهم شروط
المسابقة، ووعد بأنّ يقدم لها إطاراً إن فازت. " لعلّها تفوز " همس في
نفسه التي تضج بالإثارة والتوقّد، فهذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها
بمسابقة رفيعة المستوى كهذه، شرع يتخيّل الفرحة المنتظرة إن فاز بإحدى
الجوائز الثلاث المخصصة للرسم، وإن كان يطمح للأولى منها، كم سيكون مهماً
عندها !! لا بد أنّه سيكون محلّ فخر أسرته، ولا بد أنّ صورته ستغزو المجلات
والصحف، ليته قدّم لهم صورة شخصية أجمل من تلك التي قدمها لهم،" ولكنّها
تفي بالغرض." حدث نفسه قائلاً من جديد.ولابدّ أنّ مدير مدرسته سيكرّمه
أمام طابور الصباح، ومن يعلم قد يضع له معلم الرسم الدرجة النهائية في
الرسم تقديراً لفوزه."لا بدّ أنّي سأكون نجم المدرسة والحي إن فزت. " أمّل
نفسه قائلاّ، وهو يصفق يداً بيد متحمساً، ويقطع الشارع المقابل للمركز
الثقافي، ليستقل أوّل باص يعود به إلى بيته.
انتظر يوم إعلان النتائج المعلن عنه في إعلان
الترشيح بفارغ الصبر، لكن لجنة المسابقة فاجأته بدعوته للمثول أمامها قبل
زمن إعلان النتائج بأيام ، خفّ إليهم، يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى،" أستراهم
سيبلغونني برفض ترشيح لوحتي بسبب عدم وجود إطار؟ " سأل نفسه. " هذا محتمل.
" ردّت نفسه بقنوط. " ولكن لماذا لم يستبعدوها دون إبلاغي بذلك؟ فذلك من
حقهم !" سأل نفسه من جديد.
" نحن لم نستدعك لنبلغك بقرارنا باستبعاد لوحتك "
قال كبير لجنة تحكيم اللوحات عندما سأله طارق عن سبب دعوته.
- "إذن لماذا طلبتم مثولي أمامكم " سأل طارق بفضول
أحيا الأمل في قلبه.
-" لكي نخبرك أنّ لوحتك قد فازت بالمركز الأوّل،
وأن عليك أن تسارع بإحضار إطار لها قبل موعد إعلان النتائج بشكل رسمي "
- " هل تعني أنّي الفائز الأوّل في حقل الرسم؟"
- هذا تماماً ما قلته."
- " إذن أنا الفائز بالمركز الاول في حفل الرسم لهذا
العام على مستوى المملكة."
- " بالطبع يا بني " قال المحكّم الأشيب ذو
الابتسامة الواسعة، وهو يرقب طارق يكاد يطير بجناحين ذهبيين انبتتهما سعادة
من لدن عالمها الساحر.
غادر طارق المركز الثقافي، وسعادة الدنيا تحرسه،
فكّر في أن يوقف كلّ مارٍ في الشارع، ليخبره بأنّه الفائز بالمركز الأوّل،
حدّث نفسه باحتضان سائق الباص، وتقبيل مساعده الغليظ، والزعق بأعلى صوته "
أنا الفائز ". بصعوبة أحتوى فرحته، وسرّها لحين عودته إلى البيت.
كان ينوي أن يقسّم كلّ مدخراته المتواضعة بين رسوم
رحلته المدرسية إلى الحّمة السورية، وبين نفقاته الشخصية في تلك الرحلة،
لكن نظراً للظرف السعيد الطارئ، فقد بات من المؤكّد أنّ عليه أن يقسّم
مدخراته بين الرحلة ونفقاته، وبين ثمن ابتياع إطار جميل ومناسب للوحة
غوّار، التي ستتبوأ المركز الاول في الحفل الذي سيقام الأسبوع القادم،
وبهكذا تدبير سوف يحصل على الحسنيين :الرحلة والجائزة. إنّها المرة الاولى
التي ينعم فيها بأمرين سعيدين في أسبوع واحد. وحال انتهائه من الرحلة، سوف
يهرول سريعاً بالإطار المطلوب إلى لجنة التحكيم.
هكذا كان مخطط طارق لجدولة نشاطات سعادته، لكن القدر
كان قد جدول نشاطاته بطريقة مختلفة فيما يخص طارق، الذي قدّمه لقمة سائغة
للموت،فقد غرق طارق في رحلته المتمناة، غرق في الحّمة السورية، كادت
السعادة تحمله على جناحين من نّور، لكنّها لم تقوَ على إنقاذه من الغرق،
الماء طمح إلى احتواء روحه الموهوبة، لم يبال بفرحته، ولم يرحم انتظاره
لحفل توزيع الجائزة،وتجاوز بجبروت عن أحزان لوحته، فيتّمها، واختطف راسمها،
وأطعمه للموت، واحتواه بلجته دون أن يشعر بأثمه، ودون أن يؤنّبه ضميره على
قسوته، أو على جبروت وجوده. وعاد الأصدقاء إلى بيوتهم بملابس مبلّلة،
وبصدور معرّاة، ولم يعد طارق، الذي تنتظره لوحة يتيمة في بهو المعرض الذي
أُعدّ لعرض كلّ اللوحات المشاركة في المسابقة، الفائزة وغير الفائزة،
لتشاركه فرحة الانتصار.
كلّ الوجوه حضرت إلا وجه راسم لوحة غوّار، فقد غاب
للأبد، دون أن تعلم اللوحة المنتظرة أنّها قد تيتمت منذ أيام، كادت تسأل
أمّ طارق عن سبب غياب طارق، لكنّها خرست وَفْقَ قاعدة الجمادات التي لا
يّسمح لها بالكلام في حضرة الإنسان الناطق الواحد، لكنّها بحثت عنه في كلّ
الوجوه، تفرّست كلّ الشباب أصحاب البذلات الأنيقة، كانوا يتشحون بالأسود
الأنيق ليبرز رجولتهم القادمة في هيئة رسمية تناسب المناسبة السعيدة التي
هم في صددها، عطورهم العبقة ملأت الجو،وأثارت رتابته، وأبعدت عن ذهنها صورة
طارق المتشح بأبيض الموت، والراكن باستسلام لرمس صغير احتواه منذ أيام.
لم يطل انتظار اللوحة لطارق، بل انتهى للأبد عندما
أُعلن بحضور وزيرة الثقافة عن موت طارق غرقاً، اختنق الجو بعبرات الحاضرين
الذين شيعوا لوحة وصورة طارق بوافر الرثاء والحسرة، ووقفوا جميعاً احتراماً
لذكراه، قارئين الفاتحة على روحه الطاهرة، حضنت وزيرة الثقافة أم طارق التي
داهمتها موجة بكاء حارة كتمتها بصعوبة مذ حضرت إلى الحفل، تمنىّ جميع
الحضور لو أنّ في إمكانهم حضن أم طارق؛ ليطوقوا بأسى أحزانها، وليحملوا
منها قبساً من طارق. الشباب الموجودون في الحفل شعروا بخجل خاص من أجسادهم
الغضّة التي تتمايل تيهاً بالبذلات الأنيقة أمام نظري أم طارق الموتورة
بابنها.
جموع كبيرة من المستعبرين التفت حول لوحة طارق، ترى
فيها ما لم تره قبل دقائق، حُزْنُ الحشد هيّج مشاعر اللوحة اليتيمة التي
تهشّ بصمت ٍلراسمها الراحل المتشح بالأبيض، وتحنّ بشكل خاص إلى أن يدسّها
تحت إبطه، وأن يغادر بها المكان شأنها في ذلك شأن اللوحات الأخرى التي
سُلّمت لأصحابها في نهاية الحفل، بعد أن أُعلن عن تسمية هذه الدورة
الإبداعية بدورة طارق عسّاف، لكن أمنيتها لم تتحقّق، فقليلةٌ هي أمنيات
اليتامى المتحققة. استسلمت اللوحة بانكسار ليديّ أم طارق التي ضمتها
بانكسارٍ إلى صدرها، وغادرت مبنى المركز الثقافي لا تلوي على شيء، وتقفل
يدها بحزن على جائزة طارق المالية التي حلم أن يشتري بها علبة ألوان من
النوع الفاخر...
الصّورة
توقّع حدوث أيّ طارئٍ معيق، وفي سبيل ذلك أخذ كلّ
الاحتياطات في رحلته الطّويلة في الأرياف الشّماليّة، إلاّ أن يهاجمه ألم
الأسنان من جديد، الذي اعتاد أن يداهمه في السنين الأخيرة دون سابق ،والذي
اتّخذ في سبيل ردّ عدوانه الآثم،وفي سبيل وضع حدٍّ له آليّةً طويلةً من
الحلول، ابتدأها بالعلاجات الطّويلة التّي أنفق فيها جُلّ ما ادّخره
بصعوبةٍ دون أبحاثه على حشرات الفاكهة، ثمّ أنهاها بخلع بعض الأسنان
والأضراس التّي أعيته ألماً وعلاجاً بعد أن آمن أنّ الخلع آخر العلاج،
وبهذا التّرتيب الأخير أعدم الآلام التّي حاصرته طويلاً، ومنعته من متابعة
أبحاثه زمناً طويلاً، وإن كان يسوؤه أن يرى وجهه الشّابّ الوسيم يفتّر عن
ابتسامةٍ شبه شوهاء تفتقد الكثير من الأسنان والأضراس، لكنّ عزاء توقّف
الألم، وتأجيل أمر زراعة أسنانٍ جديدة إلى حين تحسّن أحواله الماديّة، عقب
انتهائه من أبحاثه التّي يعوّل الكثير على نتائجها خفّف من وطأة انزعاجه،
وكان في اعتماده ابتسامةً ترتسم دون أن تكشف عن الأسنان تدبيراً مقبولاً
لمشكلة أسنانه وأضراسه المفقودة.
سبق أن داهمته بعض النّوبات القصيرة من ألم الأسنان
التّي لم تتجاوز دقائق معدودة، ولذلك لم يعرها أيّ اهتمام، ولكنّ النّوبة
هذه المرّة جاءت طويلة ومتمطّية بوحشيّة، لا تفارقه ولو للحظةٍ، جاءت
تماماً مع أوّل بارقة إشعاع لشمس الصّباح، جاءت دفعةً واحدةً قويّة،
وكأنّها موجةٌ عاتيةٌ محبوسةٌ خلف سدٍّ تهاوى، شعر أنّ لطمةً ما صكّت وجهه
المرهق إثر ليالٍ طويلةٍ من الدّراسة والبحث، ثمّ حلّ الألم، مارداً
عظيماً، لا يرحم ولا يرحل، كان كلّ فكره المضطرب موزّعاً بين فكرتين لا
ثالث لهما، الأولى وكانت الأضعف في اجتذابه، وهي أنّى للألم أن يعود ليغزو
أضراسه وأسنانه السّليمة بعد رحلة علاجٍ طويلة ومريرة، أكّد طبيبه بعدها
أنّ الألم قد رحل للأبد؟! والثّانية وكانت الأقوى في تملّكه؛ ذلك بفعل
الألم الذّي أضنى جسده في أوّل لحظات هبوطه وهي البحث عن السّبيل المثلى
والأقرب والأسرع لوضع حدٍّ لهذا الألم، ولو كان ذلك لفترةٍ محدودةٍ، حتّى
يتسنّى له أن يضع حدّاً جديداً للألم الذّي يعتصر فكّيه.
جلس في سريره بعد جولةٍ سريعةٍ ومضطربةٍ في الكوخ
الصّغير الذّي استأجره بمبلغٍ زهيد، كانت محصّلتها ازدياد الألم حتّى شتّى
عظام جمجمته، وضعف حيلته، فلا أقراص مهدّئة معه أو في الكوخ، ولا سيّارة
قريبة في المكان يمكنها أن تنقله إلى العاصمة ليتلقّى العلاج، ولا هاتف في
كوخه أو في الجوار يمكّنه من الاتّصال لطلب المساعدة أو حتّى المشورة
الطّبيّة.
فكّر في أن يطلب المساعدة من صاحب الكوخ الذّي
يسكنه، لكنّه يقيم على بعد ثلاثة كيلومتراتٍ على أقلِّ تقدير، فلا أحد يرغب
في السُّكنى فرداً وحيداً وسط بساتين الفواكه، إلاّ من كان هارباً من شيءٍ
ما، أو جاء لأمرٍ ما في نفسه، كأن يكون مثلاً معنيّاً بدراسة حشرات الفاكهة
عن قرب ومتابعة سلوكها عن كثب، لا سيّما أن المعهد الذّي يتبنّى دراسته قد
وهبه منحةً ليست بالسّخيّة، ولكنّها تتوافق مع إمكاناته الماديّة
المتواضعة، ومع حاجاته الأساسيّة لا غير.
بحسبةٍ سريعةٍ يائسةٍ قدّر أنّ رحلة العودة إلى
العاصمة، وتكاليف العلاج ستستنزف دون شكٍّ مال المنحة، بل وستتجاوزها
لتبتلع جُلَّ مدخّراته المتواضعة، شعر بقنوطٍ وتبرّمٍ من حظّه العاثر إلى
درجةٍ زادت من وقع الألم على جسده، ومن جديد عاد إلى حمأة الألم والحيرة.
استقرّ رأيه بعد مشورةٍ من حارس البستان المجاور
لكوخه على أن يذهب إلى طبيب الأسنان الوحيد الموجود في الرِّيف الشَّماليّ
كلّه، كان وفق ملاحظات الحارس يسكن في الجوار، الذّي مقداره وللأسف أكثر من
أربعة كيلومترات، عليه أن يقطعها سيراً على الأقدام أو على درّاجته
الهوائيّة على أحسن تعديل، وبما أنّ يديه مشغولتان على التناوب بحمل كأس
الماء ذي الملح المذاب، الذّي يستخدمه للمضمضة المتكرّرة لتخدير الأسنان،
وللتّخفيف من الألم، بناءً على نصيحة الحارس، فقد كان من المتعذّر عليه أن
يقود درّاجته، وعليه بالضّرورة بناءً على ذلك أن يقطع البساتين سيراً، تحت
وطأة ألمه، وبيدين مشغولتين بحمل كأسٍ يتمضمض من مائه كلَّ بضع دقائق.
ابتسامة الطّبيب الأشيب المكتنز الأعضاء، البشوش
المحيّا، خفّفت من وطأة ألمه، ومن مشقّة رحلته الطّويلة، وكانت أوّل ما
قابل بعد انتهاء رحلته المعنّاة، كانت يده اليمنى بشكلٍ خاصٍّ متشنّجةً من
حملها للكأس لمسافاتٍ طويلة، وضع الكأس الزّجاجيّ الذّي فرغ للتّوّ من مائه
على أوّل طاولةٍ وجدها، واستلقى بتمطٍّ منهكٍ على كرسيِّ العلاج، حتّى دون
أن يومئ له الطّبيب بذلك، فألمه أنساه كلّ استراتيجيّات الذّوق واللّطف، بل
حتّى أنّه قد شغله عن متابعة حشرات الفاكهة التّي مرَّ بها في أثناء رحلته
عبر الحقول والبساتين.
وبدأت رحلة العلاج بالإجراء الأوّل الذّي يفضّله
وينتظره منذ ساعات، بالمخدّر والتّسكين، حقنه الطّبيب الذي أخذ ملاحظاتٍ
سريعةً عن تاريخه المرضيِّ من خلال جملٍ قصيرةٍ ومتلاحقةٍ قالها ملخّصاً
تاريخه المضني مع ألم الأسنان، وأنهاها بذكر اسم طبيبه، وأسماء الأدوية
والمسكّنات التّي تواتر عليها أثناء علاجه السّابق وقبل السّابق، وبعد
معاينةٍ متفحّصةٍ، راقب فيها عينَيّ الطّبيب الأشيب، المنزلقتين في تجويف
فمه؛ بحثاً عن موطن الألم وسببه، استلّ الطّبيب حقنةً مخدّرٍ واثنتين
وثلاث، وحقن لثّته بهنّ، وقليلاً قليلاً، بدأ الألم بالفتور، وأصبح من
الممكن أن يتملّى في وجه طبيبه شبه المسن، الذّي أسند كفّي يديه على
خاصرتيه، اللّتين تعلوان قدمين منفرجتين بثباتٍ على الأرض، وهو ينتظر أن
يسري المسكّن في سائر لثّته كي يبدأ طقوس العلاج والحفر والتّرميم، كما
أصبح من الممكن أن يدير نظرةً متفحّصةً في العيادة الصّغيرة، التّي تحتوي
على القليل من الأدوات النّظيفة، والأثاث الرّيفيّ الأنيق الذّي لا يخفي
ذوق صاحبه.
وجّه الطّبيب البشوش بضعة أسئلةٍ له، أجاب عنها
باقتضابٍ وفتورٍ وتراخٍ، بعد أن بدأ المخدِّر رحلته بالتّسكين، شعر أنّ
أطرافه تتراخى، وأن فمه قد تضخّم بمقدار عشرات المرّات، وشفته السُّفلى
تراخت حدّ التّدلّي، كاد يرى شفته العليا المتضخّمة أسفل عينَيْه، وبات
يُحسُّ كلّ أديم وجهه وشفتيه يمتدُّ لمسافة مترٍ أمامه على الأقل، وبدأ
بريقٌ ما يلوح في عينَيْه، فيرى ومضاتٍ غريبةً تحول دون رؤية وجه طبيبه
المحاصر بقناعٍ طبّيٍّ أبيض لا يسمح إلاّ برؤية عينَيْن شهلاوتين، وفي سحيق
الوميض، يرى عينَيْها اللّتين تنزرعان في وجهها الملائكيِّ، المقيّد في
داخل إطار صورةٍ فضيٍّ، مركونٍ باهتمامٍ على مكتب الطّبيب، سأل الطّبيب في
سكرة المخدّر، "من تكون؟" أجاب الطّبيب بنبرةٍ آليّةٍ غير مبالية إلاّ
بعمله وبجهازه الدّقيق الذّي يُعمله في إحدى الأضراس: "إنّها زوجتي . . ."
إذن . . . هي زوجته، ولكنّ عينَيْها هما العينان
اللتان حلم بهما طوال عمره، لهما نفس الرّموش، ونفس الصّمت، ونفس النظرة
النعسى،بل ونفس البريق الغارق في دموعٍ لا تفارق عميق نظراتها، يا لها من
نظراتٍ!! تتسلّل إلى نفسه بين الألم وسكرة المخدّر، فتلهب أضلاعه، وترسل
بريقاً يغرقه في وهج عينَيْها، يرى عمره الفائت مكسوراً على بوّابة
عينَيْها اللّتين تحرّرتا من الإطار الفضّيّ، وحامتا في سماء الغرفة، كان
يترنّح مخموراًً بشذاها الأنثويِّ الذّي خلقه في ذاته منذ أن تمنّاها، رأى
الماضي والحاضر والمستقبل وكلّ أبحاثه غباراً منثوراً تحت وطأة قدمَيْها
اللّتين اشتهى تقبيل أديمهما الورديِّ الرّقيق .
آهٍ كم انتظر وتمنّى هاتين العينَيْن دون كلِّ عيون
نساء الدّنيا، رسمهما بتمعّن وقدسيّة من يرسم وجه ملاكٍ، ثمّ حفرهما بتأنٍ
في ذاكرته، وأطعم نفسه والتّمنّي للنّسيان وللعمل الدّؤوب الذّي لا يعرف
توقّفاً بعد أن يئس من أن يجدهما إثر مطالعةٍ طويلةٍ في كلِّ وجوه النّساء
اللّواتي قابلهنّ في أصقاع عمره، وها قد أطلّتا من المستحيل، من بين الألم
والنّشوى أطلّتا، وغرق في نومٍ طويلٍ .
عينا الطّبيب كانتا في انتظار استيقاظه، تمتم
الطّبيب بكلماتٍ لم يفهمها، ولكنّه قدّر أنّها كلمات تشجيع لتخطِّي الألم،
ثمّ سمعه يقول بنبرةٍ أبويّةٍ عطوفةٍ: "يبدو أنّ عيار المخدِّر قد كان
قويّاً، لذا فقد رحتَ في نومٍ طويل".
هزَّ الرَّجل رأسه متفهّماً لما حدث له ، وبنظرةٍ
عجلى بحث عن عينَيْها، فوجدهما مستقرّتين في دعةٍ في وجهٍ ملائكيٍّ ما زال
مسجوناً في إطارٍ فضِّيٍّ، أبرقت العينان له ببريقٍ سماويٍّ خاطف، صعق جسده
من جديد، وعاد إلى نومٍ لذيذٍ لم يعد فيه أيّ أثر للألم.
تردّد أكثر من مرّةٍ على عيادة الطّبيب بحجّة
الاطمئنان على وضع أسنانه التّي غادرها الألم تماماً بعد أن فقد سنّاً أخرى
في سبيل ذلك، جلس طويلاً إلى الطّبيب اللّطيف الذّي دعاه مرّةً تلو الأخرى
لمشاركته شاي الظّهيرة، ووقع في نفسيهما استلطافٌ متبادل، وإن كان في جُلِّ
أمره مشدوداً بعنفٍ إلى صورة امرأةٍ لا يعرف منها إلاّ عينَيْها، اللّتين
كانت تقولان له بعشق: "انظر، أنا هنا، أنا حقيقة، أقبل؛ لأنّي موجودة".
في كلِّ مرةٍ وعد نفسه الزّائغة تحت وطأة الشّكِّ
والخوف أن لا يعود إلى العيادة ، فكيف يمكن أن يكون أسير نظراتٍ متجمّدةً
في إطار؟! أسير نظراتٍ رسمها في الخيال، فسعد عندما وجدها حقيقةً في مكانٍ
ما في هذه الدّنيا، ولكنه وجدهما أخيراً . . . كانتا في انتظاره منذ دهر،
أو كان في انتظارهما منذ دهر، لا يهمّ من كان منتظراً بالتّحديد، ولكن
المهم أنّها موجودة في القريب منه، قريبة إلى حدِّ أنّه يمكنه أن يراها
بمجرّد أن يقرّر أن يعرِّج على بيت الطّبيب لأيِّ حجَّةٍ يخترعها.
عندها يمكنه أن يقترب منها، وأن يراقب أديمها
الفضّيّ الذّي يظهر أعلاه بازغاً من ثوبٍ لا يستر كتفَيْها العاجيّتَيْن،
تماماً كما تبدو في صورتها، ليقول لها: "ها قد جئت . . ." ثمّ يغرق في وميض
عينَيْها إلى الأبد . . . هو الآن يعشق امرأةً في صورة، ولكنّه لن يبقى
أسير حبٍّ ضبابيٍّ، لن يسمح بأن تكون عينا من يعشق مصلوبتين في صورةٍ إلى
الأبد، سيكون صاحب الكلمة الأولى، سيأخذ الخطوة التَّاريخيَّة، سيقول
لعينَيْها: "كوني"، فتكونان، سيتحدّى الصّمت البارد، ويشعل فيهما نيران
عشقه .
انتظر أن يدعوه الطّبيب إلى بيته، ولكنّ ذلك لم يكن،
مع أنّه قد دعاه إلى كوخه المُتواضع أكثر من مرّةٍ على غداءٍ أو على عشاءٍ.
حارس البستان همس له قائلاً بصوته المرتجف ذي الزّعيق المزعج: "إنّه رجلٌ
غيور، البعض يقول إنّه يحبس زوجته الجميلة في بيته، ويمنعها من الخروج،
ويمنع أيَّ أحدٍ من زيارتها".
-"أهي من بنات المنطقة؟"
-"لا . . . الطّبيب وهي كلاهما غريب، جاءا منذ زمنٍ
بعيدٍ إلى الرِّيف، وأقاما دون أن نعرف عن تاريخهما شيئاً، الزّوجة يقال
إنّها صغيرةٌ وشابّة وجميلة مع أنّي لم أرها أبداً، والزّوج طبيب لطيف
يقدّم خدماتٍ أحياناً بالمجان لمن يطلبها من فقراء الرِّيف."
-"وماذا عنها؟ أعني عن الزَّوجة؟"
-"قلتُ لكَ يا سيِّدي إنّني لم أرها لم قبل . . ."
إذن صاحبة العينَيْن المتوهّجتَيْن ليست أسيرة إطارٍ
ذهبيّ، بل أسيرة زوجٍ غيور، وبذلك أصبحت مهمّة مقابلتها أصعب، وتحتاج إلى
المزيد من التّخطيط والحذر، فهو يريد أن ينزعها بهدوءٍ ودون أوجاعٍ أو
مشاكل من دنياها، لتغدو زهرة حياته، فهو الوحيد الذّي وعدته أحلامه
بعينَيْها الأسطوريّتَيْن ذاتي البريق السّاحر .
وجاءت اللّحظة سريعاً، فقد قرّر الزّوج أن يسافر إلى
العاصمة في شؤونٍ يقضيها، كان يراقب سيّارة الأجرة وهي تبتعد به، من أعلى
قمّة التّلّة المشجّرة رَمَق السّيّارة التّي تثير الغبار والأتربة وهي
تختفي به، انزلق مهرولاً إلى بيتها الذّي يقع في سفح التّلّة، الأرض
المنحدرة والزّلقة زادت من سرعة هرولته التّي غدت ركضاً سريعاً لا يسمع
خلاله إلاّ وقع ضربات قدميه على الأرض، وصوت لهاثه، كانت مستديرةً نحو حضن
الشّروق تشيّع بنظراتها زوجها الذّي غدا نقطةً في الأفق، انتبهت إليه
مفزوعةً، أمسكَ يديها بحركةٍ نزقةٍ أخافتها، كانت كما تمنّاها تماماً،
هادئةً كبحيرةٍ، بيضاء كنور الصّباح، شعرها الأسود معقوفٌ إلى الخلف، بعض
الشّيب غزا برقّةٍ وسحرٍ ذؤابتيها، على فمها المستدير كما المتاهة ألف
سؤال، أمّا عيناها فلهما البريق المستحيل الذّي عشقه.
قال لها باضطرابٍ شديد: "ها قد جئت . . . أنا أحبّكِ
. . . هل تأتين معي؟"
-"مجنون"!!!
-"ولكنّني أحبّكِ . . ."
-"ابتعد عنِّي، لا بدَّ أنّكَ مجنون".
وانساحت في موجة بكاءٍ، وطردته مفزوعةً ممَا تسمع،
أمضى يومه عارياً إلاّ من سروالٍ صغيرٍ في سريره، لا يصدِّق أنّه قد وجدها،
وأنّها بعد كلِّ هذا العناء قد رفضته، بل وطردته، تابع لساعاتٍ طويلةٍ
دوائر الدّخّان المتصاعد الذّي ينفثه من سجائره التّي تحترق بمثل احتراقه،
فكّر بألف خطّةٍ وخطّة لخطفها، ثمّ انخرط في بكاءٍ مرير، ومن جديد بدأ ألم
أسنانه، لكنّه كان مصمّماً هذه المرّة بالذّات على أن يهمله، أن يقهره، أن
يفعل أيّ شيءٍ إلاّ أن يستجيب بذلٍّ لجبروته، أخذ جرعةً مضاعفةً من
المسكٍّن الذّي استغنى عنه منذ زمن، وغاب في دنيا النّوم، وجاءت بابتسامةٍ
ساحرةٍ، كان جسدها زلقاً بطريقةٍ مشهيّةٍ، انساحتْ في فراشه، كانت عاريةً
كبجعةٍ مسحورة، في بحيرةٍ لازورديّةٍ محاطةٍ بالأحلام والبجعات المتوّجة،
غرق وإيّاها هناك، قبّلت عنقه باشتهاء، فتبخّر ألم الأسنان إلى الأبد،
تنفّس هواء فمها، وفي لحظاتٍ تحوّل ببريق عينَيْها إلى أمواجٍ ملوّنةٍ
تداعب بحيرة صيفيّةٍ هادئةٍ، زرقة عينَيْها انساحت أنهاراً تحاصر جسده
المنتشي، وغاب وإيّاها في دنيا من الأطياف الملوّنة، حيث تشظّيا ليغدوا
رذاذاً سعيداً يطوِّق فراشه العتيق.
كان قرع الباب قويّاً، تنبّه وعيه عليه، ثمّ استيقظ
تماماً عندما دفع أحدهم الباب بقدمه القويّة فكسره، في لحظة أحاط به
وبفراشه وبجسده حشدٌ من رجال الشُّرطة بأزواج عيونٍ كثيرةٍ لم يستطع أن
يعدّها، البعض وجَّه له فوّهات بنادق متحدّية، عينا الطّبيب هما العينان
الوحيدتان اللّتان ميّزهما من بين العيون المتّهمة الحادّة كما عينَيْ صقر.
قال الزّوج بقسوة: "يا لكَ من مجرمٍ غادر!!"
قال ضابطٌ بحزم: "أنتَ متَّهمٌ بالخطف والاغتصاب
والقتل . . ."
بذل جهداً عظيماً ليُحرِّك جفاف حلقه، ولينطق بكلمةٍ
واحدة، لكنّه لم يستطع، فقد كان ذاهلاً وهو يتابع جثّتها العارية مذبوحة
مضرّجة في دمائها، كان مرعوباً من فكرة وجوده عارياً مع جثّةٍ مذبوحة أكثر
من فكرة أنّه متّهمٌ بالقتل, قال بصوتٍ مسلوبٍ يتناوب عليه الخوف والفتور:
"ولكنّي لم أقتلها، أنا أحبّها . . . أنا لم أخطفها هي جاءت من تلقاء
نفسها".
قال الزّوج بانفعال: "يا لكَ من عربيدٍ قذر . . .!!"
قال الرّجل: "أنا أحبّها . . . أنا لم أقتلها
صدّقوني . . . يا ذات العينَيْن المتوهّجتَيْن، قولي لهم إنّني لم أقتلكِ .
. . أنا أحبّكِ . . . قولي لهم إنّكِ جئتِ من تلقاء نفسك؛ِ لأنّكِ
تعشقينني".
قال الزّوج مُثاراً كما ثور في حلبة: "يا لكَ من
وغد!! أتريد أن تلطّخ شرفها، وتلحق العار بها حتّى بعد موتها؟!"
كرّر الرَّجل بعته: "ولكنّي لم أقتلها . . . أنا
أحبّها، وهي تحبّني، قولي لهم إنّكِ تحبينني".
لكنّ الجثّة الهامدة المدرّجة في الدّماء لم تنبس
ببنت شفة، كان يتابع الجنود بذهول ودهشة وهم يلفّونها بملاءة السّرير،
ويدسّونها في السّيّارة العسكريّة .
هي دفنت في سفح القرية بين أشجار الفاكهة، وهو سجن
حيناً، ثمّ أودع مستشفى المجانين حيناً آخر، ولكنّه لم يشتكِ أبداً من ألم
أسنانه، فقد كان يزعم أنّ حبيبته ذات العينَيْن المتوهّجتَيْن قد شفتهما
بقبلتها المشتهاة، أمّا الزّوج فقد اختفى للأبد، البعض زعم أنّه مات حزناً،
آخرون قالوا إنّه هو من قتل زوجته الخائنة، كثيرٌ أكّدوا أنّه يعيش في
قريةٍ بعيدة مع زوجةٍ جميلة، يحبسها في بيته ،ويمنعها من الخروج . . . لكنّ
العاشق المجنون بقي يبحث عن حبيبته الجميلة، يرتع بين الوديان عارياً بشعرٍ
أشعث وجلدٍ مزّقه البرد، يبحث عن امرأته الجميلة ذات العنَيْنَيْن
المتوّهجتَيْن، صارخاً بقهر، لتردّد الوديان كلماته التّي تذهب سدىً دون
مجيب: "ولكنِّي لم أقتلها، أنا أحبّها، أنا لم أغتصبها، هي أسلمتني نفسها
طائعةً، أنا أحبّها . . . يا ذات العينَيْن الجميلتَيْن . . . ها قد جئت،
أنا في انتظاركِ، هل تذهبين معي؟ . . . ها . . . أجيبي هل تذهبين معي؟ ها .
. . قولي . . . هل تذهبين معي . . . عي . . . عي . . . ي . . ." .
|