روائح الغرف الرمادية
الكرسي الفارغ الخلوة في أول الليل .. تذبذب المصباح الكهربائي وعرض
حاد للصور يتسم بتوافق ما مع أدوية الصداع .. جلستك تسترخي فيهبط ذلك الطبل
الطقوسى المتمدد في جدرانك اللحمية ثم يعود إلى تصاعده .. لكنه هذه المرة
يقدم لي صفحة وردية عليها منحنى صغير أخضر فأبتسم وأسمح له بامتلاكي فتبرق
الأشعة الضوئية على الكرسي الذي ارتفع ودار دورة صغيرة ثم استقر .
في صالون فندقي راق أخذت الكلمات تتناثر بين وجوهنا وقبل أن تصدم
أحد الوجوه بذوائبها أعادها الهواء سيرتها السابقة .. ثم تبدلتها الأنوار
المتعددة الألوان فمسحت أجسادنا ..
- مازلت تقرأ ؟ حسناً .. إذن فأنت تراني مصفراً قليلاٌ ..
-دعه يمزق صحيفته.. ويختار ضوءه مرة أخرى ..
- أرى أن أتحدث عن …..
- اصمت ، ما جئنا للحديث ..
- ما هذا ؟ هل تشمون تلك الرائحة القوية ؟!
- أستطيع التحمل ..
- أذن فابق واصنع من صحيفتك قارباً …
- لقد بدأت سحاباتها الكالحة تنزل فوقنا.. هيا اخرجوا من الصالة ..
أسرعوا قبل أن يتصاعد هذا اللحن الرمادي فيدخلنا إلى غرفته ..
عندما يراودني التفكير في تبديد الوقت الخانق يكون هذا الثقب في
رأسي موصلاً جيداً للغرفة التي جهدت أن أعرفها ..
بائع متجول يرمقني بنظرة متغضنة كلوحة جلدية شائهة من أثر احتراق
فأصر على بتر مشهده .. بل محاولة استئصاله ثم أتركه يمر من الثقب فألمح
الشارع يزدحم بالتداخل النغمي السائر إلى لوحة شاحبة تأكل نهاياته .. وأمرق
إلى خندق تعمل فيه الحشرات بنظام فوضوي حول مربع تنفرط فيه يدي و حولها قطع
الورق الصغيرة التي لا لون لها..
وتنتابني رائحة صوت خشن يلهب أسفل الصدر ..
- أأكملت عملك جيداً ؟ .. حسناً فتواصل غداً .. لا تنس .. لا تزعجني
.. حقاً ما أخبار قضاياك النسائية .. لابد أن تخبرني يوم الأجازة ، فيهرب
أثر كثافة حزام عرقه الحديدي..
لا تنس
الساعة تدق .. (أفضل ألا ينبع قراري ) هذه الأيام …
- أذن لفسدت
– لا .. إنها بذلك تسلمني لرفرفة استماع ناعس للكمان
- إذن لكسدت
- لا مفر عندما تحيطني بهذا الشكل ..
- أذن لتكورت فطارت فهوت ..
الغرفة معتمة . يتراقص المصباح وتتلاعب في مساحته (المخصصة لذاته
القمرية ، الغالب ظلام الغرفة عليها ) رمال قليلة شفافة .. جارحة فأفرج ما
بين أصابعي فتتجمد يدي ثم تختفي فألحظ ارتعاشات متطايرة تحتي في قطع ضوئية
مدببة … وأنا واقف بين الجبهتين … هكذا يكون رأسي معلقاً ( في قلب تيارات
هوائية هادئة .. صافية ) مغمض العينين بينما عمود رأسي قد حفر في قلب
تكوينه وهو .., مغمض
والتيارات تتعاقب عليه وتشتد ضرباتها فيسمر .. تعلوه الأسطح الثلجية
الصغيرة وتخرج من أعلاه رائحة :
الرماد .. والليمون
.. والكمان
وهو مغمض …
قب
قب
بق
فينتشى الرأس في غرفة تحت المياه النهرية المخضرة .. يجاوره السمك …
يخبطه .. ينتف الشارب.. يدخل ويخرج من الفتحة .. فيكون قرار الصعود وتحطيم
الغرفة ..
(- إذن لفسدت ) ثم السباحة ..
تحرق الشمس أحد أركان السطح . أرصد تفاصيل الصورة العائلية وأذكر
معلوماتي عن أفرادها .. ألقيها على المقعد فيبدو أحدهم غريباً من زاوية
جانبية فأقربها ثم أذكر بعض خطوطه ..
حاولت تشكيل عائلة لك من باقة ورد في غرفتك الفيروزية فبرز من
إحداها وجه أسد ، أجزاء وجهه قديمة هشة .. ملأ الغرفة برائحة غابية منهزمة
…
ثلاث غرف
الأولي يبرز فيها الرمادي سائداً علي البقع الحمراء الزاهية أسفله …
أقبع فيها وعندما أغوص نائماً يلتف حول قدمي اليسرى ثعبان يعض التراب ولا
يواجهني .. تجاورها …
الثانية التي يتوسط الرمادي فيها مستطيل أصفر يشقه خط رمادي سميك ،
ومتهرئ .. أجرب داخلها ضحكي مصحوباً برائحة التشيللو فيعلو الطبل الرفيع
وأصمت ويتسرب الضحك من ثقب في السطح ..
- ما رأيك في هذا النهار الهادئ ؟ أنه لائق تماماً للحديث .. فأنا
متشوق لسماع تفاصيل أسبوعك الماضي .. تفضل ..
الثالثة فوقهما لها قبة كبيرة تواجه الشمس فتلمسها الأخرى بندب
صفراء متربة صدئة تطير حولها طيور الكناري فتختلط أصواتها برائحة القبة
التي انهدمت فاقتربت الطيور تعلن الغلبة ثم ابتعدت ……… ابتعدت....
عواصف الخروج
خلفه يضحك الرجلان برقص ممزوج بالدم .. قد يتعالى الرقص فتتحرك
منكفئاً .. الأمور تزداد سوءاً .. الخبز الأحمر لا يروقني .. الزلازل تشرخ
الرؤوس في مناطق عديدة .. تطور الأحداث ينبئ بتغيرات مثيرة ومتقدمة فى
مشروعك أيها الرئيس .. تتعدد صورة الرجلين مرة .. مرتين – ألف تلتصق
بالحوائط والسقف .. فيتعجب الحاضرون وتنفلت الأصوات الرفيعة وتهمس في
الآذان فحيحاً .. بينما الأخرى ترتفع خوفاً .. حاولوا أن توقفوه .. فتتصلب
اليد فوق البحر وتتضخم ويعلوها عبير يحاول التحقق .. فتختفي قروناً وتعود
فتعبث في الصحراء وحول العمائر وتشمل أعلى الرجلين المتكررين تحاول أن تقبض
فتذوب الأصابع فى الجسد ويتشكل المشهد وحوله التراب .. حاولوا أن تقتلوه
بسهولة .. خذوه .. فترسم يده وجوهاً .. مرايا في أرض المكتب .. تناثرت
حولها الدولارات والفضة..المرايا تتشقق بها خطوط متوازية .. التوازي يتقاطع
.. التقاطع يهرب .. يعبث – يجرى .. يلتحم فيصغر .. ينفتخ فتخرج دون وجه ..
وتنفلت الأصابع قوة في الهواء الرائق..
فيأخذنا الهواء الرقيق بداخله حيناً .. ويخرج منازلنا فى تيارات
متضادة ثم يسقطها فى الماء .. وتنحدر أخرى فى منتصف تقعرات الجبل بينما
تلتحم النمور بالصفوف البشرية المتعددة .. تمتزج الصورة .. تتداخل .. احذر
.. ثم تعلوها بقعة مظلمة نراها من أعلى ..
حسناً..
هذا منزل مقوس عليه خطوط تمثل ذاتاً تتخلق ثم تلتوي .. تتخلق ..
تخبو.. هذه تماثيل تسقط علينا مهترئة … أخرى متصلبة تصير أنياباً فوق
أكواخنا ثم تصير جبلاً أملس .. إنه هواء رقيق .. ألا تذكر حين كنا في شقتك
مرة فألهبنا ذلك الصقر الناعم فوق رأسك ؟ .. لا .. لقد رأيته مطروحاً .. أو
على النافذة .. ليست تلك .. كانت المرأة التي احتوت صفنا أمام وجهها
والتهمتنا ثم تطايرنا ماءً ودماً نارياً من ثقوبها .. ماذا كانت تعنى؟ ..
فوق بريق الجبل تستطيل حافات يشكلها جلد بشرى تنفرط خلاياه ملتحمة بجلود
أبقار ونباتات مائية تضحك بداخلها ذرات نارية مشروخة .. حيناً آخر تطرح
ضوءاً مقدساً بذاته كالناب أو الصنم أو فم الأخرى . ثم تجلس على كرسيك
متصاعداً فنداخلك .. نقسم جسدك في تيارات هوائية رائقة .. فتضحك..
تتمايز الآن الغرفة حولي تتعالى قصراً أنواره زرقاء باهتة تداخلها
أسهم العواصف من كل ثقب فى الغرفة فأكتب غرفاً أخرى صغيرة أبيت في كل منها
برهة .. فينقطع ذيلي فى مصيدة هوائية بينما يجردني وجه كلب أجرب من نابي
فأزحف منكفئاً إلى عش كالسهم صاحب اللحظة الوردية .. وقد تصاعد بي حول
منازلكم..
هواء .. ثم يختفي .. ذرات تعبث بالفضاء وتتداخل حول صور بشرية مبللة
.. تتداخل .. ثم المائدة الكبرى تقام فتتعلق سلاسل رائحة حيوان ميت فوق
أكواب الماء بينما تنتشر خيوط ذهبية على حبات الطماطم المختبئة .. لحظة
أخرى .. نرى المنضدة تختبئ في كهف له أسنان تخدش الضحك المتعالي عند
المنضدة فترقص الأحذية .. تتوقف ثم تتبادل الأدوار فيتقلص المصباح وينزوي
كشمعة من قدم دجاجة مصفرة ثم يحتوينا في قسوة ضعيفة وتبين المنضدة كالظل
فنختفي .. فتعلو حولها موسيقى الخفوت .. ثقب ينفتح كالضوء ثم يعود لحالته
الأولى سريعاً فلا نرى المنضدة .. لكن النغمات تستقيم في خيط هوائي يجرى ثم
يتراجع..
وجهك الآخر
ألحت على بشدة صورة (بدائي) وحيد في الصحراء ، بعدما اغتسلت بدمك
الحار مباشرة ، ومازالت تراود وجودي في الظلمة المسيطرة ، إلا من ذلك الوهج
الأبيض الذي خرج للتو من عين البدائي.
الدم المعتم يمثل حولي دوران صوت الفريسة ، ويمتد في الهواء ،
كالرغبة الأخيرة في عينيها ، وهى تسخر من وجود القاتل ، لهذا كانت صورتك
تلح على كثيراً ، وتأخذني لإعادة تمثيل المشهد ، الآن أشفق عليك من جزار
سمين ، يجرى خلفك بسكينه ، وأحذرك من أن يقتلك فيلتفت إلى بعينين فارغتين
تعبث فيهما طيور بيضاء صغيرة ، وكنت تضحك خلفه وتنصحني بأن أسقط في الظلمة
أو ألقى بنفسي في بركة نتنة ، يرجمني فيها الأطفال ، وتبتسم /
- إنهم أولاده
الجزار يقترب فأشم فيه رائحتي ، وأهرب منه ، وأسمع صوتك يناديني –
إنه يحبك .. يحبك
اصنع صنماً لي في حديقتك ، ولهذا القاتل العجوز ولتتحرك الثعابين في
منتصفنا أمامك ، لن تهرب إلا بهذه الطريقة..
ماذا ترى ؟ لم نخرج من رأسك طوال هذه الليلة . كنا ننبح في قلعتك
حتى يحيلك النباح إلى الصنم دون فائدة ، ثم ترانا كأعمدة سوداء كثيفة في
دورة المياه ، وتلح عليك فكرة الرقص مع الموت ، نحن نعلم تماماً ما تفكر
فيه ، فأنت تشبهنا وتمتد فينا أيضاً كانت أصوات النساء تحيطك على المكتب
وعندما يعلو الضحك نراك تخاف من تحول نعومة الصوت في آخرها إلى صراخ جنوني
يفتق برأسك ، فلا تستطيع الحديث . وفى الآونة الأخيرة ، رأيتنا في جلدك وقد
ابيض وعلاه الدم حتى غطى عينيك تماماً ، ثم وجدناك وحيداً في الصحراء تهرب
من مطاردة الجزار ، وكان على هيئة فيروس أحمر.
مازال صوتك فينا
بالأمس رأى السمكة مستسلمة للذبح في الشارع وأمامها رجل يضحك ، كان
يشبهه ، فوقع في حفرة ، وازداد ضحك الرجل ، فاسودت السمكة ورأيت في لحمها
موسيقى لونية تصنع تكوينات من الوعد والترقب والحذر معاً ، حاولت الهروب
فعدت في سرعة النهر إلى المنزل أتحسس وجهي فتبينت فيه وجهاً آخر أبيض ،
يعلوه سكين حاد ، وسقطت لأتأمل من يتحركون بشاطئ ، يقبلون على مبتسمين ،
يودون السكن في قصري ، كثيراً ما كانت ابتسامتي تفسر على هذا الوجه .
دائماً ما تمتد الأيدي فأشعر بطوفانها وأغلق دونها الباب ، فيزداد التصفيق
، لم تبق سوى الأيدي التي تتدافع حتى تشعر برائحتها تخرج من فمك . هكذا
تمتد الأذرع حولي وتتحرك بجنون طاقتها الهائلة ، فتتناثر الأصابع وتعبث
برأسي ثم تضحك .
من أدخل شعيرات الرأس في باطن الأيدي بهذه الصورة ؟ إنها تزداد
خشونة وغربة عنى.
- لم يبق القصر لك.
هكذا تعالى صوت الجموع.
وجاءوا بالحفار والراقصة ، ثم أخذوا المال ووضعوه في زجاجات الخمر ،
ثم أسقطوك في حفرة وزرعوا فوقك حدائق التفاح.
يزداد الآن صخب الطبول ، وحركة الراقصة تصير هوائية ، ملتفة ثم
دائرية .
نحن الآن نتكاثر فترى صورتك فينا ؟ ماذا يحدث ؟ نحاول إخمادك
بداخلنا فنراك فى أيدينا ورؤوسنا ، أنت الراقصة .
- فليصرع بعضكم بعضاً لأستمتع.
صاح الملك ، فسال الدم من الباب الخلفي لقصرك ، هاهو يضربنا بالسياط
لأننا نشبهك ، ولأن القصر بدأ يتحرك تاركاً (قبابه) في الهواء ، وتعلو به
أصوات السيوف والأمواج مختلطة بضحكات هستيرية للراقص ، وأخذنا نبتعد بينما
يتعقبنا جنود الملك ، حتى جاورنا الأسماك الصغيرة على الشاطئ ، ونظرنا
بعيونها إلى العالم ، ثم سقطنا.
|