إلى هيراتا
يهتم السائرون على شكل قوافل غير منتظمة كشعب مهزوم في
متابعة النقوش الحجرية الغريبة على طول الطريق شبه الجبلية الوعرة المؤدية إلى
منطقة (عمق الوحشة) أو (المحجة السوداء) كما يود أن يدعوها كثير منهم، ثم
(هيراتا) الاسم الأشد شهرة الذي بقي حتى النهاية. كل أولئك الهائمين على وجوههم
المتربين حتى تغيرت ملامحه، متشعثي الرؤوس ومهلهلي الثياب، يرومون الوصول إلى
نقطة واحدة على خارطة وهمية في أذهانهم هي هيراتا – من الصعب معرفة دوافع ذلك
الآن- وهم وجدوا ما يكفي من الغربة المضافة أثناء المسير الشاق والمضني ليل
نهار على تلك الطرق المتوحشة. حسنا كان الأطفال والشيوخ والمرضى من السائرين من
أكثر المتعبين خسارة. أما الرجال فقد كانت أعدادهم تتناقص طوال الوقت.
كان ثمة أسماء كثيرة لهذه الطريق من قبل يمكننا معرفتها
من خلال مراجعة الطابق الرابع في مكتبة المتحف البريطاني. لكن ثمة كتب سرية
عديدة أخر لدى بعض رجال الدين الشيعة القابعين في سراديب النجف تشير إلى وصف
الحالة أيضا. أما أولئك المهتمين بما سيجري في المستقبل فقد اختفوا تماما عن
المشهد ولم يعد ثمة من يتحدث بشكل تفصيلي عما سيجري وما هو جار الآن لهذه
القوافل البائسة. من العسير على أية حال وضع تفاسير مقنعة حول ذلك إلى حدّ بعيد
في الوقت الحاضر وربما يوجد من يفعل ذلك في المستقبل – آآآآه عذرا هذه الكلمة
لم تعد مستعملة لدى شعب القافلة السائرة.
يمكننا في هذه الساعة ملاحظة عملية السير فقط. أعذرونا.
كانوا في وضع يشبه حالات السبي القديمة. ليس دقيقا تماما بيد أنها الأقرب لرسم
الصورة – آآآآآآه عذرا الرسم كان مجرما عند القوافل السائرة. ثمة أشياء كثيرة
اختفت.. عذرا مرة أخرى. لكن الجيش المنتصر لا يظهر إلا من السماء فقط، رغم ذلك
فقد عرف عن السائرين ما يكفي من خلال المراقبة الجوية، ومن خلال تعدد التسميات
لطرقهم؛ لكنها تبقى الطريق الوحيدة المؤدية إلى (هيراتا): هذا ما ثبت لدى عموم
الإنصات الجوي، وهي عملية مبهمة تشبه الطرق بقوة وسط حجر صوان تكشف عن الأرواح
الجاثمة وراء عطش القادم غالبا.
سجل الإنصات الجوي: من البله التخلي تماما عن كل ما
سيحدث لنا في هذه المسيرة الشاقة والغريبة- وما البله قل لي؟ هه؟ البله القديم
أم البله الحالي؟ نحن السائرون على تلك الأرض التي تشبه (المحجّة السوداء)
بالنسبة لنا، لا علاقة لنا بما حدث لنا، أليس كذلك؟ هيراتا، هذه اللعنة التي
وضعنا في جوفها عنوة، في هذه الطرق الفارغة، وهي من أكثر الأشياء التي نبحث
عنها قتامه،أوووووووووووووو لا معنى أن نكثر البحث عن أسماء مهما كانت ألا ترى
نحن سائرون على طريق واحدة وسنصل إلى نقطة واحدة متفق عليها، ها؟ أيها العجل
الجنوبي المذهب ( حضر سمو الأمير الصغير، دلوع، الذي بلغ ستة عشر عاما في السبت
الماضي، إلى سباق "صفوة الهجن" الذي يقام سنويا، وهو يشعر بنوع من عمق الوحشة
المتصاعدة، كما صرّح بذلك سرا لأحد المقربين إليه، وبعد أن زار مركز العناية
بلقطاء الأكابر قبل ساعة واحدة من حضور السباق) ثمة متابعات طويلة على جانبي
الطرق غير المعبدة والملتوية مثل حيات متطامنة على أية حال وقد سجلت جميعا على
نحو واضح، ومن الصعب معرفة أهمية ذلك الآن. فبدت الرؤية غير مجدية ولا معنى
لها: لا يمكن اكتشاف الصور الأخاذة للمكان إلا من لدن طيارين محترفين يجوبون
سماء المنطقة بمروحياتهم السود الحائمة فوق رؤوس القوافل السائرة. ولا شيء سوى
تلك النقوش تقريبا طوال الرحلة المضنية (تمّ التحضير على نحو ملفت للسباق
الدولي وسط كشافات ضوئية كبرى تحول الليل إلى نهار كما اعتمدت سيارات دفع رباعي
لمتابعة التصوير عن قرب).
من الصعب على القوافل البشرية السائرة، تلك، صفوة ما
تبقى، المتهالكة، أن تغضّ الطرف عما يتناثر في طريقها من لقى أو صخور غريبة
تحمل منحوتات ظاهرة يمكن تحسسها بسهولة براحة اليد وأنت تدقق فيها( تحسس الأمير
وهو يتابع ركض الهجن الرشيق تميمة حملها من مربيته الهندية الأصل التي تجمل
جنسية بريطانية دون أن يدرك سبب ذلك) بعضهم حمل تلك الأحجار في ما تبقى من جيوب
لديه، وآخرون قرروا - كما هي عاداتهم قبل المسير - ربطها على ظهورهم بحبال
سميكة وفي عملية شاقة ومربكة لا تحتمل كثيرا من المعنى، في حين طفق قليل من
السائرين المتوانين الذين يتعثرون غالبا بأطراف أثوابهم المهلهلة وهم في ذيل
القافلة دائما، إلى وضعها على صدورهم بواسطة خيوط محكمة كتمائم تقيهم شرّ ما
يكون( قتلت المربية سريا في شقتها الخاصة بعد حرمانه منها ثم صُرف لعائلتها
تعويضا مجزيا) كان يمكن مشاهدة تلك المرأة – نفسها!- وهي ترتدي ساريا أسود في
مقدمة مجموعة من السائرين وحدهم. دخل احدهم ذات يوم إلى غرفة بالتوك (أبن
سمينة) وطلب المايك لكنه لم يحصل عليه بسبب السؤ الذي يمارسه صاحب الغرفة ضد
مريديه.
-
لماذا تقفز على المايك شعبور؟
-
ثمة مشكلة خطيرة أبن سمينه.
-
نحن نناقش موضوعا سياسيا اخطر من عبثك
معنا.
-
هيراتا أهم!
-
هيراتا!
-
هيراتا هيراتا!!
لكنهم من اجل اتخاذ ما يكفي من حصانة بالتوكيه وضعوا
أمام أسمه طماطم حمراء حيث بقي يستمع إلى الهراء وهو يصرخ: هيراتا هيراتا.. ولا
تزال (هيراتا) بعيدة والطريق ممتلئة باللقى البيض والسود والحمراء والخيارات
كثيرة لمن أراد الحمل. كانت معظم الكتابات على الحجر مجرد أسماء لأشخاص غابوا
في تلافيف الماضي وأرادوا أن يذكرهم العالم على نحو ما، ولم يدر بخلدهم أبدا
أنهم سيحظون بكل هذه العناية من أناس أخر الزمان السائرين إلى هيراتا. أحيانا
كان يوجد ثمة استدراكات (يقام اليوم على شرف صاحب السمو الأمير الصغير
racing صفوة الهجن السنوي الدولي
حيث يمكن متابعة سباق الهجن وهي تسير بالريموت كونترول) كتبت بخط أصغر تحت بعض
الأسماء هنا وهناك، في عملية خجولة لا ترقى إلى العناية الفائقة بحفر تلك
الأسماء، إذ تذكر عرضا موجزا لحوادث شخصية بحتة مرّ بها صاحب الاسم، أو حوادث
عرضية ولا معنى لها تقريبا لفقد حيوانات جرّ عزيزة أو موت كلاب رعي هرمة، أو
نفوق عدد من الإبل في آن واحد. أما تلك الحوادث شبه المتكررة التي ذكرت بها
منطقة هيراتا فقد كانت مثار الحديث وهي عن أناس تاهوا في الصحراء في يوم ما ثم
ناموا فوجدوا أنفسهم وسط أهليهم: كانت تلك الحادثة تنسخ من حجر لآخر حتى ليظن
المتابع المدقق لتلك الأحجار ثمة الآلاف من السائرين نحو هيراتا قد مروا
بالظروف نفسها!( شعبور لصاحبها متعب بن همام تتقدم في وقت قياسي
2,58,6 من الثانية في سباق المرحلة
الرابعة من صفوة الهجن)
-
كيف يمكن أن يحدث ذلك لعشرات الآلاف من
السائرين قبلنا؟!
-
هذا ما تفعله الجن عادة.
-
وهل تؤمن بذلك؟
-
طبعا!
كانت المروحيات السود تظهر من حين لآخر وهي تلقي بكميات
من المياه المعدنية والغذاء المسلفن الذي يعطى للجيش عادة، وسط تعليمات قاسية
بلغة غير مفهومة ربما تكون حول ضرورة الإسراع بالسير إلى هيراتا فقد كانت
العبارات مكررة دائما: جويييم ازز يهد gooo on
ولم تكن غير تلك الكلمة الأخيرة واضحة. أنت نفسك ما كنت تحسب أن يحدث مثل هذا
الأمر سريعا بهذه الطريقة التي تشبه أفلام المستقبل ذات الأطر الدينية، لكنك
موهوم دائما بالزمن وتحتاج إلى المزيد من الوقت والتجربة لأدراك ذلك. وقد تكون
حوادث محددة لمعارك بين أسر معينة أو قبائل؛ هذه المعلومات التي تتكرر لابدّ
لها من تفسير مقنع؟ (الريع كله يعود إلى ملجأ أبناء الأمراء طبعا) كلّ شيء يذكر
باختصار وبتفصيل ممل. وجد المؤرخون والآثاريون صعوبات جمة في تحديد الزمن الذي
كتبت به هذه الحوادث: لا أسماء لملوك ولا لأمراء ولا لتجار ولا لسياسيين، وليس
ثمة غير أسماء الناس فقط ( قصيد من الشعر النبطي للشاعر محمد الملهوف بمناسبة
فوز الهجن الريدانيه بالمرحلة الثانية من سباق صفوة الهجن)
-
ماذا نفعل بأحجار لا تنطق؟
-
ليس الأمر كما تتوقع.
-
تركنا هذه العادة منذ زمن طويل.
-
ربما.
-
ربما تكون سلوتنا للوصول إلى هيراتا.
-
أين تقع هذه المدينة هيراتا؟!
-
هل هي مدينة فعلا؟
-
من يدري؟
-
لنسر وسنرى.
-
دائما نحن كذلك.
-
من نحن؟؟
-
سباق الهجن مرسوم هنا..
كانت الإشارات التي تتمظهر قبل الوصول إلى هيراتا بعدة
كيلوات تبدو على شكل صخور متكاملة على هيئة قباب منقوصة أو أهلة منكوشة وحتى
رؤوس مدمرة لمحاربين قدماء. كانت الأشياء أكثر حدة لكن الرهبة لم تعد موجودة
على أية حال. وأشار احد خبراء اللغات القديمة وهو يلقي اكبر كمية من المياه
المعدنية على فروة رأسه: ليس الوضع بهذه البساطة كما يظن بعضنا. نحن نتجه
مباشرة إلى هيراتا وهذه المنحوتات الجديدة والكبيرة من الصخور دليل ذلك حتما.
لو تأملتم قليلا فستجدون علاقة ما بين اللقى والمنحوتات الكبيرة، ولكن من أين
لكم هذه القدرات وأنتم لم تتعلموا لغة قديمة واحدة، وأية حيرة هذه التي تجتاح
الجميع في حلّ رموز الكتابات القديمة؟ ما أبشع مهمتي وما أصعب دوري معكم. يا
لكم من قوافل سائرة إلى المجهول وهي تحمل ما يكفي من الأحجار – فقط- التي لا
نستطيع فكّ رموزها؟ أليست هذه واحدة من بلادة ما أرى الآن؟
-
يا لأفعال الطبيعة!
-
ماذا؟
-
ألم تشاهد هذه؟!
-
ماذا!!
-
هذا من فعل قبيلة من الجن.
-
تقول هذا ونحن في هذا العصر؟
-
أي عصر!
-
عصرنا!
-
لا عصر لنا.
-
كيف؟
-
هيراتا.. قادمة.
-
أهي عصرنا؟
-
ربما.
-
شكرا!
من وادي حوران وحتى الحافات الجنوبية لنهر الفرات، ومن
عمق الصحراء إلى حافات الشعاب الجبلية المعقدة والمجهولة في الشرق: هنا حجر بن
حبيب الأدومي المعروف بشنق بن عنق في أسافل الفرات أو هرمس بالقرب من بحر
النجف: أخبركم بكل ما أوتي لي من علم كبحر غامر إن ما حدث لي مع أبناء عمومتي
في "جرها" وبما عرف بيننا بالحجارة البيضاء هو محض سؤ تفاهم أبله سالت بسببه
دماء كثيرة وترملت نساء وتيتم أطفال لا ذنب لهم، اكتب هذه السطور لتكون درسا
لمن لا درس له بعد. لم يحدث أي صلح بيننا.
لم تكن هيراتا إلا معسكرا لما تبقى من أجساد منهكة
لاحتجاز من يشك في إمكانية قيامهم بأعمال مناوئة في الحرب.
عقود طنطلية
سارتدي افضل ما عندي هذه الليلة بالذات، عندما يراني بهذا النفنوف الأسود لن
يعرفني أبدا.
طبعا. هكذا قالت لي صديقتي روز. روز تعرف أشياء كثيرة عن الدنيا. انا لا أعرف
إلا أشياء قليلة منذ ان غادر زوجي. اوف ياربي! ماذا سأرتدي وكلّ ملابسي سود
كالحة من سنين (أبو ربية)(*): لم يكن هذا الأخير غير (طنطل) قديم ينام في خزانة
عتيقة. وكيف يعرفني وقد ملأ الشيب رأسي؟ ربما نسي شكلي الآن، من يدري؟ أكثر من
عشرين عاما, وهو النفنوف الوحيد الذي رافقني طويلا، يتهرأ
فافصّل غيره يتهرأ فأفصل غيره. أسود دائما. طنطلي. لم يرني بثوب أسود قبل أن
يغيب عني على اية حال.
آخر ليلة كانت لي معه، تعريت تماما، ورقصت لأول مرة (بردح) الجنوب: ليلة صاخبة.
سوداء. اخيرة. لكنها عجيبة. لا تنسى. تضحك روز وتقول: وبعدين وبعدين!؟ فللت
شعري الطويل وردحت بعنف: حا حا حا! لم أفعل ذلك من قبل. وتأمل مفاتني مليا؛
كأني سأغيب عنه ألف عام. يآآآآآآآه. كان جسدي أبيض ثلجيا، كأنما يكتشفه لأول
مرة بكلتا يديه وهو يتحسسني معتصرا بعض المناطق بقوة. جندي شبقي ذلك الزوج.
عنيد. تحسّسني طويلا كزهرية بلورية، ثمّ ردح معي أخيرا. كان سكرانا. طوووخ. ثم
أشبعني عضا ليلتئذ. قرصني بقوة من اماكن حساسة. وضحكنا كثيرا اكثر من اي وقت
مضى بأصوات لم نعهدها: هو هو هو هي هي هي ها ها ها يبووو! لا لا لا، لا لم تكن
أصواتا أبدا، كانت تشبه صيحات مبهمة قادمة من أماكن غامضة ليست على الأرض.
لم يكن ثمة احد يتوقع ما سيجري لنا. قلت في سرّي: اللهم اجعلها ضحكة خير
لكلينا. آخر ليلة. كانت. عجيبة: هل كان يعرف بانه سيغيب عني ألف عام طنطلي؟ هل
أخبره طنطله بذلك؟ لكلّ منا طنطل يرافقه من البداية إلى النهاية طبعا. الطناطل
خيالاتنا في النهار؛ الغائصون تحت جلودنا ليلا: طواطمنا الأثيرة.
" يابنية يازغيرونة عقد عليك الطنطل"!
تحت جلد كلّ واحد من المخلوقين طنطل، أسود، او بأي لون اخر. ردّاح غالبا، يخبره
بما يجري؛ منا من يسمعه, ومنا من تأخذه الاصوات الكثيرة فلا يتنبّه له. الطناطل
كائنات موجودة في كلّ مكان تقريبا، مثلي لا يخطئها أبدا، ويمكن لأي مدقق
اكتشافهم: يكثرون في الزوايا المهملة، والسلالم المتروكة، وأقبية المطابخ، وصرر
الملابس الداخلية النسائية العتيقة، وتحت الجلود البشرية. وفي الحروب، يكثرون
ويتناسلون كما هي الحيوانات في الربيع على الأرض اكثر من أي وقت آخر. أسالوني.
ليس ثمة صعوبات كبيرة في التعرف اليهم. كائنات مشاغبة. لكنها ليست معادية
دائما.
وكانت الحرب في بدايتها: طابطيب طابطيب، طبببآآه!: حرب غير التي نراها في
الأفلام الأسود والأبيض، طابطاب من طراز خاص: نحن مشينا للحرب، ومن اجل الشط،
كما قيل لنا بعد ذلك. أي شطّ هذا الذي يأخذ الأحبة عنوة؟ كان الجنود يحملون
الحقائب ذاهبين إلى الجبهة، عبر الشط، دائما، يخالونها سفرة مدرسية، والطناطل
بانتظارهم: طنطل وراءهم. طنطل على الجانبين. طناطل تلحق بهم دون ان يشعروا
وتقدم الاعيب مخزية.. رداحون جدد دائمون ومختلفون يشبهون البشر، لكن عيونهم
طولية دائما. لم ير الجنود الطناطل السود بعد؛ اولئك كانوا على مرمى حجر بعد
الساتر الاول. ولم يعد ثمة جندي يحمل حقيبة بعد شهر واحد. لم تعد الحقائب مهمة.
وكانت الطناطل تستاف آلاف الحقائب يوميا. اما هو، وحده، زوجي العزيز, فقد بقي
يحتفظ بحقيبة معسكر التدريب على غير العادة السائدة، ولم يدعها لأي طنطل. ربما
هو آخر من كانت له حقيبة من جنود الساتر المتقدم. ثمة شغل - ما - له في تلك
الحقيبة، من يدري، ولم اسأله عن ذلك قط.
عندما غادرني آخر مرة، كانت عنده حقيبة جلدية جديدة رسم عليها مضربا تنس
أبيضين، سوداء مثل نفنوفي هذا الذي اردح فيه في عزاءات الموتى. لم أحاول ان
أعرف سرّ تعلقه بالحقائب: تتجمد الحروف على شفتي دائما. لا ادري ما لون الدنيا،
كلها، صارت, مثل نفنوفي بعد ان غاب. ثم قيل لي: مفقود! والمفقود كالطنطل يمكن
ان يحضر في أية لحظة، ويمكن ان لا يحضر أبدا. ومثلما يفعل جميع اولئك الذين
يغيبون عن المنزل عقودا، ينسون الريح، ومواجهات الطناطل، وعذابات الخدمة، وباب
المنزل، واستقبال الاطفال المتصايحين. بيد انهم يحنون إلى المنازل كثيرا، إذ
كانت الطابطيب تفترش أحلامهم في سني الأسْر الفوقية, وسني التحول القسري
أيضا .
اراهم: الأطفال أصبحوا رجالا، والريح لم تعد معبأة برائحة البارود- لا ليست
ريحا. الريح نعرفها. إنها شيئ ما تذكر برائحة الدم المتدفق على الأرض من الجنود
المصابين توا. نتشممها ونبكي. نتشممها ونلوب.نتشممها ونموت مثل رائحة تفاح عفن.
ماتت الامهات، وهن يرقبن الطرق، كلّ يوم، امام ابواب المنازل، والساحات فارغات
من الجنود؛ والآباء رحلوا، جميعا، تقريبا، والاخوة الأحياء أجتهدوا في إسعاد
زوجاتهم، من بقي إذا؟ كلّ ردح على طريقته. جميعا. الغائبون والحاضرون. الذين
جاؤا واولئك المنتظرون، هناك، في مكان ما. عقود أخر، ثم يتحولون، بلا حقائب،
ويجدون نفوسهم في مكان ما ايضا؛ لحظة فقدان الاحساس بالمكان. الطيارون
المواجهون للحالات الطارئة المشبعة بالمجهولية؛ كلهم طاروا؛لا احد ليس طيارا،
هنا. هنا او هناك، فالزمن السفلي غير زمننا، ولن يستثني احدا. وكلّ ما يخيف
هنا: هو الانتظار الغريب هذا.لا ليس أنتظارا إنه شيء آخر يشبه الغصة الدائمة في
الحلق.. ورؤية القادمين الجدد وهم يتلفتون لأستكشاف المكان. يمكننا ان نرقب كلّ
شيء من هنا، عبالك سينما بلاش، أصدقائي الرعاة، الخدميون، وأنا، حامل الحقيبة
الرياضية؛ هذا أسمي هنا، الاسماء ألقاب طويلة. هنا. لكننا نحفظها لأن لا مشاغل
لدينا. واكتشفنا كلّ شيء بسهولة. لا احد توقع ذلك مطلقا. هم يحدثونني عن
منازلهم الطينية والقصبية، او تلك المبنية من "بلوك" رطب عند حافات المدن، وانا
احدثهم عن شقتي المعلقة في الطابق الرابع، وزوجتي المنتظرة: أراها في كلّ لحظة.
لا احد يتحدث عن بيته هنا: رعاة كسالى بلا حقائب، خيولهم وماعزهم سائبة بالبر
الكبير اللامتناهي، وخيامهم متهرئة تكاد ريح الشرق الزفزف تقتلعها بعد ان
غادروا جميعا. يالها من لعبة ماكرة هنا أيضا.
ورادحون حقيقيون: الخيول تصهل وراءهم، وهي تبكي بأصوات سيارات مزحومة.. ونساؤهم
الأرامل يعوين في الأسفل بالصوت نفسه تقريبا من اجلهم.. ديييييييييد! أسمعهن
ويسمعونهن ولا احد يستطيع الاجابة.. لكن يمكنني ان اسمع زوجتي: يا ذا الحقيبة
الرياضية المرسوم عليها مضربا تنس ابيضين، أين انت؟؟ ولا شيء غير ريح زفزف
عنيدة وأصوات مختنقة. مممممممم. يسمعون كلّ شيء ولا يفصحون. يرون. يردحون. وكم
هم يكتمون ما يرون. رعاة مغادرون. دائما. أية محطة بين محطتين غياب. ربما كان
علينا ان لا نحضر منذ البداية، لكننا بعد ان حضرنا أصبحنا من جماعة (أبو ربية)
خدمتنا الجليلة دائما دائما.
دعوتهم بالرعاة لأني لم اجد كلمة مناسبة في قاموسي الحالي. آسف. إنهم رعاة
جوالون يطّوفون في كلّ الارجاء تقريبا، وثمة خروف سماوي مذبوح يرافقهم دائما في
الأعلى.. ربما هذا هو السبب الذي جعلني أصفهم بهذه الصفة، واصرخ بهم: ميييع
ميييع مييع! ميعيون حقيقيون؛ وأنا على اية حال راع مثلهم أيضا. والخروف السماوي
المذبوح لا يكف عن التمعمع والبكاء معا. من اجلنا. ربما. ثمة أشياء تصعب على
التفسير في هذه الوهدة. سامحوني.
اصدقاء حرب. صفر الجلود. نزفوا كلّ دمائهم. شعث الشعور. عيونهم غائرة. متشابهون
يصعب التمييز بينهم. واقفون واقفون. منذ لا زمن. هنا. شمس فستقية لا تغيب.
واليوم طويل طويل. سامحوني مرة اخرى فليس ثمة كلمة مناسبة له. ليس يوما عاديا.
وهم يبكون. غالبا. ينوحون بأصوات قطط. رعاة متلبسون من طينة حمراء واحدة بجلود
خرفان متيبسة. لا. لم يكونوا رعاة؛ هذه الكلمة انا أخترعتها لهم، لأنهم كانوا
قد وقفوا طويلا بباب الأرض، ثمّ غابوا ولم أعد اراهم. أنتقلوا. بقيت وحدي
أمعمع..هنا.
من الصعب ان يكون الواحد وحده هنا؛ كالحرب أنت لا تذهب لها وحدك. رعاة منقادون
من رقابهم، يصعب معرفة المزيد عنهم. كنت أرقبهم وهم يقفون جماعات ووحدانا. هنا
او في اي مكان آخر. رعاة صابرون. سذج هنا، سذج هناك. رداحون من طرز شتى. كم
بكيت من أجلهم، لكني ابكي الآن وحدي من اجل نفسي والمراة التي تركتها هناك،
بانتظاري، بعد ان نقلوا إلى معسكر آخر- مازلت افكر بطريقة قديمة، اعذروا زلات
لساني وجهلي وبلادتي.
-وأنت؟
-من؟ انا؟
-مثلنا؟
-طبعا مثلكم.
-مييعميع!
-مييييع!
-أنوب!!
-مييييع ميييييييع!!
-حيل حيل ولك حيييييل!!
الكرسي الهزاز يعمل وحده، ربما يحركه الطنطل هذه الليلة أيضا. أعرفه. يأتي بين
حين وآخر، وحتى صديقتي روز تعرف ذلك. رأيناه معا يجلس في غرفة نومي: كان يرتدي
زيا خاكيا وقبعة حمراء وبجانبه حقيبة، والشرفة مضأة بقوة. أضواء غريبة علي وعلى
روز. لم أسأله من هو، وكذلك روز. صمتنا. خفنا. لكنه حالما رآنا غادر الشقة كأنه
من اهلها. ربما استحى منا. طنطل رجولي. والجارات نائمات. والشط هاديء. ليلتئذ
نامت روز معي. قالت:
-الطناطل قدماء.
-من سنين ابو ربية!
-أبو ربية طنطل؟
-ربما.
-هل تعرفينه؟
-لا
-لماذا هو بلا حقيبة؟
- ما حاجة الطنطل لحقيبة؟!
روز لم تأت كعادتها للثرثرة المسائية. صديقتي العجوز. كبر عليها ان تحزم امرها
و تغادرني وأبقى مع طنطلي. لكن اولادها كلهم هاجروا. ولم تعد تذهب إلى الكنيسة
في الآحاد. لذلك انقطعت حكايات الناس عني، وحكايتي التي عرفتها كلّ امراة تذهب
إلى الكنيسة وقابلتها روز. لكن لم تحدث روز احدا عما رأت قط. خافت. قد يعرف
بالأمر القس العجوز وحده؛ فروز تجلس للأعتراف كلّ احد تقربيا. وحينما بدأ
الغريب بردحه في تلك المرة، رعبنا، ثم قالت لي: دعيه، إنه مجرد زائر، وسيذهب
يوما ما، نامي، كأنه غير موجود، تعلمي ذلك قبل ان تصابي بالجنون ياعزيزتي. لكنه
لم يتركني أبدا. كان يتحسس جسدي ليلا او عند الفجر، مثله لا يغادر بسهولة.
الأسود الطنطلي تعودت زياراته دائما. لم يكن أسود باللون، للحقيقة، كان يتلون
بألوان شتى، لكن الغالب عليها هو السواد. أعرف ذلك تماما في زياراته الليلية
لي. أستحيت ان أخبر روز بذلك. لكني لم أستطع كتمانها حتى بدأ بالردح أمامي وهو
عار. صحت:
-من انت؟!
-ألم أقل طنطل؟
-وماذا تريد؟
-ماذا يريد طنطل من إمراة فقدت زوجها؟
-هل تعرف زوجي؟!
-طبعا. الرداح. هناك.
- أين؟؟ هل هو ميت أم حي؟
-مفقود.
-حتى انت تقول هذا؟! أأنت جندي مثله؟
-لا.
-الم يقل لك متى يعود؟
-...
-أنت تعرف أشياء كثيرة عنه ولا تخبرني. لماذا تجيء إذا؟
-أردحي لي وساخبرك..
-أأنت جاد؟!
-وتعري.. هل تذكرين ليلتها؟
-أيها السافل!!
عربة مذهبة صغيرة تقف في فناء قصر أبيض ناعم مثل قطعة حرير هفهاف تطل على نهر
أعرفه. ما هو ياربي؟ اعرفه بس صبر.. ما هو؟ هـ هـ هـ شط العرب! اخيرا تذكرته ما
أغباني. اما القصر، لا ادري، لم اره من قبل، ولو كنت أعرف ما هو ومن بناه
لأخبرتكم، لا اخسر شيئا، من يخسر شيئا هنا؟ ولكن لم ليس ثمة أحد من الخدم
الرسميين الهادئين بطبعهم, المترفين بالبدلات السود الطويلة ذات الذيول
المنسرحة. ولا واحد. طشوا. لا حرس ولا رجال استعلامات ولا بستانيين ينتشرون
صباحا لتهذيب الورود الجوري الأحمر المعروش في جميع الزوايا تقريبا. ربما
غادروا. كانوا يردحون ردحا عجيبا هنا. لا أحد على الاطلاق. هنا. شيء محير:
الابواب مغلقة، لماعة، ظهور طناطل وحشية. كتب على الجانبين ممنوع التدخين،
ورسمت سيكارة وسط علامة ممنوع التوقف. الدخان يملأ المكان. دخان سجائر الأخوة
الرعاة من اصدقائي الذين غادروا او عبروا من هذا الباب او أحد هذه الابواب
المقفلة الدخانية؛ لما يزل يتطاير الدخان هنا معبئا بالرائحة التي طالما
كرهتها. سكائر سيئة التبغ من النوع الرخيص: بغداد.
لا، ليست أبوابا؛ الأبواب أعرفها من زمان؛ هذه أشياء أخر تشبه الابواب قليلا:
لا رتاجات، لا رسوم، لا زخارف، ولا أستطيع حتى لمسها. مكهربة تفتح آليا. حيرة.
لكن من ولجها سيذهب إلى اهله، وهو آمن. وسيردح كثيرا. هكذا يردد الرعاة. آه،
وهذا ما يقال لنا دائما بمكبرات الصوت المنتشرة في كلّ مكان أيضا. جميعا نسمع
الشيء نفسه طوال الوقت: تعليمات أيضا! نحن الجنود الغائبون عن التعداد المسائي!
ثم كتب في أعلى كلّ باب بخطوط متداخلة كآيات أو احاديث قدسية تصعب قراءتها،
كتابات متطامنة؛ لو أستطعت أن اتأملها كثيرا لعرفت ما هي، لكنها عالية، عالية
جدا، تعذروني. لو أستطعت ان أفك حروفها لما ترددت وقلت.. طبعا. لكنها ابواب
مغلقة الآن تماما، كتابات مطلسمة، وأنا أريد الذهاب إلى أهلي عبر الشط. هل امدّ
يدي واطرق.. ساطرق أيّ باب، فإنها بالآلاف..؟ أبواب جنب ابواب، عبالك أفلام
كارتون، هنا، وبعد كلّ باب، ألف باب، ووراء كلّ باب من الالف ألف باب: هكذا قيل
لنا في التعداد بمكبرات الصوت الخفية. تكررت هذه التعليمات كثيرا. لكني لا
احتاج إلا إلى باب واحد فقط يوصلني إلى أهلي والسلام ختام.
وهواء الشط رطب يبعث رائحة تذكر بالقادمين دائما. تشممت طويلا بلا جدوى. عيناي
دامعتان، لم تكد ترمق الاضواء المتلألأة البعيدة في الجرف الآخر من النهر حتى
اجهشت ببكاء مفاجيء آخر. كانت القطة تموء بصوت مبحوح في حضني. اجل. لم يكن يجيد
السباحة، ربما أبتلعه النهر وهو يحاول العبور، هكذا قال لي العابرون الآخرون من
معيته. كانت الكهرباء قد انقطعت منذ وقت قصير، فوجدت نفسي وحيدة تغمرني
الوساوس. عينا القطة براقتان في الداخل بالقرب من لعبة عربة مذهبة صغيرة
اهدانيها زوجي أيام خطوبتنا. تعالي هنا. روز. لندخل سيأتي غدا. حتما. ظلام محير
يرخي جناحه على المدينة المقوضة من جديد. كان الهواء داخل الشقة أقلّ وطأة على
جسدي الذاوي. ثمة طقطقة خفيفة في غرفة النوم. وماءت القطة بصوت ممطوط.
سنوات طويلة بهذا الثوب الأسود الكالح وعصابة الرأس السوداء في هذه الشقة
الصغيرة المكونة من غرفتين صغيرتين. وحدي. ماتت امي منذ مدة طويلة اثناء قصف
المدينة. جلست ساعات طويلة في الشرفة المطلة على الشارع المؤدي إلى كراج قريب،
كنت أنتظر مجيئه حاملا حقيبة سوداء: سيأتي هذا اليوم. سيأتي في يوم آخر. سيأتي
هذا اليوم. سيأتي في يوم اخر. لا يمكنه البقاء كلّ هذه المدة بلا خبر وبلا حتى
رسالة من الصليب الاحمر. سنوات. سنوات لا يمكن احصاؤها مرت بسرعة كبيرة لكنها
ثقيلة مثل طابوق فرشي قديم.
ربما اخطأ أصدقاؤه العابرون التقدير وعبر إلى الضفة الأخرى من النهر، من يدري،
فالحروب لا وجه لها؛ رادحة أرضية مجنونة أيضا. ربما لم تسعفه يداه المجذفتان
ثمّ عاد ادراجه إلى المحمرة. من ادراهم في تلك الساعات أنه هو؟ ربما، لم يعبر
النهر أصلا، فالجنود متشابهون في وقت المحنة. وثمة اسرى كثيرون ظهرت اسماؤهم
بعد سنوات، سيظهر أسمه كالآخرين، اجل حدث ذلك كثيرا، لا يمكن للنهر ان يبتلعه
بهذه السهولة، فقد كان مولعا بي، يحبني؛ هاجس ما يؤكد لي إنه سيظهر على الرغم
من جميع الاخبار.
كان عليّ ان أرتدي شيئا آخر، أفضل من الخاكي، هذا البسطال الكبير المطين، وهذه
البيرية المثقوبة. وكان علي ان اتناول بعض الخبز الصباحي والشاي الممزوج
بالحليب. فالرحلة كما يبدو طويلة. اطول من أي شيء آخر. ليس ثمة غيري يقف وسط
هذه الحديقة: قصر كبير، ولا أحد يسألك عن هويتك، ولم انت هنا؟ كلّ شيء هاديء.
غريب. وليس ثمة غير صفير خفيف في الآذان بعد مرور طلقة قناص قريبة جدا من
الرأس.
أصبح جلوسي في الشرفة بذلك الثوب الأسود من العلامات المميزة للشارع ولعمارتي.
في البداية كان وقوفي او جلوسي ساعات طويلة محطّ حيرة دائمة من جاراتي، وكذلك
من اولئك العاملين في الكراج القريب. لكنهم الآن لا يوجهون لي أية كلمات..
كانوا يطلقون على عمارتي: ام الثوب الأسود، ثمّ أجتهد آخرون على ان وراء وقوفي
او جلوسي ثمة سرّ ما.. بيد ان احدا ما لم يكن ينسج أية حكاية غير: انتظار جندي.
سنة، سنتان، ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع, عشر،، أنتهت الحرب ولما يزل
ثمة جنود يأتون من المجهول.. عبر الشط.
ترى لماذا اخترعت الحرب؟ ومن اخترعها؟ في هذه الأيام يمكنني أن أجلس ساعات
طويلة أخر في الأنتظار. لم أيأس. أبدا. جلست على كرسي هزاز قديم أهدته لي
الجارة روز التي هاجرت إلى أستراليا اخيرا وتركتني وحدي وسط هذا المعمعان
القديم. عقدت رباط الروب الاسود الخفيف على بطني بقوة. وهاانذا من جديد أجهش
بالبكاء من اجل روز هذه المرة. لو استطعت الردح لردحت من اجلها، لكن لم يعد في
الجسد قوة كما كان سابقا. كانت جارتي المسنة تشاركني هذا الطقس اليومي تقريبا،
كل مساء، لكنها هاجرت في وداع صاخب مرّ, وتركتني وحدي في الانتظار اخيرا. بكيت
من جديد.
وفي الأيام الاخيرة لم يكن بكاء عاديا، كان أقرب إلى المواء المكتوم. ربما أقلد
القطة التي أشتريتها من سوق الهرج واطلقت عليها اسم الجارة: روز الصغيرة. قطة
بيضاء منفوشة الشعر، جميلة، جيء بها عنوة من الكويت أخيرا, طنطلية أيضا، قلت:
-بكم؟
-بخمسة دنانير خانم.
-كثير.
-قطة من نوع نادر، أغاتي، كانت في قصر احد الشيوخ..
-يسكن كلّ قطة جني!
-هذه قطة اجنبية مدام!
-أعرف. لكنها خمسة دنانير.
أشتريتها بدينار واحد فقط. تعلمت القطة ان ترافقني للجلوس في الشرفة بالانتظار
أيضا، كما كانت تفعل روز تماما.
-هل تعرفين، روز، أنا أنتظر منذ عشرين عاما
-مممممممبرررررر!
-لم يظهر حتى هذه الساعة. وروز صديقتي غادرت.
-روز حبابة!
-أنت حبابة أيضا!
-شكرا.. بررررررر!
-هل كنت في بيت شيخ حقا؟
-دعاية! ررررررر!
-ربما ماتت روز الآن.. من يدري كانت مصابة بمرض القلب. أنقطعت اخبارها تماما،
قالت لي، تعالي معي, هناك، بعيدا، حيث لا طناطل ولا احزان، ولا ردح على الموتى،
لكني أردت ان ابقى هنا، فربما يأتي ولا يجدني في بيته.. عيب عليّ ماذا سيقول
عني.
-ربما ..
-لماذا يغيب من احب دائما؟ هل تعرفين ياروز؟
-ميو. ميو. ميو.
-عاد جميع الجنود، أعرف ذلك؟
-يقولون..ميييو!
-هل أنت متاكدة أنهم عادوا جميعا؟
-لست أدري..ميييييييو!
مسدت على ظهر القطة قليلا، وفي لحظة مبهرة نهضت من مكاني صحت: روز أنظري..
اخيرا ها هو..! ألم أقل لك أنه سيعود.. قفزت القطة على ظهر الكرسي الهزاز فجاة
وراحت تتأمل.. يآآآآآه أنظروا هو هو أخيرا. جاء. بعد عيني طولت! شكرا لله.
اعرفه. زوجي الرادح القديم نفسه. سأفاجئه بقطتي. هه. اعرف مشيته. ياسلام. يؤرجح
حقيبته دائما كاطفال المدارس الملتحقين بأول عام دراسي، هو والله! انا لا اخطئه
أبدا. لكنه لم يقف هناك بعيدا؟ هل أخطأ المنزل؟
(*) مثل شعبي عراقي يدلّ على القدم.
بقعة الأرجوان
- 1-
أخبرتها آخر مرة التقيتها عند سلم العمارة القديمة، ربما تكون بقعة عادية تظهر
على الجلد بسبب تغيير المناخ.. اما رائحة اليود القديمة تلك، فلم اجد لها أي
تفسير.. تماما كما يعرض في أفلام الواحد: بطل واحد، وموسيقى حديثة لآلات
الكترونية شبه معقدة؛ كان صوتا مبهما على أية حال، أقرب إلى النشاز في جوقة
جاز.
كم كنا متفاهمتين طوال السنوات الثلاث التي تصرمت واشتعلت كأعواد ثقاب رطبة،
منذ ان أهتزت تلك البناية بسبب قصف صاروخي قريب. لكني أحيانا أتوجس باننا
سنفترق بطريقة ما، مثلما يحدث غالبا في الأفلام القديمة: سنتحول بعد موسيقى
صاخبة إلى نقطتين متباعدتين على الشاشة. من الصعب ان اخبرها بذلك.
بقعة دم متخثر، احيطت بهالة زرقاء. لا الم بعد الآن في الحقيقة؛ المشكلة في
المكان: هذه العين الكونية تحت الثديين الناهدين. كلانا نعيش في وهدة واحدة من
المشاهدة العنيفة لأفلام فيديو خاصة. بكينا في المشاهد المتوترة. تعانقنا بعد
كلّ ضحكة مجلجلة. اكلنا في ملعقة واحدة منذ ان التقينا في ذلك النزل الكائن في
ضواحي المدينة الواسعة. لكن هذه البقعة الغريبة هي التي باعدت بيننا، قالت:
ربما تكون " داء جديدا " من النوع الذي يظهر في المسلسلات الكونية.. أعرف بانني
قد تعرضت لإشعاع خفي أو تركيب كيمياوي لعين في تلك الغرفة الصغيرة التي علّق
على بابها يافطة بيضاء باهتة: مختبر التحليلات المرضية- لا، لا يمكن ان يحدث
ذلك إلا في الافلام؛ أما ان يكون حقيقة أتحسسها باناملي، فهذا ما لا يمكن ان
أتصوره الآن على الاقل!
ثمة أشياء بغيضة كثيرة تحزم امرها بسرعة وتثلم مني على نحو خاص, مثل قطع حاد
لرسم هندسي من ثلاثة أبعاد: اضغط على الزر في اللوحة، هكذا، يمكن أن يذهب بلا
رجعة وبلا حفظ. لنحتفظ باسمينا معا في كل المناسبات، وفي كلّ البرامج المحفوظة
في الدوائر الصغيرة غير المرئية. لن نعرف إلا معا أيضا. ولتتسع الارجوان كما
يحلو لها..صدرك، أيتها العزيزة، أثمن ما نملك في هذه الدوامة، البناية القديمة
والطابق ذو الإضاءة السيئة، كدنا نموت هناك ذات مرة.. اجل حدث كل ذلك الضجيج
بسرعة حتى تدفقت الدورة الشهرية في غير اوانها، ساعة اغلقت باب المختبر واستمعت
إلى ذلك الصرير المعتاد.
كان الظلام يكتنف المكان، والغبار يتطاير في الشارع القريب، شعرت بانها هوت في
نقطة مفاجئة .امنحني أيها الرب القدرة على القيام من هنا فقط، فلا احد معي في
هذه الوهدة. يا لأفلام المطاردة الريفية والسكائر الرديئة. كم احتاج من الوقت
للتماسك؟.. خاصة أثناء النزول؛ كان التعثر يعني موتا محققا على ذلك السلم:
أهبطي وستعلمين، لا أحد يمكنه ان يبصر شيئا الآن. كان انفجارا مروعا مثل قيامة.
جلست على دكة قريبة كانت في الأصل حاملة لأصص متربة ميتة. فكرت ان لا علاقة
البتة بين ما يحدث لها ومشاهدة تلك الافلام الرديئة. بيد أن رائحة اليود العفن
عطنت في أنفها من جديد، فعادت إلى تحسس صدرها، ثمّ صرخت بصوت مكتوم: آآآآ..آآ..
- ثريا! أمازلت هنا؟
- أجل.
- أنت متعبة.
- ادري؛ كأني اغوص في مستنقع لزج.
- لنرحل!
- أجل!؛ كلنا سنختفي في لحظة ما.
وشهقت بعنف كانما انتزعت سكينا من صدرها، وبعد هنيهة هدأت رويدا رويدا، فقد
عادت أضواء السيارات إلى الحركة.
-2-
عندما هبطنا من السيارة السوداء التابعة لمكتب الإعلان, كان العجوز " أدور" أول
من استقبلنا بباب الحديقة في ذلك المساء القائظ من آب. ابتسم بتلك الطريقة التي
تنمّ عن خبث دفين، وداعب طرف عصاه المبجلة. كنا نرتدي ثوبين أسودين مطرزين
بدانتيلا من النوع الرديء. كان من الصعب إفهام " أدور" أننا مجرد صديقتين ولا
صلة عائلية بيننا.. تمتم: أنتما متشابهتان إلى درجة يصعب تصديق ذلك! قالت ثريا:
- أأنتم جادون حقا، في الاهتمام بي؟
أجاب بسرعة:
- طبعا طبعا!
- إنها تتسع في كلّ يوم سيد" ادور" ولم أعد أرغب في نوم القيلولة.
- لست طبيبا. لكنهم سيحددون طبيعتها على أية حال. تفضلا.
- انا خائفة!
- كلنا نخاف غالبا! أتركي الامر لهم، فهم أعلم بما يمكن أن يكون..
بدأو من جديد تحت سعف النخلة الذهبية المقدسة، الاصدقاء الغرباء غير المبالين
في أغلب الاحيان. كانوا جالسين في نصف حلقة، تماما مثلما هي لجان مقابلة طالبي
العمل الجدد. تبادلوا إيماءات الرؤوس السريعة واشاروا لنا بالجلوس. لم تسلّم
ثريا، في حين راحت كلماتي متلعثمة : " مساء.. الخير .. سادتي.. تعلمون ..ما
يحدث.. لنا حتما ".
نحترق مثل سلك مغنيسيوم, لا بريق لنا بعد ذلك؛ إيماءات رؤوس واحدة. اما أنا فقد
انزويت في ذلك الكرسي الجلدي الأسود البعيد نسبيا. العجوز "أدور" يقف وحيدا عند
الباب الذي يفضي إلى صالة فارغة. قفز إلى ذهني فجاة تساؤل: كم يبلغ عمر "ادور"؟
ولماذا يقف هناك مثل خادم من الدرجة الثانية؟ نهضت من الكرسي، فأشار لي بقوة
آمرة: اجلسي! وقامت ثريا بفكّ ازرار القميص بنوع من الارتجاف الغريب. فقام أحد
الفاحصين بتوجيه ضؤ كاشف نحو صدرها العاري. بكت لحظة، ثم رفعت ثدييها إلى
السماء.. ورطن الجميع بلغة غريبة لم أسمعها إلا نادرا.. وكان " ادور" قد شاركهم
بأحضار جهاز يشبه تلك الأجهزة التي تفحص الإصابة بالسل الرؤي إلى حدّ ما..
فنهضت من الكرسي، وعندئذ صاح بي "ادور": ألم أشر لك بالجلوس؟ لست معنية بالأمر!
أطفأت أضواء القاعة فجاة، وجاء العجوز مسرعا ليمسك بكلتي يدي، تمتم: عليك أن
ترحلي الآن! ليس ثمة موجب لبقائك بعد ذلك.
تمتمت: وصديقتي؟!.
-3-
كانت سيارة الإعلان تقف بباب المقبرة. أبدى "ادور" العجوز امتعاضه من سرعة
انتشار رائحة العفن.. امسك يدي وسرنا ببطء نحو الداخل حيث كان المكان يضجّ
بزقزقات العصافير المتواصلة. أجلسني على مصطبة انتشر عليها ذروق الطيور. حدق
فيّ مليا وحاول ان يمنحني نوعا من الامان الزائف؛ كنت أرتجف.. لقد تجمعت
العصافير بالقرب من صلبان ثريا: هنا ترقد صديقة العمر! هنا يبقى السرّ مدفونا.
قال "أدور": لم يكن بالإمكان أن نفعل شيئا مهما، كان المرض أسرع منا جميعا.
مرض غريب يصيب الواحد في المليون.. لا أعرف أسمه على وجه التحديد. ثمة مصطلح لا
تيني طويل.. لكنه من امراض المتوسط بكلّ تأكيد ياعزيزتي. لم أبكِ. لم يعد ثمة
معنى لذلك. فتحا أزرار قميصي ورحت أتأمل، كان العجوز يغادر المقبرة. بدت اقدامه
مثل سيقان ضفدع ميت، وهو يخرج من الباب الرئيس محركا عصاه بتلك الطريقة التي
يقوم بها ضباط البحرية الأجنبية غالبا.
بغداد/ نشرت عام 1998
المولع بالخيول
-1-
إقتربت من الأسطبل الصغير الكائن خلف البيت. إنتابني شعور غامض ومباغت بأن ثمة
طلقة بندقية دوت بالقرب من المكان في أثناء نومي.. لم اكن قد سمعت بتلك الطلقة
من قبل.. وكنت أحسب كلّ ما أسمعه محض حسد عيشة وغيرة من اصدقائي الجاكيه.
الفرس "السبوق" التي لاحقتها العيون وسط عاصفة من غبار متطاير كسهم أحمر أنطلق
فأدهش موظفي إدارة السباق الذين تركوا مناضدهم الخشبية الهزازة لأول مرة وراحوا
يرقبون مفاجأة الموسم: فرس شرطة الجمارك السابقة، وهي تتقدم الجياد بمسافة
كبيرة. النواظير المؤجرة من اكشاك بيع السجائر الرديئة بدت أكثر أهمية في ذلك
من يوم بدء مشاركتها في السباق. يمكننا ان نلحظ ظهور السبوق لأول مرة مع تأجير
نواظير طولية جديدة "متابعة القرصان" رخيصة من صنع محلي: إنها لا تعدو ان تكون
غير انبوبين أسطوانيين من الصفيح الرقيق ثبتت فيها مكبرات زجاجية مستعملة في
أغلب الاحيان، مع تحذيرات كاملة بعدم السقوط على الأرض أثناء متابعة السباق.
ولذلك يصعب القيام بأية حركات انفعال في عمليات المراقبة. يمكن النظر ببساطة
إلى السباق من خلال اغماض أحدى العينين: صفير طويل وضاج، وصراخ هائج متواصل
ينبعث من أماكن مختلفة على المدرجات شبه المتآكلة والمكتظة بالنظارة: سبوق سبوق
سبوق!
كنت اول من اطلق عليها هذا الاسم: سبوكي! الجمهور هو الذي خففه إلى سبوق؛ منذ
ان تسلمتها من دائرة جمارك المنطقة الجنوبية بوصل بيع حكومي، كتب تحته: حيوان
(مطاردات) مصاب بعاهة دائمة. المبلغ المستوفى عشرة دنانير فقط لاغير! التوقيع:
مدير حسابات جمارك المنطقة الجنوبية.
دفعت المبلغ إلى مدير الحسابات على شكل أرباع دنانير خضر كثيرة الاستعمال و
ملفوفة بعناية. بيعت السبوق بعد إصابتها بإلتواء حاد في أثناء واجب مطاردة
حامية ضدّ مهربي ويسكي ومسدسات على طرق صحراوية غير مألوفة.
وكان المراهنون الدائمون على المدرجات أوخارج ملعب السباق هم اول من علم بشرائي
للسبوق. ثمّ عرف بشأنها مربو خيول السباق، والفضوليون، وعشاق المراهنات، ومهربو
الويسكي والمسدسات, وشرطة الجمارك ممن أمتطوا السبوق في واجباتهم سابقا.
لكن سؤالا واحدا حار به الجميع: ماذا يمكن ان يفعل صبي مثل عبدول جاكي – أسمي
عبدالله- بفرس عرجاء خدمت في الشرطة؟ أحد الشرطة نصحني بتشديد الحراسة عليها
دون أن يذكر سبب ذلك..؟ ثمّ جاء آخرون فأكدوا لي أهمية مراقبة الفرس في
الليل..؟! لم اعر ذلك ايّ اهتمام. وحينما كثرت التحذيرات، وغمضت في رأسي
الكلمات، سألت:
- هل ثمة خطب لا اعرفه في السبوق؟
- لأنها السبوق!؛ الحمراء المشاكسة يا عبدول!
- وماذا يعني ذلك؟!
- ما لا تعرفه: محاولات تسميمها في مربض خيل الشرطة القديم!
- سمعت ذلك.. من يرغب بقتل حيوان مسكين؟
- أفهم.. وما لم تسمعه أيها الجاكي: هو الثأر القديم بين سبوقك والمهربين.
- أي ثأر .. أوووهووو! سأعالجها.. ما شان المهربين بحيوان أعرج اشتريته بعشرة
دنانير؟
- احذر! فقط.
- على ظهرها أشعر بالطيران حتى وهي عرجاء. أفهموا.
- ولد .. ابله!
-2-
جئت بها في الصباح الباكر من كانون البارد، وانا اقودها من بستان النخيل إلى
منزل هاكوبيان البيطري العجوز غير الرسمي. تجمدت قدماي، ورحت أرتجف طوال الطريق
والسبوق تنظر إلي بحنو غريب خلفي. وعلى الرغم من أرتدائي معطفا خاكيا تدلت
كتافيتاه جانبا إذ يستعمله الجنود في الشمال للحراسات الليلية في الربايا، إلا
إني كنت أرتجف بقوة مثل سعفة يابسة. ربما كنت مصابا بالحمى. لكن الولع بالسبوق
انساني نفسي.
هاكوبيان يا هاكوبيان!
في هذا الشتاء القارص توقف الماء عن الجريان في الانابيب. يحدث ذلك نادرا في
الجنوب. ولم يسبق للسبوق ان تعرضت إلى هذا الجو الثلجي من قبل. ولم يسبق
للمدينة التي تقع على طرف الصحراء ان تعرضت إلى عاصفة ثلجية منذ عقود كثيرة. أي
برد مجنون هذا الذي يمكن ان تشفى به ألتواء ساق؟ بدت السبوق وهي تنظر إلى
حركتها حزينة من خلال تلك النظرة العميقة للأسفل وهي تشير مخذولة كانما خسرت
معركة.
الباب الأزرق الواطيء نسبيا والمغلق. العتيق. المرصع بالمسامير الصدئة.
هاكوبيان! اين انت أيها الثمل؟ هل تسمعني؟ هوووو!
باب كبير يغوص في الأرض قليلا.
الدنانير العشر التي دفعتها ثمنل للسبوق العرجاء هي كلّ ما املك في هذا العالم.
وما تبقى غير دينار واحد أستدنته لشراء خضار وخبز للمنزل في الايام القادمة.
مبلغ عشرة دنانير ليس بالامر السهل بالنسبة لي.
هاكوبيان!! او صمخ!
لم يستطع المراقب البلدي أن يمنع هاكوبيان من ممارسة البيطرة على أية حال لأنه
كان يعالج خيل الشرطة مجانا. ها قد اتيت له بالفرس أخيرا ماشيا- كما امر من قبل
- على طول الطريق المؤدية إلى وسط المدينة الموحلة، تبعني الصبيان العابثون،
والهنود الجوالون، والفلسطينيون الذين يحملون على اكتافهم اقمشة للبيع، والكلاب
السائبة، واولئك الذين أسمعوني كلمات لا معنى لها.. فجأة، فتح الشباك الخشبي،
وأطل برأسه الاشيب الصغير وعينيه الزرقاوين المتورمتين.
- لماذا تصرخ منذ الصباح الباكر؟ ها؟
- هاهي السبوق!
- اسم لا باس به.. دنيا جامدة. ألا ترى؟
- كما أتفقنا.. جئت. هل أنت سكران أيضا؟
- أي سكران ..أي اتفاق! لا اذكر.. ماذا يمكن ان أفعل في يوم مثل هذا؟
- تفعل الكثير .. ياصديقي.
- هات دينارين أولا للسكران!
- كان أتفاقنا بعد السباق..
- غيرت رأيي! هل سمعت لسكران رأي ثابت؟ هه؟!
- طيب.. طيب. سأعطيك دينارا الآن، ودينارا آخر بعد السباق.
خرج من الشباك الخشبي. تأمل السبوق جيدا وقال: اعرف هذه الفرس جيدا. ربت على
رقبة الفرس كثيرا وهو يحدق في عينيها. ثمّ قبلها برفق. لم أستطع ان أفهم سلوكه
ولذت بصمت مطبق. كانت الزجاجة ما تزال في جيبه الخلفي. رمقني بنظرة ملؤها
الحيرة، وهو يحتسي قليلا منها. أكتشفت أن هاكوبيان بلا أسنان. وأن ما يضعه منذ
ان رأيته هما فكان أصطناعيان.
اخرج مشطا أسود صغيرا من جيب بنطاله الخلفي، ورتب من شعيرات فوديه البيض
القليلة المتطايرة. وقال: العناية بفرس، أيها الجاكي!، يتطلب كثيرا من الوقت
والمهارة والحب. هل أنت قادر على ذلك؟
أمتلاك فرس يتطلب الظهور بمظهر حسن أيضا. من أين لك بهذا المعطف يا عبدول؟
السبوق تكره المعاطف العسكرية. يمكنك شراء قميص أبيض وقمصلة سوداء قصيرة من سوق
"البالات" لكي تبدو جاكيا محترفا ووسيما. أليس كذلك؟ خذ دينارك من اجل هذا،
وأذهب إلى سوق "البالات" فورا ايها الجاكي المبتديء. لن تقبل السبوق بجاكي
ودشداشتة ممزقة كبالون ساقط من دائرة الأرصاد الجوية. أبدا. مفهوم؟
- شكرا هاكوبيان. أنت نعم الصديق.
- لست صديقا لأحد.. أنا كبير.. لكني صديق السبوق من هذه اللحظة!
- هل عالجتها من قبل؟
- لا اذكر .. ثمة خيول كثيرة مرت علي.. خيول عربات ، خيول شرطة خيول سباق،
خيول زينة، خيول تائهة لا احد لها تركت بعد خدمة طويلة. لا يسالني عن
الخيول: أعرفها جميعا. لكني لم أشاهد مثل سبوقك هذه. كلّ خيول السباق اصدقائي
تقريبا.
- أشتريتها بعشرة دنانير!
- مبلغ تافه!
- لكنك غالبا ما تخسر في المراهنات.
- أخسر .. ومن فينا الرابح؟ اشترِ للسبوق جلالا جديدا أيضا.
- هذه مصاريف لا أقدر عليها الآن..
- هل تريد ان تربح في السباق دون ان ترضي سبوقك؟ جاكي بخيل!
- هل ستعدو كالسابق؟
- لست أدري.. ولكن مادام لدى هاكوبيان رأسا .. ساحاول كلّ جهدي.
- شكرا.
أجلس الفرس على الارض بحركة واحدة منه تطلبت مهارة خاصة قلما يعرفها الجاكية.
وكان قد احضر عدة عمله الطبية من الداخل؛ وهي على شكل صندوق شاي خشبي علامة
(الفلاحة) احتوى على مفكات سيارات وكماشات كهربائيين وروابط حديدية وخرد حديد
متنوعة. وشرع بربط الساق الملتوية. ثم حدث الفرس باللغة الارمنية، وراح يترنم
باغنية متداولة طالما كررها وعلّم الآخرين معانيها، عن ضياع المزارع والبعد عن
احراش الطفولة، والسير في طرقات جبلية موحلة وزلقة. الارمن المطاردون. الأرمن
الذين فقدوا أرضهم. وبعد دقائق من الغناء المشحون ببكاء هاكوبياني لم أستوضحه؛
نفرت السبوق بقوة.
- ماذا فعلت؟!
- اعالج الالتواء.
- عاملها برفق من أجلي.
- أتعلمني عملي!؟
كانت السبوق تستجيب لجبيرة هاكوبيان بسرعة على نحو غريب. قال بعد انتهاء عمله
هاتفا: اما الآن ياعبدول عليك إحضار عربة لحمل سبوقك. ونفّذ كل ما اقوله لك
بالحرف الواحد.. ثمّ عد بها بعربة بعد شهر.. من اليوم.. أحسب جيدا.. انا ضعيف
بالحساب هذه الايام .. مفهوم؟ ولتتغذ السبوق جيدا طوال هذه المدة. أما أنت،
أيها الجاكي المتدرب، فخفف من وزنك خلال هذه المدة حتى تصبح ريشة صقر.
-3-
لا تشد اللجام بقوة، دعها تنطلق وحدها. تعلم ان تطلق صفيرك الخاص في الربع
الأخير من المسافة. لا تلتفت إلى الوراء أبدا، إن فعلت ذلك - كما يفعل كثير من
الجاكية - فانت تهين فرسك. ثمّ تذكر ان حب الفرس والتعلق الدائم بها هو سرّ
الفوز بالسباق دائما: نصائح هاكوبيان قواعد ذهبية؛ أنا لا انصح كلّ جاكي ياتيني
بفرس مريضة. طبعا. معظم الجاكية مغرورون. لا تغتر انت. وأجتازت السبوق الخط
النهائي دون ان تثير خلفها أية عاصفة. كأنما تطير في الهواء. وازدادت صيحات
الجمهور: سبوق سبوق سبوق!
وبعد السباق دعاني مدير ملعب السباق نفسه، عبادي البدين الذي يجلس في دائرته
دائما ويرقب السباق بناظور إنكليزي قديم ورثه عن ضابط إسكوتلندي منذ الحرب
العالمية الثانية. الدخان يملأ المكان من غليونه المرصع بالفضة. وكان قد دعاني
إلى وليمة لأسماك بحرية. وجلس هاكوبيان حذرا وهو يرقب السبوق من وراء زجاج
المكتب في كلّ لحظة تقريبا.
قال المدير: من هذا ياعبدول؟
- هاكوبيان!
- وماعلاقته بالفرس؟
- صديقها.
- هل هو شريكك فيها؟
- قلت: صديقها!
- لا أفهم..
- يمكنك ان تعده شريكا..
- طيب أيها (المولّد)(*) اسمع: خسرتنا سبوقك كثيرا!
فقال هاكوبيان: ولسوف تخسرون أيضا!. فصرخ عبادي المدير:
- دع هذا الأرمني السكير خارجا يا عبدول.
- لا، هو صديقي. قل لي الآن ماذا تريد منا؟
- يمكنك التباطؤ قليلا في السباق يا عبدول..
- ماذا؟! يصعب السيطرة على سبوقي في الركض.. الجميع يعرف ذلك. أسأل هاكوبيان!
- أيها الافاق!
- والله!!
- قم قم!
-4-
عصا الجاكية، السوداء الرفيعة، ذات النهايات المفلطحة. البنطلون الاسود القصير.
القبعة البيضاء الجديدة بشريطها الازرق المتطاير إلى الخلف. عشرة امتار بين
السبوق وثاني فرس في السباق. شخير متواصل بعد كلّ جولة وهياج عام في الملعب وسط
صيحات حامية: سبوق سبوق!! رفع القبعة تحية للجمهور المتماوج والملوح بدنانير
الرهان الزرق. الفائزون والخاسرون.السكارى والصاحون. كلهم قذفوا احذيتهم
وخفافهم "الشطراوية" والاسفنج، والزجاجات الفارغة إلى ساحة الملعب، ولأول مرة
في تاريخ السباقات والمراهنات كما حدثني هاكوبيان.
تقبّل الجاكية تلك الثورة عن طيب خاطر. وعدوها حالة طبيعية بعد ان اصبحت
المراهنات بعشرات الدنانير، وازداد رواد "الريسز" اضعافا. لحظة تأملت السماء
وسط الهياج بدت حمراء شفيفة عجيبة. كانها غير السماء. ريح مفعمة برائحة مطهرات.
صفير في الخارج وصفير في الرأس. خلع هاكوبيان قبعته السوداء الكالحة وانحنى
لأول مرة للسبوق التي ربح من المراهنة عليها مائة دينار في يوم واحد. لكنه ترنم
بالاغنية الارمنية نفسها.
جلس هاكوبيان بالقرب من باب الأسطبل الذي أعددته للسبوق حديثا. ولم يكن يبكي
كعادته، كان ساهما نحو مكان ما في السماء القريبة. كمن يرقب مجهولا قادما. باب
الاسطبل منخلعا تماما. وثمة ساقية صغيرة من دم احمر قان تسيل ببطء بالقرب من
مشبك الخشب المصبوغ بالابيض. كلانا لم يدخل الأسطبل أبدا.
(*) المولد: الخلاسي. البصرة 1998
|