أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب: نبيل عودة-فلسطين

       
       
       
       
       

 

حازم يعود هذا المساء-رواية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد في مدينة الناصرة عام  1947 

درس الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو.

يكتب وينشر القصص منذ عام1962  

نشيط بالصحافة  والكتابة الصحفية منذ تلك السنة رغم انه لم يعمل في الصحافة الى لفترة قصيرة بين 2001-  2004

عمل كمدير عمل ثم مديرا للإنتاج في الصناعات المعدنية بعد ان أغلقت بوجهه أبواب العمل في التعليم او الصحافة كما كان يرغب ليجد الوقت لممارسة هوايته الأدبية وتطويرها... وواصل الكتابة الأدبية والفكرية , ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية.

 

ترك عمله اثر إصابة عمل،  تقاعد وتفرغ للعمل الصحفي والأدبي  مطلع العام  2001 .. حيث عمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة "الأهالي" التي صدرت مرتين ثم ثلاث مرات في الاسبوع، كانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ،على المستوى الشخصي وعلى المستوى الصحفي العام، إذ لأول مرة تصدر صحيفة مستقلة تحولت إلى منبر سياسي وثقافي وفكري واجتماعي غير مهادن، كانت صوتا وسوطا غير عادي أثارت قلقا واسعا في أوساط سياسية مختلفة شملت كل التيارات السياسية .. وبسبب ضغوطات ، بعضها كشف وبعضها لم يكشف بعد، فصل نبيل عودة مع رئيس التحرير من العمل في " الأهالي "، وعمليا أغلقت تجربة نادرة في الصحافة المحلية.. ولكنها كانت جامعتي الإعلامية الهامة التي أثرتني فكريا وثقافيا وإعلاميا، وأثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية...

يحرر ويصدر اليوم بالاشتراك مع الشاعر والمفكر والإعلامي سالم جبران مجلة فكرية ثقافية شهرية باسم "المستقبل" وينشر  مقالات أسبوعية بشتى المواضيع في صحيفة "الأخبار" النصراوية وفي العديد من المواقع الالكترونية .

 

صدرت للكاتب:

1- نهاية الزمن العاقر  (قصص) 1988

2-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها (بانوراما قصصية فلسطينية) 1990

3-حازم يعود هذا المساء (رواية) 1994

4 – المستحيل  (رواية) 1995

5- الملح الفاسد (مسرحية)2001

6 – بين نقد الفكر وفكر النقد  ( نقد ادبي وفكري ) 2001

7 – امرأة بالطرف الآخر (رواية) 2001

8- الانطلاقة (نقد أدبي ومراجعات ثقافية)2002

9 – الشيطان الذي في نفسي (يشمل ثلاث مجموعات قصصية) 2002

...ومئات  كثيرة من الأعمال المختلفة التي لم تجمع بكتب بعد.

بعض قصص نبيل عودة للناقد الفلسطيني (سوريا) محمد توفيق الصواف دراسة هامة عن منشورة في كتاب عن أدب الانتفاضة في موقع "القصة السورية" وفي موقع "اتحاد الكتاب العرب" ضمن زاوية " كتب الدراسات".

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الحاجز

الشيطان الذي في نفسي

المفارقة

يوميات فلسطيني 

العبور

نهاية الزمن العاقر

الفجر يولد من جديد

جنازة

غريب يدخل حارتنا

الدرجات

كنت معها

 

 

يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائهًا

 

هكذا تمضي الأيام

 

لست ادري بالدافع الذي يشدني لاجلس امام النهر متأملاً اندفاع الماء اللانهائي . كانت تمر علي عشرات الوجوه، تجذبني للحظات وانساها، لأعود أتأمل حركة الماء. وكثيرًا ما يعتريني شعور الوحدة القاتل، ولكني بقيت ملتزمًا لعادتي غير المفهومة.. احيانًا اقتنع باني الضائع الوحيد في هذا العالم؟.. او على الاقل في هذا المكان. وتبعًا لذلك استنتج بثقة اني التائه الوحيد امام هذا النهر.. وانه لا قيمة للزمن في حياة التائهين.

جميل ان يرى الانسان الوجوه عبر انعكاساتها في اعماق الماء. بعضها يبدو اكثر طولاً وبعضها اكثر عرضًا، ولكنها امور تمر بسرعة بحيث اني لا اتذكرها. احيانًا يخيل الي ان الجلوس أمام النهر هو حل شجاع لمشاكل الضياع .. المشكلة اني لا اشعر داخليًا بشيء.

 انا في منتصف عقدي الرابع . اشعر بالضياع منذ وقت طويل جدًا. احاول ان احدد المنطلق الجوهري لما اعانيه، فتمتليء صفحة النهر بعشرات الصور والخيالات والاحداث.

 

حوار مع رجل لم يته

 

-لن يستعيد العرب قوتهم.

-هتلر وزع دعوات ليحتفل باحتلال لينينغراد والنتيجة انه لم يستطع دخولها..

-دائمًا تقود النقاش بعيدًا!

-بل احاول تخليصك من أزمتك..

-أزمتي الوحدة القاتلة!

-تزوج اذن!

-كيف استطيع ان اجد زوجة اذا لم اجد نفسي بعد؟!

***

انخفضت نسبة الضوء وبدت لي الدنيا اقل حركة واكثر هدوءًا، وصار النهر اجمل.. واصبحت الانعكاسات على صفحته مشوشة بحيث لم اعد استطيع التمييز بين الوجوه.. كل ما هنالك اشكال هندسية... تتبادل الظهور.. تمر امام عيني كما تمر الصور السينمائية وتشدني صفحة النهر لايام زمان.

 

غزلية من أيام زمان

 

الى التي اهدتني قبلة قبل المغيب

عبر شرفتها المشرقة

فاصبحت نجمي الليلي

به اهتدي الى الطريق

عائد أنا،

عائد...

وان طال الطريق

(كتبت في السجن)

•ملاحظة: انا عدت. اما هي فلم تنتظر.

***

ايام زمان لم اشعر بالملل، كنت ملحوقًا بالوقت واتمنى ان يصبح للساعة احدى وستون دقيقة... تململت في جلستي بعض الشيء. الآن امنيتي ان يركض الزمن. ان تنقص دقائق الساعة.

 

حيث لا يشعر الإنسان بذاته

 

خذني معك

ايها النهر المتحرك

بالوجوه المشوشة.

احمليني...

ايتها المياه المندفعه

في مجرى النهر...

الى هناك

حيث قد يكون بلا شك

عالم آخر

لا يشعر فيه الانسان بذاته

وتصبح الكلمات بلا معاني

وينتهي التفكير

 

**

اجل، حينما لا يكون تفكير لا تكون عقد. امتلأت صفحة النهر بالنجوم فاهتممت بالبحث عن القمر.

اردت ان ارفع عقيرتي بالغناء، ليس رغبة مني بعملية الغناء نفسها، وليس لان اغنية ما تدندن في رأسي. لم يكن شيء من هذا او ذاك. فانا لا احفظ اكثر من مطالع بعض الاغاني، ولا يستهويني الغناء، وصوتي لا يصلح للغناء .  والمكان غير مناسب لغنائي .. كل ما هنالك انها حالة طرأت علي .. سرعان ما وأدتها.

 

حوار آخر مع الرجل غير التائه

 

-تزوج..

-فاتني القطار. ثم ان مشكلتي ليست هنا.

-الزواج قد يخرجك من عقدتك.

-ربما يخرجني من عقدة ليربكني بعقدة اصعب.

-شعور العجز والتردد اياه.

-لا حيلة لي في ما يحدث.

-انت تقول هذا؟!

-......

-انت الفوضوي المندفع كالعفريت.. المغامر الـ....

-لا تحدثني عن ايام زمان...

-العرب ليسوا اول أمة تهزم. قبلها هزمت عشرات الامم.

-لم يعد ذلك يهمني.. هل تفهم ؟!

-هس... لا تصرخ.. اني لا اقاتلك.

 

انعكس وجهها على صفحة النهر بين النجوم، فبدا جمالها اكثر عظمة واشد تأثيرًا. انتابتني كآبة شديدة ووددت لو اخرجت الوجه واحتفظت به بين كفي.. بيني وبين نفسي اعترفت، بشيء من الارتباك.. اني لا ازال احبها. وأحن الى الايام التي ربطتنا، وكنت كلما رأيتها في زياراتي الخاطفة لمدينتي ينتابني الألم. الآن اصبح عندها طفلان.. وزوجها كان زميلي في الدراسة، لا تربطني به صداقة خاصة. كل ما هنالك معرفة قديمة من ايام الدراسة.

كنا نتبادل الاشارات عبر الهواء الطلق. هي في شرفتها وانا منزو في قرنة الشارع. نلتقي خطفًا لنتبادل تحية صامتة مرتعشة.. نبحث عن اكثر الاماكن زحمة بالناس لنستطيع بحجة المرور ان نلتصق ببعض.. صور مضحكة ولكنها أعذب ذكرى أحملها.

في معارك أيار المشهورة سنة 1958 قذفت الحجارة وكل ما تطوله يداي من سطح الارض. وعندما امسى اول ايار كنت مطروحًا أنزف في زنزانة ملأى بالاصوات. واستعدت وعيي بعد ساعات طويلة. وفي خلال السنة التي قضيتها سجينًا ضاع حبي الاول والاخير. حبيبتي تزوجت.

لم اعرف لماذا خانتني! لماذا لم تنتظرني؟!

 لم انس الصدمة. كانت تسكن مع زوجها قرب بيتنا، بحيث اراها صباحًا ومساء. ولكنها لم تحاول ان تنظر اليّ مطلقًا. كانت تتجاهلني بشكل يثير حقدي. وبنفس الوقت يزيد اعجابي ورغبتي فيها... فتركت مدينتي تمامًا، ولم استطع ان اترك حبها. بقي معي . وكنت، وربما ما زلت .. كلما رأيت زوجين متحابين تثور نفسي عليهما. هل هي الغيرة؟ لا ابدًا !... اذن ؟! ... لا اعرف .. ولا انوي التفكير بهذا الموضوع.

واليوم لم يبق لدي من ذكراها الا قصاصة ورق صفراء صغيرة عنونتها بـِ :"غزلية من ايام زمان".

 

حادث غريب ذات مساء

 

لي جارة ارملة، زوجها طيار سقط في آخر يوم من ايام حزيران الستة المشؤومة. كانت علاقتي بها وبزوجها جيدة، وحتى بعد فقدانها لزوجها بقيت علاقات الاحترام قائمة، وكثيرًا ما حاولا سوية اقناعي بالعدول عن فكرتي المعارضة للزواج. كنت ارتاح اليهما لدرجة اني قصصت عليهما صدمتي وسبب هجرتي لمدينتي . هما الوحيدان اللذان كنت ارتاح اليهما في كل شيء ما عدا في السياسة. كنت اجري معهما نقاشات عنيفة تمتد احيانًا لليلة كاملة. وكنت اشتري الحلوى وبعض الالعاب لطفلتهما "شولا" وكانت "شولا" الصغيرة احسن صديق لي . اذا لم اذهب للنهر اكون معها.

في مساء احد الايام استدعتني جارتي الارملة. كان بعض القلق عالقًا بمحياها، ونظراتها حزينة. قالت قبل ان اخطو للداخل:

-شولا لا تصدق انك عربي.

لم اجد غرابة في قولها. جلست على الاريكة في مكاني الذي لا اغيره. كنت اشعر نفسي حرًا في هذا البيت، ولكن بعد ترملها لم اعد ادخل بيتها الا حينما تتعربشني صغيرتها، فاوصلها للبيت واذهب لغرفتي في الطابق التالي.

-يسممون عقول اطفالنا.. يكفيني ما حدث لي.

كنت ما زلت مرتبكًا من دعوتها، قلت:

-هل استطيع ان اساعد بشيء.

-تصور انهم يعلمون اطفالنا الكراهية.. لا يهمني ان تكره "شولا" العرب عندما تكبر. هذه مسألتها الخاصة. ولكن عندما يعلمونها الكراهية العمياء الآن، وهي لا تفهم ولا تميز الخير من الشر، فهم يربون فيها خصلة الكراهية.. خصلة قد تتجه ضدي.. او ضد اقرب الناس اليها.

كانت تتحدث دون الاعتبار لكوني عربيًا، وقد سررت بذلك، ولمست به روح الثقة بي، فحديثها غير مقصود به كراهية العرب، وانما تريد ان تقدم لي الحقيقة كما هي، لعلني اساعدها فيما تريد.

صمتت لتلقط انفاسها ولتركز فكرها:

-امس طلبت مني لعبة رشاش، فاشتريتها لها، اليوم عبأته بالماء وقالت انها تريد ان تذهب للناصرة لتقتل كل العرب. وعندما زجرتها وجهت رشاشها نحوي وصرخت متكلفة الشراسة:"عربية موتي"... كيف استطيع الصبر على ذلك؟ قلت لها ان العرب اناس مثلنا.. طيبون، فرفضت ان تصدق. قلت لها افرضي ان اباك الذي تحبينه وتنتظرين عودته عربي، فهل تقتلينه اذا رجع.. فرفضت الاجابة، فسألتها اذا كانت تحبك انت، اجابت بالايجاب، فسألتها الا تعرفين انه عربي؟ فأصرت انك يهودي... لذلك استدعيتك، ربما يفيدها ذلك...

-اين هي الآن؟

-تبكي في غرفتها لاني اخذت منها رشاشها و... منعتها من قتل العرب.

قالت وهي لا تعرف تبكي ام تضحك.. نادتها. فجاءت منفوشة الشعر عابسة، نظرت الي من طرف عينها...

-هل صحيح يا شولا انك تريدين ان تقتلي العرب؟...

-هم قتلوا أبي...

-من قال لك ذلك؟...

-المعلمة. وقالت انهم يريدون قتلنا كلنا.

-اذا اعطوك رشاشًا وقالوا لك ان تقتليني، هل ستقتلينني يا شولا؟

-لا .. انت يهودي.

-لو قالوا لك اني عربي.

-هذا ما قالته امي، ولكني لم اصدقها.

-هل تحبين امك يا شولا؟

-نعم احبها...

-من تحبين اكثر، امك ام المعلمة؟

-انا احب امي.. و... المعلمة أيضا ..

-اذن لماذا تصدقين المعلمة ولا تصدقين امك؟

-امي لا تريد ان اقتل العرب.

احترت بعض الشيء.. واخذت الام تبكي بمرارة..

-هل تعرفين لماذا تبكي امك؟

-.....

-تبكي لانك تكرهين العرب. يجب ان لا تكرهي احدًا .

-لا استطيع ان احبهم.

-هل تحبينني؟

-بالطبع انا احبك.

-لماذا تحبينني؟

-.......

-امك قالت لك الحقيقة. انا عربي.

-انت....؟!؟

نظرت اليّ وكأنها تقول لي:"قل اي شيء آخر"... قالت الام وهي تجفف دموعها:

-نعم يا شولا انه عربي. يجب ان تقتنعي بما اقوله لك.

امتلأت عيناها بالدموع وهربت لغرفتها. جلست انا وامها صامتين لفترة طويلة... كنا نسمع خلالها شهقات بكاء الطفلة. لم نكن نعرف ان كان بكاؤها حزنًا لاني عربي ام لان عقلها الصغير قد استطاع الكشف عن الواقع الموحش؟...

 

النهر يجري من جديد

 

بعد تلك الامسية اصبحت جلساتي امام النهر اكثر تباعدًا. صرت أمل من الجلوس هنا واشعر ان فكري مليء بأمور اخرى.. حتى الوجوه المنعكسة طولاً وعرضًا على صفحة النهر لم تعد تثير بي أي متعة. اصبحت ارتاح اكثر لوجودي في غرفتي.. فانا قريب لجارتي، اتحدث معها عن شتى المواضيع، وفي السياسية نحتد، كما كنا ايام زوجها، ولكن الاتفاق اصبح اوسع من السابق.

كانت تبحث عني لقتل وحدتها. وكنت اجد لديها نفس الشيء. لم تكن الرغبة الجنسية هي الدافع.. ابدًا. صحيح انها جميلة وانوثتها مكتملة. كانت تحب زوجها بشكل غريب، وحافظت على حبها، وكثيرًا ما تناولنا موضوع هذا الاخلاص بالنقاش. وكنت دائمًا نقيضًا لها. ليس لاقتناعي بموقفي بقدر ما هي رغبة لا اعرف مصدرها لمعاكستها.

واصبح النهر يعكس وجهها على الدوام. انظر للماء في جريانه فأرى وجهها الشاحب الجميل. وتباعدت زياراتي او كادت تنقطع لمدينتي...

اما "شولا" الصغيرة فأصبحت مفكرة.. وكان الحديث عن العرب يشد اهتمامها بشكل غريب. وقد عوقبت عدة مرات لانها عارضت معلمتها فيما تقوله عن العرب، واضطرت امها ان تنقلها لروضة اخرى بعد ان اصطدمت بالمعلمات.

 

حوار

 

-اريد ان اقول لك شيئًا ولكن بشرط ان لا يضايقك؟!

-ابدًا. قل.

-لا تربطني بك علاقة خاصة.. كل ما هنالك صداقة جيران واحترام متبادل؟!

-تمامًا!

-ولكني اتضايق عندما تتحدثين مع غيري!؟

مبتسمة:

-هذا تطور خطير لم اتوقعه.

-لا اريد ان تفهمي كلماتي الا كما هي فقط ، وبدون زوائد.

صمتت وقامت تحضر شايًا، وصلني صوتها من الداخل:

-انا اعرف ان الشرقيين ذوو تفكير حار كمزاجهم الحار.. ولذلك اصارحك باني في الفترة الاولى كنت اخاف ان تحاول الوصول اليّ.. ولكنك لم تفعل.

-لا اريد ان تفهيني خطأ.. انا احترمك جدًأ.

-ولو... الاحترام لا ينفي تبادل الحب!

-اني اصارحك اكثر.. اذا قلت لك اني لا ارغب بك اكون كاذبًا.

-لا ضرورة لقول ذلك! اعرفه....

الحديث الجنسي دائمًا يربكني. يكشفني ويجعلني اقول كل ما لدي دون تغطية. قدمت لي فنجان شاي، ووضعت بعض الكعكات امامي.

-تفضل.

-شكرًا..!

 

أمور يجب ان توضح عن فترة ماضية

 

أنا عازب.

في الخامسة والثلاثين من عمري.

فشلت في حبي الاول.

وصدمت في عربي.

فشلي في الحب جعلني أنسى نفسي لعقد كامل.

جعلني اضيع في متاهات المدن الكبيرة.

حيث دخان المصانع يتساوى مع الناس.

وازداد ضياعي بصدمتي في عربي.

فانتهيت وانا موجود.

وعلى ضفة النهر استقر بي الضياع.

وكانت السنوات تمر.

والماء يجري.

والوجوه تنعكس.

والدنيا تتغير.

وانا كما كنت.

ولا ازال..

اعيش حياتي بلا معني.

واقطع العمر بلا هدف.

النهر يجري لهدف.

هدف واضح محدد.

لا يحيد عنه ابدًا

يجرف في طريقه كل العوائق.

وانا على ضفته جامد.

لا ارى نهاية لحالتي.

ولا ارى بداية لشيء جديد.

اجل.

كان النهر يجري.

والحياة كانت تجري ايضًا.

وبقيت أنا...

**

منذ وقت طويل لم اذهب الى النهر ولا اشعر بشوق اليه . في ايام السبت ارافق "شولا" وامها الى البحر. بعض الجيران يثيرون حولنا الشبهات. ولكن لم نلتفت لذلك. فنحن مقتنعان بسلامة علاقتنا. كانت "شولا" تعاملني كما لو كنت ابًا لها. وقد اطربني شعور الابوة، ولو انه غير أصيل. وفي تلك الفترة بدأت انسى حبي الاول، اصبح ذكرى تبعث على الابتسام . عشر سنوات عشتها في ظل ذلك الحب والآن في اقل من نصف سنة انسى كل شيء. فترة شبابي الاولى فقدتها تحت تأثير صدمتي بحبي . عشتها وحيدًا ضائعًا معقدًا لا اعرف ما اريد من وجودي.

 

حوار

 

-حالنا اصبحت مضحكة.

-هكذا نحن مرتاحون، الا اذا كان هناك ما يضايقك.

-لو كنت اختي، هل كنت اقبل تصرفك هذا؟

-انا في الخامسة والعشرين ولا سلطة لاحد علي...

-ولو...

-المتحرر يتحول الى رجعي. اين نقاشاتك السابقة؟

-عقليًا اقبل ذلك، وعاطفيًا ارفضه.

-نجنا يا ربي من العواطف الشرقية.

-بدأنا بمعالجة شولا، فعالجنا انفسنا.

-كان ذلك من متطلبات العلاج لها، الا اذا ندمت.

-ابدًا، ولكنا لم نتهور...  ليس من طبيعتنا...

-ولكن عواطفنا تحن اليه.

-انت غريب، لا اعهدك تتحدث بهذا الشكل؟.

-الرغبة مجرمة!!

-هل تعني ما تقول؟

-أعنية قولاً فقط، لا فعلاً.

-تعتريني نفس الحالة، ولكني احافظ على حبي لزوجي . لذلك ارتاح معك كثيرًأ. فأنت تقدر ذلك وتحترمه.

-لا تنسى اني عربي لا يؤمن له جانب كما يقول كباركم؟!

-هذا لا يعنيني اطلاقًأ.

-واذا صارحتك باني اتمنى ان يحرر العرب اراضيهم المحتلة!

-لا ارى غضاضة ان ننهزم نحن لينال الآخرون حقهم.

-عشر سنوات حتى سمعت منك هذه الجملة.

-هل تريدني ان افقد شولا ايضًا بسبب ارض لا تربطني بها آية صلة؟.

***

قمت بزيارة الى مدينتي. شعرت نفسي كالسائح. لمحت حبيبتي السابقة ولم اكترث كثيرًا لذلك. كعادتها ستتجاهلني. ولكن هذه المرة تنظر الي ولا تتجاهلني .

 ترى هل ملت من زوجها ؟

 تذكرت قولاً لا اعرف صاحبه وهو ان  المرأة تختار زوجها كما تختار فستانها. ترى الفستان الاول ، وتجرب الفستان الثاني ، وتشتري الفستان الثالث، ويبقى عقلها متعلقًا بالفستان الاول .

لم استطيع البقاء طويلاً. فما هو الا نصف يوم حتى كنت في الطريق خارج المدينة..

 

حوار

 

-متى عدت؟!

-لتوي قد وصلت.

-قلت انك ستقضي يومي العيد مع اهلك؟

-لم استطع البقاء اكثر من نصف يوم!

-هل التقيت بها؟

-رأيتها فقط.. وشعرت انه قد يحدث شيء لو بقيت...

-خيال شرقي!!

-اذن اشتقت لك ولشولا، فعدت!

-فعلت حسنا بعودتك.

 

في تلك الليلة بقيت حتى ساعة متأخرة. جرنا الحديث أو انجررنا اليه ... أفرغنا آخر كأسين من قنينة " الكابرنيه " وكان طعم النبيذ المز المعتق يضفي على ثرثرتنتا جوا شاعريا .. لا أذكر شيئا من ثرثرتنا .. كان  صمت الليل يبعث في جسمي ما يشبه الدغدغة .. وكنت مترددا ومندفعا ، راغبا وخائفا .. ارى الثمرة ناضجة وشهية ولا أجروء على قطفها..

 نامت "شولا" ولم اشعر بالرغبة في الذهاب. وهي ايضًا لم تشعرني بضرورة ذهابي.. كنا نريد ان نتحدث حتى الصبح. وتحت هذه الرغبة الشكلية كانت تستتر رغبة أخرى مشتركة. ولكني توجست من الاقدام .. وقلت لنفسي ان الخمرة اثرت على اعصابي ويجب ان اتماسك. أما هي فكانت قد استعادت كل حيويتها التي فقدتها بعد مصرع زوجها. هذا الايحاء المجنون يخدرني ... أشعر به ؟ أجل . ولكني لا اريد ان أفقد الحلم الذي يراودني ...

 

حوارية مشوشة بالخواطر

 

-تشرب شايًا أم قهوة؟

-قهوة بالهيل.

-حسنا.

صمت مشبع بالتخدير.

-ما الساعة؟

-الواحدة صباحًا.

-ارجو ان لا اكون قد ضايقتك؟

-ما كنت اعرف كيف سأقضي هذا اليوم.. لولا عودتك.

-اشكرك.

رشفات صامتة من فنجاني القهوة.

-لماذا تصمت؟

-تحدثنا عن كل شيء ... وأشعر اننا لم نتحدث عن شيء ..

وقلت لنفسي: دعوة جرئية للاقدام.. وقلت:

-شكرًا على القهوة. آن لي ان أذهب؟!

-اذا اردت البقاء بأستطاعتك ان تبقى. انت لا تضايقني. وغدًا هو السبت، نستطيع ان ننام حتى ساعة متأخرة.

 تثلجت أطرافي واعتراني اخدرار .. شعرت اني لا الامس الأرض  بقدمي ..

قلت لنفسي: قالت نستطيع ان ننام وتستطيع ان تبقى. ارتبط البقاء بالنوم او النوم بالبقاء. هل هي الخمرة أم الرغبة الصادقة الطبيعية في كل امرأة .. وكل رجل ؟

-لا أملُ في الجلوس معك. ولكن الجيران تتطلع.

-سأطفىء الضوء وأبقى ضوءا خافتا. صمت موحش، وضوء خافت.. وجو تسمع فيه الانفاس.

-ستبقي أليس كذلك؟ هل استطيع ان أقفل باب البيت؟!

بقيت صامتًا أعالج رغبتي كي لا اندفع كالثور .

اقفلت بالمفتاح دون ان تسمع موافقتي، كأنها تعلم الجواب مسبقًا.

 الان بات واضحًا انه لا مجال للتردد.

كم هي ثقيلة هذه اللحظات .. وكم هي جميلة وباقية في البال .

 

**

كل بضعة اسابيع كنت أحن لزيارة النهر. فأخرج برفقتها ونجلس ووجهانا منعكسان على صفحته. كنا قد اتفقنا ان تكون علاقتنا ملك ارادتنا حتى لا نواجه صعوبات ما. وقد رضيت بذلك لعدم رغبتي في الزواج، وعدم اقتناعي بالزواج المختلط خاصة.. قلت في نفسي انها جميلة وأنثى كاملة.. ولكني عربي ومتمسك بعروبتي. وقد بدأت استعيد بعض الوعي أثر الصدمة الوطنية قبل أكثر من خمس سنوات. وزواجي منها غريب على نفسي اذ سيشعرني ذلك – رغم انسانيتها – بأني تابع. نحن هزمنا وهم انتصروا. صحيح ان بعض النصر شر من هزيمة.. ولكن اسمه يبقى انتصارًا. والقانون يضعها فوقي ويضعني بالدرجة الثانية، فكيف اتزوج من امرأة كل مراكز القوة مضمونة لها اذا ارادتها؟...

 

التحول

 

منذ اسبوع والمعارك لا تتوقف. كنت أضمها بحب والحزن والخوف الشديد يعتريانها. احيانًا أصيح بها:"احبك".. احملها بطاقة وقوة غريبتين، كانت تفهم حقيقة مشاعري ولم أخفها. وكثيرًا ما قلت قبل انفجار الحرب بأن عناد أسرائيل سيفقدها كل ما كسبته بغفلة من الدهر.. لقد اقتنعت في لحظة أننا أكثرية ولسنا أقلية في هذا المشرق.

 

حوار

 

-ان القادة يجب أن يدفعوا ثمن هذه الغلطة.

-ذلك لا يرد الاموات الى الحياة.

-على الاقل ليعترفوا بخطاهم!

-هناك أخطاء ممنوع على من كان في مركز قيادة أرتكابها، خاصة اذا كان الخطأ مميتًا.

-والحل..؟؟؟!

ابتعدت عنها ووقفت اتأمل المدينة الغارقة بالظلام.

 

الصعود في عرس تشرين

 

تعالوا من أطراف الأرض الاربعة

من الصحراء والبحار

من الجبال والوديان

تعالوا مع خفقات الحب الاولى

المرتعشة في قلب عذراء

تعالوا مع دمعة فرح تسقط كالبلور

من وجنة امراة

لتوها قد صارت أمًا

تعالوا مع نسيم ليلة صيفية

ومع رياح البرد القارص

تعالوا حينما تسطع الشمس

وحينما يضيء القمر

تعالوا في الليل وفي النهار

حفاة عراة... تعالوا..

واستحضروا على معدات الهدم

ومعدات البناء

فنحن على موعد

مع الصعود الخالد

الى اعلى...

حيث نخضع لمشيئتنا

حركة هذا العالم!!

 

حوار

 

-المعارك انتهت، واشعر اني كالمهاجر العائد الى وطنه. غدًا سأسافر

-هل ستتأخر هناك؟

-هذه المرة أنا عائد عودة حقيقة.

-هل تنوي الاستقرار هناك اذن؟

-لم أعد احتمل البقاء بعيدا.

-اني أفهم مشاعرك. ويؤسفني بعدك عني.

-الواجب يحتم علي ان اقترح عليك الزواج؟

-الواجب..؟!!؟

-كنت دائما صريحًا معك. ولن اقول غير ما اعتقده.

-علاقتك بي كانت مجرد واجب؟!

-لا تفهميني خطأ. علاقتنا هي حب حقيقي، ولا تخلطي الحب بالزواج.

-أذا لم يؤد الحب الى زواج فلا معنى له.

-ألا ترين معي أن زواجنا معناه مشاكل لنا ولشولا وربما لاولادنا، أذا رزقنا بأولاد؟

-انت تدعي الثورية...

-الثورية ليست ان أضرب رأسي بالحيطان، عندها سأفقد رأسي، الحل هو أن أشغل رأسي في البحث عن شكل أهد به الحيطان دون ان افقد شيئًا.

-اتركني من الفلسفة الان، ان علاقتي بك هي الشيء الوحيد الباقي لي في هذه الدنيا.

-العلاقة ليست خطأ. كانت منفعة متبادلة لكلينا.

-وانتهت؟

-أنا لا أفكر بهذا الشكل.

-ليس من السهل ايجاد صديق مثلك.

-عودتي الى اهلي لا تعني نهاية ما بيننا من صداقة. أنا اقترحت عليك الزواج، لان واجبي يحتم علي ذلك.

-اقترحت وانت تعرف اجابتي مسبقًا، بل انك قلتها.

-لذلك اقول الواجب، واذا اردت سببًا آخر فهو الحب. ولكن في مثل حالتنا الواجب هو العامل الاول.

-العاطفة الشرقية تتحول الى عقل؟

ارتمت فوق صدري. فضممتها بقوة. قالت من بين دموعها.

-كنت انتظر يومًا كهذا. ولكني لن اندم أبدًا على علاقتي بك. كنت اعرف انك تستعيد ذاتك.. وأردت لك ذلك بكل أحاسيسي. ولكن الانسان يصعب عليه التنازل عن شيء اعتاده وأحبه، خاصة اذا كان هذا الشيء علاقته بانسان آخر..

كانت الشمس تغيب، وكان الغبش الاحمر يملأ الأفق...

 

الختام

 

قلت لنفسي: سبحان مغير الأحوال.. قبل اكثر من عقد صدمت بحبيبة لوعني حبها فلم أر الدنيا الا عبر آلامي. وصدمت بعدها بعروبتي فانغلقت كل الدنيا بوجهي وتهت. واليوم، وعندما استعيد ثقتي واعتزازي بعروبتي، اترك حبيبة ببساطة لان المنطق يقنعني بعدم جدوى العيش معها، فهل استطيع اليوم ان أتذكر حالتي الماضية، تائهًا.. خائفًا.. غير مستقر، دون ان يثير ذلك ضحكي؟

(من الدفتر القديم  – كتبت بعد حرب "رمضان والغفران" في اكتوبر 1973 – والذي كثرت بعده " انتصاراتنا " !!)

أضيفت في 19/05/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

المفارقة…

 

تجمدت عقارب الساعة واستطال ذهوله لوقت من الصعب تعريفه وتحديده بمعايير الزمن المتداولة .

تاه في رحلة بلا معالم .

بحث عن صوته ليطلق صرخة ذهول.. فتلاشى الصوت .

كان الالم يعيث فيه تمزيقا . يبعثر اشلاءه. لم يصب بأذى ويا ليته اصيب . كان ذهوله وحشيا . تداخلت افكاره عليه . فقد القدرة على الفهم . اختلط المكان عليه ففقد الدلائل لتحديد مكان تواجده . تناثر الزمن . . فاختلط عليه الوقت. كان يرى ولا يرى . يعرف ولا يعرف . ينزف دما ولا ينزف. يمزقه الالم ولا يمزقه . يصرخ ولا يصرخ. الصراخ محبوس في صدره . ثلاشى امام ذهوله .احس بضياعه .. ضياع يتكثف . . خانق ، مؤذ، كئيب. قد تفيده الصرخة في تحديد مكانه ، في العودة الى عالم معروف والى زمن معلوم والى رؤية محددة .

ركض مرتعبا نحوه .. شنطته متدلية من كتفه .. وصوته ينطلق مرعوبا :

-بابا…

بابا ممتدة طويلة نصبت شعر جسمه بقشعريرة وايقظت كل حواسه . حتى تلك اللحظة كان كل كل شيء واضحا.. وبزمن من الصعب تعريفه انتهى احساسه بما حوله . صرخ مستغيثا ، صرخ بقوة لم يعهدها في نفسه . ركض نحوه بهمة ظنها تلاشت مع تلاشي الشباب.اشتدت عضلاته ، وتيقظت كل حواسه ... للحظات فقط.. بعدها تمزق في ضياعه . تاه في رحلته.

رحلة غامضة .. فقد صوته .. لم يعد يشعر بذاته .. تتفكك اطرافه .. لا شيء يجمعها .. لا شيء يربطها .. لا شيء يحركها .. تسمر في مكانه باحثا عن اطرافه . لا يشعر بيديه . لا يشعر بقدميه . لا يشعر برأسه  بين كتفيه . لا يجد صوته . لا يجد يقينه . لا يستوعب رؤيته . جسده يفقد ترابطه . يتفكك . ركبتاه تفشلان في استمرار حمله . لم تعد له قدمان ، لا يحس بقدميه . . تلاشتا ... وتهاوى فوق الارض الترابية . لم يحس بألم  ركبتيه . . لم يحس بأي الم يعتريه . كان ألمه غريبا . يتدفق من داخله .. يتفجر بدفعات ... والدم يتدفق .. حارا .. والنظرات المرعوبة تتعلق به بلا حراك .. ربما فيهما رجاء، رجاء صامت .

-بابا..

صرخة مرعوبة ممتدة تطرق طبلتي اذنيه  ، وتترك صدى لا ينتهي . احساسه العارم بالعجز المطلق يزيده ذهولا وألما . . ذهول ممتد وألم متدفق.. طاغ ، صرخة مرعوبة ممتدة تمزق طبلتي اذنيه . وصراخه يتراكم في صدره.. لا يجد منفذا له ، صراخ اخرس ، يكاد يخنقه صراخه المحبوس . .. ولم يجد بدا من احتضان الجسد الصغير .. احتضنه بأمل ان يجد فيه بقايا حياة . خضب الدم يديه وثيابه.. دم حار. والصرخة المدوية تواصل طنينها .

صرخة مرعوبة ممتدة .. " بابا " كان الدم دمه والالم المه . . والجسد المتراخي جسده ، والعينان الجاحظتان عينيه. مد يده يلامس الجبين الذي تدفق العرق منه قبل لحظات . اصطبغ العرق بالدم . كان يجري مرعوبا صارخا للاحتماء به ، فاجبرته طلقة على افتراش الارض...  منهارا مذهولا امامه . كاد يحتضنه وهو يتدفق حياة .. وها هو يحتضنه ودمه ينزف قطراته الاخيرة.

كل شيء تغير بلحظات ، كل شيء اختلف بلحظات  . لم يستوعب ما جرى .. وعجز عن التفكير.

تغيرت المشاعر والافكار ، انعدمت ، تلاشت ، وغيرت مضمونها .. احتلته احاسيس اخرى ، احاسيس مجهوله لم يدر كنهها . اعترته رؤية غير التي يمارسها منذ  نصف قرن . حاسة سمع غير التي اعتاد عليها كل عمره . ألم لم يعرفه من قبل .. حتى حاسة اللمس تفقد مميزاتها القديمة .

الدم الحار المتدفق لا ينتهي . ربما خياله يوحي له ذلك . . والصرخة في صدره تتضخم ولا تجد مخرجا. . تكاد تخنقه .. والدم يخضب يديه والارض  ، والجسد يتراخى بين يديه ، وصرخته المرعوبة الممتدة " بابا " تدوي بتواصل لا يتوقف .. وفي عينيه الجاحظتين رجاء .. وهو عاجز امام الرجاء  .

لم يشعر بالجلبة التي حوله ، لم يسمع صراخ القهر المدوي .. وغرق بالمه وذهوله وعجزه المرعب . ذهوله تجاوز  المه .. تجاوز قهره ..  تجاوز صراخه ." بابا" تدوي باذنيه. كان بينه وبين احتضانه لحظة . قطعتها طلقة .. بعد الطلقة حل الذهول .. ولم يحتضن الجسد المنطلق ، احتضن صرخته المدوية " بابا " .

الطلقة اوقفته على بعد خطوة منه .. وتلوث الجبين الفتي بالدم الحار المتدفق بغزارة . . واحتضن الارض تحت قدميه .. واحتضنه الذهول .. وبقي الرجاء في عيني الصغير .

اراد من نفسه اشياء كثيرة .. في تلك اللحظة لم يفهمها . كان في زمان محدد ومكان معرف .. ولكنه خارج ذاته . كان منفصلا عن حواسه ، حيا وميتا ، موجودا وغير موجود . قريبا وبعيدا . يمسح العرق عن جبين الصغير فيتدفق الدم . الدم الاحمر القاني . دم لا يتوقف . يملأ يديه . يروي الارض الشرهة بغزارة .تصطبغ ولا ترتوي. وصرخات الالم حوله تعلو .. وهو بعيد . . ربما لا يسمع ؟ ربما هو المقتول ؟ الدماء المتدفقة دماؤه ؟ كان خارج نفسه . خارج وعيه .خارج مكان تواجده .. وخارج الزمان المعروف . خارج حواسه ومشاعره . وفي اذنيه دوي لا يتوقف .. يمتد مرعوبا .. مدويا  " بابا " ، وهو لا ينجح ان يجمع نفسه ... فيتهاوى .

للحظات تداخل الحدث في ذهنه بشكل غير منظم . ربما بقي وعيه . ترسبات ذهنية من قبل الذهول .

حين دوت الصرخة اهتز جسده بفزع . . وبشكل خاطف انطلق للخارج باتجاه الصرخة . لم تكن ضرورة ليفكر بما يحدث . كل شيء كان واضحا بالصرخة .

كان يراه شابا يافعا وعروسه ترفل بالبدلة البيضاء وسط غابة من الزهور ، والسعادة تملؤه. تلك امنية عمره . رزق به بعد عام كامل من المعاناة ولم يرزق بغيره  . وكان يرى حفيده . كان يحلم ان يكون له حفيد ، يحمل نفس اسمه ، يتجدد به . يحقق ما لم يحققه هو . ومن كثرة ما تاه بحلمه صار يشعر باصابع الحفيد الصغير تلاطف وجنتيه . . تشد شعره . ولكن الصرخة نقلته من حلمه الجميل الى واقعه التعيس .من شطحته الذهنية الممتعة الى حاضره المذهل اللعين .

" بابا" تدوي ممتدة مرعوبة في اذنيه ...  تختصر احلاما وامنيات واسعة رحبة . حين ركض نحوه فهم كل شيء باجزاء من اللحظة . حاول ان يوقف الطلقة بكفه الملوحة للجندي . . او ان يقنع الجندي بتوجيهها نحوه ، بدل الصغير المرعوب . ولكن القرار كان جاهزا .. ونفذ بلا تردد.

 

تأمل لثوان سحنة الجندي الباردة ، ولمح ظل ابتسامة . حقا سحناتهم متشابهة .. ورصاصهم متشابه ، اما تلك السحنة لذلك الجندي مع ظل ابتسامة ، بوجهه الطفولي الاجرد من الشعر ، وبعينيه الزرقاوتين الباردتين ، فترسبت في ذهنه .

كان فيها شيء مألوف لم يستوعبه في ذهوله . لامر ما كانت السحنة تضغط للتجلي .. للبروز .. ولكن الصرخة المدوية الممتدة " بابا " افقدته القدرة على اي حس او تفكير او مراجعة ذهنية . افقدته تفكيره وذاكرته . افقدته احساسه بالزمان . افقدته احساسه بالمكان . افقدته معرفة ذاته . ومع ذلك ضغطت سحنة الجندي ذهنه ... ذهنه الخالي الا من ذهوله والمه وصراخه المحبوس .. سحنة لن ينساعا . لامر لا يفهمه تشده سحنة الجندي نحو حدث لم يتضح  له بعد . ولكن ذهوله امام الدم المتدفق والصرخة الخرساء والعينين الباردتين المذهولتين ، والارض المخضبة بالدم ..  ابعده عن كل ما يوثق عراه مع عالمه . والرجاء يطل من العينين الجاحظتين . صرخاته المحبوسه في صدره تؤلمه . لم يعد يقوى على لملمة نفسه .. يتفكك . جمع نفسه ، او ربما لم يجمع .. وأخذ الجسد الصغير الدافئ بين يديه . ضغطه الى صدره عله يوقف تدفق الدم . شدته حواسه بين الحار والبارد . ولم يدر ما هو فيه . كانت السحنة ذات الوجه الطفولي الاجرد تضغط في مكان ما في ذهنه . . وتتراوح الصور والافكار بين المعتم والمضيء، بين الواضح والمجهول ، بين اليقين والوهم ، بين الوعي واللا وعي ، والصرخة تدوي ...والدم يتدفق .. وهو يتفكك .. يتحلل ، يفقد توازنه ، يفقد ذاته ، والسحنة تعمق قهره ، وذهوله يشتد ... و"بابا " صارخة قوية مرعوبة... اراد ان يصرخ ، ان يحتج .. ان يخترق صمته وذاته  ..., فلم يجد بدا من الانهيار فوق الجسد الصغير .. وفي ذهنه شاب يافع عروسه ترفل بثوبها الابيض الى جانبه وسط الزهور .. مئات الزهور...

 

********

 

اقيمت خيمة التعازي في عصر اليوم نفسه . جلس صامتا وصرخة الفزع المدوية " بابا " ترن في اذنيه ، تتفجر داخل اذنيه ، وتكاد تجعله اصم عن سماع  آية كلمة تعزية .. بل يكاد لا يعي احدا من المعزين .عجز ذهنه عن استيعاب الوجوه المعروفة. كان حاضرا وغائبا .. قريبا وبعيدا .. ذهنه يراوح بين التشتت واليقين .. بين الوهم والواقع ... وتلك الصورة المشؤومة للجندي ذي الوجه الطفولي الاجرد، مصوبا بندقيته ، ومطلقا رصاصته القاتلة بلا تردد ، تمزق هدؤ نفسه . تقف حائلا بينه وبين عودته لذاته . . تشده بعيدا بعيدا عما هو به . خيل له للحظات ان ما يعتريه ليس حزنا على فقدان حلمه ، بل ندما على تصرف لن ينساه ولن يسامح نفسه بسببه ابدا . ربما بسببه يتواصل صراخ الفزع الممتد " بابا " مدويا في اذنيه ، حتى يكاد يعزله عن كل ما يحيط به .. فلا يسمع الا صرخة الصغير المرعوبة، ولا يرى الا الدم المتدفق من الجبين الفتي ، وانهياره فوق الجسد الصغير ..

كان منفيا عن ذاته غائبا عما حوله . وصورة الوجه الطفولي الاجرد ، بالعينين الزرقاوتين الباردتين ، والبندقية المصوبة ، ودوي الطلقة ، يكثف قهره ويضاعف  قيظ نفسه ... والرجاء في العينين الصغيرتين يعمق قهره وعجزه ...

لوهلة اتضحت الملامح واتضحت الصورة . لا بل كان كل شيء واضحا من اللحظة الاولى ، حتى من اللحظة التي سبقت الطلقة . ربما هذا ما ضاعف ذهوله وفجر المه بكثافة لم يعهدها . ربما " بابا " ليس نداء استغاثة من مرعوب فقط ..انما توبيخ على حماقة لم تكن ضرورية .هل بتصرفه ذاك ارتكب خطيئة يدفع ثمنها اليوم ؟! .. ليكون هو قاتل ابنه بيديه ؟!

تندفع الدموع لعينيه ، يشعر بها لكنها لا تشفي غله . محبوسة مع صرخاته ، محبوسة مع المه ، محبوسة مع تفجر نفسه بالقهر ، تتهدم ذاته وتعذبه افكاره المشتتة ، وملامح تلك السحنة من وراء البندقية لا تفارقه... والاحساس بحرارة الدم لا  يفارقه.. والجسد المرتخي بين يديه يكاد لا يغادره ، وهو بعيد عن نفسه ، لا يرى الاالجبين المثقوب ، والوجه الطفولي الاجرد من وراء البندقية .. وهو بين اليقين والشتات .الصرخات المرعوبة لا تغادر سمعه ... يتواصل دويها .يصدق ولا يصدق .. ويرى صغيره يركض نحوه .. يراه شابا يافعا يسير مع عروسه والزهور تحيط بهما .. ويرى الوجه الطفولي الاجرد من وراء البندقية ، يتضخم ليحتل كل شاشات دماغه ..

في ظهر يوم قائظ التقى تلك السحنة الطفولية الجرداء . لم يكن ذلك منذ وقت طويل ، منذ اسبوعين في خضم الاحداث الاخيرة .. وها هو اليوم يدفع الثمن .الصرخات المرعوبة " بابا " تتفجر في اذنيه ، توبخه ، تصيح به ، تتهمه ، تؤلمه وتزيد قهره ... ويطل من عينيه رجاء لا يستطع تلبيته .

كان بعض الشباب الهائجين  يحيطون بسيارة عسكرية حاولت ملاحقة بعض الفتيان ، واستطاعوا ان يوقعوا بها ، ويشعلوا فيها النار . ومن البعيد لمح ظل جنديين . ايقن ان النيران ستأتي عليهما ان لم يخرجهما من السيارة . ولأمر لا يدريه نسي كل حقده والمه لما يجري . قال لنفسه انهما لا يختلفان عن صغيره .. لهما احلامهما وقلوب تبكي خوفا عليهما . ربما لو سمع عن حادث بعيد عنه لما اهتز .. ولكنه لم يحتمل ان يحرقا امامه . شعر ان الذي يحترق قد يكون ابنه الوحيد واحلامه. فاندفع كالمجنون تحت حجارة الشباب ، ورغم الحروق الخفيفة التي اصابته واصابت الجنديان ، استطاع ان يخرجهما من السيارة المحترقة ويمنع الشباب من تنفيذ غضبهم ونقمتهم .. ربما شتموه .. ولكنه شعر بكبرياء وراحة . شعر انه انسان .. يعطي الحياة ويعطي الأمل ، ليس للعسكريين ، انما للانسانين المرعوبين داخل البزات العسكرية . وايقن ان رعبهما لا يختلف عن رعبنا ، وكرههم للموت لا يختلف عن كرهنا .. هذا ما اعلنه مرارا متفاخرا بانقاذه لعدوين مرعوبين ... " سننتصر بانسانيتنا " كان يصر رغم سخرية الكثيرين منه . وحين كان ينظر لابنه ، ويتأمل احلامه ، يعرف انه تصرف التصرف الصحيح ، وقد شده وجه احد الجنديين الطفولي الاجرد بعينيه الزرقاوتين . كان مرعوبا وفاقدا لتوازنه فاحتمى به .. حماه بجسده .. ورافقهما حتى الحاجز . لاول مرة يشعر بالشفقة على عدو له .. شعر بانسانيته تتجاوز ذاته وتمتد . كان سعيدا لقراره المباغت بانقاذ الجنديين ، ولن ينسى الوجه الطفولي الاجرد المرعوب ... ولكنه اليوم لم يكن مرعوبا .. كان ينظر ببرود من وراء بندقيته .. وابتسامة تعلو شفتيه وهو يطلق رصاصة على الصغير المرعوب الراكض للاحتماء به . وتبعثرت افكاره مرة اخرى .. تبعثرت راحة نفسه التي عاد بعضها اليه .. وعلى حين غرة انفجرت صرخته .. وانطلقت دموعه .. بحر من الدموع والقهر والالم... ليس لفقدانه صغيره فقط .. الذي كان صوته يدوي حادا مرعوبا كل الوقت ، ومؤنبا غاضبا  " بابا " ... ولكن ، ربما لانه كان انسانا ... ؟! لا يدري ما يؤلمه اكثر .. كان المه مضاعفا . وكان لا بد له ان يصرخ .

 

 

 

الشيطان الذي في نفسي

  

أمسك سماعة التلفون بشيء من التردد . نظر الي نظرة فيها ضيق . . ربما لوجودي في مكان يضايقه؟ تردد لحظات مراوحا بنظراته بين قرص التلفون وبيني. كنت مطمئنا لجلستي وراء المنضدة في مكتبي المكيف الهواء والمريح . لم اكن انوي التحرك من مكاني .. نظرت اليه وحثثته على الاسراع بحركة من يدي .. دون ان انبس ببنت شفة . كان وجهه المليء ، بذقنه التي لم تحلق منذ ايام ، يخفي بعض اضطراب نفسه وقلقه .. نظرة خاطفة لعينيه اظهرت لي تردده، ارتباكه ، وربما رهبته من شيء ما ؟ هل هو عاشق ؟ هل هناك امر آخر لا يريد ان يطلع عليه أحد ؟ لم اقف كثيرا امام ما تردد في ذهني من خواطر وأسئلة. التلفون يستعمله العشرات ، ولم يكن وجودي في مكتبي سببا لتردد احدهم في استعماله . واصلت التلهي بأمور عملي ، متناسيا اياه او متظاهرا بالنسيان .

حسم تردده بحركات عصبية ، ضاغطا ازرار الارقام التي تطلق صفيرا خافتا فيه شيء من الموسيقى.

انطلق صوته متمتما يحمل في نبراته قلقه الداخلي من أمر اجهله . غرق بذاته منصتا للرنين من الطرف الآخر . نظرت اليه خطفا وقد بدأ حب الاستطلاع يتملكني .. مدفوعا بهوايتي المجنونة اياها ، بالنظر الى الوجوه وتعابيرها ، وتغذية ذاكرتي بما هب ودب من التفاصيل الغريبة ...

اعترتني رغبة بترك ما بيدي والالتفات اليه ، للتشبع جيدا من حركاته وتعابيره . زجرت رغبتي  ، وواصلت محاولة تجاهله ، بينما احاسيسي تسجل ما يبدر عنه . لا ادري ما الذي جعلني مستثارا لهذه الدرجة . ربما ما يمر بي هو جزء من عملية الابداع ؟ .. البحث عن وجوه جديدة لقصص جديدة ؟ كشف عالم جديد ؟ .. او عادة سيئة بدأت تأخذ مكانها في نفسي ؟!

انتظر بعض الشيء حتى جاءه الجواب من الطرف الآخر . تغير وجهه بسرعة ، وازداد اطراقا وتلعثما في الحديث ، واسرع يقول ، بعد ان بذل جهدا لا بأس به ، وبارتعاش واضح :

-نمرة غلط .. آسف ..

واعاد سماعة التلفون .. واتكأ مجهدا على طرف المنضدة ، محتارا ظاهر الارتباك ، ثم كرر لنفسه ، كأنه يحاول ان يقنع ذلك الذي رد عبر التلفون :

-نمرة غلط  !!

وتحرك بتثاقل ، وعدم رغبة واضحة ، خارجا من الغرفة ..

حاولت العودة لما كان في يدي من عمل ، الا ان نفسي لم تطاوعني، عالجت في ذهني الحالة التي المت بزميلي ، وتوقعت ان يكون وراءها أمر فيه عناصر تصلح لابداع قصة جديدة . هذه النبوءة المجنونة حين تمسني ، تجعلني اتغير . لا اعود انا هو انا نفسي . اسندت ظهري على المقعد ، ونظرت نحو التلفون الصامت .لا بد من وجود حكاية وراء ما مرامامي  . اعدت في ذهني تمثيل ما كان ، منذ لحظة دخول زميلي ، حتى خروجه بالحالة التي خرج بها .. مترددا مرتبكا ، غامضا ، وتأكيده المضحك  ، بعد ان اغلق السماعة ، ان النمرة غلط .

لماذا لم يحاول ان يتصل مع النمرة الصحيحة ؟ ولماذا كل هذا الارتباك والتردد .. بل وبعض الخوف ؟!

ولأمر لا افهمه في نفسي ، ولن افهمه كما يبدو ، التقطت سماعة التلفون ،وبواسطة الضغط على زر الذاكرة ، كرر التلفون الاتصال مع نفس النمرة ، التي سبق لزميلي ان اتصل بها .

جاءني صوت رجل من الطرف الآخر . لم اكن ادري ما انوي فعله ، . ولم اكن قد رسمت في ذهني صورة تقريبية عما يمكن ان اسأل عنه .

اول فكرة راودتني ان زميلي عاشق ، وانه بسبب صاحب الصوت ، ادعى ان النمرة غلط . خرجت من ترددي على تكرار الصوت من الطرف الآخر مستفسرا عما اريده .

جمعت نفسي او شيطنتي وقلت :

-نتكلم من شركة التلفونات .. هل طلبتم تغيير رقم تلفونكم ؟

فوجئ محدثي بما أسأل عنه ، واحتار كما يبدو ، اذ سمعت تلعثمه .. ثم اجاب بوضوح :

-أبدا .. لا ادري شيئا عن الموضوع .

-آسف .. سأفحص .. مع من نتكلم ؟

-بيت المحامي رامي الحيفاوي .

-شكرا ، آسف على الازعاج .

اعترتني ضحكة صامتة ، شاعرا اني اضع يدي على طرف خيط يقودني الى اكتشاف ممتع .ترددت منتقدا تطفلي على خصوصيات زميل . هززت كتفي محاولا ابعاد التردد من نفسي ، مؤججا في الوقت نفسه اندفاعي لمعرفة ما خفا عني ، معللا تمسكي بكشف ما خفى ، بطبيعتي التي لا تهدف الايذاء ، وانما محاولة اسداء المساعدة اذا امكن ، وسألت نفسي : " كيف يجوز ان أحشر نفسي لتقديم معونة لم تطلب مني أصلا ؟ " نفضت السؤال وبعثرت كلماته .. وقلت لنفسي انه لولا وجود هذه الميزة الحشرية عند لفيف من الناس لما وجد الأدب والأدباء اصلا .

كل مشاعري متيقظة لالتقاط موضوع ذي شأن ، لا ادري كنهه ، ولو اني بدأت بوضع تقديراتي الاولية عنه . لو أجابه من الطرف الآخر صوت آخر ، صوت انثى مثلا ، هل كان يسارع للقول ان النمرة غلط ؟ هذا لوحده يمدني بمادة لوضع عشرات الاحتمالات .

شعرت بأن عناصر التردد والاعتراض ستبدأ بالفوران في داخلي .. فنفضت نفسي ، وانتصبت واقفا مصمما على حل المعضلة التي تكونت امامي .

استعرضت في ذهني بعض ما كان ، التردد والآرتباك اللذان اعتريا زميلي . النمرة غلط ، عدم الاتصال بالنمرة الصح .. تأكيده لنفسه ان النمرة غلط .. كأنه يحاول ان يقنع الذي في الطرف الآخر من الخط .. تضايقه الواضح .. لهجته المتلعثمة  ، وخروجه  كالمهزوم من معركة . في الطرف الآخر المحامي رامي الحيفاوي .. هل هو من حيفا ؟ ام ان الاصل غلب على الاسم ؟

راودتني فكرة ، فلم اتردد . جلست ورفعت سماعة التلفون ، واتصلت بصديق لي ، محام :

-استاذ عادل ؟ .. سلامات ..

عرفني من صوتي . رحب وأطنب واستحثني على زيارته .. و.. قاطعته :

-اريد ان استفسر عن موضوع صغير ..

-تفضل .

-المحامي رامي الحيفاوي ، تعرفه .. ؟

-بالطبع .. زميلي وصديقي ، درسنا سوية ، وكانت لنا غرفة مشتركة بالايجار ..

-هل هو من حيفا ؟

-أجل ، مكتبه في " الهدار " .. هل تريد منه شيئا ؟

-أبدا .. لا شيء خاص .. ولكن زميل لي وكله بقضية تأمين . قل لي هل هو متزوج ؟

سؤالي كما يبدو فاجأه . شعرت بأنه يفكر بهذا السؤال . . الذي لا صلة له بموضوع توكيل محام .. ولكنه اجابني مترددا ، غير فاهم ما ارمي اليه ، وهذا جعله ، كما يبدو .. يمدني بكل ما يعرفه عن زميله الحيفاوي ، منتظرا تفسيري :

-متزوج  وأب لطفلتين ، على حد علمي .. وزوجته اسمها لولو كما أذكر ، معلمة في مدرسة ابتدائية، ولكن ..

-سأشرح لك كل شيء فيما بعد .. لدي سؤال غريب آخر ، هل هي جميلة ؟  اعني هل رأيتها مرة ؟

-كثيرا .. تصلح لان تكون عارضة ازياء .. ولكني لم افهمك بعد ..

كدت اصفر من المفاجأة ..واعترتني رهبة عابرة ، شاعرا اني ارتكب حماقة لا معنى لها .

ما دخلي انا في قضايا الناس ؟

شكرت صديقي عادل ووعدته ان ازوره قريبا واوضح له كل شيء . ولعله الآن يقرأ قصتي هذه ، ويهز رأسه ، ولكني اثق انه سيحفظ السر ، الذي انا في سبيلي الى كشفه .

اعدت سماعة التلفون شاعرا ببعض الكآبة الخفيفة ، التي سببها موقفي الغريب ، في ملاحقة خصوصيات الناس ، ولكني كنت متأكدا اني بدأت .. ولن اقف ، خاصة بعد ما حصلت عليه من معلومات ، قوت يقيني  فيما ذهبت اليه من تقديرات وتأويلات .

أرسلت في طلب زميلي ، فجاءني تسبقه عيناه القلقتان ، بوجهه غير المحلوق منذ ايام. كان هادئا بعض الشيء ، مطمئنا ان سره في أمان  واستقرار ، دعوته للجلوس وانا انبش في اوراقي على المكتب .. كمن يبحث عن شيء مهم ، وقلت له بلهجة تحكمت بها بحيث لا يعتريه ادنى شك على صدق ما اقوله ، معتمدا بالوقت نفسه عنصر المفاجأة الذي يبقيه غير واثق من نفسه وموقفه ، ولو كان كل المنطق الى جانبه . قلت :

-اتصل المحامي رامي الحيفاوي ، يسأل من اتصل به ، قلت له ان عاملا عندنا اتصل بالخطأ ، اصر ان يعرف الاسم ، فأخبرته بأسمك ..

فوجئ بالاسم الذي ذكرته، وبان الارتباك والخوف الشديد في ملامح وجهه ، وبدون تفكير قال بصوت مذهول :

-لماذا اخبرته بأسمي ؟ قل له نمرة غلط وكفى ..؟!

-لماذا ارتعبت ؟

-لا .. لا شيء ..

-ضغط على جبينه بقبضة يده اليمنى واطرق مليا ، وتمتم لنفسه بكلمات لم يصلني منها الا بعض الأحرف ..

-كان يجب ان لا تخبره باسمي .

اشفقت عليه من حالة الذهول ، ولكني قررت الاستمرار في اللعبة . قال فجأة كمن اكتشف شيئا :

-كيف عرف نمرة التلفون ؟

أجبت بهدوء وبلا اهتمام ظاهر :

-لا ادري ، اتصل به واسأله ؟

وأخذت سماعة التلفون ومددتها نحوه ، فانتفض :

-لا ، ولا بأي شكل .

لوح بيده بسخط ، والذهول يشع من عينيه .

قال محاولا ان يخفف عن نفسه :

-مصيبة .. ربما تكون قد ورطني ؟!! وربما تكون صدفة غير مفهومة ؟!

-لم تكن تتوقعه حين تلفنت ؟

-.....

-هل اردت الحديث مع لولو ؟

حدق بي طويلا وهو مصعوق من ذكري لهذا الاسم .. وانا اواصل التظاهر اني غارق في اوراقي وفي عملي ، بينما عقلي متيقظ لالتقاط كل حركاته وتعابيره .

شتمني مبتسما ابتسامة بلهاء .. متيقنا ان في الامر لعبة .. اذ لا يعقل ان اعرف كل هذه المعلومات من مجرد اتصاله بنمرة غلط ، او بنمرة صح ، فهو لم ينبس امامي ببنت شفة ، لم ينفس عن حرف فيما يخصه ، نعمل سوية منذ ثلاث سنوات ، لم يحدث احدنا الآخر حول  خصوصياته ، فكيف اباغته الآن في صميم اسراره ؟

-اسمع .. لم اعد احتمل .. صارحني اصارحك ؟!

ابتسمت زاجرا ضحكة مجنونة في صدري :

-اتفقنا .. ولكن لا ترجع بوعدك ؟

اطمأنت نفسه قليلا ، وارتخت عضلات وجهه المشدودة من التوتر . قال وهو يأخذ نفسا طويلا  ، مخرجا علبة سجائره من جيب القميص :

-وعدتك .. على ان يبقى  سرا بيننا ؟

اشعلنا سيجارتين ، وبين حلقات الدخان حدثته كيف توصلت للمعلومات التي فاجأته بها. ابتسم مطلقا ضحكات صاخبة ، متحررا من خوفه ، من الكآبة والرهبة ، مطمئنا بعد معاناة . ذكرته :

-والآن ماذا لديك لتضيف ؟

تغيرت سحنته المرتاحة ، واختفت ابتسامته . اطرق صامتا للحظات ، وكأنه يتردد في الافصاح عن خبايا قلبه ، ثم قال دون ان ينظر الي :

-بالنسبة لك قد تكون حكاية عاشق مغامر ..صائد نساء محترف .. اني لست كذلك .. ما بيني وبين هذه المرأة ليس صبابة عابرة .. نحن لسنا مجرد عاشقين.

نظر في عيني ، فلمحت التردد ينعكس على وجهه ، كأنه يستصعب ان يبوح بما يلذه او يعذبه .. وفي نفس الوقت يأخذ نفسا طويلا ، ويحسن جلسته  التي بدأها مترددا محتارا على طرف المقعد ، مما بعث الاطمئنان ليقيني ، انه في سبيله  للبوح بما لديه ، ، وتملكتني فكرة من الجوالمحيط بنا انه بحاجة لزميل  يصارحه بما لديه ..

قلت لنفسي انه وقع على الزميل الملائم .. يستطيع ان يفهمه ، وأن يبادله الرأي بالرأي ، ويشد ازره اذا ما كان بحاجة الى ذلك .. ثم سألت نفسي : " هل استطيع ان اصون السر ؟ " أجبت تلقائيا بالايجاب . فسخرت من نفسي وذكرتها بما باحت به من اسرار . فأجبت باني ما بحت بسر اطلاقا ، انما انشأت حكاية موازية ، مستعينا بجوهر الحدث وليس بأشخاصه ، بهدم الاصل وتركيبه مجددا . سخرت متسائلا : " ما الفرق ؟ " فحسمت الجدل الذي بدأ يفور داخلي بأن حثثت زميلي :

-احك بلا تردد ، وكن  مطمئنا ..

-انا لولو ابناء صف واحد .. نحب بعضنا البعض .. منذ ايام المدرسة الثانوية . تواعدنا ان نكون لبعضنا البعض .. مهما حدث .. هي ذهبت لدار المعلمين ، وانا انخرطت في العمل . كنت اريد ان اكون نفسي بسرعة .. ان يصبح لي بيت .. وأن تصبح لولو زوجتي .. لذلك ضحيت بالدراسة الجامعية .. والداي لم يفهما موقفي ، ولم يكن من الممكن ان يفهماني . انجح اولادهم يخرج للعمل الصعب وكل الظروف البيتية والمادية متوفرة له للدراسة الجامعية والتقدم في الحياة .اليوم افكر بخطأي . اشعر اني خسرت على جبهتين .. جبهة الدراسة وجبهة الحياة .. خسرت المركز الاجتماعي .. وخسرت امنية حياتي .. أحيانا يتملكني الندم والغضب لاني لم اواصل دراستي . ولكن هذا ما كان .. حبنا كان اقوى من كل المنطق ، احلامنا كانت اكبر من عالمنا ، لولو كانت ، وما زالت..  كل عالمي ، مع لولو كل شيء يطيب لي ، الشقاء والمعاناة والألم .. في سبيل لولو تتحول الى سعادة .. كنا نحلق في فضاء من الرغبات والاحلام .. من الأمنيات والآمال .. نلتقي دوما .. نتعانق ونتبادل القبلات والضحكات الوردية ..

احافظ عليها كما يحافظ الانسان على بؤبؤ عينه .. رغبتي فيها لا تعرف الحدود ، ولكني اريدها طاهرة عذراء لليلة العرس ، كل ما يخصنا كان ابيض جميلا . كنت اواصل الليل بالنهار في سبيل تحقيق ذاتي . بسمتها كانت تكفيني ، صوتها المزغرد يملأ دنياي .

عالمي انحصر في شيئين.. العمل ولولو . ربما في شيء واحد كبير .. أكبر من السماء .. اوسع .. اوسع من الأفق . عميق .. أعمق من البحر .. لولو .. لولو هي شغلي وأملي وأحلامي وحياتي . هي الماضي والحاضر والمستقبل .

تقدمت لطلب يدها حسب الاصول .. فرفضتني عائلتها ؟!

تهدج صوته وأطرق مليا محاولا السيطرة على دمعة كادت ان تفلت . كأن ما يؤلمه يعود بكل حدته وقساوته الآن ، وفي هذه اللحظات .. لقد بهرني بقدرته على السرد .. بحيث تمنيت لو اسجل حديثه كتابة .. حتى لا تفوتني منه كلمة او اشارة موحية .

استعاد هدوءه رغم مسحة الحزن التي ارتسمت على محياه.

-عانينا كثيرا بعد رفض عائلتها لي . قد تستغرب ان العائلة لا تزال تقرر في زواج ابنائها ؟! والدها كان مستبدا . دقة قديمة. قديمة جدا .. اكثر مما يتخيله العقل . فكرت : " اذا اخبرته بما بيننا يلين امام الحقائق ، فيقبلني مكرها ؟" ما حدث هو العكس . فرض على اهل بيته ما يشبه الاحكام العرفية  . اضطهد والدتها واخواتها .. ضلوع مجتمعنا القاصرة ؟!  حرض اولاده على تتبع خطوات البنات .. ماذا اقول لك ؟ .. لم يمض الا وقت قصير حتى نجح بتزويجها لمحام من حيفا ..لا ادري كيف حدث ذلك . لم استوعبه .. صدمت .. ربما لم اصدق امكانية زواجها من غيري ؟  انها معي دائما في احلامي وفي صحوي .. هذه النقطة مستعصية علي حتى اليوم . هل كان علي ان اخطفها ؟ وهل كانت تطاوعني ؟ لم يكن من السهل محادثتها وهي داخل المراقبة والحصار .. فقدت امكانية الاتصال معها.. بعد ان تجددت علاقتي بها اخبرتني  انها اتصلت معي قبل عرسها باسبوعين للأتفاق على شيء.. لكنها لم تجدني ، ولم يكن من المتيسر امامها ايجاد فرصة  اخرى للأتصال ، وصارت تشك اني تخليت عنها لانها مخطوبة لانسان آخر.. وكان عرسها بالنسبة لها اشبه بالجنازة...

تزوجت لولو وانهارت احلامي وتناثر عالمي الجميل . اصبت بالمرارة والضيق من الحياة نفسها .. تملكني القنوط والاحباط .. وراودتني فكرة الانتحار .. ولولا امي التي لاحظت وضعي النفسي الغريب ، وشددت مراقبتها لي .. فربما كنت انتحرت .

قد اكون واهما من فكرة الانتحار والقدرة على تنفيذها .. كل ما ادريه اني وصلت لوضع لم يعد للحياة فيه شأن في نفسي . تركت عملي وانطويت على نفسي لأشهر عديدة.. لا شغلة لي الا شرب القهوة والتدخين والتفكير بلولو وبعذريتها التي تهتك قسرا.. وبالعار والشنار الذي لحق بي وكأني مسؤول عن عذريتها.. احيانا اصرخ بصمت ، بدون صوت .. أنا اقول الحقيقة .. شيء يصرخ في صدري .. يستغيث .. يرفض ما يحدث .. يثور .. يشتم .. يقاتل .. ويلعن كل شيء .. يكفر بكل شيء ..يثور غضبي احيانا على لولو .. أكرهها .. اهشم وجهها الوادع .. اغرز اظافري في لحمها الناعم الطري الابيض .. ارى الدم ينقط من سجائري .. أقذف بالفنجان والسجائر وغلاية القهوة ..ضاربا "الاسكملة" بقدمي ، فتتناثر القهوة .. والدم .. في كل مكان .. فأصرخ بصوت مسموع ، لا اقوى على كبته .. متألما مستثارا ، ولا اعود الى نفسي الغاضبة الا بين يدي امي ، وهي تضم  رأسي الى صدرها .. فأبكي كطفل صغير ، بحرقة .. وربما باعتذار ، عما اسببه لأمي من معاناة وقلق وألم .. ودموع تحاول ان تخفيها عني .. تشعرني بالخجل من نفسي .

امي ، الله يرحمها .. قصر عمرها بسببي ، ماتت وهي توصي اهل البيت علي ، كانت امنيتها ان اتزوج ، فلم افعل ذلك الا بعد موتها ، وحسرتها علي في قلبها ..

هل تظن اني نسيت ذلك ؟!

عندما أعود لهذه الذكريات يثور الذئب في اعماقي ، وحش كاسر يبحث عن فريسته . لا تظن ان علاقتي بلولو تأثرت ... انا لا انتقم منها ، هي وسيلتي للانتقام  ؟

ابدا !! لولو حبيبتي ، ولن اجعلها وسيلة للأنتقام . اذن كيف انتقم ؟ بآية طريقة ؟ بأي اسلوب ؟ الا تعتبر علاقتي الممنوعة بها من باب الانتقام ؟ ببساطة وصراحة .. لو راودني شعور بأن علاقتي مع لولو فيها دافع من دوافع الانتقام ، لما ترددت في قطع ما بيننا . حبي لهذه الانسانة ، والذكريات الجميلة الطاهرة التي بيننا ، ذلك اغلى على نفسي ، واعز  عندي الف مرة .. من اي انتقام كان .

ولكني انتقم .. انا اعرف ذلك !!

لا ادري كيف يتحقق انتقامي ولا نتائجه على من احب . شعور الانتقام يراودنا نحن الاثنين . هي ايضا تنتقم .

توقف عن الكلام مجهدا وقد حل الغضب مكان الحزن في تعابير وجهه . اشعل سيجارة وأخذ نفسا طويلا ، نفث الدخان  ببطء .. وتقطع ، وقد حسبت انه انتهى من مونولوجه المؤثر . . غيران شيئا يتحرك في داخلي حاثا على المزيد . صببت فنجاني قهوة من " الترموس " . أخذت شفطة وتذوقت طعم الهيل في القهوة ، وحثثته :

-اشرب.

ولسان حالي يقول : " المزيد " .

يبدو عليه انه فهم قصدي . شرب نصف فنجان القهوة دفعة واحدة ، وطلب المزيد . ملأت له الفنجان ، وتركت " الترموس " تحت تصرفه .شرب نصف فنجان آخر ، وكأن فمه مبطن ضد الحرارة، وقال :

-انقطعت صلاتي تماما مع لولو . انا لم احاول الاتصال بها حفظا لكرامتها وسمعتها . ربما تلك هي ارادتها . ربما ارادت تطمين والدها وانقاذ امها واخواتها من طغيانه ومما يتعرضن له بسببها ؟ هناك الف ربما ..  وعشرات التأويلات والاحتمالات . . وما دامت هي لا تتصل ، فلأحترم رغبتها ، رغم اني لم اهضم ما حدث .

خرجت من وضعي النفسي المضطرب الذي لازمني بعد زواجها ، وبدأت اعود لحياة طبيعية او شبه طبيعية .. ولكن بفتور .. وبعد تردد طويل تزوجت . لا شك ان فقداني لأمي وهي توصيني بالزواج ، وتوصي الأهل برعايتي ، كان سببا في خروجي من ازمتي وزواجي . انا احب زوجتي حبا عاديا .. احترمها .. لا استطيع ان احبها مثل لولو .. ولكنها غالية على نفسي . عندي منها ثلاثة اولاد . احبهم بجنون . هم اعادوني الى توازني ، أجد فيهم الصفاء والطهارة التي كانت ايام عشقنا المبكر انا ولولو .

ومضت الايام .. اشياء كثيرة تغيرت وتتغير .. حتى لولو بدأت تتحول الى ذكرى جميلة . . اما حين اسلسل الحدث ، وهذا صار قليلا ما يحدث ، فأثور بغضب مدفوع بمشاعر النقمة . في السنة الاولى من زواجي كثيرا ما ناديت زوجتي باسم " لولو " . اقنعتها بأني احب هذا الاسم . ربما لم تصدقني زوجتي ، ولكنها لم تسألني عن سبب هذا النداء .. وحين رزقت بابنة ، وكانت تلك امنيتي ، قالت لي زوجتي وهي تقدم لي طفلتنا :

-أنظر كم هي جميلة ولطيفة لولو ..

وساعتها بكيت .. بكيت كما لم ابك من قبل .

يقال وبحق ان الجبال لا تلتق ابدا ، انما الانسان...

التقيت لولو في احدى الرحلات الى مصر.. ثماني سنوات من القطيعة ، وفجأة القاها امامي . ارتعشت من رأسي الى اخمص قدمي . غبشت عيناي من دمعتي فرح .. او ربما حزن .. او حزن وفرح في نفس الوقت .أمسح الدمعتين ، لولو صارت اكثر انوثة ، نظراتها مهمومة ، ارتعاش عينيها يفضحها .. نقف في قاعة الفندق الرحبة نتأمل بعض .. ننظر في عيني بعض .. تبتسم لي بحياء ، ابتسم لها بذهول .. تخفض عينيها ، اقترب منها والهث باسمها :

-لولو .. لولو ..

تنظر الي بعينين تملؤهما الدموع والاشواق ، صدفة مجنونة تلك ؟ ما كان بيننا بدأ يتحول الى ذكرى .. وفجأة اجدها امامي . كانت لوحدها وكنت لوحدي .. وباندفاع مجنون ، طوينا وراءنا الزمان والمكان . عبرنا الماضي والتاريخ والجغرافيا. جددنا ما كان ، واندفعنا لاحضان بعض بلا تردد وتفكير . غسلنا حزننا واشواقنا باتحاد جديد . لم ارغب بامراة كما رغبت بها ولم ترغب برجل كما رغبت بي . عشق ووجد وصبابة .ظمآنان وقعا على نبع ماء . اسكرنا الحب الممنوع . قالت لي ان نفسها لن تطمأن الا اذا ضاجعتها على فراش زوجها . أهي النقمة وراء رغبتها المجنونة هذه ؟ هل هو انتقام لا يعرف الحدود ؟ هل زوجها المقصود بالانتقام ؟ أم والدها ..؟ ام تنتقم من ذاتها هي ؟ ربما من كل عالمها ؟

كثيرا ما قالت لي انها تشعر بالذنب  وتريد ان تنتقم لنفسها لأنها ضعفت ورضخت لمشيئة عائلتها .

هل تستغلني بهف تحقيق انتقامها ؟ كان بامكانها ان تفعل ذلك مع غيري ، ومن زمان ، اذا كان الانتقام هدفها من العلاقة الممنوعة بيننا . . ؟ تبكي وتصر انها تحبني حقا ، ولا تريد ان تفقدني مرة اخرى . انا ايضا لي حسابي . اقول لها ذلك ، فترجوني ان انسى موضوع حسابنا ......... وان نعيش لحظتنا الهانئة ، وتهمس لي :

-انه حقنا الذي حرمونا منه وهو افضل ثأر ..

-وهل يؤخذ الحق بهذا الشكل خطفا ؟

-يكفي انه حقنا وليفهمه كل منا كما يشاء .

كنت على يقين انها تنتقم من عالمها .. وانها ما كانت لتفعل ذلك بعلاقة مع شخص آخر غيري . علاقة مع شخص آخر معناها انها تنتقم من نفسها فقط . علاقتها معي هو حقها الذي حرموها منه . . وانتقام لا يعرف الرحمة من قيم ومثل واشخاص حرموها من حلم حياتها وحقها الطبيعي .. وقالت ان تزويجها بهذا الشكل هو  اغتصاب متكرر لا يعاقب عليه القانون ، وانها  منذ اتحدنا جسما وروحا شعرت  بعظمة العلاقة بين رجل وامرأة .

في لقائنا الاول ، في بيتها في حيفا قالت لي بطريقة اقرب الى الشراسة واللؤم وتعذيب الذات :

- هيا انتقم لي منهم .. منهم كلهم .. من كل الذين ابعدوني عنك .. وأبعدوك عني ، اريدك هنا فوق فراشه ، أكره هالة القدسية الكاذبة ، اقيء على شرفهم المهترئ .. اكرههم .. اكرههم ...

زجرتها وافهمتها اني لن اقبل ان اكون وسيلتها للأنتقام  والثأر.. وان حقدي على من فرقونا لا يقل عن حقدها ، وربما لهذا السبب طاوعتها واريدها على فراش زوجها .. ولكني ارفض ان يتحول حبنا الى  دوافع حيوانية محددة بالانتقام والثأر .

بكت كثيرا وقالت انها تشعر نفسها كزانية ، وهي لا تريد لهذا الشعور ان يراودها .. وهو دافعها للتفوه بما قالته . وصارحتني ان زوجها لطيف معها ، ولا يفشل لها طلبا .. ولكنها لا تشعر معه باللذة والانسجام ، جسدها يرفضه لأنه يتمناني ، وهذا الشعور يرافقها منذ زوجت .. وهي لا تذكر انها وصلت معه الى قمة المتعة التي تصلها معي

.زوجها يعارك محاولا بكل قدراته ان يوصلها .. اصيب بالحيرة واستشار طبيبا ، فلم يساعد الامر ..  واقتنع كما يبدو انها باردة جدا .. لو رأى شبقها المجنون لما صدق عينيه . تقول انه اخطأ وليتحمل نتائج خطأه. خلال فترة خطوبتهما صدته ورفضته ، مع انه شاب مثقف ، له مركزه الاجتماعي ، وامكانيات مادية ، وشخصية قريبة لقلوب الفتيات ، كان عليه ان يفهم ما لم تستطع البوح به جهارا .ان يفهم انها لا تستطيع ان تكون له ... بهره جمالها ، واستعجل الزواج ظانا ان الزمن يجمع بين القلوب ، ويقرب بين الافئدة ، فلم يجن الا برودها ، وها هي تعطي نفسها بسخاء لغيره ... لحبيبها !!

كثيرا ما حاولت ان افلسف ما بيننا من حب ملتهب وانتقام مشترك لا حدود له .

قلت لها مرة :

-يجب ان لا تجرفنا غرائزنا ، ممارستنا لحبنا هو احسن ثأر.

-ما بيننا ليس غرائز . حبنا هو حقنا بالحياة وثأرنا ايضا .

-لا تنسي اننا من تركيبة اجتماعية تنفر مما نحن به ، حتى لو كان حقنا ؟ وسنعامل باحتقار اذا ما انفضح امرنا ؟

-هل تريد ان تقول ان ما نفعله حماقات ؟ حبنا حماقة وشذوذ ؟ ما بالك تتراجع عما قلته قبل لحظة ؟

فأحتار فيما انا قائله واتردد امام اسئلتها .أضعف امام العتاب المنطلق من عينيها ، واغرق في رجاء شفتيها .. وحين تثور غريزتي ، اصبح كالثور الهائج ، وكأن هذا اول اقتحام لعذريتها .. لا ادري لماذا يراودني هذا الشعور كلما ولجتها .. كأن شيئا  في نفسي يرفض ان يصدق ان لولو لم تعد عذراء . لولو عذراء ابدية ، تتجدد عذريتها  بعد كل اقتحام ، وحين لا ارى آثارا للدم بين ساقيها  ، تعاودني الفكرة المجنونة بأن لولو عذراء بعد .

ومنذ سنتين نلتقي اسبوعيا . سافرنا لمصر عدة مرات .. تمتعنا بلا حدود ، احيانا تقول انها تغار من زوجتي علي ، تقول ذلك وتبكي لانها لا تريد ان تسيء لزوجتي .يراودها شعور سيء انها تخطفني من زوجتي واولادي . طمأنتها ان ما بيننا لا يجعلني اهمل بيتي . . وان حبي لها لا ينفي حبي لزوجتي واولادي .وتقول اننا مهما نصل في علاقتنا ، فسعادتها ناقصة ، وان السبيل لتخفيف ما هي به ، ان تحمل وتضع ابنا ، او بنتا مني .

حذرتها من فكرتها المجنونة ، ولكنها تصر ! منذ اشهر وهي تصر ان تحمل مني ، تريد طفلا مني حتى تكتمل سعادتها ويهدأ بالها .. لان العلاقة بيننا ستنتهي يوما ما .. واعتقد انها حامل ، على الأغلب مني .. امس أجرت فحصا ، اردت ان اعرف النتائج .. أنا في حيرة من امري .. هل ما ارتكبه حماقة ؟ خيانة لزوجتي واولادي ؟ ام انتقام من اهلها ؟ ربما هو اخلاصي للماضي ؟ للأيام الحلوة الهانئة التي كانت ؟ ام هو حقنا التاريخي ؟ ام هي غرائز بشرية لا قدرة للعقل على توجيهها ؟

لا اعرف كيف اتصرف . كنت احبها واريدها لي وحدي . اليوم احبها واقبلها رغم وجود شريك آخر .. زوجها .لا اعرف ان كنت اكرهه او اشفق عليه ؟ ولكني احسده .هي تدري اني لا استطيع ان اكون لها وحدها ، واني لن اتخلى عن زوجتي واولادي .هي تقبلني كما انا .اما انا فاعيش بدوامة لا اعرف لها قرار . يجرفني عشقها . اريدها بقوة وبرغبة وبحقد . . واعرف ان ما بيننا لم يعد ذلك الحب الحالم البريء . لم يعد اندفاعي ذلك الاندفاع الطاهر . القاها اليوم لاشبع جوعي اليها ، لأرتوي من رحيقها الذي لا ينضب ، لاهتك عذريتها التي لا تنتهي . تشدنا النشوة المجنونة الى الماضي الجميل الذي كان .الى الاحلام الضائعة .. نعيشها خطفا. هي حزينة لانها ليست كذلك .. ليست من هذا النوع .. هي تقول انه حقنا الذي حرمونا منه ، وليتحملوا هم النتائج . لا تكره زوجها ولا تنتقم منه ، ولكنها لا تحبه . حبنا الماضي تغير ، صار لحظات متعة ونشوة ، جنون  للدخول والانصهار في بعض . مفهومنا للحب تغير . . ونحن تغيرنا . احيانا نقررانه هذا هو ، وصلنا لنهاية الطريق ، ولكل منا حياته الخاصة .. بيته الخاص .. أولاده .. هل نضحي بأولادنا في سبيل ذاتنا ؟ وهل يليق هذا بنا ؟ ألا يكفينا ما تمتعنا به ؟ ألم يرض غرورنا ، ويهدئ من لوعتنا ، وينسينا غضبنا ؟

نودع بعض .. نبكي بحرقة .. نتبادل آخر عناق .. آخر قبلة .. فلا تمضي اربع وعشرون ساعة  الا ونكون نحن الاثنين ، امام التلفون ، يبحث كل منا عن الآخر..

ونعود لنلتقي مندفعين بحماس اشد ، ورغبة ممتدة لا تعرف نهاية ولا قرار.

الى اين تقودنا غرائزنا ؟ لا ادري !!

واليوم تترسخ العلاقة بيننا بطفل ، انا مضطر لتحقيق رغبتها ، ربما هذا هو آخر المشوار بيننا ؟ لا بد ان نصل لنهاية . نهاية للاندفاع بلا ضوابط .. سنبقى على حبنا ، سيكون لها ابن اوابنة مني .. قد يكفيها ذلك .. وأنا .. هل استطيع الابتعاد عنها ؟ الن يشدني الحنين لها .. ولابننا المشترك ؟

هز رأسه بضيق وقال :

-لا ادري !!

صمت ، اخذ نفسا من سيجارته ، نظر الي بشيء من الحيرة ، وقال مؤكدا على شيء سبق وان طلبه :

-السر هو سر .. انت عند كلامك ؟

-أكدت له ذلك بهز رأسي ، ولكن .. ماذا افعل بالشيطان الذي في نفسي ؟

 

 

 

الحاجز*

 

تعكر الجو منذ بداية هذا اليوم  ، عندما كان احمد في طريقه الى عيادته ، اعتراه شعور من القنوط والتهيب الذي لم يعرف له سببا . حاول ان يعود بذاكرته الى اللحظة التي فتح فيها عينيه هذا الصباح ... عله يجد جوابا لما يعتريه الآن  وهو يقود سيارتة..

ساعة استيقاظة هي نفس ساعة الاستيقاظ المعتادة منذ فتح عيادته ... حتى ايام الراحة يستيقظ تقريبا في نفس الوقت، مع فارق بسيط انه يتأخر في قلع البيجاما .. الا اذا طلب لعيادة مريض ما .. ولكن منظر الشوارع المألوفة والمعروفة له منذ نعومة اظفاره يجعله قانطا ومتهيبا من شيء مجهول .

اغتسل وارتدى ملابسه .. زوجته واصلت النوم كعادتها .. سخن الماء ، اعد كوب شاي بالنعنع ، ارتشفه ببطء وهو يسمع نشرة الأخبار ، رطب وجنتيه وعنقه ببعض الكولونيا ..شد ربطة عنقه ، تناول حقيبته وخرج وزوجته لا تزال تغط بالنوم ، تفاصيل روتينية يكررها كل يوم .. اذن ما الباعث لشعور القنوط والتهيب ؟!

شغل محرك السيارة لعدة دقائق .. ثم انطلق في الاتجاه المعتاد الذي الفته عيناه.

 

******

 

الأحداث في القطاع انفجت من جديد. عدد مجهول من القتلى وعشرات الجرحى . هذا ما فهمه احمد من المكالمة التلفونية ، حيث طلبوه في المستشفى للمساعدة. هذا الطلب بحد ذاته يشير الى العدد الكبير من الاصابات الصعبة .

بعد ذلك فهم الحادث بالتفصيل ، , "بداية" الحادث ان  دورية عسكرية اعترضت مجموعة من التلاميذ المتوجهين للمدرسة ، وامروهم بالتفرق وعدم السير الجماعي نحو المدرسة .. ويبدو ان التلاميذ لم يبلعوا هذا الاستفزاز هذه المرة .فالتراكم يولد الانفجار ، هذا مفهوم ، احمد نفسه كاد ينفجر مرات امام الحواجز . .. ولكنه يبلعها في اللحظة الاخيرة ، المؤكد ان التلاميذ لا يملكون ضوابط كالكبار . والمؤكد ايضا ان الانفجار سببه ليس الاستفزاز الوقح الجديد... انما هي سلسلة متواصلة من الاهانات اليومية المتكررة .. ان تعيش تحت طقطقة الاعقاب الوحشية، ان تعيش طفولتك وشبابك  امام حواجز الجند ونظراتهم الحاقدة  .. ان تعيش كل يوم في انتظار الفرج الذي لا  يبدو انه قريب .. ان تعيش حالما بالفرح الانساني ، بينما واقعك مليء بالترقب لرصاصة من فوهة بندقية يحملها جندي ما ، كل ذلك يتجمع لينفجر في لحظة ما بعنفوان لا ضابط  له . ربما قاعدة الحياة صارت تختلف . ساعات الهدوء في القطاع والضفة هو الشذوذ .. بينما الانفجار يكاد يتحول الى قاعدة.

هذه الافكار راودت احمد خلال توجهة السريع الى المستشفى. كانت تتنازعه شتى المشاعر والاحاسيس  ، ويحاول ان يضعها في اطار منطقي . كثير من المسائل لا يستطيع قبولها اي منطق . مثلا مسألة القتل اليومي .. القتل بمفهومه المباشر.. ان يطلق جندي ما رصاصة فيسقط فلسطيني . او القتل بمفهومه  الانساني ، باستمرار الوضع القائم ..الحياة تحت اعقاب البنادق وتحت احذية الجنود ، ومواجهة عملية الاذلال والبطش اليومي ؟!القتل بمعناه المباشر قد يبدو اكثر انسانية من مواصلة الحياة تحت حراب الجند واحذيتهم .. القتل يعني نهاية المعاناة .

هل تكون عملية تخليص شعب من معاناته ، بقتله ، بتصفيته جسديا ؟!

قد تبدو هذه الفكرة انسانية في هذا الزمن الرديء.. " ام الزمن العربي لوحده الرديء في هذا العصر ؟!" سأل نفسه واستطرد  مفكرا :

-الدول العربية لا تحرك ساكنا لفضح الواقع المأساوي لشعب صار القتل حادثا يوميا في حياته .. حتى رد فعل بسيط معجدوم ، مع انهم يدعون ان فلسطين قضيتهم الاولى ؟!

شيء يثور في اعماقه ، يتمرد ،يتضخم ويكاد ينفجر. صراخ غاضب يشعر به محبوسا في صدره .يهزه من الداخل فيضغط على نفسه ويضغط . وتشده افكاره مرة اخرى :

-يجب ان لانسمح يتحويل قتلنا الى عادة .. الى روتين يومي . الدول العربية .. لتذهب الى الجحيم .. انها لا تفعل سوى ان تهتم بدعم مجموعة من زلمها .. ان تكون من جماعة دولة ما لذلك ثمن تقبضه ، حتى الدين صار له ثمن . ان تطلق لحيتك ، وتتبع فئة معينة ، لذلك اجرة معينة، ليس عند ربك ، بل فئة لها مصلحة في ابتعادك عن مشاكل مجتمعك .صرنا نعيش في جحيم التفاهات ، وهي للحقيقة تتلاءم مع زمن تسيطر عليه قيم واخلاق التفكير الاقطاعي ، ومثل ورموز عصر النفط ، الا الفلسطيني ... لا ثمن له . الانسان لا ثمن له !!

هل يفقد ثقته ؟!

كان منطلقا بسيارته نحو المستشفى يعبر الشوارع شبه الفارغة الا من بقايا الحجارة المقذوفة ... وهنا وهناك لا تزال المناوشات مشتعلة ..ودوريات تزعق في شتى الاتجاهات ..والرصاص يعوي كالكلب .. تارة يشتد عواؤه وتارة يخفت .. والدخان يتعالى من عدة نقاط في المدينة المتمردة...

ربما هذا التمرد هو ما يعطي لهذا الشعب هذه القدرة على الاستمرار وتحدي المعاناة ..المعاناة قد تكون سببا للقنوط، الواقع المأساوي قد يكون سببا للقنوط ،انتظار ما هو اسوأ هو سبب اكيد للقنوط .. ومن المؤكد ان الانفجار يحمل في طياته الرفض للتفاهات التي نمارسها دون اقتناع ... نمارسها لاجل الثمن المدفوع.

يثلج الصدر ويخفف الواقع الاجتماعي ان الأجيال الجديدة تواصل التحدي ، رغم الليل الذي يحيكه من حولهم بعض ذوي القربى والأعداء، رغم تباين المواقع ، يواصلون التحدي في الشوارع ، رغم الجند المدججين بالسلاح .. يواصلون التحدي في الشوارع .. ويرفضون الصمت على مضاضة .يؤلمهم الصمت الرسمي للأشقاء العرب ..ولا ينتظرون حسنة من احد . يدفعون دمهم ثمنا لصمودهم . استمرار الهيجان يخفف من عبئ القنوط .. يتخيل الجثث الشابة المقتولة .. والاجساد المشوهة .. فيزداد احمد قنوطا والما داخليا .

امام الحاجز لم تنفع اشارة الطبيب الملصقة على السيارة ... انزلوه واجروا عليه تفتيشا وفحصا لاوراقه وسيارته ، بحثوا عن اسلحة يحملها ، ربما حجارة .. فتحوا حقيبته الطبية وافرغوا محتوياتها على مقعد سيارته ..وجسوها بتأني خوفا  من اخفاء حجر او ربما تعويذة مضادة للاحتلال . اصوات طلقات غزيرة .. وبعض الحجارة تكاد تصل للحاجز من الشوارع المحاذية ..ومع زخات الحجارة يرعد اسم فلسطين بآلاف الحناجر .. مئات البالونات لونت باعلام فلسطين طيرت في الفضاء .. اثارت عصبية الجنود فامطروها بعشرات الطلقات .. ولكن السماء تمتلئ باعداد متزايدة من البالونات  الملونة بلون العلم الفلسطيني ..لاول مرة منذ هذا الصباح يتحرر من قنوطه . كم يود ان يقذف حجرا ، ان يركض مع الاف الشباب .. وان يجهده العرق .. وان يطير بالونا ملونا بالعلم الفلسطيني ، وان يصرخ باعلى صوته باسم فلسطين . يتلذذ وهو يسمع الصدى الرهيب لتساقط الحجارة واصوات الطلقات وصرخات الجنود المتفاجئين من هذا المطر المؤذي  ... ينظر نحو الضابط ذو الاصابع المنتفخة .. الذي يلوك سيجارته بحقد ، ونظراته تحمل الكراهية خلقة ... ويتهادى في مشيته كابطال الكاوبوي الامريكيين... ويكز على اسنانه مع كل زخة فلسطين يطلقها الشباب مع رشقات الحجارة .أجل لماذا القنوط ؟!حبس ضحكة كادت تفلت منه عندما اعترته رغبة مجنونة ان يمد ذراعه اليمنى  مبرزا اصبعه الاوسط نحو وجه الضابط ... وليكن ما يكون ،ولكنه زجر رغبته الطبيعية ،واكتفى ان يتزود من وجه الضابط المضحك المثار كلما دوى اسم فلسطين ، اقوى من الرصاص والعساكر ...

استغرق تفتيشه على الحاجز لدقائق قليلة ولكنها متوترة قاسية. وربما لاول مرة يعتريه شعور الفرح الممزوج بالرهبة قليلا. احساس من القوة يتسرب اليه، وتأخذه افكاره بعيدا ... قال لنفسه :

-نحن اقوى منهم ,,, هذا لا شك فيه ...ان تواجه قاهري كل العرب ببعض التلاميذ ، وبعناد لا يعرف نهاية  ولا رادع ، وباصرار على الحق لا يهتز ...

-سع ( سر بالعبرية )

أمره عسكري ، فانتشله من افكاره. اراد ان يقول " تودا رباه" ( شكرا ) كما تعود ان يكون لطيفا ، وهو يعرف انه يقولها مجبورا مقهورا ...ولكن لسبب ما بدت له هذه المرة قذارة لا يستطيع التفوه بها .. وهو في مثل هذا الموقف .هل يشكرهم لانهم احتلوا وطنه ؟!هل يشكرهم لانهم شردوا شعبه ؟! هل يشكرهم لانهم يقتلون شعبه منذ اربعين عاما ؟! هل يشكرهم لانهم يحولون حياة من بقي في الوطن من شعبه الى جحيم ؟! وهل .. وهل ..   عشرات الأسئلة تنهال عليه ... ينظر اليهم نظرة كراهية ، شاعرا انه جزء من الشباب الذين يواجهون عساكر الاحتلال بالحجارة والاعلام الطائرة ، وبدوي اسم فلسطين الرهيب الوقع على اسماعهم ، والأقوى من كل جبروت الاحتلال المرئية والمخفية .

لا ، لن يخيفوا شعبا يتمسك بوطنه !

شغل موتور السيارة .. القى نظرة على الكاوبوي الثخين ، ذي النظرة التي تحمل الكراهية خلقة .. وبدأ يتحرك نحو الامام .. حين اجفلته ضربة الحجارة.. واصوات طلقات نارية وقنابل غاز .. فتحول الحاجز الى حيص بيص .. والارض امتلأت بالحجارة وزجاج القناني .. وبزجاج سيارته والسيارات العسكرية ..تسمر في مكانه ظانا للوهلة الاولى ان عساكر الحاجز يهاجمونه ...التفت بشيء من الخوف نحو العساكر ، فشاهد الكاوبوي منبطحا في منتصف الشارع ينزف دما ، ويكاد يكون بلا حراك ...احتار ان ينطلق بسيارته  مبتعدا ام يقدم مساعدة ما لهذا الملقى بلا حول ينزف دما .. كان زجاج سيارته الخلفي قد تطم تماما ، وتركت الحجارة معالمها الواضحة على جسم السيارة .. واستمر احمد في حيرته :

-هل اسعف ذلك الكاوبوي الثخين ؟!

تردد مرة اخرى هذا السؤال، ورد على نفسه :

-انه عدو حاقد..

-انه مجرد انسان ينزف ..

-أنت ضعيف امام منظر الدم البشري ؟

-اكرهه كعدو .. لا جدال في ذلك ، ولكنه ينزف؟

-ليذهب الى الجحيم .

-ليس ذنبه انه وحش .. مساعدة انسانية قد تغيره .

-وهل يتحول الذئب الى شاه ؟

-لا تخلط.

-التلاميذ الجرحى بالشوارع ..الدم المسفوك في المخيمات ..احذيتهم التي تدوس كرامتنا كل يوم .. اطفالنا المقتولون بلا رحمة ..

-الوقت لا يسمح بالجدال .. اسعفه ثم نرى ..

-هل كانوا هم يسعفوني لو كنت انا المصاب ؟

-انت طبيب والطب مهنة انسانية!

-ولكني فلسطيني .. والحديث هنا عن عدو ..وليس مجرد عدو ..اربعون عاما ونحن نعاني مرارة الضياع والتشرد، وما زلنا !!

-كفى كفى !! سنعالج قضية فلسطين فيما بعد ، انه ينزف ولا تنسى انه بشر مثلنا ..انسان !!

-انسان.. ؟ كم يضحكني هذا الوصف .

-الوقت لا يسمح للسخرية ..انقذ الانسان الذي فيه ..

-لو كان فيه بقية انسان لرفض الاحتلال . لرفض ان يمارس العنف ضد شعب مشرد اعزل ؟

-ليس ذنبه...

-وهل ذنبنا اننا نطالب بحقنا ؟

-لا تفقد انسانيتك ..تذكر ان قوتنا في انسانيتنا .

-أعرف .. ولكني لا استطيع ان انسى انه عدو شرس ، لا يرحمنا ، وما يحدث الان يثبت ما اقول .

-انت طبيب وهو مجرد جندي مأمور..

-بأي وجه سالقى زوجتي ..بأي يدين سارفع ابني ..ماذا اقول لجيراني ..ماذا اقول لمن ثكلوا عزيزا عليهم .. ؟

-انسانيتنا هي قوتنا ، اذا فقدناها فقدنا مبرروجودنا، فقدنا مبرر دولتنا .

-وهل يصح لهم ما لا يصح لنا ؟

-لا تأخذ القطيع بجريرة الراعي .

-الانسانية الزائدة تتحول الى هبل !

-نتجادل فيما بعد .. انت طبيب ، وهو ملقى ينزف دما ، لدمه نفس اللون ، لجراحه نفس الالام ..

-اعرف ذلك .. واعرف اكثر انه عدو لا يرحم . يضحكه لون دمي . جراحي تزيد شراسته . عذابي يثير هزئه..وفلسطينيتي تثير ادنى مشاعر السادية  في نفسه.

-الجدال الان عقيم .. تبقى حقيقة واحدة كبيرة ، لن نسمح لاحد ان يسرق منا انسانيتنا .. واثبت ذلك الان .. اسعفه !!

فتح احمد باب سيارته ،ونظر الى الكاوبوي الثخين الملقى بلا حركة منذ لحظات ، كانت الاف العوامل المتناقضة تصطرع في نفسه ، تحرك مكرها نحو الانسان الملقى .. فحصه فحصا سريعا ، وفوجيء ان نبضه غير محسوس .

دوي الرصاص في اذنيه والحجارة تتساقط حوله ، وهو يجري تنفسا اصطناعيا للضابط الملقى .. انسان .. عدو .. تشربكت المفاهيم في دماغه ، ولم يعد يفكر الا بأنه يواجه صراعا ضد الموت ، وعليه ان ينتصر للحياة ضد الموت ،كان يضغط عدة ضغطات قوية على صدر الضابط .. ثم يعطيه نفسا من الفم للفم ..ويعاود الضغط الرتيب ، واعطاء النفس ، والجنود حوله يطلقون النار بلا وازع  ..وهو ، حين تعاوده الافكار يشعر بالحيرة ، او الضياع في حيرته ومتناقضاته. لا يعرف .. هل يعبر بذلك عن انسانيته ؟ .. ام عن هزيمته كانسان ؟.. ويكاد يتيقن انه يواجه انشطارا في شخصيته ، بين فلسطينيته ومهنته . لاول مرة يعتريه شعور القرف من مهنته . لماذا يسمونها مهنة انسانية ؟ هل ما يقوم به هو عمل انساني ؟ ام هزيمة انسانية ؟ ومع ذلك يقاتل لاعادة النبض والحياة لهذا الضابط ذي النظرات الحاقدة خلقة . يرتسم في خياله ابنه ، يحاول ان يرفعه بيديه فيهرب الطفل رافضا اليدين اللتين انقذتا عدوا .حتى زوجته الهادئة ترفض ان يضمها بذراعيه .. يشعر بدمعتين في مقلتيه .. يواصل الضغط بعناد .. محاولا التخلص من افكاره ، مبتعدا عن مشاعره المتضاربة ، متناسيا تناقضاته وعذاباته .انه يساعد عدوا بينما عشرات ابناء شعبه ملقون ينزفزن دما ..ليس الان وقت هذه الافكار . ونبض الضابط لا يتحسن .. فيواصل الضغط الرتيب على الصدر واعطاء التنفس فما لفم . يفحص حدقتي العينين ، ويواصل القتال ضد الموت .كم تمنى قبل لحظات ان يمد كفه باصبعه الاوسط في وجه الضابط الملقى الآن بلا حول .. وها هو يقاتل لاعادته للحياة ، ماذا يقول لجارته التي فقدت ابنها قبل اسبوعين ؟ماذا يقول لزملائه ومعارفه ؟ هل يفتخر انه انقذ عدوا ؟

شيء من الهدوء ساد حوله ، وركض نحوه احد الجنود مستفسرا ان كان يستطيع ان يساعده بشيء.. طلب منه شيئا مرتفعا ليضعه تحت الرقبة .. وما هي الا لحظات حتى كانت بطانية مطوية تضع وراء رقبة الضابط .. ليتدلى رأسه الى الخلف اكثر .. واصل احمد الضغط الرتيب بعناد اشد شالا كل صراعاته الفكرية مع نفسه ، طاردا التخيلات المقلقة ،مجهدا نفسه بعناد لاعادة التنفس الى الشخص المسجى على الاسفلت . لا يعرف كم استغرقه من وقت ، لكنه كان في منتهى درجات الاجهاد .. ولا يستطيع ان يحكم على نتيجة تصرفه ... ويعرف تماما انه سيتعذب ويتصارع مع نفسه ، وصلت سيارة اسعاف عسكرية ، فشكروه ، يا للمهزلة ،يشكرونه على امر هو نفسه  لا يستطيع ادراك صوابه ، شعر ان القنوط يعاوده من جديد ، يحاول ان يطمئن نفسه .. فلا يدري كيف يطمئنها .. فتعاوده الافكار المتباينة .. فلا يكتشف الا وهو في المستشفى .فيغرق في عمله مكتشفا ان الاجهاد والارهاق افضل طرقة لراحة الدماغ  .

 

******

 

تلك الحادثة عذبته.. فخبر ما فعله مع الضابط قد انتشر، صحيح ان ابنه وزوجته بقيا على نفس الحب والتعلق، حتى جارته الثاكل تبتسم له وتتمنى له كل خير. ينظر بوجوه الناس ، فلا يجد الملامة ، انما الحب الذي تعود عليه , لشد ما كان يجهل حقيقة شعبه ، ولشد ما يزداد حبه لهذا الشعب .ان تكون طيبا لهذه الدرجة ، ان تكون متسامحا لهذا الحد ، ربما في ذلك بعض التهلكة . ربما سبب ضياعنا كل هذا العمر .... أو يكون سبب تحكم الارذال برقابنا ، ناتج عن طيبتنا وتسامحنا ؟ الحرب خدعة ولكنهم يلعبونها واضحة كضوء الشمس في الظهيرة .

ايام واحداث كثيرة مضت ، والهدوء في السنة الاخيرة بات شبه نادر .ولكن شعبه يواصل الحياة بعناد ، والنساء يواصلن الانجاب ، والشواع ملآى بالصغار ، والشهداء يكرمون بشتى الوسائل ، .. اسماؤهم تطلق على الخلق الجديد ،والأزقة تسمى باسمائهم ، والمواقع تسمى باسمائهم ، عالم كامل ولد ويولد عبر الصمود . قيم جديدة تصارع العفونة المترسبة . تصارع الضياع .تصارع من يدفع ثمنا للقيم البشرية ...

ولكن احمد رغم ما مر عليه لا يستطيع ان يضع ما فعله في اطار واضح مقبول . بقي شيء غريب يستفزه كلما اختلى الى نفسه من مشاغله . يستفزه ويعيده الى صراعاته الفكرية . يحاول ان يفلسف تصرفه اعتمادا على تقبل الناس . ولكن شيئا يتمرد في داخله ويرفض .عندما يقرر بينه وبين نفسه انه اخطأ ، تثور في نفسه عوامل مضادة تثبت له انه تصرف كطبيب وانسان  . ما كان من المعقول ان يتخلى عن انسانيته . يلتبس عليه الموقف ويؤرقه .. ربما دافعا مجهولا اورده هذا الموقف ؟ يعاود محاورة نفسه .. ثم يغرق بالعمل .

صار يكثر من التأمل والتفكير ، ولا ينسى حادثته الا احيانا ، خاصة عندما يغرق بملاعبة ابنه الصغير .. ضحكات الطفل العذبة تنسيه صراعاته الفكرية . ترى هل عند الضابط ارتباطات عائلية مثله ؟  هل له طفل كهذا ، يضحك بعذوبة ، ويدخل السعادة لصدر والديه ؟  وهل تبقى الكراهية في نظرات الضابط وهو يلاعب طفله ؟!

في عصر احد الايام انطلق احمد ترافقه زوجته في طريق العودة الى البيت ، يحملان  بالسيارة العاب وحلويات ، فاليوم عيد ميلاد الصغير .. لذا انهى احمد عمله باكرا، ورافق زوجته للتبضع ، وها هما الآن في طريق العودة الى البيت . يستمع احمد من زوجته لنوادر الصغير ، ويبتسم ناسيا ما يعذبه من افكار ، سارحا في عالم الطفولة الجميل ،وزوجته اللبقة ، وصاحبه الخيال الواسع ، تعرف كيف تنقل له الحديث بتفاصيله ، بحيث يبدو وكأنه يحدث الان امامه .

اقتربوا من احد الحواجز العسكرية المنتشرة كالسرطان في الشوارع . فلمح ضابطا اثار انتباهه ..وسرعان ما اكتشف انه الضابط نفسه ، الكاوبوي المنتفخ ، ذو النظرات التي تحمل الكراهية خلقة .

تسمرت عيناه فوق وجهه .. اكيد هو ، نظراته لم تتغير ، السيجارة يلوكها ، واسنانه صفراء ..لا يعرف ان كان يسعده ذلك ام يخجله . الضابط يتجاهل نظراته ، ويعطي اشارة السماح بالمرور دون تفتيش ،يبدو انه اعتراف بالجميل .. ولكنه جميل مرفوض . يريد ان يفتشوه كما يفتشوا غيره . يرفض هذا الشكر والاعتراف بالجميل . لم ينقذه لانه ضابط ، بل لانه انسان ..آه .. ما اسخف هذا التعبير احيانا . أصر العسكري عليه ان يواصل السير . اعترته للحظة فكرة مضحكة في غرابتها .. يطلقون عليه النار ، ويعلن الناطق العسكري ان سيارة رفضت الامتثال للأمر بالتوقف عند الحاجز .. فاطلقت عليها النار !! هل يمكن ان يكون الاعتراف بالجميل بمثل هذا الشكل  الحاقد ؟ عقله يعجز عن تصور ذلك .القى نظرة اخرى عبر المرآة على الضابط ، فشاهد كرشه الممتلئ والمدكوك داخل البنطال العسكري عنوة. واصل ابتعاده عن الحاجز وهو يوضح لزوجته ان الضابط اياه هو نفس الضابط الذي اسعفه  وانقذه من موت مؤكد . وحاول ان يعترف امامها بحقيقة ما يتنازعه من مشاعر وافكار حول تصرفه .. لقد صدمته رؤية الضابط وأطارت من رأسه نشوة الحديث عن الصغير ونوادره ، ووجد نفسه مضطرا ان يوضح لأقرب الناس اليه حقيقة مشاعره مما حدث ... عله بذلك يتخلص مرة والى الأبد من عذابه وتناقض مشاعره وضغط افكاره . فجأة اهتز كل جسده ..  ارتعد من اصوات طلقات حادة تخترق زجاج سيارته ، داس على الفرامل هاربا في الوقت نفسه لاقصى اليمين ، ملتفتا في الوقت نفسه نحو  مصدر النار . كان الضابط اياه يقف امام الحاجز ، شاهرا مسدسه ومنظره يوحي بالوحشية .. اثار انتباهه عدم رد فعل زوجته لما يحدث .. ربما اطلقت في بداية الحدث صوتا ما .. لا يذكر .. التفت اليها وصعق .. توسعت حدقتي عينيه  لمرأى الدم المتفجر من رأس زوجته ... تنازعته شتى صنوف الألم والحقد ، يرفع ابنه الصغير بين يديه ، فيبصق الصغير بوجهه ..يحاول ان يضم زوجته فيصده دمها التفجر ...يبحث عن صوته ليطلق صرخة ، فلا يخرج من فمه الا لهاث متقطع ، تنخرس الكلمات ، وطفله يركض وراء نعش ينادي باعلى صوته : "ماما " . لغم ينفجر بالصغير فيرتقع عمود دخان .. وحين يأخذ صوت الانفجار والدخان بالتلاشي .. يبحث عن طفله فلا يجد الابقايا قدم بحذاء طفولي ممزق . يرتمي عاجزا فوق مقود السيارة ، متخبطا في موقفه .. يخبط رأسه بالمقود حتى يشعر بالالم والدم يتفجر من رأسه ..ينظر نحو زوجته المقتولة.. وفجأة يعود اليه صوته فيصرخ بأقوى ما يستطيع ... يشغل موتور السيارة ، ويأخذ المقود الى اقصى اليسار ..ينطلق بسيارته مشتت الذهن ودمه يسح على وجهه ..  نظراته مسمرة نحو الحاجز .. والألم يكاد يمزقه من الداخل .. والضابط الكاوبوي امامه .. صلعته امامه ..صدى الاصوات تتكرر في ذهنه ..ساق في حذاء ممزق .. طفله يضحك ..ومع ضحكاته يتدفق الدم ..تعابيرعقيمة تتصارع في ذهنه .. زوجته لا تزال تبتسم .. وكأنما تقول له هذا ما جنيته علي ..يضغط برجله على دواسة الوقود .. حتى يجعلها تلامس ارضية السيارة ..يديه تتسمران فوق المقود ..ونظراته تتمغنط فوق صلعة الضابط.. الكاوبوي الذي يلوك سجائره .. النظرات التي تحمل الكراهية خلقة ..

( الناصرة – 1978 – 12 – 12 )

هذه اولى القصص (وعلى الأغلب اول قصة) التي كتبت عن الانتفاضة البطولية للشعب الفلسطيني – شعبي -  ضد الاحتلال ، والتي اشتهرت باسم انتفاضة الحجارة . وكانت اول قصة اكتبها بعد انقطاع عن الكتابة الأدبية قاربت العشر سنين .. وقلت في مقابلة ادبية وقتها ان الانتفاضة فجرت صمتي واعادتني الى الابداع الأدبي .. - نبيل عودة

 

 

 

العبور*

(1)

 

لا تعرف ماذا حدث بالضبط. ولا الطريقة التي جرى بها الحادث . وهل كان يمكن ان تختلف الامور ؟ وما هي علاقة الاشياء ومؤثراتها ؟ وكيف وصلت الى هنا ؟ تحاول ان تكون صورة او فكرة . ربما تهذي .. وليس ما يمر في ذهنك الا صحوة الموت ؟ يقولون ان للموت صحوة يستعيد بها الانسان كامل وعيه للحظات . مجرد التفكير بصحوة الموت يطمئنك . الذي يواجه الموت لا يمكن ان يعرف او يفكر بشيء كصحوة الموت . ليندا قد تكون هي السبب ؟.. لو اخرتك قربها للحظات لاختلفت تطورات حياتك .. وليندا هي الشيء الذي تفتقده . . وربما تفتقد أشياء اخرى لم تتذكرها بعد ؟..كم من الوقت مضى على وجودك بهذه الحالة ؟ لو انك تستطيع فقط ان تحل العقد الصغيرة ..؟ كل ما تذكره انك كنت مع ليندا ..امرأة في جيل امك . . ولكنها كلحم العلب المحفوظ . . لا يطولها التغيير بسهولة . تركتها قبل ساعات .. عن اي يوم تتحدث ؟ وما هو تاريخ هذا اليوم ؟ هل مضت عليك ايام  هنا ؟وهنا ماذا تعني ؟ ما هو مضمونها ؟ ما هو اطارها ؟ هذه المجاهيل الصغيرة والبسيطة تضع سدا بينك وبين الحقيقة . الحقيقة هي ما يجيء بعد تعميرة مضبوطة . عندها تظهر الاشياء على بساطتها وحقيقتها . ابدا البساطة والحقيقة شيئان لا ينفردان ، على شرط ان يكون الانسطال قاعدة مشتركة لهما . سيجارة ملغومة قد تساعدك على التفكير . استنباط الواقع له اصوله . تسطيلة كيف درجة اخيرة تحل لك كل اسئلتك .. وعلى ابسط وجه . الان انت متأكد انك تعود الى وعيك . بدأت تفهم الحقائق الاساسية . ما زلت مؤهلا لمواصلة الحياة .. حتى وانت في وعيك لا تبعد عن الحقائق التي تكتشفها اثناء انسطالك . ليندا لا يكفها عشرة رجال ، وانت بعد تعميرة على الاصول افضل من عشرة رجال ..

لماذا انت هنا ؟ وهل حدث تطور ما دفع بك الى هذا المكان ؟ القاسم المشترك الأعظم لحالات الوعي او الانسطال التي تمر بها هو علامات السؤال المبحلقة بك من كل اتجاه . مضت فترة استسلمت بها لاغراء النوم .. ربما لزمن طويل .. ربما ليوم ؟ او ليومين ..؟ او لأكثر .. ؟ تغمض عينيك مرة اخرى .ان حساسيتك القوية لما يدور حولك ، وعجزك عن التعبير عن موقفك .. بل خوفك ، ضعفك النفسي ، ضعفك العصبي ، انهيار حبك الاول ، النكسة ، القلق المتصاعد ، اليأس ، مرارة أيامك والفراغ القاتل ، كل ذلك تجمع عليك في لحظة واحدة فلم تجد بدا من اختيار اسلوب التسطيل . من يستطيع ان يتهمك باللامبالاة ؟ لو وجدت الى اللامبالاة سبيلا لتغير نهج حياتك . هل حقا تود لو تغير نهج حياتك ؟ وهل تستطيع ان تبتعد عن جلسات الكيف المجنونة ؟ هل لديك القدرة على التغير ؟ حتى وانت تستطلع مستقبلك لا تكف عن طرح الأسئلة . لو انك قادر على تحليل واقعك ومستقبلك بدون اسئلة ؟.. ربما تخرج بنتيجة..؟ كل الاحداث التي تهز عالمك الفوقي تثيرك . حتى وانت في عز الانسطال . بل كثيرا ما دفعتك الاحداث المؤلمة الى نوبات عصبية لا علاج لها الا سيجارة ملغومة .. وبعدها كنت تشعر بالسعادة وتطرح القلق جانبا .بدأت التحشيش بعد نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث .ومن لا يعرفها ؟ دمرت كل ما بقي في نفسك من كبرياء . مزقت ظلالك الانسانية . حبست نفسك لأشهر طويلة في منزلك .. تبكي عربك .. وتبكي حبك الضائع .. ولم يخرجك من سجنك الا سيجارة ملغومة على الاصول ، اشعرتك بنوع من الراحة لم تعهدها منذ وقت طويل .. ووجدت الطريق سهلا .. دفنت كل ما بقي في نفسك من قلق في غرفة يكسو سقفها دخان ابيض ذو رائحة رائعة كالبخور . وارتبط مصيرك بشيء، اصبح لواقعك تبرير كاف في نظرك ، وجدت شيئا يسوى ان تعيش من اجله . وعندما حننت الى امرأة .. بعثت بك الجماعة ممثلا وسفير شرف فوق العادة عنها .. والتقيت بليندا .انتظرتها في نفس غرفة التسطيل .. اسمها الاصلي بحبوحة ، اسم غريب .. ولوضع الامور في نصابها ، او بمعنى اوضح .. لاعطاء صفة عصرية للجنس ، اختارت لها الجماعة اسم ليندا .. وبحبوحة هذه امرأة فقيرة .. دفع بها الفقر الى احضان عجوز نصف عاجز ، فقست منه ذكرين ..وهبط كليا .. وانطلقت هي وراء اللقمة لها ولزوجها ولولديهما ..

فتلقفتها الجماعة ، وجرى العرض والطلب ، بكل حرية ، سوق رأسمالية حرة ، لا احتكار من احد ، واصبحت الغرفة غرفة عمليات تجارية ، ترتفع فيها الاسعار وتنخفض ، بورصة من نوع خاص ، تكثر البضائع وتقل ، حسب ميزانية الزبون ، المهم ان لا يحتكر البضاعة احد .. ان يتمتع الجميع ..والدين ممنوع والرزق على الله ..!! هل توجد ابسط من هذه الحكاية ؟ انها تشبه حكايته اذا اخذناها من جانب آخر . هذه التفاصيل لا تقودك الى حقيقة وضعك  ..المهم ان تعرف اين انت وما الذي جاء بك الى هنا ، وما حدث لك بالضبط ؟

 

( 2 )

 

أخذت مجددا تحاول تدريج الاحداث في ذهنك . ما هو الأساسي وما هو غير الأساسي ؟ انت الان متأكد ان الموت بعيد عنك . البداية يجب ان تبدأ بشيء آخر . يحسن بك ان تتمهل قبل صياغة تسلسل الحدث الذي أوصلك الى هذا المكان المجهول شكلا ومضمونا . هل تبدأ من نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث ؟ أنت بهذا الشكل لن تصل الى الحقيقة . التفاصيل من ذلك التاريخ حتى يومنا هذا معدومة من ذهنك . آلام جدية تعيق عليك تفكيرك . لو انك تتمكن من العودة الى الوعي الكامل لفهمت كل الامور على حقيقتها . ربما غيابك المزمن عن الوعي جعل لغياب وعيك قوة استمرار ساحقة . هذه مأساة ان تحققت . . قد ترغب يوما بأن تبدأ حياتك من جديد ، بعيدا عن الغرفة والبخور وليندا .. ان تعبر هذه الفترة وتصل مستقبلك بالماضي الذي تعشقه .. كما تعشق اليوم سيجارة ملغومة .. او حقنة من مادة غير مغشوشة .. انت لم تعد تميز بين الافضليات . فكرك يموت وذهنك يتحجر . أنت بقية من العصر الحجري ... شبيه بالانسان .. ربما لست بشرا..؟

كيف تطورت الاحداث حتى وصلت الى هنا ؟ وهنا ماذا تعني ؟ ما هي مميزاتها ؟ ما الذي حدث لك ؟ لو انك تملك جوابا على هذه المسائل البسيطة لانحلت العقدة الكبيرة . هل تستطيع ان تسلسل الاحداث قبل ان تكتشف حقيقة المكان الذي انت فيه ؟ ربما انت ميت ، وما يمر بذهنك هو بعينه ما يواجهه الاموات ؟ لكن لا يمكن للميت ان يشعر بالاشياء التي حوله .. وربما يشعر ؟! انت مثلا تشعر بما حولك .. تشعر بانفاس أخرى .. بحركة دائمة ..وهذه الحقيقة لا تساعدك على فهم اي شيء !!.. كل ما هنالك انك تهذي وتعذب نفسك . . ورغم ذلك لا تستطيع الكف عن التساؤلات او الاسترسال وراء الصور الماضية .

هناك حقيقة واحدة تتذكرها ، ربما لاختلافها عن بقية أحداث حياتك .. لكن من التجني على الحقيقة أن ندمج كلمة أحداث بحياتك ، حياتك هي حدث واحد لا يتغير .. انسطال ليمتد محدود الضمان ، برأسمال قدره كتلة بحجم  حبة الزيتون ، تلغم بها السجائر ، او تعمر بها الجوزة ، او قنينة مكسورة العنق ، او حقنة من مادة مضمونة .. حسب النفسيات والظروف والطلب ..

ونعود الى الحدث الذي بدأ يداعب ذهنك .. قبل أن تفقد من جديد طرف الخيط .. رغم كثرة الضباب المحيط بالحدث نفسه ، الا انك  ترى الصورة الأساسية ... البلد كلها خرجت عن بكرة ابيها .. منظر لم يشهده في حياته .. لاول مرة منذ نكسة العرب الكبرى في العصر الحديث يشعر بسموه .. كان قد اخذ نفسين من زميل له .. لا اكثر ، وعيه نصف نصف ، ولكن الحدث كان اقوى حتى من الانسطال الكامل .. شعر بانسانيته بشكل صعب على التصديق .. لأول مرة منذ سنوات يشعر انه كائن بشري ..  حدث معه أمر عجيب.. نزل عليه شيء من الفضاء .. السعادة دغدغت كل اطرافه وهو يندمج بالسيل البشري الجارف .. سعادة ودموع وقوة .. تمنى ان يستمر هذا التدفق البشري الى ما لا نهاية .. شعر بمعنى ان يكون المخلوق انسانا . بح صوته وهو يهتف من اعماق اعماق نفسه ، كان يبكي بشكل يشعره بارتياح عظيم ، شعر بنظافة نفسية .. نظافة طال حنينه اليها .. منذ النكسة لم يحلم بلحظات كهذه ..

الآن تبدو له الاشياء مختلفة . العرب خرجوا من كل مكان وفي كل مكان ..  تبدو وكأنها مسيرة واحدة  عبر المدن والدول والقارات  .. كان وداعا لرجل واحد .. رغم النكسة ، كان المعبر الوحيد عن الجديد والنظيف في حياة الملايين ، هو الطريق الذي خرجوا لتأكيده في ظل العتمة والخوف .

يومها هاجم البوليس التيار الجارف من جميع الاتجاهات .. على امل ان يحصر المتظاهرين في منطقة صغيرة خوفا من وصولهم الى اكوام الحجارة ، او مخازن الاسلحة كما تسمى ، وهي ، لمن لا يعلم ، السلاح الوحيد المرخص به طبيعيا للعرب ، والوحيد الصالح للاستعمال في كل الظروف ، لا يطوله الفساد ، ولا يحتاج لصيانة ، ولا يمكن حجزه في مخازن الأسلحة ، والاهم انه السلاح الوحيد الذي يستطيعون ، ان ارادت السلطة او لم ترد ، التعلم على استعماله ، ونقصه الوحيد انه لا ينفع في اسقاط الطائرات .

اشتد يومها حصار الشرطة وبطشها لتفريق المسيرة العاصفة .. والمحاصرون ، المصرون على التظاهر ، لا يملكون الا ذخائر قليلة لا تفي بكسر الحصار .. ويومها تفتق عقله عن حل . هل كان مسطولا؟  أبدا . وجد الحل . هل يكون العكاويون اقل حذاقة من النصراويين الذين عملوها في ايار المشهور عام 1958 ؟

وماذا فعل أهل الناصرة  ؟

الحكاية ان الناصرة تزفتت شوارعها الرئيسية ، وشوارع بعض الاحياء أيضا ، بعد اول ايار 1958 .. والسبب بسيط ، استعمل يومها المتظاهرون في الناصرة بلاط الشوارع .. كانت فرق تقتلعه بمساعدة المفكات وقطع الحديد المختلفة ، وفرق تكسرة الى قطع ملائمة ، ويسلم جاهزا للاستعمال الى الشباب في المقدمة حيث يرشقون به كل ما يشتبه ان بوليسي .. . وخوفا من تكرار الحوادث  المشابهة ، ولتقليل كمية الذخائر المتوفرة للعرب ، بحيث تصبح غير كافية لخوض حرب حجرية – عصرية ، قررت السلطات يومها تقليع كل البلاط الذي رصف به الاتراك  شوارع الناصرة ، وتعبيد الطرق .. وهكذا ، كما تسجل في التاريخ .. تبدل بلاط شوارع الناصرة بالاسفلت الاسود العصري ، اما الاتربة فلا خطر منها ، فبقيت كما هي ..

 هذا هو قانون التطور الذي خدم العرب في اسرائيل في العديد من اتجاهاته .. اذن لماذا لا يفعلها العكاويون بعد 12 سنة ، والبلاط متوفر  والحصار شديد ؟

يا عرب ..

 

( 3 )

 

وكان ما كان .. خذوا الحكمة من افواه المساطيل .. الفرق صغير جدا بين المجانين و المساطيل .. كلهم يبتعدون عن الوعي .ما يميز المساطيل هو عودتهم للوعي بين وقت وآخر.

عقلك أصبح ثخينا . والبرهان انك لا تستطيع معرفة ماذا حدث لك ..؟ وكيف وقع الحادث ؟؟ تشعر بألم ودوخان وضيق في التنفس ... اعصابك مشدودة بتوتر شديد .. تريد سيجارة .. ولكنك لا تعرف كيف تحصل عليها .تريد ترويقة .. شمة عابرة .. شيء يريح اعصابك ..

لا لم يجر لك شيء في تلك المعركة . عدت تسطل بعد نصف يوم   . المهم انك صمدت هذه المدة الطويلة . بشارة خير فائدتها لم تجن . متى بدأت تفكر في العودة الى عالم الواقع ؟  هذا السؤال الوحيد الذي تستطيع ان تحدد له جوابا واضحا على نحو ما . حدث ذلك بعد ان "لمك " البوليس في مساء ذلك اليوم . جاء الى الغرفة "التجارية " .. قلوبكم تجمدت ، ولكنه لم يكثرث للرائحة الطيبة المنبعثة في فضاء الغرفة .. وللعيون نصف المغلقة ..  سحبوك الى مركز الشرطة بكامل وعيك .. وبكامل اعصابك .. فتعميرتك لم تكن قد حضرت بعد .

ساد الاعتقاد بان المخدرات هي السبب.. لذلك اسرعت جماعتك ، كما علمت فيما بعد ، بتنظيف الغرفة من الذخائر .. وفتح النوافذ للتهوئة ، وتعليق صور زعماء الدولة والحكومة على حيطان الغرفة ، استعدادا لما قد يأتي في اعقاب اعتقالك .. والاستعداد لمواجهة الموقف ببراءة يعجز عنها الاطفال .

رموك في غرفة قذرة ، وتركوك تتعذب حتى فجر اليوم التالي . لم يغمض لك جفن .تعترف انك ارهقت وارتعبت .. اولا ، انت حشاش قبض عليه متلبسا بالجرم  ،وكنت تظن ان الشرطة جمعت الأدلة الموجودة في الغرفة .. واعتقلت بقية الشلة ..  وثانيا ، وهذا الابلى ، اشتراكك الفعال في مظاهرة الأمس .. ودورك الطليعي في الوصول الى سلاح فعال لم يؤخد من جانب البوليس بالحسبان  . حقا هو سلاح قديم ، سلاح الفقراء والمظلومين .. سلاح حجري في عصر الفضاء ،  ضم اليه بلاط الشوارع ، الذي لم يفكر فيه بوليس عكا من قبل ، على اعتبار ان عكا بعيدة عن الناصرة .

في الفجر قادك شرطيان الى غرفة الشاويش . كل ما استحوذ على ذهنك هو شيء تسكن به اعصابك .. سيجارة بنت اصول .. مهدئات .. المهم ان تعود لهدوئك .كل ما تتذكره ان الشاويش قدم لك سيجارة لم تستطع ان ترفضها . . ثم وضع علبته تحت تصرفك ..كان وجهه ضحوكا ، ينظر اليك من فوق أنفه ، وكرشه الكبيرة تتكئ على  الطاولة .. وأنفه الافطس قليلا ضخم وأحمر للغاية ..يلوح من بين عينية كالبيرق .. او .. كتمت ابتسامة كادت تفضحك ، اذ ذكرك الأنف الافطس  بشيء يحمله الجحش ، فكدت تضحك .. كان يتكلم العربية بثقة ، رغم انه يشوهها باخطائه التي لا تحصى ،ومما قاله تتذكر :

-نحن لا نريد ان نسبب لك المشاكل .. لا نريد ان نؤخرك عن أصحابك .. نحن نعرف كل شيء عنك وعنهم .. لا تنكر .. كن معنا نكن معك يا حبيبي .. انت انسان واع ( كدت تضحك مرة أخرى ) .. لماذا اشتركت مع الشيوعيين في رمينا بالحجارة ؟ هذه اجرتنا لاننا لا نتدخل في شؤونك ؟ انت تفهم ما اعني .. اريدك ان تبقى عاقلا .. ان تعاوننا .. من الذي حرضك على الاشتراك بالمظاهرة ؟.. من قال لك ان ترمي الحجارة ؟ ومن هم المنظمون ؟.. ومن اعتدى على الشرطي شمعون ؟.. من حشرة داخل برميل الزبالة ؟ تكلم يا حبيبي .. ساعدنا لنساعدك ..

بعد ان استعصى فك لسانك ضربت بالعصي حتى الاغماء .. ثم حررت .. وفهمت ان اعتقالك لا جدوى منه لأنك لا تتعامل بالسياسة .. انجرفت مع "القطيع" .. وهي حالة نادرة مع امثالك .. والدرس الذي لقنوك اياه مع وسائل الايضاح التي كسرت اضلاعك  ولونت جسدك بالكدمات الكحلية ، ستبقى ماثلة ان شاء الله لكل العمر .. الحساب معك انتهى !!

وعدت الى الاصحاب .. حدثتهم بما حصل فاطمأنوا الى  وضعهم وأمنهم . أما أنت فشعرت بتفاهتك وحقارة حياتك . وتنامى حقدك وغثيانك من واقعك .. حقا لم ينجحوا بفك عقدة لسانك .. مما يشعرك ببعض الكرامة والزهو ، ولكن حالتك لا تبعث على الزهو ، ولا شيء من الكرامة فيما تمارسه .. لا شيء انساني في حياتك التافهة ، تعرف ذلك ، تثور نفسك ، وتدخل الى متاهات لا نهاية لها  .. وتتخلص من عذابك بالانسطال .. المهرب المضمون من وعيك ومتاهات نفسك  .. كنت تتذكر حالة التجلي مع الجماهير .. تطمع بالتخلص من واقعك  ، فلا تجد الجرأة ، وفي لحظات وعيك القليلة تبكي حنينا الى حياة نظيفة .. ثم تتخلص من وجع فكرك بالانسطال من جديد . ربما كان يجب ان يحدث ما هو  أكبر ، ما هو أخطر .. حتى تستطيع العودة الى اصولك الانسانية . يجب ان تعود . . حقيقة تكبر في داخلك ، تشتد في ضغطها على ذهنك ... تستعيد لحظات التكاتف مع الرجال .. الصوت الواحد .. القدم الواحدة .. الساعد الواحد .. للآلاف .. للملايين .. كيف لا تصير من هذا التيار ؟.. كيف لا تعود .. الى انسانيتك  ؟ فقط ان تضع قدمك على اول الطريق .. وستواصل وحدك ؟.. حقا ؟!

( 4 )

 

وسرعان ما عدت الى الاستسلام .. وعادت الايام الى طبيعتها الخاملة ..تقضيها غائبا عن عالمك ، او بين احضان ليندا .

الجديد الذي حصل هو كثرة العودة لصراع افكارك بين الدفع للعبور فوق واقع التسطيل ، لربط مستقبلك بما انقطع من ماضيك ، وبين الاستمرار فيما أنت فيه .. أما أفضل جواب لديك ، فبقي كما كان .. رغبات تدفنها عميقا في نفسك .. افكار تقمعها  بالسموم .. نوايا تعذبك فتهرب منها الى احضان ليندا ...

 

( 5 )

 

تشعر الان انك تسيطر على افكارك بصورة افضل ، أصبح هناك تسلسل منطقي ، لكن ليتك تستطيع ان تسلسل الأحداث الأخيرة التي قادتك الى هنا .يبدو ان بعض الظلال تخترق فكرك المتحجر . المخدرات تركت أثرها عليك ،، ومع ذلك لم تستطع فراقها . هي الحبيبة ، هي الحياة ، هي الخبز ، لو أخرتك ليندا لما حدث لك هذا .. ولكن لماذا حدث ؟ الآن تلمس جيدا ، او هذا ما تريد ان تتصوره ، ان هذه الاسئلة تقودك الى سيل الرجال الجارف . الى الحجارة والبلاط المقتلع .. الى الانعتاق الانساني . الانعتاق الذاتي . التحرر من الخوف . امتلاك الارادة . الرؤية الضميرية ، . والتصرف بما يمليه الضمير .. الى التفجر الذي يجيء بعد الكبت الطويل . الى التنفس بحرية من الهواء الطلق  .. الهواء المعطر بعرق الرجال . الى الارتباط بشيء له معنى .له واقع . له اطار . له مضمون . الى شيء ربطك وانت في مطلع شبابك بقضية كبيرة احببتها .ولكنك خفت ان تجاهر بها . خاف والدك على وظيفته ، وخافت امك على وظيفة زوجها .. وخافت عائلتك عليك .. الخوف هو الذي جعلك مسطولا حتى في وعيك .. مجتمعك كله كان مسطولا ..  لولا الخوف لكنت شيئا آخر ..  وفي نفس الوقت انت لا تريد الابتعاد عن غرفة المواهب وليندا . . والصراع هو بين لذة الوعي والعمل في سبيل شيء واضح ، وبين لذة الانسطال والتحليق في فضاءات واسعة ممتدة . لو تأخرت قرب ليندا لتغير وضعك الآن .

شيء غريب شد أفكارك ووعيك .. يبدو انك اكتشفت طرف الخيط . كنت نصف نصف .. ليندا كانت خائفة  وتريد العودة الى ولديها . قالت ان الحرب اشتعلت . لم تفهم شيئا.

-العرب هجموا..

-وانا سأهجم عليك ..

-اريد ان ارجع الى الاولاد .. سيرتعبون .. انا خائفة عليهم .

هل تتحدث هذه المرأة بعقل ؟ حرب ؟ حتى ليندا تفكر وتخاف على شيء تملكه .. اولادها ؟ من أجلهم هي هنا ؟!.. وانتم .. كلكم .. حيوانات .. كيف لم تكتشفوا ذلك من قبل ؟ كيف لم تفكر انها انسانة الا الآن ؟ والقلق الذي يعلو وجهها ..؟ والرجاء المنطلق من عينيها .. تخاف ان تخسر رزقها .. رزقها المجبول بنذالتكم .. انها اشرف منك .. اشرف منكم .. اشرف من عائلتك .. اشرف من مجتمعك .. تعطي نفسها حتى لا يجوع ولديها .. يا لهول ما يعتريك .. هل هي صحوة ضمير  ؟.. صحوة الانسان المخبول في داخلك ؟

بردت كل اعصابك بشكل فجائي لم تعهده من قبل .. وسألتها ان كانت قصة الحرب جدية ؟ قالت امورا صعبة على التصديق .. لم تستوعب كل ما قالته .. هل يعقل ان يتعلم العرب الهجوم ؟ خافت منك .. لا تعرفك الا مسطولا .. اما ان تطرح سؤالا جديا .. ان تهتم بمسألة فوقية كهذه ؟.. هذا تغيير مقلق .. بل مرعب بالنسبة لها .

تراجعت خوفا منك واخذت تتعرى بيأس وخوف ، وطبقة من الدموع تطلي عينيها .

-ارتدي ثيابك .

امرتها بشكل جعلها تطمئن قليلا . امرأة لا مورد لها .. تعيل طفلين وزوجا مقعدا .. والحيوانات أمثالك تستغلها ..؟ وأنت بالذات كيف قبلت ؟اين كان ضميرك ؟ سؤال مضحك عن الضمير .الضمير هو اول من ينسطل .. حتى بدون مخدرات . وبعد ذلك تجيء التطورات .. فينسطل ما بقي من فكر ووعي .. وكلها اسماء لشيء واحد هو العقل . وصحوات العقل كثيرة ، ولكنه مسطول من كثرة الراحة والخمول .وهو قليلا ما يصلح للاستعمال . ولكنه أحيانا يرتكب نوادر غريبة . ينشط ويثير أسئلة وأجوبة .. ويعذبك حتى تنسطل وتسطله معك . حكاية معروفة تتكرر . والآن تشعر ان صحوته لن تمر على خير .ربما في اعماق نفسك لا تريده ان يعود الى خموله . وهناك سبب كاف . . القرف والجريمة والنذالة التي تنكشف امامك  .. استمتاعكم بمآسي غيركم .. وحنينك لان تصبح وتبقى ابدا واحدا من الرجال الذين عرفتهم في اعظم مسيرة في التاريخين القديم والحديث .. ان يكون لك اطار ومضمون .. انت بحاجة فقط الى المساعدة .. لا تعرف كيف تحصل عليها .. هل انت مسطول الآن ام في قمة وعيك ؟ وما هو التطور الذي جعلك ترقد هنا ؟ والآلام العنيفة التي تجتاحك ؟  والعرق الذي يغمرك ؟ وأعصابك المشدودة المتوترة ؟ الان تتكون في ذهنك تفاصيل اكثر وضوحا .. ما مضى من وقت هو اقل من ساعتين .. ومن اين لك ذلك ؟ .. ربما مضت عليك ايام .. فالصدمة كانت من القوة بحيث دحرجتك عدة امتار فوق الاسفلت الاسود .. الان تعرف سبب الألم .. انت لست بخائف .. المهم انك بدأت .. وعليك ان تواصل .. ان تصمد !! هل ستفعلها ؟؟

 

( 6 )

 

لم تكن قد كونت فكرة كاملة عن الخبر الذي نقلته لك ليندا .. ولكنه جعلك متسمرا ، متعلقا بين الخوف من الماضي الذي لا يزال يعذبك ، ومتعشقا للجديد الذي ان حدث كما تريد فقد ينقذك . ربما تتعلق بالاوهام .. انت تقر بضعفك .. اذ لولا ضعفك ما وصلت الى المخدرات .تركت ليندا وخرجت . الان تعلم انه لا ذنب لها بما حدث . عند اول مقهى وقفت تلتقط السمع ..  وجوه الناس متغيرة ، شيء جديد توحي به الوجوه  .. او ربما نظرتك بوعي الى الوجوه هي سبب التغير الذي تلحظه وتحس به ؟.. الهدوء غريب ، ولكن الاغرب هي الثقة التي يتحدث بها الناس . هل حدث كل هذا في لحظات ؟ اين كنت انت ؟ في اي كهف اعتزلت ؟

كان جهاز الراديو يبث من كل موجاته ومحطاته موسيقى عسكرية واناشيد . . والناس يملؤهم الهدوء والثقة . هل اصبحوا مساطيل بعد ان عدت انت الى وعيك ؟ غريب ما يحدث .. الجو مشحون بخبر لم تعه على حقيقته  بعد سمعته مقطعا من مصدر غير مؤهل .. من ليندا .... تنتظر كلمة من المذياع لتفهم ما يجري .. تتذكر الاجواء بعد النكسة ،ايام ذل لا تنسى ، تتذكر الاحباط الشامل والشعور بالضياع ، تتذكر العار الذي اغرقك واغرق الناس ، تتذكر الالم غير الانساني الذي مزقكم ومزق احلامكم وقهركم واحالكم الى اشخاص بلا قيمة ..  هل نسي الناس النكسة ؟.. هل حقا تكفي سنوات ست لتغيير  الحال من ضياع الى أمل ؟ من عار الى فخر ؟  الثقة التي تملأ وجوه الناس ، ونظراتها التي تلمع بصمت  ، مشاعر غريبة وتبعث على الرهبة .. أمر جلل قد وقع ..  وترامى اليك صوت المذيع ..  حتى الصوت يختلف عما تعودت على سماعه منذ النكسة .. والقوة بالتعابير عبر الأثير لها طعم لم تعهده من قبل .. هل نمت كل هذه المدة ، فلم تلحظ التغيير من اوله ؟ ام ان التغيير كان فجائيا ؟ الجميع يتصرفون وكأن شيئا لم يحدث . وكأن ما يذاع هي مجرد تمثيلية.. وها هم يقفون تحت الشمس لتكشفهم . يخرجون الى الضوء باعتزاز ..وسمعت احدهم يهمس في اذن زميله ضاحكا :

-لم اعد شقفة عربي .. اصبحت من اليوم عربيا كاملا!!

تريد ان تقول له كلمة .. ولكنك تخاف ان تقولها .. لم تتعود ان تتكلم وانت في وعيك .. ويقطع صوت المذيع ما انت فيه من حيرة وشوق للفهم :

-عبرت قواتنا قنال السويس واحتلت خط بارليف ..

شيء يجعلك تقفز كالمجنون داخل المقهى .. تنظر بانبهار للناس .. تشعر بالانفاس المتهدجة حولك .. تشعر بانسطال حقيقي لم تعهده من قبل ابدا .انت الان تحلق .. العيون ترميك بنظرات الريبة .. كل تلك السنين لم تعلمك اصول التصرف ؟ السؤال واضح . بل هو مكتوب على ثنيات الوجوه . . وفي نظرات الاعين .. وعلى الشفاه التي تحبس الابتسامات .. اثارك جمودهم .. ربما ما يسمى بالعقل عندك لم يعد سليما ؟ نظرت اليهم تريد ان تعانقهم فردا فردا .ربما لم يفهموا الحدث .. الا يذكرون العار الذي خردقهم قبل ست سنوات ؟ لقد عبرناه .. وبدون وعي تعالى صراخك :

-عبروا !!

 انت الذي عبرت واقعك ويأسك . وانطلقت في الشارع . لا شك ان الانسطال المزمن ترك اثره على تفكيرك وتصرفاتك . كنت تصرخ بفرح .. أشياء مفهومة وأشياء لا معنى لها .. كانت السعادة أكبر من حجمك ومن عقلك ومن طاقتك .. حتى عندما رأيت سيارة الشرطة لم يهتز لك رمش .. صرخت بهم :

-عبروا..

واندفعت أمامهم . طاردوك . ركضت .. واجهدك العرق وبح صوتك وانت تصرخ :

-عبروا.. 

وغمرتك الراحة والسعادة .. وشعرت بانسانيتك تتجلى .. تسمو الى الآفاق ..

- عبروا...

لم تلتفت للخلف .. واصلت الصراخ بفرح .. فرح تحررك من واقعك .. فرح العودة الى اصولك . فرحة الانسان الذي وصل بر الامان بعد معاناة مع البحر الهائج المائج . . انت الان تعبر معهم .. انت تحلق بعيدا بعيدا في الفضاء ..

وبعد .. صدمتك سيارة .. على الاغلب سيارة الشرطة. فتدحرجت على الاسفلت ، انت وافكارك وصراخك ، يجمعكم رابط الفرح والألم .

وها انت تستعيد وعيك . كم مضى عليك هنا ؟ هل هذا مستشفى ؟ .. سجن .. ؟ او كلاهما معا .. ؟

ولكن هل ستصمد ؟ وارتسمت ابتسامة كبيرة فوق شفتيك .. ورفعت قبضتك .. وصحت من اعماق روحك :

-عبروا !!

كتبت هذه القصة بمناسبة ذكرى السنة الميلادية الاولى لحرب رمضان والغفران  ( 1974)

 

 

 

  نهاية الزمن العاقر*

دوامة

 

مضى عقدان من الزمن وبطنها قاحل .تناثرت الاقاويل وكثر التساؤل .صارت في الحلق غصة ، في جمال الحياة كدر، في صفاء الجو غيوم ، في هدؤ البال توتر، في نظرات الناس حدة.

وهيب زوجها .. يعود من عمله ولا يبخل على زوجته، يراوده الأمل. كل عسر يلية يسر ، لطفك يا ملطف ، والثمر يمتنع ، والنوار لا يبان ، العود اجرد .

يبتهل بحرارة لمن في يده الحل والربط . يتعامل مع ضغط الأيام ، يهرب من ضغط الألسن .ما بقي صاحب ضريح الا ووصلته حصته . عدل في الزكاة وزاد .لف على الوسطاء والمشعوذين . . حتى كاد يطق من التجوال .

قالوا انها مصابة بالعين . سلسلوا الحكاية من وقت تعارفهم فوجدوا الف سبب، وما نفعت الحجب في هزم اي سبب. أخذها عند احسن الشيخات ، بعد عجز الأطباء الواضح . ما بقي طقس بلا تجريب . بشروه بالخير ، وبقي العسر ماسك .

احتارت نفسه ، اجتنب الناس ابتعادا عن تساؤلاتهم . عيونهم فيها غمز . . تساؤلاتهم تفجر غضبه .

يسرك يا رب .. هل يطلق من داخ في حبها ؟! ايتخلى عمن مات صبابة في القرب منها ؟! أيبتعد عن التي يسرح وجدانه كلما قربها لنفسه ؟! عشرون سنة من الاندماج الحسي والذوبان العاطفي تنتهي بكلمة غبية ؟! آه من غدر الايام وخيانة القلوب .. آه من شطحات العقل .

عشرون سنة من اندماج الذاتين في ذات واحدة. يرفض التشاؤم ، يقاوم سوداويته ، ينتظر البشارة بصبر ، يلتزم بأمله ، يناجي احلامه ، يواسي نفسه بالصبر ، وينتظر الخبر الممتنع ... يترصد الحلم الذي لا يجيء.

قالوا : " الصبر ثم الصبر " فاحتار ، حتى متى الصبر ؟! " الصبر سلاح المؤمن المتيقن !" اما الايمان فالحمد لله ، ولكن اليقين معدوم .. والاحساس بالخسارة مرير .

تتوالى الأيام ، تتناثر الآمال ، يتوالى الحديث ، تتلى الحكايات ، يتجدد الأمل ، يتبدد الأمل ، يتعلق بحبال الامنيات ، ينال منه اليأس ، يوغل في الأمل ، يتحلى بالصبر ، ينهزم اليأس... هذه طبيعة النفس البشرية ، مترددة ، متقلبة ، ولكنها على العموم تتفاءل بالخير ، تطفح بالامل وهي في ذروة العسر والامتناع .

كان محتارا في نصيبه ، يحاول ان يفهم الحكمة في قدره ، يقوى يقينه ان يكون فرج بعد شدة ، فرح بعد صبر ، طفل بعد انتظار ، لا بأس بطفلة ...

عقدان كاملان لا يعرف كيف عبرهما . عشرون طويلة بأيامها .. حتى الصبر صار علقما . ثبت في طريق الأمل ولا يزال . كانت تشعر برغبة زوجها ، يسود عالمها من عجزها البين في تطييب خاطره .كان حبيب نفسها ، يحزنها صمته .. وكثيرا ما رجته ان يطلقها ، او ان يأخذ عليها  زوجة اخرى تحقق له ما تصبو اليه نفسه .. تعطية من بذره ثمرة .

رفض كلامها وزجرها . ابدى لها من العشق ما حيرها في امرها ، وزاد من شعورها بالنقص والتقصير . لم يوفر جهدا في اظهار حبه . كان يطمئنها بحنانه الطافح ، وترتاح لعواطفه الجياشة ، ويمنحها من عناده  بصمت وصبر ، مددا يشد ازرها ويجدد الأمل في نفسها .

 

عناد

 

قالوا انها مرعوبة ، مدد من الرعب .فاحتار في الصلة بين ارتعابها وعقرها . وهل يبقى الرعب قائما عشرين حول ؟ قالوا لا يحل رعبها الا امر بيد الخالق . . فاحتار في تأويل شكل الامر ؟ ومتى يحين وقته ؟متى يحل لطفه ؟وهل سينتظر فوق العشرين سنة ؟ان الزمن يهرب من بين يديه ، والمرأه حين يتقدم بها العمر تصبح كالارض الصحراوية ، زرعها لا يؤتي ثمرا .. والسماد كالزبد يذهب جفاء.

فكره مشغول بها كل نهاره ، تعذبه المعضلة ، يضنيه الأمل ، ولا يرى حياته بدونها ، يرتاح لحبها ووجودها بقربه ، ينفر من دنياه اذا ابتعدت بالخيال عنه ، يرتعب من احلامه اذا خلت من طلعتها ، تتسامى ذاته بقربها ، يتجدد عزمه بعناقها .وكانت تحمل له من المشاعر على الاقل مثلما يحمل .تبتهل لربها ان يبعد بغتات الأقدار ، ان يطيب خاطر رجلها بعد صبره الطويل ، تنؤ بثقل عجزها ، ما هي خطيئتها ؟ تتعامل مع الواقع بنفور ، تهرب من الناس ، تسر لكل طفل تراه ، وتبكي حظها بحرقة .

 

ظهور البلية

 

تزوجا قبل دخول الاحتلال بليلة واحدة ، فحلت دخلتهما مع دخلته ،وحاذت نكستهما نكسة عربهم .قضيا اسبوعا قاسيا ، تشردا في الخلاء هربا من القتال الذي حاذى قريتهما . البيانات المذاعة اوصلتهما لوطنهما السليب ، وحقيقة ما جرى اذهلهما ، شملتهما الصدمة ، اغرقهما العار ، واهاجت الذكريات رعبهما ، وهو ايضا ارتعب ، البلد كلها ارتعبت ،مدد من الخوف والرعب ،طوفان من العار ، تناثرت احلامهما، وانقلبت موازين الواقع وحدوده ، وتاه الادراك . اعتراهما اليأس ،واجها واقعهما اشبه بالضائعين ، توجسا من ظواهر الاشياء ، وحذرا بواطنها ... ومرت الايام ، وبدا الناس يعتادون على الواقع الغريب ... واستحوذت عليهما مشكلتهما، وولت العشرون سنة ، يصعب عليه تصديق ذلك . عشرون عاما ؟!كيف مرت بغفلة من الزمن ؟! فقط بالأمس جرت المعركة هنا ، بمحاذاة القرية ، وقبل ذلك باسابيع كان يلاحقها بشوارع القرية وحاراتها ويبث لها  لواعج عشقه وغرامه . لا يزال يشعر برعشة الحب الاولى ، بتوتر العناق الاول . عشرون عاما لم يفكر بما يحيطه عداها ، لم يقف على شواهد الأحداث . يتأمل ما عاناه من وحشة ، ويتذكر صبره الطويل الممتد حتى الساعة . يكره تلك الأيام ، حتى لو لم تكن السبب في معاناته . وبرأسه هدف لا يمل من السعي نحوه . لا يفرط بحبه ، يواسي المها الواضح ، يحنو عليها ، ينسيها قساوة القدر ، عبء المعاناة ، جهد الصبر .

 

دخائل

 

-انت حبي ، انت عالمي .. بدونك اذوى .

كان لا يمل من بث لواعجه ، لم يخدعها بحقيقة مشاعره ، حبه لها اصيل ، ظلالها مطبوعة في نفسه ، رحيقها يسري في دمه سلسبيلا ، وامنيته بطفل من صلبه تتلاشى حين يحتضنها . وهي تضطرب وكأنها المرة الاولى ، تصمت مصغية الى دبيب انفاسه ، حيرتها تعذبها ، عجزها عن تحقيق امنيته يشعرها بالخذلان ، يتفجر الدمع من مقلتيها ، ولا تنسى نفسها الا حين يلج جسده بجسدها ، فتصل لقمة نشوتها ، فترجوه ان يأخذ عليها من تستطيع تحقيق امنيته ، فيردها خائبة :

-تطلبين البعد وانت في قمة القرب ؟

-أشعر بالخيبة والقصور .

-ما عليك ، الموضوع يخصني فلا تلجيه .

-ويخصني .

احتضنها بقوة ، ضغط عظامها بين ذراعيه ، ضغطت بأسنانها على شفتيها متحملة لذة الاحتضان ، وهمس باذنها :

-حبي لك هو الجذور ، انا احبك لنفسك ، لذاتك ، أحببتك لأنك انت ، لا تخلطي بين مشكلة الحبل وحبنا ، حبنا قدس الاقداس ، فهمت ؟

شهقت والتفتت اليه بدموع ملء وجهها :

-اكره نفسي لعجزي ، اريد ان اعطيك شرف الابوة ، الرجولة تكتمل بالابوة .

أصمتها بقبلة وهمس باذنها :

- انت دنياي ولا يهمني بعدك شيء.. لا الرجولة ولا الابوة ..

فتحت فمها لتقول شيئا فزجرها :

-اصمتي ولا تعكري ليلتي .

 

سطوع الأمل

 

يرنو اليها خلال تجوالهم بين العيادات ، يرى تنامي قنوطها ،  واكتمال تصميمها . يحاول ان يرى حياته بدونها ، فيعصره الالم . تتسرب الشفقة الى نفسه ، يود لو يحتويها بذراعيه ، خوفا من فقدانها ولو بالتأمل .

صرف كل ما طالته يده من ثروة ، كان الكلام يبعث الأمل ، يجدد الحوافز ، والواقع الملموس يبدد ما يتجدد من امل . ولكن ما دام هناك بصيص من نور في كلام الأطباء ، فالتعلق واجب . حلاوة الكلام تطرب . شرحوا لهما امورا لم يدركا كنهها ، لم يفقها مضمونها ، انما بهرهما اطارها . تلاشى التشاؤم وبدأت دغدغة الأمل من جديد . وللحق نقول ان وهيب ما زال حائرا بين حلاوة الكلام وصعوبة التصديق . اعتاد على الفشل .عشرون عاما من المحاولات ، عشرون عاما من الأمل المتجدد والفشل المتكرر . لكنهم اليوم يتحدثون عن مشكلة معروفة علميا ، وطريق مجربة ، وأمل كبير ، والنفس طافحة بالرغبات ، والحياة بلا أمل مستحيلة . لم يخبرهما احد ان العجيبة ستحدث .. تلك كانت ايام المسيح وقد ولت . قالوا نجرب ، نحن متأكدون من النجاح .عاد الأمل ينبض بقوة ، تجدد الشباب .

الانسان موضوع محير . عشرون عاما من التعثر وراء الآمال ، تلاشت بعد سماع كلمة حلوة مبشرة . رب يسر ولا تعسر ، اعطنا من لدنك قوة ، لا تزغ قلوبنا ، هبنا من رحمتك وصبرك ، رب تمم بخير .

ترى ما يدفع الانسان للأخذ بالتفاؤل والدلائل تعطي النقيض ؟ الأمل الجديد شحنه طاقة ، مده بالصبر ، حرك احلاما قديمة ، هاجت نفسه بلواعج الحب وماجت بالحنان .

أيجوز ان يكون لقيام الساعة ليلة دخلتهم ، سبب لما هما فيه ؟

كان يرتقب اجوبة الفحص الاخير مشدود الأعصاب ، محاولا التمسك بهدؤه النفسي ، متيقظا الا يشعر زوجته بصدمته فيما لو ظهرت النتائج سلبية . وكانت هي الأخرى تنتظر النتيجة وكأنها قرار المصير ، الاعدام او الحياة . اعصابها متوترة مشدودة ، تحبس دموعها عنوة ... تتمنى ان يتجمد الوقت بحيث لا تحل ساعة الصفر ، تعاني من ثقل الدقائق ، ويتضخم الوقت في مشاعرها ، تهرب نظراتها من نظرات زوجها ، تعرف ما يعتمل بنفسه ، ولا يخدعها المظهر. منذ دخل الاحتلال في ليلة دخلتهم وهي تعيش هواجسها ومخاوفها ، تصارع مصيبتها ، ترزح تحت ارزاء عجزها ، تلوك الألسن سيرة جفافها ، لا تعرف ما الصلة بين عقرها وبين الاحتلال ، لا شك طالع نحس . سرقتها هواجسها من الزمن ومدت بها بعيدا ولم تنتبه على نفسها الا وزوجها يضمها كالمجنون صارخا :

-المعجزة !!

 

اول الغيث قطرة

 

حامل ... لهذه الكلمة اكثر من معنى ، ولها اكثر من نتيجة ، تشمل اكثر من افق ، تتسع لعالم كامل متكامل من المشاعر والرغبات والاحلام والانبعاث والتجدد ، هذه الكلمة قلبت كل نظام حياتها ، أعطت لعالمها رونقا جديدا ، ربما  لأول مرة تضحك على  راحتها .. وليس مجاملة . لأول مرة تسابق جاراتها لالقاء تحية الصباح ، ودعوتهن لفنجان قهوة الصبح . بدأت تلمس انها تعيش في عالم مليء بالقيم  والعلاقات ، اين تاهت كل هذه السنين ؟ كيف لم تشعر بما يدور حولها ؟ هل حقا ما زال الاحتلال قائما ؟ لا تعرف لماذا ارتبط الاحتلال بما مر عليها . أبسبب المعاناة الخاصة التي جاءتها بعد الاحتلال ؟ كم يؤلمها سقوط الضحايا من الطلاب والطالبات ، قد يكون الدم النازف دم ابنها ، قد يكون دمها نفسها ، ترتبك سعادتها ، تخاف على جنينها ، يقلقها مستقبله . متى يتغير هذا العالم ؟ متى يتجدد ؟

كانت الحركة تزداد في احشائها . الفحوصات الطبية تؤكد ان الجنين يتطور بشكل ممتاز .بهرها ضوء ساطع .هزتها السعادة ، وزغردت فرحا ، ومن وجنتيها سطع الق الرضاء . اعطنا من يسرك خيرا ، بشرنا بالغيث ، وخذ عنا الغرباء ، ومدنا بلطفك ، مدد من خيرك ، ادحر الآثمين القاتلين ، قو سواعد شبابنا ، قو يقينهم ، مد لهم العون في وقت الشدة ، والأزر في وقت الضيق ، نور دربهم ، صوب خطاهم ، واشملهم بعطفك في هذا الزمن الخائن .

 

القيامة

 

منذ اسبوع ولجت شهرها . اصبحت السعادة قرينة الغد .تعجلتها . احتارت كيف تكون مشاعرها يوم استقبال طفلها . واضطربت لما تسمعه من احداث وحشية .هزها القتل المتعمد .

زوجها الزمها البيت خوفا من حادث طارئ ، بعد انتظار مرير ، حديث الجارات يثير الرعشة والحماس ، هل كانت تزجر طفلها لو انضم مع اترابه في تحدي العساكر ؟ تناقض صريح وهواجس محيرة .أمس انفجرت الاحداث قرب حارتهم ، كانت تتعجل الأيام خوفا من مكروه يفقدها صبر عشرين سنة . هل تستطيع ان تواصل الحياة اذا حدث ما يفقدها كنزها ؟ زوجها منذ اسبوعين لا يخرج للعمل ، احاديث كثيرة يتبادلها الرجال ، الحركة حولها تتدفق ، والحرارة تتفجر ، الحماس يتلاقى مع الانفعال ، وهي كالمحتفى بهم ، مكرمة مدللة مستريحة . احيانا يراودها تمرد لما يطولها من دلال ومن راحة . ولكنها تخاف حقا على حملها الثمين . الأحاديث المنقولة تؤججها حماسة . ترى متى تحل اللحظة ؟ متى يزغرد قلبها فرحا ؟ تتحرك اشجانها مع ورود اسماء الشهداء .. لو رزقت من وقته بطفل لكان من  نفس عمر الشهداء . يغمرها حس عارم انهم ابنائها . تفيض برغبة في المساهمة بالاحداث ، الحركة تنبئ بقرب اللحظة . زوجها بات يدور في فلك البيت ، ممغنط في انتظار اللحظة ، تتسرب منه ايماءات واشارات واستفسارات صامتة. تطمئنه بنظرة رقيقة دالة . لا يهدأ باله ، كيف يهدأ بال من خاض اللجة على جبهتين ؟ الزوجة والاحتلال ؟ الاحتلال سيصير زمنا مندثرا ، الاطفال جعلوه سخرية القدر . هل سيرزق ذكرا ، وهل سيمتد الوقت مع الزمن السيء بحيث يكبر طفله والدنيا على ما هي عليه ؟

تخيلت طفلها يقذف حجرا . . فأطربتها الفكرة . . فولجت فيها حتى نهايتها . رأت نفسها تجمع الحجارة  لأطفال الحارة ، تواجه البطش ، تتحدى الرصاص ، تتلقى ضربات العصي ، تتكسر العصي ولا تركع ، وحركة الجنين تنقلها للعالم الملموس .. شيء يكاد يمزق احشائها ... فتصرخ مرعوبة من الآلم .

 

يا ملطف

 

كانت زوجة وهيب حديث الحارة ، والجارات كالعادة يتناقلن آخر الاخبار مع رشفات قهوة الصباح ، ولكن اخبار هذا الصباح خلت من حكايات الانتفاضة ، او ربما هي انتفاضة من نوع جديد ، او الوجه الآخر ..

-رب تمم ولادتها بخير .

-جاءها المخاض في عز منع التجول ، فهربوها من الحقول .

-رب لا تضيع رجاء سنين .

-يقولون ان العساكر انتبهوا ؟

-رب لا تضيع رجاء ولا تخيب املا.

-ولكنهم نجحوا بالتسلل.

-هاجم الشباب الدورية بالحجارة .. فالهوها .

-رب تمم بخير .

-لا تحرمها من فلذة كبدها بعد صبر عشرين عاما .

-ستلد ابنا ذكرا ان شاء الله .

-ساوزع الحلوى اذا رزقت بابن .

-سأوزعها حتى لو رزقت ببنت .

-بعد عشين سنة تلد بنتا ؟

همرت بها الجارات ، فنكست عينيها غير متنازلة عن رأيها ، انما لحظة حتى تعبر همرة الاحتجاج ..

-المهم ان تلد

-ان ينتهي العقر .

-لطفك يا ملطف .

-لولادتها سيكون وقع خاص .

-ولادتها خير لنا جميعا.

-خير لنا وعلينا .

-رب تمم بخير.

-رب لا تضيع تعب أحد .

 

تجلي العصر

 

تهيب وهيب من طول الانتظار واكتأب . غلفته افكاره بشباكها حتى لم يعد يشعر بمن حوله .ضغطته موجة من التخيلات . اصابه شطط ، وتاه وراء المبتدأ ، وافتقد الخبر . وغاص في دوامة الاكتئاب. الضجيج في الرواق الممتد شديد ، عشرات السائلين الباحثين عن مصائر ابنائهم . ايكون قد تبلد ؟ ايكون قد فقد حسه الانساني ؟ اعتراه رفض ... وانتفض واقفا مزيحا عنه همومه .  تأمل اكتظاظ الرواق بالناس والحركة . خطى خطوات مترددة ، ذهابا وايابا . تأمل الباب المقفل ، واعترته طمأنينة . دفق من التفاؤل ملأ صدره ، انتشر الفرح في كيانه ، وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر . هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر ؟ كيف لا تتوغل السعادة في كيانه ، والخصب يجيء مع الانفجار ؟ مدد مبارك . ثمر بعد انقطاع أمل . خير بعد جدب . ثورة بعد صبر . يتذكر ما مر عليه بمجمله وليس بتفاصيله ، يبني لنفسه عالمه بافقه الواسع الممتد ، وليس بحدوده . بمعناه وليس بنصه . توسم الخير في هذا الضجيج ، رأى تجلي العصر . رأى كينونته وطرب لشارات النصر يرفعها النازفون دما ، المتلوون الما ، اهتز كيانه من الاعماق وأصابه الارتعاش .. مدد من الحماس سرى في دمه . نظر نحو الباب  منتظرا من جهينة الخبر .سمع صراخها يعلو . اتكون الولادة بلا ألم ؟ اتكون السعادة بلا ثمن ؟ دفق من الدفئ احاطه وهو يرنو لأهل الحارة القادمين رجالا ونساء ، افواجا افواجا ... من آخر الرواق. اراد ان يبتسم ، حبس دموع الفرح ، شدت سمعه بضع صرخات اخرى تعلو من خلف الباب المغلق ، وأهل الحارة يقتربون بضجيج ، ومعهم عشرات الجرحى ممن يعرفهم  وممن لا يعرفهم . مدد من الراحة ، مدد من السعادة ، تغرقه أجمل الأحاسيس ، تتفجر من عينيه دموع الفرح ، يقف امام الجمع المتدفق يبكي دون ان يشعر بالحياء ، يتمنى لو يحمل عن الجرحى بعض الامهم، ان ينزف دمه بدل دمهم ، ان تكسر عظامه بدل عظامهم ، ينظر نحو البالب مستعجلا السعادة ، لكن جهينة لا تبان ، ينظر نحو العصر المتجلي بناسه واحداثه ، بدأت الصرخات تخفت ، يحيط به جمع غفير ، تحيط  به أجمل المشاعر ، يعانقونه بيقين العارفين ، وعينيه تتنقلان بينهم ، تبتسمان لهم ثم تتعلقان بالباب ، حيث الخبر والامل ..

الناصرة -  اذار 1988

*انتفاضة الحجارة انهت الزمن الفلسطيني العاقر ..  آمل ان لا يعيدنا الصراع الفلسطيني - الفلسطيني الى زمن عاقر جديد !! - نبيل عودة

 

 

 

الفجر يولد من جديد

 

نكبت حارتنا بامرأة حل لطف الله عليها , تخرج كل ليلة صارخة شاتمة متوعدة , واهل الحارة في نومهم العميق .. لا تبقى ولا توفر احدا , توجة اقذع الشتائم , وتقذف التهديدات بأن " تفعل وتترك " بنساء الحارة ورجالها , ويتطاير الزبد من شفتيها في نوباتها الليلية العصبية .. وكثيرا ما تلوح بسكين مطبخها متوعدة مزمجرة . مما ترك توجسا في نفوسنا , بان ترتكب حماقة على حين غفلة . والحق يقال , ان اهل حارتنا يؤذيهم حالها البائس , ويريدون للطف الله ان يطولها مرة اخرى بمؤسسة ترعاها , علها تعود الى كامل وعيها وتصبح واحدة منا وفينا , تغرق مثلنا في النوم حين يحين زمنة السلطاني , وتستيقظ ليومها الجديد , بنشاط وأمل , وتبادلنا ونبادلها التحيات والاحاديث والعلاقات الطيبة المرجوة بين الجيران . وسننسى ايامها السوداء التي أطارت النوم من عيوننا وعيون اطفالنا , بصراخها المؤذي وبشتائمها المدوية في سكون الليل , وبعربدتها المنفلتة على رجال الحارة ونسائها , لانهم يتنفسون نفس الهواء الذي يصلها , ويلاطفهم نفس النسيم الذي يرطب قيظ الصيف في بيوت الجميع , او يرى الله بها امره رحمة لها ولنا , فهو الرحيم وهو السميع .

تلك المرأة والمتلطف بها , كما يفكر البعض .. ولا اقول هذا على ذمتي او مسؤوليتي , حتى لا اتحمل وزر الخطيئة , انما انقل ما يدور وليس في ذلك ما يدل على اشتراكي بما يفكرون .. بان الله يحمل اثم تصرفاتها المنفلتة , اذ اختصها بلطفة وبتنا عاجزين عن فهم وتعليل ألطافة التي كثرت واتسعت مع تزايد شتائم جارتنا وصرخاتها المدوية في منتصف الليل , فهمنا انها تتهمنا بتنظيم اعتداء عليها , واننا نجمع القمامة ونفرغها امام منزلها , واننا نصطاد الذباب والهسهس ونجمعة ونطلقة في محيط بيتها , واننا نمارس السحر لتبقى الدنيا سوداء في وجهها , ونتآمر لنسرق الورود التي لا تألو جهدا , رغم لطف الله بها .. على رعايتها بحنو واكثارها .

وكثيرا ما اصابتنا الحيرة من عقلها الشائط في علاقاتة مع اهل الحارة والجيران الاقربين خاصة .. وقدرتها العجيبة في رعاية الورود, تخصيبها واكثارها .

والحقيقة , لولا عقلها المصاب بلطفة , دام مجدة في عليائة , لما تردد احد في التقرب والتعلم والاستفادة من خبرة جارتنا في تنمية الورود , بل ودعوتها اهلا وعلى الرحب والسعة في بيوتنا , بعد ان يعود عقلها الى مخدعة , ويتستر لسانها بمأمنة.

وللتاريخ اقول ان جارتنا نزلت علينا في يوم غائم ... ولا يدري احد كيف تم هبوطها ومن اين مصادرها لامتلاك بيتها الكبير ذي الساحات والمشارف والاحواض , وقد قارن البعض هبوطها بالهبوط الناجح على القمر . غير ان هبوط القمر له مصمموه ومطلقو آلاتة , اما هبوطها فلم يعرف اصلة ووسائلة , ولا مبتدأه ولا خبره , انما اضحى حقيقة نعايشها بقبول وتوجس بالا تكون وراء جارتنا سيرة لا تطمئن البال ولا تضيف لبيوت الحارة كرامة وصونا للشرف , وكان واضحا ان هبوطها في حارتنا هو شوكة تزداد انغراسا مع الايام , ورغم الورود المنماة في الاحواض والشرفات , الا ان الاحساس يحمل توجسا لا تفسير ظاهر له وقلقا من آت مجهول , قد لا يتناسب مع حارتنا واخلاقنا وقيمنا وحسن سيرتنا , وقد تواصل ازعاجها وزعيقها المؤذي , وحرماننا من النوم الهانيء ,واقلاق راحة بالنا , ومثولها امامنا ببشاعة لم ينتظرها احد من الخالق في خلقة الذي قيل لنا في صغرنا , بان صناعتة في منتهى الكمال والجمال والاتقان , فهل كانوا يكذبون علينا ؟! وماذا يستفدون من اخفاء الحقيقة ؟! او هي محاولة لتجربتنا في ايماننا بقدرتة ومشيئتة سبحانة في عليائة؟! . وكيف نرى الجمال في كل ما نرى ؟ وهل ابقت جارتنا شيئا من دلالات جمالها ؟! ترى ما الذي يمسخ سحنتها في عز الليل , ويحيلها شرسة تأخذ راحتنا ونومنا الهنيء , لتصلية على نار كلماتها النابية والمؤذية ؟ كنا نتأمل ونتعجب ونناشدة سبحانة .. ان يحل بنا مزيدا من الصبر والتقوى وان لا يجربنا بجارتنا , ونقيم لة الدعوات ان يبرد غيظها غير المبرر , ويطفئ حدتها الملتهبة ويخفف انذاراتها لنا بالثبور والدمار , وازاحة الغشاء عن عينيها علها تبصر نوايانا الطيبة ويرتد لها عقلها , ويطمئن بالها ويزول كربها وزعيقها , فننعم بغفوة آمنة اشتقنا لها وافتقدناها منذ ابتلينا بها .

سبحانك في علاك , لا يتم امر الابمشيئتك , ولا يرى النور انس او جان الا باذنك , رحمتك يا قدير , حنانك يا غفور .

طال انتظارنا للطف آخر , يضاف على لطف الخالق الاول الذي انعم به على جارتنا , فيعدل ما بار في خلقها , فتزول حيرتنا من حديث بعض ضعاف النفوس وقليلي الايمان من اهل حارانا , انة في عليائة ( المغفرة ثم المغفرة ) لة جولاتة وصولاتة , بعضها لأمر في نفسة او خارج عن ارادتة كما يدعون .. لا يكتمل تجلية , ولا تنتظم صنعتة , ويبقى منتقصا وعديم الفائدة للبشر , وان الامر يشبة سكة الانتاج , يخرج منها الصالح تماما والصالح اقل والباير كجارتنا .. ولكن حيرتنا بقدرتها , رغم لطفة النازل عليها .. على تنمية الورود ورعايتها بحب جلى واضح معظم ساعات النهار , اما ساعات الليل فتكرسها لشتمنا وقذفنا بسافل الكلام وبأشد التهديدات قساوة وجنونا , فكيف يتساوى الورد مع الجنون ؟!

بعض الشباب تواقحوا واعلنوا ان جنونها من جوع فرجها ,وان اشباع فرجها يضمن صمتها في الليالي التي احالتها الى معاناة طويلة لاهل حارتنا , ولكن هل هناك من يجرؤ على تطبيق هذة النظرية ؟!.

بعض الشيوخ ايقظت فيهم نظرية الشباب الفرجية , ذكريات ايامهم الغابرة , فتنافسوا في قص غزواتهم وعنترياتهم , فاضحكوا اهل الحارة , ومسكها عليهم الشباب وتساءلوا بخبث وهزء , ان كان من المعقول ان يكون شيوخا , الذين يدبون على عصيهم واحيانا على عصيين , ويقحون ويبصقون ويضرطون كل ساعات يومهم , لهم مثل هذا السجل الذي لا يخجل بة اكبر " دون جوان " عرفتة غرف النوم ؟ وان كان شيوخنا الافاضل بمثل هذه القدرة التاريخية على حرث الفرج , فكيف تحول هبوط جارتنا في حارتنا بمثل هذا الاشكال وبمثل هذة الضراوة , بمثل هذا التعطش للاذى ,وبمثل تلك الدلالات البارزة لجوع فرجها ؟! والبعض سأل ما لا جواب له , لماذا يا حضرات الرواد البواسل لم تتطوعوا لاشباع جوع جارتنا قبل أن يمسها لطفة ؟!

والواقع ان الشيوخ كالشباب , استطابوا حديث الفروج , حتى زجرهم عقلاء الحي وانذروهم بالويل والثبور والحرق بنار جهنم اذا واصلوا الخوض في المحرمات والاعراض, فالجارة , حتى الغريبة عن الحارة , والدخلية على بيوتها , لها حرمتها , فنحن العرب استثنانا الله من الرذيلة ,ووهبنا الفحولة لنستثمرها في العمل الصالح والمشروع , بالاكثار من نسلنا , وتعزيز جيوش المؤمنين الصالحين , وان الدلالة لمصيبة حارتنا بجارتنا هي مئات التجارب التي لا بد لنا ان نقف فيها بثبات وايمان , حتى لا نسقط بالتجربة الربانية ونتحول الى عبدة الشيطان لعنة الله علية , وان لا ننسى ان لسبحانة في عليائة شؤون في خلقة , ليس لنا ان نخوض فيها حتى لا نقع بالمحظور , وانه تبارك اسمة , لا ينتظر اقتراحتنا , ولا ينقصة صواب الرأي وحسن التدبير , وانه لو شاء للطف لسانها او اخرسها , وانه لو شاء لبعث اليها فحلا يضمها الى حريمة بدل وحدتها القاسية .. ويروضها ويشبعها فما وفرجا , فتطيب حالها وتستقر نفسها , ولكن مشيئتة لم تكن كذلك ,  فالحذار من الخوض في شؤونة ..

قال شاب يلوح البريق في عينية , ان عقلاءنا زجرونا عن حديث الفروج بتهديدنا بالويل والثبور ونار جهنم , وفتحوا حديث الفحول , اي اننا عدنا لنفس المنطقة المحظورة , نتداول فيها لحل اشكالاتنا , ولكن لم يثبت حتى اليوم ان امة تحررت بقدرة فحولها على حرث فروج الغزاة , او ان اشكالياتنا حلت بقدرتنا الفحولية .. فهذا يعيد الحديث الى اصلة , والى نفس المناطق المحظورة التي منعنا عنها عقلاء  حارتنا , وهو يثبت اننا شبابا وشيوخا حرث الزمن في عقلهم وعقلنا , مصابون بنفس الداء .. وان العقل في هذة المنطقة , يخرج في اجازة .. ويبدو ان اجازتة طالت وهي بسبب ما نعانية من الهبوط الغريب لجارتنا في حارتنا ..

اشتدت قوه صراخ جارتنا واستمرت لزمن اطول , وصرنا نسمع عويل الذئاب بين صرخاتها وكأنها تتحول الى امرأة ذئب , وقد ارتعد الرجال قبل النساء .. والتصق الاطفال يامهاتهم رعبا , ولم يجرؤ احد منهم على عبور الشارع بقرب بيتها الا ركضا سريعا ومن الجهة البعيدة , وتساءل البعض ان كانت جارتنا حقا امرأة , ام هي فحل بثياب تمويهية بقصد الفتك بحرمات الحارة ؟ واشتعلت الاضواء الحمراء , واحس اهل الحارة بالخطر المحدق ,وقال البعض لعل المخفي اعظم , وغرقنا في حيرتنا .

ربنا هبنا من لدنك رحمة , وعزز ايماننا واحفظ لنا كرامتنا .

 استقر رأي حارتنا بعد ان اعياها الحال ,وتكاثرت الوساوس والهواجس , ان يستنجدوا بالحارات الاخرى , فالمصيبة قد تلحق بهم ان لم نتدارك الامر ونوقف الشر المتزايد .. حقا لا يمكن انكار نخوة ابناء الحارات وهمتهم المباركة , فتوافدوا جماعات جماعات لمد يد العون ودعمنا من الآفة المستفحلة .. وبعضهم اكتفى  مشكورا بالدعوات الحارة , لخالق الارض والسموات , ان ينصر المؤمنين الصامدين على الشر والاشرار , فاقيمت الموالد في حارتنا , ترحيبا بالامدادات من اصلب الرجال .. وذبحنا الذبائح ,واكلنا ودبكنا ولوحنا بسيوفنا امام شرفتها .. ومع ذلك لا يبدو ان جارتنا فهمت ان هذة الجحافل والسيوف هي لوقف استفحال شراستها وعدوانها , بل استمرت بصراخها الليلي المؤذي مما ارهق رجال الحارات وحرمهم من الخلود للنوم والراحة , ومع ذلك لم يتخلوا عنا الا بعد ان نفذ مخزوننا من الارز والخراف , فرجع كل الى حارتة معلنين بصلابة انهم على استعداد دائم , اذا ما تواصل استفحال الامر , ان يعودا من جديد لدعم صمودنا وتقوية شكيمتنا , ودعوا لنا بالخير والوفاق , فشكرناهم على نخوتهم , وودعناهم بمثل ما لاقيناهم من ترحاب .

ويبدو ان جارتنا انتظرت هذة اللحظة ... بعودة الطوابير الداعمة الى احيائها , فازداد جنونها.. وبدأت تخرج لشوارع الحارة  وازقتها في ساعات الليل والنهار , تعترض النساء والاطفال , صارخة شاتمة ملوحة بقبضتها , فلم يجد البعض حلا الا مغادرة الحارة , خوفا ورعبا من اذاها , بعد ان بات واضحا اننا لا نملك ما نطعم بة طوابير الدعم من الحارات الاخرى .

حقا , اهل الحارة لم يكونوا قاصرين عن "فلخ نيعها" اما ما زجرهم فهو اباؤهم عن تلويث رجولتهم بالتشاطر على امرأة مصابة بلطف اللة .

اسودت دنيانا ولم يعد لحياتنا معنى , ولم ندر كيف وصلنا لهذه الحال ومن اين ابتلينا بهذا المأزق؟

حال الجارة تزداد سوءا وعدوانا وباتت البيوت التي تركها اصحابها مرتعا خصبا لانفلاتها , كانت بلا اهل ليردوها عن غيها.

لا نعرف من اين هبطت علينا , وهل لها زوج , ام انة كان ونفق بعد ان رأى حالها ؟ وكيف تصير حال كرامتنا اذا مددنا ايدينا عليها ؟!

بعض الشباب . تنظموا وتسلحوا بالعصى لردع انفلاتها , الا ان كبارنا زجروهم وافهموهم ان للجار مهما استجار حرمتة , فكيف والحال مع امرأة وحيدة ومصابة بلطف الله .. ؟! ادعوا لها بالرحمة ؟؟

ولكن الله , سبحانة في علاه , لة كما يظهر رأي مختلف , طرقة ليست دائما مفهومة لخليقتة , فها هي الجارة تذهلنا وتحيرنا بوضعها مولودة في كل بيت مهجور .. ترى من اقتحمها ؟؟ وهل كان اقتحامها ميسرا ؟

وهل مقتحمها انس مثلنا او جن من المتحررين من اسر سليمان الملك . وكيف لم يلحظ  أحد من اهل الحارة تغير حالها وشكلها بانتفاخ بطنها ؟! والمذهل وضعها عددا من المولودات من غير المعقول ان يحمل بة بطن وحيد , فهل هي امرأة كما فهمنا حتى اليوم .. ام جنية متمردة من اسر سليمان الملك ؟! وهل يصاب الجن بلطف الله كالبشر ؟! وهل يمكن ان يشبع انس جوع فرج جنية ؟! وكيف يمكن الجماع بين انس وجنية ؟!وهل يسمح الشرع بهذا الجماع ؟!ومن اين لهذة الجارة هذا الخصب غير المحدود , وبهذة الكثرة المستحيلة على بني البشر ؟! فهل نحن امام عجيبة دنيوية لم يسمع بها احد من قبل ؟

والمرعب اكثر ان المولودات شديدات الصراخ كأمهن , فهل انتقل لهن لطف الله بالوراثة ؟! وما الحل امامنا ؟ هل نحمل عصانا ونرحل ؟!

وبدأت تدور قصص تشابة الخيال , بان بنات جارتنا , رغم صغرهن ... يتجولن في الحارات الاخرى مطلقات صراخا ذئبيا مرعبا .. والمذهل انها لم تلد اي مولود ذكر !! بلغ الذل مداه .. وبدأ تمرد الشباب على حكم الشيوخ , واتهامهم بالمسؤولية عن التقاعس ولجم الانفلات الارعن لجارتنا في وقته , واعطاؤها المجال  الحيوي للتكاثر الغريب والمذهل وبدون الاخصاب من ذكر , وقال الشباب انة بلغ السيل الزبى ,وانهم ليسوا على استعداد ليكونوا نسخة طبق الاصل عن اهلهم , وان ما يجري هو تجاوز لكل مفاهيم التجارب الالهية ببني البشر , التي يذكرها علماؤنا ويلوحون بها لزجر الشباب عن غية كما يقولون , وقد اعلن معظم الشباب انة حتى الكفر اكثر عزة من الذل والمهانة لكل العمر , وان الاصطلاء بنار جهنم اكثر رحمة من الاصطلاء بشراستها واهاناتها وبالحرمان من الراحة والنوم المتواصل , وبالتزام عدم الرد , جرت نقاشات حادة , ولكن الاجيال اختلفت طرقها وقناعتها حتى الاولاد انصتوا لحجج الطرفين وكأنهم يفهمون ما يجري.

وفي فجر هادئ عليل النسيم , رائق الاشراق , وقع المحظور , كان من الرعب التفكير فية , ويبدو انة بين الرعب والجرأة شعرة معاوية , وقد انقطعت .

لطفك ايها الخالق , مدد من قدرتك , مدد من رحمتك .

 كان الاولاد, الذين لا يفهمون كما آمن الكبار .. في طريقهم لمدارسهم , كما في كل يوم .. وكل منهم يحمل اثقالة من الكتب والدفاتر والاقلام , وزوادة اليوم , وكالعادة بنات جارتنا يضججن ويعتدين على الاولاد , غير ان الاولاد هذة المرة لم يفزعوا , تسمرت انظار الحارة ولم يدروا ما يحصل .. وما هي الا لحظات حتى كانت شنطاتهم بكتبهم ودفاترهم ملقاة على قارعة الطريق , وفي يد كل ولد حجر , وبيدة الاخرى يرسم شارة النصر ..كان الفجر هادئا , ولكن حجارة الاولاد المنطلقة بتصميم جعلتة فجرا داميا.

 

 

 

جنازة

 

لاول مرة لا نختلف على ان صيف هذه السنة كان صعباً، ولأول مرة نتبادل في سرنا ان المرحوم اختار توقيتاً سيئاً لجنازته، وسيجعلنا نتذكر يوم موته اكثر من كل ايام حياته.

قلت لصديقي الجالس قربي، لا ادري كيف ستتدبر النساء امرهن في هذا الحر وداخل غرفة تكاد تكون مسدودة عن الهواء من كل الاتجاهات، ونحن نكاد نموت اختناقاً من غرفة تهويتها افضل. قال انه لا خوف على النساء. سيتدبرن افضل منا. قلت في نفسي هلي هي عودة لاختلاف الآراء، ام هو موقف من المرأة؟! وأضفت بسخرية همساً ان الدموع ستختلط بالعرق، ولن نعرف من منهن اكثر حزناً.

نجحت بالحصول على ابتسامة عريضة استطالت حتى كادت تقيم خطاً واصلاً بين اذنيه. امتدت الابتسامة لوقت اطول مما هو مسموح به في وضع الحزن المفروض ان نظهره في وداع صديقنا المتوفى. الاطالة بالابتسامة لا تليق بالمناسبة ولا تليق بنا. زجرته بنظرة معبرة فضم شفتيه الى بعضهما، مستعيناً بكف يده، وكأنه يحاول ان يمنع امراً ما من الانفلات. ربما ضحكة، "سيسوّد وجهنا!!" تمتمت هارباً من الموقف وكأني اؤكد لنفسي:

-صديقنا المرحوم كان طيباً..

كانت محاولة لجر الحديث لما هو لائق، بعد ان كاد صديقي الجالس قربي يفضحنا. فالمرحوم صديقنا منذ وقت طويل، ولا يختلف عنا ولا نختلف عنه. له حالاته ولنا حالاتنا. ايجابياتنا وسلبياتنا تختلط احياناً حتى يصعب فرزها عن بعض. الطيبة والسؤ تندمجان. همومنا اكبر من ان نفرز بين الخصال الطيبة والخصال السيئة. كل شيء في حياتنا متداخل. احياناً هناك فائدة بل ضرورة لكي تكون سيئاً، رغم جيلنا المتقدم، عشنا حياتنا بكل لحظاتها، فهل نستطيع ان نواصل ما كنا به بعد فقدان ضلعنا الثالث ..؟!

- طيبته هي التي جمعت بيننا هذا العمر الطويل، لم نفقد مجرد صديق.. نفقد انفسنا ايضا.

نظرت الى صديقي، فرأيته يهز رأسه علامة الموافقة. مرة اخرى يتفق معي .. او ربما يعارضيني باسلوم لم اعهده من قبل. قال:

- الطيبة تبدو سلبية اذا اكتفينا بها لوصف ما كان عليه صديقنا المرحوم بالفعل.

هل يزايد علي أم يسخر مني؟! ام لعله يقصد مدح طيبته الذاتية ايضاً؟ سايرته صاغراً:

- الكلمات تعجز عن التعبير، للأسف اننا فقدناه.

- خسارتنا كبيرة.

نظرت اليه، فبادلني نظرة بنظرة وتمتم بحزن ظاهر:

-ليرحمه الله ..

همست في اذنه:

- وليرحمنا معه في هذا الفران الملتهب..

قال وهو يدفعني خلسة بكوعه:

-هذا الاختناق من الحر الملعون يصعب علينا حتى الحديث عن المرحوم.

قلت لنفسي ان عقلنا ذاب ولم نعد نعرف هل نتنفس هواءا نظيفاً ام نستنشق ثاني اكسيد الكربون الذي تطلقه انفاسنا في اجواء هذه الغرفة/الفران، والذي يزيدها سوءاً تعبيق دخان السجائر في سقفها، ملوثاً هواءها، دون ان يجد له مخرجاً الا بالعودة مرة اخرى لرئاتنا وكأنها مصفاة دخان.

لعنت الساعة التي قبلت فيها بالجلوس داخل الغرفة، بدل الانزواء في ساحة البيت الاكثر تهوية، رغم ان الشمس تضربها معظم ساعات النهار. حرارة الشمس اهون من جو الغرفة. على الاقل الهواء نظيف من دخان السجائر والتنفس اسهل.

- الله يرحمه.. لم اصدق انه مات.. هل يموت الطيبون امثاله؟!

التفت الى مصدر الصوت، وزجرت ابتسامة كادت تفضحني. كان المرحوم يقول عن "صاحب الصوت" انه بصعوبة يرد عليه السلام، ولكه على ثقة اذا حدث وان مات، سيكون اكثر المعبرين عن لوعتهم بفقدانه، ولن يتردد ان يتبوأ مركز الصدارة في الجنازة، والوجبة عن روحه، والتعزية.. وها هي نبوءته تتحقق.. شعرت بسخرية عميقة تجتاحني وتكاد تطلق لساني بما لا يليق بجو العزاء، وتابع "صاحب الصوت" مظهراً لوعته وأساه وحيرته:

- فقط امس رأيته.. وقفنا نتحدث بضع دقائق..

همس لي صديقي ان هذا الحديث كذب، وانه بصعوبة كان يبادله السلام..

قاطعته:

-معلوماتك موثوقة بشهادتي.. لم تجدد لي شيئاً، صديقنا المرحوم كما تعلم، غائب عن الوعي منذ اكثر من اسبوعين.. منذ ادخل المستشفى،ـ ويبدو ان صاحبنا هذا لم يسمع بتلك التفاصيل، اصبر وسيتغير الامس الى فترة ملائمة لرقود صاحبنا في المستشفى، قال لي همساً:

-ابن الـ ...

وعلقت الكلمة بين أسنانه. هامسته:

- إنس، اعبر الى غيرها.

- لم يتعرف عليه في حياته ويريد ان يتزعم في جنازته؟!

- صاحبناالمرحوم كان يعرف ذلك..

- لله في خلقه شؤون.

همس قريب للمرحوم في أذني، بعد ان سمع بعض همساتنا:

- هذا ابن عمنا، لا ينفع الا في الجنازات.. نكاد لا نراه الا في جنازاتنا. مهمته ان يقبرنا. عندما يفتح فمه لا يعرف ما يقول. تعودنا عليه.. مصيبتنا به اكبر من مصيبتنا بالمتوفى.. يدعي ما ليس فيه.

- معلوم... كان المرحوم يتطير منه ولا يتحمل مجالسته.

- ما باليد حيلة، نرجو ان يلهمه ربنا الصمت... على الاقل حتى يمر العزاء!

عاد "صاحب الصوت" يزأر:

-سبحان الذي يغير ولا يتغير.

يبدو كتلميذ نشيط، مستعد لالقاء درسه الذي حفظه غيباً. وها هو يحرك يديه بالطول والعرض، ويجمع نفسه داخل المقعد الوثير، ويتنحنح، قلت بصوت مرتفع قاصداً قطع الحديث عليه:

-الحر هذا الصيف غير طبيعي، روحنا في حلقنا.

تأفف الجميع بموافقة تامة. ولم تخل تأففاتهم من تعليقات ومشاكل شخصية مع الحر، حتى يبدو ان الحر يختارهم بشكل شخصي. دفعت صديقي بفخذه، ليساهم بقطع الحديث عن "صاحب الصوت" حتى لا يقتلنا بوعظته في هذا الجو القائظ والملوث بالدخان , فهم قصدي وانطلق لسانه بحدة ظاهرة مصوبا عينيه على صاحب الصوت :

- الصمت اسلم الامور في هذا الحر.. الصمت رحمة في هذا الجو الخانق، ما قولك يا ابن عم المرحوم؟!

وصلت الرسالة!! ربما فيها شيء من الوقاحة؟ زأر "صاحب الصوت" بشيء من الضيق وعدم القبول:

- الموت حق يا اخوان... لا مفر من هذا الحق , والانسان يا اخواني....

قاطعه صديقي تلقائياً، دون ان يشعر انه يتجاوز اللياقة المفروض ان يلتزم بها في مناسبة كهذه.ولكن يبدو احيانا ان للياقه معاييرها المختلفة .واضاف صديقي :

- كنت وصديقي (واشار الي) والمرحوم لا نفترق عن بعض، ورغم رقوده في المستشفى غائباً عن الوعي لمدة اسبوعين.. الا ان موته صدمنا.

فهل سيصر "صاحب الصوت" الان انه التقى صاحبنا المتوفي أمس؟! يبدو ان الرسالة وصلت فآثر صاحب الصوت الصمت حتى يجد منفذاً جديداً..

قلت لنفسي ما بالي انشغل به، وهل هذا يغير من الحال؟! ولكن يبدو ان الحر بدأ يفرض تأثيره ويغلب سلبياتنا على ايجابياتنا. بصراحة طلعت روحنا. وقلت لنفسي: غريب امر الانسان، ماذا يكسب من الادعاء الكاذب والكلمات التي لا رصيد لها؟ هل يقدم او يؤخر ما قد وقع؟! هل يغير حالة المرحوم ويجعله صاحب عمر أطول؟! وهل يظن انه بكلماته الفارغة يحقق مهمة العزاء، فيطيب خاطر اهل الفقيد؟ وقلت لنفسي ايضا : ربما يظن حضرته ان لولاه لما كانت الجنازة، ولما كان الحزن، وربما ما كان الموت. فالموت حق على من مات. اما الاحياء فلا يريدون الموت.. لا يريدون هذا الحق.. حتى حضرته لا يظهر ان الموت حق من حقوقه. ربما هناك ضرورة لتشريع هذا الحق في القانون ليقتنع البشر انه لا مفر منه. وسنحصل بلا شك على مساواة، بل وتفضيل ملحوظ. تفضيل في الموت وليس بمصروفاته. من المضحك ان الميت اليهودي يكلف الدولة اكثر من الميت العربي. ربما يعدلون الامر لتشجيع الموت عندنا، يجعلونه منطقة تطوير "أ" اسوة بالمناطق اليهودية فتتحقق بعض المساواة من حيث لا ندري , تطوير لليهود وموت للعرب .

تأففت من بطء مرور الوقت، وتيقنت ان هذه حال الجميع يستعجلون الوقت لانهاء مهمتهم والتفرغ لشؤونهم الاخرى. تواصل صمت صديقي اثناء دخول مؤاجرين جدد ، لعلي ارحب بهم واكرمهم بمكاني ؟ الدخان الكثيف يكاد يطرحني ارضاً. دوخة شديدة ووجع رأس حاد يعترياني. ما اللذة في تنفيخ سيجارة في هذا الحر وفي هذه الغرفة العابقة بالانفاس والناس والدخان؟

احياناً تشدني افكاري لامور لم افكر بها من قبل، ولو حاولت التقدير، لما رأيت اليوم امكانية ان يتداولها فكري. ربما هذا هو جزء من تخلفنا؟ هل يفترض ان تكون للتقدم مقاييس اقتصادية شكلية كالملابس والبيوت والسيارات ؟ وبتجاهل مطلق لما يسببه هذا العشق للسيجارة والاصرار على تدخينها في مكان معزول عن الهواء؟ لماذا الاخر غير موجود؟ لو كنت مدخناً هل كنت أفعل نفس الشيء؟! هل اتهم السيجارة بتخلفنا وعاداتنا السيئة؟

استفاق صديقي من صمته وهمس بأذني:

- ما بال بغلتك سارحة؟!

-لم اعد استطيع احتمال هذا الجو الخانق.

- عشان المرحوم كل شيء يهون..

-انت تعرف حساسيتي للدخان. يفقدني وعيي.

- اهدا واصبر.

هل يسخر مني؟!

كالمستفز انتصبت واقفاً ومعتذراً:

- المعذرة، سأجلس في الساحة، اكاد اختنق من الدخان.

لم يعن الامر احداً كما يبدو . شعرت بنظراتهم الباردة في ظهري وانا اتسلل للخارج لاقطاً انفاسي بصعوبة، واخذت لي مقعداً في الظل شاعراً بتحرري من هم غير قليل. وقلت لنفسي مادامت هذه الحال فمشوارنا طويل . بعد قليل وجدت صديقي يسحب كرسياً ويلتصق بي.

- افترض اني مت.. ستلحقني؟!

- كل يموت على ذوقه.. ولن اياك ان تفعلها بالصيف.

كدت ابتسم رغم عصبيتي الظاهرة، وتابع:

- ظننتك ستقول شيئاً يطيب خاطر اهله؟

- ما عساي اقول ؟.. كنا ثلاثة لا نفترق فبقينا اثنين، للأسف لا استطيع ان افكر بشيء. هذا الجو يرهقني، ولكن لماذ لم تتشاطر انت؟!

- ما يرعبني هو هذا الاستقبال البارد للموت حقاً يعز علينا فقدانه ولكني اشارك بجنازته وكأنه واجب، وليس كصاحب ثكل صاحبه.

- ربما نحن في مرحلة ما بعد المشاعر، ما بعد العواطف؟

- ابداً هكذا الحياة، مهما كان الموت صعباً.. تبقى الحياة اقوى . الخاسر هو الميت فقط !!

نظر الى ساعته ليخبرني:

- بقيت امامنا ساعة

- ..؟

- هل تستعجل التخلص منه؟

- ابداً، ولكه اختار الموت في يوم قائظ، وهذا سبب ضيقنا .

- هل ستحاسبه؟

تجاهلني وقال

- أفكر فينا اقول لنفسي هذه بداية نهايتنا.

- اتركنا من تشاؤمك ام ستبدا وعظة انت الاخر؟

واضفت:

- جئت استريح من الجو الخانق. فلا تلاحقني بهم فوق همي. ومواعظ لم اعد اقوى على سماعها.

- لا اشعر بحزنك لرحيل صاحبنا ..؟

- هل تريدني ان اقف ماعطاً شعري..؟

- توقعت كلمة مناسبة..

- قلت لك كنا ثلاثة وبقينا اثنين.. ومن الاثنين سيبقى واحد..

- أنا ام أنت؟!

- هل تظنني اتنازل بسهولة؟

قادنا حديثنا بعيداً عن اجواء الجنازة احياناً بمتعة نحاول اخفاءها واحياناً بعصبية. فلم ننتبه لانفسنا الا والرجال يدخلون لحمل النعش في طريقه الاخيرة. فسارعنا نشارك بحمل نعش صديقنا، وللحظات كادت الدموع تفر من مقلتي .

سرت وراء النعش بخاطر مكسور، شاعراً ان جزءاً مني قد انتهى، ولم استطع ان افهم معنى هذا الشعور الذي اعتراني بلا مقدمات , وتابعت سيري وراء النعش انا وصديقي وعشرات الافكار التي لا رابط بينه .

 

 

 

غريب يدخل حارتنا

  

 

ظهر في حارتنا فجأة. من الصعب تحديد دقيق لوقت ظهوره، جاء امس؟ جاء اول امس؟ تجمعت شهادات مختلفة، بعضها ذهب للاصرار على انه مضى على ظهوره في حارتنا اسبوع بالتمام والكمال، وربطوا بين ظهوره وبين بداية بث التلفزيون لتمثيلية قصة حياة ام كلثوم. آخرون قالوا ان هذه تخيلات، فظهوره محصور بالاربع والعشرين ساعة الاخيرة. فحارتنا صغيرة، وبيوتها قريبة من بعضها البعض، بالابنية وبالعلاقات، وانه لا يجوز ان يكون جميع اهل الحارة قد اغفلوا ظهوره لهذا الوقت الطويل، الذي يكاد يتجاوز الاسبوع بكامله، وهذا التحليل فيه منطق، كما يعتقد اغلبية اهل الحارة .

هذا النقاش اشغلنا ليلة كاملة، وبعدها لم نعد اليه، صار خلفنا، وصارت حقيقة ظهوره هي الاهم. وباتت معرفة تفاصيل عنه في رأس سلم الاولويات.

ظننته كما ظن ذلك اهل الحارة ضيفاً عابراً عند احد الجيران.. وبعد ان طالت ضيافته بدأنا نبادله تحيات اطول، ونحاول في جلساتنا ان نقارن انطباعاتنا ومعلوماتنا عنه، ونستفسر عنه اصحاب الحوانيت في حارتنا، علّهم يوسعون معلوماتنا عنه وعن شؤونه ومن يكون وما علاقته بالمضيفين؟

ايجوز انه ضيف ثقيل الى هذا الحد؟ او يكون احد ابناء حارتنا الذين غادروا قبل سنين؟! كبار السن من اهل حارتنا لم يتذكروا وجود شبيه له او ما يمت اليه بصلة، سلسلوا المرحومين والمسافرين للخارج والمنتقلين لاحياء اخرى، واستصعبوا الوصول الى من يشبهه شكلاً وجيلاً. حتى ام ابراهيم، ذاكرة الحارة وسجل ايامها ومولدة نصف اناثها وذكورها، اعلنت بعجز وأسى خلو سجلها من كل ما يمكن ان يربط الضيف الجديد بحارتنا.

وربما هو ليس مجرد ضيف!! يبدو انه ساكن جديد عند جيران مختلفين بعض الشيء عنا، يحافظون على مسافة من كل اهل الحارة، رغم بشاشة وجوههم وحسن سيرتهم. الله يخلق الناس مختلفين مثل اصابع اليد ولا اعتراض على امره.هذا اكيد ..!

وبدأت تحاك الخطط لكشف ماخفي من امر الضيف/الساكن على غفلة من أهل الحارة، غير ان ما صعب وعقد الخطط، كون الجيران "انعزاليين" حسب تعبير بقال الحارة وقارئ الصحف الوحيد فيها، والذي يتحف جلساتنا بتعابيره الغريبة والمسلية التي يحفظها عن الصحف، ويدبها بمناسبة وغير مناسبة، ولولا وجود اولئك الجيران لما فهم اهل الحارة المعنى الدقيق لكلمة "انعزاليين" البعض توجسوا أن يكون استعمال هذا التعبير يوازي الكفر، فاستغفروا ربهم وطلبوا رحمته.

اما الصعوبة الثانية في كشف المعلومات الموثوقة فكون هؤلاء الجيران بحركة دائمة. الزوج يعود مرة في الاسبوع. وبالكاد تراه ابراج المراقبة، رغم ان كل التحركات ترصد وتبلغ لمجالس السهرة بتفصيلاتها الدقيقة، وحتى نلتزم الدقة، هناك اضافات لا بد منها لجعل السهرات "رومانتيكية" كما يقول البقال.. وقد فهم اهل الحارة ان "الرومانتيكية" هي المبالغة.. غير ان البقال عجز عن اعطاء التفسير الواضح، فطلبوا اليه حفظ سخافات الصحف في تجاويف دماغه.. والصعوبة الاخرى ان الزوجة تعمل بالتعليم وتتعلم مساء وهي دائمة الانشغال او "تعمل حالها مشغولة" كما تقول ام ابراهيم.

وهي لذلك تعتذر عن الاشتراك بقعدات القهوة وفتح البخت ومعرفة المخفي، الذي لا يخفى على ام رياض، وام رياض طعنت في السن وبدأت تخربط بين اسماء احفادها، ويقال ايضاً بين اسماء ابنائها، لكن المستقبل لا يخفى عنها وتورده كما في نشرات الاخبار، مفصلاً ومطولاً، ومليئاً بالتعليقات والتحليلات والتوقعات، والامكانيات المطروحة، وهي تؤمن ان الانسان ليس مسيراً تماماً لكنه ليس مخيراً بشكل مطلق، وانه يقدر في حالات ما، ان يتوكل على عقله ويغير بعض الامور، لكنه لن يغير المصائر. والحاجة ام سليمان وافقت ام رياض بالكامل لكنها لا تدري اين سمعت هذا القول "اعقل وتوكل" فهي متأكدة انه مكتوب في الكتب.

وما يميز ام رياض كفتاحة بخت هو نصائحها التي لا بد منها لمواجهة كل طارئ تكتشفه داخل فنجان القهوة. وكثيراً ما انقذت (برؤيتها الثاقبة للطالع المثبت في فنجان القهوة) ابناء الحي من غدر عزرائيل او من مصائب اقل قسوة، وهذا مؤكد على ذمة نساء الحارة مجتمعات ومنفردات، ويقلن ان ام رياض كانت تنذر صاحبة البخت بما هو معلوم وواضح في قعر الفنجان او علىحوافه، وكيفية الاستعداد الكامل للطارئ القادم، واحياناً تعطي اشارات لا بد من تذكرها والانتباه لها، وانه لا بد من الاستعانة عندها بالحاجة ام سليمان لتبخير المنزل وتلاوة الايات الكريمة ورش الملح خارج البيت، اذ يقال ان الارواح الشريرة لا تحب طعم الملح وترتعب من تلاوة القرآن ، ومن ثم , اذا كان الطارىء مرضا , يجب الانتقال للطبيب، ليواصل ما بدأته الحاجة من علاج وطرد للارواح الشريرة، مما يمهد الطريق للعلاج.

توصلت النساء الى ضرورة اخذ اسرارهم من صغارهم اي من اولاد الانعزاليين الذين يشاركون اولاد الحارة بعض العابهم قبل استدعائهم بلهجة آمرة للعودة الى البيت. لكن الاولاد مقلون بالكلام، نسخة من اهلهم. حثت النساء اولادهن على استقاء المعلومات عن الضيف الغريب من ابناء الانعزاليين.. غير ان الاولاد لا يقلقهم ما يقلق ذويهم وينسون ما اوكلوا من مهام حينما تسخن اللعبة.

اشتدت الحيرة بالحارة، وحتى لا نغفل امر ما يجري لا بد من ان نسجل ان محاولات بعض النسوة لاستدراج اولاد العائلة الانعزالية في الحديث لم توفق، وفشلت فشلاً ذريعاً، وكاد يصل حد الفضيحة، اذا انتبهت الام ومنعت اولادها من النزول للعب.

اتهم الرجال نساءهم بأنهن قليلات خبرة في مجال التحري والتحقيق. بل واحتد احد الرجال واتهمهن بأنهن قليلات عقل. وذكر رجل آخر آية قرآنية كما قال، تؤكد صحة قلة عقل النساء. احدى الزوجات تحدت زوجها غاضبة ان يجلس حضرته ويجري التحريات وعمليات الرصد وجمع المعلومات بدلاً منهن، بدلاً من التلفظ بالتهم الجائرة والاهانات. صاح رجلها بغضب، ان الجواسيس كانوا دائماً من الرجال، وتحدى ان تذكر امراة اسم جاسوسة؟! ودعم كلامه باسماء معروفة، مثل رأفت الهجان، الذي شاهدوا حلقات المسلسل عنه في الصيف الماضي، واضاف اخر حتى جواسيس اعدائنا كانوا من الرجال. هل سمعتم باسم ايلي كوهين وما فعله بالسوريين؟! وقال آخر، انه حتى في امريكا، ام المساواة، الجواسيس من الرجال، فهذا بولارد.. يتجسس لاسرائيل، وصاح شاب متحمس انه حتى الجاسوس جيمس بوند كان رجلاً وان النساء كن لمتعته فقط. فنزل الصمت على رؤوس الرجال، فهم لم يسمعوا بهذا الجاسوس، ولا يريدون ان يظهروا جهلهم امام نسائهم، ثم ان قصة تمتعه بالنساء كانت ثقيلة وغير لائقة لتقال في محضر مشترك بين رجال ونساء الحارة. وكان افضل لو تركها لجلسة رجالية.. وهنا نطق شيخ الحارة حكمه غير القابل للرفض وهو ان الرجال كانوا دائماً قوامين على النساء ديناً وشرعاً وعقلاً.

انسحبت بعض النساء باستنكار، ولأول مرة يحدث انقسام واضح رغم الصمت الذي تواصل بسبب حذر النساء من تأزيم زائد للموقف. ومع ذلك بقي المخفي يستفز اهل الحارة ويثير حيرتهم.

كان الضيف/الساكن الجديد يخرج باكراً كل صباح، مهندماً على آخر طراز، يفوح منه عطر ذكي، مما دفع الرجال للاقتراب منه ومبادلته ابتسامات واسعة وتحيات صباحية عطرة، متنشقين رائحة عطره الذكي، وقد اثار نوع العطر وثمنه خيال الحارة، خاصة الرجال. واضاف حججاً جديدة لضرورة الكشف عن المخفي. البعض قال انه عطر مستورد من مصانع البغاء في الغرب، التي تصنع هذه العطور لجعل المرأة طوع بنان الرجال. آخروا استخفوا بهذا التحليل، وقالوا ان صناعة العطور اليوم حدودها السماء، وانه من الخطأ مقارنتها بالكولونيا الرخيصة والمغشوشة التي تباع ببقالة الحارة. وان العطور اليوم اثمانها تشابه اثمان الذهب، هذه المسألة استصعب الرجال استيعابها. اما النساء فتحسرن، مما أثار حفيظة وخوف بعض الرجال، فقطعوا حديث العطور، وقالوا انه من الواضح ان الضيف/الساكن مليونير من اياهم وبالطبع لم يكن من الصعب الطعن بهذه النظرية، لعدم امتلاك الضيف/ الساكن سيارة فاخرة، فهو يستعمل نمرة 44 وهي اشارة للحذاء. وكان الضيف يعود اخر النهار مهندماً معطراً كما لو انه محفوظ في براد. وثار تساؤل جديد، كيف يطيق الضيف ربطة العنق والجاكيت في هذا الحر؟ واضيف هذا السؤال الى لائحة المخفيات التي لا بد من توضيحها وتفسيرها.

المسألة التي تستحق وقفة خاصة ان الراصدات من النساء، اكتشفن ان الضيف ظهر حتى هذا الوقت ب (7) بدلات مختلفة الالوان والتفصيل و ب (12) قميصاً بالوان مختلفة. واختلفوا علىعدد ربطات العنق، بسبب صعوبة التمييز بين الوانها من نقاط المراقبة والرصد، فمنهن من تصر انها (8) ربطات عنق حتى اليوم، ومنهن من تصر على (12) ربطة عنق تماماً بعدد القمصان. لكنهن اتفقن ان يبقين هذه المعلومات طي الكتمان عن مجلس الرجال، نكاية بهم من الاهانة الجماعية التي طالتهن، غير ان "سمر" ضعيفة النفس، التي تشترى وتباع بابتسامة من زوجها، اعترفت في لحظة ضعف بهذه المعلومات السرية. وكاد اعترافها يحدث طوشات بيتية بين الازواج وزوجاتهم، بسبب شعور المهانة وفقدان الهيبة، واستهتار النساء الظاهر بمركز الرجال، باخفاء اسرار يجب الا تخفى، حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه، ويتدهور امن الحارة واستقرارها، وما ينقص رجال حارتنا في هذا الزمن الرديء ان يتعطلوا عن اعمالهم للقيام بمهمات الاستطلاع والرقابة؟! حقاً النساء قليلات عقل، بل و"قليلات دين ايضاً" كما قال شيخ الحارة واضاف: "ان كيدهن لعظيم" اما المسألة التي استصعب رجال حارتنا هضمها، فهي كيف يعرف زوج سمر، الحديث العهد بالزواج والمسؤولية، هذه الاسرار وهم ذوو النفوذ والسطوة تخفى عنهم؟

وجهن النساء اللوم لسمر التي فضحتهن، وتقرر فرض مقاطعة نسائية كاملة عليها عقاباً لها للخروج عن كلمة النساء وفضح اسرارهن. غير ان زوج سمر لم يهزه الامر. طمأن سمر بأن هذه المقاطعة لا تختلف عن المقاطعة العربية لاسرائيل، سرعان ما تصبح فتحاتها اكبر من فتحة طبقة الاوزون. قد يعالجون فتحة الاوزون، مهما طال الزمن، اما اوزون المقاطعة العربية فيتسع باستمرار، ونفس الحالة مع نساء الحارة.. وقال لها: ابدئي بجارتنا الحجة ام سليمان فهي المفتاح. تحملي كشرتها وادعيها لتبخر البيت، فهي تعشق هذه المهمة وتكرس لها كل وقتها وتفكيرها واحلامها.

قالت له سمر انها لا تؤمن بهذه الخرافات والتقاليع. طمأنها بأنه لا يختلف عنها، ويعتبرها تمثيليات مسلية، لكننا ابناء حارة يسري علينا ما يسري على الجميع ونقبل ما يقبلون، هكذا السياسة يا سمرة. وبهذا الشرح الوافي والواضح تعلمت سمر اول دروس السياسة، وبناء عليه كشفت لزوجها معلومة جديدة بأن الراصدات سجلن حتى اليوم، استعمال الضيف لـ (3) ازواج من الاحذية المختلفة، فطالتها قبلة من رجلها، وهكذا كان.

مع صباح اليوم التالي، رصدت سمر خروج ام سليمان لبلكون بيتها، مقابل بلكونها بالضبط، فسارعت سمر تلقي على جارتها تحية الصباح بصوت قصدت ان تسمعه عاشر جارة.. اجابت الحجة ببرود وبعدم رغبة ظاهرة في تبادل ما هو اكثر من التحية. غير ان سمر عاجلتها بطلب تبخير البيت، خوفاً من ارواح شريرة تكون وراء فلتان لسانها وتخريب سر نساء الحارة. وقالت انها كئيبة وتشعر بتوعك وانها لولا ذلك لما فتحت فمها, اذ ان زوجها رأى حالتها واصر ان يعرف ما تعانيه ويبدو انها كشفت السر وهي غائبة عن الوعي.

توردت خدود الحجة وفتحت عينيها بيقظة، وانهالت تخاطب سمر بيا حبيبتي ويا روحي ويا ضو عيني، ويا فلذة كبدي، والعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن العفاريت والجن، وتمتمت بايات مقطعة، وصلت كلمات متناثرة منها لا يربطها رابط بمعنى واضح، وقالت بصوت مرتفع لتسمعها الجارات: "انا في الطريق اليك يا سمر يا روح امك.. لن ابقي لهم اثراً باذنه تعالى".

وهكذا انتقلت المعلومة من بيت الى بيت، باسلوب يضاهي بسرعته وانتشاره افضل محطات التلفزة، مثل تلك التي نقلت لصالوناتهم حرب العراق المسماة "الجزيرة" وحتى افضل من سرعة انتقال الاخبار المفبركة لدار الاذاعة الاسرائيلية.

دب النشاط في الحارة، وتجمعت الجارات داخل وخارج بيت سمر لحضور طرد الارواح الشريرة من بيتها.

قامت الحاجة بجهد واضح، وبذلت ما في وسعها من قدرة صبر وقوة ايمان، حتى ظهرت شرايين عنقها وأجهدها التعب والعرق، وما ان اتمت مهمتها، حتى تساقطت متهالكة على الكنبة، فسارعت اليها سمر بكوب ماء بارد.

اما المفاجأة الكبيرة التي لم يتوقعها احد فهي ان الراصدات في الصباح التالي ابلغن المتجمعات في بيت سمر ان الضيف لم يظهر هذا الصباح، فأصابهن الخبر بالذهول والحيرة ومضت عدة ايام وصار عدم ظهور الضيف مرة اخرى حقيقة متجلية.

وتعطلت او كادت مشاريع الرقابة وتوقفت النقاشات واختلافات الرأي وبدأ الملل يتسرب للبيوت، فتطفأ الاضواء في ساعات مبكرة ويلهو كل رجل بما كتب له.

وفي صباح احد الايام وحتى قبل ذهاب الرجال الى اعمالهم، طرقت ام سليمان باب بيت سمرة بقوة، صارخة بفرح شديد انها تعرف الان حقيقة الضيف المزعوم، فهو ظهور للشيطان بصورة بشرية بهية، اختفى حينما نجحت ام سليمان باخراج روحه النجسة من بيت سمر وانقذت الحارة من احابيله، فالحمد لله!! 

 

 

الدرجات...

 

 

-" ليرحمنا الله جميعا، خسارتك يا رافع .. وحياة والدك انزلني قرب الدرج.. آه هنا .. يلعن الموت وايامه، ما تشوف الا الخير يا ابني . كم ادفع لك ؟.. الحمدلله على كل شيء. تفضل يا ابني ,, يرحم الله امواتك . ما عاد قد ما مضى ، اين كنا واين اصبحنا ؟ المرض يهد الحيل .. انها مشيئته ، يختار من يشاء .. ولا نطلب الا رحمته . لماذا الباب يستعصي على الفتح ؟ .. آه ، ما عاد في اليد حيل ، يخلف غليك ويسلم ايديك .. وان شاء الله ما تشوف يوم اسود . هالبلاد من يوم ما تشرد اهلها ما عاد فيها خير .. أيوة .. راح الشباب وما عاد في البدن حيل .. ارحمنا يا رب .. ارحمنا وخلصنا .. وارفق بحالنا "

نزلت من سيارة الاجرة ووقفت تتأمل الدرج الممتد امامها الى الاعلى ، بشيء من الحيرة والاسى .

كانت شمس آب تشوي شيا . أمسكت بدرابزين الدرج والتفتت حولها تبحث عن مساعدة . كيف ستعلو كل هذه الدرجات لوحدها ؟!.. قالت لنفسها " ما في اليد حيلة " .. بحثت عن نسمة هواء تلطف بها عن نفسها من هذة الشمس الملتهبة . فتحت فمها واخذت نفسا عميقا حاولت به ان تبرد عن جسدها الممتلئة طياته بالعرق المتفصد الحار .. وبشيء من الاستسلام لامر مفروغ منه ، صممت على الصعود تاركة امرها لمن في يده الحل والربط..

 

الدرجة الاولى

 

على مهلك يا محروسة .. اطلعي درجة درجة .. صحتك على قدها .. كل شيء ولا تعب القلب .. ها .. خذي نفس ولطلعي .. عبئي صدرك بالهواء .. على راحتك .. من يوم ما شفناهم ما شفنا الراحة. انتبهي انتبهي .. تنفسي بعمق .. بعمق شديد . العجلة من الشيطان ، الله يلعنك يا عزرائيل ، ما بتتعب لا من طلوع دراج ولا من نزول دراج . طالع خفيف ونازل مليان . نازل فاضي وطالع حامل . لا هم لك الا الطيبين . خذ عنا اولاد السوء .. يا ربي ابعده عنا .. انت الغفور الرحيم .. انت الجبار المتمكن .. اشملنا بمحبتك ورحمتك يا عالما بالاسرار .هبنا من لدنك قوة . خذ اولاد الحرام .. ذهب الخير يوم جاءوا . خذي نفسك وعلى مهلك .. ايوه ..

 

الدرجة الثانية

 

الطبيب قال لك نزلي وزنك .. وانت يا محروسة بطنك فابركة .. ماكينة شغالة ليل نهار . يقبر الطب واللي اخترعوه .. هل نعيش بالحرمان حتى نرضي الطب والاطباء ؟ حتى لذة الاكل يستكثرونها علينا بعد ان فقدنا لذة الشباب . أيام زمان عاشوا فوق الميت سنة، وما عرفوا مرضا .. كانوا يطحنون الصخر ولا يشكون من الم الاضراس. لا يعرفون اوجاع المعدة ولا عسر الهضم . احترعوا الدواء ومرمروا اجسامنا وحياتنا به . حياة والدك كان ينطح جرة عسل وعمره ما قال شبعت .. ولا قال أخ .

عسل ايام زمان كان عسلا .. واليوم يا حسرة صار سكرا !!

من يوم ما شفناهم راح الخير .. الدنيا ما عاد فيها خير .. دوسي على عزرائيل ..  ها..

 

الدرجة الثالثة 

 

( مرمر زماني يا زماني مرمر )

عزرائيل مرمر ايامنا .. جاء بركابهم وقعد .. يصول ويجول دون وجل من  حساب . هل صارت رقابنا رهن اشارته ؟

آه يا ام رافع يا مسكينة .. ماذا اقول لك ؟!

جئنا للتعزية .. حياة زفت . الموت دابك نهش بالبشر . شباب مثل ليرات الذهب يخطفها عزرائيل في غمضة عين . ماذا ستقولين لامه المسكينة ؟.. اعتمدي على الله يا ام رافع ..يا نحس ابعد عنا .. تفو على عزرائيل .. تفو عليه اعمى البصر والبصيرة .. هناك من هم احق بالموت والحرق . مرمروا ايامنا ولاد الحرام .

مصيبتك لا تحتمل يا ام رافع ... يا عاقلة، يا خدومة ، يا كريمة . تفو على عزرائيل .. الف تفو عليه وعلى ايامه .

على مهلك .. خذي نفسك .. ونفسا آخر اكثر عمقا يا محروسة . املأي صدرك بالهواء . . وعلى راحتك ..

 اصعدي ، ايوه .. الله معك ..

 

الدرجة الرابعة

 

مات الخاير وترك اطفالا مثل العيدان الخضراء . القلب قتله .. قاتل الله الامراض .. عرض وطول ووجه مدور مثل القمر .. كل ام كانت تطمع بعريس مثله لابنتها .لا ينفع اللطم يا ام رافع .. اولاده صغار وبحاجة اليك .. دنيا لا تخضع الا للقوي .. وبعدنا عم نقول مشيئة الله ؟ هل مشيئته حقا تيتم اولاده وهم اطفال بحاجة الى رعايته ؟ ترميل زوجته وهي صبية بحاجة الى صدر يحميها ؟ ونقول الموت حق ؟ طز في هيك حق . حياة لا تسوى .. آه يا صدري .. قال مشيئة الله ؟ يلعن الدرج واللي يحبوه .يقطع النفس ويوجع القلب . . والواحد ما عاد فيه مروة .. يا ساتر .. كله من الاكل  اللي يخترعوه .. خيار على شجر ..  وبندورة على شجر ، كثير وقليل الخير ، لا يقوي جسما ولا يمنع مرضا .. ولا يقاوم موتا .. والهم والغم دافق ..

 

الدرجة الخامسة

 

وقفت برهة تلتقط انفاسها .. وصدرها يعلو ويهبط ارهاقا ، وعرقها يسح مالئا طيات لحمها المتثاقلة .

أخذت  انفاسا سريعة متلاحقة، محركة الهواء امام وجهها بيدها .

تأملت ما تبقى من درجات امامها ، وهزت رأسها برثاء وعجز وحيرة ، وعلى محياها ارتسمت خطوط عابسة . ارتاح صدرها قليلا وهدأ تنفسها .. تأملت ما تبقى من درجات بحيرة . شدت قبضتها على الدرابزين  حتى لا تفقد توازنها ويحدت ما يخيفها .. ليت احدا يعينها .. حتى هذه الامنية تستعصي  بلحظة الشدة .. اخذت امرها بيدها . وصعدت .

 

الدرجة السادسة

 

الدرج طويل يا محروسة . ابنك قال لك " ارتاحي يا يما ما بيعتب عليك احد " . الطبيب امرك بالراحة ... ولكن الواجب مقدس وله حرمته .. جيل اليوم لا يعرف الواجب الا من خلال مصالحه .. النقود اكلت الاخلاق . كثيرة وما لها قيمة ..أيام الليرة العسملي كانت الليرة تنطح بقرة ، وليرة اليوم ما بتكفي ركبة حمار ... غيروا شكلها مرات . قطعوها ووصلوها وغيروا اسمها .. يرحمها الله .. ما عدت اميز بين الاوراق . كلها بلا قيمة . هي احق بالموت من شباب اليوم . لن يأسف عليها احد .. والأخلاق صارت زي الليرة .. تقلصت مع تقلصها .. قال ما بيعتب غليك أحد ؟ انت حر .. المواساة في الموت يا ابني ولا الاشتراك بالافراح . الله يساعدك يا ام رافع .. زوجك تركك صغيرة .. قتلوه الانكليز .. جاء النحس بركابهم .. خرجوا وما خرج .. عدوى لا فكاك منها .. وابنك يقتله عزرائيل النحس ، ولا يشفق على شبابه ،  دنيا مقلوبة .

شعرت ببعض الارهاق فتمهلت تلتقط بعض الهواء .

 

الدرجة السابعة

 

بلغت نصف الدرج ولم تسمع لا حس ولا نس .. اهذه دار ميت ؟ !

ما الحكاية ؟  ولماذا هذا الصمت ؟!

نظرت الى الدرجات المتبقية امامها بألم وحيرة وقالت لنفسها : " يسكنون في العلالي من أجل وجع القلب "

 

الدرجة الثامنة

 

لا ترهقي نفسك يا محروسة .. حافظي على اعصابك .. وعلى مهلك .. حتى الباب مغلق ؟ ما الحكاية يا عالم ؟ ! ولا تبدو حركة في الساحة ..؟ ربما بكرت في القدوم ؟ .. ولكن انت مثل امه .. ارضعته مع ابنتك الكبرى .. ولولا ذلك لتزوجها .. الدنيا اسرار ، لا يعلم بالغيب الا صاحب الغيب نفسه . حتى قدماك تصبحان ثقيلتين . ارطال اللحم تضغطهما تحتها . قال خففي وزنك قال .. على آخر العمر ، دنيا ما بتسوى ، ركض وشقا والكل واصل للجورة .. صار الناس يترحموا على زمان الترللي بعد ما ذاقوا الامرين من حكام اليوم .كانت الدنيا بخير .. فانقلبت . رحمتك يا عالما بالغيب .. ها ...

 

الدرجة التاسعة

 

ها.. ركض وشقا والكل واصل للجورة..ما بيدوم غير عزرائيل ووجع القلب ونجار التوابيت . لماذا هذا الصمت والميت شاب ، تمزق اللوعة عليه القلوب ؟!

يا غراب البين .. ها .. هاه .. اف من هذا الحم وقلة الهواء .. ارتاحي لا تسرعي للموت برجليك . خذي نفسك وعلى مهلك .. تمسكي بالدرابزين .. اصعدي على راحتك .. لا احد وراك بعصى .. سوى عزرائيل ، لا احد وراك .. سنتين لم تزوري ام رافع .. منذ انتقلت لهذه الانحاء .، كادت تنقطع معرفة وجيرة عشرين سنة .عمر يمضي بغمضة عين . امس كان الاولاد يرضعون مع بعض .. دنيا !!

 

الدرجة العاشرة

 

( جينا الدار نسأل ع الحبايب )

( لقينا الدار بتبكي ع اللي غايب )

ارتاح من شرهم ، قلوبهم مثل الحجر .. ضرب الخناجر ولا حكم النذل . لولا انه الموت لقلت زاح الهم عن اكتافه . من يوم ما شفناهم  والشباب يموتون بسبب وبلا سبب . حتى الامراض كثرت . شيء نعرفه وشيء لا نعرفه . جابوا الامراض عشان يشغلوا الاطباء .. رحمتك يا رب .. رحمتك وقوتك .

هانت .. بقي درجتين وتصبحين في الدار .. لا ترهقي روحك بالبكاء ، مع ان المرحوم بمقام ابنك .اللوعة في الصدر تنشف الريق وتغم البال . احترسي .. قلبك مهزوز ووراك عيلة .. بنتين مثل زرين قرنفل .. والعرسان كثار .. الله يبعث منهم من يشاء ومتى يشاء . نصيبهم بيده .. يرحم من يشاء ويهب من يشاء . ترحم بنا وابعد عنا النحس يا رب . تفو على عزرائيل .. درجتين لا غير ..

 

الدرجة الحادية عشرة

 

البيت هادئ كأنه مسكون .. الفأر بدأ يلعب بعبك .. ما هذه الحكاية ؟! انت في حلم ام في علم ..؟ لا حس ولا نس ؟  لا صوت ولا صراخ ..؟ لا بكاء ولا لطم ..؟ والميت مثل ليرة الذهب ..وام رافع ست من ناح ولطم ؟  فكيف والفقيد فلذة كبدها ؟؟

ولكن يا للعجب .. لا سمع ولا حركة ؟!

توكلي . . خذي نفسك .. والله معك ..

 

الدرجة الثانية عشرة

 

بقيت درجة والانفاس تقطعت .. خذي نفسك يا محروسة .. الخبر وراء الباب المغلق. عبئي صدرك وعلى مهلك .. عبئي صدرك هواء، أثمن شيء ببلاش .. اياك من المغلاة بقدرتك .. انا مثل اختك يا ام رافع .. ورافع ابني .. رضع حليبي يوم رماك المرض .. عمر يركض ويتركنا نلهث .. الحياة تهجرنا وتتركنا خرائب .. يا حسرة على ايام زمان .. وأكل زمان .. ما ذهب من عمر لا يعود .. حتى الارض خطفوها اولاد الحرام .. يا غراب البين .. يا غراب الشؤم .. تفو على عزرائيل .. يحرمنا من الفرح في آخر عمرنا .. كمان عزرائيل مع القوي .. تفو على عزرائيل ..

 

الدرجة الثالثة عشرة

 

الثالثة عشرة .. والأخيرة ،الحمد لله ..  عدتهم بالتمام والكمال . رقم منحوس . من يوم آدم وهذا الرقم منحوس .. ما له نصيب .. لو نقصوها درجة..؟ او زادوها درجة ..؟ جئت اشاطرك حزنك يا ام رافع . آه من لوعتي .. كيف القاها وماذا اقول لها ؟.. كيف اطيب خاطرها بهذه المصيبة ؟ تحلي بالصبر .. هل عاد فينا صبر حتى نتحلى به ؟! طرقت الباب وهي تلهث منهكة مقطوعة الانفاس من التعب والحر واللوعة وصعود الدرج ...

أطلت بعد برهة فتاة صغيرة ، وقفت قبالتها صامتة تتأملها ، هل هي ابنة المرحوم ؟ اين قلبك يا عزرائيل ؟  نظرت للفتاة الصامتة والتي لا يبدو عليها امر خاص ..كأن الميت ليس والدها ؟ نظرت من الباب المفتوح الى الساحة امام البيت .. فلم ترى ما يشد نظرها او يشير الى وجود ميت . ما الخبر ؟!.. لا يبدو كبيت ميت ؟!

استولت عليها الحيرة وثار قلقها مما هي فيه .. او يكون الميت قد عاد الى الحياة ؟! سألت الفتاة وكأنها تسأل نفسها :

-بيت ام رافع يا عيوني ؟

ثقتها تقول ان هذا هو البيت ، لا يمكن ان تصعد كل هذه الدرجات هكذا لوجه الله .. ولكن الفتاة رغم صغر سنها .. الا انها ، كما يبدو ، فهمت المراد .. فها هي تتحمس وتطل نحو البيت على الجهة الاخرى من الشارع ، وتقول مشيرة اليه بيدها :

-الدرج المقابل يا خالتي !!

 

 

كنت معها...

 

ان يعيدك تلاقي نظرات غير متوقعة , الى ما كانت تظن انه محي من سيرتك وتاريخك , تلاشى من ذاكرتك واضمحل اثره في وجدانك , وان يحيي ذلك اللقاء الصامت , ما صار منسياً ثم الاندفاع بالنظرات للبحث في القسمات والتعابير بلهفة و عبر لقاء فجائي بين زوجين من العيون , فيعود المنسي ببريق متوهج ينجلي تماما بأبهى صوره , يكثف جوهره , يتجذر وكأنك تواصل ما كان بلا انقطاع , ويسيطر بلا مقدمات ... بدفقه السحري على ذهنك , ومن شدة مفاجأتك وارتعاشك تكاد تطفر دمعة , ليست دمعة فرح بعد لقاء . فلم يكن بينكما لقاء , وليست دمعة حزن على فراق , فما كنتما في لحظات فراق , كان لقاء لم تشارك فيه سوى نظراتكما , وانفاسكما , ومع ذلك تمنيت ان لا تؤول اللحظات الى انتهاء , ان لا تفنى الدقائق , ان يتوقف كل ما في العالم عن الحركة , ان يتجمد , تتشابه كل النساء في العالم في حياتك , الا هي , تشابهت كل الاختراقات وبقي اختراقها سراً مكتوماً . تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق , تجلس ضامة شفتيها , بهدوء رخيم , ولا يتحرك فيها الا عيناها المتنقلتان بين عينيك وبين صحن الطعام  .  نفس النظرات ونفس الاناقة ونفس الجاذبية . هل عرفتك؟ نظراتها تقول نعم , وقسمات وجهها لا تقول شيء . ربما تقول ..؟؟

أيقنت ان الذكريات لا تعترف بالزمن , ولا تستسلم للانتهاء , فوجئت بارتعاش اطرافك ووجيب قلبك , وغبت مجبراً عما حولك . كنت موجوداً بجسدك وغائباً بذهنك , وها انت ترحل الى حلم بعيد تكتشف نفسك من جديد .

تفزعني كثافة حلمي . أهو حلم يعتريني , ام واقع غريب كالاحلام ؟ كالسحر ؟ هزتني المفاجأة ونقلتني من حال الى حال . كنت كمسافر اضنته الطريق واخذته بعيداً . أرهقته المسافات , وتاه طويلاً في المساحات , خطفه الحزن وتنازعته شتى الامنيات والرغبات , كرب وفوضى رغم الحقيقة الواضحة , متيبس في صحراء ... تائه , وفجأة ينطلق الرذاذ الرطب الى وجهي ... التقطت انفاسي طالباً المزيد , وما كانت من وسيلة للمزيد الا نظراتي , فيزداد حلقي تيبساً وتزداد شفتاي جفافاً , ازداد لهفة , ازداد لوعة.

من لي بقاهر الزمن , يمحي من ذاكرتي فراقها , ربما يعيدني اليها , يعيدها الي لأغير ما جرى , لنغير نبض أيامنا و نعطي لما بقي من عمرنا وعشقنا رونقه المقدر , نعيد أجمل ما في العمر ونواصله .. نجدد الوصال و نجدد العشق.

كنت اظن ان الزمان كفيل بطي ما كان . ينهي الرغبات ويبدد الأحلام . فاذا الزمان يخر صريعاً امام رحيق امرأة جعلت مني غير ما انا .

زرعت في أحاسيسي رعشات قبلاتها , وملأت الهواء حولي بخمرها , بعبقها , برحيقها , بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل الزمن , يبعث بمجرد التفكير فيه تخديراً لذيذاً يجري في الشرايين , يتدفق مع دمي لكل أطرافي , ولا يتوقف...

لا أدري ما يراودني . أبحث عن استراحة ارتب فيها نفسي واوراقي ويقيني لأعود أتابع حلمي البعيد.

أهو حلم حقاً؟ ربما رغبات ضائعة ؟ وربما أوهام ؟ أو حقيقة لم تتم ؟ عدم تمامها يعذبك ؟ وهل تقدر الأحلام ان تحفظ رحيق امرأة ونشوة ابتعد بها الزمن؟! وهل الزمن وهم... تخيلات ؟ ام حقيقة موضوعية؟

انتهى كل شيء قبل عقدين ونصف العقد . من السهل قياس حياتنا بالزمن ومن المستحيل قياس ذكرياتنا بالزمن. الزمن معادلة قهرية , لا تستقيم  مع الحب . ربما ما يعتريني يؤهلني لكتابة نظرية عشقية في مفاهيم الزمن والصبابة؟ ولكن رحيق المرأة لا يؤمن بالزمن , لا يؤمن بالمقاييس الثابتة... وكم اتمنى الاقتراب من ملتقى الرقبة بالكتف, لأستنشق خمرة أنوثتها بعمق وحرية . هل أنا في عالم ملموس ؟! ام في زمن خرافي ؟ هل يحد الزمن سحر امرأة ؟! هل يقضي على الاحساس بالنشوة التي كانت؟! وأقول لنفسي ان الصبابة لا تؤمن بالزمن. والعاشق لا يؤمن بالزمن , لكن لا شيء يوقفه , الزمن لا يتوقف . ربما انا بحاجة الى شيء من الادراك؟! هل في الجنون ادراك؟! وهل في هذا اللقاء ادراك؟

أحياناً تبدو الكتابة عن المحسوسات غير المادية مستحيلة عبثية , وان عالمنا المادي لا يعترف الا بالموضوعات المرئية والملموسة , وان خروجنا عن هذه القاعدة يرسلنا بعيداً نحو الغيبيات . لوهلة لم اثق انها هي . ترددت غير اني تأكدت من نفسي . هذه تفاصيلي التي أعرفها . تمتد يدي المعروفة لي تماماً نحو كأس النبيذ . أبيض يميل الى الاصفرار.

طعمه معروف لي ولساني يعتصر بتلذذ أخر ما تبقى من الرشفات .لا أشعر بقدمي , ولكني متأكد من ملكيتهما , وهذه يدي اليسرى تسند ذقني وأنا مسحور من  المفاجأة , وعيناي ترفضان الأبتعاد والتعقل . لا ارادة لي في زجرهما , ولكن ذهني يتلقى وقائع اللقاء المرئية مما يثبت انهما عيناي حقاً . تحسست رأسي متقيناً ان موقعه لم يتغير . ربما انا بحالة هلوسة من فعل الخمر ؟ ولكن الخمر لم تغدر بي في السابق , ولم تتغير العلاقات المتوازنه بيننا . وها انا بالكاد تذوقتها ,  وما حان الوقت لتفصح عن نفسها  ملوحة زاجرة . فأي خطوب تلم بي ؟! وأي طقس يعتريني , أهو طقس سكر ام طقس الحب ؟ أم السكر والحب بتعاون لا يعرف الخلاف ؟! هل لي بشفيع يخفف حيرتي ؟! يفرج كربي ؟! يرشدني؟! تكررت النظرات وتشعبت الذكريات , أحياناً تبدو الذكريات كلمحات لا يمكن الوصل بينها .. كتناقضات من المحال ان تشكل وحدة واحدة , غير ان يقيني التام ان الحب لم يهجر جوانحي ... والا ماذا تسمي الاحاسيس التي تدغدغني ؟!

غرقت في نفسي لاستجلاء انصع ما يكون من ترابط للذكريات التي تعصف بي . اوراق كثيرة تنتعف بوجهي , فألهث وراءها لاجمعها في نسق صحيح وارتبها بذهني , ضفيرة وراء ضفيرة . هل كنت أتمنى لقاء بلا ميعاد ؟! هل كان اللقاء ضمن توقعاتي ؟! خمس وعشرون عاماً تندفع في لحظة لا تقاس بمقاييس الزمن المتعارف عليها . تتوالد من الابعاد مشاعر ما كنت اظن انها ستعود لي . هل سأكتفي بها ؟! وهل تستعاد أيامنا من التاريخ ؟!أم نبقى رهائن للذكريات ؟! ما تبقى لي منها اطلال من الأحاسيس لا تغادرني. اخاف ان تغادرني . ربما توهمت اني نسيتها . ربما تناسيتها عجزاً من الوصول اليها ؟ تناسيتها لتخفي هزيمتك؟ وفجأة تكتشف ان ربع قرن يفصل بينكما , وامتار قليلة تبعدها عنك , قريبة وبعيدة المنال ... ربع قرن لم المحها ولم تلمحني . وها هي تجمعنا لحظة مجنونة كغرباء. لا يستطيع ان يقترب احدنا من الأخر ليتأكد بالملموس من صدق المحسوس ... وليتني اعانقها ولو للحظة , أكون قد حققت مرادي في الحياة , قلت لنفسي الحب لا يعرف الاستقرار . لا أذكر اني لمحتها منذ تباعدنا , انا متأكد من ذلك . وأنا واثق انها لم ترني منذ ودعتني بقبلة رطبتها دموعها . وهل تنسي تلك القبلة ؟! هل يتغلب الزمن على حرارتها وملوحتها ...؟ هل ينسى وجيف القلب؟!

لم يكن فراقنا تنافراً . انما كان قراراً وحيد الجانب . قالت انه ادراك للمسؤولية . رأيت به ادراكاً مشوهاً لحقيقة مشوهة , كان الأحرى بي التحدي . كنت مستعداً للتحدي.ولكنها أصرت على الابتعاد. فألتزمت برغبتها . وقلت لنفسي ان الانسان يحمل في داخله ضده.

كان التعارف بيننا سريعاً وغريباً وبلا مقدمات وبلا اجتهاد , بادرتني:

-انت تشدني.

كانت تتوهج بجمال فطري , اضافت اليه أناقتها البارزة , وحسن الاستعمال للاصباغ سحراً أخاذا.

لم افهم ما تعني "بتشدني" . ولكن بروز صفي اسنانها المرتبين بدقة و من وراء انفراج ابتسامتها , جعلني أفهم وأتغابى . اربكتني بجرأتها . لم اتوقع هجوماً بلا مقدمات . واعترف انها نجحت بارباكي كما لم يربكني احد من قبل . ارباك انقلب الى سعادة , ثم فراق ثم شقاء.

عرفتها في زيارة بيتيه لاحد اصدقائي. كانت تجلس في الصالون وتتبادل الحديث مع مجموعة من الصبايا في امور لا أذكرها , وربما لا أفهم منها شيئاً لو تذكرتها . بعضهن ارتبك لدخولنا فصمتن اما هي فواصلت حديثها بنفس الحيوية , بعد ان توقفت للحظة لرد التحية, مرفقة بأبتسامتها ... فراقبتها دون ارادة  بطرف عيني . كان فيها شيئاً مميزاً لا تكتشفه بسهولة ولكنه يشدك . وجدت نفسي أغوص بما لا عهد لي به , لم أستطيع مبادلة صديقي حديثه, ولم يفهم ما يعتريني , ربما فهم وصمت , أخترقت احاديث الصبايا بلحظة مؤاتيه وبمهارة ,  قد تكون اثارت شكوك صديقي لتحولي المفاجيء من الملل بتبادل الحديث معه , الى الحماسة بالحديث اليها ... وللأخريات . بدأ الاستلطاف من حيث لا أدري . وحدث التعارف من حيث لم أتوقع . النظر اليها راحة , والرغبة بالازادة لا تعرف حدوداً . حين قامت لتذهب , اعطتني يدها ... أسلمت يدي بحماس ليدها . ضغطت بلطف وصعقتني "بانت تشدني" ... بصراحة وبلا مقدمات وبلا توضيح اضافي .

وقالت:

- سأتصل بك لنواصل حديثنا.

قرصني صديقي بخصري فجفلت . إنتبهت فابتسمت ولم تضف , انما استدارت لتخرج وراء صديقاتها , وعدت لمللي من مواصلة الحديث غارقا بتوقعات وتحليلات سحرية .

بعدها التقينا كثيراً . ربما قليلاً ..  يتعلق بمفهومنا النسبي للكثير والقليل, ولكنها كانت لقاءات كافية لتوحد ما بيننا . كانت الفعل وكنت رد الفعل المشابه والمساوي له بالقوة . وتفاهمنا ان الاعجاب متبادل وبنفس القدر وان الاستلطاف تم واكتمل...فنعم ما حصل . قلت لنفسي ان كربي انفرج وأشرقت شمسي , وهذه بداية حقيقية للحياة . وقلت لنفسي هل تبيع اصلك الصعلوكي ومبادئك الملتهبة مقابل عشرتها؟! فقلت لنفسي ان الصبابة هي الخمر والمباديء هي الأمر . وهما مثل الليل والنهار , لا يحل الواحد مكان الأخر , انما يلتقيان في رقصة دائرية لا فكاك منها.

اندفعنا بعشقنا , غافلين عما تخبئه لنا الأيام , وكانت وقائع حياتنا تتجلى بين لقاء ولقاء . كان لقبلاتها طعم خاص لم أعهده في مغامراتي الأولى , حتى توتري وهيجاني مختلفان , اكتشفت نفسي من  جديد . اكتشفت الحب من جديد. انتشيت,  سحرني ما انا به وتمنيت دوام الشروق . تمنيت دوام الاستقرار وقلت لنفسي :

- ما انا به لم يراودني حتى في احلامي . وقلت : هذا منتهى احلامي ولن أطمع بامرأة غيرها .

كنت اريدها برغبة لا تعرف الحدود... قالت :

- اعرف ما تريد , وانا اريده كما تريده انت , ولكني لست بغجرية.

- الغجرية حارة حتى في الشتاء وحين ترقص تصبح مرغوبة أكثر.

- لا اعرف ما شدني اليك.ربما هذه حماقة حياتي الأولى.

- اضيفي اليها حماقة اخرى , لينزل على قلوبنا الأطمئنان والسلام وانا حاضر لأي ثمن تطلبينه.

قالت بشيء من الحدة والألم :

- هل انا بغي لتفاوضني على ثمن لحبي؟!

قلت مخففاً من زلتي :

- لا تفسري كلامي بغير معناه. انا اسير هواك...أصرخ مستغيثا ًللمزيد , فأحتملي نزوات لساني... لن اتجاوز ما ترفضينه . ولكن الرغبة مجنونة... ضمت راسي لمنحدر صدرها تحت الرقبة فتمنيت الا يؤول الزمن الى انتهاء , تفحصت بنظراتي معالم وجهها وامتداد الرقبة بين الذقن والكتفين محاولا المقارنة بالأصل الذي اعرفه. اجابتني بنظرة تقول اشياء ولا تقول شيئاً , أتستعيد هي ايضاً ذكريات ايامنا الملتهبة ؟ تحتفظ بطعم قبلاتي؟ بانسلال اصابعي بين خصلات شعرها ؟ بتفحصي مناطق صدرها المحظورة؟ كم تمنيت ان اكتشف بالرؤية ما ينتهي به انحدار الصدر, وصدتني بقوانين عشقها الصارمة المتزمته. كنت احاول ان استجلي بالعناق  عن طريق ضغط صدرها الى صدري , ما لم استجله بالرؤية المثبتة , والقبض عليهما بالجرم المشهود . صبرت حبيبتي على جنوني فتماديت .. ولكنها وقفت بالمرصاد . قالت لي ان مبادئي الثورية هي تغطية ناجحه لعبثي . قلت وهل تنفي المباديء الثورية الحب؟! قالت ولكنك عابث. كان حكمها غير قابل للاستئناف.

حددت المسموحات واكدت الممنوعات . قلت بأني سأتقدم لطلب يدها.فصدتني. قلت  :

- انت تدفعيني للجنون , ويستعصي علي فهمك ...هل هناك قيمة لحبنا الا بالزواج؟

- افضل من ان تدفعني للندم .. انت مغرور. انت طفل انت مستهتراً.. احياناً بلا تفكير؟

- ترفضين ما اؤمن به من افكار؟ الم تجمع افكارنا بيننا؟!

- ماذا تسوى بلا افكارك؟! ولكن ليت توازنك كأفكراك , ليت تفكيرك كأفكاري .

- أكرر اقتراحي... أريدك زوجة لي , الزواج يعيد الي توازني , يوصلنا للسعادة .

- انا خائفة ! احبك وخائفة . اقول لنفسي اني لن استطيع ان اكون لغيرك . وأقول لنفسي ان الحب سلطان كاذب , واقول لنفسي ان مصائرنا ليست بالضرورة ان تكون محكومة لرغبات نفوسنا. ربما ما بيننا هو طيشنا. هو لا وعينا . احبك واخاف. يهيأ لي اني ارتكب حماقة . أتألم واقع في حيرة. لا اعرف كيف اندفعت, ولا اعرف كيف اتوقف , اتمهل لاستعيد تفكيري . يجب الا نكذب على بعض . نحن مختلفان , اجتماعياً مختلفان. المسألة ليست بقدرتي على قبولك , ليس هذا ما يقلقني , ولكنك لن تقبل ذهنيتي الاجتماعية , لن تقبل اجواءنا , لن تقبل صياغاتنا و لن تقبل خصوصياتنا .

واجهشت بالبكاء , اخذتها بين ذراعي بقوة , لامست وجنتيها بشفتي . استلطفت ملوحة دموعها وحرارتها.

- ساتغير , سأتعلم ان احترم اسلوبكم ... المهم انت. يؤلمني عذابك!!

- ليس هذا ما ابحث عنه. انا لم اخلق لما نحن به , اكاد انكر نفسي .أرفضها.

بدأت افهم ما يعتري فكرها.بدأت المس خطأي في الاندفاع العابث المجنون .. واعترتني كآبة وتوجس . كان واضحاً اني رسبت في الامتحان .. فهمت ان ما شدنا الى بعض ليست رغباتنا . ربما اوهمتها بفلسفتي اموراً تبخرت. تلاشت مع العناق والقبلات , فلم يتبق الا الموضوع الصعلوكي , حتى في الحب قد اكون اندفعت باستهتار لأشباع رغبة مجنونة , فلم اميز بين الحب وبين المتعة العابرة . وها هي تستعيد توازنها . تبكي وتستعيد ادراكها. تحبني ولا تستطيع قبولي . استجديها فتبتعد اكثر . لأول مرة أتوجس ان تتركني امرأة , ان ابقى بدونها . كنت اركض من علاقة الى علاقة ومن رغبة الى رغبة , حتى وصلت اليها . حتى وصلت الي , فاتحدنا. كانت صريحة ومقنعة وساحرة في صراحتها . اقامت حدوداً جغرافية لا يجوز تجاوزها . وافقتها معتقداً ان قدرتي وفني كفيلان باختراق المستحيل . كنت مندفعاً مغروراً , وها أنا ادفع ثمن اندفاعي وغروري , رغم اني لم أحب امرأة كما احببتها , واعترف لا زلت احبها  .. وهل يكفي الحب؟! نظراتها تلتقي نظراتي ولا تقول شيئاً . ربما تقول ما لا استطيع ادراكه. وبنظراتي اتفحص مشدوهاً المساحات التي اعرفها , واحاول ان اطابق بين الصور الباقية في ذهني والصورة المتجلية أمامي.

وعلى حين غرة , وانا غارق في توجسي من انتهاء ما بيننا , باحثا عما يزيل كربي ويثبت قربي اليها , التفتت الي , وقالت بحزم طاريء.

- انا احبك ..اعترف.. ولكن سعادتي وسعادتك بالافتراق. عرفت هذا منذ اليوم الاول, ولم اصدق حدسي ... لا تقل شيئا .. لا تزد حزني ... اريد ان اذكرك كما انت...

قبلتني قبلة طويلة حرارتها فوق العادة . نظرت بعيني , ثم طبعت قبلة فوق جبيني , وتركتني وانطلقت دون ان تنبس بحرف أخر . ولفني الصمت .

انتظرتها في المواعيد المتفق عليها , فلم تحضر , انتظرت بلا أمل ولم احاول الاتصال بها. وجررت نفسي بعيداً عن طريقها . اتجرع وحدتي وألمي . اضطرب توازني وثقتي بنفسي . عشت عذاب الفراق . زاهداً بما يحطيني , متحسراً على ما فقدت وحزيناً لانقضاء اجمل ما في حياتي . هل من وسيلة تستعيد فيها الذات ما تحب ؟! ما بدا حقيقة مجسمة تناثر بلحظة؟!

مضي ربع قرن , خمس وعشرون عاما بالتمام والكمال. لم يفارقني حبها . لم يفارقني عبقها.

اريجها عطرها حرارتها , ملوحة قبلتها الاخيرة ... ولكنه انزوى في حنايا الذاكرة . حبي لها اكتمل ولكن رغبتي لم تكتمل , وما كان لها ان تبلغ وتكتمل حتى لو وصلت لما اريد .... كنت اريدها ليس للحظة , اريدها لكل العمر , ولما بعد العمر لو تيسر ؟ علمت بزاوجها وهجرتها مع زوجها الأمريكي الجنسية, والقريب ... ربما هو السبب ؟! وها هي نظراتنا تلتقي , تقول اشياء ولا تقول شيئاً. تصمت ولا تصمت . كنت جالساً مع مجموعة اصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطيء البحر في عكا, ورائحة السمك المقلي الذكية تخدرني . فهو ملاذي بعد فقدانها, السمك والنبيذ الابيض المائل للأصفرار . ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها , جعلني انتقم من الاسماك ... او احبها اكثر . رفعت كأسي المليئة بالنبيذ الأبيض , مستنشقاً عطره الاخاذ , حين التقت عيني بعينيها. كانت اكثر من صدفة . صدمة شعرت بعدها بارتعاش اطرافي وكأني أعود الى الماضي . وملأت الخمرة انفي بعبق انوثتها. ربع قرن وعبقها لا يفارقني شربت دون وعي ... اكلت دون وعي , وكنت مع اصدقائي وبعيداً عنهم , كنت معها وكانت معي ... وكان بيننا ربع قرن ... وأمتار قليلة!!

 

أضيفت في 26/01/2007/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية