ذاكرة الهواء
حتى عندما حطّ الغراب بقدميه أرض طاولتي المستديرة
لم أستغرب، بحث عن بعض فتات لقمتي الصباحية المتواضعة، لم أترك له سوى نثرة
أو نثرتين من الخبز
لم ترهما عيناي المثقلتان اللتان جنحتا في الأفق البعيد باحثتين فيه عن طير
آخر يداعب فرائص قلبي، فقامت عيناه المستديرتان بواجبهما التنقيب عنهما
وعندما وجدهما التهمهما بصمت وسرعة وكنت متأكدة أنهما لم تسدا رمقه.
نظر إليّ بعينيه الحادتين معاتبا يسائلني، ثم غادر
بهما إلى الأفق المشغول بنسج بعض الغيوم في بطن أزرق فسيح، نظر كثيرا إلى
البعيد وكأنه يشاركني محنة النظر، أحسست بانتمائه الوجودي وهو يلهث معي في
البحث عن المجهول. غطى السماء سرب من الطيور المهاجرة، تماوج بهداية وغادر،
وسرب آخر تهادى ورحل، والغراب العنيد المتكبر بقي معي لا يتحرك، يشاطرني
معزوفتي القديمة... معا غنينا بلهاثنا المتعب...
حاولت فك أسئلة الحوار بيننا، رسمت حوارا بدون حروف،
كانت لغة العيون جادة... صعب فكّ الرموز الإيمائية! لزمت الصمت واستسلمت
لتحركات ذيله الذي كان قويا عندما ضرب سطح الطاولة لينتقل بجسده الى حافة
الكرسي المقابل، وقف على قدم واحدة وانتظر ردة فعلي، ثم ركّز جلسته بواسطة
قدميه الاثنتين اللتين انتصبتا بحزم أمامي، كم كان قويا هذا الطير المرتاح
في وقفته! وكأنه لا ينتمي الى سلالة الغربان التي نتشاءم منها، بل ينتمي
الى سلالة أخرى وبما أنه مسالم يبحث عن طعام نظيف تركته يعبث بخصوصيتي
ولحظات توحدي مع نفسي.
شرد ذهني الى البعيد، البعيد جدا، لم أعرف كيف
ألملم هذا الشرود الذي يتأبطني دائما كفأس كاسحة تهوى علي رأسي، كم مرّة
يجب أن أذكّر نفسي أن الذكريات المُرّة لا تموت! أبدا لا تموت...
انتفض الغراب من مكانه وعاد الى الطاولة، كان قريبا
مني، خذلتني نظراته، شعرت بالندم عندما تذكرت إهمالي له فنسيت نثر ما تبقى
من الخبز في حديقة بيتي والذي كان بدوره قد تعوّد الاقتيات منها.
بادلته نظرة مستهجنة، ولم تردّني نظراته الى الدخول
حيث مطبخي وأن أقوم بتصليح خطئي وآتي لهذا الطير بكسرة يملأ جوفه، لم أحرك
ساكنا وهو كذلك، فكان كالمستبد، بلغته الخاصة قاومني فدمّر سكوني، انتفض
فتنصلت ريشة سوداء منه على الأرض، تمنيت لو كانت ريشة بيضاء، إذ كان من فئة
اللونين الأسود والأبيض، لم أرد التشاؤم، لكني سبحت في أفكاري مجددا نحو
المجهول القريب، وانتظرت الخبر، أريده خبرا ايجابيا، لا مجال لأخبار سيئة،
لا أريدها... هل انتظار ريشة بيضاء من غراب أسود سعيد شيء مستحيل اليوم؟
سألت نفسي.
لم تبدأ القصة بعد... ربما تبدأ من هنا... مرّ رجل
عجوز مع فتاة تقود كلبا أو ربما كان الكلب هو الذي يقودهما، مرّا من أمامي
على الرصيف المقابل، توقف الرجل كثيرا، ألقى ببعض ابتساماته نحو البيت،
تأمله وحاول البحث في ثناياه هو أيضا عن شيء فقده، بحث عن الذكريات في بقعة
أجلس فيها وفكري شارد نحو الأفق البعيد أبحث عنها أنا أيضا، ربما كان يرمم
حدود زمنه العتيق، مثلما كنت أرمم حدود ذاكرتي التي لا تهتريء، لم يستطع
لفّ الأشياء خلف قامته، فكانت قامته منحنية وظهره منكسرا، أشبع عينيه من
بعيد، تمنى لو يخرج من تحت بطانته والالتفاف هاربا من أبطيه الهزيلين
ويداهم المكان بقدميه الضعيفتين، أراد أن يصرخ وأن يعلن قراره، أن يشطب كل
التوقيعات، أن ينفث الغبار على وجه الآخرين، ولم يكن مستعدا لأن يمسحه، هو
ما يزال موجودا، والمكان الذي تركه يلازمه حتى ولو انتهى منه العمر، لقد
مرّ غباره على بعض منّي فانتفضت من مكاني، التقطت الريشة السوداء من الأرض،
خشيني الطير الماكث معي وفرّ في صولته بمجون ثم عاد ليأخذ مكانه بقربي.
وقفت أتوسله من بعيد، ربما كان هناك خطأ في المحطات،
بيتي الذي أسكنه غير مسكون بالسؤال... أو ربما كان!
جمد الرجل خلف الجدار أبيض المنخفض الذي فصل بيننا،
جدار يحيط بالحديقة ويهتز معلنا اقتراب موعد أفوله كلما فُتح بابه الصغير
القابع في وسطه وأغلق، تطلّع إليه الغريب بيأس فكانت نظراته الباهتة تساوي
بهتان لونه الأبيض.
مضى الرجل تاركا لي التساؤلات، قررت أن أقوم من
مكاني وأبدأ بتأسيس مملكتي بالجواب. تختلف المحطات من مكان الى آخر، لكن
محطات الذاكرة توقفها يكون أعمق وأجدى، سأكتب على واجهة البيت: ( هذا
بيتي أنا) كي يعرفه كل عابر محطات. اختلفت عليّ المحطات الكثيرة، لكن لا
بدّ وأن القطار الصحيح قد قدم وأقلّني، نزلت منه الى الأرض فترجلت في
الدنيا الواسعة، منحتني الدنيا من نعمها، استقررت فيها، اقتنيت بيتا بديلا،
هو ملكي الآن، سعيدة أنا به، آمن، جميل، فيه ثمّة حياة، متفاخرة بحديقتي،
بطيوري التي تمرّ في سمائي، وحتى بغرابي الذي لن يسمح بتسرب الآخرين الى
حياتي، رآني قلقة، فقد جاء غريم يخرجني من عزلتي الجميلة، تحول الى بندقية
مصوبة فوهتها الى هدف قريب، تنتظر مني الأمر، طاردت البندقية الرجل العابر
حتى عمق الخوف.
شعرت بارتياح لأني خرجت من قاع الجب الذي كان يستحوذ
علي، ها أنذا قوية هذه المرة ولن أتنازل عن بيتي مرة ثانية وعلى الرجل
المسن، ذلك الغريب المغادرة وبأسرع وقت، كما عليه أن يكون أكثر سعادة مني،
فهو يملك مساحة حياة، لديه محطة أخرى يؤسس خطواته فيها، وأنا كنت الشاهدة
على ذلك، شاهدته وهو يقف، يتأمل، يستذكر، ينفث أنفاسه الجميلة، لم تكن
معطلة، لم يكن وحيدا، كانت معه فتاة جميلة شابة، أكيد أنها حفيدته، وكلب
نظيف مهذب لم ينبح ... حتى لو كانت خطواته غبية!
أضيفت في
03/12/2008/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
عقارب
اكتشفت أخيرا أن الأشياء المرقطة في الحياة تبقى خالدة... كالذكريات. لا
ذكرى بدون اللون الأسود, حتى لما أتخذت مقعدي الثابت في زاوية الغرفة
الصغيرة, لم ترفق بي العقارب وهي تدور وتدور, تفرض عليّ عقوبة الانتظار
فأذوب شوقا للغد وما يحمله من
...
أتمسك بالثواني وكأني أمسك بلوح ثلج أعرف أنه حتما يذوب وسيقذف بي الى
الأعماق, ولا أملك في مساحة الساعة سوى قلم صاح ٍتعوّد أن يهزل بين أصابعي
ويختنق.
أنا الآن خارج منطقة العقارب المسممة, فقد خرجت بروحي وحيدا احملها وتحمدني
على عودتي سالما الى الحياة!
لم أنسَ أنني دست بقدميّ ظهرها في يوم ما ورحت أجوب بينها كالراقص المعربد
على مسرح الموت, فما الحياة سوى مصدر لا ينتهي بأسرّة النهاية, خيط اسود
يمسك الحياة من طرفيها, وعلى الذكي تحويل الخيط الى حرير مشجى بالالوان
الأكثر ازدهارا.
حكايتي لن تنتهي حيث بدأت. بل هي حكاية الدوائر التي مضت اليها العقارب على
مرّ الأزمان, عقرب تلو الآخر وتمتليء الساحة بأشواق وأشواك, الموت وحب
الحياة, الأبيض منها والأسود الذي ملأ الوجود...
هززتُ جسدي داخل الكرسي وأخذت أطرق باب الانزياح, رأيتُ نفسي أتمسّك بعقرب
لا يتحرك, خشيت أن يمضي العمر بلا انجاز فأخذت أشجع القلم البقاء بين
أناملي المتعبة المرتجفة أمام عقارب الساعة أمامي.
-
هل كبرت؟
سألني القلم وأجبته:
-
الأشياء هي التي تكبر وتشيخ!
-
الألوان تتبدّل!
أجبته بكل هدوء وكأني انتظر سؤاله:
-
أليس المُنتظَر هو الذي يتبدّل؟
لم أسمح باستمرار الحديث, فلم أعد أقوى على تحمل الأسئلة, قتلت الأسئلة
بقمة القلم وهو يدوّن دون صراخ لأنه كان ما يزال يحتفظ بهدوئه...
سمحت له التجول في ساحة الحياة بحرية لأنه بحاجة للمشاهدة المستمرة,
والمشاهدة بحاجة الى تجديد.
تطوعت العقارب المعلقة بخرق جدار الصمت الذي داهم سماء الحجرة, استمرت في
الدوران, كرسيًّ الهزاز سكنَ مكانه, فكان كمن يدوّن مشاهدة يومية, أو يكتب
مسرحية طويلة لا نهاية لها.
انتابتني فكرة جنونية, صرخت من بين ردفي الصمت, اهتزت السطور وتدفقت الرعشة
بإيجاد الأشياء, صرخت وصرخ قلمي, خنقتهُ وأفلت من يدي بإهمال واضح, وبدا لي
عندما سقط في زاوية ما وكأن عقربَا سامَا من عقارب الصحاري انتفض وهرول
مسرعا باحثا لنفسه عن ملاذ في جحر معتم
:
-
أحتاج الى سكين جميل به أقطع شرايين الذكرى!
صرخت في أنحاء الليل, نهضت وهززتُ قاصدا الكرسي البارد وكأني أطلب منه الكف
عن المشاهدة والبت في الأشياء. لا يستطيع حمل الكارثة الى مكان آخر, ستبقى
معه هنا, هو شاهد فقط!
ضحكت أمام الشّاهد وأنا أحترق, ضحكت وضحكت بالرغم من أني كنت مسكونا بمواجع
الأشياء! وأحمل كثيرا من الجراح!
كانت الأشياء مظلمة في الخارج, البلاد غارقة في سبات, غفت على ضفتي النهر
السّاكن, تنتظر الصباح كي يعلو ويستيقظ من سباته هو أيضا, جيش من الحوريين
والحوريات سوف يستقبله على مشارف الفجر, رأيتهم في منامي ولن أفوت الفرصة
على ألا أراهم هذا الفجر بالذات. سأمرّ الى النهر باكرا, حيث يستوطن
القديسون والأنبياء. تعلّمت اعتناق لغة الطيور السابحة على النهر الجميل
وتدرّبت على فهمها. والأكثر جمالا من ذلك هو سماع تراتيل الطيور الأخرى على
الأشجار السامقة. سأخرج لكن حتى بزوغ الشمس سأقوم بحفر المزيد على الأوراق
التي تنتظرني بشوق وألم.
حملت سكيني الجميل وأسكنته بعض شرياني, تدفق الدم على ذراعي, الألم أعاد
اليّ صحوي ووضع الذكرى في مكانها, واستمريت بالكتابة وأنا أنزف. أحبّ هذا
النزيف المنبثق من روحي! يأخذني الى قارب الزمن, الى كل الأشياء, وأبدأ
أتذكّر الأحداث, حتى اللحظات التي اعتقدتها ميتة.
لقد فتحت النار على قلمي وكأني أفتح زجاجة خمر وأثمل, وكشفَ النقاب عن
أشياء كثيرة, حوّل السّكون الى صراخ, صراخ متواصل علا أدى الى العقارب
الاسراع الهرب بعشراتها, ترتجف الأرض من تحتها, تطلق هديرها المرعب وتنزوي,
تركن الأطراف المظلمة, وأنا أمرّ بينها, فارا هاربا, أهرب من هجوم قائم
سيبيدني وينهيني.
لا أحد يستطيع أن يعبيء مسدسه وأن يطلق على الحياة الرصاص! لم يبقَ في
مسدسي سوى رصاصة أخيرة! العالم ذراع مسكون بالخبايا والخيبات, وأنا مُحتاج
الى شرايين تنبض ولا تكف عن النبض, والعقارب ما تزال تدور على الحائط ,
لكنها بطيئة, بطيئة جدا, أريد تحريكها, لكن إن حصل وحركتها سأصاب بالكفر,
سأكفر حتما بذاكرة الزمن
...
أضيفت في
03/10/2008/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
الضباب
توغلتُ المشي داخل الضّباب, ضباب عشقكِ الذي لا ينتهي, أعشقكِ وأهيم
بشارع مليء بخطواتكِ, خطوات لم تعد تكفيها الذكريات, وعشقنا لم يكن وهما,
طالما يذكرني الشارع الضّبابي خيالكِ بين أعمدة الكهرباء التي أصبحت الآن
خابية .
مذ تركتني وأنا أحيا الضّبابية. هل تذكرين ساعة الفراق؟ لم تلتجأي
لأحد سواي, حتى غمرت الشّوارع الباكية صورتكِ التي ما زالت موزعة ,هنا
وهناك, وفي كل مكان. أصبحتِ بطلة كونية, واتخذكِ جميع العشاق قدوة .
لقد أتقنتُ الاحتفاظ بالذكريات, والخطوات ما عادت هي الخطوات, لقد
أصبحتُ حبيسكِ والذكريات !
أذكر تماما متى بدأت قصة عشقنا, كما أذكر تماما عندما أنهاها
الآخرون. لن ألومكِ بعد اليوم, فقد توغّل الانتظار عمرينا, أغربي عني
ودعيني أبحث عن حبيبة أخرى! دعيني أشفى من ولهي بكِ !
إني أراقب خطواتكِ, خطوة بعد خطوة, لمَ ترتحلين! لن ألومكِ بعد
اليوم, لماذا تبتعدين, لماذا تقيدينني ؟
أحس نبض قلبك العالي, يأخذني الى عالمكِ البعيد وأنتِ لا تدرين,
لماذا تتوترين هكذا, دعيني أشعر به, جسدكِِ يوخزني كالأبر, ترى ما هو ذا
العالم الذي أتخبط فيه من أجلكِ, الجنة ؟ ما بين الجنّة والنار... ربما !
أنا معكِ فوجودكِ يغريني, أحوم حولكِ وتطاردينني كشبح ماهر, أبتعد
قليلا , ألازم الفضاء الفارغ, أخشى رجوعكِ الى العالم الحقيقي الغادر الذي
غرّر بنا ووضعنا في سلة النهايات, نقطر قطرة تلو قطرة من سنواتنا ونحن
ننتظر, ترى أين سينتهي بنا المطاف, أم سنبقى ننتظر في هذه السلة المعلقة في
السماء, آه , كم هي السماء قريبة من هنا, إنها تلتصق بنا, ها هي , هل ترين
ما أرى!
لكن, انهم يلاحقوننا, يريدون قتلنا مرة أخرى, هل ترين ما يدور في
الأسفل, انهم هناك, هناك, انظري الى تحت , بعيدا, انحني قليلا حتى تري ما
يدور, هل رأيتِ ؟ مجموعة مكونة من عشرة, أو ربما خمسون وجها, يحملون
المسدسات ويصوبونها نحونا, بل نحوي أنا, فأنتِ قد غادرتِ الحياة قبلي, إنهم
يلاحقونني ,أنا بالذات.
أين أذهب وكيف أبتعد عنكِ, وكيف أضمكِ وأنتِ تنسحبين كأفعى من بين
يدي, تعالي اليّ, ها... لقد أمسكت بذيلكِ, أقصد ذيل فستانكِ الأبيض, انه
مالس جدا, لا تدعي الضباب يأخذكِ مني!
لو يلتقي الأحياء بالأموات, لو أذهب بروحي الى السّماء, أو لو
تأتينَ بجسدكِ الى الأرض, فأنا ما زلتُ هنا, سأخبؤكِ في قلبي, لن أدعهم
يطلقون النار عليكِ مرة أخرى, سأقاتل من أجلك, كما قاتلتُ عندما هاجمونا
وأخذوكِ من حضني .
ألمح صورتكِ من بين الضّباب, انني أغادر اليه, أقترب منكِ, يا الهي,
كم الضّباب كثيفا هنا ! أخترقه فيحولني الى شبح أبيض, أطير في الهواء, عبر
المسافات, جسدي أصبح بخف ريشة, انني طائر محلق, أرتدي ريشا ناصع البياض,
خذيني اليكِ حبيبتي, فأنا أقترب.
هل تذكرين موسم قطاف الحمضيات؟ كنا قد تخطينا عشرات الأشجار ونحن
نلهو , كانت الأشجار شاهدة على عشقنا, اختبأتِ مني خلفها لكني أستطعتُ
الامساكِ بكِ, تداركتِني, أسندتكِ وظهركِ الى الصندوق العملاق, مليء
بالحبات الصفراء, جمعتُ شعركِ الأصفر بين كفيّ, رفعتهُ الى أعلى, تنهدتِ,
قرّبتكِ اليّ, لهثتِ, فركتُه بأناملي, أردتُ استخلاص الذهب منهُ, كم أحببتُ
شعركِ الطويل ! أصريتِ على اللهاث, لهثتِ عدة مرات وأنا ألهو بشعركِ, وأنتِ
تقتربين وأنا أبتعد عن وجهكِ, تلهثين وأبتعد, اقتربتُ فاخترتِ البقاء في
موضعكِ دون حراك, كانت نظراتكِ المخدرة تؤجج داخلي الرغبة في امتلاككِ,
أردتُ أن نتوحد ذلك النهار, أن نكون واحدا بروحينا وأثنين بقلبينا...
أبت الشمس مغادرتنا, أمرتنا, أرسلت أشعتها الحارقة مباشرة الينا,
أصابت الهدف, لكنها ما لبثت أن احتالت علينا من أجل البقاء, فبدونا تارة
كطفلين بريئين, وتارة اختفينا خلف الأشجار الخضراء الغنية بالحبات الذهبية,
تراقصنا تحتها بينما رمت أشعتها الباهتة ساعة الغروب. لفحتكِ نسمة ساخنة,
كانت قد أطلقتها متعمدة , لم أتضرر لأني كنتُ أسود اللون, بل كما يقولون,
زنجيا...
وجهكِ الأبيض هو الذي احمرّ وتعرّق, سال العرق على خديكِ الناعمين,
هل كانت الشمس سبب تعرقكِ واحمراركِ؟ لكنكِ ارتجفتِ بين ذراعيّ, ارتجفتِ
جفلا, حتى عندما رميتكِ داخل صدري الملتهب, حميتكِ من أشعتها, لاحقتنا
محتقنة, وما لبثت أن اختفت خلف غيمة عابرة. تخبطتِ بالخجل, كسرتهُ ووضعتُ
شفاهي على شفاهكِ, آه , كم كانت لذيذة قبلاتنا, كانت حارة, حملت مذاقا
مغايرا, مذاق فاكهة لم أتذوقها من قبل.
وعندما داهمنا الحارس فجأة, اعتليتِ أعلى السلّم وأخذتِ توهمينه
أنكِ تزاولين عملكِ في القطف, قطفت وأوقعتِ الحبات أرضا, ارتجفت يداكِ,
سويتِ شعركِ, جففتِ عرقكِ وتجاهلتهِ.
كنت أتابعكِ من بعيد وعينا الحارس تبحثان عني, وأنتِ توهمينه
بالإنشغال. انشغلتُ بكِ, أردتُ احتضانكِ مرّة أخرى, تقبيلكِ ومنحكِ بعض ما
شعرتُ به حينها... أردتُ إسعادكِ...
أعتقدتكِ لن تقبلي بقاطف البرتقال حبيبا, أبكاني الظنّ وساوركِ
الشّك ببكائي!
لم أصدق نفسي ! عدتِ الى حضني, أحتضنتكِ بكل شوق, كما أحتضن برتقالة
جميلة أشتاق لالتهامها. قشرتُها, رويدا رويدا, كنتِ قد نزلتِ اليّ من أعلى
السلّم, بدأتُ بتقشيرها, قشرتها خشنة, غرزتُ أناملي داخلها, ثقبتها, فكان
الثقب بداية تعريتها من قشورها البرتقالية.
أغمضنا نحن الإثنان عينانا ونحن نتنقل من جزء الى آخر في تعرية
القشرة , التصقتِ بي ودعوتكِ الى لقاء عشق, كان أول التقاء لنا ,تمرغتِ
داخل صدري الأسود العاري... كنا كمزيج ثنائي الطعم, التهمنا حزّا تلو الآخر
بنهم وجنون, حتى انتهى آخر حزّ مناصفة في فمينا, يا الهي , لم أتذوق
برتقالة بهذا الطعم قبلا ! وكم كان جميلا تلاقح اللونين الأبيض بالأسود !
ألتهمناها معاً متعمدان, دون الأخذ برأي الآخرين, لم نحترم وجودهم
إزاء علاقتنا! نعم, رفضنا الامتثال وتمردنا, تمردنا كثيرا, رغم التحذيرات,
وها نحن نفترق الآن كغريبين, لم أكن أهلا بكِ لأني أسودا ! فمكاني العبودية
لا غير , لا يحق لي كما يحق للرجل الأبيض والأصفر والأحمر, أنا زنجي, أنا
أسود, أنا عبد, أنا...
أعتقد أنني أصرخ, أسمع صراخي القاتل, الجميع من حولي يتخبطون في
حالتي, من هم يا ترى؟ ربما هم أطباء, يعني أنا موجود في المشفى, كيف أقول
لهم أني أريدكِ, لماذا لا يعيدونني اليكِ ؟
إني أبتعد, لا أراكِ جيدا, أينَ أنتِ, لماذا تذهبين, هل مللتِ مني؟
أنتظريني, لا أقوى على رؤيتكِ, تضيعين مني مرة أخرى, والريح تأخذني مغادرة,
أعود الى الضّباب الآن, لو ينكسر قليلا كي أراكِ ! أعتقد أننا سنلتقي في
موسم الأبدية، نعم فالموسم قريب, لا فصول فيه ولا أحد يمنع وصوله إلينا,
إنه موسم خاص بنا, حيث لا عوائق, ولا قوانين, نعم لقد رحلنا في موسم
البرتقال كي نلتقي في موسم الأبدية !
أعتقدهم خرجوا وتركوني وحيدا, أراهم من خلف جفني الثقيلين, أستطيع
مناداتكِ كما أشاء, لن أبوح لهم باسمكِ, لن أدعهم يمسكون بكِ, يكفيهم قتلكِ
مرّة واحدة.
هل تذكرين كلام والدك:
•" الحب محرّم والعشق حرام..."
ووالدتكِ :
- " الحب جُرم..."
لقد تآمروا على قتلنا معا, عرفتُ بذلك …
انني اقترب الآن, هل ترينني ؟ سنلتقي بعيدا عن الجميع, سأحميكِ هذه
المرة, لن أستسلم للرصاص كما استسلمتُ سابقا !
أراكِ يا مُنية الروح, تقشرين برتقالة لغيري! عيناكِ معهُ, لكن
أدركِ قصدكِ من كل هذه النظرات, إنها تعود لي. تقدمينها له وأعلم أنكِ
تقصدينني. تطعمينهُ وتأكلين, الغصّة تمنعكِ من ابتلاعها. تخرجين, تتجهين
اليّ. توقفتِ, أنتِ في شرفة ما, ترسلين أشواقكِ لي! تتركينهُ وتبتعدين,
آتية نحوي. تبحثين عن ملاذ, إنكِ تبحثين عني, أدرك ذلك!
نزلتِ الى الشارع, بدا الطريق وعرا وأنتِ حافية القدمين. استدرتِ
عدة استدارات, ربما بحثتِ عني! لكنكِ ربما كنتِ تبحثين عن الشمس كي تعيد
صفرة شعركِ إليكِ!
لم تكوني أنتِ , فاتكِ الجمال, مشيتِ, أصبحت خطواتكِ بطيئة! أين
تذهبين, إليّ ؟ لا أعتقد! فقد دخلتِ مكانا مهجورا, يشبه القبر.
بحثتُ عن قبرك من بين مئات القبور, لم أجده, كما كانت القبور مغلقة
في وجهي! ارتجيتِ الحياة, فات الأوان! ذهبتِ بمعية المرتحلين, وقفتِ
تتمردين لبرهات, توسلتِ, تسولتِ البقاء, ليس من مجيب ! على ماذا تبحثين؟ لم
تجدي حتى الذكريات, لأنكِ أصبحتِ من الأموات !
ويحكِ... انتظري قبل أن ترقدي وللأبد ! سأقول لكِ, وللمرّة الأخيرة,
قبل أن تدخلي الى مخدعكِ, لا تتحركي, أرجوكِ, ربما تخطئين بالطريق, لماذا
لا تعيدين حسابات نفسكِ وتعودين !
اليوم زال ضبابهُ, الطريق خالِ ٍ, الليل سيستر خطواتكِ, لن يتمكنوا
منكِ, أعاهدكِ أن أفدي عمري دفاعا عنكِ كما في السابق.
ذهبتِ ولم ترأفي بي, تركتني هنا وحدي, ها أنا أستطيع فتح عيناي
الآن, وأدركِ إنْ فتحتهما ستغيبين عني, لن أراكِ بعد اليوم, ربما كتب لي
عمرا جديدا, لا أريده, من بعدكِ!
يا الهي, اني أراهم يسرعون نحوي, ماذا هناك, من قال لكم أني أستطيع
أخيرا فتح عيناي.
- ماذا تقول؟ لا أسمعكَ جيدا, أعد ما قلتهُ !
انهم يضربونني, كفوفا متتالية على وجهي, ويحكم, إنكم توجعونني, أني
أحس بالوجع!
لم يكتفوا بالرصاص الذي اخترق جسدي, مُزق وسال دمي, غمرتني الدماء
وامتلأت الأرض به, لقد كنتُ سعيدا بذلك, سعدتُ لأني أدركتُ أن دمي لم يكن
أسودَ!
لماذا تنهالون عليّ ضربا؟ أرجوكم, فأنا لا أحتمل الألم, ما زلتُ
مريضا بالعشق,
ما زلتُ أعاني, ارحموني, لا أستطيع النطق, لا أحتمل, دعوني... أصرخ
...
•يا الهي لقد غمرتني الهواجس .
وصوت الطبيب يخترق الغرفة :
- الحمد لله, لقد كتب الله لكَ عمرا جديدا يا أيها الشاب الأسود,
احمدهُ, لقد أعدناكَ من الموت ...
أضيفت في
03/01/2008/ خاص القصة السورية
/المصدر: الكاتبة
الحاسّة السّابعة
لم أكن أعلم
أنني سأفقد إبنا وحيدا بانتقالي الى بيتي الجديد, فلو علمتُ لما نزحتُ!
كانت قد
وصلتني رسالة من المالك تؤذن لي الإقامة إزاء إيجار عالٍ, مبلغ ضخم بالنسبة
للامتيازات التي يتمتع بها هذا البيت الجميل, المكوّن من طابقين, في حيّ
هادئ . أمكنني الخروج يوميا لزيارة الحدائق وبحيرات البجع المجاورة
.
-
هذا ما
نريده يا أماه, لقد أحببتُ هذا البيت والمنطقة خلابة وجميلة وأنتِ تعشقين
الطبيعة والهدوء.
قال لي ابني
حينها.
لن أعذر
القدر الغادر, ولم أكلّ ولن أملّ من البحث عن سبب وفاته. أدركتُ في أعماقي
أن للمكان علاقة وثيقة لموته!
تقبلّت
المصاب الأليم بهدوء واتزان, فكرت كثيرا وقررتُ البحث عن المجرمين الذين
كانوا خلف الحوادث المتكررة التي حصلت لنا بعد استقرارنا في الحي.
كان أحد
الجيران يتتبع خطواتنا من بعيد, يراقبنا ويحاول التقرب الينا, لم أسمح إلا
بتبادل التحية السريعة ورسم إبتسامة مموهة خفيفة على وجهي.
وماذا بعد ؟
شعرتُ ببعض
التغييرات غير المعهودة في أحوال ابني الصحية.
فقدَ شهيته,
أصرّ الخروج يوميا, ومرات عديدة, من البيت دون أذني أو تعريفي بالمكان الذي
كان يقصده بغيابي.
شعرتُ
بالقلق, لاحظتُ أمرا خفيا بتصرفاته, لكنه هو نفسه لم يدرك الحاصل, سألتهُ
:
-
هل تشعر
أنكَ تفقد الشهية ؟ وأنكَ تمرح في الطرقات دون سبب مقنع, لا تهمك الأحوال
الجوية, حتى أنكَ تضطر الخروج أحيانا في منتصف الليل, قل لي أين كنتَ
البارحة؟
-
لقد
تجولتُ في الحدائق المحيطة بنا, كيف للمرء إهمال كل هذا الجمال الذي
يحيطنا, بربكِ يا أماه, هل تستطيعين مقاومة هذه الروعة؟
-
أنا
التي أسألكَ, أين كنتَ البارحة, لقد خرجت وعدتَ متغير الأحوال؟
أصريتُ على
زيارة الأماكن التي زارها, كنتُ كالمخبر, أدقق, ألاحظ الصغيرة والكبيرة,
أحاول اكتشاف المكان بجميع حذافيره, أيقنتُ أن للمكان علاقة وثيقة, وهامة
في تدهور صحته, لكني وللأسف لم أرَ أي شىء مختلف, أو أي شىء يحفزني على
معرفة السبب.
توالت
الأيام, وصحته أصبحت في حالة بائسة, لم أستطع السكوت على الوضع, بدأت
بتقليب أفكاري داخل رأسي, أردتُ عمل أي شىء كي أعلم سبب انهياره. اخذته الى
طبيب العائلة , قال لي ناهرا:
-
لا أرى
ما ترينه, لا شىء
!
-
متأكدة
أنه يعاني من شىء لا أعرف كنهه.
-
تتكلمين
وكأنكِ طبيبة, هل أنتِ الطبيبة أم أنا ؟
-
لا, بل
أمّ !
ظهرت نتائج
الفحوص التي أجريت له سلبية, انكشف الأمر وبدأ البحث الطبي يأخذ مجراه
الصحيح, علمتُ أنه في مأزق لا يحسد عليه, حصل وأدمن على شمّ المخدرات دون
أن يدري...
توالت
الأيام سريعة, أدخل الى مصح خاص للفطام, وكان أمل الشفاء من الإدمان كبيرا,
حددّ له المركز زمنا معينا من أجل اجتياز تمارين رياضية وفعاليات داعمة
على شكل دورات إرشادية, تعليمية وتطبيقية.
كان سعيدا
بكل هذا, لأنه أراد التخلص من هذه الآفة التي استطاعت تغيير حياته الى
الأسوأ, فقد شعر انه يتقدم نحو الموت وأراد الحياة. دأب على اجتياز
الاختبارات من أجل الخروج, فالزمان المحدد لانتهاء دورة الفطام كان قد حدّد
منذ البداية.
كان مسرورا
بنجاحه وتصميمه من أجل التخلص من المخدر الذي سرى في دماغه, والذي سبب في
تخلخل جهازه التنفسي والعصبي.
لكن, وفي
موعد الخروج !
لم يصل
البيت, تأخر... كثيرا, خابرت المصح, أكدوا خروجه قبل ساعات, لم يصل الى
البيت...
لم يرد له
المجرمون الحياة, لقد حاولوا تخديره مرّة أخرى, نجحوا, ونجحوا كذلك في
قتله, بعد ذلك والنيل منه
.
عاد متأخرا
, كان مسرورا جدا في ذلك اليوم, ترنح وضحك, صخب وصرخ, تمايل وشرب الكثير من
الماء, وضع فمه في أنبوب الماء وأخذ يشرب كأنه لم يعهد الماء منذ ولادته
.
أصيب بعد
ذلك بحالة تشنج خطيرة, تمرغ أرضا, كاد يمزّق نفسه, صاح واستدار على ركبتيه,
صاح وهوى أرضا, قام ثم هوى, حاول الاستقامة, لم يفلح, ودون أن يدري أخذ
يضرب صدره بقبضة يده ضربا عنيفا, ضرب ناحية القلب, شعر بآلام مبرحة في
قلبه, ثم هوى أرضا دون حراك...
وهكذا بدأت
دوامة فقدان ولد وحيد عزيز
,
لم يرأف بي
الحزن , استبد بي القدر استبدادا عنيفا, أخذ مني كل ما أملك!
لكن,
لم أستطع
الاستسلام, لم أدع الأمور تتجه نحو الطيّ , فالذي حدث يجب أن يُبحث به,
وليس كما نصحني به أحد محققي الشرطة:
-
انسي
الأمر, فقد كان ابنكِ مدمنا, وها هي النتائج ...
لم أنسَ
الأمر, فقد بدأت في رحلة البحث الطويلة من حيث انتهت حياة وحيدي, خططتُ
لمعرفة السبب وأردت كشف النقاب عن الأشخاص الذين كانوا وراء كل ما حصل,
بدأتُ أعدّ العدة, أستجمعت التفاصيل الصغيرة والمملة منها, أعدتُ مذكرة
وبدأت أكتب داخلها الملاحظات, وقررتُ أن أبدأ بنفسي.
وضعتُ خطة
أبطالها أنا, بطلة وحيدة, رسمتُ لي طريقا ربما تؤدي بي الى اكتشاف الحقيقة
أو الانتحار من أجلها.
تقمصت الدور
الذي قام به ابني قبل وفاته, حللتُ مكانه بجسده وروحه, وقمتُ بتدوين, ربط,
تحليل ومحاولة ايجاد العلاقة لكل عملية أقوم بها يوميا في الدقيقة والساعة,
ودونتُ النتائج:
استيقظت في
الساعة (كذا)...فركتُ أسناني بمعجون... (كذا)اغتسلت بصابون (كذا)...تنشفتُ
بمنشفة نظيفة, أخرجتها من خزانة الحمام, المنشفة غسلت بمسحوق غسيل (كذا),
شربتُ حليبا مع قهوة(كذا), تناولت قطعة من الخبز مع زبدة(كذا), تاريخ نفاذ
مفعولها (كذا) ومربى(كذا) .
لم أملّ من
التدوين, فقد أجّلتُ كل التزاماتي من أجل هذه المهمة. أكملتُ
:
خرجتُ من
البيت الساعة( كذا), كان الشارع خاليا من المارة, مرّت سيارة ما, بيضاء
اللون وتحمل الرقم (كذا), وأخرى حمراء, تحمل رقم (كذا) ...وأخرى...حتى
وصلتُ الباب الحديدي للحديقة العامة, لم أتوقف فقد استمريتُ حيث كنا أنا
وهو معا في السابق, سرتُ في السبيل المعبد واستمريتُ بالبحث, كان هناك
اعدادا متفرقة من السياح الذين أتوا للاستجمام. كم كانت زقزقة الطيور
جميلة يومها, فقد كان ربيعيا والسماء صافية. كم تمنيتُ أن أسأل الطيور عن
السبب, راقبتها وهي تحلّق وتصفق بأجنحتها مسرورة, راقبتها من بعيد, واحدة
تلو الأخرى, وقفتُ مكاني وبدأتُ أحصيها, لا مجال للاحصاء, لقد أحسستُ
بالسخافة حينها, هزأتُ من نفسي, خجلتُ وأخذتُ أتتبع عيون الغرباء, أردتُ أن
أكون أكيدة من أنهم لم يلحظوا هفوتي وألا لنعتوني بالجنون أو الخرف.
اعتصرني
الألم, كلّمتُ نفسي وأنا جالسة في مقعد ما تحت شجرة (كذا), أحسستُ انه لا
جدوى من البحث, على ماذا أبحث في هذا المكان الهادىء الجميل؟ سألتُ نفسي,
لماذا أنا هنا, ولماذا اختاره ابني قبل وفاته لتكون نهاية هفواته الأخيرة,
ما هو الشىء الخاص في هذه الحديقة بالذات, والمدينة غارقة بالحدائق المليئة
بالطيور على جميع أشكالها وأنواعها, ثم بماذا تفيدني كل هذه الطيور, أيعقل
أن تكون قد قذفت له المخدر كي تخدره وتدعه يدمن حتى الموت!
يا للسخرية,
طيورا تخدر انسانا, يا للفضيحة التي أنا بصددها
!
قررتُ
العودة, عدتُ أدراجي نحو البوابة الحديدية, عادة, تترك مفتوحة طوال أيام
السنة, تساءلتُ عن سبب وجودها طالما ستترك مفتوحة, ", لماذا لا تغلق ليلا
على الأقل" ؟ عذبني التساؤل !
أيقنتُ أن
البوابة المفتوحة هي احدى أسباب فقدانه, لو كانت مغلقة لما تجرأ المجرمون
الاتجار بالمواد المخدره في الحديقة ليلا ! قررتُ الذهاب الى قسم الشكاوى
في البلدية لفتح مذكرة خاصة بالموضوع.
أسرعتُ
بالخطوات وكأني بذلك وجدتُ سببا ما يوصلني الى الحقيقة, أو أمل بسيط ربما
يقودني الى دليل ما.
لم أستطع
تخطي وردة جورية متفتحة جميلة, غرست على جانب الطريق, دون التمتع برائحتها.
وضعت أنفي داخلها وأخذتُ باشتمامها, بحثتُ عن الرائحة, لم أجدها, شممتُ
مرة أخرى, لم أفلح بالتقاط الرائحة الذكية, جربتُ مرة أخرى, أحاول بذلك
الاكتفاء من رياحينها التي لم تنبعث في الأجواء . اعتقدتُني خسرت حاسة
الشم بسبب تأخر سنوات عمري, مع أني كنتُ أتمتع سابقا بحاسة شم رائعة. لم
أعلّق على الموضوع واستمريتُ في طريقي نحو مكاتب البلدية في الشارع المقابل.
وجدتُ نفسي
في البيت, لا أذكر كيف دخلتُ, وكيف قمتُ بادارة المفتاح بالباب, لم أذكر
هذه التفاصيل الصغيرة, مع أني أتمتع بذاكرة حادة! اعتقدتُ أن يكون السبب
عقلي المغمور بتفاصيل كثيرة, ولأن العملية نفسها روتينية وتلقائية.
لم يشغلني
الأمر كثيرا, ما شغلني هو مرور أحدهم بجانب البيت ولم أستطع تذكره," يا
الهي, كيف دعيته يمرّ دون أن أحفظ شكله" ! شعرتُ بالندم الشديد لهذا
الموقف وقررتُ مراقبة جميع الأشخاص الذين يمرون في المكان.
وهكذا كان,
أطفأتُ
الكهرباء, أسدلتُ جميع الستائر في الطابق العلوي للبيت, وتركتُ الستائر
مفتوحة في الطابق السفلي, وحتى أني تعمّدتُ ترك البوابة الخشبية الصغيرة في
مدخل الحديقة مفتوحة, وكأني أستدعي الجانحون الدخول الى صدر بيتي.
جلستُ خلف
احدى النوافذ التي كانت تطل على الحيّ بأكمله, ثقبتُ ثقبا صغيرا, بحجم
عيني, وعلى مسافة أستطيع فيها تتبع الأحداث وأنا جالسة. تذكرتُ وقتها جارة
فضولية قديمة, سكنت الحي, كانت تفعل ما أفعله الآن بالذات, كنتُ صغيرة
حينها, تملكتني الدهشة لسلوك جارتنا الغريب,التي كنتُ أمقتها ولم أمرّ من
أمام بيتها دون أن أطلق لساني كالصاروخ لها متعمدة, "يا الهي, لقد أصبحتُ
مثلها الآن"
!
امتلأ سجل
الملاحظات دون تقدّم ملحوظ في جمع المعلومات, لم أيأس, بل قرّرت الاستمرار.
أخذتُ استذكر بعض الأحاديث التي حصلت بيني وبين ابني سابقا, أتوقف عند
الأسماء, الشخصيات, الأماكن والأحداث التي كان يذكرها, أحللها ,انتقدها
وأحاول خلق علاقة ربط بينها وبين الجريمة, وفي الوقت نفسه كنتُ أعبر ذات
الطريق المؤدي الى الحديقة العامة, بل كانت قدماي اللتان تقوداني الى هناك
!
ها أنذا
أمسكُ بطرف الخيط الآن, نعم, لقد رأيته مجددا, انه ذات الجار الذي يثابر
متعمدا على القاء التحية, أجهل اسمه, لكني سأسميه حال معرفتي له,( جار صاحب
الابتسامة الصفراء), لقد مرّ ببطء مشوب بالحذر, دون ابتسام, تفقد المكان
واستمر في طريقه, تتبعته من خلف الستارة, ركّزت نظري عليه كي أتأكد من
شخصيته, تأكدت, لكني خسرت كثيرا عندما لم أفكر في تصويره, وكيف سيصدقني
رجال الشرطة
!
في اليوم
التالي ,
جهّزت آلة
التصوير, تركتها في حضني وأنا أنتظر, انتظرتُ كثيرا ولم يمرّ, تعبتُ
من الإنتظار وقررتُ القيام بذات الرحلة اليومية التي بدأت تأخذ حيزا كبيرا
من تفكيري, أحسستُ أنني لن أستطع الافلات منها, مهما كانت الظروف ومهما
كانت حالة الطقس سيئة.
لكن,
ما أن وطأت
قدماي أرض الشارع, إذ بالجار (صاحب الابتسامة الصفراء) يقترب مني ويوجه لي
التحية! رددتُ عليه بالمثل, ارتعشتُ, فقد فاجأني وجوده بالمكان وكان قريبا
جدا مني, كان كمن ينتظر خروجي من البيت. قفز قلبي من مكانه, لم أستطع تمالك
نفسي, ارتعدت أطرافي وأحسستُ بدوار مفاجيء, أنّبتُ ضميري كثيرا لأني لم
أؤجل خروجي للحظات كي يتسنى لي التقاط صورة له من خلف الستارة!
سبقني الى
الحديقة بخطواته الواسعة, استطعتُ جمع معلومات كثيرة عنه, طويل, نحيف,
بشرته داكنة, شعره (كذا). لون بنطاله (كذا), لون قميصه (كذا), حذاءه (كذا)
الخ.
لم أجده
داخل الحديقة, بحثتُ عنه كثيرا من بين الزوار الجدد, تحت الأشجار, بجانب
جداول المياه, لم يطعم البط في بركها, كان كمن يكون شبحا, يظهر فجأة
ويختفي فجأة.
وكعادتي عند
العودة, عرجت الى باقات الورود, حيث وردتي الخاصة, قرّبتُ الوردة الزهرية,
كانت على مستوى وجهي ومن السهولة الوصول اليها, أخذت عدّة شمات من زهرة
الجوري التي أحب, شممتُ واستنشقتُ منها الكثير "يا الهي, كم هي جميلة هذه
الوردة, ما زالت تحتفظ بنضارتها, لكنها فاقدة الرائحة , عجيب "!
توالت
الأيام وأنا أنقّب, أراقب , أبحث وأتجول في الحديقة, لم يكن لديّ أدنى شك
من أنني سأطلع على السرّ, وثقتُ بحاستي السادسة التي كانت دائما تقودني الى
المكان الذي أصبح فيما بعد دليلا قاطعا
!
استطعتُ
التقاط عدّة صور للجار الذي كان يظهر فجأة ويختفي تاركا لي الشكوك, الظنون
والهلوسات, سلّمتُ الصور الى الشرطة التي اهتمت هذه المرّة بالموضوع, حال
رؤيتها الصور, شجعني الضابط على الكلام, فسألني
:
-
كيف
شككتِ بهذا الرجل بالذات ؟
-
حاستي
قادتني اليه!
-
لا
أفهم (قال بلهجة حازمة)
!
-
ما الذي
تريد أن تفهمه يا سيدي الضابط ؟
-
كيف
شككتِ بهذا المجرم الخطير, إننا نبحث عليه .
علمتُ أن
الرجل مطلوبا للعدالة وأنه مروّج مخدرات, بقي عليّ معرفة كيف استطاع
استدراج ابني وابتلائه بهذا البلاء الذي أودى بحياته.
لم أخشَ
منه, بل تشجعتُ أكثر لمعرفة الحقيقة, فكرتُ مليا بالخطوة التي ستأتي بعد
ذلكَ, وخططتُ أن أخرج خلفه في المرة القادمة عند مروره أمام البيت وتتبعه
حيث يذهب, لكن خطواته أوسع وأسرع من خطواتي, لا أستطيع, عدت للتفكير مرة
أخرى, هاتفتُ الضابط طالبة مساعدته, قال:
-
أرجو
ترك الموضوع لنا , لا تتصرفي وحدكِ , إني أحذركِ !
لم أحتمل
كلامه, ولم يعد بمقدوري الصبر, ولا أستطيع الانتظار, أردتُ أن أصل للفاعل
بأقصى سرعة كانت. استغرقتُ في التفكير مجددا, أصابني صداع لا يحتمل, شعرتُ
بالتقيوء, دارت بي الجدران, فقدتُ توازني وداهمتني نوبة اختناق.
أول شىء
فعلته هو الخروج من البيت متوجهة الى الحديقة, تركت الباب مفتوحا وأسرعتُ.
كانت الحديقة خالية تماما من الزوار, لاح من بين الأشجار الشخص مجهول
الاسم, بضحكته الصفراوية, أيقنتُ تماما أنه كان بانتظاري
!
لم أرتح إلا
عندما شممتُ الزهرة الموعودة, الجميلة جدا, التي كانت خالية تماما من أي
أريج.
لم أستسلم
للمخدر الذي كان يضعه لي الجار المبتسم قاصدا, بل وجدتُ الدليل الذي كنتُ
أبحث عنهُ " يا الهي, لقد عرفتُ أخيرا السبب والطريقة, الله يخرب بيتك يا
جاري السىء, ذا الابتسامة الصفراء, سأتمكن منكَ, سأقتلك كما قتلتَ ولدي..."
اشتد اصراري
في توقيعه, حدّثت نفسي الهائمة, السابحة, الضائعة, الراضية, الحزينة
:
"
لقد اقترب موعد
الانتقام, لن تفلت مني هذه المرّة, سأقتلكَ انتقاما".
ابتسمتُ له
ابتسامة عالية, حيّاني متفاخرا, حييتهُ أيضا معتدّة, تحولت إبتسامته الى
ضحكة, ضحكتُ له بالمثل, حاولت إخفاء ظنوني, اتسعت ضحكته الخادعة, خدعتهُ
بضحكتي وأسبلتُ له عيناي الناعستان اغراء, وأحاول حجب الدموع التي احتبست
داخلها. قهقه وقهقهتُ مثله, ارتفع صوتهُ عاليا حتى أن الطيور انتفضت وطارت
خوفا, بادلتهُ الضحكة وكأني بذلك أشكره على البودرة التي وضعها لي داخل
الوردةّ الجورية الحمراء
!
تحادثنا,
أراد أن يتقرب منيّ وأن يدعني أثق به, أوهمته بالقبول, سرّ لغبائي ! أراد
استدراجي وأردتُ أنا أيضا استدراجه بحكمة دون أن أترك أدنى شكّ داخله
يدعه يرتعد مني . سألني
:
-
أين
تقيمين ؟
-
في هذه
الضاحية .
-
وحيدة ؟
-
نعم
.
-
لكني
رأيتُك سابقا مع أحدهم ؟
-
نعم,
ابني رحمه الله
.
-
آسف
جدا, لكنه شاب وقوي.
-
نعم ,
لكن نوبة قلبية أصابته فجأة
.
-
وما سبب
ذلك؟
-
لم أدرِ
, فقد كان يشكو سابقا من قلبه, بل بالأحرى ولد مريضا بالقلب. (كذبتُ عليه
كي يستمر بالحديث)
.
أحسّ
بالراحة, تنهد وغاب داخل أفكاره, يستجمع أسئلة أخرى كي يتقرب مني أكثر,
دعيته يعتقد أن سبب الوفاة كانت ربّانية وليس المخدر, هكذا أضمن أنا أيضا
سلامة نفسي منه.
أسرعت الى
بيتي, كنت أسمع دقات قلبي السريعة الهائجة, تمنيتُ لو أستطيع حملها بيدي
وأغزو الطريق القصير بثوانٍِ, أردتُ أن أحاسب المجرم على فعلته قبل أن
يسبقني ويحاسبني هو على اكتشافي لنواياه السيئة, طويتُ المسافة بين قدميّ
اللتان أصبحتا قويتان فجأة, لا أعلم إن كان سبب قوتهما معرفتي للحقيقة , أم
شعور النشوة التي تمتعتُ به بعد استنشاقي للمخدّر.
جلستُ ودوّنتُ
كل شىء مرّ عليّ اليوم بالذات, من بداية الشعور بالغثيان وحتى نهاية
القصة, الوردة الحمراء في الطرف الأيمن للطريق المؤدي الى (كذا), من مجموعة
الورود المنتصبة, وعددها (كذا), هي الشتلة الثانية من بين الشتلات التي
عددهن (كذا), بقرب شجرة (كذا), فوقها مصباح كهربائي شكله (كذا), خلفها نبتة
(كذا), وخلف النبتة (كذا) بحيرة البجع, وعلى يمينها (كذا) و(كذا) و(كذا).
حتى أحسستُ أن حياتي تحولت الى مئات (الكذا)...
وضعتُ
المدوّنة في ظرف أبيض كبير وخبأته داخل وسادتي, ألقيتُ برأسي الثقيل ,
المريض, والمثقل بالأحزان على المذكرة, أفكر بأني لن أنجو من يد غادرة سوف
تغتالني وأنا نائمة, لم أخف الموت بقدر ما خشيتُ من اكتشاف الظرف المخبأ
تحت رأسي, وتمنيتُ في دواخلي, إن لم يكتب لي عمرا, ألا تلطخ فتندثر الحقيقة
السامة بدمائي
!
اعترفتُ
للضابط المحقق بكل شىء وسلمته المذكرة بالتفاصيل (كذا) المملة.
لكن نفسي
الغاضبة التائهة, لم تهدأ, فقد كان التحدي قويا والإصرار الذي ما يزال
داخلي بدأ يكشف عن حقيقة خفية كنتُ أجهلها,ألا وهي حبّي للانتقام, إنتقام
بأسلوب, طعم ورائحة مغايرة, وما أصعب أن تنتقم أمّا من أجل أبنائها
...
|