أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: د. زكي العـيلة-فلسطين

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

الـميـــلاد: غـزة ـ فلسطين 1950/9/1 .

البلدة الأصـلية: (يبنا) قضاء الرملة ـ فلسطين.

 

الدراسة:

1- ماجستير أدب ونقد ـ جامعة عين شمس ـ 2001 .

2-الدكتوراه: (الذات، والآخر الإسرائيلي في روايات الأرض المحتلة بعد عام 1967م)، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة.

-عضو مؤسس لاتحاد كُتاب فلسطين منذ عام 1976، وعضو الهيئة الادارية لأكثر من دورة انتخابية .

-مسؤول النشاطات في اتحاد كُتاب فلسطين منذ 1995 ـ 1999 .

-أمين النشر في الاتحاد العام للكُتاب الفلسطينيين ومدير تحرير مجلة الكلمة ـ رام الله ، منذ عام 1999 .

-عضو مجلس أمناء جمعية الملتقى الفكري ـ القدس منذ عام 1984 .

-عضو المجلس الأعلى للفولكلوريين ـ رام الله منذ 1994 .

-محاضر جامعي غير متفرغ .

-تُرجمت العديد من قصص الكاتب إلى الفرنسية والإنجليزية والروسية و الاسبانية .

-دُرست قصص له ضمن مساقات بعض الجامعات الفلسطينية منها :

-قصة (حيطان من دم) متطلب لغة عربية ـ جامعة بير زيت ـ

-قصة (كلهم أبنائـي) متطلب لغة عربية ـ جامعة بير زيت ـ

-قصة (اللوز لايتأخر عن ميعاده) متطلب لغة عربية ـجامعة الأزهر ـ غزة .

-قصة (حكاية الريح الحمراء) مترجمة للإنجليزية - قسم الدراسات العليا - جامعة الأزهر - غزة.

-قصة  (حيطان من دم) متطلب لغة عربية - الجامعة العربية الأمريكية - جنين.

 

النشاطات الثقـافية:

-المشاركة في كثير من المؤتمرات الثقافية أهمها :

-ربيـع الأدب الفلسطيني في فرنسا وبلجيكا ـ مايو 1997 .

-مهرجان القصة الفلسطينية في مدينة دنكرك الفرنسية ـ مايو2000.

-مؤتمر المأثورات الشعبية العربية ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ يناير 2001.

-ندوة جماليات التحديث في الأدب العربي ، دائرة الثقافة و الإعلام في الشارقة يناير 2006.

-نشر عدد كبير من الدراسات والمقالات في الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية منذ عام 1975 .

-الحصول على جائزة القصة القصيرة من جامعة بيت لحم 1977 . والجائزة الأولى من اتحاد الكُتاب الفلسطينيين 1989 .

 

صدر للكاتب:

1-العطش ـ مجموعة قصصية ـ دار الكاتب ، القدس ، 1978 .

2-الجبل لايأتي ـ مجموعة قصصية ـ دار الكاتب ، القدس ، 1980 .

3-تراث البحر الفلسطيني ـ دراسة ـ دار الرواد ، القدس ، 1982 .

4-حيطان من دم ـ مجموعة قصصية ـ اتحاد الكتاب ، القدس ، 1989 .

5-زمـن الغيـاب ـ قصة ـ اتحاد الكتاب ـ القدس ، 1998 .

6-بحر رمادي غويط ـ مجموعة قصصية ـ اتحاد الكتاب ، القدس ، 2000 .

7-المرأة في الرواية الفلسطينية ـ دراسة ـ أوغاريت للنشر ـ رام الله ، 2003 .

8-في ضفاف السرد ، دراسات في  القصة و الرواية، منشورات الماجد، رام الله، 2006.

 

تحت الطـبع:

- ذاكـرة مـكان ـ مشـاهدات ـ بالاشتراك مع غريب عسقلاني .

- مكاتيب للضوء ـ نصـوص .

- القبض على محمد الدرة - مجموعة

توفي اثر مرض عضال في  2008-05-09

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الحراس

البوصلة

قصص قصيرة جداً

المهر 

حيطان من دم

 

المـــُهـر

 

تتشبت أصابعها بأطراف كيس النايلون .. توشوشه .. تناغيه .. تضمه إلى صدرها قطعة منها .. تتأمل الخربشات التي كتبتها ( ليلى) بنت الحاج خالد على ظهر الكيس ، ترتب وضع الأغراض .. ليفة .. قطعة صابون .. منشفة صغيرة .. زوج ملابس داخلية .. بيجاما بيضاء .. قيل لها أن ذلك هو المسموح بإدخاله .. المصرح به فقط ، كتابة الاسم خارج الظرف .. رقم الخيمة .

الشوق عصافير ترفرف داخلها .. يدغدغ أعماقها دبيب فرح .. غدا تزورين (زاهر) ، غداً تضمينه إلى صدرك .. تحتضنينه ولو كان عدد الحراس بعدد حبات الرمل ، لو كانت الأسلاك بطول الدنيا وعرضها .

أكثر من شهرين مضت منذ أخذهم له .. أكثر من مائة سنة مرت منذ غيابه ، لا تدري كيف استطاعت أن تتحمل فراقه طوال هذه المدة وهو بين أيديهم ، كيف طاوعها قلبها .. كيف لم تلثمه بعيونها ، تهدهده على أكتافها .. تبرد نارها .. تحكي له قصة الزغرودة التي أطلقتها عصر أمس .. الزغرودة في المخيم صارت قصة منذ أن ولت زغاريد الأعراس .. لم تفكر لحظة أنه قد يقع في قبضتهم .. كانت تغالط أحاسيسها .. تغالط دقات قلبها .. (زاهر) مُهر راضع من بز أمه .. لا يقدرون على إمساكه مهما طاردوه .. يرجمهم في كل مكان .. يخرج لهم من كل مكان .. تضمه كل الأمكنة ، تطاوعه يداه .. قدماه .. ساحات المخيم .. أزقته .. مسالكه المفتوحة والمقفولة .

كان يقول لها دائماً إن لديه حاسة تحديد أفراد الدوريات .. يشم رائحة حديدهم من مسافات بعيدة .. يميزهم مهما حاولوا التنكر أو التخفي .. يجيد لعبة إنهاكهم .. إرهاقهم .. استنزافهم مهما نصبوا من شراك أو فخاخ .

كانت الشوارع يومها تطفح بالشباب .. بتجمعون من كل أنحاء المخيم .. من حارة الفالوجا .. من الفاخورة .. من تل الزعتر .. (1) من شارع هاني الشامي .. من شارع مصطفى البيك .. من شارع حاتم السيسي (2) مواسير حديد .. أعلاماً .. متاريس .. صناديق مقلوبة .. دخان حرائق .. إطارات .. سيارات أسعاف ترسم كتلاً من غبار لاهث .. الحواجز تنفتح أمامها لثانية واحد .. رصاص .. انفجارات .. جباليا قطعة من الدخان والمتاريس .. أصوات متراكضة :

ـ هناك حالة استشهاد مؤكدة وعشرات الجرحى .

ـ الشباب اختطفوا جثمان الشهيد من العيادة .. الإصابات خطيرة .

الجراد الأسود يحتمي بسواتر الدبابات والبنادق .. الجراد الأسود يختفي من الساحات .. الساحات للشباب فقط .. طائرتان تحلقان في سماء المخيم .. تبصقان سحابات دخان أبيض كرية .. قنابل غاز تطمر البيوت والشقوق ، غثيان .. شطة مطحونة في الأعين سعال متصل .. حجارة متصلة .. إكرام الشهيد في المزيد من الحجارة .

عندما لم يتمكنوا من السيطرة على الوضع زعقت ميكروفوناتهم :

ـ ممنوع التجول وإلا …. ممنوع وإلا …

.. شمس تذوب في خجل .. لم يعد (زاهر) يأكلك القلق .. جمر يتقد بين ضلوعك .. يحرق لحمك .. ماذا جرى له ؟؟ ماذا حدث له ؟ أين هو الآن ؟؟

جاءك الخبر بعد قليل :

ـ اعتقلوا (زاهر) كان يسير مع مجموعة من الشباب يريدون قطع الشارع الفاصل بين ساحة الشهداء والمدارس .. تقدم لاستكشاف الطريق .. حاسة التمييز .. سيارة بيجو بيضاء تحمل أرقام غزة تحط بجواره ، يندفع من خلالها خمسة بملابس مدنية ، وحدة خاصة .. القيود والأضرحة في أيديهم .. يحاول التملص منهم ، يلقمونه أرضية السيارة .. حاسة الشم خانته هذه المرة .. الحجارة تنهمر فوق السيارة التي قفزت تنهب الأرض بحملها .

قال لك البعض أنهم شاهدوا دورية تنهال على شاب بالهراوات والبساطير في ساحة المركز .. يعطونك أوصافاً تتفق مع هيئة (زاهر) وملبسه .

.. ينقطع نفسك وأنت تركضين من مكان إلى آخر .. تدورين في الشوارع .. لا تعيرين التفاتاً لأوامر منع التجول .. تفتشين عن خبر ما .. كلمة ما .. تتعلقين بحبال الهواء .. تتحسسين الظلمة واللاشيء .. عيادة المخيم .. سيارة وكالة .. تستوقفين الموظف الدولي :

ـ اسمه (زاهر كامل غيث) في الثالثة والعشرين .. درس سنتين في جامعة بيرزيت قبل أن يغلقوها .. يقول الناس إنهم شافوه في مركز الجيش .. كسروه من الضرب .. الله يكسر أيديهم ويهد حيلهم .

يسجل الأجنبي المعلومات في قصاصة صغيرة هازاً رأسه في استسلام ، بعد أيام وصلك الخبر في صورة رقم وخيمة ، زاهر موجود في أنصار"2" .

.. مضى أكثر من شهرين على غيابه .. اللهفة جبال تنمو في الأعماق .. ترى كيف حاله الآن ؟؟ ماذا عمل فيه الملاعين ؟

.. السجن وأنصار مادة أسئلتها الآن .. مادة قلقلها اليومي .. أكلها وشربها .. تسمع أنهم يتفننون في تعذيب الشباب .. يدلقون تحتهم جرادل الماء في عز البرد .. يدفعونهم خارج الخيمة وقوفاً لأيام لا حصر لها .. الجلوس محرم .. يلسعهم العراء وتيار البحر بأسياخ من ثلج .

 

* * *

شاب في مثل سن ابنك يدق باب البيت .. يسأل عن حالك .. خرجت من أنصار قبل أسبوع .. لم يؤخرني عنك سوى الطوق ومنع التجول .. (زاهر) بخير .. ابنك رجل .. حققوا معه طويلاً .. لم يأخذوا منه شيئاً .. أنكر كل التهم الموجهة إليه .. يوصيك أن تأخذي بالك من نفسك .. السجن لم يبن على أحد .. ربما تكون له زيارة يوم الجمعة ، يقولون أن الزيارة لا تستغرق أكثر من سبع دقائق .. سبعة قرون لا تكفيك .. لا تشبعك .. لا تروي عطشك .

ترتبين أفكارك .. في البداية ستحكين له قصة الزغرودة .. ينشرح صدرك وأنت تعيدين شريط صورك .

.. عصر الأمس .. أدوار موزعة كالعادة .. كل امرأة تحتل رأس زقاق .. ملاحظة الطرق للشباب .. تنبيههم بإشارات متعارف عليها حال كشف أية دورية .. تعريفهم بمكان وجودها .. عيناك على رأس الشارع الموارب .. دورية تتسلل من التقاطع .. تصفقين على يديك .. تندفع الحجارة اتجاه الإشارة .. رصاص .. ينزوي الشباب في زاوية الشارع .. "مروان " يأبى أن يغادر موقعه .. ذخيرته حجارة لا تنتهي .. تجلدهم حجارته .. تتناثر فوق أكتافهم .. ترتطم بأغطية الوجه المثبتة بالخوذ .. يحتمون بحائط .. يخططون أمراً ما .. بواريدهم أكفان تنغل بالدود .. "مروان" يرفض التزحزح .. اعتقلوه عدة شهور قبل فترة .. أصابوه برصاصهم مرتين .. مرة اخترقت رصاصة بطنه .. ظل يركض نازفاً حتى تلقفته أيدي الشباب .. في المستشفى استأصلوا له عدة أجزاء من أمعائه وطحاله .. وبعد شهر عاد يقذفهم بحجارته .. الثانية أصابته في ساقه .. لم يتمكن أطباء الأهلي من إخراجها .. قيل أنها في مكان خطر .. مجمع شروش .. يخافون من زحزحتها .. هذه هي الإمكانيات ولا خطورة من بقائها ، قد يتكون حولها درع من اللحم .

.. تنتهي ذخيرة "مروان" من الأحجار ، يتراجع إلى زاوية الشارع ، يغطي الشباب انسحابه بوابل من الحجارة .. يركض بطريقة قوسية متقاطعة .. لا يتيح لهم فرصة إصابته .. نتوء بلاطة مزروعة في باطن الأرض يصطدم بقدمه قبل أن يصل الزاوية .. يتطوح ، ينكفئ على راحتيه .. عشرون هراوة متحفزة تندفع نحوه ، عشرون كفناً يتجمع فوق "مروان" فوق " زاهر " لا فرق ، تصرخين صرخة ساخنة محروقة .. تنشل الهراوات لهول الصرخة للحظة .. لثانية .. ثانية واحدة فقط كي يندفع "مروان" على يديه ، قدميه .. يزيحهم عن جسده .. يمرق من بينهم كالبرق .. مُهر شموص يأبى اللجم .. سهم غادر قوسه .. تلاحقه أمشاط الرصاص .. يسقط الغبار قتيلاً في عيونهم وأفواههم .. يتراكضون خلفه .. حمم الحجارة تصهل فوقهم ..تصليهم من كل الجهات .. من السماء .. من فوق السطوح .. من خزانات المياه .. من داخل الدور .

الهراوات ، الأكفان المهزومة .. لهاث .. خيبة أمل .. العرق يشر من ملابسهم .. الفريسة تصفع بدمها وجه الصياد .. زغرودة محبوسة تنطلق من جوفك .. زغرودة بطول جميزات البلد المحظورة في " يبنا " .. زغرودة تزيح الهم عن الصدر ، تفش الخلق .. زغردي يا أم الشهيد .. يا أم الجريح .. يا أم المحبوس ..زغردي والشباب يندفعون نحو قنابل الغاز المقذوفة وهي تتنطط فوق الشارع والأسطح كرات جلدية .. عبوات معدنية يعيدون قذفها وهي تدخن ناحية الجنود .

 

* * *

 

اللهفة على رؤية ( زاهر ) تسلقك سلقاً .. تتمنين لو تحملينه بين يديك .. تقذفينه في الهواء .. تلقفينه ثانية .. مهما امتدت السنوات ما يزال طفلاً في نظرك .. تهزين في سريره .. تلاعبينه ، تحكين له حكايا البلد .. عصافير تتقافز في أعماقك .. كل دقيقة تمر تقربك من الغد ..تحملك إلى الغد .. ربنا يفك ضيقتك يا ولدي وضيقة كل الشباب .

طرقات متلاحقة على الباب ، تقبضين بأطراف الكيس في يد وبالثانية تفتحين الباب .. "ليلى" بنت الحاج خالد ، وجهها يفوح ارتباكاً وحيرة .

ـ سمعنا اسم " زاهر " يا خالتي في الإذاعة .

صوتها نحيب متقطع .. تتلاحق أنفاسك .. دخان حارق يتجمع في حلقك .. يهوى قلبك إلى قدميك ..

ـ يقولون أنه صدرت ضده وضد مجموعة من الشباب أوامر إبعاد عن الوطن بتهمة لجان شعبية .

رجفة .. قشعريرة .. ينزلق كيس النايلون .. تتشبث بحافة الباب .. وجهها غابة من الوجع .. دوران .. أكفان .. برودة .. سماء مشروخة .. سماء منطفئة .. سكين يقطع القلب .. مُهر مذبوح ، شهقات مكتومة ، نهنهة ، مجريان من الدمع ينسلان بعيداً بعيداً يرتطمان بسطح الكيس الممدد .

1 ـ من أحياء مخيم جباليا.

2ـ شهيد الانتفاضة الأول .

 

 

قصص قصيرة جداً

 

القبض على محمد الدرة*

 

عندما انتشر الجراد و تَمددَ القحط ، و جفت ألسنة الشجر ، تراكضت الأكفان ، و ابتعدت النجوم ، و راحت الأطيار تُنقّب عن سماء من فيء و زاد و نور، ضجَّ الخلق من البلاء ، و تجرأ بعض العوام فنقشوا على الحيطان حروفاًً و أشكالاً تتحدث عن القروح و الدمامل و أمواس الجوع و البراطيل ، فخرج كاتب المراسيم من قبته ببيان إحقاق الحق و إعادة الأمر إلى نصابه ، و الأمن إلى جِرابه ، تلاه بقرار إلقاء القبض على محمد الدرة الذي استهدف الميزان والثوابت حين ألقى بأيديه إلى التهلكة .

في الصباح امتلأت حيطان المدينة برسومات أخرى لشموسٍ تتشح بعيون الصبي محمد الدرة .

* شهيد انتفاضة الأقصى (12 عاماً) استشهد في 29/9/2000 .

 

لافتاتهم

 

ظلت طبولُ النذير و صيحات التنديد و الوعيد تتصاعد لساعات من أكوام لافتات القماش المتزاحمة التي أودعوها أقفاصَ المخزن انتظاراً لمهرجان آخر .

عندما هجم الليل و ركضت الريحُ العاوية و تمددتْ مخالبُ البرد القارس ، ارتعشت مساماتُ اللافتات المحشورة بالأصباغ و علب البوية و شحبت خيوطُها ، و خَمُدَ رغاءُ نذيرها و انفلتت عيدانَ قشٍ تبحث عن أرديةٍ و غطاء .

 

حمَّالــــة

 

حين تحولت المرأة الصغيرة ، الملهوفة على بطاقاته الملونة بالشموع و الأجراس و الفراشات التي سكنت حمالة نهديها إلى بطاقة تموين و شعارات تتأبط أول الشهر و آخره ، أدركت الآن أنها غدت وحيدة ، فالزوج الذي حوَّلته دانة الدبابة إلى فتافيت لن يعود إلى أجنحة عقارب الساعة .

عندما فتحوا آخر الشهور الباب على المرأة الصغيرة التي أدركت أنها غدت وحيدة ملفعة بالفراغ ، وجدوا شظايا جنازة و بطاقات وئيدة الخطى مكتنزة بفراشات مشدوهة ، و لم تكن هناك حمالة نهود .

 

الولــد الذي

 

الولد الذي تسحَّب على رؤوس أصابعه من حوش الدار قبل أن تلمحه أمه ، يعدو في الزقاق أصابع تُُخرج لسانها لطائرة الأباتشي التي تجز العيون التي انفجرت قبل أن يغشاها الأزيز .

الولد الذي تسحَّب من الحوش دون ضجيج ، يعود للدار دخاناً و غباراً راكضاً ملوناً ، دون عنق أو أصابع أو أكتاف .

انفجر الولد نجمات قبل أن يتنبه لشفرات الطائرة التي تجز الشجر و اليابسة و الأولاد .

 

فلتـــان

 

 

حالما أنهى المؤلف روايته ( فلتان ) ، سرح للحظات في شخوصه ، و تحسس عنقه الذي تراءى له عيداناً مذبوحة تشخب دماً يغطي السطور ، فقرر إعادة النظر في أصوات روايته و بنائها السردي .

بالممحاة داهم شخصياته غير النمطية التي تغوى الحديث عن البلطجة والبصاصين و المحاسيب و فوضى المُدى و الدكاكين ، و العمولات ، والقيء و الشخير والعري والشبق و العقم و الندوب و الملوِّثات و الطحالب والشجر الأجرد والمراكب التائهة .

تنفس المؤلف أخيراً بعمق، واطمأن على عنقه العائد إلى جسده ، فغطّ في تثاؤب متصل ، لكن العنوان ظل يتلوى أنياباً فوق أعناق الأوراق النمطية الممحوة .

 

 

الخطبـــاء

 

حينما لملمَ الخطباءُ الخمسة أعلامَهم و شعاراتِهم وأوراقَهم التي تتحدثُ عن المأسورين الأكرم منَّا، جمعت الصبيةُ الخطابات، برفقٍ وضعتها تحت الوسادة، فالأب الذي لم تره لن يعود أسيراً ، و الحيطان لن تعود مصفَّدةً بالأقفال، والأسلاكِ أمام مُهْرَته .

في الصباح بحثتْ الصبيةُ عن الخطاباتِ الخمسة، كانت هناك وسائدُ خمس مُسمَّرة تعلوها حروفٌ ممحوةٌ وألسنةٌ مثلجة، وأسوارٌ عاليةٌ مسدلة .

 

 موت أسرع

 

اختلفت القبائلُ في نسبِ الفتى الذي نعفته على الفورِ قذيفةُ الدبابةِ عيداناً ممزقة. كل قبيلةٍ تؤكد أنه سليل أصولها و بطونها، ووصل الأمرُ حد التلويح ببيانات التخوين والتهديدِ بعظائم الأمور.

قال خطيبُ القبيلة الأولى : ربطتنا بالفتى أواصرُ شتى، فالقصائد التي كتبها صهيلا ً في وجه الطوفانِ كانت جزءاً من أوراقِنا.

قال ناطقُ القبيلة الثانية : عندما غارت عيونُ الماء، و ضاق الحالُ، وزحف الخرابُ، و أضحت الأرضُ تفور بالأفاعي والعقارب والسحالي والجرذان، أخذ بأيدينا نحو ماءٍ صافٍ، عذبٍ، لا مثيل لمذاقه.

قال خطيبُ القبيلة الثالثة : حينما فاجأت غارةُ الأعداءِ المضاربَ، علا صراخُ الحريمِ، وغدت البيوتُ راجفةً مرعوشة، رأيناه يقفز من فوق العوائق، بسيفه يطارد رقابَ الغارة.

تصاعد زعيقُ القبائل، وانعقد غبارُ الطحن طوفانَ سكاكين سوداء مسنونة تُمجّد الطعانَ الآتي، نهض الفتى من كفنه قطعاً معفرةً بالدماء ، تأَمَّل القبائلَ اللاهيةَ المنعوفة، وتَمثَّلَ الطوفانَ الداهمَ الذي سيزدرد الجميعَ، فتدلى عيداناً ممزقةً باحثة عن موتٍ أسرع.

 

 

العَـلَــــم

 

بعد أن احتلت الرطوبةُ أوصالَه، وركض التيبسُ في أنحائِه، غادر العَـلَمُ أقبيةَ المخازن، بحثاً عن ملامحه في مدنٍ تَسابقَ غبارُ ألوانِ رايات القبائل في احتلال أسطح دورها، وذوائبِ شجرها، وأعالي أعمدة الهاتف والإنارة فيها .

تذكَّر العَلَمُ العائدُ مقهوراً إلى أقبية مخازنه، كيف كانت الأكفُ تناديه متاريسَ تُلوِّنُ الأزقةَ و العرائش وعيون الحراس الراحلين، وبدا له القمرُ بقعةًً سوداءَ شائخةً تغطس في كهف آفلٍ بعيد .

كان الصقيعُ يتربع فوق أنحاء العَلم الذي نسيتْ أفنيةُ المدنِ ملامحَه، لكنه كان من وقتٍ لآخر يتذكر أكفاً كانت تناديه ومدناً ما تزال تتململُ تحت جلده .

 

العسكري الذي انتشر

 

العسكري الذي صدرتْ له أوامرُ إخلاء موقعه المتهدم أمام الاجتياح الآتي، تفحَّص رصاصاتِه المحدودة المعدودة، و كانت الدبابة تهدر بجنازيرها التي تنتزع أحشاءَ البيوت والأعشاب و النخل، وكانت الطائرات توزع في الفضاء مشانقَها وكوابيس حرائقها .

العسكري الذي صدرت له أوامرُ الإخلاء تأمَّلَ الأفاقَ الممتدةَ والساحاتِ الواسعةَ الباقية، و في جسد تراب موقعه المتقدم، المتهدم الصامت انتشر.

 سميحة

 

بعد ثلاثين عاماً من كتابة روايته الأولى (سميحة) ، راودت الروائي فكرة توظيف بطلتها ثانية في أحدث نتاجاته .

لم تغب سميحة من ذاكرة المؤلف المزهو بها ، كما لم تغب أيضاً آراء النقاد الذين أثنوا على بساطة تلك الشخصية ، و أشادوا ببراءتها، واتساقها مع الضوابط الاجتماعية .

قبل أن يتمدد المؤلف متعباً مكدوداً بعد أن ختم روايته الجديدة، انسلت (سميحة) من ضلوع الحروف، و تهادت أمامه امرأة تلبس من أحدث مودة، معلنة في نزق و تحفز أنها ستقاضيه، فقد ورَّطها وأساء إليها، فبدت في الرواية الجديدة شخصية سمجة ممجوجة تجلب الغثيان ببراءتها، وعدم خروجها عن الضوابط الاجتماعية .

 

 

القناصُ و أشياؤُها

 

عندما انتزعَ القناصُ النورَ من جسدِ الطفلةِ ، غادرتْ علبةُ الألوانِ أصابعَها ، و تناثرتْ أقلاماً تتقافزُ فوقَ التراب .

مع جديلةِ الشمسِ التي كانتْ تتعلق الطفلةُ بخيوطِها البرَّاقةِ بحثاً عن أسرابِ الفراشاتِ ، و زقزقاتِ الحساسين ، مضى القلمُ الأبيضُ .

صَوبَ رائحةِ شجرة الكينا التي كانت تظللُ الطفلةَ حينما كان يتدفقُ الشواظُ اللافحُ ، ركض القلمُ الأخضر .

في جسدِ السوافي التي كانت تغتسلُ الطفلةُ بنوافير رملِها تطايرَ القلمُ الأصفر .

نحو أصدافِ البحرِ التي لم تُمكِّنها أنيابُ المستوطنةِ من قطفها ، امتدَّ القلمُ الأزرق .

إلى حضنِ الليل الذي كان يُكحّلُ وسادتَها بالأحلامِ المزركشةِ ، عَبَرَ القلمُ الأسود .

*

كان القناصُ الذي أطفأ النورَ في جسدِ الطفلة يتشممُ رائحةَ علبةِ الألوانِ المتقافزة ،

بقذيفته باغتَ عنقَ العلبةِ و أحشاءَها ، لكن الأقلامَ التي سالتْ في أشياءِ الطفلةِ ظلتْ بازغةً هناك .

 

 

ذلك الحاجز

 

 

على الحاجز الذي اندقَّ إشارةً ضوئيةً حمراءَ تبخُ أسواراً ونِصالاً، انحشرت السيارةُ الصفراء التي تحملُ الولدَ الذاهبَ لزيارةِ أبيه.

نادى الرجوعُ السيارةَ الصفراءَ، وكان الحاجزُ طوابيرَ تتمددُ غباراً وقروحاً وعلاماتِ استفهام، وكان الأسير هناك ينتظرُ الولدَ الذي لم يستكشفْ ملامحَه.

بعد يومٍ من الإشارة الضوئيةِ الحمراء، قرر الجنديُ إخلاءَ المكان. كانت السيارةُ الصفراءُ مطمورةً بالغبارِ والزحام وأمواسِ الانتظار. وقبل أن يكملَ الجنديُ زعيقَه كانت نِصالُه الشغوفة ببُقع الدم تخترقُ رأسَ ولدٍ يحاول أبٌ هناك ألا ينسى ملامحَه.

 

 

مِنْ أينَ لَه ؟؟!!..

 

عِندما زادتْ الكُرَبُ، وتعالى اللمزُ، اشتاقَ (مِنْ أينَ لكَ هذا) لنجماتٍ مُنقرضٍ، وأطيافِ أحقابٍ هاربةٍ، فغادرَ لِثامَ غِمْدٍ عتيقٍ سيفاً يزومُ وعيداً مُتأججاًً بقرارِ كشفِ المستورِ وفضحِ تُخومِ الأغطيةِ والحُجُبِ .

استدعى (مِنْ أينَ لكَ ..) أسماءَ خلائق أخفوا الكلأَ والعَقَارَ، وأشاعوا الكسادَ والعُقْمَ والهوامَ، فأبصرَ نعشاً مفتوحاً يَحثّ الخطى نحوه، فانتابته رجفةٌ و هزاتٌ، وتكاَلَبَ عليه رُعبٌ لم يعهدْه، فنادى غَوْثَ غِمْدٍ يستر عُريه وينجي أعضاءَه، وجثا فضائياتٍ وجرائدَ وحِواراتٍ تتبرأ من أطيافِ أحقابٍ مارقةٍ جاحدةٍ حاولتْ تهييجَ العوامِ الموقنين بأن الناسَ رُتَبٌ و حُجُبٌ وحساباتِ بنوكٍ وتوكيلات .

زكي العيلة، غزة ، فلسطين 2005

 

 

البوصــلة

 

 

وأنت متجه إلى عملك .. إلى مدرستك القريبة من ساحة الشهداء .. تغربل الشارع بعينيك .. تنقبه بنظراتك .. تبحث عن شيء ما .. شيء محدد .. شيء افتقدته في الشارع منذ أكثر من عشرة أسابيع .

تتعمد أن تبطئ في مشيتك .. تتلكأ .. تتوقف عند دكان حسني تسأل عن بعض الأصناف .. حالة الغلاء .. أخبار الضريبة .. تنكأ قشرة جرح لا ينشف .. يفش لك غله .. نبراته كومة من المرارة :

ـ تصور يا أستاذ .. نزلوا على الدار مثل الجراد في الطوق ، أخذوا الهوية .. شلحوا المخزن .. نظفوه وشالوه في سيارات الجيش ، سرقة عيني عينك .. تقشيط .. شغل عصابات .

تحاول شد أزره .. تشجيعه .. لا يمنحك فرصة التعليق ..

ـ والله لو صادروا البيت والأولاد ما دفعت لهم مليماً .. الهوية مبروكة عليهم .. ليكن ما يكون .. حبس .. طخ .. الضريبة التي يطلبونها لم أستفتح عشرها من يوم أن ولدت .

.. صوته مغموس بالحرقة .. تجد صعوبة في تغيير الحديث .. السؤال عن ضالتك .

ـ لا .. لم ألمحه في الشارع من يوم استشهاد ابنه "فايز" .

تتمهل .. تقلب النظر .. عيناك مغروزتان في الطريق .. تفتقد فيه شيئاً ما .. شيئاً اعتدت مواعيده سنوات .. لم تعد تضبط ساعتك على طلته .. لا يصادفك في الذهاب أو المجيء .. كنت تمازحه واصفًا إياه بالساعة التي لا تُقدم ولا تؤخر .. تبصره في نفس الموعد .. تلتقيه قرب خزان المياه مرتدياً ملابس العمل الرسمية .. نظارته الطبية جزء من عينيه .. خطواته رتيبة منتظمة .. وجهته اليومية ، عيادة الوكالة أو قسم التغذية الذي كان مديراً له قبل أن يخرج إلى المعاش قبل ثلاث سنوات .

يضحك من كلامك وأنت تصفه بساعة منبه يمكن اعتمادها .. يتربع الجد في نبراته وهو يقول :

ـ المنبه بحاجة إلى ضبط .. إلى بوصلة تكشف الطريق .. تحدد الاتجاه .

كثيرون لا يعرفون أنه محال على المعاش .. دوام معتاد من السابعة صباحاً حتى الثانية ظهراً ، عمل غيرمحدد .. من غرفة إلى غرفة .. إخراج بطاقات المرضى .. تجهيزها .. ختمها .. تصنيفها .. جرد إحصائية التغذية إذا تبقى وقت .. وبالمرة يعرض نفسه على طبيب العيون مرتان في الاسبوع ، يشكو من زغللة ..لم تعد نظارته قادرة على فرز الأشياء تماماً .. خيوط دقيقة تتشابك أمام عينيه .

عندما كنت تستوقفه أحياناً في الشارع كان يقول لك :

ـ قعدة البيت موت حقيقي .. الحركة فيها نشاط وحياة ، والتعب مع الناس فائدة .. البركة الآن في "فايز" وإخوته كبروا وشالوا جزءاًَ من الهم .

 

* * *

 

أكثر من عشرة أسابيع وعيناك ما زالتا مسمرتين في الطريق كل صباح .. تفتقد شيئاً ما .. مذاقا ما .. تقرر أن تمر عليه اليوم .. تسأل عن أحواله .. أوضاعه ..

آخر مرة زرته فيها أخبرك أنه لا يفارق الآن باب الدار ، واجبه منحصر في الحارة .. العيادة والتغذية فيها ما يكفيها ، وظيفته استكشاف الطريق .. إعطاء التنبيهات للشباب .. تغطية ظهورهم ، لن يسمح بقتل "فايز" آخر ..

.. يعرف كيف يمرر الاشارات .. لا يرتاب فيه الجنود .. يعرف كيف يغافلهم .. رجل مسن غير مطموع فيه خاصة إذا سبك الدور بالعكاز .

صورة "فايز" تملأ مساحات ذاكراتك .. لا تغادرك .. كان تلميذاً عندك قبل سنوات .. تلقاه قرب المدرسة أحياناً .. تسأل عن وضعه .. تعلم أنه صار معلماً للبنيان .

ـ الشغل متوفر هنا يا أستاذ .. في المشروع .. في العلمي .. في تل الزعتر .. تحس هنا بكرامتك وقيمتك الأدمية حتى لو اشتغلت يوماً أو يومين في الأسبوع .. حتى لو كانت الطاقية على قد الرأس أو حتى أضيق منه .. ذلك أفضل ألف مرة من بهدلة الخواجا .. قلة القيمة .. مص الدم .. ومرمطة الصلب في "ايرز" .

قبل استشهاده بشهر كان على موعد مع الموت .. كان المخيم يومها ساحة من المواجهات .. سيارات الإسعاف لم تتمكن من متابعة الإصابات .. رصاصة أصابت شاباً بجواره .. دم فوار يملؤه .. لم يدر بنفسه وهو يقود السيارة .. كان ينقص سيارته أجنحة كي تطير .

جيب عسكري يطارده .. يعرف غرضهم .. ينوون أخذ الشاب الجريح .. أخذهم له يعني هلاكه .. نزف ما تبقى من دمه في مركز الجيش .. وبعدها يطبخون ما شاءوا من روايات .. لا بد أن يصل إلى غايته .. يفلت من أنياب الموت الذي يلاحقه .. لن يمكنهم من اللحاق به .. لن يمكنهم من تحقيق هدفهم .. لن يمنحهم فرصة طبخ رواية تتحدث عن شاب عثر عليه مقتولاً وجارٍ التحقيق في الأمر ..

دفقة بنزين .. يثب مؤشر السرعة .. يصل إلى آخر اتساعه .. آخر ما يستطيع .. عجلة القيادة تترجرج بين يديه .

قبل أن يجتاز شارع المخيم إلى البلد تفاجئه مجنزرة عسكرية تسد عيه المنعطف .. لا تبقى أمامه فسحة مرور ..

يحاول تخفيف السرعة .. يأخذ الطريق المعاكسة .. صرير فرامل .. لا تطاوعه العجلات تشهق .. تستدير حول نفسها عدة مرات قبل أن تنقلب .

 

* * *

تزوره في مستشفى الشفاء .. تطمئن على حالته وحالة الشباب .. تتسرب ابتسامته إلى أعماقك .

ـ عمر الشقي بقي .. رضوض وعدة غرز .. المهم أنهم لم يتمكنوا من أخذ الجريح .. سيارة الأجنبي مسؤول الوكالة وصلت في اللحظة المناسبة .. كانت تتابع الجيب .

كلماته لا تزال تنقر عظامك :

ـ الظاهر يا أستاذ إن في العمر بقية لحساب مؤجل .

 

* * *

 

كان يومها إضراب شامل ..زعقت الميكوفونات من أول الليل تعلن حظر التجول .. كل دعوة في البرنامج لإضراب يقابلها طوق منهم .. يظنون أن ذلك يخفف الانفجار .

جربوا مختلف الوصفات .. التقليل من شأن ما يحدث تارة ..الذبح تارة ، لم يتراجع أحد .

جربوا خلع أبواب المحلات المغلقة .. بعد ثوان كان الشباب يعيدون لحامها وحراستها .

جربوا تسيير السيارات المصادرة في الشارع العام الموصل إلى حاجز "ايرز" يوم الإضراب جيئة وذهاباً ، إيهام بالحركة .. لم ينخدع بفعلتهم أحد .

جربوا الإعلان ليلة الاضراب أن باصات "ايغد" تنتظر قرب الدوار من يود التوجه إلى عمله غداً .

لم يستجب لدعوتهم أحد .. فرت الباصات مضروبة .

قلبهم ليس على العامل ومعيشته .. قلبهم على اليد الرخيصة ، العمل الأسود .. ورشات البناء وورديات المصانع المشلولة ، قلبهم مساحة من الغبش والمناقير السوداء .

.. لم تعد المكابرة تجدي .. لم تعد المراوغة تندرج على أحد ، نشرات إذاعتهم تعلن أن نظام منع التجول قد فرض على مجمل مخيمات قطاع غزة وعلى عدة أحياء من مدينة غزة خوفاً من حدوث أعمال مخلة بالأمن ..

.. يقولون خوفاً الآن .. يتنفسون خوفاً الآن .. قاموسهم يتسع لكلمة الخوف الآن .. يحسبون حساباً لقوة تحمل الناس .. يحسبون حساب غضبهم .

كان يومها إضراب .. الحجارة تجلد دورياتهم رغم الطوق ، يداهم الجنود أول باب يقابلهم .. يقتادون صبياً .. تلاحقهم صرخات أمه .. الباب مغلق لم ينفتح طول اليوم .

لا يأبهون .. يبحثون عن دم يلعقونه .. ينهالون عليه بالعصى وقطع الحديد المثبتة في بوز البنادق .

هتافات .. نداءات تتصاعد من داخل البيوت المحاصرة .. القاعد مضروب والقائم مضروب .. الداخل مضروب والخارج مضروب ، فليخرج الحجر .. لتنطق العصى وأسياخ الحديد .. لتنطق ساحة الشهداء .

يندفع "فايز" خارجاً .. بلطة تبرق في يده ، الحساب المؤجل .. العمر وبقيته .

ـ أخذوا ابن الخالدي .. هشموه .. كسروه .

نسوة يشتبكن مع الدورية .. يحاولن تخليص الفتى ..

الهروات تنزل فوق الأيدي والرؤوس .. عيارات رصاص .. مقذوفات حديدية ، يتراكض الشباب نحو الدورية المحاصرة .. أصوات متلاحقة :

ـ خلصوا الصبي من أيديهم قبل أن يأتيهم المدد ..

.. يحتمي الجنود خلف سيارة معطوبة .. رائحة غاز .. سعال .. ضجيج .. مقاليع .. ينفلت الصبي من أيديهم .. دم يتسرب من أنحائه .. مجنزرات قادمة .. كاسحات متاريس .. عواء زامور .. حجارة متصلة .. ينسل "فايز" ببلطته ، الحساب المؤجل .. يقترب من السيارة المعطوبة .. الساتر .. رصاصة قناص .. برج مراقبة المركز .. يتطوح من الضربة .. رأسه ينفجر .. تنغرز أصابعه حول ماسورة البلطة .. يندفع عدة خطوات .. العمر وبقيته .. لهيب حارق ..غيوم .. شهقات .. تتجمد نظراته فوق شفرة البلطة .. يتراخى .

 

* * *

 

عشرة أسابيع مضت منذ استشهاده .. وفي كل يوم يسمح فيه بالتجول تخرج وأمل بلقاء شيء افتقدته في الشارع يصخب في أعماقك .. تتصيد أخباره .. يقولون أنه لم يعد يأتي حتى لعرض نفسه على طبيب العيون .

افتقدته غرف المرضى .. أدراج البطاقات وأختام التحويلات والجرد .

تشبع الشارع تفتيشاً ، لم تعد تلمحه .. لم تعد تلتقي ساعة المنبه .. المواعيد المضبوطة .

لا تفارقك كلماته :

ـ المنبه بحاجة إلى بوصلة تكشف الطريق .. تضبط الاتجاه .

ستزوره اليوم .. تمر عليه بعد نهاية الحصص .. تطمئن على أحواله ..تصغي لأخباره .. تتشرب تعليقاته .. أخبار مشاركاته .. الزقاق الموازي للمدرسة .. جمهرة آليات عسكرية .. علامات استفهام تركبك .. أصوات :

ـ الجيش حاصر دار أبو فايز .. أخذوه .. والناس وراهم .

 

* * *

 

كان أمام بيته يرصد الاتجاهات .. يراقب ، يعطي الإشارات للشباب عندما مرقت دورية من الزقاق المعاكس بغتة .. صوت اللاسلكي مطفأ .. في مواجهته مرة واحدة .. يضع الضابط إصبعه على شفتيه محذراً .. إشارات ذات دلالة .. عدم إبداء أية حركة وإلا ..

ملثمون في التقاطع الخلفي .. شباب في سن " فايز " بيانات برامج .. إصبع التهديد .. الدورية .. التسلل .. الأنياب السوداء .. ربما يقع في شباكهم أحد .. ربما يصيبون البعض .

سكوته صمته يعني ….

صرخة تحذير تهدر منه .. تخفف من الثقل الذي يجثم فوق حنجرته .. الدورية المتسللة .. الأنياب .. غيظ .. خيبة أمل .. يكاد يفجرهم الغضب .. ينهالون عليه ضرباً .. يرفسونه في كل مكان .. يخبطون رأسه في الحائط .. يدفعونه .. يزقونه أمامهم .. يتدافع الشباب نحو الجنود ..يقتحمون المكان .. يتواثبون صدوراً مفتوحة .. صدروا غير آبهة .. قبضات .. مواسير حديد .. حجارة تتابع الآليات المنسحبة ..

 

* * *

 

وهو يتناول نظارته المهشمة يستند على كتف أحد الشباب .. يعرج .. دماء تقطر منه .. يحس أن جسده قد عاد إلى وضعه الطبيعي .. لم يعد مغموساً في الرمل .

صور "فايز" معلقة على الحيطان والأعمدة .. خط عريض تحتها :

" شهيد اللجان الشعبية "

يتوقف بجانب عمود كهرباء .. يطلب قلماً .. يرتكز إلى أحد الشباب .. يتحسس الصورة .. لا زغللة .. لا غشاوة .. لا خيوط متشابكة .. يضيـف إلى المكتوب كلمة واحدة يضعها بين

قوسين عريضين " البوصلة " .

تلتقي عيناه بنظراتك .. تمتد تسنده حيث عربة الإسعاف .. يبتسم ابتسامة ذات معنى مشيراً بإصبعه نحو الكلمة التي خطها بين قوسين .

 

 

الحـــراس

 

ذات صباح ..

طفل يحتضن علماً صغيراً يلصقه على باب دكان مغلق .. فرح يشب داخله وهو يتأمل كلمات ملونة قضى الليل يحاول تزويقها :

" لا للاحتلال "

يقرأها مرة .. مرتين .. عشرة .. لا يكل من القراءة .. غمازتاه تلمعان بفرح طاغ ..

ينزوي في طرف الشارع .. يراقب بعض السابلة يقرأون كلماته

.. غمازتاه عصفورتان ترفرفان بلون العلم .

 

* * *

ذات صباح ..

يقرر صاحب دكان أن يفرز ما تبقى من بضاعة اسرائيلية .. يصفيها .. يفرش بطانية بإتساع أرضية المحل .. يتأكد من إغلاق الباب .. كل بضاعة لها بديل وطني يجب مقاطعتها .. عدم تسويقها .. ما داموا يحاولون مصادرة لحمنا وخنق أنفاسنا فلا أقل من مقاطعة بضائعهم .. إيلامهم .

تتكوم فوق البطانية بقايا الأصناف المطلوب مقاطعتها .. الأصناف التي لها بديل .

علب سجائر .. علب حلوى .. بسكويت .. شيكولاتة .. علب مربى .. علب لحوم .. أوعية جلي وتنظيف وشطف .. صابون .. محارم .. مرطبات عصير .. مخللات .. ألبان .. دفاتر .. يكبر الكوم .. يتراكم .. تتراكم فرحة دافقة في أعماقه .

 

* * *

ذات الصباح ..

يقرر عامل أن يبقى في فراشه وقتاً إضافياً .. ليذهب "حاييم" وعمله إلى جهنم .. عمل أسود لا يقبله حتى الفلاشي القادم من قارة أخرى ليصبح بقدرة قادر صاحب الحق حتى لو كان محجوزاً عليه في شيكـونات خاصـة أقامـوها في أطراف

 

المجدل ، يخشون ملامسته كأنه الوباء .

نخاسة .. نشاف ريق .. يحاسبون عليك أنفاسك .. تفارق عينيك المواويل .. شخط .. نزق .. أوامر .. نواهي .. ازدراء .. مناقير سوداء تنهش عروقك .. لا سماء .. لا هواء .. لا طرقات .. ثم يمنون عليك أنهم لم يستقدموا أجراء من البرتغال أو الفلبين .

استقدموا أيها الملاعين .. استقدموا ما شئتم .. استقدموا إذا أمكنكم أو استطعتم تحمل تبعات ذلك .

اطلبوا وانتدبوا الأسواق كلها .. لن تجدوا عروقاً تقبل الشوي فوق الأسياخ .

لن يقطع الرأس إلا الذي ركبه .. الرزق ليس موقوفاً عليهم .. لم يمت أحد من الجوع .. هم الذين يحتاجون .. لست بحاجتهم .. أكثر من معلم بناء يتمنى أن تعمل معه هنا ..

ابتسامة تطفو فوق شفتيه .. اليوم إضراب .. تتخيل منظر "حاييم" يسأل عنك حصى الأرض ..يفتش في كل مكان ، يدور حول نفسه .. شوك يلسع قفاه .. ليأكل بعضه .. ليشرب برميل الخلاطة .. يسف أكوام الأسمنت ، ليبتلع أوامره ونواهيه أو يعلقها فوق قوالب البلوك التي لن تجد سبيلاً لرفعها .. ليرفعهاعلى رأسه .. على قفاه .. أو لينتظر الفرج من أسـواق

لن تأتي ..

 

* * *

 

ذات الصباح :

ساعات طويلة مضت .. ليل بطوله وعرضه وهي في قعدتها ..كتاب الحروف الذي تعلمته في المشغل أمامها .. أخبرها المحامي أنه مستعد لحمل رسالة منها لابنها "إسماعيل" الموقوف إدارياً في النقب عند السماح بزيارة وفد المحامين .. تعتصر ذهنها . تبحث عن كلمات تعبر عن جزء من الشوق الذي يأكلها منذ تسعة أشهر .

تكتب عدة حروف .. تتأكد من صحة الكتابة .. صحة تشابك الحروف ببعضها .. تهز رأسها .. تمزق الورقة .. لولا مساعدة " إسماعيل " تشجيعه المستمر لها ما استطاعت أن تتقدم في معرفة الحروف .

ترسم حروفاً أخرى .. تتأكد من سلامة تجميع الحروف ، تطبق الورقة بين أصابعها .. لم يتبق بين غلافي الدفتر إلا عدة أوراق قليلة .. الكتابة نصف المشاهدة .. ليتها حروف مصفوفة فوق السطور .. يخفق قلبها وهي تخط كلمتين تتهجاهما عدة مرات .. حنان يموج في صدرها .. تطوي الورقة في رفق متمتمة :

ـ شد حيلك ..

 

* * *

 

ذات الصباح :

طوب متناثر .. بقايا بلاط وباطون تجمعها يا أبو زياد ، تكسرها إلى قطع يمكن تسديدها .. توزعها في الشارع حيث الشباب ..

رائحة النسف تفوح منها .. لم يتبق غيرك في الدار بعد أن أخذوا الأولاد واحداً بعد الآخر .. غرفة صفيح مؤقتة فوق ركامات دارك المنسوفة .. غرفة صفيح مطاردة .

دارك التي حملتها على كتفيك .. فوق ضلوعك حجراً حجراً .. حصاة حصاة قبل عشر سنوات .. تنقل المخيم فوق رأسك .. تحمل جروح الذاكرة المسبية في خلاياك إلى الأمتار المحددة في مشروع الشيخ رضوان .

مائة وعشرون متراً مربعاً لرب العائلة الذي يزيل دار المخيم .. يسويها بالتراب .. يطلبون أختامك أوراق تجهل ماهيتها .. تسأل ، يقولون إنه عقد إيجار وتأجير من الحكومة لأمتارك .. إيجار لمدة تسع وتسعين سنة .

تشقى ليل نهار .. تبني طوفاً وتنتظر الفرج شهوراً .. تبيع مصاغ أم العيال .. تنسحق ليل نهار بين الطوبار والمونة وقلة ذات اليد .. انعدام ذات اليد .. يهرسك الاقتراض والسداد ..

تصبح فرجة لحملة الكاميرات ومختلف البرانيط .. يحدثونهم عن جنة التوطين .. الوصفة السحرية .. أنهار السمن والعسل التي يسبح فيها تاركو المخيم .

بلاط المطابخ .. هوائيات التلفزيونات .. عدادات الماء .. عدادات الكهرباء .. السخانات الشمسية .. الرضا بالمقسوم ولو كان كمشة أمتار مؤجرة .

في بداية الانفجار قالوا : مشاريع التوطين لن يطالها شيء .. لن يشغلها شيء .. المشكلة في وجود المخيمات .. لو جادت أسواق المال بهباتها لزال الهم والغم .. قلع المخيم من شروشه .. نسفه .. إعادة توزيع مساحاته أمتاراً مؤجرة .. ولا دمل بعدها .

خطواته تدب فوق الاسفلت .. الحجارة المسنونة تتمدد بين أصابع الشباب .. صدره يعلو ويهبط ، تتسارع أفكاره .. المخيم هو هو .. الوجع ذاته .. الحرقة ذاتها .. الكلبشات ، البساطير نفسها .. لم تتبدل ولم تتغير .. الوصفة التي بشروا بمفعولها طويلاً تنفجر جمرات في أعينهم .. تجرف أسماعهم ، ركامات البيت ، قطع البلاط والباطون ، الحجارة المهشمة تتوزع أكواماً تقطر منها رائحة النسف .

ليس أقل من أن تتشظى كومة دارك ، شقاء عمرك إلى أمواس في يد الشباب .. تتواثب أنفاسه .. تتبخر تجاعيد الزمن من نبراته وهو يهتف للوطن وللشهيد ..

 

* * *

 

ذات الصباح :

ينهض شاب من نومه .. يرتدي ملابسه في عجل .. شيء ما يستلقي في جيبه .. يرتفع صوت أمه :

ـ إلى أين في هذا الصبح ؟ الدنيا إضراب والمدارس معطلة .

ينفلت خارجاً .. يتلفت في كل الاتجاهات .. أعلام تتدلى من أسلاك الكهرباء .. صور شهداء .. كتابات جديدة بالبوية . اللجان الشعبية .. ابتسامة تملأ وجهه ، ينفذ دبيبها إلى عظامه .. صفير لاسلكي .. دربكات بساطير تدب في آخر الزقاق .. قبل أن يكمن في زاويته يسحب من جيبه شيئاً لامعاً مشحوذاً .. برق ورعود في عينيه .. نظراته تومض بلغة تتلو أحسن القصص ..

 

 

حيطان من دم

 

تحمل هم الدنيا فوق رأسك .. تحمل كل أوجاعها .. رأسك أثقل من حجر الطاحون .. لا تبرئ نفسك .. لا تغفر لها ما حدث .. قصد أو غير قصد .. الذنب في النهاية ذنبك .. الخطأ خطأك مهما حاولت أن تختلق من مبررات .. مهما حاولت أن توجد من أعذار .. لم تضع في حساباتك أن ذلك قد يقع .. لم تفكر للحظة ما قد يحصل .. درست البدايات وتاهت منك أخطر الأسباب والنتائج .. فرحتك بلمة الأورد المنتظرة أنستك باقي الخيوط ، باقي التفاصيل .. جعلتك لا تنظر أبعد من باب الدار .. دار المخيم ، المائة متر .. على شارعين .. قريبة من المرافق العامة .. ترتفع إل ثلاث شقق .. ثلاثة طوابق .. كل واحد من أولادك بحاجة إلى شقة عندما يقررون الاستقرار هنا عاجلا أو آجلاً .. غدا أو بعد غد .. سنة أو عشرة ، سيأتي اليوم الذي تلفظهم فيه مياه الخليج ، سيأتي اليوم الذي يكلون فيه من الغربة .. تشبع الغربة منهم .. تمتصهم .. ترميهم .

لماذا لم تجعل العمارة من طابقين فقط ؟؟ شقتين ؟؟ بلاء أخف من بلاء ، مصيبة أهون من مصيبة .

لماذا لم تقنع بشقة واحدة ؟؟ تكتفي بطابق واحد لا يعلو الأسطح المجاورة في كثير أو قليل .. طابق لا يلفت نظرهم ، لا يخدم هدفهم .. لا يمنح الملاعين فرصة غرس السكين في صدر المخيم .. ولماذا الطابق أصلاً ؟؟ لماذا الهدم والبنيان وتعب القلب ؟ لماذا الشقق وهم الشقق ؟ لماذا لم تترك دار المخيم على وضعها الأصلى .. تدع الأمور تسير على طبيعتها .. وعندما يأتي الأولاد تترك لهم الجمل بما حمل .. يسوقونه كيفما شاءوا يدبرونه بحسب رغبتهم .

.. كل بقعة دم سالت في عمارتك .. طرزت حيطان وأكتاف المخيم تصحنك إلى فتافيت .. ذرات مخنوقة تنز حرقة وغشاوة .. تطاردك بقع الدم .. أمواس مسنونة تنشر عظامك .. أنت السبب .. أنت المسؤول .

أنت الذي أقمت أوتار المشنقة .. جهزت كلاباتها المدببة .. لم ترضَ لشراعك أن يمضي كباقي أشرعة الخلق .. كنت مستوراً في دارك .. لم يخطر ببالك ما قد يحدث .. لم تكن الأمور على مثل هذه الصورة .. لهفتك على اللمة المرتقبة غطت مساحات تفكيرك .. مثلي مثلكم لا أملك من العمارة شيئاً منذ أكثر من سنة .. لا أتحكم فيها .. لا أستطيع حتى مجرد الاقتراب من الأسلاك والحواجز الأسمنتية التي تطوقها .. لو كان الأمر موكولاً إليّ لجعلت أعلاها أسفلها ، دككتها دكاً .. دفعتها بيدي للبحر ، دفنتها في قاعه .

من كان يتوقع حدوث ذلك ؟؟ من كان يخمن بما سيجري ؟؟ لست أول من أسس داراً .. لست أول من شيد .. لست الأخير .. لم أفعل شيئاً يختلف عما فعله الكثيرمن العباد .. لم أرتكب جرماً .. لكنه السهم الذي انطلق يتشمم دارك .. يتنزى شهوة للدم .. يتركك تنزف عمراً بأكمله .. دهراً بأكمله .

كل ليلة تمر بك تحس درجات الدار أفاعٍ تتلوى حول عنقك ، تلدغك .. تسحب أنفاسك .. تهب مفزوعاً تبحث عن شيء تاه منك .. شيء غادرك .. حلم افتقدته .

عندما حضر أولادك آخر زيارة اكتشفت أن دار المخيم لم تعد تتسع بغرفها الضيقة لهم ولعيالهم .. لولا أن بساط الصيف واسع ما استطعت أن تستر وقتك .. ترى هل ضاقت الغرف أم أن عدد الأنفار قد اتسع وتمدد ؟ يقترحون عليك مساحة أوسع .. مساحة مناسبة يقيمون فوقها بناء كافياً يجمعهم عند المجيء .

تدلهم على المساحة والمكان .. دار المخيم .. لا تكل من محاولات الإقناع .. مائة متر .. على شارعين .. قريبة من السوق والعيادة .. ملاصقة للمدارس .. طريق مواصلات .. نهدم الغرف .. نقيم فوقها المطلوب .. ليس من السهل مفارقة هذا المكان ، لا يمكن التفريط بجيرانك بعد هذا العمر الطويل .. العِشرة لا تهون ببساطة .. أعوام طويلة بمرها وعلقمها الكثير وحلوها القليل .. أعوام ممتدة وحكايا البلد لا تفارق ذاكرة المخيم .. تتمنى لو تمتطي عمارة من عشرة طوابق .. عشرين .. تظل مغروزاً أعلى السطح .. عيناك مزروعتان جهة الشمال .. تستكشف دار البلد ، المجدل .. البيارة المحظورة .

تمضي الأيام وأنت مُسمر فوق سطح عمارتك .. يرسل لك الأولاد تحويشة عمرهم .. دم الغربة وشقاءها .. ثلاثة طوابق .. ثلاث شقق فوق دار المخيم .. قادمون إن عاجلاً أو آجلاً .

صقيع ينخر أوصالك .. برودة .. وحدة .. كآبة بعد المرحومة وزيجة البنات وغربة الأبناء .. ستحاول إقناعهم .. تعمل كل جهدك .. تتوسل إليهم أن يظلوا حولك .. يملأوا الدار عليك بأنفاسهم وأولادهم .. والعمل كثير وما يرسله الله نعمة وفضل وخير كثير .

تظل ساهراً طول الليل .. عيناك على تحويشة أولادك .. شقاء عمرهم .. كل قرش منها تقابله قطرة عرق مجبولة بدم الغربة وأوجاعها .. لن تفرط في تعبهم ببساطة .. لن تذهب نقطة منه بسهولة .. دون متابعة أو حساب .. ستحاول أن تظهر بهيئة العارف الخبير في أمور البنيان ، تسأل عن أسعار الحديد .. تفاصل .. تركض وراء تجار الجير والإسمنت .. تنتقل من مخزن إلى مخزن .. تستفسر عن أحوال الطوبار .. أمور الباطون ولوازمه .. قواعد الأسمنت .. الغروز .. الخرسانة والتسليح .. بيت الدرج .. البسطات ، الأعمدة .. المناور .. التهوية .. تطارد قلابات الرمل والحصمة .. المقاول .. الخلاطة .. عربات الحجارة والرمل .. تجري وراء مهندس البلدية من مكتب إلى مكتب .. الخريطة التي يرسمها لا تعوقها الأختام .. لا يعوقها التنفيذ .. كلما ارتفع عمود باطون .. سطح .. طوف حجارة .. يرتفع في داخلك أمل بقرب لمة الأولاد .

 

* * *

 

من دون عمارات الخلق اختار السهم عمارتك .. أصاب قلبك ، شقاء العمر ودم الغربة .. كنت مشغولاً وقتها بنقل قوالب الطوب.. رفعها .. تجهيزها لقواطع الشقة العلوية عندما دهمتك زمجرة لا سلكي .. عواء صفير .. قرقعة أحذية ، يسقط القالب من يديك .

أخبرك البعض بعدها أنهم شاهدوا عدة جيبات عسكرية تقف قرب دارك .. إشارات من أصابع أحدهم قبل أن يزيحوا ألواح الخشب التي تسد فراغ الباب .. بندقية .. اثنتان .. عشر .. غابة من البواريد .. يصخب الدم في رأسك ، تندفع ، تسبقهم إلى مدخل السطح ، تعرف مقصدهم .. تعرف ما يخبئونه .. فعلوها في أكثر من مكان ، أكثر من شارع .. كنت تطرد من ذهنك في الأيام الأخيرة كل وسوسة في هذا الموضوع .. تبعدها عن تفكيرك .. تستعين ببركات أولياء الله والصالحين .

تعرف غرضهم .. مصادرة العمارة .. تحويل سطحها إلى برج مراقبة .. رصد ، استكشاف .. مسلخ .. تغلق المدخل بيدك .. تتحجر أصابعك فوق الحيطان .. تواجههم بجسدك .. إلى أين ؟ ماذا تريدون ؟ هذا بيت له حرمة .. له أصحاب .. اخرجوا .. انقلعوا .. تجهنموا .. يتكاثرون عليك .. رطن .. يزقونك ..تكبو ..تنهض ثانية .. تسد المدخل .. تتيبس أصابعك فوق الحيطان .. يدفعونك .. تتشبث بالهواء .. تتدحرج ، ترتطم بقوالب الطوب المصفوفة .

طائر أسود يغرز أظافره المعقوفة في قلبك .. تتشابك الألوان في رأسك ، طنين يقتلع الآذان .. تختلط الحيطان بالدرجات .. يختلط السطح بأرضية الاسفلت .. يختلط الغبار بالطين بزبد الشفتين .. تهجم على حجر .. لا يطاوعك ذراعك .. طقطقة .. سخونة حادة .. جمر متقد .. يحتضنك الشباب .. ترفض أن تتزحزح .. ترجم بيدك الثانية أعلى ما يمكنك .. يرتد الحجر غباراً في حلقك .. هتافات .. يشتعل موج الشاطئ .. يشتعل رمل البحر .. يتدفق ساخنا ساخناً .

رصاص .. رائحة الإطارات الملتهبة معجونة برائحة قنابل الغاز .

لم تحسب حساب مثل هذا اليوم .. لم يخطر ببالك وأنت تحمل العمارة بوصة بوصة أن خاتمة سف الرمل والاسمنت وملح العرق ستكون كذلك .

لم تتوقع ذلك .. غادرتك فطنتك .. أبسط البديهيات ، يلاحقونك على دار المخيم .. يلاحقونك على كل شبر .. لم تكفهم البلد ودار البلد .. يريدون أن يسلبوا باقي عمرك .. مصادرة دم أولادك النازف فوق أرصفة الغربة .

لم تهنأ بالدار .. لم يغادرك تعبها .. لم تتح لك فرصة إكمالها .. لا بلاط .. لا قصارة .. لا أبواب .. لا شبابيك .. أعمدة وسطوح وبعض الحيطان .. عظم ناشف غير مكسو .. عظم ينتظر التشطيب .. ينتظر الفرج .. تتصل بالأولاد .. النقود لا تكفي إلا لتلك المرحلة .. يخبرونك أنهم سيحاولون تدبير الأمر .. إرسال المدد اللازم ، سيضغطون على أنفسهم .. الحمل ثقيل .. أعطنا مهلة .. فسحة من الزمن .. عدة شهور .

تتردد بين مساحات الدار .. تعلو الدرجات .. يدق قلبك وأنت تتخيل لمة الأولاد .. ضحكات أطفالهم .. شقاوتهم .. يقفزون في حجرك .. فوق كتفيك ..تحملهم على ظهرك .. تسير بهم على أربعتك من درجة إلى أخرى .. من بسطة إلى بسطة ، من باب إلى باب .. تتنطط بهم وهم يدفعونك في خاصرتيك .. يسوقونك بأقدامهم الصغيرة .. يستعجلونك .. ساعات طويلة .. ليال بطولها وعرضها وأنت مزروع فوق السطح .. تود لو كنت خيط شعاع يسيل من تلك النجمة التي تطل عيونها على دار البلد المحظورة في المجدل .

 

* * *

 

لا تبرئ نفسك .. تلومها ليل نهار .. ينوء صدرك بأعباء ذنب لم ترتكبه .. لم تقصده .. لم تخطط له .

عمارتك تختلف عن غيرها .. تمتاز عما حولها .. لا تدري ميزة أم نقيصة ! طوابقك أعلى من سواها .. تتوسط قلب المخيم ، تعلو أسطحه .. تمتطي أزقته ودروبه .. تتحكم في أطرافه .. يمكن أن تستكشف من فوقها حتى أسماك البحر .. صخوره .. طحالبه .. قواربه المصلوبة .

عمارتك ، سطحها .. برج المراقبة طاعون يوزع وباءه في كل اتجاه .. كاميرات تصوير .. أجهزة اتصال .. رصاص قنص .. أسيجة .. إشارات ..تسهيل مهام الدوريات الراجلة والمحمولة .. توجيههم إلى مواطن الاشتعال .. التفجر .

عندما تفر الدوريات من وجه القبضات والحجارة يتشمم الطائر الأسود القابع أعلى عمارتك رائحة الدم في انتشاء ، تتحول دارك إلى سكين ، زنزانة تصبغ أرضيتها وحيطانها بقع من دم فوار ينتشر ملحاً وغشاوة في حدقتيك .. تهرب من العيون إلى العيون .. من الحيطان إلى الحيطان .. من الأسلاك إلى الأسلاك .

يُحملك البعض كل ذنوب الأرض .. كل أخطاء الكون ، تداري وجهك من الناس .. لا تغادر دار ابنتك إلا عند الضرورة .. تدق بابك كلمات جارك "السعدي" :

ـ لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا أبو صالح .. ليس لك دخل بما حصل .. لست أول من أقام بناء ولن تكون الأخير .. لو لم يركبوا دارك لركبوا غيرها .. يفتشون عن طرق مختلفة .. دوامات لخنق أنفاسنا .. إغراقنا .. منعنا من التفكير ، نحيبك لا يحل المشكلة .. لا يعد الرد المناسب .. الرد المطلوب ..

 

* * *

 

كنت منكمشاً في مكانك .. دار ابنتك عندما انهمرت دقات على الباب أصوات لاهثة :

ـ أبو صالح .. اليهود تركوا العمارة .. فككوا برج المراقبة .. سحبوا الأسلاك معهم .

ـ البركة في الشباب ..نغصوا عليهم عيشتهم .. نشفوا ريقهم .. لم يتركوهم يهنأوا دقيقة راحة .

تتجمد للحظات .. لم تميز الكلمات في البداية .. لم تستوعبها .. لم تدرِ أنك المقصود بها ، ترتعش أوصالك .. ترفع رأسك .. حجر الطاحون الممتد بطول أيام السنة أو يزيد .

تتشرب الكلمات حرفاً حرفاً .. لا تعي ما حدث .. لا تحس بنفسك .. تركض حافياً .. عيونك تسبق خطواتك .

تقطع المسافة من التموين إلى العمارة في وقت يعجز عنه الشباب .. لهاثه خوار متصل .. خوار لا يهتم بمداراته .. قلبه دقات متراكضة .. جموع تحيط بالعمارة .. هتافات أعلى الطوابق الثلاثة .. السطح .. موضع برج المراقبة ..الطاعون .. الكلابات المدببة .. تتدافع فوق الدرجات ، تقفز من بسطة إلى بسطة .. يسندك الشباب .. لاتدري كيف وصلت السطح .. بقع دم تكسو الحيطان .. تطرز الأرضية ..تختلط بنقط العرق المجبولة بأوجاع الغربة ، طائر أسود بأظافر معقوفة يمط عنقه .. شهوة لعق الدم تنضح من أنحائه .

تمتد يدك تخطف فأساً من أحد الشباب .. تهوي به فوق الحيطان ، فوق الأعمدة .. فوق الأرضية .. فوق الدرجات .. أكثر من سنة وأنت تنتظر هذه الساعة .. هذه اللحظة .. لن تمنحهم فرصة أن يركبوا دارك ثانية .. لن تسمح أن تتحول عمارتك إلى سكين مرة أخرى .. ستكون مهمتهم صعبة ، مستحيلة هذه المرة .

الأيدي فؤوس .. مواسير .. مهدات حديدية تدك كل بوصة في السطح .. تعجنها .. تتساقط كتل الباطون .. أوتاد المشنقة .. تتعرى شبكة الأسياخ .. تتسع الثغرة .. منه العوض وعليه العوض .. تتهاوى الدرجات .. غبار وتراب خشن في العيون والحلوق .

منه العوض وعليه العوض .. لن تتوه حساباتك .. مقدماتك ونتائجك .. جسمك يعود لوضعه الطبيعي .. حجر ثقيل ينزاح عن صدرك .. غشاوة تفارق عينيك .. تعانق العيون كلها .. تعانقك العيون .. لمة الأولاد .. ضحكات الصغار .. القوارب المحظورة .. رمل البحر .. الرد المطلوب .

يحملك الشباب فوق أعناقهم .. يدرورون بك من درجة إلى أخرى .. من بسطة إلى بسطة .. هتافات .. فؤوس .. أعلام .. حشد لا ينتهي .. تتأمل الجهات ..تتسمر نظراتك في اتجاه محدد .. عيناه نجمتان لامعتان تستكشفان دارا محظورة ناحية الشمال .

 

أضيفت في 14/09/2007/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية