مَرْمورَةُ وَحَبَّةُ
البَنادورَةِ
تَنتظِرُ مَرمورةُ جَدَّها بفارغِ الصَّبرِ في
نهايةِ كُلِّ أُسبوعٍ، حيثُ يُحْضِرُ معَهُ مِنَ القَريةِ أكْياسًا مِنَ
الفاكِهَةِ وخُضارِ الموسِمِ، مِمّا تُعْطيهِ الأَرْضُ الطيِّبَةُ...
في أَحَدِ الأَيّامِ أَحْضَرَ جَدُّ مَرْمورَةَ
صندوقًا كَبيرًا مَليئًا بالطَّماطِمِ (البَنادورَة) الَحَمْراء
الشَّهيّةَ. فَجْأَةً رَأَتْ مَرْمورَةُ، مِنْ بَيْنِ الحَبّاتِ الكَثيرةِ،
حَبَّةَ بَنادورَةٍ واحِدَةً خَضْراءَ جِدًّا، فَأَمْسَكَتْها وَنَظَرَتْ
إِلَيْها بِاسْتِغْرابٍ فسارَعَ جدُّها وَقالَ لَها: "إِنَّها لَم تَنْضَجْ
بَعْدُ يا عَزيزَتي، وَهْيَ غَيرُ صالِحَةٍ للأَكْلِ... فَلَيْسَ لها لا
لَوْنٌ وَلا طَعْمٌ".
أَمْسَكَتْ مَرْمورَةُ حَبَّةَ البَنادورَةِ
وَقالَتْ لِنَفْسِها: "سَأَعْتَني بِها وَأُحافِظُ عَلَيْها"، وَأَحْضَرَتْ
عُلْبَةً خَشَبِيَّةً صَغيرَةً وَوَضَعَتْ فيها قِطْعَةَ قِماشٍ، وَغَطَّت
بِها حَبَّةَ البَنادورَةِ وَأَدْخَلَتْها الثَّلاّجَةَ كَْي لا تَذْبُلَ.
وَأَعْلَنَتْ لِلجَميعِ بأنها سَتَعْتَني بِها حَتَّى تَنْضَجَ وَطَلَبَتْ
أَنْ لا يَمُسَّها وَلا يُخْرِجَها أَحَدٌ مِنَ الثَّلاجَةِ.
وَصارَتْ مَرْمورَةُ تَفْتَحُ الثَّلاجَةَ كُلَّ
صَباحٍ قَبْلَ ذَهابِها إلى المَدْرَسَةِ، وَكَذلِكَ الأَمْرُ عِنْدَما
تَعودُ مِنَ المَدْرَسَةِ، لِتَطْمَئِنَّ عَلى حَبَّةِ البَنادورَةِ
الخَضْراءِ.
مَرَّتْ ثَلاثَةُ أَيّامٍ وَلمَ ْيَتَغَيَّرْ لَوْنُ
البَنادورَةِ، فَأَخْرَجَتْها مَرْمورَةُ مِنَ الثَّلاجَةِ وَغَسَلَتْها
لأَنَّها ظَنَّتْ أَنَّها تُريدُ القَليلَ مِنَ الماءِ عَلى وَجْهِها
لِكَيْ تَحْمَرَّ وَجْنَتاها.
لكِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ، فََقالَتْ
لِنَفْسِها: " رُبَّما تَحْتاجُ حَبَّةُ البَنادورَةِ بَعْضَ الدِّفءِ"
فَأَحْضَرَتْ قِطْعَةَ قِماشٍ أُخْرى وَغَطَّتها بِها وَأَعادَتْها إلى
الثَّلاجَةِ.وانتَظَرَتْ مَرْمورَةُ بِضْعَةَ أَيامٍ ، َلكِنّها لاحَظَتْ
أَنَّ إخْضِرارَها لَمْ يَعُدْ كَما كانَ، وَلَمْ تَعُدْ بِذاتِ
نَضارَتِها، فحَزِنَتْ كَثيرًا وَقالَتْ لنَفْسِها: "لِماذا لا تَنْضَجُ
حَبَّةُ البَنادورَةِ هذِهِ، وَلا تُصْبِحُ حَمراء وشَهِيَّة مِثْلَ
الأُخْرَياتِ".
" لقد قَدَّمتُ لَها كُلَّ شَيْءٍ، وَمَسَحتُ
وَجْهَها بِالماءِ وَوَضَعتُها في الثَّلاجَةِ وَلم أَتْرُكُها تَذْبُلُ،
ماذا عَلَيَّ أَن أَفعَلَ بَعدُ ؟..."، ثُمَّ قَفَزَتْ بِفَرَحٍ وَصاحَتْ:
"وَجَدتُها... فَهِي تَحْتاجُ إلى الهَواءِ قَليلاً؟!" فَوَضَعَتْها عِنْدَ
حافَّةِ النّافِذَةِ لِنِصْفِ ساعَةٍ، وَأَرْجَعَتْها إلى الثَّلاجَةِ، لكن
َلَمْ يَحْدُثْ أَيُّ تَغْييرٍ!
وفي اليَوْمِ التّالي، قَرَّرَتْ أَنْ تُخْرِجَها
مِنَ الثَّلاجَةِ لِتَضَعَها عِنْدَ حافَّةِ النّافِذَةِ خِلالَ الصَّباحِ
حَتَّى الظَّهيرَةِ عِنْدَ عَوْدَتِها مِنَ المَدْرَسَةِ لِتُعيدَها إلى
الثَّلاجَةِ. لكِنْ عِنْدَما عادَتْ مَرْمورَةُ مِنَ المَدْرَسَةِ،
حَضَّرَتْ فُروضَها المَدْرَسِيَّةَ وَذَهَبَتْ بَعْدَ ذلِكَ إلى
صَديقَتِها، وَعِنْدَما عادَتْ إلى بَيْتِها كانَتْ مُتعَبةً
فَاسْتَحَمَّتْ وَلَبِسَتْ مَنامَتَها وَخَلَدَتْ إلى النَّوْمِ.
وَفي الصَّباحِ ذَهَبَتْ إلى المَدْرَسَةِ وَهُناكَ
تَذَكَّرَتْ أَنَّها وَضَعَتْ حَبَّةَ البَنادورَةِ عِنْدَ حافَّةِ
النّافِذَةِ مُنْذُ يَوْمَيْنِ وَلَمّا تُعِدْها إلى الثَّلاجَةِ...
فَحَزِنَتْ وَقالَتْ لِنَفْسِها: " أَنا مُتَأََكِّدَةٌ بِأَنَّها قَدْ
ذَبُلَتْ وَلَمْ يَعْتَنِ بِها أَحَدٌ...".
عِنْدَ انْتِهاءِ الدَّوامِ، عادَتْ إلى البَيْتِ
مُسْرِعَةً لِتَنْظُرَ ما حَلَّ بِحَبَّةِ البَنادورَةِ، فَوَجَدَتْها
عِنْدَ حافَّةِ النَّافِذَةِ وَقَدْ بَدَأَتْ تَلْبَسُ لَوْنًا أَحْمَرَ
جَميلاً يُكَلِّلُ رَأْسَها... فَفَرِحَتْ مَرْمورَةُ كَثيرًا وَنَظَرَتْ
إِلَيْها بِدَهْشَةٍ وَمُتْعَةٍ دونَ أَن تَلْمُسَها، وَتَرَكَتْها عِنْدَ
النّافِذَةِ في الهَواءِ الطَّلْقِ وَتَحْتَ نورِ الشَّمْسِ...
وَبَعْدَ يَوْمَيْنِ احْمَرَّتْ وَجْنَتاها
وَتَوَشَّحَتْ كُلُّها بِخُطوطٍ مُلَوَّنَةٍ خَضْراءَ وَحَمْراءَ...
"مرمورة وحبة
البنادورة" قصة للأطفال صدرت عن – أ- دار الهدى عام 2007 .
رُمّـان
واليَنبـوع السّـحري
كانَ العَمُّ "جميل" يَملُكُ بُستانًا نَضِرًا
صَغيرًا ، تُغَرِّدُ فيه العَصافيرُ وَتَلهو بَينَ الأَغْصانِ وَيَطيرُ
فيهِ النَّحْلُ بَينَ الأَزْهارِ. وَكانَ يَجري في البُستانِ يَنبوعٌ
يَرْوي أَشْجارَ اللَّوْزِ وَالتُّفاحِ والخَوْخِ والتّينِ واللََّيْمونِ
وَشَجَرَةً صَغيرَةً إِسْمُها رُمّان.
كانَت رُمّان شَجَرَةً صَغيرَةً وَمُدَلََََّلَةً في
البُستانِ، يُلاعِبُ الهَواءُ أَغْصانَها اليانِعَةَ وَتَرْوي مِياهُ
اليَنْبوعِ العَذْبَةِ جُذورَها.
مَع حُلولِ فَصْلِ الرَّبيعِ لَبِسَت رُمّان حُلّةً
خَضْراءَ ، لكِنَّها لمَ تَحمِل زَهْرًا ولا ثَمَرًا كَغَيْرِها مِنَ
الأَشْجارِ لأَنَها ما زالَت صَغيرَةً.
حَزِنَت رُمّان حُزْنًا شَديداً وَقالَت لِنَفْسِها:
لِماذا تَحْمِلُ جَميعُ الأَشْجارِ هذا الزَّهْرَ الجَميلَ بَيْنَما أَنا
لا أَمْلُكُ ذلِكَ، وَأَخَذَت تَبْكي وَراحَت دُموعُها تَتَساقَطُ عَلى
وَجْهِ اليَنْبوعِ النّائِمِ تَحْتَ الأَشْجارِ.
أَيقَظَت دُموعُ رُمّان اليَنْبوعَ ، وَعِنْدَما
أَخْبَرَتهُ بِأُمْنِيَتِها، حَنَّ قَلبُهُ وَقالَ لَها: لا تَحْزَني يا
عَزيزَتي، سَيَكونُ لَكِ في الحالِ أَجْمَلَ الأَزْهارِ، وَمَدَّ
اليَنْبوعُ يَدَيهِ إِلى مِياهِهِ السِّحْرِيَّةِ وَغَرَفَ بِكَفَّيْهِ
حَفْنَةَ ماءٍ وَنَثَرَها عَلى رُمّان الصَّغيرَةِ، فَلَبِسَت في الحالِ
حُلّةً أُرْجُوانّيةً مِنَ الجُلَنّارْ (زَهرُ الرُّمان). فَرِحَت رُمّان
وأَخَذَت تَتَباهى بِأَزْهارِها بَينَ أَشْجارِ البُسْتانِ.
بَعدَ الذي كانَ وَما كانَ، وأَزْهَرَت رُمّان
ومَرَّ الزَّمانُ، أَثمرَت أَشْجارُ البُسْتانِ. حَزِنَت رُمّان ، مَرّةً
أُخْرى، وَشَكَت لِليَنْبوعِ بحزنٍ عَن رَغْبَتِها بِأَن يَصيرَ زَهْرُها
ثَمَرًا كَباقي الأَشْجارِ وَطَلَبَت تاجًا يُكَلِّلُ ثَمَرَها لِتُصبِحَ
مَلِكَةَ الأَشْجارِ.
إسْتَجابَ اليَنْبوعُ السِّحْريُّ لِطَلَبِ
الصَّغيرَةِ رُمّان، وَحَوَّلَ زَهْرَها إِلى ثِمارٍ، وَنادى اليَنْبوعُ
عَصافيرَ البُسْتانِ وَطَلبَ منها أن تَجمعَ نُجومًا منَ السَّماءِ
لتَصنَعَ منها تاجًا لرُمّان ، لَبَّت العَصافيرُ طَلَبَ اليَنْبوع وصارَ
لرُمّان تاجًا فوقَ رَأس كلّ الثِّمارِ.
فَرِحَت رُمّان بِتاجِها، وَقالَت لِليَنْبوعِ: أَنا
مَلِكَةُ هذا البُسْتان وَكُلَّ ما فيهِ مُلْكي، لِذا آمُرُكَ أَن
تُحَوِّلَ كُلََّ الأَشْجارِ في البُسْتانِ إِلى أَشْجارِ رُمّان.
فقالَ اليَنْبوعُ بِحُزْنٍ: يا صَغيرَتي، جَميعُ
هذِهِ الأَشْجارِ تُحِبُّكِ وَتُظَلِّلُكِ بِأَغْصانِها وَأَوْراقِها
وَتُداعِبُكِ بِجُذورِها وَتُعْطي ثَمَرًا وَبَهجَةً لِلنّاظِرين.
لكِنَّ رُمّان لَمْ تُصْغِ إِلى كَلامِ اليَنْبوعِ
وَأَصَرَّت عَلى أَن يُنَفِّذَ أَمْرَها، فَخَضَعَ اليَنْبوعُ لَها، وَصارَ
البُسْتانُ كُلَّه رُمّان.
وعِنْدَما اسْتَيْقَظَت رُمّان مِن نَوْمِها في
صَباحِ اليَوْمِ التّالي، َنَظَرَت إِلى كُلِّ الأَشْجارِ في البُسْتانِ
وَرأت أَنّ جَميعُها مِثلَها تَماماً تَحْمِلُ ثَمَرَ وَأَوراقَ الرُمّانِ،
فَلَم تَعُد تَشعُر رُمّان بِأَنَّها الأَجمَل ، وَلَم تَعُد تَستَطيعُ أَن
تَتَباهى بِشيءٍ.
حَزِنَت رُمّان وَشَعَرَت بِالوِحْدَةِ وَتَذَكَّرَت
أَشْجارَ البُسْتانِ، شَجَرَةَ البُرتُقالِ دائِمَةَ الخُضرَةِ، وَشَجَرَةَ
التّينِ التي تُظَلِّلُ البُسْتانَ في الصَّيفِ الحارِّ وَتَحْمِلُ أَشْهى
الثَّمَرَ. وَاشْتاقَت إِلى شَجَرَةِ التُّفاحِ وشَجَرَةِ اللََََّوْزِ
اللََّتَين كانَتا تُزْهِرانِ فَتَدخُلُ البَهْجَةُ في قَلْبِها وَفي كُلِّ
البُسْتانِ، تَذَكََّرَت الياسَمين الذي يَتَدَلّى عِندَ بابِ البُسْتانِ
وجَوْقَةَ العَصافيرِ التي لَمْ تَعُد تَسْمَعُ غِناءَها.
شَعَرَت رُمَّان بِالمَلَلِ وَالحُزنِ الكَبيرِ
وَراحَت تَبْكي وَتَتساقَطُ دُموعُها على وَجْهِ اليَنْبوعِ. شَعَرَ
اليَنْبوعُ السِّحْرِيُّ بِدُموعِها الحارَّةِ وَسَأَلَها:
لِماذا أَنتِ حَزينَةٌ يا صَغيرَتي؟
فَقالَت رُمَّان : إِنَّني نادِمَةٌ عَلى كُلِّ ما
حَدَثَ وَأَرْجوكَ أَن تُعيدَ البُسْتانَ إِلى سابِقِ عَهدِهِ.
فَرِحَ اليَنْبوعُ كَثيرًا عِنْدَما سَمِعَ هذا
الكَلامُ وَلَبَّى طَلَبَها في الحالِ. أما رُمّان، ففَرِحَت جِدًّا
عِنْدَما رَأَت كُلَّ الأَشْجارِ قَد عادَت كَما كانَت وَقَبَّلَت
اليَنْبوعَ وَراحَت جُذورُها تُداعِبُ مِياهَهُ وَرَفَعَت أَغْصانَها
الخَضْراءَ إِلى السَّماءِ الجَميلَةِ لِتُلاعِبَ أَغْصانَ الأَشْجارِ مِن
حَوْلِها.
"رمان والينبوع
السحري" قصة للأطفال صدرت عن – أ- دار الهدى عام 2007 .
رذاذ خَمـاسـيـنـي
وأتى في ذلك المساء الورديّ القائظ، محمَّلا بأكاليل
الغار وبالحكمة، حطّ فوق أكمة صغيرة تتوسط الأرض الجرداء.
نظر حوله ووصلت عيناه حفاف الأفق المتشقق عطشًا،
وكانت عيون الناس كثيرة تائهة، بائسة... وشفاههم مالحة جافة ووجوههم هزيلة
عارية.
سأل ماءً فأتوه بالقليلِ من البئرِ القريبةِ، شرب
وبارك وقال: يا أبنائي وأحبائي... أتيتكم بشريعةِ سماءٍ لأجل أن تبصر
عيونكم وتصفو قلوبكم وتشفى أجسادكم فيكتمل ثالوث الانسان بالخلاص... عندها
تمتلىء البئر ماءً عذبًا, ويحبل الغيم بالمطر ويتدلى الشجر ثمرًا ويُبعث
الانسانُ نورًا, حيث لا تغيب الشمس الاّ في الليل وحيث ينتهي النهار مع
الضوء ليبتديءَ، كل يوم، عيونَكم في الصباح الذي يليه.
لأنه فقط عندما تدركون الشرائع الجديدة وترقصون مع
ذواتكم، ستفرحون حتى مشارف الأرض، حتى البدء... ستلمسون الكلمة وستشربون
من ماء الحياة, "ستلبسون ما تنسج" أيديكم من الغار وخيوط الفجر وتأكلون ثمر
الشجر الذي غرستم, وتغتسلون بالمطر فتحققون حلم الانسان "وتقيمون في كل
وادٍ" وكل سهلٍ وجبلٍ طقوسَ الحب والانسجام في كيان الطبيعة ... كيان الأرض
والانسان.
خذوا أحبائي ... شرائع الحياة والبسوا منها ما
تشاؤون وحدثوا بها كيفما تشاؤون، ابنوا سلاسل من حجارة لتحمي كرومَكم
وشجرَكم في الضحى وفي الدجى، وفي كل حين، سبِّحوا قدرة الله فيكم وعطاياه
لكم.
لتغسل دموعكم أوراق الحبق وليَسْقِ عَرَقكم ودَمَكم
أشتالَ الزَّعتر في البريَّة، فيزهر في الأرض حلمًا، يغسل قلوبكم وينقّي
أفكاركم فتلبسون عباءة النهار الجديد فتُطَهِّر ذاتكم وتُحسِّن أفعالكم
وتُنير وجوهَكم بالغد بالنقاء والسلام. عندها ترسخون كالصخر في هذه الأرض
وكجذور الزيتون.
أنهى كلامه... وبدأت حبات المطر القليلة ترسم دروبًا
على جبينه فرفع رأسه وبارك فأمطرت وتهلل الناس ورقصوا في حلقات الفرح...
وفَرَد هو جناحين من نور وانطلق مع الديم إلى ربوعٍ أخرى يبعث فيها المطر
بعد عقود من "الخماسين".
جودت عيد الناصرة
أضيفت
في 8/01/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب
سَعدون والخسَّة
شعر سَعدون
بالتَّعب قبل أن يقرع باب ذلك البيت الجميل، حاملا حقيبته السَّوداء
المثقلة بالكتب...فتحت الباب صَبيَّةٌ غضَّة، جميلة المحيّا، حافية القدمين
تلبس بنطالا قصيرًا أَبيضَ يكشف عن ساقين بيضاوين و"تي شرت" أبيض مقوَّر
يَطلُّ من فتحتِهِ نهدٌ خجول... وَقَفَت ونظرَت إلى عينيهِ المرهقتين
اللّتين سرعان ما تداركتا التَّعب لتستقرّا بشهوةٍ غامرةٍ في ذلك الجَسد
ولتداعبا ملامحَه، في محاولَة للتَّسلُّل إلى نهدَيها الصَّغيرين من خلال
ال -"تي شيرت" الضَّيق المقوَّر.
-
تفضّل
!
تلعثمَ سعدون
وتداخل اللُّعاب بين أسنانه وقال: "معي كتب... كتاب جديد كتبته..." وبعدما
استعاد ثقته الضائعة بين عينيها، راح يشرح بكل كلِمة تخطُر على بالِه عن
كتابه بينما كانت عيناه هائمتين تتفحصان ملامح وجهها وشفتيها... وبسمَتها
المتردِّدة!
-لحظة
من فضلك، قالت بصوت ناعم مدلَّل، سأسأل الماما.
خرجت أمها من
إحدى الغرف الداخلية في المنـزل الكبير وكانت تلك الصبية كالظِّل خَلْفها
تحاول رؤيته لتبستم له من وراء جسد أمها المكتنـز...
-تفضَّل
لماذا تقف عند الباب؟
دخل بسرور
وحبور... فسيجلس مع تلك الصَّبية الحافية القدمين وسيروي ظمأه، حتما
ستقَدِّم له الشراب أو الماء وسيبيع كتبًا !! اختفت الصَّبية الحافية
وانهالت أمها بالأسئلة حول الكتاب الذي كان أخرجه من حقيبتِهِ. أجابها عن
جميع أسئلتها بدِقَّة رغم أن باله مشغول بأسئلة حول تلك الصَّبية، هل ذهبت
لأنه لا يعنيها الكتاب؟ أم لا يعنيها هو كشاب بهيّ الطَّلعة جذاب؟ لا يهم
ففي كلتا الحالتين شَعَر بالكَرب وبالاهانةِ...لكن الصبيَّة أتت بُعَيد
لحظات ،وقد لبست حذاء بيتيًا أحمر اللون، تحمل صينية في وسطها كأسُ شراب
أحمر اللون، تقدَّمَت منه وتحركت في قلبه نبضات رغبة دفينة سِرِّية ممتعة،
تناول الكأس وتناولت عيناه وجبة أخرى ساخنة من عينيها الزرقاوين وعطر جسدها
الغضّ... رَمَقَته بنظرةٍ شهوانية كادت توقع الكأس من يده إلا أن صوت الأم
أعاده إلى حقيقة المعاناة التي كان بدأ بالحديث عنها حول إصداره لهذا
الكتاب.
كتابه يحمل
مقطوعات نثرية كتبها خلال ما يقارب السَّنة وتوجَّه إلى عدَّة مطابع ودور
نشر في البلاد الا أنه لم يوفَّق بعرضٍ جذاب. تكلفة الطباعة في المطابع
المختلفة باهظة أما دور النشر فقد عرضت عليه عروضًا، أكثرها لا يحترم
الكلمة ويُقدس "البزنس"، عرض عليه أحدهم أن يشتري الكتاب منه وجميع حقوق
النشر والطباعة وإلى ما ذلك بملبغ زهيد جدًا وآخر عرض عليه أن يعطيه عشرين
نسخة من الطبعة الأولى على أن يوزّع هو كدار نشر ويبيع الكتب دون أن يدفع
لسعدون أية نسبة. بعدما تعب من العروض والتجوال! حمل كتابَهُ وذهب إلى
الأردن حيث صار نافذةً للكُتَّاب هنا في الداخل للاطلالة على العالم العربي
حيث يقرأ الفرد معدل ست دقائق في السنة!!! بحسب تقارير اليونسكو الأخيرة.
على أية حال اتضح لسعدون أن دور النشر هناك حالها ليس أفضل ... وكانت
الاتفاقية بأن يدفع سعدون تكلفة الطباعة وهي بدورها تقوم على توزيع ونشر
الكتاب في العالم العربي غير القارئ !!! وطبعًا "للبرستيج" قالوا له أن
مكتبهم الرئيسي في بيروت، عاصمة الثقافة وإن كانت مشرذمة!! لذلك سيصدر
الكتاب من هناك وسيحصل سعدون على عدد من النسخ. أغرتْهُ هذه الاتفاقية، مع
أنها لم تختلف كثيرًا عما اقتُرِحَ عليْهِ في دور النشر القليلة في الناصرة
وحيفا أو في القدس. أدرك سعدون بأن المُعضلة، كما يبدو، ليست مَحلِّية بل
أنها على صعيد القطر العربي كله فلا قرّاء ولا كرامةَ للكلمةِ ، لكن على
الأقل سيكون التسويق أوسع وسيبيع هو بدورِهِ نُسخُهُ في البلاد... "نَت باد"!!
هذا ما قاله
سعدون لأمِّ تلك الصَّبية الجذابة محاولا أن يترك انطباعا خاصا لديهما
بفصاحتِهِ وبقدرته اللّغوية والكلامية وثقافته العالية...
اشترت الأم
كتابًا واحدًا... وخرج سعدون من المنـزل، وقفت الصبيَّة عند الباب لتقول له
عيناها شكرًا لزيارتك التي زيّنت هذا المساء المملِّ بشيءٍ من الرَّغبة
والاثارة وودَّعته على أمل أن تراه، أما هو فكان حزينًا لأنه لم يطلب منها
رقم هاتفها النَّقال!! لكنه كان مسرورًا بحيث باع حتى الآن وخلال يومين من
التجوال بين البلدات العربية، عشرة كتب. كان هذا إنجازًا له، علمًا أنه ما
زال بعيدًا عن تغطية التكلفة...
كانت الساعة
حوالي السادسة مساءً فقرر العودة إلى الناصرة ومعه ثمن بعض الكتب، قاد
سيارته ببطء وبتعب... أما الأمر الوحيد الذي أراح تفكيره فهو تلك الصبيَّة
التي صمَّم أن يعود إليها في اليوم التالي بحجة ما ليقترب منها أكثر...
هو كشاعر، حساس
جدًا ومرهف ولا يفهم في الأمور الماديَّة والأموال، لكنه يدرك بأنه بمأزق
ماديّ ... فكانت تلك الصور الملوَّنة الرائعة لتلك الصبيبّة، تختلط مع صور
سوداء ورماديَّة حول وضعه المادي وحول أسئلة لا يملك لها إجابات...كيف
سيسدد القرض الذي أخذه لتسديد مصروفات طباعة هذه الكتب؟ كيف سيبيع الكتب؟
هل سيستطيع بيعها؟ هل سيشتري الناس منه الكتب؟... إن كتابتَهُ مثيرة
وقيِّمة، حيث أنها تعايش واقع الحياة في الوطن العربي بشكل صريح! لكن، كما
يبدو، إنَّ الكتب والقراءة هي ما بعد الواقع أو ربما الواقع هو سبب عدم
القراءة، أو أن عدم القراءة هي التي تجعل الواقع أسود وغير منذرٍ بالخير،
أو ربما عدم القراءة تجعل عقول الناس مستودعًا للصدأ... لماذا لا يقرأ
الناس؟ حارَ سعدون في أمرهم... لماذا يرفضون شراء الكتاب متمنطقين بذرائع
مثل: "لا أحمل النقود الان!"، "بالكاد نستطيع شراء الخبز... حتى نشتري
كتبًا؟!"، " نقرأ بالانترنت ولا نشتري الكتب!"، "من يقرأ اليوم؟!" بينما هو
غارق في هذا التفكير اجتاحته شهوة حارقة حين وجد يده تقتحم بوابة ذلك ال- "تي
شيرت" الصبيَّة المقوّر لتداعب نهدَيها... وبينما هو على هذه الحال مرّ في
سهول خضراء افترشت بعض المساحات من الأرض بين طمرة وعبلين ووقفت عند إحدى
أطراف الشارع الرئيسي الترابيَّة، عريشة صغيرة لبيع الخضار والفواكة ولفت
انتباهه تل أخضر من الخس لم يسبق أن رأى مثله من قبل ولم يسبق أن رأى خسًا
بهذه النضارة وبهذا الحجم العملاق.
أوقف السيارة
بسرعة، نزل وأتفق مع البائع أن يشتري الخسة الواحدة بشاقل واحد واشترى مئة
خسة كانت في العريشة ودفع المائة شاقل التي كانت في حوزته ثمن الكتب التي
باع... فرح سعدون بهذه الصفقة فهي الأفضل بالنسبة له، وضع المائة خسَّة
بعناية ورتبها على مقعد سيارته الخلفي اذ لم يكن متسع في صندوق سيارته
الصغير المليء بالكتب. في الطريق دخل إلى شفاعمرو وكانت الساعة تراوح
السابعة مساءً وما زال الناس يزاولون بعض وجودهم في الشوارع أو بين البيوت
أو في الشرفات... أخرج رأسه من نافذة السيارة وصاح بأعلى صوته خس... خس
عملاق وسعره من الأساطير خسَّة عملاقة بثلاثة شواقل فقط. أوقف سيارته عند
"ظهر الكنيس" وباع هناك ما يقارب العشرين خسة خلال نصف ساعة... فرح سعدون
جدًا حيث كان مجديًا له بيع الكتب ومن ثم شراء الخس وبيعه، لكنه طمح لبيع
كل الخس، فكّر في العودة إلى بيت تلك الصبيّة في القرية الجبلية الخلابة
لبيعهم خسًا وكلامًا معسولا وليتمتع بالشَّحنات التي تسري في جسده وكل
أعضائه حين ترمقه تلك الصبيَّة بنظرة شهوانية، لكنه آثر العودة إلى الناصرة
لأن الظَّلام قد خيَّم وما زال عليه بيع الخسّ، فواصل السفر بسرعة حتى وصل
إلى المدينة وكانت ما زالت تعجّ الشوارع بالمارة والسيارات والباعة
والتجمعات الشبابية والعائلات قرب العين وفي المطاعم، مما أشعره بالاطمئنان
بأنه سيبيع كل الخس، وفعلا ما أن وصل الحسبة وعرض بضاعته حتى قفز أصحاب
المحال المجاورة والناس على سيارته لشراء خسة عملاقة بسعر من الأساطير...
انتهز سعدون
الفرصة وأخرج كتبًا من صندوق السيارة ووضعها بين الخس، لقد كانت هذه فكرة
ذكية، لكنه لم يبع الكثير من الكتب وأما الخس فلم يبق منه غير خسَّة واحدة،
قرر أن يعود بها إلى بيته المتواضع ويحتفل بالصفقة التى أبرمها لبيع الخسّ
والكتب وكان على يقين من أن الكتب هي التي جلبت له الخير والمال وجلس في
حاله استحضار ميتافيزيقية ليأكل الخسة الكبيرة مع فرويد!!! بعد نهار مضن
مليء بالغبار الحقيقي الذي توغَّل في مسامات جلده... فخلع ملابسه، حمل جسده
العاري، حمل الخسَّة ومشاهد من لقائه تلك الصبيَّة في فانتازيا حالمة وغطس
في حوض الاستحمام.
*
* *
في صباح اليوم
التالي، وضع كمية الكتب في صندوق السيارة الصغير وانطلق نحو عريشة بائع
الخس في السهل.
حزيران 2007
مجـرّد
أعــــــلام!
"لقد
دخلنا الحجرة الداخلية للمنزل التي تطل على الشارع الرئيسي من نافذة
صغيرة جدا، وقد تجمعنا أنا وأمي وخالتي وأولادها الصغار ورحنا نراقب الشارع
وكانت شفاه أمي وخالتي تتمتم بالصلاة المريميّة عندما رأينا رئيس البلدية
واثنين من رجال الدين وبعض وجهاء البلد يحملون الراية البيضاء ويتقدّمون
نحو الجنود الذين اصطفوا قرب دباباتهم عند مدخل الشارع الرئيسي ... لقد
سلّموا!! لم يكن باليد حيلة في ال- 48 ، إما ان يُقتل الجميع وإما أن
تستسلم البلد دون اقتتال! لقد رفعوا العلم الأبيض". هذا ما روته لنا والدتي
في إحدى الليالي الماطرة منذ فترة طويلة حين تجمّعنا حول الشّمع الأبيض
الكبير الذي أضاءه والدي بعد انقطاع التيار الكهربائي!
لقد كان العلم
باللّون الأبيض سيد الموقف في الشارع المزدحم بالصمت وبالخوف وبدبابات
الجنود وهو ذاته الّلون الأبيض الذي يحترق مع الشمع ليستحيل نورا لنا في
العتمة.
يشدّ انتباهي
هذا اللون الأبيض... فأذكر أول درس تعلمناه ،عندما درست في كلية الفنون،
كان عن الألوان ومميّزات كل لون. اللّون الرمادي، مثلا، قد عرّفه المحاضر
الفنان بأنه "زانية الألوان" وذلك لأنه يتماشى مع كل الألوان، أما بالنسبة
لللّون الأبيض فقال بأنه مزيج كل الألوان الكونية!! كيف من الممكن أن يكون
اللون ناصعا وفي داخله تركيبة كاملة من كل ألوان الطيف؟ حالة من "تنافر
فكريّ"!! الأبيض هو حالة استثنائية تشمل كل التناقضات، مثير للغاية هذا
اللون الابيض... فالموت أبيض والقيامة بيضاء، الزواج أبيض، الفرح أبيض
والسلام أبيض، الفناء أبيض والنقاء أبيض، الشتات أبيض، الابداع أبيض،
الانتصار أبيض والاستسلام أبيض!!
"تلفت
نظري" الأعلام البيضاء لأنها تحتوي كل الألوان... كل الألوان!
* *
* *
في وسط الزحام
القائظ، كنت أتقدم بسيارتي مترا واحدا كل نصف ساعة في الشارع الضيّق وكان
الوقت كافيا لكي أستمع الى حوار دار بين أحد الأصدقاء وابنته راما،في الجهة
المقابلة للشارع، كان قد أطفأ محرك سيارته وخرج منها واتّكأ عليها ريثما
ينتهي الازدحام المروري..
سألته
راما: ما هذه الاعلام الملونة يا أبي؟ وراحت تنظر بإعجاب الى تلك الأعلام
التي رُتبت فوق سطح محطة الوقود القريبة.
أجابها:
الأعلام الزرقاء والصفراء؟ لم ينتظر الإجابة…. وأكمل حديثه، تلك أعلام
الشركة التي تملك محطة الوقود.
قالت: وهذا
العلم الذي في الوسط؟
قال: إنه علم
إسرائيل.
قالت: اسرائيل
لا تحبّنا! لماذا يرفعون علمها هنا؟
قال: لأننا
نعيش هنا في دولة اسرائيل.
قالت: لقد سرقت
اسرائيل الارض من العرب! علم دولتنا فيه اللون الأحمر والأخضر! هكذا
قالت لنا
المعلمة.
قال: العلم
الذي فيه الأخضر والأحمر أيضا علم وطننا ونحبه لأنه لأقربائنا وأحبائنا
الّذين
في فلسطين!
وصمت الأب وفي
رأسه تدور جلبة حوار بين الأعلام
!!
سألت راما: متى
سنصل الى ماكدونالدز؟ لأني أريد وجبة الأطفال مع الهدية وعلم ملوّن.
تنفّس الأب
الصعداء، أشعل سيجارة ليحرقها في رئتيه.
تقدّمتُ قليلا
بالسيارة بعدما إنهال عليّ سائق السيارة خلفي بوابل من الشتائم "والزمامير"
لأنني لم أتقدم مترا بعدما تحركت السيارة الواقفة أمامي!!
* *
* *
أعلام
ملوّنة... أذكرها حين "زيّنت" الشوارع وواجهات المحال التجارية في كل
مكان، كانت الحركة نشطة خلال النهار فذاك عام "المونديال"... وفي اللّيل،
صيحات متفرقة تمزّق سكينة اللّيل عند تحقيق هدف....جووووووووول !! لترى
فجأة، من خلال النافذة المطلّة على العتمة والأضواء القليلة في الشارع،
السيارات الكثيرة التي تحمل الأعلام الكبيرة وتسمع من بعيد صيحات الفرح
يمتزج مع صوت أبواق السيارات
!!
في إحدى
الصباحات هربتُ من الزحام أنا وسيارتي لأعبر الى الجانب الآخر من المدينة
فدخلت زقاقات الحارات الجانبية… لكنها كانت مزدحمة أيضا بأعلام الدول
جميعها. وكدت أخال نفسي في شارع الأمم المتحدة!! تابعت السفر في خضم
الألوان الكثيرة حتى صرت في مكان يطل على البيوت البيضاء وإذ تتزاحم فوق
سطوحها أعلام بكل الأحجام والألوان... الكبيرة والصغيرة والكبيرة جداً
ترفرف فوق السطوح أو تغطي واجهات البيوت وأحيانا قد تجد أعلامًا لأكثر من
دولة فوق سطح البيت الواحد... للحظات ظننتني في حي السفارات!! لكني ما عرفت
تماما معنى الألوان والرموز في كل علم، رغم إدراكي بأنها تتصل مع تجربة
قومية، إجتماعية ودينية… أو تجربة ثقافية لشعب معيّن لا نعرفه تماما!!
في اليوم
التالي تابعت الهرب في سيارتي من شوارع الزحمة والأعلام وكنت منهمكا في
الاستماع للحوار الذي دار في المذياع (الراديو) حول المجزرة التي ارتكبت في
الساحل منذ يومين. هناك بعيدًا على الشاطئ، فوق حبات الرمال التي لا تُحصى
قُتلت عائلة برصاص الجنود، وامتزج دمها بمياه الأبيض المالحة… فوق الرمال
لم يكن غيرعلم واحد باهت اللون فوق برج المنقذ!! ولم ترفع أعلام على
امتداد الساحل … لم ترفع أية أعلام فوق الأضرحة! أو في الشوارع المؤدية
إليها...
تابعت السفر
والحزن بين الأعلام الملونة والضياع في الشوارع المكتظّة بالحالات النفسية
وبالآليات الدفاعية أو كما يسمّيها البعض "فشّة الخلق"… بكل اتجاهاتها!!
* *
* *
لم يعد هناك
متّسع في الشارع لي أولسيارتي فقصدت أحد المقاهي الرصيفية. طلبت فنجان قهوة
ورحت أتتبع ازدحام المارّة في الشارع… مرّت وسط الزحام مجموعة حجّاج أجانب
تتبع العلم الأزرق الذي يحمله المرشد. ومرّت مجموعة أطفال يحملون الأعلام
الملوّنة ويتبعون معلمتهم ... أعمدة الانارة في الشارع مزيّنة بأعلام صغيرة
بعضها ممزق… كما يبدو أنها قد نُسيت أو أُهملت بعد مناسبة ما ولم يجد
المسؤولون متسعاً من الوقت لإزالتها بعد.
وصلت "الاسبرسو"
السوداء… في الفنجان الرخامي الابيض… أحب ارتشاف "الاسبرسو" ذلك الطعم
المرّ الأسود الممتزج مع طعم السكر الذي يسترق الانزلاق في الفم من حافة
الفنجان الرخامية البيضاء، بينما أستريح من الزحام في هذه الزاوية من
المقهى المطلة على الشارع الرئيسي.
يتجمهر في طرف
الشارع مجموعة من الناس تحمل الأعلام البنفسجيّة!
أرتشف قهوتي
السوداء!
يتجمهر في طرف
آخر من الشارع مجموعة من الناس تحمل الأعلام البنيّة!
أرتشف قهوتي
السوداء!
يتجمهر في إحدى
الأزقة الموصلة للشارع مجموعة من الناس تحمل الأعلام الزهريّة!
أنهيت قهوتي
السوداء! خرجتُ من المقهى، خلعتُ حذائي ومشيتُ بين الأعلام المرفرفة في
"يوم الأرض" حافي القدمين فوق التراب الأسود!
لقد تمّ قول
أحد الأصدقاء في التظاهرات الوطنية!
* *
* *
بعد بضعة أيام
حلّ عيد الفصح لدى اليهود، الذي يمثّل عيد الحرية والتحرر من العبودية،
فرفعت أعلام إسرائيل على أعمدة الإنارة في بعض شوارع المدن اليهودية
و"المختلطة"، وبقيت الأعلام حتى يوم الاستقلال فرُفعت الى جانب بعضها أعلام
الولايات المتّحدة!
رُفعت الأعلام
في كل شوارع البلاد... كلّها، وفوق سطوح البيوت والعمارات الرّسمية وغير
الرسمية...
سألت راما:
ماذا تعني الأعلام؟
-
صمت.
سألت راما:
ماذا تعني الأعلام!؟
-
مجرد أعلام!
-
صمت.
* *
* *
دندنة...
سنرفع علم
العراق هذا العام، لقد فاز بالجائزة الأولى في "ستار أكاديمي 2007" !!!
ضبـاب تـل أبيـب
عندما كنت
صغيرا... كنت أرافق والدي في أيام العطلة المدرسية الى بعض الأماكن التي
كان يرتادها لاتمام عمل ما وكان يضطر أحيانا السفر من الناصرة الى تل أبيب
أو الى حيفا لهذا الأمر. وعندما كان يصطحبني معه كنت أشعر بفرح كبير لما
يكتنفه هذا " المشوار" المشوّق.
في أحد تلك
الأيام اضطر والدي السفر الى تل أبيب رغم المطر الشديد والضباب في ذلك
اليوم. وكان قد طلب مني ومن أخي مرافقته مع أن والدتي آثرت أن نبقى معها في
بيتنا الدافيء، الاّ أن المغامرة كانت أقوى في جذبنا للذهاب مع والدي وفي
بضع دقائق كنا حاضرين "للمشوار" واقتنعت والدتي أنه لامحالة...رغم البرد
والمطر.
وصلنا بعد
ساعتين من السفر في فياضانات المطر المنهمرة بغزارة على زجاج نوافذ
السيارة، التي كانت تضفي شيئا من الرهبة وشيئا من الدفء !!!... من الصعب
تفسير هذا الاحساس بالذات عندما تنبعث رائحة المطر الممتزج بالتراب...بينما
تلاحق عيوني كل الصور الملونة من بيوت وحقول وشجر في اللحظة العذراء حين
يغسلها المطر من غبار الشوارع المتراكم...
دخلنا المدينة
المكتظة بالسيارات والعمارات والدخان الذي يختلط بالضباب... كان يومها
الضباب كثيفا جدا حتى أننا لم نستطع رؤية الشمس هناك. وبقيت أطراف بناطيلنا
أنا وأخي مبتلة طوال الوقت إذ اضطررنا أن ننـزل من السيارة ونسير في بعض
الشوارع " الطوفانية". وعندما كانت قد قاربت ساعة الظهيرة دخلنا أحد
المطاعم الصغيرة المترامية على حفاف الطريق الموحلة وقد كان باب المطعم
خشبيًّا صغيرًا، ينبعث من شباكه ضوء أصفر ضعيف يوحي بالدفء، ينادي الأجساد
المرتجفة لتتّقي الزمهرير!!
دخلنا ذلك
المطعم المعتم نسبيا ودخلت معنا رائحة المطر والوحل وتركنا آثار أقدامنا
الرطبة ما بين الباب والطاولة التي احتضنت أجسادنا الصغيرة الباردة
والجائعة... وكان أروع ما يمكن أن يكون في هذه اللحظة هو صحن من الحساء
الساخن... لقد تكلم والدي مع النادل ولم نفهم شيئا غير أن صحون الحساء أتت
ومعها الدخان المتصاعد يتراقص أمام عيوننا... أذكر أنه وضع الصحون على
طاولتنا ولم ينبس بكلمة لكنه بحركة سريعة وضع أيضا صحنا فيه زبدة وأربعة
شرائح من الخبز" الافرنجي"... وذهب.
كنت منهمكا في
احتساء كل الحساء في الصحن، لكني أذكر أنني كنت أسأل طوال الوقت كل الأسئلة
الممكنة وبصوت مرتفع لأن صوت المطر كان يطرق نافذة المطعم ويمتزج مع قصف
الرعد المستمر الغاضب ومع الهرج من الطاولات حولنا وكأن الناس يتحدثون
ليدفئوا حلوقهم بغير الحساء أيضا !!! لم أفهم كنه الحديث الذي كان يدور
فكانت الضوضاء سيدة الموقف من جهة ولم أفهم لغة الناس، من جهة أخرى، لأنها
لم تكن كتلك التي أتكلمها مع والدي ووالدتي في البيت... لكني سمعت والدي
يتحدث بها مع النادل ومع بعض الأشخاص الذين التقينا معهم خلال ذلك اليوم...
في خضم هذه
الضوضاء "المحيطية" القسرية ورغم مهرجان وقع المعالق فوق صحون الحساء
محاولة امتصاص آخر قطرة دفء فيه، فقد كانت ضوضاء أخرى تحيط طاولتنا بالذات
وكانت قبيلة من العيون تدور حولنا وتقرع الطبول وتحدّق بنا لدرجةٍ شعرتُ
بها بالارتباك وذلك لعدم تمكّني من السؤال عن السبب الذي يجعل هذه العيون
تحوم حولنا نحن بالذات وأيضا لعدم إيجاد أي إجابة... غير أنه ارتابني نوع
من الخوف بسبب ملامح الوجوه غير الودودة وغير الباسمة المحدقة بنا
!!!
عندما عدنا الى
بيتنا الدافيء أخبرنا والدتي بتلهف عن المشوار وعن متعتنا الكبيرة بالرغم
من المطر والبرد وبنطالاتنا المبللة من أطرافها...
* * *
مرّت عقود من
الزمن... وحدث في أحد الأيام الماطرة أن اضطرت زوجتي السفر الى تل أبيب
لاتمام عمل ما وقد كان يوم عطلة لنا، فرافقتها وبصحبتنا طفلتنا الى المدينة
الكبرى والقلب النابض في البلاد... عندما وصلنا اصطحبت طفلتي الى أحد
المجمّعات التجارية الضخمة، بعيدا عن المطر والبرد، لقضاء الوقت والتجوال
بين الحوانيت عَلّني أجد أي شيء لاشغال طفلتي ساعة من الزمن حتى تنهي زوجتي
عملها.
قفزت طفلتي
وركضت وأفلتت يدي ولعبت في المساحات الممتدة الكبيرة بين الحوانيت
والمزروعة بألعاب الأطفال المثيرة حتى وصلنا الى باحة كبيرة (مثل باقي
المجمعات التجارية) محاطة بشتى المطاعم للأكل السريع الذي يعشقه الأطفال
... وبعض الكبار!
بعد الممرات
الطويلة من العيون الفاحصة والمرتبكة ... ربما كانت أصوات طفلتي، السبب في
مطاردة النظرات غير الودودة لنا... لكننا وقفنا تماما مثل غيرنا وطلبنا
طعامنا ودفعت الحساب وحملنا الصينية وهرولنا باتجاه الطاولة القريبة التي
ستحتضننا... سألتني طفلتي: "ماذا قالت لك البائعة؟ ... ماذا قلت لها؟..."
طفلتي ما زالت تتعلم الأحرف الأولى من اللغة العبرية في المدرسة ولم تكن
قادرة بعد على فهمها أو التحدّث بها...
عندما وصلنا
الطاولة كانت العيون قد سبقتنا لتتفحص كل المحيط و"اللا محيط" من حولنا
وكأننا وصلنا مسرحًا ينتظر الممثلين المشهورين وقد سلّطت الأضواء علينا...
وراحت الجفون المتعبة تراقب كل ما نقوم به ، كل حركة، كل كلمة وكل لقمة
يلوكها فمي أو يلوكها فم طفلتي الصغير الذي لم ينفك عن الحديث اللامتناه عن
كل ما في العالم عدا هذه العيون المتوترة !!!
ما أقوى وقع
الكلمات من فمي ومن فم طفلتي في تلك اللحظات!! لتشدّ الانتباه... ما أقوى
الكلمات ... تجعلك قديسا وتجعلك ملحدا، تجعلك إرهابيا، تجعلك جزءا من وطن
وتجعلك غريبا في وطن، تجعلك مواطنا وتجعلك لاجئا ... الامكانيات لا تنتهي
في هذا الضباب والمطر المنهمر فوق سطوح تل أبيب الرماديّة.
أنهت زوجتي
عملها والتقينا في السيارة... زوجتي، طفلتي وأنا وصمتي وضحكات طفلتي عندما
كانت منهمكة في إخبار والدتها بتلهف عن الألعاب التي لعبت بها وكم كانت هي
متعتها وماذا أكلت...
أما أنا فآثرت
الصمت الذي كان يملأ المسافة بيني وبين مذياع (راديو) السيارة الذي كان
يذيع نشرة الأخبار وجاء بخبر يتحدث عن سَنّ قانون يلغي اللغة العربية كلغة
رسمية ثانية بعد العبرية في البلاد ... آثرت الصمت واحتفظت في كل كلماتي
... لأن الكلمة هي كل ما أملك!
* * *
أطفئت المذياع
(الراديو)...
واصلت السفر
بين زخات المطر الرمادية المختلطة في عباب الضباب المترامي... اللامتناهي...
بطّيـخة سـعـد
قام سعد بتثاقل
من سريره المبلل بالعرق، عيناه دبقتان ووجهه يلهث من شدة الحر، جسده يحترق
والقيظ يخترق عظام عظامه.
توجه سعد نحو
النافذة في غرفته الصغيرة ورمى نظره على الشارع المحاذي لبيته فرأى الناس
وسمع "صياح" الباعة في السوق وصوت أغنية رتيبة أثارت عصبيته صدرت من مذياع
الحلاق حيث يجتمع رجال الحارة ويلعبون لعبة "الطاولة". ويختنق سعد في
الزحام اللاّمتناه من باب السوق وحتى باب داره… سيارات، عربات الباعة،
الناس، الحوانيت والبضاعة التي تتراكم على أرصفة الشارع ملكًا للجميع
ليتمعّنها وملكًا فقط لصاحبها ليبيعها !
خلع سعد قميصه
المبلل رماه بعشوائية على حافة الكرسي الصغير في زاوية غرفته المليئة
بالصور وقصاصات من الصحف وقصائد معلقة على الحائط, لا يوجد مكان بعد على
الحائط لا ولا في الغرفة … مكتظة غرفته كما هي أفكاره, وجسده المرهق مكتظ
بغبار الأيام وبالعرق. خلع سعد كل ملابسه ودخل الحمام واستحم وأزال كل الحر
الذي استوطن في مسمات جلده, شعر بأنه وُلد من جديد, خرج واختار ملابسه بدقة
فاليوم سينـزل إلى السوق ليلتقي اصدقاءه وليراقب الناس والنساء اللاتي
يأتين للتبضع.. وبينما كان منهمكًا في هندمة ملابسه سمع صوتًا عاليًا
ينادي؛ "بطيخ… بطيخ عالسكين أحمر يا بطيخ" فقفز الى نافذته ورأى عربة
البطيخ تستقر ليس بعيدًا من باب داره…
كل ما فكّر به
تلك اللحظة هو أن يطفئ لهيب جسده ببطيخة باردة… كانت الساعة قد قاربت
الثانية عشرة ظهرًا فهرول سعد إلى السوق وجلّ تفكيره منصب على بطيخةٍ
باردةٍ جدًا تستقر في معدتة بكل مائها وكل حلاوتها.
ما أن فتح باب
داره داهمه اكتظاظ السوق والناس المتزاحمين بأجسادهم، بسياراتهم وبكل ما
فيهم من قوة وكأنهم في سباق … يتصايحون ، يتشاجرون ويتراكمون فوق كل شيء
أو فوق لا شيء…
دخل سعد هذه
المعركة بين الرؤوس متّجهاً بخطى حثيثةٍ لاهثاً عطشًا واختناقًا، محاولاً
شق طريقة نحو عربةِ البطيخ بين الزحام، بين الركام… بين الزكام الأزلي في
هذا الشارع الممتد ما بين باب داره إلى أي مكان في السوق…
أخيرًا
وصل إلى مبتغاه وكانت العربة محاطةً بالكثير من الناس اللذين إنقضوّا على
كل بطيخة كما البائع ينقض على كل قطعة نقود فلا يهمهم حتى وإن طلب ذهبًا
ولا يهمه أن يأخذ منهم ذهبًا مقابل البطيخة.
ومن بين أجساد
الناس حاول أن يختار البطيخة التي سينقض عليها…. حتى وقعت عيناه على واحدة
حسب الطلب لكن سرعان ما التقطها أحدهم… فأدرك سعد بأنه إذا أراد أن يحصل
على ما يريد فعليه أن يخترق جدار الأجساد ويشق معبرًا بينه وبين البطيخة إذ
أن هذا الأمر يستحق العناء وهكذا دخل إلى حلبةِ البطيخ الذي يحمل في بطنه
كل أحلام سعد في تلك اللحظة. وانقض على بطيخة صامته جدًا … كبيرة وقد خمّن
أنها تحمل في أحشائها ماءًا أحمرًا قانياً لذيذًا وقد قرر خلال لحظات بأن
يأخذها الى الجدول البعيد لوحده ويضعها هناك لتبرد في المياه العذبة وثم
سوف يأكلها ويتلذذ في كل قطعة منها… دفع للبائع ومازحه فهو فرح بمناله
وراضٍ عن اختياره وشعر بنشوة غامرة وكأنه ملك العالم في تلك اللحظات…
أما البائع
فأعاد له "المتبقي" دون أن يتفوّه بكلمة فهمّه الوحيد أن يستلم النقود ثمن
بطيخة أخرى يبيعها.
رغم ذلك لم
يعكر ذلك صفو أفكار سعد التي تركزت بالتمتع بالتهام البطيخة رويدًا..
رويدًا وإرواء ظمأ جسده المتشقق وحنجرته اليابسة وجفاف أيامه. أخذ البطيخة
وأحاطها بيديه بحذر وتوجّه نحو بوابة السوق، في الطريق إلتقاه أحد الأصدقاء
وبدأ الحديث معه وأستمرّ لبضع دقائق ,شعر سعد أن الزمن قد توقّف لعشر ساعات
في حين لم ينفك صديقه عن الحديث عن مشاكله في العمل ولم يكن سعد مصغيًا لأي
شيء غير صوت البطيخة والصدى الدّفين الذي يخرج منها عندما يدقها بيده..
وعيناه تنظران إلى الكلمات اللامتناهية المتدحرجة فوق شفاه صديقه, فجأة
قاطعه سعد وقال: " ما رأيك يا صديقي ان تشاركني وتأتي معي لنأكل البطيخة
عند الجدول " . فأجابه: "فكرة جيده ستساعدني على نسيان همومي لكن ارجوك ان
تحضر لي بطيخة معك وأنا سألحق بك بعد أن أدفع هذه الفاتورة في البريد… من
فضلك ….
عاد سعد إلى
عربة البطيخ واشترى بطيخة أخرى ، هذه المرة كان شيئًا من البشاشة يرتسم فوق
شفتي البائع الغليظتين . وبينما كان متّجها نحو بوابة السوق ليخرج الى
الجدول التقى محبوبته فقفز قلبه من مكانه وانتفض جسده وكاد يفقد توازنه
عندما حاول ان يرفع يده ليحيّيها وكاد ان يقع وتقع فوقه البطيختان … فابتسم
واكتفى بأن يحيّيها بكل ملامح وجهه وبقلبه وبكل جسمه وبكل بطيخة فوق
يديه,وقفت تبادله الحديث والنظرات الناعسة المشتاقة الحالمة ورأى سعد كل
كلمةٍ تنساب من شفاهها كما الماء في جدول عذب يتداخل مع البطيخ الأحمر
اللذيذ… تمعن في شفتيها ورأى "حزوز" البطيخ شرائحاً حمراء لذيذة باردة تجد
منتجعًا لها عند شفاهها الحارة .. لم ينتبه سعد إلاّ بعد بضع دقائق إنها هي
ايضًا تحمل بطيخة في سلتها، فهذا زمن البطيخ وكلُّ وبطيخته وبالكاد ذلك قد
يروي ظمأ الحناجر ويسد حاجة البشر.
وبشهامته
المعهودة حمل بطيختها ووعدها بأنه سيوصلها إلى بيتها فهذا من واجبه العاطفي
والإنساني !
أكمل المسير
بعدما حيّاها بكل ما يمكن من لهفةٍ وحرارة تفجرت من شفاهه ووجه وحتى من
بطيخه… ومشى بالحمل الثّقيل فتوقف هنيهة ليستريح عند حافة إحدى الحوانيت
ليس بعيدًا من بيته وإذا بأخته الصغيرة تأتيه وبكلماتها القليلة التي
تعرفها فهم أن أمّه تطلب منه إحضار بطيخة عند عودته للبيت.
فقرر أن يعود
إلى عربة البطيخ ويشتري بطيخة أخرى قبل أن يذهب بائع البطيخ ولا يبقى
بطيخًا جيدًا, فعاد وحمل بطيخة أخرى وما أن همّ بالمسير رأى رجلاً مسنًا
يحمل بعض السلال وبطيختين فقال له : " يا سيدي دعني أحمل عنك بطيخة واحدة
على الأقل وأخفف من حملك". فرح الرجل كثيرًا لحسن خلقه وشعر ان بركة ً قد
حلّت عليه لأنه ساعد إنسانًا.
هكذا صار عدد
البطيخ كبيرًا جدًا مما اضطره الوقوف بضع مرات حتى وصل بوابة السوق حيث
التقى بعض أصدقائه فحيّوه وقالوا له: "ترى ما هذا العدد الكبير من البطيخ
(لم ينتظروا إجابة)… يعطيك العافية".
قال بصوت ضعيف
لاهث: "الطقس حار جداً والبطيخ يروي ظمأ كل الناس وأنا ذاهب إلى
الجدول لأطفئ
لهيـبي…" قفز أصدقائه وسألوه : "هل من الممكن أن نأتي معك ونشاركك (ولم
ينتظروا إجابة) … بالله عليك ان "تعمل حسابنا"…
شعر سعد
بالإعياء والإختناق لكنه قال : "حسناً إسبقوني إلى الجدول وأنا سوف آت بعد
قليل ومعي بطيخةً أخرى".
عاد مثقلاً إلى
عربة البطيخ وأخذ أول بطيخة رآها ومشى, شعر بالدوار والصداع والجفاف والعرق
يتصبب من يديه وملابسه مبللة…
إن كل ما أراده
اليوم وكل ما حلم به هذا الصباح هو أن يطفئ حرّ الأيام ببطيخة باردة تستقرّ
في معدته وفي رأسه وفي كل جسده الجاف من عند آخر شعرة في رأسه حتى أخمص
قدميه. ونظر نحو بوابة السوق التي سينطلق منها إلى الجدول، تلك البوابة
التي صارت بالنسبة له كالواحة في قلب الصحراء كلما اقترب منها ابتعدت مرة
أخرى وكأنها سراب.. أو كأنها تتهكّم عليه.
وحمل كل البطيخ
وما أن همّ بالمسير رأى إمرأة وهي حامل، تلك المرأة بالذات هي زوجة أحد
المسؤولين الكبار في أحد الأحزاب الوطنية، كانت تحمل بيدها كيسًا كبيرًا
وتحاول مسك البطيخة التي تهرب من بين اصابعها الرفيعة الناعمة ، طبعًا هبّ
سعد لمساعدتها وحمل بطيختها. شعر بأنه يؤدّي خدمة للوطن… للمرأة… للجنين
الذي في بطنها بالرغم من إنه لن يعرفه عندما يولد ولن يذكر له هذا الجميل
الذي عمله مع أمه عندما حملته في رحمها، بالضّبط مثل بطيخته التي حين يخرج
كل ما في بطنها لن تعرف أن ذاك الشخص هو الذي عانى وحملها طول الطريق
ليتمتع بما فيها… أو لا يتمتّع , إذ انه لا يمكن أحياناً أن تعرف ماذا تحمل
البطيخة في بطنها
!!
أكمل المسير
يترنح، يميل يسارًا ويمينًا ومن بعيد بدا وكأن البطيخ ينمو فوق شجر متحرك ،
كيفما تنظر إليه ترى بطيخ… في يديه ، عند بطنه، فوق ظهره والأكياس مليئة
بالبطيخ مدلّاة عند قدميه وفوق كتفيه حيث تغطّي جزءاً من وجهه… واستمر في
المسير باتجاه بوابة الخلاص وفي الطريق إلتقته إبنة الجيران التي لم يرها
منذ ألف عام ! وقد تعرفت عليه بصعوبة وقالت له: "يا إلهي ما كل هذا
البطيخ.. كما يبدو فأنت تنقل اليوم البطيخ لكل أهل الحي".. أراد أن يحيّيها
من خلال كوم البطيخ لكنها أسرعت وقالت: "حسنًا .. بالله عليك خذ هذه
البطيخة أيضا ما دمت تقوم بهذه المهمة وأوصلها من فضلك إلى البيت" ووضعتها
فوق تل البطيخ واختفت من أمام عينيه.
وقف للحظات
ليلتقط أنفاسه وربما ليفهم ما الذي يحدث… ربما ليستجمع قواه من جديد ووضع
كل حِملِه هنيهة فرأى طفلين يحدقان بعدد البطيخ الذي لديه وكانت نظراتهما
الجائعة تنادي قلب البطيخ وتنادي قلب سعد ليطفئ عطشهم ويسكت جوعهم … عاد
سعد لعربه البطيخ واشترى بطيخة أخرى وقال لهما: "اذهبا عند الجدول في مشارف
البلد بعد بوابة السوق وأنا سوف آت بعد قليل". فرح الطفلان جدًا وذهبا
بسرعة أما هو فحمل كل البطيخ وبدا كأنه تلاًّ متحركًا ، بطيئًا ثملاً
محاولاً الحفاظ على قوته وتوازنه في هذا الكم "البطيخي" وأكمل الزحف
واللهاث نحو بوابة السوق. ومن بعيد رأى الجسر الصغير وبدأ يسمع خرير المياه
القليلة المتبقية في الجدول الصغير… إنفرجت أسارير وجهه من تحت تل البطيخ
ومن تحت انهار العرق المتدحرج فوق جبينه و وجنتيه وعينيه وكل مسمات جلده
المحترق في ملابسه المبللة، وصل البوابة ودبّ في نفسه الحماس والقوة فقد
حقق أول مرحلةٍ نحو الوصول إلى الجدول.
الحمل ثقيل
جدًا وعرقه يشتعل نارًا في عينيه وما عاد يرى بوضوح.. وراح يتمايل مع كل
بطيخة لكل جهات الأرض… لكن الحلم على وشك أن يتحقق فبدأ بالاقتراب من
الجدول ورأى الكثيرين بانتظاره وكأنه في سباقٍ أو صراعٍ مع الزمن ومع كل
الثّقل الذي يحمله…
رأى آلافاً من
المشجعين وصوت صافرات وضجيج ناس… سمع هتافات من كل صوب, هذيان… هذيان وهو
يزحف، يتقدم ببطء وقد حقق الرقم القياسي، يكاد الوصول فداست قدماه ضفاف
الجدول الترابية وبقي القليل للوصول وإذ بحجر صغير جدًا بحجم حبة الفول
يعترض طريقه فزلّت قدمه وطار البطيخ كله إلى الفضاء وطارت معه أعين كل
الناس اللذين انتظروه وثمّ هبطت بقوة وارتطمت بالأرض وتكسرت فطارت شظايًا
بالبطيخ لكل صوب فوق جسد سعد وفوق التراب ومنها تدحرج وسقط في الجدول
وتدحرج سعد وتدحرجت نظرات الناس الحزينة مع البطيخ الذي تكسّر فوق كلّ
الأحلام وفي قلوبهم غضب عارم لما سبّبه سعد من ضرر.
نظر سعد نظرةً
طويلةً إلى كل واحد منهم ثم راح يتمرّغ في عرقه وفي التراب ويتحمّم
بالبطيخ المتناثر… فأراد كل قطرة ماء منه وأراد أن يلتصق به, فكل ما أراده
بادئ ذي بدء أن يتلذذ ببطيخة واحدة في استراحته لفترة زمنية تكاد لا تذكر
في كل تاريخ أيامه… استراحة قصيرة من كل شيء, فقط وليس اكثر.
شعر سعد بألم
كبير في جسده وفي ذاته عندما سقط أمام كلّ المنتظرين وأمام عيونهم المعاتبة
وكأنه أجرم في حق أحد منهم! فتدحرج وبدأ بالصياح غضباً,خوفاً وفرحاً في
حالة شيزوفرينيّه وشعر بالإعياء … بالارتخاء وبالراحة التي طالما بحث عنها
فقفز إلى مياه الجدول الضحلة ليغسل كل ذاته من كل ذاته وكل ما عليه ومن كل
الناس...
منذ ذلك الحين
يدعى الجدول الصغير بجدول البطيخ ويقام في كل سنة في نهاية الصيف مهرجانًا
لأكل البطيخ.
تمّـوز وفيـنـوس
لم يكن تل
الغار مكانًا عاديًا، فقد كان تلاًّ معلقًا بين جبلين شاهقين مزروعًا بشجر
الغار فوق كل ذرة تراب منه... وقد اعتاد الآله في التردد اليه لأخذ أغصان
وأوراق الغار لذلك تفوح في المكان رائحة الوهية غريبة ... لكن التّلَّ لم
يكن أيضًا مكانًا يخص إلهًا معيَّناً حتى تلك الليلةِ التي تُوِّجت فيها
فينوس إلهة للحب والجمال وقد اختارت هذا التل مكانًا للاحتفال...هذا المكان
الّذي ليس فيه غير شجر الغار... والغبار.
في تلك الليلة
كان هرج ومرج من كل صوب ورقص لا متناه في جلبةِ الحاضرين وكان صهيل الخيل
خلف أشجار الغار يرسم في صمت العتمة, هناك, خطوطًا لعشوائية الهيةِ وعبثٍ
وقح...
اعتلت فينوس
عربتها البيضاء المكللة بغار الإغريق، لابسةً عباءةً بيضاءَ مطرزة بالليلك
وبخيوط ذهبية تتداخل في أوراق الغار عند ياقتها, انجلى ظهورها في عيون
الحاضرين إبداعًا إلهيا فوق كلّ كلمةٍ... فوق كلّ وصف.. وعندما وقفت انحنت
أمام عليائها عناصر الكون وكل ما كان في هذا الليل حتى النجوم والقمر...
وراحت تنثر الياسمين والضحكات بين أيدي الآلهة وأحضان الحاضرين... في تلك
الليلة, ثملت كل الكائنات محتفلة مع فينوس وتعرت كل الآلهة من عرائها عندما
أعلنت دستور مملكتها المنسوج بالحب وبالعطاء... بالجمال. تسللت كلماتها
المقدّسه العذبة, لآذان الليل فأضاءت نجومه ساحة الرقص وابتدأت مسيرة الحب.
وراح الحاضرون
يدورون بنشوة عارمة حول فينوس, أمّا هي... فامتلكت اللحظات وأرسلت أشعة
عينيها إلى كل العيون وبعثت البسمة لكل القلوب … غير إنها كانت في إنتظار
قلق باحث في ثنايا العتمة عن أي إشارةٍ تعلن وصول تموز إله الخصب… البابلي
ليدفئ روحها.
لم تبدأ
الحكاية بين تموز وفينوس في تلك الليلة لا ولا في ذاك التلّ إنما بدأت منذ
أن وُلدا…! ونامت في بطن الأفق لبضع عقود من الزمن الى حين فيه تفيق
الأقاحي بعد سباتٍ جليدي…
تموز … المشتعل
بدفئه وبخصبة مسجون في وحدته الأزلية وفي حزنه الآتي من بطن الأرض ومن
مشارف الليل, باحثا في تراسيم الفساد من حوله عن امتداد لذاته وتواصل لروحه…
وابتدأ تموز
رحلته من الغيم البعيد نحو تل الغار, اعتلى عربته ومن حوله النّساء
الجميلات يفرشن تحت قدميه ألبيارق والقرنفل, انطلقت عربته يجرّها حصانان
مجنّحان عبر عبق نساء الأرض والسماء… انطلق تموز باحثا عن نجمة واحدة من
بين النجوم الكثيرة المتناثرة في فضاء الكون وكلما مرت عربته في درب من
الدّروب ذابت النجوم وأمطرت عسلاً واقحواناً فوق تل الغار لتستقبله الأرض
بوابل من القبل…
وصل تموز تل
الغار ,نزل من عربته ووطئ تراب التل فنبت تحت قدميه العشب الأخضر واستقبله
الحاضرون بحفاوة فحيّاهم ... أما عيناه فكانتا تائهتان تبحثان عن عروس
الجمال حتى استقرت عيناه في عيني فينوس للحظات, عندها اختفى كل شيء من
أمامه... لم ير سوى غيرها تحت القمر العابث بثنايا جسدها الغض… وبعد ذلك
فقط استطاع أن يرى الحاضرين يتداخلون في جلبة الضّوء … استقبلته فينوس من
بعيد واسترقت النظر من بين الجموع وتسللت إلى دفء عينيه، هربت من عيون
الآلهة التي تلبسها حلّة العروس, هربت بعينيها وبأفكارها وبجسدها من كل
العيون إلاّ من عيون القمر والنجوم فرأتها تحيّي تموز بسلام الآلهة, من
بعيد, تلوح بيدها الراقصة… سلامًا لا يفهمه غير تموز والنجوم فأرسل لها
سلامًا مع نساء الكون ليفرشن تحت قدميها عطر السماء وخصب الأرض ونور القمر…
عندها كان اللقاء الأول بعد الألف ما قبل الميلاد.
في تلك الليلة
رقصت فينوس بكل الحب، محاولةً امتلاك الحاضرين وسحرهم حتى الثمالة لتفتح
المعابر بين عينيها وبين تموز وسط كل العيون المحدّقة الراقصة الثاقبة !
أرسلت فينوس
نظراتها الى تموز في وسط الشّتات, في وسط الزّحام وفي وسط الضّياع فما عادت
تعرف شيئا غير إنها تملك كل الإحساس تجاه تموز ولم يعدهو يعرف شيئًا غير أن
كل خصبة وحُبه مكرّس لفينوس فدخل حلبة الرقص العشوائي واخترق أجساد
الراقصين ليصل إليها ويلتصق قدر المستطاع بها ولم يرَ أحدًا ولم يع شيئًا
سوى انه تجّرد من عطور النساء ومن كل إلتزاماته وارتبط بعناق واحدٍ مسروق
من زمن ليس للآلهة وزمن ليس للعشق.
في تلك الليلة
احتفى تمّوز وفينوس بذاتيهما ومارسا طقوس الرقص الأول بعد المخاض وسكنا في
حضن بعضيهما بعدما تجرّدا من كل شيء ولبسا الحقيقة العارية في ذاك العتم.
انتهى الاحتفال
والليل وبدأ الحاضرون الإلتفاف حول خيوط الشمس الأولى في مشارف الفجر...
لملموا ذاتهم وروحهم مثل ذرات الندى فوق أوراق الشجر في الصباح الرطب
وبدأوا العودة إلى قصورهم وراء الغمام.
جلس تموز بصمت
حارق يتقلّب بما تبقى من العتم وحيدًا ليمارس طقوس تواصل بابلية مع فينوس
ليسرق كل خطوة من خطواتها ويطبع كل ملامحها الإغريقية بينما كانت فينوس
تسترق كل لحظة وكل زهرة بعثها تموز اليها.
بين تموز
وفينوس علاقة غريبة حيث انتهى فيها الإنسان والآلهة فانهما لا يستطيعان
الاتحاد.. ولا يستطيعان ممارسة العراء ولا أن يهمسان الحب ولا أن يعشقان
الا عند اكتمال القمر في قلب الشّمس وامتزاج النّور عندها سيفترشان حبهما
في مملكة حالمة.
*
* *
جلس تموز عند
الحافة الصخرية المطلة على صفحة بحر ابيض ممتزج بأرجوان الأفق وطيور النورس
التي تحوم ما بين الموج والقمر المتردد… رمى شوقه الى زبد الموج فذاب في
الشاطئ الذهبي عند شرفات القصور الرّملية وازداد اشتياقه لتلك الملكة
الناصعة الجالسة في عرشها.
حوّل تموز نظره
إلى النّورس وأحال أحدهم إلى حمام زاجل وحمله رسالة الى فينوس…
الرسالة الأولى:
تحية
ساجدة وسلام طيب ؛
إلهتي … أهرب
اليوم من مملكتي من مشارف الشّاطئ لأبحر في اقيانوس الشّوق الكبير إليك,
لقد
كان لقاؤنا في
الليل كالمطر المنتظر وكان كلامنا غزيرًا كالغيوم الحبلى بطوفان من قُبل…
لقاؤنا لحن بعيد وانتصار في امتلاك الذات للحظات فلا يمكن ان أدرك ذاتي في
شتاتي الأبيض دون حبك المتمرد ودون عاصفة الياسمين التي أحاطتني عند
مراقصتك . أكره ابتعادك وأكره ذلك التردّد الكوني البديهي الزائف فأنا مرهق
من استحضار الروح وعينيك والندى فوق شفاهك وفوق جسدك. عزيزتي فينوس لملمي
روحي واضطهدي محاولاتي في النّزوح لأني في مملكتك لا أمارس الزيف والضياع,
بل أعود الى مهرجان زفيرك المعطّر ضاربًا وتد التشرد فوق تضاريسي, أمارس
الكيان وأرفع لك ولائي وأبايعك على كل مملكتي لنحقّق الذات فوق سطوح
الممنوعات ونبني لنا حاكورة حالمة لا تتسع لأحد غيرنا… فكل دفئي ودفء
مملكتي وخصب الرافدين أرسلها لك مع الطير حتى اللقاء…
استلمت فينوس
الرسالة فأرسلت كلماتها مع عصافير السماء وقالت: اشتقت لدفئك وقلبك الذي
يولدني إلهة من جديد حين أذكر ملامحك تقتحم ذاتي وملمس يديك اللّاتي ما
وددت تركها إلاّ من عيون الحاضرين .
أبدا باق أنت
في كل انحائي ومملكتي حتى نكون عند تزاوج القمر والشمس عند مشارف تلّ
الغار. كل الحب أرسله لك حتى اللقاء…
* *
*
الرسالة
الثانية :
جلس تموز في
مقعده الوثير في أحد المجالس وقد أعياه التعب بعد يوم حافل بالجدل
والصراعات وقد بقي معه في المجلس شخصًا يدعى مركيريوس. مركيريوس هذا كان
قصير القامة سريع الحركة ولديه وسائل خاصة لنقل رسائل الآلهة بسرعة كبيره
وبسرية مطلقة اذ أنّه أقسم الولاء وحلف بيمينه على دستور الآلهة الأم بأن
لا يبوح بسرٍ لأي إله أو مخلوق.
قام تموز
بتثاقل من مقعده نادى مركيريوس وقال له: اكتب يا مركيريوس واحمل رسالتي إلى
التي يذوب بين يديها تموز ويمتزج مع عطر ياسمينها, انقل لها سلامي الحار مع
طوفان من أقحوان إذ أنّي أعلنت الاستقلال في أرض لا أملكها وفي سجن تزاول
فيه خيوط الشمس مراسيم العتمة… فأتوحّد في زوايا المستحيل، أنام النهار
وأفيق النعاس أحبس أنفاسي لكي أحتفظ بعطرك في ثنايا جسدي… أحبك شوقًا
عظيما, أحبك مطرًا ليروي خصبي وليطفئ احتراقي فألملم رمادي وأقوم من جديد.
سلامي لك حتى
اللقاء… في تلّ الغار..
عندما استملت
فينوس الرسالة, قالت لمركيريوس: أكتب يا مركيريوس بقطرات الندى المنسوجة
بورق الغار وخيوط الذهب ; أحبك … كرر هذه الكلمة إلى أن يغفو جفناك حتى
اليوم الثامن حين يفيق وجهك في الساعة التي يكتمل بها القمر ويخلد الليل
لنوم عميق سأرسل لك رسالتي , ففي تلك الليلة ستكتسي مملكتي وكل من فيها
وكلما فيها بحلة من الحب وسأبعث مع عطر الحبق وعطر التلال والغار رسالتي
إلى القمر… فابعث عينيك إليه لأنه في تلك اللحظة ستكلل عيناي وجه القمر
وضوء النجوم.
* *
*
الرسالة
الثالثة:
في الموعد
المحدد صعد تموز إلى برجه وأطل من شرفته باحثًا عن القمر فإذا به يتأهب
للقاء العاشقين بساحاته المزيّنة من حوله بالنّجوم, جلس قُبالَته وحدّق في
لبّ لبّه .
أما فينوس,
وعندما حانت الساعة جلست على الكرسي في شرفتها الكبيرة المطلّةعلى الجبال
الرطبة واستقرت عيناها في لبّ القمر عندها تفجّر ضوءه الأصفر الذي يميل إلى
اللّون البرتقالي مهتاجا في الفضاء ,منطلقا بعشوائية بين الكواكب حتى وصل
أعينهما وأعلن التواصل بسرّية مطلقة وبخصوصية. تنهّد تموز و فينوس وتأهّبا
لللّقاء... في الحلم.
اقترب تموز
منها واحترق بين أناملها حين لامست جبينه ووجنتيه وأعلن ثورته بانصياع مطلق
لذاتها المنسابة فوق ملامحه المتعبة ضاربة كل البديهيات عرض الفضاء…
ضع شفتيك فوق
شفاهي وقبّلني…قالت ولم يتفوه تمّوز بأي كلمة والتهب فوق شفتيها, اجتاح
تضاريس وجهها وشعر أن الحياة تدب فيه وفي قلبه… قبّلها بدفئة وبخصبة وأفاقت
من سبات أنوثتها الثائرة
.
ضمّها
تمّوز وارتفعا برقصةٍ خاصة بهما عاريان, تاركان الكون والقوانين وكلّ شيء
ملتزمان بعضيهما للحظات , مكتشفان في ذاتيهما نشوة الجسد في العطاء من
ذاتيهما لذاتيهما...
وصل
تموز وفينوس إلى هذيان الحلم فافترشا الياسمين وارتفعا بعطر مقدس واستقرا
عند تل الغار وزرعا هناك لذاتيهما زنبقتين ثائرتين في الأرض تحملان رسالة
قد تزهر في الغد عندما يعتنق الكون مذهب الفَراش ولحن الورود, وارتفعا نحو
الرؤيا في أسطورةٍ غائبةٍ في أرض الغار والأقحوان…
زخّات
زخّات ... هذا
كل ما في الأمر... والبرد قارص يلفح وجه القمر وجذوع الشجر، يجول بين أحواض
النعناع الرطبة ويطارد الكلمات والعصافير... والسماء تنتظر المطر وقلب
الزنبق ينتظر دفء المطر ويرسم لوحة سريالية على نافذة الحاكورة المسيجة
بالصمت، المطلة على لقائهما " غير الشرعي" ... المطلة على زوبعات
الأقحوان!
هل يقبّل القمر
الليل في هذه العتمة الباردة؟ أم أن كلاسيكيّة الحال بيضاء أو سوداء...
وليس بينهما وسط ! هل سيهطل المطر هذا الموسم؟ ويخبيء قُبلهما وجسديهما
ويغسل المعادلات الكونية وكل البديهيات!
*
* *
زخّات... لا
أكثر ولا أقل، تطارد دفء الهمسات في شوارع الوهم المزخرف بقوانين العتمة
المكدسة عند مفارق الزمن... وهما ما زالا يمارسان الشوق ويزرعان جدارات
ياسمين عند حفاف الطرقات الباردة، لينامان في جسد بعضيهما للحظات دون خوف.
تتقلب
ملامحها بين حروفه، في عروقه ، في ذاته رغم الممنوعات، يراها ولا يراها،
يقترب من أحواض القرنفل حول جسدها ولا يلمس ضفائرها، يعيشها حتى الهوس...
ويحبها حتى التعب.
لكن البرد قارص
في العتمة!
*
* *
زخّات... ليس
إلا... تسقط فوق أرضه وفوق شتاته ! إعتقد أن شتاته قد سئم منه ولم يعد
ليزور منزله أو أوراقه... إعتقد أن شتائه لن يأتي والوقت يتباطأ أو يتواطأ
معه... لكن البرد بدأ يعربش عند قدميه... فالدقائق تسير في دائرية باردة
مجنونة والساعة تحمل ساعة تلو الساعة ... فيستسلم للشوق ليقتحم زقاقات
تفكيره المغبرّة باستفهامات اللاواعي...
يلملم أوراقه
ويعود لدفاتره ليبحث عنها وعن ذاته المشردة بين حضن القرنفل وميناء
القمر... ودفء المطر!! ... لكن البرد قارص في العتمة !
*
* *
مجرد زخّات...
لكنه يحلم بأنه يتساقط كالورق الاصفر المثقل بالمطر... وينهمر بين أصابعها
يتجرد من كل شيء ليمارس عُريه في مدينة نسي فيها الشوارع والمقاهي وشرفات
القمر القرميدية وراء الغيم في المغيب... نسي زوايا العشاق السريّة بين
الشجر أو في الغرف الصغيرة المتناثرة عند مشارفها!
يستحوذ الشوق
على كل شرايينه فيركب أجنحة الفراش التائه وينهمر نحو زهور وجنتيها ، رغم
أن البستان لا ينتظره... لكنه يحلم بقطرات الندى فوق جفون الورد، كأنها
طوفان فوق صفحات الشوق البيضاء... ويعود لمحاولات الانتظار وتقصّي الاخبار
هائما بين البرد والهذيان !!! والبرد قارص في العتمة...
*
* *
يستفزه ذلك
الزمان... تستفزه محدودية المكان! يستفزّه نوم الشمس في عز الظهيرة،
يستفزّه انهمار المطر في الصحراء! يستفزّه اليوم العادي في قلب شتاء محمل
بمجرد زخات متفرقة... هكذا الحال حتى اليوم السابع فيستريح... ليقوم في
الغد من جديد بدائرية بديهية.
هل سيهطل المطر
ويبلل قُبلَهما وجسديهما ويغسل المعادلات الكونية وكل البديهيات؟! هل سيهطل
المطر في أرض الخير هذا الموسم؟!
|