أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: د. نور الدين محقق-المغرب

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

- ولد سنة 1960 بالدار البيضاء – المغرب.

- درس في كل من المغرب وفرنسا.

- حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط-المغرب ( ميزة مشرف جدا).

- حاصل على شهادة دبلوم الدراسات العليا من جامعة محمد الخامس-الرباط (ميزة حسن جدا)

- شاعر وقاص وروائي، ناقد مسرحي وتشكيلي وسينمائي و باحث أكاديمي في

مجال السيميائيات السردية.

- عضو اتحاد كتاب المغرب.

- عضو جمعية نقاد السينما بالمغرب.

-عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب.

- شارك في مؤتمرات عالمية داخل المغرب وخارجه

- له كتابات عديدة منشورة في المغرب والمشرق تتعلق بمجال التواصل

الاجتماعي (مسرح، تلفزيون، سينما، إشهار) باللغتين العربية والفرنسية.

 

- المؤلفات الشخصية:

مجموعة من الكتابات النقدية والإبداعية والدراسات الأكاديمية، المنشورة على نطاق واسع في كبريات الصحف والمجلات العربية والغربية، والمواقع الثقافية الالكترونية، لكنها لم تصدر بعد مجمعة في كتب، يمكن إيرادها على الشكل التالي:

 

1-الدواوين الشعرية:

- عاشق غرناطة العربي

- تساؤلات لقتل الوقت

-عرائس البحر الأبيض

- مزامير أورفيوس

- ترجمان الأشواق

- أوراق العشق

- مرآة نرسيس

 

2-الروايات والمجاميع القصصية:

-وقت الرحيل

-زمان هيلين

-ريشة الطاووس

- عصفور الجنة

- مدينة الخيال

 

3-المسرحيات والمحاورات:

- فاوست و الشيطان

- أبو نواس و مشاكل الناس

- حمزة البهلوان في مقهى وركان

- المهلهل و حيدا في غرفته

 

4- الدراسات والأبحاث:

- الرواية و الحداثة الأدبية

- نجيب محفوظ وشعرية الحكي

- النقد الروائي و آليات اشتغاله

- القول الشعري و اللغة الرمزية

- الحكاية والبعد السردي

- الرواية والنص التراثي

-الرواية والتناص الرحلي

- السينما وشعرية الصورة

 

5- التأملات والأعمدة الصحافية:

- على الاقل: تأملات في المشهد الثقافي العربي

- قطب الرحى: تأملات في المشهد الثقافي العربي 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

عائشة البحرية

تبييض الألواح

لبن العصفورة

مدينة الخيال 

الحمامة المطوقة

 

مدينة الخيال

 

حدثنا هشام بن عيسى ونحن جالسين نتسامر في أحد المقاهي الشعبية بعد أن طلب عصير ليمون وقهوة سوداء على حسابنا قائلا:

( كان من عادتي أن أشتري الكتب القديمة، منذ صغري وأنا مولع بذلك، كنت أذهب إلى سوق الأربعاء القريب من حينا، وأنغمس في الحوانيت التي كانت تبيعها. تولد من ذلك مع مرور السنين تآلف كبير بيني وبينها، صارت هذه الكتب أصدقاء لي، أصبحت أشعر بنوعية الكتاب الذي سألتقي به قبل أن أراه، وحين كبرت ظلت هذه العلاقة حاضرة، لم أعد أذهب إلى ذلك السوق القديم. قيل لي إنه قد اندثر. الأيام قد فعلت فيه فعلها. أصبحت أذهب الآن إلى المدينة القديمة. كلما ذهبت إلى وسط المدينة، إلا وتركتها، كانت قدماي تجراني جرا إلى الداخل، نحو حارة الكتب القديمة تحديدا، دنيا الكتب، لمن لا يعرفها. اشتريت منها الكثير، وندمت على أنني لم أشتر منها الأكثر، كتب تعيد الذاكرة إلى الوراء حينا، وتدفع بها نحو المستقبل حينا آخر، كتب من مختلف اللغات ومن مختلف الأزمنة والعصور. كان بعض أصدقائي يضيقون بي ذرعا حين أصادفهم في أحد المقاهي الراقية وسط المدينة، حين أدعوهم بعدها إلى زيارة هذه الدنيا.القطيعة أو على الأقل شبهها قد حصلت الآن بين الناس وبين عالم الكتب. الناس قد أصبحوا مغرمين بمتابعات القنوات الفضائية بمختلف مشاربها، العربية منها والغربية، وهم يناقشون في المقاهي ما يرد فيها من أخبار، وكل واحد منهم يظن نفسه المثقف الأوحد بين أصدقائه، لم يقرأ أي واحد منهم-فيما يبدو- أي كتاب منذ سنين، حتى الصحف إن لم يجدوها في المقاهي لا يقرأونها، وحتى إن وجدوها، يتصفحوها، ثم سرعان ما يندمجون في فك طلاسم شبكاتها المتقاطعة والمسهمة، وكم تبدو الفرصة عميقة على الذي يسبق الآخرين إلى ذلك. يبدو متطاوسا، وكأن الثقافة قد اجتمعت فيه كلها. هكذا كنت في الغالب، أفضل أن أجلس وحيدا، مثل أي دون كيشوت جديد، أفتح كتبا و أغرق في بحره، باستثناء مساء يوم السبت وصباح يوم الأحد، إذ لابد للإنسان من الترفيه عن نفسه صحبة أصدقائه، وأي الرجال المهذب ؟.

كانت الأيام تسير على هذه الوتيرة، لكأنني لا أريد أن أنسجم مع المتغيرات، لقد جلست في أرفع مقاهي العالم، ودخلت أرفع أماكنه، لكن كنت لا أرتاح إلا وأنا جالس في المقاهي الشعبية، مقاهي ساحة السراغنة التي تذكرني بمقاهي القاهرة في روايات نجيب محفوظ، كنت أجدني فيها أضحك ملء صوتي، أتابع بعيوني النساء الجميلات، كل النساء جميلات، حين نبصرهن بعين المحبة، ثم أنطلق من هذه المقاهي متوغلا في درب الأحباس حيث تتربع المكتبات. أتجول قليلا بينها، لآخذ تاكسي كبير، ينقلني إلى وسط المدينة، ومنها مباشرة إلى حارة الكتب القديمة، هذه المرة فعلت نفس الأمر. كان الظلام قد بدأ يسدل أستاره. وصلت متأخرا بعض الشيء عن عادتي. وجدت الحارة غارقة في الألم، كانت أصوات النسوة وهن غارقات في البكاء تملأ الفضاء، سألت بعض المارة الذين كانوا متجمهرين هناك. كانت هناك جنازة امرأة قد ماتت للتو، المسكينة قد حان أجلها، وتركت خلفها صبية صغار يبكون.دخلت أحد المكتبات الشعبية المتواجدة هناك، سلمت على بائع الكتب وتحدثنا قليلا، أخبرني أنه على وشك الإغلاق، خصوصا بعد هذا الحادث الأليم، لكنه بعد أن رآني تمهل قليلا، ثم بدأ في الحديث عن الواقعة. المسكينة كانت تعاني من مرض القلب، كانت الأزمات القلبية تتابعت عليها في الأيام الأخيرة بكثرة، ثم فجأة وكأنه تذكر شيئا هاما، إذ نظر بعيدا ثم قال لي والدموع تكاد تتسرب من عينيه، أتعرف ذلك الكاتب الذي كان يزورنا باستمرار، الرجل ذو الطول الفارع، الذي غالبا ما كنت تراه جالسا عندنا يتصفح بعض الكتب. سألته بعد أن تراءت لي ملامح الرجل عنه ؟ فأخبرني بأنه مات محترقا، سأله بأسى، كيف وقع ذلك؟ قال لي الكاتب كان مثلك شغوفا بالكتب، بل يبدو لي أنه كان شغوفا بها أكثر منك، فهو لا يرتدي ملابس أنيقة مثلك. كان كل همه هو أن يشتري الكتب من عندنا، ويعكف على قراءتها. حتى وهو يجلس عندنا كان الكتاب لم يفارق يديه، وكان من عادته أن يقرأ ليلا على ضوء الشمعة، كانت الشمعة، كما كان يقول لنا تمنحه الإحساس بالجو الشاعري، الضوء خفيف يتراقص أمام ناظريه، والحروف تبدو في الكتاب الذي يكون مستغرقا في قراءته، وكأنها كائنات آتية من عالم آخر، كما كان ضوء الشمعة لا يضايق زوجته، التي تكون في الغالب مأخوذة بنومها العميق صحبة الأولاد، قضى سنينا طويلة على هذه الحال. لقد نصحته مرارا، صدقني، بأن يشتري فانوسا صغيرا، يستعمله في الليل متى يريد القراءة، كما نصحه جل أصدقائي من باعة الكتب القديمة هنا، ولكنه كان قد تآلف مع ضوء الشمعة. لقد تذكرت الآن، أنت تعرفه بالتأكيد. لقد سبق لي أن شاهدتكما تتجادلان حول إحدى الروايات، ربما لنجيب محفوظ، كنت تقول له بأنها رواية جميلة، وهو كان يقول لك بأنها لا تعدو أن تكون نسخة عربية من رواية أخرى لإميل زولا، كنت توضح له المسألة، وهو لا يريد أن يقتنع، أرأيت كم كان مثقفا، رحمة الله عليه، لقد مات الآن وهو في قبره، سألته من جديد كيف مات محترقا ؟ قال لي لقد نسي الشمعة مشتعلة، فسقطت بالقرب منه وهو نائم ،وشبت النار سريعا، فأحرقته قبل أن يستطيع الفرار، أنت تعرف طبعه. يبدو هادئا متأملا باستمرار، لعله قرأ كثيرا في تلك الليلة ولما غلبه النوم، نام عميقا، المسكين، لقد كان رجلا طيبا، حين سمعنا خبر موته من أحد أصدقائه، الذين يأتون إلى هنا كثيرا بحثا عن الكتب القديمة مثله، حزنا لموته بل إن الدمع قد انبثق من أعيننا جميعا. قلت له متأثرا بكلامه، ليرحمه الله، لقد كان إنسانا رائعا، رأيته مرة هنا يتحدث مع بعض الطلبة ناصحا إياهم بمتابعة دراساتهم بكل تفان ومسؤولية. نظرت إلى أحد الكتب التي كانت بالقرب مني، كان الكتاب يتحدث عن الجاحظ، اشتريته للتو، لم أناقش في ثمنه الذي كان يبدو مرتفعا بالقياس إلى الحالة الكئيبة التي أصبح عليها بعد تداول الأيدي الكثيرة له. تذكرت وأنا عائد إلى بيتي، قصة الجاحظ. لقد كان الجاحظ مغرما بالكتب .كان يكتري الحوانيت المخصصة لبيع الكتب مؤديا ثمن المبيت فيها ليلا، وبدل أن ينام يظل المسكين مستغرقا في قراءة الكتب الموجودة فيها، بل الأدهى من ذلك، كان إذا أعجبه أحد الكتب يبدأ في نسخه. كان يشتري شموعا كثيرة، حتى لا تنقضي، وهو لم يتمم الكتاب بعد، في القراءة أو النسخ. ذات مرة، بعد أن هرم، أراد أن يأخذ كتابا كان معلقا في أعلى الحانوت، فما شعر إلا والكتب تسقط عليه، هوت الكتب بكل ثقلها على جسده الذي ظل يرتعد تحتها حتى مات. حين ركبت التاكسي الكبير متجها إلى بيتي لاحظت أن المرأة التي كانت تجلس بالقرب مني، قد أخرجت من جيبها كتابا صغير الحجم، وبدأت في تصفح أوراقه، ألقيت نظرة خاطفة على عنوانه، كان العنوان، كيف تتعلم الإنجليزية في خمسة أيام وبدون معلم، ابتسمت، لاحظت هي ابتسامتي، فقالت لي، بأن تعلم الإنجليزية مهم في هذا الوقت، وبأنها تعشق الكتب كثيرا، ثم وجهت لي اتهاما كبيرا، يبدو أنك لا تحب الكتب، أنت لا تقرأ. لحظتها تذكرت شابا كان يقطن في الدرب، كان هو المثقف رقم واحد فيه آنذاك. قال لنا ذات مرة مزهوا بذاته، لقد قرأت كثيرا، حتى حصلت على الباكالوريا، و حين حصلت عليها، أخذت كل كتبي ورميت بها في البحر، اقرؤوا الآن كثيرا، لكن حين تحصلون على الباكالوريا ارموا الكتب مثلي في البحر، لكنني للأسف، يا صديقتي الطيبة، لم أفعل بنصيحة هذا الشاب الرائع، لم أرم بكتبي إلى البحر، بالرغم من أنني حين أفتح نافذة بيتي، الآن تتراءى لي أمواجه قريبة جدا مني..... 

كيف يمكن لي أن أرمي بمدينة الخيال إلى البحر؟ كتبي هي مدينة خيالي)

التفت نحونا هشام بن عيسى ضاحكا، ثم قال لنا، الحمد لله، لقد انتهى عصر الكتب، وجاء عصر الانترنت.انتهينا من القراءة تحت ضوء الشمعة المتراقص، وبدأنا نقرأ مباشرة ما تقدمه لنا شاشة الكمبيوتر.القصة التي حكيتها لكم الآن قرأتها أمس في أحد المواقع الثقافية الشهيرة، وهي لكاتب مغربي اسمه نور الدين محقق.

 

 

 

لبــن العصفــورة

 

نام نوما عميقا. رأى خلاله هذه القصة التي حكاها لنا، وهو يتمايل ضحكا كأنه يسخر منـا. أكد مرة أخرى أنها ليست حقيقية. إنها محض خيال تراءى لنائم في نومه. قال والعهدة عليه:

 

[ يقول المثل: الصيف ضيعت اللبن. لكني لست أنا الذي ضيعه هذه المرة، إنها عصفورتي الصغيرة. تلك الفتاة الرائعة الجمال. ذات التاسعة عشر ربيعا، الآن هي في حدود السابعة والعشرين. امرأة ناضجة. ذات جمال يجذب إليه الحجر الصلد، ولربما بسبب هذا الجمال الخارق للعادة لم تجد بعد الزوج الذي يحتمل سحره، فظلت وحيدة، أو أنها قد وجدته، لكنه لم يرض غرور هذا الجمال فظلت كأنها غير متزوجة إلا بذاتها. نوع من النرجسية إذن يمتلك إحساسها ويطفو على صفحات وجهها المضيء، هي لم تقل لي هذه الأشياء وإنما أنا الذي حدستها انطلاقا من معرفتي بها، وهي معرفة أعتقد أنها كافية بالنسبة لي لأجلو خباياها، حتى وإن لم أطرح عليها لحد الآن أي سؤال يتعلق بحياتها الخاصة. فأنا يكفيني منها أنها تحبني ويكفيها مني أنني أحبها، أما ما عدا ذلك فباطل الأباطيل كما يقال. هكذا إذن استمرت علاقتي بها صاخبة حينا وهادئة حينا آخر، كانت مولعة بالقصص وهو ما زاد من تعلقي بها، كانت رغم إتقانها الشديد للغات العصر: الإنجليزية والفرنسية والأسبانية تحب لغة العرب، تحب أن تتحدث بها خصوصا معي، أنا العارف بأسرارها وبالدر الكامن فيها. استفدت منها كثيرا وأجزم أنها استفادت مني أكثر. كانت كلما جمعني بها مجلس، تحدثني عن طفولتها الجميلة وعن علاقاتها الباذخة بإخوتها وبأبيها وأمها، وتكرر مرارا أنها لم تندم على أي عمل قامت به في السابق، وهو تقمص جميل لما عبرت عنه إديف بياف في كتابها الشهير "لست نادمة على شيء" المستوحى عنوانه من أغنيتها الذائعة الصيت الحاملة لنفس الاسم، كما كانت أيضا، أقصد عصفورتي طبعا، تحدثني عن بعض الطرائف البديعة التي وقعت لها في حياتها، والتي ظلت عالقة بذاكرتها لطرافتها. ومن بين هذه الطرائف، طريفة اللبن الذي تحول إلى خمر، والتي سأحاول أن أنقلها إليك أيها القارئ كما حكيت لي تاركا لك حرية الحكم عليها.

 

قالت عصفورتي وهي تتخذ وضعا غير محتشم فوق سريرها الذهبي، وكأنها تقلد شهرزاد في تغنجها ودلالها بغية التأثير علي حتى لا أتركها لواحدة أخرى، خصوصا وهي تعلم أنني أنتمي لنوع الرجال "العشاقة الملالة" كما هو التعبير الشائع:"اسمع أيها الحبيب أطرف ما وقع لي من طرائف في حياتي، أنا العصفورة المغردة التي ما أن يراني أحد حتى يقع في شباك هواي، كنت حينما كان عمري في سن الورد، وعلى فكرة فأنا الآن وكما تراني وكما تكرر لي دائما ما زلت في هذا السن حتى وإن مرت ثلاث سنوات على عمر حكايتي هاته، مولعة باللبن. كان لونه أبيض ومذاقه الرائع يثيران شهيتي ويجعلاني في حالة استعداد هائل لشربه، خصوصا في الساعة العاشرة صباحا، كما كانت جدتي هي الأخرى مولعة به. لعلني إذن قد ورثت هذا الولع الشديد به عنها. هذا على الأقل ما استنتجته من تلاقي رغباتنا معا في شربه كلما تحدث أحد عن مزاياه أمامنا أو كلما صادف أن رأينا عقارب الساعة تعلن أن العاشرة صباحا قد زفت، خصوصا بعد أن انتبه إلى هذا التلاقي كل من أمي وإخوتي، حتى أبي قد أشار إلى الأمر ذات صباح، حينما رآنا ننتظر بفارغ الصبر مرور بائع اللبن بالقرب من منزلنا، وهو على فكرة بائع لبن جذاب، كانت تثيرني نظراته العاشقة إلي، صدقني أيها الحبيب، هذا هو الواقع، إني لا أريد ولا أسعى إلى إثارة غيرتك بقولي هذا، ولكن هذا هو الواقع، إني أحكي لك هذه الأشياء وأنا أتوخى كامل الصدق في حكايتها، فأنت كما تعلم أنني أمقت الكذب، ولربما بسبب مقتي هذا الكذب ظللت عزباء، أي بدون زواج أقصد، لفترة طويلة، وحتى حين تزوجت لم أكذب على زوجي مطلقا، ولهذا السبب أيضا افترقت عنه، رغم أنني مازلت مرتبطة به، إنني أكاد في هذا الصدد أشبه إيما بطلة رواية "مدام بوفاري" تماما، هل سبق لك أن قرأت هذه الرواية ؟ إنها للكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، آه لقد نسيت أنك متخصص في اللغة العربية، على أي يجب أن تقرأها ولو مترجمة. فهي رائعة، كان بائع اللبن، كما قلت، معجبا بي، يتبعني بنظراته كلما اشتريت لبنا منه، بل في كثير من الأحيان، كان يضاعف لي اللبن المطلوب من أجل لفت انتباهي إليه، بطبيعة الحال، فهو لم يكن يتمنى مني شيئا، فأين هو مني ؟ ولكنه كان يريدني فقط أن أتفضل بالحديث معه أو إرسال بسمة في وجهه، يظل يحلم بها طول العمر، لكني لم أرد منحه ذلك، حتى لا أزيد من عذابه، كنت آخذ اللبن مؤدية ثمنه وأنصرف، وهو الأمر الذي حز في نفسه، فانقطع عن المجيء إلى حينا، وهو ما سبب لي قلقا وسبب لجدتي ألما. القلق الذي أصابني كان مرده انقطاع اللبن عني، أنا التي لم أكن قد عودت نفسي بعد عن عدم شربه كلما حلت الساعة العاشرة، وحين لاحظ أخي الصغير ذلك، بدأ يسخر مني ويشيد ببائع اللبن الذي كان سببا في فطمي عن شرب اللبن. أما الألم الذي أصاب جدتي، فمرده إلى أمرين: الأول هو اشتياقها لطعم اللبن، خصوصا وأنها قد اعتادت على شربه طيلة سنين حياتها، وهي بحول الله وقوته، طويلة، والثاني كونها قد اعتقدت أن بائع اللبن قد انتحر عشقا، حينما لم أرد مبادلته الحديث، فالعشق يقتل حتى وإن لم يسع العاشق لشنق نفسه أو طعنها مباشرة، وهو ما تعتقد أنه وقع لبائع اللبن ذي القلب الأبيض، بياض اللبن الذي يبيعه.

 

هكذا مرت الأيام بنا، أنا وجدتي دون شرب اللبن، عصيبة، حتى كان يوم من أيام فصل الربيع، أحسست في هذا اليوم بشوق رهيب لشرب اللبن، لعلي كنت أتوحم، لست أدري، كل ما أدريه أنني قد مارست الجنس وأن فترة نزول دم الحيض قد تأخرت عن عادتها. لقد مارست الجنس مع زوجي بطبيعة الحال، إنني لم أرد أن أحدثك عن كيفية التقائي به وزواجي الذي تم سريعا، فهذه الأمور تركتها لحكاية أخرى، سيأتي وقتها لسردها عليك. المهم كان شوقي للبن شديدا بحيث لم أستطع كبته، فخرجت للبحث عنه دون جدوى. كان اليوم يوم أحد والدكاكين التي تبيعه في غالبيتها مغلقة، لكن مع امتداد عملية البحث، لاحظت أن هناك حانوتا صغيرا مفتوحا وما لفت انتباهي إليه ذلك التجمهر الكثيف للرجال أمامه، فاتخذت موضعي بينهم، لم يسبب لي هذا الأمر أي حرج خصوصا حين التحقت بي سيدة أخرى. لقد كنت أريد اللبن بأي ثمن، حتى ولو اتخذت الصف مع الرجال، على أي، لقد كانوا مهذبين معي، بالرغم من نظرة الاستغراب التي كانت تعلو وجوههم وهم ينظرون إلي تارة وإلى السيدة الأخرى تارة أخرى، لم أفهم سر هذا الاستغراب في بداية الأمر، لكن المفاجأة كانت كبيرة بالنسبة لي، إذ حين حل دوري، رأيت صاحب الحانوت يقدم لي شرابا من نوع آخر، شرابا ألوانه لا تمت للبياض بصلة، اعتذرت له عن سوء التفاهم هذا والحمرة تعلو بياض وجهي خجلا وارتباكا. لقد كان الحانوت خاصا ببيع الخمر لا اللبن. وحين التفت نحو السيدة لأشرح لها الأمر ابتسمت في وجهي وهي تأخذ عدتها من قنينات النوع الذي اختارته، وتبتعد عني في سرعة. آه، أيها الحبيب، كم كنت ساذجة حين اعتقدت أن هذا الجمع الغفير من الناس لا يمكن أن يجتمع إلا من أجل اللبن وحده وليس من أجل شراب آخر. أتصدقني يا حبيبي في ما قلته لك الآن ؟". لم أرد أن أجيب عصفورتي عن سؤالها هذا سواء بالإيجاب أو السلب، فما همني من هذه الحكاية الجميلة هو قوة الغرائبية فيها وطريقة حكايتها من لدنها، والوضع الذي اتخذته لدى قيامها بعملية الحكي. هكذا استعدت صورة شهرزاد في ذهني وأنا أنظر إليها، وهكذا سرني كثيرا أن أتقمص دور شهريار لبرهة من الزمن. لقد اختارت عصفورتي لحكايتها هاته عنوان "اللبن الذي تحول إلى شراب آخر" في حين فضلت أنا تسميتها ب:" لبن العصفورة " محققا تناصا بينها وبين المثل القائل:"أبعد من لبن العصفور" الذي يضرب في استحالة الحصول على الأشياء النفيسة، إذ كما هو معروف، لا لبن للعصفور، وهو ما تحقق في هذه الحكاية إذ ظلت عصفورتي بدون لبن، على الأقل، في ذلك اليوم الذي كانت تبحث عنه فيه بالريق الناشف كما يقال].

ابتسمنا كثيرا، كانت بالفعل قصة رائعة، لكنها قصة مبالغ في الكذب فيها. تجرأنا وأعلنا له أنه كذاب، ابتسم وأعاد قوله السابق، إنها قصة خيالية رآها نائم في نومه وكفى. ابتسمنا كثيرا، لقد كان اسمه بورخيس.

 

 

 

تبييض الألواح

 

كان الأطفال يتسابقون، وهم ينطلقون فرحين من باب المسيد.كانوا يصيحون، وأنا من بينهم أصيح بدوري.كنا ننشد في إيقاع صبياني روتيني :"طالب طالب يايو،أفرحات المومو ،أعطني بيضة،باش نبيض لوحتي،لوحتي عند الطالب ،والطالب في الجنة،والجنة محلولة،حللها مولانا...".كان كل واحد منا فرحا، مسرورا، لأنه قد أنهى حفظ السورة القرآنية التي كانت مكتوبة على لوحته بخط الفقيه، أو النعمسي، كما كنا نناديه في طفولتنا.و كان تبعا لذلك، على كل واحد منا أن يحضر ثلاث بيضات هي ثمن الحفظ المنجز بنجاح من لدننا.كانت العملية تسمى تبييض الألواح.مرت الأعوام سريعة، وأصبح الطفل فتى ثم أصبح الفتى شابا، ثم أصبح الشاب رجلا، ورغم ذلك بقيت هذه الذكريات عالقة بذهنه، وظلت اللوحة المحفوظة، ثم الممحوة تثير لذة التخييل عنده، وتدعوه في كل مرة لمحو ما يكتبه بعد حفظه. كانت كل تجاربه محصورة هنا في عملية تبييض الألواح، في حين كانت الصحف والإذاعات و كل قنوات الاتصال بمختلف مشاربها تتحدث من حين لآخر عن عمليات، ضبط أصحابها وهم يسعون لتبييض الأموال. ولقد كان الحلم مرافقا له في عملية كتابة اللوحة وقراءتها، ثم محوها ونشرها أمام أشعة الشمس لتجف، وتأخذ بعد ذلك نفس المسار التعليمي السابق.ذات حلم يحتاج إلى تأويل، رأى نفسه يجري أمام لوحات عديدة مكتوبة.كانت كل لوحة منها تمتد إلى ما لانهاية.كان الخط واضحا، وكانت الكلمات تتراقص مزهوة بذاتها.وقف أمام اللوحة الأولى، وبدأ القراءة. السطور تتماوج أمام ناظريه.كان يبتسم حينا، يقطب حينا آخر، يهز رأسه استحسانا، أو من أجل الإيحاء لنفسه بأنه كان يقرأ بالفعل.حين انتهى من قراءة اللوحة، رأى أمامه ممحاة كبيرة، رفعها وبدأ في عملية المحو.أبت الكلمات أن تمحى.أعاد قراءتها من جديد.كانت الكلمات تكون قصة قصيرة جدا، هي كالتالي:{ حين كان الطفل صغيرا، كانت جدته العجوز تردد على مسامعه صباح مساء مثلا مغربيا شائعا:"اللي دار راسو في النخالة، كينقبو الدجاج".ماتت الجدة، كبر الطفل و صار رجلا.كان في كثير من الأحيان يضع نفسه في مواقف لا تناسبه، ربما من سماحته، ربما من غفلته، مما سبب له آلاما عديدة.لم يكن يغضب، كان يداري آلامه بكبريائه المعهود، وينظر بعيدا في الأفق، فيظهر له وجه جدته ممتزجا بالغيوم.لحظتها يستعيد ذلك المثل، وتنطلق منه زفرة متحسرة:" لم لا نستحضر الأمثال دائما إلا بعد فوات الأوان؟}. بعد الانتهاء من قراءة هذه القصة، طاوعته الكلمات هاته المرة، فانمحت بشكل عادي، وهو يمرر الممحاة عليها.ترك اللوحة الأولى فارغة،وذهب مسرعا صوب اللوحة الثانية ،كانت في حجم سابقتها ،مكتوبة بنفس الخط.تحمل في ثناياها، هي الأخرى، قصة قصيرة جدا.قرأها هذه المرة ببطء.حاول أن يستخرج من أحشائها بعض ما تريد قوله، أوعلى الأقل ما تود الإشارة إليه.أعاد القراءة من جديد،فاستطاع الاحاطة بها.كانت القصة على هذه الشاكلة{ كان الفتى مؤمنا كثيرا بالمثل القائل "لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد"، كان يعمل باستمرار.لا يترك ساعة تمر عليه إلا و هو منشغل بقضاء عمل معين.مرت السنون سريعة.صار الفتى رجلا فشيخا هرما.وجد نفسه قد تحول إلى آلة شغل.لحظتها تذكر فيلم شارلي شابلن-الأزمنة الحديثة- فبكى من شدة غبائه}.حين قرأ هو هذه القصة القصيرة جدا ،لم يردأن يمحوها.لكن صوتا متعاليا انبثق من فوقه يأمره بالمحو.لابد من المحو وان طالت القراءة.اللوحة يجب أن تظل فارغة منتظرة دائما من يأتي ليكتب فيها. عليها أن تنتظر دائما من يأتي ليملأها بكلمات جديدة.نفذ

الأمر.صارت اللوحة ناصعة البياض،وأشعة الشمس الذهبية،كما كنا نكتب في درس الإنشاء، تحتويها من كل جوانبها.تذكرمن جديد مسألة البيض الذي كانت العائلة تقدمه للفقيه، عرفانا منها بعد انتهاء ابنها، الذي هوهو، من إتمام حفظ سورة من القرآن.ابتسم هذه المرة أيضا، وهو يستعيد الأنشودة المعروفة" طالب طالب يايو،أفرحات المومو ،أعطني بيضة،باش نبيض لوحتي،لوحتي عند الطالب،والطالب في الجنة،والجنة محلولة،حللها مولانا..".سارع بعد انتهاء توالي فيلم استرجاعا ته هاته، إلى اللوحة الثالثة. وجدها هي الأخرى تحتوي على قصة قصيرة جدا مثل اللوحتين السابقتين. بدأ القراءة هذه المرة، وقد بدأ الملل يتسرب إلى نفسه."القراءة، القراءة يا ولدي".هكذا كان أبوه دائما يردد على مسامعه.هكذا كان الأساتذة كلهم يرددون عليهم وهم صغار يدرسون أبجدية القراءة. لهذا حين كبر أصبحت القراءة عنده مرتبطة بأفعال الأمر.قرأ اللوحة الثالثة.القصة فيها أيضا تأتي على هذا المنوال:{أحب الفتى فتاة في مثل سنه أو تقل عنه قليلا.أحبها من بعيد.كان يتابعها بنظراته الولهى، وهي تمشي كحمامة بيكاسو، بيضاء اللون، شقراء الشعر، متعددة الدلالات.كانت هي الأخرى تبادل نظراته بنظرات يحس فيها بلوعة الحب و الرغبة المشتعلة.لم يرد أن يحرق المراحل، كما يقال في لغة الشباب، كان المثل القائل "الباذنجان يؤكل بالمهل"شعاره المفضل.لهذا ظل ينظر إليها، ولم يسع إلى مكالمتها أبدا، رغم إحساسه العميق بأنها كانت تسعى لذلك، بل ترغب فيه.ذات لحظة زمنية مفاجئة، صادفها تتأبط ذراع صديقه.أحس بالألم يسري في أوصاله.نظرت إليه،ونظر إليها.كانت نظراتها تحمل عتابا قويا إليه.كانت النظرات تقول له:" أنت السبب، لقد أخطأت الحساب.التفاحة قد أينعت وحان قطافها، وأنت ظللت تحاول أكل الباذنجان بعد أن يستوي على مهل.كله إذن الآن.هنيئا مريئا.".ترك هذه اللوحة بعد محو القصة التي كانت مبثوثة فيها، وهو يتقطر ألما على بطلها و فتاته الضائعة منه.تذكر هو المثل الذي يقول:"اضرب الحديد، ما حدو سخون".تذكر صديقه الحداد الذي كان يقول له ساخرا:"كنت دائما أضرب الحديد وهو ساخن.ها أنت ترى انني حين كبرت صرت حدادا".

حين ذهب لرؤية اللوحة الرابعة لم يجدها.اختفت الألواح فجأة من أمكنتها.تلاشت في الضباب الذي كان يخيم على الجو.قال في نفسه: هذا يكفي."الثالثة شريعة النبي".

في الصباح، حين استيقظ متأخرا كعادته دائما حين يكون اليوم يوم عطلة، وجد بالقرب منه كتابين.أحدهما لخورخي بورخيس يحمل عنوان"كتاب الرمل" والآخر لأحمد بوزفور يحمل عنوان"صياد النعام".تذكر أن هناك علاقة جمعته بهذين الكاتبين.الأول قضى في مكتبته الكونية أياما من حياته، والثاني قد سبق، أن درسه الشعر الحديث في الكلية.نهض إلى مكتبته. أشعل حاسوبه، وبحث عن الموقع الثقافي الذي ينشر فيه كتاباته.دخل إلى خانته.نقل قصته هاته إليها.ضغط على زر النشر.رآها منشورة، بعد لحظة، صحبة صورته الضاحكة.تذكر أن هذه الصورة تجمع بينه وبين ممثل مغربي معروف، حين كانا معا في مدينة ورززات ذات أيام سينمائية نظمتها جمعية النقاد للسينما بالمغرب هناك.أطفأ الجهاز وسرح بعيدا.عادت الأنشودة الطفولية إليه.ردد في نفسه مطلعها الأول، تراءى له الكون الطفولي بأسره يرددها معه.........

أضيفت في 25/12/2005/ خاص القصة السورية / الكاتب

 

       

 

 

عائشة البحرية

            

 

كان عبد الرحيم معروفا بقدرته على اختراع الحكايات، والقيام بعملية سردها، لهذا كنا كلما اجتمعنا في رأس الدرب، نطلب منه واحدة منها. ذات مرة حكى لنا الحكاية التالية:

 ) أمي من وادي أم الربيع، من هذه المنطقة الأرضية الخصبة، حيث الربيع فصل دائم الحضور.لا فصل يأتي إلى هذه المنطقة سواه.من هنا ربما سمي النهر العظيم الذي يخترقها، بهذا الاسم الشاعري الجميل.هذا الاسم الذي سيطلقه سارد القصة،على شاعرة جميلة ،سيتعرف عليها في مستقبل الأيام. كنا صغارا نمشي إليه.، نتجه صوبه بعد أن ترجو أمنا إخوتها الكبار بأن يذهبوا بنا إليه، قصد تعلم السباحة، والترفيه عن أنفسنا، نحن أبناء المدن.أبناء المدن كانوا يبدون أمام هؤلاء البدو، وكأنهم كائنات هشة، آتية من عالم آخر، بقدر سحره بقدر هجانته.أتذكرانني كنت أبدو سعيدا، وأنا في طريقي إلى النهر ،بل كانت سعادتي تطغى عليّ إلى حدود تخلي عن ركوب الحمار، حاشاكم يا سادتي، و السير راجلا تحت ضربات الشمس القوية.كنت طفلا جريئا أو هكذا كان يبدو لي، إذ حين كنت أصل إلى النهر، أرتمي فيه دون خوف، مما كان يدفع أخوالي إلى اليقظة، وهم يرافقون تصرفاتي الصغيرة بعيونهم، إلى أن ضاقوا بها ذرعا، فقرروا تخويفي لا بالغرق كما أعيوا أنفسهم في المرات السابقة، بل بامرأة رائعة الجمال، لها وجه سماوي يشع نورا، إلا أن أقدامها كانت تشبه أقدام الجِمال، لاحظوا معي كيف جمع السارد بين الجمال (الحسن) و الجمال (جمع جمل) في جملة واحدة، كان اسم هذه المرأة هو عائشة، ولأنها ارتبطت بالمياه بشكل عام، لقبت بالبحرية.ليس هناك أية قرابة تربطها بالسندباد البحري.حكوا لي أنها تغرم كثيرا بالطفل الشجاع ،ذلك  الطفل الذي يحاول السباحة  بعيدا عن الآخرين.فما أن تراه وحيدا حتى تتجلى له عارية كما ولدتها أمها، أو زبطة بتعبيرهم الشخصي، فيسحر بجمالها و يتبعها فاغرا فمه كالمسحور إلى أعماق النهر، فيغرق.كان الطفل ،الذي هو أنا،يلاحظ كيفية حكايتهم لقصة عائشة البحرية،و كيف يتفننون في وصف أعضاء جسدها الرائع ،بل و كيف يستلذون بهذا الحكي،إلى حدود أن الطفل كان يشعر في قرارة نفسه أنهم يتمنون رؤيتها حتى ولو كان الموت من ورائها قادما إليهم.من هنا، فبدل أن يزعوا الرعب في نفسه، أغروه بعشقها والبحث عنها، فكان يخاطر بنفسه، والواد حامل، كما كانوا يقولون.تصوروا أن هذه الجملة(الود حامل/ النهر مندفع) لم يكن يدري معناها.كان يتضاحك صحبة أقرانه من إخوته وبني خؤولته، بكون النهر يحبل هو الآخر مثل المرأة تماما. ولأنه لم يجد هذه المرأة، أي عائشة البحرية، رغم مخاطرته متوغلا في ثنايا المياه، فقد ظل يعود من رحلاته إلى النهر باكيا، فحار أخواله في كيفية إرضائه، إلا أن الخال الأصغر، وعده في المرة القادمة بأن يوصله إلى بيتها.قال الطفل مرحا، أو تعرفه يا خالي، قال الخال مزهوا، نعم انه يوجد في الضفة الأخرى للنهر.ابتسم الطفل، وتذكر أنه كان يلاحظ مجموعة من الصيادين، يقطعون النهر بقاربهم الصغير، ويجلسون في الضفة الأخرى منه، يشربون و يضحكون، بل في كثير من الأحيان، كان يلاحظ أنهم يركبون معهم بعض النساء، اللواتي كثيرا ما رآهن يرقصن بتغنج يثير شهيته، وهو بعد صغير، إلى الارتماء في أحضانهن، وكان حين يسأل أحد أخواله عنهن، كان يجيبه بقوله، إنهن شيخات(راقصات شعبيات)، قد جاء بهن الصيادون من المدينة.فكان الطفل يتمايل ضحكا، هل الشيخات يوجدن في مدينتنا؟، فكان الخال يبتسم، الشيخات موجودات في كل المدن، أيها العفريت.ذات يوم قائظ أصر الطفل على نقله إلى ضفة النهر الأخرى.تمت تلبية طلبه.جاءت امرأة فاتنة رقصت أمامه كثيرا.قبلته كثيرا، حتى أيقظت الشهوة الكامنة في أعماق نفسه، وهي لم تستو بعد كاملة لصغر سنه.وكانت في غنجها و دلالها، تقول له، أنا عائشة البحرية أيها الطفل العفريت، ثم تتفل في ما بين صدرها، على ذكر اسم العفريت، مستعيذة بالله منه والخوف يملأ عينيها الجميلتين.إن ينس الطفل الذي أصبح رجلا جميع النساء، بما فيهن زوجته التي يتمنى ألا تقرأ هذه القصة، والا كان الله به، فلن ينس هذه المرأة.إذ كلما قرأ شيئا عن عائشة البحرية،أو كلما تحدث مع أحد عن أسطورتها إلا و حضرت صورة هذه المرأة ضاحكة، وهي تقول له: أنا عائشة، البحر من أمامي، والنهر من ورائي، وأنت أيها العفريت الصغير بين أحضاني.مرة وهو جالس وسط رجال البادية صحبة بعض الأطفال الصغار، بمناسبة زفاف إحدى بنات المنطقة على أحد شبانها، كاد العرس ينقلب إلى مأتم، فقد وجد العريس عروسه غير بكر، فقامت القيامة.هرع أهل العريس إلى عصيهم، وهرع أهل العروس إلى طلب السماح، ووعدوا العريس السيئ الحظ بتزويجه من البنت الصغرى، بعد اتمام إجراءات طلاقه من الكبرى، لكن في الغد وجدوا الكبرى مرمية في البئر.تم دفنها بعد تأكيد الطبيب عملية انتحارها، كما شهدت بعض النسوة بذلك.لكن الأدهى من ذلك أن حديثا سيتم تداوله فيما بعد، هو أن الفتاة قد ماتت وهي بكر.فقط اللعين لم تكن له دراية بالنساء، فبدل أن يولجه أماما أولجه خلفا،ليس إلا.المهم، فقد تزوج من الأخت الصغرى التي حرصت على إظهار عذريتها، ونجحت في ذلك.و ها هم الرجال فرحون، وها هو الطفل، الذي هو أنا، يستمع إلى جده يحكي للرجال إحدى مغامراته، التي تأكد الطفل بعد أن أصبح رجلا، بأن جده قد كان كاذبا فيها مئة في المئة.

 

كان الجد يتربع والصينية أمامه، وأهل النية مجتمعون حوله، على حد تعبير الأغنية الغيوانية الشهيرة التي يسمع الآن تموجات صوتها الحزين، والعربي باطما يصدح فيها صائحا:" فين لي جمعوا عليك أهل النية، واهي الصينية..".كانوا متحمسين لسماع الحكاية، كلهم تصديق لما سيقوله، سيد قبيلتهم، خصوصا وأنه كان قد حج سبع مرات.كان الجد يدرك بحدسه، رغبتهم تلك، لذا كان يتباطأ في الحكي، فصاح به حفيده قائلا:" هيا يا جدي، أريد سماع الحكاية".ابتسم الجد ضاحكا، وضحك الرجال معه، ثم سوى من عمامته، وبدأ في الحكي:" في يوم من الأيام، كنت عائدا إلى بيتي بعد رحلة صيد وفيرة.اصطدنا فيها كثيرا من الحجل.أنتم تعرفون يا رجال أن طلقة بندقيتي لا تخطئ.الحجلة مهما تعالت في السماء،أبصرها وحين أطلق، يكون الموت مصاحبا لطلقتي"هز الرجال رؤوسهم تصديقا لكلامه.لقد كان بالفعل قناصا كبيرا.شهدت هذا بأم عيني وأبيها أيضا.تابع حكيه والابتسامة على شفتيه:" لكن هناك حجلة مختلفة عن باقي الحجل، برزت في السماء.نظر الرجال إليها معجبين.لم يرد أحد منهم أن يصيدها، إما إعجابا أو خوفا. نظروا إليّ   متسائلين، فرفعت بندقتي، وأطلقت الرصاص.سقطت الحجلة بعيدا.لكن السلوقي لم يكن موجودا. "وقت الصيادة السلوقي يذهب للتغوط "، كما يقول المثل.فذهبت وحيدا أبحث عنها.ابتعدت عن الرجال.ومر الوقت سريعا.بدأت الظلمة تخيم على المكان.شعرت بالخوف، خصوصا وأنا وحدي، فتركت البحث، وعدت أتلمس طريقي.في الطريق، تراءى لي طيف امرأة.تحول الطيف إلى امرأة من لحم ودم.تقدمت نحوي مبتسمة .عانقتني، فاستسلمت لإغوائها.قدمت لي الحمارة - حاشكم- التي كانت بالقرب منها، لأركبها.لم أر الحمارة من قبل.أردت الركوب، فإذا بي أبصر قدمي المرأة.لقد كانا قدمي جمل.ارتجفت.قلت في نفسي، إنها هي، عايشة قنديشة. نظرت بعيدا.تراءى لي وجه النهر.آه لقد خرجت من مسكنها لتذهب بي إليه حيث تفترسني هناك.لم أرد أن أظهر لها أنني قد عرفتها.تمالكت نفسي، ركبت الحمارة، ودعوتها للركوب معي.فضلت أن تمشي بجواري. و بينما نحن نسير، غافلتها، وأخرجت المرآة، المرآة التي لم تكن تفارق جيبي، ووضعتها أمام وجهها.صرخت بقوة،وانطلقت هاربة نحو النهر.كانت تجري وهي تتحول من امرأة إلى جنية كريهة المنظر،ثم غطست في النهر.لحظة غطسها، سقطت أنا من فوق ظهر الحمارة، التي تحولت إلى دخان.نهضت، وتابعت طريقي، وأنا أقرأ سورا من القرآن.».أبدى الرجال إعجابهم بالقصة وببطلها الذي لم يكن سوى جدي.أحسست بالزهو أنا الآخر.قلت في نفسي،لابد لي أن أرى عائشة في يوم من الأيام،كما رآها جدي،لكني لن أفعل مثله.سأدعوها للرقص لي، وسأخفي كل مرايا العالم عنها.كبر الطفل الذي ليس هو أنا بالضرورة، وحين أراد الزواج، تصوروا معي، لم يجد فتاة رائعة الجمال في المعهد الذي كان يدرس به، سوى تلك التي ستصبح زوجته فيما بعد.أتعرفون ما هو اسمها؟ بالطبع تعرفون ذلك، والا فما جدوى الحكاية أصلا ؟.انه عائشة ! (أعجبتنا الحكاية، لهذا فقد وعدنا عبد الرحيم بإدخاله السينما يوم السبت القادم، على حسابنا.ابتسم فرحا، ووعدنا بمزيد من الحكايات الرائعة إذا نحن وفينا بوعدنا له. على هذا الحال انفض الجمع، وذهب كل واحد منا إلى حال سبيله.

 

 

 

الحمامة المطوقة

 

 

حدثني صديقي عبد الفتاح ذات ليلة حين راق له الحديث قائـلا:

كانت تمشي بتؤدة. لكنها حين كانت تمشي كانت القلوب كلها تمشي معها. فتاة من أروع ما رأت عيني في ذلك الوقت. رشيقة القوام، هادئة الطبع، زرقاء العينين. كانت كثيرا ما تبتسم لي حين ألاحظها تسير، كما تسير الحمامة المطوقة. كانت تسمى مليكة، وكانت مليكة بالفعل. كنا نحن الثلاثة من أشد المعجبين بها، محمد وسعيد وأنا. كان الأول يسميها أفروديت، وكان الثاني يطلق عليها فينوس وكنت أسميها بين نفسي وبيني وبين نفسي وبين جميع الذين يحيطون بي من أصدقاء باسم الموناليزا. وكانت تبدو في غاية السعادة حين كانت تسمعني أتلفظ به أمام الجميع. كانت تطلق لنفسها العنان في الضحك مزهوة أشد الزهو بنفسها وبتأثير جمالها علينا نحن أبناء ثانويتها، وعلي أنا بالذات باعتباري شاعرها الشهير. كنت في الغالب أترصدها باستمرار وكانت على علم بترصداتي المستمرة لها، ولكنها كانت تطلق الحبل تارة وتشده إليها تارة أخرى. كانت ترى فيَّ قوة إعلامية لها وكنت أرى فيها حبيبة مرجوة لي. تحدثت معها مرارا وأعلنت حبي بأكثر من صوت وبأكثر من إشارة ولكن دون أن أظفر بقبلة منها حتى، فابتعدت عنها. قررت بيني وبين نفسي ألا أعيرها اهتماما حتى تعترف بوجودي، وقررت هي كما تبدى لي أن تقوم بمعاندتي إلى ما لا نهاية. فكان أن افترقنا، ذهبت بعد حصولي على الباكالوريا إلى فرنسا. كنت سعيدا باختياري ضمن البعثة المدرسية لمتابعة دراستي هناك. اخترت شعبة السوسيولوجيا وانغمست فيها، كما انغمست في معانقة الغواني الفرنسيات وما سواهن. وبعد عودتي إلى بلدي إثر وفاة أبي المفاجئة وقراري المكوث فيها من جديد، عادت صور الحبيبات السابقات تخترق مخيلتي، وكانت صورة مليكة ضمنها، خصوصا وأنني لم أفارقها إلا اضطرارا لا اختيارا. سمعت أنها قد تسجلت في شعبة الأدب العربي وأنها ستبدأ سنتها الجديدة بها، فاستغربت للأمر. كنت أظن أنها ستختار شعبة الأدب الفرنسي خصوصا وأنها بشكلها الفيزيائي أقرب إليها. فهي على خلاف معظم فتيات مدرستنا، كانت تميل إلى اللباس الأوربي وتتفوق في اختيار حاجياتها منه، كما أنها بعينيها الزرقاوين وبأنفها المنقاد نحو الأمام في سمو وكبرياء تتحدى أي أحد أن يستطيع أن يفرق بينها وبين أية فتاة أوربية جميلة. فاحترت في أمري وتراجعت عن التسجيل أنا الآخر في شعبة الأدب الفرنسي وكنت عازما على ذلك، خصوصا أنني قد أصبحت مولعا باللغة الفرنسية وبأهلها بعد قضائي سنة بين أحضانهم، وذهبت للتسجيل في شعبة الأدب العربي لأظل بالقرب منها. هكذا بدأت علاقتي بها وهكذا امتدت نحو عوالم جديدة سواء علي أو عليها. تعلقت بها وتعلقت بي وأصبحت ليوناردو دافنتشي في حين ظلت هي الموناليزا، إلا أن حدث ما يحدث للعشاق من نوعيتنا. فقد تقدم لخطبتها رجل في حوالي الأربعين من العمر، يشتغل كمهندس معماري، ويمتلك فيللا جميلة، ظننت أنها في بداية الأمر حين حكت لي ذلك أنها فقط تريد الاستهزاء مني لبعض الوقت، وأنها لا تريد سوى إثارة غيرتي ليس إلا، وأنها تموت في حبا وغراما. ولكن الأيام سرعان ما خيبت ظنوني، وأكدت صدق أقوالها، فقد أعلنت خطبتها رسميا، وحملت خاتم الخطوبة كدليل قوي عليها. وبدأت تبتعد عني شيئا فشيئا، لقد كانت من نوع الفتيات الملتزمات بقيم الحداثة لكن في بعدها الأخلاقي. إنها كانت تحبني فعلا، ولكنها كانت تحترم نفسها أيضا. فما أن أرغمت على قبول الخطبة، حتى قررت إعلان فراقها عني، وهكذا كان. ولكني بقيت وفيا لحبها، وظللت طول عمري، كلما رأيت موجة زرقاء في بحر ثائر، أتذكر جمال عينيها الزرقاوين، وأصيح مع عبد الحليم حافظ دون وعي مني حتى:

                   الموج الأزرق في عينيك          يناديني نحو الأعمق     

                وأنا ما عندي تجربة في         الحب و لا عندي زورق

نعم، لقد كنت أغرق بالفعل لساعات لا يعلم عددها إلا خالقي، وكنت حين أعود من غرفتي أذهب مسرعا إلى بيتي وأصعد مباشرة إلى غرفتي، مهما كانت المسافة التي تفصلني عنها، لأرى صورتها البهية، وهي تحتل أعلى الجدار، وابتسامتها الموناليزية تشير إلي من بعيد أن كل شيء قد انتهى ولا إمكانية لإعادته من جديد.

هكذا انتهت حكاية صديقي عبد الفتاح، وهي إحدى حكاياته التي يشطح فيها خياله كثيرا، لكنها على أي، تبقى حكاية جميلة ورائعة.

 

أضيفت في 19/06/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية