صورة
أُقعدتُ قبل موِته بسنتين، وبعد موته
بسنتين قرر الأولاد تغيير أثاث البيت، سمعتها تقول لأخيها:" لن تفتأ تتقلب على
سريره حتى تلحق به!" كانت نصف غاضبة وشبه حزينة."دعنا نبدل هذا الأثاث القديم
لعلها تنسى رائحته فيغادر انكسار الشوق أحداق عينيها، كم كانت تحبه!" سمعته
يضحك مجيباً:" ليتكن يا نساء هذا العصر تعرفن الحب كما كنا يفهمنه." تبسمت من
قوله.
شرعا يحملان قطع الأثاث خارجاً، لم
أعترض، تابعت القطعة تلو القطعة، من هنا حيث اركن إلى كرسيي المتحرك ودثاري يلف
قدميَ برقة نعجة. غرقت عميقاً في لجة أفكاري إلى أن أعادني صوت ابنتي قائلة:"
أمي، هل ترغبين بقاء هذه الصورة؟" قلت:" أية صورة؟ " أشارت بيدها إلى الحائط
وتابعت إصبعها حيث تشير:" هذه صورة أبي." ذهلت لحظات وأنا أنظر بدهشة إليها قلت
بصوت مرتجف:" من أين جاءت هذه الصورة؟ من علقها هنا؟ لم أرها من قبل؟"
وباستغراب شديد أجابا" أمي أنها هنا طوال الوقت!" أعدت نظري فرأيت صورة يحيطها
إطار خشبي قديم، تعلقت عيناي لحظات به إلى أن انتقلتا إلى وجهه وبقيتا عالقتين
حين لا أدري قدره. تلك النظرة تختزن في عينيه كل انتصاراته في حروبه معي، نظرة
أغتصب بها روحي وأفزعها ثم سجنها في قفص صدره حتى ضاقت بها أنفاسه فخنقته كما
خنقها، يداه المتشابكتين فوق حجره، كانتا ترفعان أصابعهما في وجهي كلما طلبت
حقاً أو تعثرت بمطلب، كفان تآزرتا لقمع كل رغباتي، وابتسامة صفراء كانت تهزأ
بعواطفي. كل ذلك لم يعد مهماً الآن ما يثير حيرتي كيف لم أرى هذه الصورة من
قبل. غريب كيف نتجاهل ما لا نرغب حتى يمحى من وجودنا، سمعت صوتي المرتجف يقول
لهما:" دعاها فإن لي معها حديثاً."
خرجا، وقبل أن يغلقا الباب همس لها:"
مسكينة كم أحبته، لا أذكر يوماً تشاجرت معه أو اختلفت!"
بعدها أفرغت كل قلبي في وجهه ، كيف وصلت
إليه لا أدري لكن يدي لطخت بقلم أسود عينيه وأغلقت فمه، أنزلته عن عرشي، عن
جدار غرفتي، نزعت الصورة، مزقتها إرباً، حملت الإطار المكسور، فتحت باب غرفتي
وسرت على قدمي، و بابتسامة انتصار قابلت عيون ولدي وفماهما الفاغرتين ، لم
يفهما يوماً أن وراء الخنوع المموه كره قاتل لا يشفه إلا الدمار.
أضيفت في 24/04/2007
/ خاص القصة السورية
شمس وقمر
انفجرت السيارة المفخخة وتطاولت ألسنة اللهب حتى وصلت عنان السماء، ارتفع الصراخ
من أمكنة غير مرئية، وتدافع الناس، بعضهم فراراً وبعضهم اندفاعاً لرؤية ما
يحدث.
لم يخرج من الدار لتحري ما حدث كما خرج الآخرون ، تمسك بستائر نافذته المهشمة
ونخزٌ في القلب كاد يرميه أرضاً، زوجه .. أخيه.. زوج أخيه.. خرجوا لبعض حاجات
المنزلين وبقي وحده مع أبناءه وأبناء شقيقه ينتظر عودتهم، لابد سلكوا الطريق
الوحيد الذي ظنوه آمناً. اليافعون الأربعة تسمروا في أماكنهم لحظة سماع
الانفجار ووجيب القلوب الشابة يتعالى.
لحظات صمت، ترقب، قلق ممزوج بالرعب ثم يقرع الباب بعنف، والقادم يحمل الأنباء
-أسرع.. قتلوا جميعا!
تهالك على فراشه. صوت صرخ أماه وآخر ولول وانتحب.
وانتهى كل شي، تمزقوا كما تمزق آخرون، ودفنوا كتلة واحدة من لحم منهوش ودم نفذ
على حافة الطريق.
يوم عاد من الدفن اتخذ قراره، سأرحل من هنا، لا أمن يمكن معه أن نحيا ولا سلام
نسعى فيه إلى أرزاقنا، لم أشلاء أفئدة أولاده وأولاد أخيه وبعضاً من أشلاء بيته
وكتابين قديمين ورثهما عن جده. سلك طريق الصحراء إلى البحر وهناك اشترى مركباً
وحين وقف على ظهره وقف منتصباً كسارية، ألقى نظرة الوداع على أرضه، ولم يبك،
أبحر عابراً بحر الظلمات والأمل يشرق على أفق فكره أنه هناك في أرض ما
سيقيم مملكة السلام.
من عمق المحيط هبت عاصفة، وزوبعة لولبية حملت المركب معها، غشيهم موج عظيم،
والأيدي اليانعة تمسكت بصواري المركب المتمزق، وحين رفعوا رؤوسهم من جديد
ذهلوا، فالعاصفة انتهت والبحر عاد هادئاً فضياً كما كان، لكن أي شيء آخر اختفى،
لا يابسة تلوح في الأفق ولا طير يحوم.
الخائفون الأربعة، ابنتاه وابنا أخيه يتحلقون حوله على أرض القارب الممزق
ويتساءلون أين سيستقر بهم الحال، وأين المكان الحلم، حين زغرد طائر في وجوههم
وقادهم بجناحيه نحو ما بدا جزيرة في البعيد، نحوها انطلقوا غير مدركين أنهم
ببساطة موجة غادروا عصرهم.
رسوا على أرضها، وبين التلال حفروا كهوفهم وبنوا من أغصان أشجارها مقاعد ومستراح
لأجسادهم.
-شمس لقمر وهدباء لأبي ذؤابة
هذا كان ما أوصاه قبيل وفاته، حينها استحثه ابن أخيه أبو ذؤابة على إكمال ما بدء
-والحكم عماه، لمن؟
-لأخيك شمس
رهبة الموت أسكتته، وعيناه وشتا بحقده
-استأثر بقمر واليوم بالحكم دوني فصبر جميل إلى حين
هذا ما
باح به صدره لنفسه، وفكره يراجع مكائده.
-ما ظنكِ بأبيكِ يا قمر وقد اسند الحكم لأخي وأنا بكره؟
-تلك شجرة محرمة عليك يا أبا ذؤابة فلا تخالفه
-ولمَ؟
-لأني حرام عليك
صمت. مدركاً حرمتها منذ أن خلقت وخلق، ودارى كرهاً لشرعة أبيها وما استطاع أن
يداري كره ولديها إذ بدءا يطوفان حول المدينة يزرعان البهجة أينما حلا.
تأبط عصاه وأنطلق يكمن بين الأكمة والأكمة وبرز لشمس يصدع رأسه ويبكي فوق جثته
مدعياً أن وحشاً غامضاً أطبق عليه دونه.
-تحت جناحي تلوذان، أرعاكما كما رعاني أباكما.
وبالحجة تلك اعتلى الحكم ، لم تنفع حجج قمر بالإرث لولديها ولم تفلح مساعي البكر
منهما فخشي على سلالته، ولزم بيته، ذلك لم يعطه الأمان على حياته إذ رصدت ابنة
ذؤابة تحركاته وجهزت بالسم طعامه.
واليوم إذ تبكيه قمر تخرج عن صمتها الحزين مذ قتلت شمسها وتسلم كتابيها
الموروثين لابنها الثاني
-استعد الحكم فقد ضل عمك وأبناؤه.
وتحتدم المعركة، قتال بالأيدي والعصي بين أولاد الأخوة، المستلب والسالب، الغادر
والمغدور. ويذبح الوريث كذبح النعاج وتقطع أوصال الصغار خوفاً أن يكبروا. وقمر
تلملم جثث الأبناء وتنعي في كلهم أباها.
قمر التي لم تكبر تدفن الصبي تلو الصبي والحبيب تلو الحبيب وأولاد أبي ذؤابة على
سيرة أبيهم يقتلون ويقتلون،
وحين ولد الصبي السابع ضمته قمر إلى صدرها وأخفته بين ثيابها، وما أعلنت وجوده
ولا احتفلت بمولده، لكن النجم نقل خبره وحين دس ابن أبي ذؤابة السم لوالده كان
يافعاً بعد.
تسللت قمر معه، حملته بعيداً نحو شاطئ حملها يوماً إلى جزيرة ظنها أباها أماناً،
شدت إليها مرساة مركب مخفي ظهر من جديد قرب شاطئها، ضمته إليها وودعته محملة
إياه كتباً ثلاث
-إليك إرث جدك
-أين المفر؟ وما ظنه نجاةً ماكان كما ظن
-ستدرك حينما تبحر بعيداً
ركب الموج وغاب في عرض بحره، وكأنما العاصفة ذاتها كانت في الانتظار إذ هبت،
والزوبعة ذاتها لفته في مركزها، كالجنين تكور في أحشاءها وحين استقرت وسكن
البحر من جديد وطأت قدماه الأرض وعرف أنه عاد إلى ذات اللحظة إلى ذات المكان
حيث كانت قمر في انتظاره.
أضيفت في 03/01/2006
/ خاص القصة السورية
أرواح
لم أنم. كنت أسمع أصوات تنفس قرب أذني طوال الليل وكأن أحداً ينام قربي. اقتربت
الجدران أكثر فأكثر مني حتى أحسست بها فوق صدري. اعتدلت فجأة في سريري وناديت
أختي وكنت في زيارة لها قائلة:
"سأعود إلى المنزل." أجابت صارخة في وجهي:
"في هذه الساعة؟ أنت مجنونة."
لكني أصررت.
كانت الشوارع شبه خالية، معتمة وباردة، وربما خطرة. وحالما فتحت باب منزلي
وثبت ياسمين إليّ أخذتها بين ذراعيّ هامسة: " صغيرتي، لقد افتقدتك." وضعت بعض
الطعام في طبقها لكنها تشممته وعادت إلى حضني، مالت برأسها على صدري وماءت.
كان المنزل دافئاً رغم عدم وجود نار في المدفأة. أخلدت إلى سريري. ونامت ياسمين
كعادتها تحت قدميّ.
سمعت صوتاً في الحلم يكرر:" اللهم بارك المنزل.."
أفزعني ذلك بالفعل.
قلت لأختي في اليوم التالي:" هناك روح في منزلي." أجابت " أنت مجنونة." قلت
هامسة." لكني لا أستطيع النوم في أي مكان آخر، أشعر بدفء تلك الروح، كما أن لها
رائحة عذبة جدا."
أضفت بعد دقيقة صمت :" أحب هذا المنزل كثيرا كي أتركه، لا يمكنني البقاء طويلاً
في أي مكان آخر."
أجابتني:" هذا بسبب ذكرياتك الجميلة لا تنسي أنك أمضيت أجمل سنوات عمرك فيه،
معه."
سنتان الآن مذ غادرني، لكني مازلت أشعر أنه هنا في كل مكان. فرشاة أسنانه ما زالت
هناك في الحمام، زجاجة عطره، نصف الفارغة، مازالت على قرب المغسلة. صدى
كلماته مازال مسموعاً.
أذكر حفل زفافه والمرة الأولى التي رأيت فيها الفتاة التي تزوجها. كانت شابة
وجميلة، شقراء الشعر ذات عينين خضراوين. رقص معها بفرح، كانت تشبه فراشة
بثوبها الأخضر الرقيق. وكنت قد اشتريت له باقة زنبق أبيض أعلم أنه يحبه، وأذكر
أني صعدت الدرجات القليلات إليه والمغطاة بسجادة حمراء، مقدمة الباقة له، رأيت
عينيه، عينيه اللتين عبدتهما سنوات تسع. نظر في عيني بشفقة. أعلم أنه أحبني
بصدق، لكن كان علينا أن نفترق. اتفقنا حول هذا الأمر، عليه أن يتزوج ،أما أنا
فسأسافر إلى الخارج لإكمال تعليمي، كنت أعتقد واثقة أني ما زلت صغيرة على
الزواج.
والآن، سأغادر خلال أسبوعين، فهل أستطيع؟
دعتني صديقتي لحفلة وداع رتبتها وقالت لي تلك الليلة:
" يجب أن تمضي الليلة معي فالوقت متأخر جداً على عودتك لمنزلك."
وافقت.
قبل عامين مضيا حضر معي حفلة مشابهة رقصنا معاً طوال الليل وبين ذراعيه كنت دوما
اشعر بالسلام والأمن.
همس في أذني :" أتمنى أن نستمر هكذا إلى الأبد." أجبته بحدة: "لكننا لا نستطيع،
تعرف هذا جيداً."
أجابني بغضب:" لا بد أنك مجنونة فأنا أعرف أنك تحبينني."
ضحكت قائلة :" نعم أحبك لكن هناك الكثير من الأشياء الأخرى أحب أن أنجزها في
حياتي. " وحاولت أن أشرح له :" أريد أن أتزوج وأرغب بتكوين أسرة ولكن ليس
الآن."
أجابني وقد غدا عصبياً" حسن، امضي لما تريدين، أفعلي كل ما ترغبين." ورغم عصبيته
ضمني بين ذراعيه .
أيقظتني صديقتي بعد ساعات قليلة قائلة " لماذا تصرخين هل ترين كابوساً؟"
قلت بين اليقظة والنوم:" آسفة، لا، إنه منزلي يناديني كي أعود."
نظرت إلي بغرابة وقالت :" هل أنت معتوهة كي تعودي إلى منزلك الآن؟ ساعات قليلة
وتشرق الشمس حينها يمكنك الذهاب!"
أجبت" لا ، لا يمكنني البقاء، يجب أن أعود الآن."
تلك الليلة أيضاً، كانت الجدران تتنفس في أذني، كان الصوت يناديني كي أعود.
وحين فتحت الباب قفزت ياسمين بين ذراعي وتمسحت بوجهي.
همست لها :"هيا إلى النوم صغيرتي"
اعتادت ياسمين النوم تحت قدميه واعتاد ملاطفتها، قال مرة:
"أتعلمين أنك وياسمين تتشاركان شيئاً." سألته " ما هو؟"
أجاب بمرح " حبي!"
أجلت رحلتي لعدة أيام، إلى أن أصبح من المستحيل البقاء لمدة أطول. أخذت ياسمين
إلى منزل صديقتي. وقلت لها
" أرجوك اعتني بها لا تدعيها تغادر المنزل."
سافرت واستأجرت بيتاً في مدينة غريبة. كانت الليلة الأولى صعبة جداً. المنزل كان
بارداً. وكنت أسمع صوت منزلي ينادي طوال الوقت، ليلا ونهاراً. فكرت، سأعتاد
منزلي الجديد، سأعتاد المدينة الجديدة كما أني سأحضر قطة صغيرة لتعيش معي.
بلا فائدة، فكل ليلة تصبح أشد قسوة من سابقتها. الجدران تطبق على صدري فلا أستطيع
التنفس، لم أعد قادرة على الاحتمال، لم أعد قادرة على النوم مطلقاً.
آمنت أن للمنازل أرواح بطريقة ما، أو على الأقل أن منزلي القديم يمتلك روحاً،
روحاً رقيقة جداً، لطيفة جداً، مازال يدعوني كل يوم للعودة، وياسمين
أيضاً ، حلمت بها تموء بحزن. حزمت أمتعتي من جديدي وعدت.
اتجهت مباشرة صوب منزل صديقتي. حين رأتني صرخت:
"غير معقول! لا، أنت بلا شك مجنونة."
سألتها فور دخولي :" أين ياسمين؟"
تغير وجهها، قالت " آسفة عزيزتي، قفزت ياسمين من الشرفة قبل يومي، أعتذر لهذا
لكني لم أتمكن من العثور عليها في أي مكان."
أسرعت نحو منزلي، وحالما فتحت الباب قفزت ياسمين إلى ذراعي. كنت متأكدة أني
سأجدها هنا، فهي مثلي تماماً، لا يمكنها العيش بعيداً عن هذا المنزل. فبالتأكيد
نحن نتشارك شيء ما.
نعم إنه حبه.
أضيفت في 22/11/2005 / خاص
القصة السورية
المرآة
كان الدرب ملتوياً وبارداً، تحسست جسدي فلم أجده لكن المرآة كانت في كفي رفعتها
ونظرت إلى وجهي الذي انعكس مشطوراً، سمعت خلفي صوت عويل، أسرعت الخطى، ارتطم
شيء كأنه باب يغلق، لاح على البعد منعطف منير فحثثت الخطى إليه كنت أسرع سيراً
مما اعتدت بهرني الضوء ، أغلقت عينيّ وتشبثت بمرآتي، صور ترددت قريبة مني عزفت
عنها رافضة قسوتها، أرجوحة تدفعها يدان قويتان أصرخ بهما أريد الارتفاع أكثر
تعود الأرجوحة إلى الخلف تلامس صدره أتنشق عطراً أحبسه في صدري أنفثه حين
ارتفاع الأرجوحة في الفضاء فيتلاشى وتتلاشى يداه ، تتباطأ الأرجوحة وتلمس قدماي
الأرض، أرفع المرآة تتراءى عينان واسعتان لطفلة تعرف ألم الافتقاد ورغبة
التحليق .
أحث السير أتجاوز المنعطف تبدو المدينة دافئة ومضاءة ، أعتلي منصة خشبية ، تمسك
بي يد قوية تقودني إلى الأمام ، صوت تصفيق قوي، تنطق اليد أسمعها تقول أنت
البطلة، عليك تأدية دورك بنجاح. لم أدر ما كان دوري ولكني فهمت أن ذاك صوت
المخرج.
ألبست ثياباً غريبة، بدوت غريبة، لكنها جميلة، ملونة ورقيقة، خشيت رفع المرآة
أمام وجهي خشيت أن أعرف أني أنا، تلك من تحمل وجهاً مشطوراّ يسكن المرآة.
امتطيت أرجوحة ، أكان دوري أن أعتليها؟ يدان قويتان تدفعانها إلى الأعلى، خفت،
تشبثت بحبالها وحين عادت لامست صدرّا، شممت عطراّ عرفته ، عطراّ أحبه، عرفت
أنها يداه هو وأن العطر عطره ذاته، غرقت في العطر ففقدت نفسي، كنت تلك الأخرى
في ثيابها ترقص وتغني، طبول السعادة تقرع والخشبة تردد الصدى، تنبت الأعشاب حول
كفي ملونة ندية ويداه تحيطان بي، وعطره يسكرني ، أنسى مرآتي وأراقص كل من حولي،
الدروب مشعة بالفرح والأرض تقفز سعيدة، أدعوه لقربي وعلى الأرجوحة نمضي معاّ،
تنساب نحو البحر تلقينا على الصخور، الأزرق المشتاق ينادي شمسه الخجلة يمد موجه
يدين مرفوعتين إليها ، تعلوان تناديها تدفعان أرجوحتها، ترفع شعرها الذهبي حول
رأسها، تتمطى وأصرخ ها نحن هناك ظلين في مركزها، أنت وأنا ، تقترب الشمس بوهج
حبها تنام على يديه وتغرق في صدره، يهدأ البحر ضاماّ إليه حبيبته. يغفو فتغرق
الدنيا في الظلام ، أخشى أن أغفو معه، أخشى إن نمت أن أستيقظ فأعرف أن البحر
والشمس كانا حلماّ، أخشى أن أعود إلى المرآة وأسكن الوجه المشطور، أسمع يداه
تضحكان ساخرتين من خوفي، أسأله أرجوك قل لي من أنا، طفلة الأرجوحة؟ امرأة
المرآة المشطورة؟ الشمس الغارقة في البحر؟ يجيبني صوته انظري في المرآة تعرفين،
أتردد ، أخاف إن نظرت العودة إليها تلك التي تخيفني عيناها، ويسألني من جديد
ألا تريدين الحقيقة ؟ أهز رأسي وأتشبث بيديه تدفعان أرجوحتي وأسمع صوتي: أكثر
إلى الأعلى، أضحك سعيدة، يقترب الجبل مني تقترب أشجار الغابة أغني مع السحاب
ويلمع البرق في قلبي يشحنني بقوة غريبة كأنما خلقت من جديد كأنما أحيا من جديد.
فجأة يصرخ المخرج: انتهى الدور عودي إلى الوراء. أرفض التصديق ، وأتابع، أعدو نحو
أرجوحتي أبحث عن يديه أتمسك بهما وأغب من صدره عطري.
يصرخ المخرج: قفي. ستحاكمين لكسرك قواعد الأداء، ما كان يجب أن تغرقي في الدور
عليك أداءه بنجاح فقط.
أشير لليدين أستصرخهما لم تتخليان عني مرتين لم تكسران أرجوحتي مرتين، أسمع صوت
يديه تقولان عودي إلى المرآة تعرفين، أخشى العودة إلى المرآة أخاف التجمد فيها،
أخاف انشطاري في عالمين صرخت لم ما دمت من عالم المرآة لم أدخلتني مسرحه، لم
علي العودة الآن.
رفعت المرآة رأيت نفسي فيها مشعة بصدق همجي ، أوقفت الأرجوحة قطعت حبالها كسرت
المرآة وصرخت:
ـ أنت مخرج فاشل.
حياة بهيّة
تتصبب عرقـاً .. تنحني علـى عصـا ممسحتـهـا ممتـلئـة بحمـل سـادس .. تنهـي تنظيـف
غرفـة المكتـب .. ترفـع وجههـا الأسمـر .. وتشـع فيـه عينـان شديدتا السواد ..
شـديدتـا البريـق كعينـي شحرور فـي غابـة عبقـة برائـحة الأرض . أ نهـت عملهـا
.. لملمت أدوات التنـظيف و جلست تستريـح .. تمسح حبـات العـرق عن جبينهـا ،
وتنتظـر زمـن العودة إلـى الـدار . عـدنان على طـريـق العـودة الآن بعـد يـوم
عمـل شـاق آخـر.. تـراه ، يسقـي أشجـار الشوارع الفسيحـة وحدائـق الطرقـات
يحمـل بيـديه القـويتين خرطـوم مـاء ويسـير بخطـوات محاذيـة لسيارتـه , بلبـاسه
الأصفـر البرتقـالي سيصل قبلهـا إلـى الـدار ..تـدرك تمـامـاً لحظـة وصولـه ..
لحظـة دخـولـه وتتابـع بروحهـا .. خطواتـه السريعـة .. سيحتضن أصغـر أطفـاله
مقبلاً . وسيداعـب رأس فتـاتـه الكبـرى مكبـراً فيهـا عنايتهـا بأخـواتهـا
وجـدتها المقعـدة ..سيقبـل يـد أمـه ويتلقـى دعـائهـا .. وربمـا يستمـع إلـى
شكواهـا أيضـاً .. بعـدهـا سيضـع عنـه ثيـاب العمـل ليرتـدي جلبابـاً ، قـدم
واهتــرأ لكنـه .. كـما تـراه .. يبـدو عليـه جميـلا ... شحـروراً أسمـر آخـر .
وتتمـنى لمس تلك الشعـيرات الكثـة المتدافعـة مـن فتحـة جلبابـه فتحمـر خجـلا
.. سيسارع بعـدها لإعـداد وجبـة للصغـار .. ربمـا تـكون اليـوم أيضـاً عدساً أو
بطاطـس .. وربمــا بعـض الخضـار إن استـطاع شرائهـا .. تتسـاءل …. ترى هـل
مـازال بحوزتـه بعضـاً مـن مـال ….وتتذكر أ نها في الصبـاح تقـاسمت معـه ما
تبـقى مـن أجـرهــا .. وتهمس لنفسها .. ما ألـذ العـود إلـى الـدار .
استقـلت حافلـة العـودة ، متثاقلـة بحملـها .. العـرق يتصبب مـن جبهتها وخديـها ،
فالشمس محرقـة .. وتأمـل أنه استـطاع ملء أوعيـة المـاء لتستحم مـن عنـاء
يـومها .. ربمـا بعد شهـور قريبـة .. عندما تتسلم ما ادخـرت مــع
زميـلا تها ، بالإضافة إلـى ما قـد يـكون تمـكن مـن توفـيره ..ربمـا حقـق إيصـال
أنابيب الميـاه إلـى الـدار وتمـديدهــا إلـى ركـن الاستحمـام والطهـي .. متعـب
شـراء المـاء ، ومتعـب إمـلاء أوعيتـة كـل يـوم والحـاجة متـزايـدة إليـه فـي
الصيـف للصـغار .. للعجـوز .. للـدار ولأشـياء كثيرة . . لكـن ذلك سيتحقـق ..
تعرف أنـه سيتحقـق فـعد نـان وعـدها وما اعـتاد أن يخــلف وعـوده.
يـوم تقـدم لهــا خاطـباً.. وكان جارهـا .. وعـدها بتشييـد غرفـة ثانيـة في
الحـوش الصغـير ، قـرب الغرفـة التي شيدها لزواجـه قبـل الخطوبـة .. في هـذا
الحـوش .. زرعـت بعـد الـزواج زهـورا"وعـريشة ياسميـن .. أينـعت الآن ،
وبقـربها .. قـرب عبـيرها كـانـا يتناولان أكـواب الشـاي بالنـعناع .. قبلت
خطـوبته ، لأن عينيه كـانتا تشعان بريقـاً أسوداً نقيـاً كعينيهـا .. بريـق
واعـد صدوق ألفتـه منـذ الصغـر قريبـاً مـن روحهـا ، دون أن تتمنـاه .. وعنـدما
طلبهـا للـزواج .. رأتـه مماثـلا لهــا .. فقيـراً وغنيـاً معـاً .. فقيـر
المحفظـة .. غنـي العينيـن .. قبلتـه وارتضـت مشاركتـه كفـاحـاًوعتـه سيكـون
طويلاً.
ابتسمت لنفسها متكـئـة برأسها المتـعب علـى زجـاج النافـذة .. الزفـاف كان أكثـر
من بسيط .. اصطحبها إلـى منزلـه إثـر عقـد القـران ، بين زغـاريـد الأهـل
والأخـوة .. بعـد الزفـاف .. تمنت الاحتـفاظ بثـوب الزفـاف الأبيـض الذي
استعارتـه من صديقـة لهـا كانت تـود الإبقـاء عليـه .. لكـن الأكثـر أهميـة أ
نهـا واتسعت ابتسامتها .. احتفظت بفرحتهـا
خطـوات قليلـة وتـصل د ارهـا .. تتسارع قـدمـاهـا متعجلتين رغمـاً عنهـا تعبـر
الحـوش الصغـير .. وتتنشق ملء صـدرها عبق الياسميـن .. يسرع الصغـار إليها ..
تسأل بلهفـة إن تناولـوا طـعامـهم رغـم يقينـهـا أن الجـواب موجـب فعـدنـان
يحـرص على إطـعامـهم قبـل وصـولها .. وحـده ينتظرهـا .. ابتسمت لـه .. احتضنهـا
بعينيـه .. بسطت المـفرش ، وتنـاوبت معـه ترتـيب الطـعام فـوق حصـيرة ملـونة
كأيـام عمـرهما .. العـدس كان لـذيذاً .. حامضـاً كما تحبـه .. وكما اعتــاد
دوماً أعـاد عليـها مفارقـات جـديدة صادفتـه خـلال تجـواله اليومـي .. فأضحكهـا
.. وكما اعتـادت دومـاً .. أعـادت عليه أحــــداث يـومها الشـاق الطـويل ..
خـفض عينـين يشـوبهما بعـض مـن تـفهم وألـم .. وبحـنان عفـوي أجـاب : لا بـأس
عليك ، أعلـم أنك مجهـدة .. الحمـل يتـعبك والعمل لا يـرحم .. ولا أعتـقد أن
أربـاب عمـلك يشعرون بجـهودك وتعبـك .. أتمنى لو أريحك .. أبذل ما أستطيع ..
شعرت بالأسف .. لم تكن تـود إيـلامه .. مـدت إليه يـداً متشققة .. لمست يـده ..
وبصوت يقارب الهمس ردت : ما قصدت إزعـاجـك قـد اعتـدت علـى العمـل كـما إننـي
أجـد بعض التسليـة فيـه .
يأتيـهما صـوت الأم المقعـدة .. فـترفع بـهيـة نفسها عـن الأرض بصعوبـة ..
تتـحامل على نفسها .. وتسرع إليـها .. فمـنذ شاركت العـجوز السكن مـعهم بـعد
عجـزها , وبـهيـة تـقوم على خـدمتها .. تنظـفها وتبـدل لها ثيـا بها وتطعمـها
.. تتحمل رغم ضـيق الـدار وأعـبائها مشاركـة العـجوز لحـياتهم .. لغرفـة
أولادهما الخمسـة أحـياناً تصبح العـجوز عصبيـة المـزاج , فتمـضي فـي مكايـدة
بـهيـة فتبـكي .. وعـدنان يشكرها دومـاً بعينـين مليئـتين بالمـودة والحنان ..
يحتـضنها بيـديه ويمسح دموعها مواسيـاً أن لا مفـر من تحمل العجـوز فـقد حملتـه
صغـيراً ولا ولـد لها سواه .. تتـفهم .. وتسكن بين ذراعيـه وتنسى .
مضت ساعـات النهـار .. تـمددت بـهيـة على الفـراش الإسفنـجي .. تـعب النـهار
أرهقـها .. جـالت بعينيها فوق جدران الغرفـة العاريـة .. سألتـه ألا تحـتاج
الجـدران إلـى طـلاء جـديد .. رسوم الصغار فوقـها .. ورسوم الغبـار .. وآثـار
دخـان المدفـأة .. مـد يـده إليها .. اقـتربـت منـه .. دست رأسها في صـدره ..
جـالت شفتاه فـوق وجـهها .. وعنـقها .. غمرها بشوقه إليها .. مرر أنـامله فـي
خـصلات شعـرها .. تراقصت رسوم الصـغار فـوق الجـدران وتلونت صـور فرحـة ..
والغـبار كان رذاذ عشـق ملون .. تشكل عيوناً صادقـة .. وابتسامات رضى.. ونشـوة
غلبت شقاء الـدار .. توردت الستائر المهترئـة .. والفراش كان غمامـة. . نبـض
الحـياة المتـوحد في قلبيهـما متوافـق ، متناغـم ، في خـفقات تسارعت .. نبض
منسجم الصـدى .. والـدار فسحـة من جنــة حدودها جسدهما الواحــــد .
توسدت ذراعــه .. متـوردة السمرة .. وقبـل أن تغفــو .. همست .. أتـدري ؟ سألتـني
زميلـة اليـوم إن كنت سعيدة .. ؟
قبـــل جبينـها وغمـغم .. ماذا أجبـت ……… ؟
أجبـت أنـي أتمنــى لكـل فتـاة حـالمـة بالـزواج حظــا" يمـاثـل حظــي
وعلــى ابتسامـة غـفت .. بانتــظار صباح جــديد ……
الموت اختيارا
يضج المسرح بالحركة وتصخب الأصوات، الإضاءة ركزت في أماكنها المتفق عليها،
واللوحات الخلفية أعدت بدقة، بعض الممثلين يراجعون أدوارهم بهدوء، المخرجة
الشابة توجه الأوامر هنا وهناك، شرفة أعدت في الجزء الخلفي لتظهر منها الممثلة
الأولى متكئة على سورها الرقيق تناجي حبيبها عازفاً ألحان هواه.
ـ التدريب الأخير الحفل الافتتاحي غداً ألا تدرك هذا، كأنك لم تتقن بعد ما عليك
قوله.
أجابها: الدور ليس مستحيلاً كلمات قليلة ليس إلا، لكنك تبدين متوترة اليوم.
أزعجها رده، اعتادت أن تكون مرحة مع ممثليها أثناء إدارة العمل، والمسرحية يؤديها
شباب من أصدقائها، فما بالها تعاملهم اليوم بهذه الحدة. تراجعت إلى مقاعد
المشاهدين وتناولت كأساً من الشاي لعلها تهدأ من عصبيتها، حاولت أن تتذكر سبباً
لانفعالها ، اعتادت أن تزيح الستائر حال استيقاظها وتقبل أوائل أشعة الشمس بحب،
لكنها هذا الصباح، أبقت الستائر مزدلة، وأسرعت تفتح جهاز الرائي قبل أن تفتح
عينيها، تذكرت أنها قبل أن تأوي لفراشها أمس سمعت خبراً على عجل، التقطت أواخر
كلماته، بينما كانت تعد عشاءها فلم تتمكن من التقاط الصورة كاملة، اعتادت هذه
الأخبار اليومية منذ شهور، فما بال هذا الخبر يمزق قلبها.الأحداث هناك، بعيدة
عنها، تفصلها الكثير من الحدود والجبال والسهول، كل يوم تشيع معهم وجهاً لا
تعرفه، جسداً ممدداً لا تستطيع تحديد معالمه، رجال اختاروا فعل الموت اختياراً
فأعطوه اسماً ولوناً مختلفاً، لم يعد نهاية بل شيء آخر. قفزت إلى ذهنها كلمات
رددت كثيراً مؤخراً، التحدث بلغة العالم، لغة تجمع الشعوب وتوحد مصالحها، من
قال هذه الكلمات لم تعد تذكر، العولمة تعني انفتاحنا على الحياة، تعني أن نتعلم
من العالم المتطور حولنا لغة الحوار الحر، ضحكت بمرارة، سألت بصوت عال تحدث
نفسها، نتعلم من العالم المتطور لغة الحوار الحر، فاجأها صوته يسأل، مابالك
تحدثين نفسك ما الذي نتعلمه؟ طريقة التمثيل؟ أجابته بسخرية، أجل فهم أبرع
الممثلين، يؤدون أدوارهم بقناعة كاملة، وبمنتهى البرود.
لمعت الأضواء في الزاوية المحددة تماماً، وظهر الشاب النحيل طويل القامة، فتىً لم
يبلغ مبالغ الرجال بعد، يدير ظهره إليها ويواجه الشرفة حيث تجلس حبيبته، ارتجف
قلبها، لو أنه أدار وجهه إليها، لو أنهم استطاعوا التقاط صورة لعينيه، صورة
لقسمات وجهه، لو أنها رأته جيداً، ويح قلب أمه، صرخت بالممثل: التفت إليّ، دع
الجمهور يرى وجهك، بهت الممثل الشاب، لكن الدور يا سيدتي.. وصمت عندما رآها
تغطي وجهها بكفيها وتجلس صامتة. سألت صديقها، أيمكن تأجيل العرض، قال لا، قالت:
فعلاً العرض مستمر متواصل كل يوم يؤدى بنجاح، وهناك تعقد جلسات المناقشة، أليست
تلك لغة العالم الحر، أرأيت أخبار الأمس؟ هز رأسه، ليس هناك جديد، الانتفاضة لم
تتوقف وأرجو ألا تفعل، لكني سئمت مشاهد الموت، قالت: ذاك الطفل، لم أتمكن من
رؤية وجهه كان ظهره يواجه آلة التصوير وصدره يقابل دبابة ومدفع، أجابها أرجوك
ركزي اليوم معنا العرض غداً والجمهور يرغب بمسرح ترفيهي يخفف عبء أيامه. أتعلم
ما كان اسمه. أجاب لا.
انتبهت قليلاً وصل الأداء أواخره جولييت ممددة والعاشق يتناول سمه ويختار موته،
ها هي لغة الحب تتحدث، حب يوحد الروح بما تهوى، فإما الحياة معاً أو الموت
معاً، فقط لو حمل بيده سلاحاً بدل زجاجة السم ومضى يواجه أعداءه أما كان انتصر
أو قتل، لو أن حبيبته كانت تقاتل قربه أو تمضي خلفه لتشيعه وتحمل بعده سلاحه،
أما كانت المسرحية أجمل، تذكرت فجأة حديثاً لرجل دين قال أن الثورة في إحدى تلك
الدول انتصرت يوم خرج مناصروها يحملون الورود وينادون بخلع الشاه، ترى أكانت
المدافع تصوب إليهم وهم ورود تلك الأرض.
وقفت بكل قامتها المتواضعة، وقد اتضحت المسرحية التي يجب أن تؤدى غداً بكل وضوح
قالت بكل هدوء :أعيدوا ترتيب الخشبة، سيحمل فارس حجراً، وسيكون بدل الشرفة
مدفع، جسده الصغير سيُحمل على يدي صديقته، التي ربما ستقتل بعدها ، أوقفوا هذه
المهزلة، فلا وقت للحب.
هرّة متوحشة
الـدنيا ظـلام .. اشتـد بريـق عينيهـا واتسعت حـدقتيهمـا .. تلمست طريقهـا في
العتمـة بسهولـة .. غادرت ركــنها الأليـف في الـغرفـة الوحيـدة الـتي تمتلـكها
واتجهـت مباشرة حيث مكمن الفر ائـس .. شوارع جانبيـة .. محطات ركوب.. حدائـق
عامـة .. مـن هـنا وهـناك تلتقـط رزقهـا .. وتشتم رائحـة الفريسـة الأسهـل
والأكثـر عطـاءً، تتجـه نحــوها بحـدس لايخطـىء ، وبابتسامـة أتقنتـهـا .. تصيب
هـدفها وتعـود مع أوائـل خيـوط الـفجـر ممتـلئـةًً بما سعت إليـه ، لتنـام
نومـاً عميقـاً حـتى المســــــــــاء .
أحـلام نـهارها تشبـه أحـلام اليقظـة . فبـين الصحـوة والغفـوة ، تتجسد لها كـل
يـوم ذكريات صـور بعيــــدة .. صورة أمهـا وهـي تغـادر ليـلاً هاربـةً مـع فـتى
مـن الحـي إثـر شجـار حـاد معتـاد مـع والـدها .. أصوا تها ا لمرتـفعـة ، وصوت
نحيبـه كانـا يشعرانـها أن والدهـا كان الأضعـف دومـاً في هـذه المشاجرات فتشفق
عليـه .. تلجـأ إلـى صـدره بطفـولتها الغضـة محاولـة مسح دموعـه ومـواساته لم
تكن قادرة بعد على استيعـاب مايحـدث حـولها ، وبـعد رحيل أمهـا أحست أ نهـا
بطريقـة مـا قـد حلت مكانهـا مسؤولـة عن قـدر أبيهـا وعـن إغـداق الحـنان عليـه
..تنـدس قربـه فـي السرير لتهـدئتـه مـن غضـب وحـزن ألـم بـه .. تضمـه إلى
قلبهـا بسنواتهـا التسـع العذبـة وتظـن أن واجبهـا التعـويـض بلـعب دور أمهـا
.. فينسى نفسـه في دوار حزنـه ، وغياب وعيـه بحـجاب خمـرة أوقفـت إدراكـه ..
يتجــاوز دور الوالـد ليلعـب دور الرجـل .. منتقمـاً من نفسـه .. من زوجتـه ..
ومن كون ابنتـه أنـثى ستـغدو مـع الأيـام غـادرة كـأمها .. وربمـا كـي ينسـى
نفسـه وواقـع التخـلي الـذي فرضتـه عليـه زوجتـه. . وفي الصبـاح يـلوم نفسـه
فيحاول أن يكـون حنونـاً ، يغـدق عليهـا المـال الـذي اعتبرتـه دومـاً ثـمناً
لدورهـا الــذي تلعبـه ، والـذي تقبلتـه راضيـةً كتـعويـض عن جمـوح أمـها وكأ
نها في ذا تهـا كانت تـظن نفسها طرفـاً فـي المأســــــــــــاة.
فـي ا لمدرسـة كانت د ائمـة الشرود .. د ائمـة التـحديـق عبـر النافـذة.
يوقــظهـا صـوت المـدرسة منبهــاً فتخفـض بصرهـا لتـرسم على الأوراق والكتب
صـور هـرة مجنحـة بـدأت تتـابعهـا منـذ رحيـل أمهـا فـي السحب السمائيـة ..
تتخـايـلها تأخـذ شكل أمهـا حينـاً وأشكالاً حيوانيـة مجنحـة تطاردهـا أحـياناً
أخـرى .. تـطارد السحب وتـود لو تـرحل معـها ، ترحـل هاربـة هي أيضـاً مـن شيء
مؤلـم تحسه دون أن تدركـه ، وتخـافـه دون أن تفهمـه ، وتخشى البـوح بـه ، فعلى
الرغـم مـن طـفولتـها وغيـاب وعيهـا تـدرك أنـه شيء لايبـاح بـه .. شيء فـي
داخـلها .. مساحـة بيضـاء لمـم تتلوث لـم تتشـوه .. طفـولة تجـاوزت الطفـولـة
فجـأة لكـنها بقيـت نـقيـة الـروح .
سنـوات أخـر .. ويـرحل الوالـد حسرة وخجـلاً .. لم يكـن قاد راً على إيقاف
جـريمتـه ولا باستطاعتـه الاستمرار بـعد فيهـا . رحـل مصـدر رزقـها وتبـاطـأت
صـورها المجنحـة .. تراجـعت دروسها أكـثر فأكـثر .. وفشلت فـي ا لمتـابعـة ..
تـركت مـدرستها بـعد الرسوب .. وبـقايـا الطـعام الـذي ترمـي بـه الجـيرة
إليهـا لمـم تـكن تكـفي و والألبسة المهترئـة لـم تـعد تستر جسدها .. لمـم
يلحـظ أحـد نحـولهـا ولا اصفرارها .. والليل يضغـط علـى أعصـابـها .. يعيـدهـا
إلـى ليـل أبيهـا ومايغـدقـه عليها صباحـاً خجـلاً مهمومـاً .. الليـل يعـذبـها
.. فتـخرج لتـلا قـيه حيـث السمـاء أكثـر رحـابـة ، وأشـد اتساعـاً..السحب
السمائيـة أكثـر انتشاراً.. تطاردهـا بعينيهـا وخيالهـا العـذب أصبـح أكـثر
جموحـاً .
فـي الطريـق الليـلي .. التـقتـه لأول مـرة .. رجـلاً يـقارب عمـر أبيهـا ..
يشبـه شكل أبيهـا ..أحست بالحنـين فاقتـربت منـه .. جلست قربـه على مقعـد فـي
الحـديقـة ، وبـبراءة وضعـت رأسها على كتفـه .. اصطحبهـا إلـى منـزلـه، وفي
الصباح نقـدها الثمـن وعـادت صامـتة إلـى غرفتـهـا .. إلى عزلـتها لتـنام
كالهـرة نـومـاً عميقــاً.. وعنـدما استيقظـت .. اشتـرت لنفسها ثوبـاً جـديداً
وطعامـاً .. والأهـم .. فـرشاة وألـواناً ، ترسـم علـى الأوراق هـررة مجنحـة..
تسكن السحب مـطاردة ومـطاردة .. وتحلـم بالرحيـل إلـى الأعلـى ، إلـى حيـث رحـل
أبـاها وربمـا أمهـا .. ببساطـة أ قـرب إلـى السذاجـة أصبـحت تلك مهنتـــــهـا
.
فـي السادسة عشـرة هـي الآن .. اعتـادت حيـاة الليـل وألفتهـا .. وكانـت كـل
ماتجيـد. لمـم تكن تبـالي بمـا تفعـل أو تفكـر بما تفعـل .. لم تكـن لتنظـر في
الوجـوه طويـلاً .. الوجوه لاتهمهـا .. تسعى وراء رجـل ينـاهز عمـر أبيهـا
لتعطيـه وتـأخـذ منـه ،وكـأ نها تسديـه معـروفـاً أو تعـيد إليـه هـدوءه ،
وترضـى عن نفسهـا ، وتـعود فجـراً لتنـام ذ اك النـــوم العميـــــق .
لمـم يثـر غـيابهـا اللـيلي أو النهـاري تسـاؤل أحـد .. لاالجيـرة اهتمـت ولا
المـدرسـة سألت .. مااعتـرى شك أي قلب ليسأل عـن حا لهـا .. أو ليحـاول
إرشادهـا إلـى عمـل يليـق بعمـرها وإنسانيتهـا .. لمـم تحـاول إمـرأة من النسوة
اللاتي عرفنهـا أن يفسرن لهـا أن طريقهـا ليس سديـداً .. أمـا هـي فـلم تكن
تـراه غيـر سديـد ، فهي لا تـعرف سـواه طريقـة للحيـاة .. قـدر رسم لهـا
ونـفذتـه باستسلام ورضـى .. فـي د اخـلهـا مـازالت طـفلـة تبحـث عـن صـدر
أبيهـا.. عن حمايـة أبيهـا وسلطـتـه .. وهـكـذا مضـت …
لمحتـه مـرة .. تسير خلفـه .. لمـم تتبيـن وجهـه .. على كتفيـه يتأرجـح معـطف مـع
الر يـح .. والزمـن شـتاء .. خيـل إليهـا أنـه هــر مجـنح مـن هـرر خيالاتهــا
المـــطاردة للسحب .. تبعتـه .. وعندمـا لا مست جانبـه التـفت إليهـا .. نظـرت
في عينيـه لأول مـرة ربمـا تحـدق فـي عينـين نـاظرتيـن إليهـا .. عيـناه فيهمـا
دهشــة وحنـو ابتسمت لــه ابتسامتـها الد اعيـة المتـقنـة . لبـى نـد اءها ..
ولأن الـريح كانت قـويـة .. خبـأها تحت جنـاح معطفـه , فظـنت أ نهـا تحـلق نحـو
السحب .. مـااعتـادت حنـان أحـد .. كان شابـاً لايشبـه أبـاها فـي شيء ..
أعطـاها مـن ذ اتـه شـيئا" غريبـا" عنهـا .. لامسهـا بحنـو لـم تأ لفـه ..
فكـان صعقـة فـي عـالمـم برودهــا .
أشـرقت الشمس .. وقـد نامـت ليلهـا .. فتـحت عينيهـا .. مـد لهـا يـداً بمـا
اعـتادت أخـذه ثمناً .. فأبعدتها..رفضـت لأول مـرة أن تتلقـى أجـراً عمـا أعطـت
.. لأ نها بكل بساطـة أحست أ نـهــا أخـذت كـما أعطـت .. شعـورا مزيجـا من
نشـوة وراحـة ورضـى رأتـه صـورة هاربـة مـن السحب .. والسحب تعـطي صـوراً بـلا
ثمـن.
عـادت إلـى ركنهـا الأليـف والشمس ساطعـة، لكـن الـبرد شديـد .. وعنـدمـا أوت
إلـى سريرهـا لـــم تـغف .. بقيت يقظــة بكل حـواسهــا ….
ليــلا.. عـادت لتجـوالها .. لصنعتهـا التي أتقنتهـا ورضـيت بها طريقـة للحيـاة
.مـازالت حـرة ، نـقيـة طريدة السحب .. أيـاما وليـال ، تركـن لغرفتهـا نهـارا
، تنـام أحيـانا، وتحـدق في الفضـاء أحيـانا أخـرى .. بـعض الليالـي تسمع صوتـه
فـي داخـلهـا , ينـاديها فتحـن إليـه .. تخـرج تتمسح أسـوار بيتـه، وتنتظـره
حـتى تلاقيه .. يبتسم لهـا تـلك الابتسامة الحانيـة ، ويدعوهـا إلـى دفـئ بيتـه
.. تـأوي إلـى ذراعيــه دون أن تشرح لـه حنينـهـا .. دون أن تفـسر شوقهـا ..
حـتى الحـب مـاأدركت معنـاه .. تـنام علـى زنـديه .. فيمسح رأسها مـردداً أنها
قطـته المتوحشـة .
السحب النهـاريـة بـاتـت تحمـل صورتـه .. اختـفت ا لهـررة منـها وحـده يتـوسط
السماء , ويفــــرش معطـفـه لحـافـا للأرض .. يلتـقيهـا دون أن يسألهـا العـودة
.. ودون أن تسألـه البقـاء .. وتـدرك فـي أعـماقـها أنهـا حين تـقودها
قـدمـاهـا إليـه , ستـجده في انتـظارهـا .. فهي لاتكلفـه ثمنـا ، ولا تحملـه
عبئـا ، متعـة مجانيـة لا تتــطلب منــه سعـيا أو حـتى سـؤالا أو مسؤوليـة ..
لـم يسأ لها حـتى مـن تكـون .. لـم يتـساءل عـن إنسانيتهـا المهـدورة
بخنـــــوع ودون اعتـراض أو حـتى إدراك .. لمـم يحـاول رغـم تعاليـه عـن
جنـوحـها أن يكـون إنسانـاً ، أو علـى الأقـل أن يماثــل دور إنســــــــان ….
والليلــة .. خرجـت إليـه .. حنينهــا .. يدفعـهـا نحـوه .. عبرت أزقتـه
المـألـوفـة , وتمسحت أسـوار بيـته كهـرة صغيـرة و تشـممت رائحتـه حجـراً
حجـراً .. غابت عنـه ليـا لـي .. لكنهـا عـادت تتـوق إلـى أحضانـه أدمنتــه
رضــى لـم تـأ لـفــه فـي غـيره .. قـرعت بابـه .. فتح لهـا .. مـن عينيـه
اختفـى الحنـو .. ورأت الصــدود .. اختفــى المعـطف عـن كتفيـه فـالـدار فـي
الــداخـل دافـئـةً .. قـــال لهـا بقسوة : ابتعـدي أيتهـا الهــــرة زوجـــتي
لا تهــوى الهــررة …
ابتعـدت عـن الـدار .. غادرتــه .. لم تفهــم .. عينـاها ارتـقتـا إلـى السحب.
تبحث عن رؤيــة ألفتهـا .. سمعت صوت بـوق وصـدمة هــزت رأسها بقــوة ربمــا كي
تستيقـظ مـن نـوم طـال سباتـه .. ربمـا لتـعـود حـــرة نـقيــة كـما كانت قبــل
أن تلقــاه ….
فـي الــدار .. سألت امــرأة عمـا حـدث .. أجا بهــا الهــر المجنـح بصوت رقــيق
: لاشيء .. لاشيء…هــــرة دهســت .
لعبة الخلق
ضغط العمل يزداد والمسؤليات تتعاظم.. أخذ منه التعب كل مأخذ.. أدرك أنه لم يعد
قادراً على القيام به وحده.. لابد من مساعد يحمل جزاً عنه ويكون له يداً
وعيناً. ينقل إليه أحوال العاملين وهمساتهم ويعاقب المقصر منهم والمخطئ .يكون
مثالاً له ونسخة عنه وإلا فكيف يثق به إن أدار ظهره.. ومن يشبهه؟ لا أحد أبدا..
هو النجاح والتصميم والدقة والانتباه والذكاء والأهم من كل ذلك أن لا أحد
يستطيع خداعه..بمكره يكتشف كل الدسائس ويقض على كل من يحدث نفسه بالوصول إلى
مقامه. فكر وتدبرواستعرض عشرات ممن يعرف. لم يعثر على ضالته.. قال في نفسه:
الأفضل أن تكون أنثى ويجب أن تكون على جمال فجمالها سيجعل الآخرين من الرجال
يسّرون إليها متوددين فتسيطر عليهم وأنوثتها ستجعلها تحت يدي إذ أتركها تغرق في
هواي ومن خلالها يسقط الآخرون تحت قدمي.
بهره ذكائه واستبد به شعور الزهو وكاد يعتقد لولا بقية من رواسب إيمان أسروي
موروث أنه يوازي رتبة إله..صحيح أنه لم يتم تعليمه ليس لفشل في تلافيف مخه بل
لعجز العلم عن تحقيق النجاح الذي يصبو إليه.. امتلاك قدره والتحكم بمصيره ومصير
من حوله وليحقق طموحه كان يجب أن يمتلك وسيلة الاستبداد
المال..
حقق نجاحه، توسعت أعماله واليوم أمسى بحاجة لميعن يحمل عنه عبئاً ولكي لا يشكل
عليه عبئا أو يكون له منافسا فيغدر به وليضمن الولاء التام يجب أن يكون أنثى
فمن من النساء يثق بها ويأمنها على انجازاته.
قرر صنعها بيديه لتكون الوحيدة التي يثق بها.. أّلف من الطين صلصال، اً سهر أياما
ينحت تفاصيلها ويشكل قوامها يضيف لمسة هنا وأخرى هناك..ويلون قسماتها بألوانه
المميزة.. أنجز التمثال ووقف يتأمله بشغف كبير.
خاطبها قائلاً: مني خلقت وعلى صورتي كونت ولي ولائك وخضوعك.. أدهشته قدرته على
إبداع جمالها ولأنه خالق هذا الجمال سجد أمامها حبا لذاته وانبهارا بقدرته..
أحاطها بذراعيه أطبق شفتيه على فمها وأعطاها من روحه.. تحركت حناياها أحست دفء
أنفاسها بأنفاسه.. عبت منها حتى كادت تستنزف هواء رئتيه.. وكانت كما أراد أنثى
حقيقية بعثت فيها الحياة. قال: تكونين لي هزت رأسها قال: تعملين لي هزت رأسها
أضاف: تخلصين لي علت ضحكتها ذات الأجراس والرنين ملئت المساحة المظلمة من نفسه
ضياءً فكاد يطير محلقا بصنعته.
كما أراد كان..أصبحت عينه التي يرى من خلالها ما يدور حوله ، تبصر الأحداث من
وجهة نظره وتنقلها إليه بتحليله وتفهمها على طريقته.
أصبحت يده ومخالبه التي ينهش بها من تسول له نفسه الاقتراب من ملكه، فتقتلع من
دائرة حياته من لا يوافق مزاجه. وأمست فكره الذي يدور في خلده فترسم له
خطواته.. تجتذب من يريد من نحل عامل تقدم لهم الرحيق لتمتصهم ومنها يمتص جنى
الشهد والعسل.
عشق ذاته فيها وكما كانت نفسه دائرة حياته أصبحت هي محور تلك الدائرة.
عشقها وذاب وجدا بها تماثل في الفكر والنفس والغاية أليست روحه التي تحيا بها؟
فترة من الزمن
قالت بدلال آسر : سيدي العمل يتعبك يداك ترتجفان أظافرك تبدو متكسرة دعني أقصها
لتقوى
قال وكيف أبعد أعدائي كيف أعمل بأصابع بلا أظافر والكل متكالب على ربحي وجهدي،
أجابت هاك أظافري أنهش بها لك من شئت. استسلم لنفسه في شخصها أراح كفه في يدها
مستشعرا لذة لا تقاوم، قصت أظافره السوداء الضعيفة فأسلم لها مهمة البطش بمن
تريد.
جرحت من تشاء وشوهت من تشاء وبيدها أبعدت من لا ترغب وشدت إليها من تريد. العمل
أصبح مطواعا لأمرها تديره كما تريد.
فترة أخرى من الزمن
قالت سيدي ، ذهنك متعب ومرهق نم فوق حجري، ولأنه يعلم ما في نفسه منها أسلم لها
رأسه وغفى على حجرها وترك لها مهنة التفكير. أغلقت أبواب عمل وفتحت أخرى وكل
يوم هي في نجاح جديد في الوجهة التي تريد، طرد من العاملين الكثير وأعيد تشغيل
القليل ممن يوافق هواها.
فترة ثالثة من الزمن
قالت سيدي عيناك منتفختان فخذ عيناي عوضا ، ولبلاغة كلماتها أغمض عينيه وترك لها
أن ترى وتنقل إليه ما تريد وتغض عما لا تريد. أخبار تتشوه وأخرى تؤلف وثالثة
تمحى من الوجود.
نجاحها أصبح صرحا ضخماً انتشر اسمها وغاب اسمه في الظلام.
سنون مضت تعب من استراحته واشتاق لأيام تعبه وجهده ، خلقه وإبداعه، تمطى ، فتح
عينيه فلم يبصر إلا ظلمة وليلاً، مد يديه تلمس أظافره، بدت أصابعه مدببة مقلوعة
الأظافر. حاول أن يتذكر أن يفكر كيف وصل إلى تلك الحال فاكتشف أنه فقد قدرة
الاستحضار والتفكر، وحين أدرك بعد فوات الوقت ما جرى ، زحف في الظلام ممتجهاً
حيث اعتاد أن يجدها، استند إلى مقعدها، وقف مترنحا... يباس في قدميه، يباس في
ظهره، تلمس أعضاءه هاله برودة الحجر فيه. حرك شفتيه صرخ بأعلى ما استطاع أين
أنت.. سمع رنين أجراس ضحكتها، صرخ أجيبي فأنا سيدك ومولاك الذي أقسمت له.
امتدت يد من العتمة قوية وقاهرة، وأظافر حادة يعرف فيها أظافره جرحت وجنتيه..
الدم يسيل على الطين اللازب محاولا الامسال بذاك الجسد.. ذاك التمثال الذي
نحته.. صوت انثوي يهمس في أذنيه هكذا أردتني مثلك تماما على صورتك أنا وفيّ
تحيا ، حقا أنت صنعتني ولكن ألا يكفر العبد بسيده ، اندفع نحو الصوت والغضب نار
تذيبه سيحطمها سيعيدها تمثالا حجريا طينا كما كانت ارتطم بحائط صلب ، تكسر
التمثال الذي آل إليه سقط أرضا شظايا لا تقوى على شيء
الروح
و الرقعة
فاجأني ظهورها، هَتفتْ باسمي كأنها تعرفني، دُهشتُ بل لعلي ذعرت، تساءلت عن
هويتها أجابت: هيا. صغيرة تتكور خوفاً، اهتزت أمومتي هلعاً وددت لو ضممتها،
احترت كيف أعرف ما بها، ضائعةً في عالم غائب، تصمت ثم تلهث بكلمات غريبة،
راودتني شكوكي، ربما اختطفت وتنصلت من خاطفيها والعالم يطفح الشر بعد أن أشبع
به، صمتت بعد أن أدخلتها غرفتي وأنمتها في سريري، قلبي يحضنها بلهفة وتعبها
يمنعني من تساؤلاتي الحائرة، هاتفت صديقي، صوتي المرتجف أشعره لهفتي للقاءه
فأسرع إليّ مضطرباً، أدخلته دائرة حيرتي، لابد من تحري حقيقتها، أيقظتها بعد
صبر، أخبرتني أنها غفت مرة ثم استيقظت واكتشفت أنها وحيدة، والأرض أشجار مزهرة
تحيط بها، تحن إلى أبيها ولا تعرف كيف تجده، تود عودتها إلى أحضانه، واستيقظ في
قلبي حبي القديم لأبي دمعت عيناي، لا تخافي يا صغيرتي سأجده حتماً، وعادت
للنوم. حدثت صديقي أن تعب سفر طويل أو رحلة عاثرة قد أنهكتها، رأيت في عينيه
شكوكاً حاولت تبديدها باندفاعي المعروف عني، لن أخبر أحداً سأتولى البحث عن
أبيها، إن باحت أو استطاعت تذكر اسمه، وكأني في ذاتي أبحث عن أبٍ فقدته منذ حين
والشوق إليه دافعي للبحث عن أبيها وتبديد وحدتها وخوفها الذي منه كنت أعاني،
رباه ساعدني، لابد أن الحكمة الإلهية تدرك أني لن أترك طفلة بين يدي قدر ساقها
إليّ واعياً حسن نيتي، والشكوك مازالت في عينيه، قال احترسي، لا أريد تهورك
المعتاد في أمور غامضة، ابتسمت أسعدني أني أحسست لهفته عليّ.
أيقظتها من جديد، حاورتها ساعية حقاً للبحث عن أبيها إن أحسنت تذكر اسمه، طرت
فرحاً حين أعطتني اسماً بدا مألوفاً، خرجت من فوري أبحث عن إشارة تصلني به،
قلبت دليل الهاتف وأخرجت عدة أرقام وبدأت الاتصال، واحداً بعد آخر وكلها لم
توصلني لدليل، عدت يائسة يحزنني أني ما استطعت بذل ما يكفي من جهد لإسعاد
صغيرتي، وحين استيقظت هتفت بلثغة الأطفال المحببة، أحبك، أحب رؤيتك هنا، يسعدني
أني وصلت إليك، كلمات حب أعادت تحفيز همتي واستثارت حناني ودموعي، وأنا أحبك يا
هيا، ساعديني، ألا تذكرين رقماً أو اسماً، مدرستك مثلاً، وقفز قلبي فالمدرسة
التي ذكرتها أعرفها كنت أدرس فيها يوماً، غادرت مسرعة أقصد المدرسة المذكورة،
الدهشة قابلتني في عيني القائمة عليها، فالمدرسة لطالبات الثانوية والإعدادية
منذ زمن طويل، عرفت أني في غمرة لهفتي نسيت أنها كذلك، عدت خائبة والشكوك
تراودني، ماذا لو أن شركاً ما قد نصب لي ماذا لو اتهمت بما لا أحب، سألتها مرة
أخرى عن مدة غيابها فأجابت قرابة العام، عام يا صغيرتي ولم تتعثري بمن يرشدك،
مرارة صبغت صوتي، تعبر عن عجزي وتوقي لإنقاذ الصغيرة، لإعادة السعادة لقلبها،
أيقظتها من جديد، صغيرتي تذكري رقماً ألم يكن لديكم هاتف قالت أبي أحضر هاتفاً
نقالاً، هتفت رائع، تذكرين أرقامه وبدأت تنقل إليّ أرقاماً مختلفة كل مرة،
وأتشبث بكل رقم تكتبه، أحاول مساعدتها فأعيد عليها الرقم من جديد لتكتشف خطأً
فيه فتصححه، والرد الهاتفي يجيبني أنه غير مخصص، الحيرة تأكلني، واللهفة تشحذ
همتي والبحث طال أياماً دون جدوى، سكنتني الكآبة والإلحاح على الصغيرة لم يعد
يجدي، أحسست باليأس، بالعجز أمام عالم غريب يلفني بغموضه يبدو مظلماً وشائكاً
دون علامات أو دليل يرشدني إلى الحقيقة، أيقظتها للمرة الرابعة أو الخامسة لا
أدري توسلت إليها أن تصدق بكلمة أو رقم يصلني بأبيها، فزادتني حيرة وضياعاً،
فجأة أحسست بدوار غريب، هتفت من كل قلبي، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف، اختفت
الصغيرة اهتزت الرقعة وتجمدت أصابعي فوق أحرفها، لهب من نار أشعل جسدي لفني
بحريقه ، والغثيان يوشك أن يستدرجني لقيء شديد، قذفت قطعة المعدن الصغيرة،
أحرقت الرقعة التي تحمل أحرفاً وأرقاماً ولذت بصدر صديقي أردد كلمات الاستعاذة
والبسملة.
بهلوان وحبل
اعتدت الرقص على الحبال.. توازنت طويلاً عليها.. ظننت حياتي ستنتهي على الطف
الآخر لحبل السيرك الذي أمارس دوري فيه.. خطوات مهتزة نحو الأمام.. نحو الخلف..
وقفات حائرة.. هكذا كانت حياتي قبل أن ألتقيك.. حفل سيرك صاخب ملون.. وأنا
راقصة على الحبال معلقة دوماً في الهواء بين الأرض والسماء.. فلا هويت محطمة
ولا امتلكت أجنحة تعيد إليّ مهارة التحليق آمنة إلى السماء.. يمارس من حولي
أدوارهم.. ويتجاهلونني..باستثناء لحظات قد يشدهم فيها وقوفي الحائر..بهلوان
زاهي الألوان.. ينزع قناعاً بعد آخر ريثما ألاقيهم.. ومن ثم يتابعون حياتهم
لاهين عني.
طال انتظاري وحبال عمري تتقطع أمامي حبلاً وراء آخر، وكلما تقطّع حبل استندت
إلى غيره محاولة الحفاظ على توازني.. أرتجف بانتظار السقوط الأخير أو ربما أحلم
بالسباحة في الأثير.
أرتدي قناع السعادة لكل زائر جديد ريثما أجتذب عينيه فيرفعهما إليّ لحظات..ألعب
دوراً حفظته جيداً..تمثيلية صامتة أخلع بعدها قناع الفرح كأي بهلوان وأخفي
بيديّ وجهي الحقيقي.. وجه الخنوع لنفسي.
التقيتك كما التقيت سواك.. مالكي ومسيّر الحفل البهي.. قدمني إليك تماماً كما
قدمت من قبل لغيرك.. تناولت يدي مصافحاً – تباركت يدي – فابتسم وجهي خلف
القناع.. اعتدت هزّ الآخرين لرؤوسهم مرحبين بالبهلوان الصغير فما بالك
تصافحني.. ألا ترى أن هذا كان جزءّ مضافاً لا داع له في حفل التقديم المألوف..
في تمثيلية صغيرة ألعب فيها دوري برضى.. بدأت دوراني ورقصي الهزلي أستحثك على
إنهاء الجولة سريعاً لكنك أطلت الحديث..أكثرت الأسئلة..بالغت بالاستفسار.. لم
يبهرك رقصي.. أدهشتك إجاباتي الراقصة.. وبمكر هادئ رصين بدأت تنزع أقنعتي..
قناعاً تلو قناع.. راقني أن تهتم وتستمع.. وجدتك متلذذاّ بسردي وقصصي.. ولا
أدري كيف استطعت نزع القناع الأخير، ووجدت صوتي يسرد عليك حكايتي.. وكنت أظن
أنني فقدته.. لكنني وجدته معك عالياً وقوياً متلهفاً لأداء تمثيلية ناطقة بعد
أن ملّ التمثيل الإيمائي.
فائقة الجمال.. فائقة العذوبة.. رقيقة النفس.. حالمة الميول.. هكذا كنت يوم بدأ
معي مشوار الارتباط الأبدي.. ما أملكه كان يستحق ثمناً باهظاً كما اقتنعت.. وتم
العقد ككل العقود.. لديه المال وامتلك الجمال، بدا العقد متوافقاً في الأخذ
والعطاء.. وكل حلمي كان ثوب زفاف لا ككل الثياب وزفة تليق بطموحي..وبيت يزيد
زينتي بهاّْ. خلعت ثوب العرس وانتهت زفة الأحلام والحفل الكبير وبدأت طبول
الوقائع قرعها المتصل.. تزفني كل يوم إلى أصدقاء الزوج الذين يقرعون باب
غرفتي.. وسيدي يتابع درب النجاح ثمناً.
ما بالك.. ترفع حاجبيك مندهشاً..ألا تعطي الحياة شيئاً مقابل أشياء؟ أقنعني
بمنطقية المقايضة.. نقايض على مستقبلنا معاً بفترة مرحلية لن تطول..منطقية لاقت
استحساناً في ذاتي.. لابدّ أننا نتفق في بعض الأمور.. وجدت في نفسي قدرة على
التمثيل فراقني الدور حتى ذبت فيه.. اعتدته وبدا لي مسلياً قاتلاً للرتابة
وموحياً بالهامات تتجدد كل يوم، شيء غريب كان يبعدني عنه فأرفضه هو.. من كان
شرعياً وواجباً..شيء في داخلي كان يتقزز.. يتكور..يبتعد..أكان استنكاراً لا
واعياً.. أكانت تلك طريقتي في معاقبته..أجعله يستشعر عجزه عن إرضائي..عجزه عن
امتلاكي فأطعن رجولته وثقته..ألا أزال أخفي بعضاً من حنين إلى زمن الطهر..
ربما.
أنجبت طفلاً.. لم تكن أمومتي له تعني لي الكثير فأنا لا أدري لأي أب
ينتمي..تسلية جديدة أضفت على حياتي لوناً آخر.. أتملى وجوه الأصدقاء – أصدقاء
زوجي ـ وأتساءل أيهم يشبه ولدي..أيهم يمكن أن يكون له أباً..تسلية أقضي على
متنها ساعات متأرجحة كالعادة على حبال الشك واليقين.
تشربت اهتمامك..أحببت إنصاتك وعينيك الممتلئتين دهشة كأنك تتابع عرضاً
مستحيلاً..رواية في مسرح اللامعقول.. وجدت صوتي معك..صوتي الذي نسيته منذ
سنين..فجدار الصمت كان يرتفع كل يوم في حياتي..جدار بارد يضيف حجرة منعزلة أخرى
إلى فسحات قلبي..وحده صوت الحبال كان مسموعاً.. أوتاراً مهتزة.. لعلها بالصمت
بدأت تتحول إلى مسنقة عالية الضجيج.
وأسمعك تردد محموماً.. أكملي..فأضيف تفاصيل جديدة..مزيداً من قصص صحاب زوجي..أم
صحابي..أم آباء طفلي اليتيم.. المتعدد الإنتماء..يلهبك سردي فتنهمر شلالاً من
نار وجمر يحرقني معك..ربما أحببتك..لكني على يقين أنني أحببت الاستماع لنفسي
معك..أحببت صوتي المكتشف، عشقت ذاتي المولودة منك..روعتي القديمة المستجدة في
عينيك توقاً لحديث أشتهيه فأهرع إليك كلما ناداني صوتك لأرتمي بين ذراعيك
وأغرقك بصوتي الذي كتمته زمناً وانطلق معك مارداً معبراً وطيراً يعشق التحليق.
أصبح البهلوان أميرة أسطورية والممثلة المحترفة بطلة لقصة حقيقية.. شوقي إليك
يرتفع فوق مدّ وجزر عمري.. قمراً يحكم موجي وتقلباتي ويحدد وحده آفاق فكري
واتجاهات أيامي..يتنزه وحيداً في ليلي ويعلن نفسه سيداً مطلقاً لعالم
الظلمة..ظلمة أغرقت نفسي في سراديبها فافترستني وطاويطها وابتلعت حنجرتي.
أنفاسك نفثت روحاً جديدة في جسدي.. ولادة جديدة..تخلقت منك وتجسدت بك بشرية
تنزع عن وجهها كل أقنعتها لتواجه السماء نادمة بعد أن تطهرت بحبك وتعمدت
بقبلاتك.
أهديتني كتاباً..وكنت روائياً ناشئاً..تحلم بالشهرة والمجد..فرحت به.. حملته
معي.. وانزويت أطالع كلماتك..مع السطور غرقت..وعلى السطح طفوت جثة حية..قصتي
سطّرت بقلمك حرفاً حرفاً..بوحي..ثقوب روحي..جنون أيامي..قسوتها..رقصي البهلواني
على حبال عمري..عشقي لجسدك وفكرك..تحول تحت أناملك قصة يطالعها الآخرون..مشاعري
القدسية التي طهرتني ..التي جعلتني أحاول قص الماضي من حياتي..ما كانت لك إلا
إلهاماً لقصة تحصد منها نجاحك..سقط قناعك كما سقطت من قبل أقنعتي..قناعك كان
ستراً لأنانيتك وترفعك عن ضعفي..وأقنعتي كانت ستراً لبشريتي ..لإنسانيتي.
ورأيت نفسي من جديد بهلواناً على حبل أمجادك..كما كنت من قبل راقصة على حبال
أمجاده.. لم تختلفا كثيراً.. من سخّر مني الجسد.. ومن استغل مني الروح.
مزقت كتابك..حبلاً آخر حول عنقي..تناولت حبلاً لففته جيداً حول عنق طفلي
وشددته.. حتى الموت..كتابك وطفلي لم يكونا ثماراً ناضجة.
واتجهت إلى السجن..هنا
لن أرتدي أي قناع.. لن أسجن فوق الحبال..لن أسجن بين دفتي كتاب..هنا سأكون حرة.
اللوحة
أنهيت تأثيث بيتي. اخترته بدقة.. حرصت على تزيينه بكل ما أحببت. شيء ما كان
ينقصني، تجولت أبحث العالم عنه، إلى أن فاجأتني، لوحة غاية في الروعة..أضاءت
الدنيا حولي إذ رأيتها تكمل جمال حجراتي وتظهر جمال أثاثه، تضيء زواياه وتبعث
فيه الحياة، أدركت أن لوحة واحدة فقط هي كل ما ينقصني، وأنها هي اللوحة ذاتها
ما احتاجه، أكدت لي خطوطها أنها عريقة الأصالة معبرة عن نفسي، وليقيني أن الفن
هو الحياة لا معنى لها دونه يعكس إبداع الخلق، يضاهي فتنة ألوان الوجود ويأسر
القلب بتكامله، دفعت ثمناً لها ما دفعت.
هي إذاً.. لوحة قديمة قدم الحياة.. ألوانها انبثاق النور الأول، تختلط خضرتها
بصفاء الأزرق ورقته.. وحمرتها نهاية الضياء الحتمية، وقفت أمامها منقطعة
الأنفاس مأسورة الفؤاد مسلوبة الإرادة، حملتها ككنز أثري أصيل وأسكنتها صدر
منزلي، انعكست عليها أضواءه والأنوار زادت بهاءً بها، فرحتي بها لا تضاهيها
فرحة امتلاك الخلود، وقفت فخورةً والأصدقاء يمرون مهنئين بالمنزل الفاخر
ويتوقفون أمامها معبرين عن إعجابهم، فاخرت أني دفعت لامتلاكها ثمناً باهظاً
لقناعتي أنها تساوي كل ما أملك، رصيدي وكل ما ادخرت، وتجاهلت نظرات السخرية في
بعض العيون وحاورت نفسي أن لا أحد يثمنها ما تستحق وأني وحدي من يعرف حقيقتها.
خذلتني، وحدها خذلتني، حين اطلع عليها صاحبها ومبدعها فأقر أنها صورة
منسوخة..مسخ ناقص لأصل ضائع، كيف دارت بي الأرض لا أدري، غامت صور العالم..
استحال ضباباً غائماً.. وكل ما ظننته حقيقياً صار كاذبا، جمال أثاثي تحول
قبحاً، وأظلمت الظلال من حولي، تقزمت وأرعبتني..لذت بغرفتي استشعر سخرية العالم
مني، من جهلي وغبائي، أصابع تشير إلي بشفقة وأخرى تتهمني بدت عيون من أعجبوا
باللوحة أمساً عيوناً هازئة، تظهر إعجاباً وتضمر سخريةً، لعلهم جميعا أدركوا من
قبل الحقيقة عداي، وحدي خدعت، وحدي بهرني جمالها فخلته يقيناً والكل أدرك زيفها
سواي،
أحدق في دقائقها لعلّي ألاحظ أين يكمن الخداع فيها فلا أجد إلا خطوطاً كانت
بالأمس فناً أصيلاً تحول اليوم ألواناً باهتةً تعبر فقط عن خديعتي.
ما استطعت حملها بعيداً عن صدر بيتي، رغم زيفها أمست جزءاً منه، يبدو الجدار
دونها فراغاً، تتمسك بقوائمه، تركتها هناك حيث لا لوحة أخرى تضاهيها وإن صدقت،
زيفها كان أروع من كل الحقائق، أصررت على بقاءها هناك حيث كانت، في صدر بيتي..
أو صدري..
اهتزت جدر البيت يوماً، تلاطمت قطع الأثاث.. تكسرت كل التحف.. وسقط الجدار
هرعت أحصي
خسائري.. وحدها اللوحة المزيفة سلمت.. لم يمسها سوء..حملتها بين يدي،، ضحكت من
كل قلبي.. وأنا أدور بها بين
الحطام، أصرخ هذه هي الحقيقة لن يبقى إلا ها.
|