السّاحِر
بدت عدسة المجهر قذرة، ولكن الخطوط والنقط الدقيقة جعلت تتشكل ببطء شديد على
البلورة الرقيقة. أثار انتباهي الشكل الهلامي الذي ظهر فجأة على مساحة الرؤية
فمسحت العدسة بمنديل ورقي، ولكن عنايتي الفائقة بالنظافة لم تمنع الشك الذي بدأ
ينمو بشكل شيطاني في داخل رأسي. كان الذي سيظهر لي تحت العدسة هو حتماً سلسلة
من الميكروبات، لا علاقة له بالشيء الذي بدأ يتشكل تدريجي، ولكنه، فيما ألصق
عيني بالمجهر من جديد، بات أكيداً أن الخطوط والنقط قد جعلت تتكامل في شكل رأس
بشري..
هل تعلمون ماذا حدث لي منذ أسبوع، وعلى وجه الدقة في الأول من الشهر القمري
الذي أصبح هلاله الآن أكثر وضوحاً من لحظة ولادته؟
هل تعلمون ما الذي حدث؟ لقد رأيتها مهشمة الرأس وكان الدم واضحاً على وجهها رغم
المسافة المديدة التي تفصلني عنها.
كانت على الرصيف المقابل وكنت أنتظر الإشارة الخضراء، وقفت هي متلملمة، ثوبها
كان بنفسجياً فاتحاً (واحداً من الألوان الثلاثة التي أحبها: الأسود والأبيض
والبنفسجي)، نحيلة ولكن صدرها كان ممتلئاً. هل تعلمون ماذا حدث تماماً؟
إذ ما زلت أذكر كل شيء: نظرت إليها وكانت تتطلع باستعلاء إلى شارة المرور،
وانتصبت أمام عيني فجأة صورة لا تنسى:
المرأة مهشمة الرأس والدم الأسود يغطي وجهها كأعشاب الملاعب المهملة. وعندما
أصبح الممر سالكاً تمتمت في سري "الحمد لله" ومضيت في طريقي فيما هي اتجهت نحوي
وعيناي تهللان بالفرح لخلاصها، ولكن سيارة مسرعة مرقت كالشهقة التي خرجت من
صدري وأنا أرى الفتاة التي كانت آ منة قبل لحظات معدودة فإذا بها تقتطع من
مكانها لتطير وتحط على الأرض كتلة متكومة، واختلط الموت بالضجة وفيما تجمع
المارة كالذرات الرطبة حول المصابة كنت أقف في مكاني كالمسمار.
بعد لحظات تبين أن المرأة قد ماتت لتوها، وتيقنت من ذلك عندما لمحت الدم يغطي
هشيم الرأس فانسحبت مذعوراً بينما اجتذب الموت جميع المارة. ماذا فعلت؟ أقسم
أني لم أضمر لها حقداً. قرأت في وقائع اليوم التالي خبراً مفاده أن رجلاً
حقوداً على الجنس البشري قد صدم صبية بسيارته فقتلها على الفور.
اجتذبتني العدسة من جديد، ولكني قاومت وقاومت حتى انتفخت عروق رقبتي، فتركت
مكاني إلى النافذة حيث وقفت هناك أنفث الدخان من خلال القضبان الحديدية
السوداء.
تذكرته بوضوح، تلك القضبان.. آه أيتها القضبان.
ماذا كان اسم الصبية؟ لا لا أريد أن أعيد سيرتها فهي شؤم. ماذا يضيرني في ذلك،
اسمها كان "آ. ب. ت"، هذا ما عرفته بعد المقلب الذي وقعت فيه دونما توقع أو حتى
استعداد مسبق. ساقتني قدماي نحو مركز الشرطة أتحرى عن واقعة الدهس التي أفرج عن
مسببها بعد ذلك بكفالة مالية لأن أحداً من أهلها أو معارفها لم يظهر على ساحة
التحقيق، وبالرغم من أن اسمها كان واضحاً في بطاقة الهوية، إلا أن الاتصالات لم
تسفر عن معرفة أحد من عائلة "آ. ب. ت" لذا عندما فاجأني الضابط بسؤاله:
-ما علاقتك بالقتيلة؟
تلعثمت فلم أجب، ونضح تبيني بالعرق البارد حين سأل عن هويتي فأخرجتها بهدوء
لأقدمها له باضطراب. فيما كان يتفحصني دهشته بعد قليل لكوني لا أمت بصلة إلى
المرأة، كنت أقول له:
-كنت ماراً في طريقي إلى المختبر.
ولكن عينيه لم تتركا لي مجالاً لوصف الحادثة، قال بصوت مبتور:
-ما علاقتك بالقتيلة؟
أصر الرجل على أن أوقف في سجنه الصغير ريثما يستكمل التحقيق ولكنني استجمعت
شجاعتي وصحت:
-هذا خرق للقانون.
فابتسم وجعلني أدخل الزنزانة صاغراً، فوجدتني بين ثلاثة رجال جثموا هناك في
الظلمة يدمدمون. حاولت أن أتكلم بصوت مسموع، ولكن يداً خشنة قبضت على ذراعي،
وهمست رائحة كريهة في أذني:
-لا تتكلم بصوت يسمعك فيه ضابطنا.
وتسللت إلى أذني الثانية لهجة مخنثة:
-ضربني البارحة لأني ضحكت. هيء. هيء. هيء.
بعد لحظات استقر الظلام في عيني فأبصرت المكان مشرباً بالخضرة الضاربة في كل
مساحة، والزوايا كانت لينة فأحسست الغثيان. قال الرجل الثالث بعد أن استدار إلي
وكان وجهه ملتصقاً بالحائط:
-ماذا سرقت؟
-لم أسرق شيئاً.
-أنت زان.
فلم أجب، آنذاك تبخرت الضحكات المكتومة بما فيها المؤنثة لتحيطني بجو من
السخرية لم أوجد به من قبل. رجل في الأربعين مثلي يحجز في زنزانة قذرة ويكون
مجالاً لسخرية أوباش ثلاثة؟
صحت منادياً على الضابط ولكنه أمعن في إهمالي فأوعز إلى مساعد سمين حشر رأسه
بين القضبان وقال كمدرب حيوانات:
-هس.. هس.. هس.. هس لا تصرخ، الرئيس يزعجه الصراخ.
لبثت صامتاً دقائق طويلة وممطوطة، كنت أعد أنفاسي، وكنت أستمع إلى لهاث أحد
الرجال يخرج من أنفه. كنا جميعاً صامتين ننظر إلى القضبان. بعد قليل همس الرجل
الثالث وكان قد أخذ مكانه بقربي:
-لم يقل لنا الأستاذ ما هي تهمته.
-سوء تفاهم.
فاختنقت ضحكة أفلتت من فم المخنث لجمها الخوف من الضابط وتابع الثالث
استجوابه:
-أنت تتقن الإجابة، ولكن لا يبدو عليك أنك محام.
-ومن قال لك؟
-وماذا يعمل الأستاذ؟
وجاء صوت المساعد كالمفرقعة ينهانا عن الكلام فسكتنا.
عضضت على شفتي والغيظ قد انتشر في أرجائي المتداعية، كان التعب قد استبد بي حتى
كرهت تلك المرأة ذات الثوب البنفسجي. جعلت أفكر بها من جديد. كانت ساقاها
نحيلتين وأنا أحب السيقان النحيلة، إنها أشبه بالأعمدة الدقيقة الصنع في معبد
جليل التكوين. ثدياها الملفوفان بالقماش الناعم كانا يحيطان بمنخفض واسع برزت
منه عظام الصدر. عندما حمدت الله على سلامتها كنت أشتهيها، رجل وحيد مثلي يحق
له أن يحلم بامرأة شهية. الركبتان آه الركبتان المنزلقتان لو أنهما ركعتا على
الأرض لركعت أنا وتقابلنا وجهاً لوجه، أنفاً لأنف، جبينا لجبين، فماً لفم،
ريقاً لريق. لو أنها استلقت لاستلقيت أيضاً...
استدعاني الضابط إلى مكتبه، وكان رقيقاً بشكل أثار شكوكي. جلست أمامه بتهذيب
بالغ ولم أرفض السيجارة التي قدمها لي، قال لي بأبوة كبيرة (رغم أني اكتشفت
مؤخراً أنه أصغر مني سناً):
-هيا وحدثنا عن الموضوع من أوله.
قلت منجذباً إلى وجهه السمح:
-كنت متجهاً إلى عملي..
-وماذا تعمل؟
-محضر فني في قسم الكيمياء.
-وما علاقة الفتاة بالكيمياء؟
فاستجبت للمزاح الذي أطلقته أسارير الضابط فهتفت بمرح:
-الإنسان يا سيدي معادلات معقدة لا يحلها سوى الكيمياء.
قال الرجل بجفاف مفاجئ:
-ثم ماذا حدث؟
-كنت أقف على الطرف الآخر فشاهدتها.
-ثم ماذا حدث؟
-شيء لا يصدق.
-ما الذي لا يصدق؟
-الشيء الذي حدث.
ثم راجعت نفسي فتوقفت عن الكلام، هل يصدقني مثل هذا الرجل؟ ثم أني لست مكرهاً
على الإدلاء بأية كلمة ما دمت لا أقف على أرض الاتهام. صاح الرجل وقد نفد
صبره:
-هل تحاول خداعي؟
نظرت إلى رأس القلم الثمين الذي جعل يدق به الطاولة من عقبه، وتمنيت من أعماقي
أن يخطئ فيدق الطاولة بالرأس الذهبية، وما هي إلا لحظة مرت على غضب الضابط حتى
انتفض كالملسوع وقد تطايرت ذرات الحبر وجعل ينظر إلى رأس القلم المكسور، وعندما
انتقل بعينيه الداميتين إلي أحسست بابتسامة تجهض من عيني وانتقلت إلى الزنزانة
تدفعني يدا المساعد الكبيرتان كمروحتين.
يبدو أنني كنت الجاهل الوحيد في هذه المدينة، فشهرة رئيس المخفر طبقت الآفاق،
سكان القرى المحيطة يعلمون الكثير عن هذا الضابط، والناس في الأحياء القريبة
والبعيدة يتحاشون بطشه فيبتعدون عن طريقه.
قال المخنث متسائلاً:
-ضربك بالعصا وتبتسم؟!
-لم يضربني، بل ضرب قلمه.
هتف الثالث بشوق:
-أي قلم؟
-ضرب قلم الحبر بالطاولة فكسر الرأس الذهبي.
-لا بد أنه هدية من إحدى داعرات علب الليل المنتشرة في منطقته.
قال الكريه من أنفه:
-لقد ضعت يا بني، أعرف رجلاً لجأ إلى القانون لمقاضاة رئيس المخفر، فضيق صاحبنا
عليه الخناق حتى هرب الرجل من المدينة.
-ولكني لم أتسبب في كسر قلمه.
وتساءلت في نفسي هل صحيح أني لم أتسبب في كسر قلمه؟
ألم أتمنى ذلك!
كان لا بد من الألفة مع الموقوفين الثلاثة، تبادلنا السجائر، ومن ثم النكات،
تلتها بعض الأحاديث الشخصية.
-لم أتزوج بعد، يبدو أني نسيت.. الأعمال كثيرة.
-صاحباتك كثيرات إذن؟
كان الذي سألني يملك فندقاً مشبوهاً، والمخنث الذي وقف بقربه واحد من مقتنيات
فندقه، والثالث ادعى أنه مخبر صحفي وكان قد شيع أخباراً سيئة عن رئيس المخفر
فأوقفه.
قلت لهم بثقة:
-لن يطول الأمر بي، يوماً يحتجزني.. ثم؟
فضحك الصحفي وقال متهكماً:
-رجل طيب.. يبدو أنك لم تغادر مخبرك.. من المختبر إلى البيت والعكس صحيح.
وضحك الجميع بما فيهم أنا.
في نهاية الليلة، أيقظني صوت المساعد فرفعت ذقني عن المقعد الخشبي (آنذاك أحسست
بألم بالغ) فرأيت من خلال عيني المطموستين بالتعب وجه المساعد الخشن. قال لي
"اتبعني" فتسللت من الزنزانة وأنا على يقين من الإفراج عني فتوددت إلى الرجل
قائلاً:
-لن أنسى لطفك يا سيدي أثناء زيارتي القصيرة لكم.
فلم يجب، فتح باب الرئيس بأدب ليتركني أمامه وانسحب كالجرذ. قال الضابط
والكلمات تتدحرج في فمه الذي أوصل رائحة الخمر إلي:
-هيا وحدثني بالتفصيل عن الموضوع.
-أي موضوع يا سيدي؟
-الموضوع الذي تخفيه عني.
-لا أخفي عنك شيئاً كنت ماراً في طريقي وحدث ما حدث.
استوى الرجل مترنحاً، ولكنه ما لبث أن تماسك والمسدس الذي أخرجه من الجراب قد
أمده بالثبات. صاح بهدوء:
-أستطيع أن أصوب إلى رأسك، كنت بطل الرماية في الكلية.
فابتلعت ريقي وابتسمت في وجهه، ورغم الضوء الشاحب في الغرفة القديمة والتي بدت
كمقر سابق لشهبندر التجار (هي كانت فعلاً)، فإنه لمح الابتسامة فابتسم بدوره.
أحسست بالراحة وأنا أقول له:
-هل أستطيع أن أعود إلى بيتي؟
-هل عندك أولاد؟
-لا، لا لم أتزوج بعد.
-أحمد ربك فلن تخلف من ورائك أيتاماً.
-ولكنك لا تتكلم جداً يا سيدي.
فزلزلت الأرض أركانها، فيما صوته يدوي غاضباً:
-هل أنا مهرج؟
-لا.
-من أنا إذن؟
-الرئيس.. هنا.
-وإذا أمرت؟
-تطاع.
طوى المسدس إلى أسفل وهز برأسه فيما يقول:
-أحسنت.. تستطيع أن تذهب.
-أأعود إلى بيتي.
كان الرفاق الثلاثة قد أيقظهم الانتظار وبادرني المخنث بالتهنئة على سلامتي
فقلت له:
-ماذا كنت تتوقع.. ألا أعود؟!
فقال الصحفي هامساً:
-لست هنا أول مرة.. فقد وضعني الرجل منذ سنة في برميل أقذار.
-ولكن لماذا؟
-رجل مرح... يعنى بتسلية نفسه.
-ولكني لم أسبب له ضرراً.
-هو الذي يحب أن يسبب الأضرار يا عزيزي، هذا من حقه.
كانت الزنزانة تجار بالملل الغاضب. الجدران مائلة وتهدد بالسقوط والأرض رطبة
كجرح متقيح ينز. لم أنا هنا. أريد أن أعود إلى مختبري وإلى سريري الحديدي
المريح. يجب أن أحتج. قررت أن أتقدم باحتجاج شديد اللهجة كما يفعلون في
المنظمات الدولية، قد أكتفي باعتذار رسمي، آنذاك أغفر له جميع أخطائه. أيها
الثلاثي الطيب إنما أنا رابعكم المهيض الجناح. يا أهل الكهف، وشعرت بالظلام
تنسجه الكتابة شبكة عنكبوت هائلة الحجم. رأس الرئيس معلقة على الشباك كنملة
سقطت في الفخ، استيقظت خوف أن يحدث شيء. قرصت من فخذي فعلمت أن المخنث قد أعلن
حربه علي.
مرت لحظات قبل أن أحس بأصابعه الديدانية تبعثر القشعريرة على سطح الجلد الناعم،
انتفضت في مكاني وقد قبضت على كفه فلامست عظامي فندت عنه آهة. كانت ذراع مليئة
بالشعر تلتف حول عنقي وتضغط فيما آهتي تختلط بآهة المخنث. همس الصحفي في أذني:
-تتطاول على شاب رقيق، يا لك من متعسف!
فقلت بصوت المخنوق الذي خرج من حنجرتي بصعوبة:
-هو الذي اعتدى علي.
فقال صاحب الفندق المشبوه:
-لقد زادت تصرفاتك عن حدها، وما عدنا نحتملك.
في الصباح الذي لم نميز نوره من ظلام المكان، أفرج عن المخنث ليلحق به صاحبه
بعد قليل، ثم الثالث، بقيت وحيداً في الزنزانة أتأمل بهدوء مأزقي. في البدء
كانت الفتاة، ثم رئيس المخفر، وجاء الثلاثة الذين خلفوا في نفسي حقداً هائلاً.
قلت لنفسي: "ولكن ما ذنبهم؟".
وكانت آخر مرة أرى وجه الرئيس هي الآن فيما أنظر من خلال عدسة المجهر. عدت إلى
النافذة أغطي السماء بسحب الدخان، لقد أخافتني العدسة، هل يمكن لحقدي أن يصل
إلى ذلك الشكل. سأتغلب على مشاعري وأتابع حياتي التي كانت هادئة. لقد كسر قلمه
بنظرة وأريد أن أكسر رأسه، ولكنه أفرج عنك. حومت في المختبر الذي أظلم بياض
جدرانه.
استعرضت حياتي، حياة الوحيد الذي عقد قرانا غير شرعي على أنابيب بأطوال مختلفة
وعدسات وموازين دقيقة. تبالي هل يمكن لعيني أن تصيب!
لا يمكن لما رأيته تحت العدسة أن يكون أمراً حقيقياً، فتأكدت. فزعت لأن رأسه
المجزوزة كانت ماثلة أمام عيني، بالألوان الطبيعية كانت واضحة، والعينان
المغمضتان عينا قتيل، خرجت إلى الجدران فكان وجهه على كل مربع من مربعات
البورسلان. صرخت فاهتزت كفتا الميزان واختل توازن السوائل وسقطت ذبابة في محلول
ثمين وتطاير مسحوق ناعم يتعلق في الهواء. طرق الباب فخرجت أنا جارفاً أمامي
الهدوء والوقار والطمأنينة. في الشارع ركضت كالفزع، سقطت على الإسفلت بقعة
لهفة. عبرت الليل وخرجت إلى النهار. قرأت الجرائد، بين السطور، دسست فضولي، وفي
الصفحة الثالثة كانت صورة الجريمة البشعة التي ارتكبها رجل مجهول ضد رئيس مخفر
فجز رقبته بسكين، كانت صورة الجريمة تلك تملأ الأعمدة بالصور والكلام فهرعت إلى
أقرب مصدر للماء أحاول أن أغسل كفي فلم أفلح لأن نقطة واحدة لم تنزل من الصنبور
الذي بدا أنه لم يستعمل منذ مدة طويلة.
مساكن للعصافير
كانت
العصافير التي تسكن (الحديقة العامة) سعيدة ومطمئنة البال، تغرد وترقص في
السماء ثم تحط على أعشاشها الصغيرة المتناثرة على قمم الأشجار وأغصانها.
وظلت
العصافير سعيدة إلى أن جاءها إنذار من رئيس الحديقة يقول إما أن تدفع
العصافير أجرة الأعشاش التي تسكنها، أو أن تغادرها إلى مكان آخر. فقالت
العصافير بأسى: ولكننا لا نملك مالاً، ونحن لا نعرف كيف يأتي الناس بالمال.
وشكل العصافير وفداً لاسترحام رئيس الحديقة وشرح أوضاعهم، ولكنه كرر عليهم
مضمون إنذاره، وهددهم بالطرد إن لم يستجيبوا للإنذار.
وحزنت
الأشجار وأصاب الأزهار يأس كبير، إلا أن ارتباطهم الشديد بالتراب منعهم من
تقديم شكوى رسمية فاكتفوا بالبكاء.
قالت
الأشجار: -من يسلينا بعد الآن بالغناء صباح مساء؟!
وهتفت
الأزهار: -من يغني لنا أناشيد الحب والصفاء؟!
ولكن
رئيس الحديقة لم يأبه لما سمع، واضطرت العصافير إلى الرحيل، فانطلقت مهاجرة
أفواجاً والحيرة قد تملكتها لا تعرف لها مستقراً.
وأصاب
الأشجار حزن عميق، واستسلمت الأزهار لبكاء ساخن عميق سرعان ما أغرقها فجعلت
تموت واحدة تلو الأخرى، كذلك الأشجار جفف الألم أغصانها تتساقط على الأرض
لتحلق بها الأغصان نفسها. ودخل الناس ذات يوم إلى الحديقة يطلبون الراحة
والمتعة، فهالهم الصمت والحزن، وكأن الحديقة أصبحت مقبرة قاتمة الألوان.
لا
عصافير ولا أزهار، والأشجار تجف مقبلة على الموت بأجساد وأهنة. مل الرجال
المنظر فتركوا الحديقة إلى بيوتهم، وتساءل الأطفال عن سر التعاسة المقيمة،
فاستجوبوا شجرة سرو هرمة، فقصت عليهم الحكاية كلها، هاجرت العصافير لأنها
لا تملك مالاً تدفعه أجرة لأعشاشها الصغيرة!
وتوجه
الأطفال إلى رئيس الحديقة يستعطفونه ويطلبون للعصافير الرحمة والغفران،
فصدهم الرئيس بقسوة وقال لهم: يجب أن يدفع الساكن مالاً لقاء البيت الذي
يقطنه.
فصاح
الأطفال: ومن أين يأتي العصافير بالمال؟
فلم
يعرهم رئيس الحديقة التفاتاً فخرجوا إلى الحديقة الميتة يبكون. وقال طفل
طيب: لنجمع للعصافير أجرة لبيوتهم.
وصمم
الأطفال آنذاك على أن يساهموا في إعادة الحياة إلى الحديقة فقتروا على
أنفسهم في المصروف، لا حلوى ولا ألعاب. ورغم معارضة الآباء فقد تم جمع مبلغ
كاف من المال دفع إلى رئيس الحديقة، فدعيت العصافير للعودة إلا أن العصافير
لم تتمكن جميعها من العودة، لأن أعداداً كبيرة منها قتلها التعب والتجوال
في سماء لا أعشاش فيها فسقطت على الأرض قتيلة، وبالرغم من أن أعداداً ضئيلة
عادت إلى الحديقة فإن الحياة دبت في الأشجار ونمت الأزهار من جديد، فعادت
السعادة إلى الحديقة.
(للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
التقرير
قال الرجل للطلاب الصغار الذين اختفت بطونهم وراء
مقاعد الدراسة:
ـ درس الكيمياء لهذا اليوم يتعلق بالنقاط الثلاث
التالية: التجزئة ـ التحلل ـ الضياع.
ثم لوح بأنبوبة زجاجية طويلة تظهر بداخلها سائلاً لا
لون له، فاشرأبت الأعناق إليه يحرك الأنبوبة في الهواء وكأنه يلوح لعيونهم
المندهشة بمفاجأة مثيرة.
قال طالب صغير الحجم يحمل على شفتيه كتلة مخنصرة من
الشعر الخشن:
ـ لم نفهم شيئاً.
فسرت همهمة متماوجة بين صفوف الطلاب، أدت بالمعلم،
بعد لحظات، أن يدرك الجهل المطبق الذي خيم على الرؤوس كأعلام الأفراح.
"أما من الناحية اللغوية يا أبنائي فالأمر واضح،
بقيت الناحية العلمية.. انظروا، انظروا وستجدون تفسيراً لكل شيء".
فتحركت العيون إلى أعلى تلتصق بسقف الرأس، فيما كانت
طبقة زيتية تطفو لتتجمع على سطح السائل، ثم برجة خفيفة من يد المعلم، جعلت
أبخرة بيضاء تتصاعد من فوهة الأنبوبة لتنعقد غمائم داكنة متفرقة في سماء
الغرفة.
"افتحوا عيونكم جيداً يا أبناني".
ولكن أحداً من الطلاب لم يستطع أن يفتح عينيه،
فالدخان كان على ما يبدو يحرق العيون.
ـ الدنيا عتمة ونحن لا نستطيع أن نرى سوى ظلام أسود
رطب.
صاح طالب من خلال الضباب الكثيف.
"افتحوا عيونكم جيداً يا أبنائي".
ومع أن أكثر من واحد من الجالسين قد بذل جهداً
مضنياً في تحريك جفنيه، لكن النجاح لم يصب أياً منهم.
ـ لقد عميت تماماً.. فأنا لا أميز شيئاً.
صرخ طالب نما جسده بفحولة فيما يهب واقفاً
كالمسعور.
"افتحوا عيونكم جيداً يا أبنائي".
ولكن أصوات الاحتجاج هجمت كالغبار على نداء المعلم
فلم تعد كلماته تسمع في زحام الآهات المخنوقة. بعد قليل صاح المعلم بصوت
كالرعد:
"افتحوا عيونكم.. لقد انتهى كل شيء".
وكان الضباب الذي خيم على المكان قد انقشع حالماً
دوى صوت المعلم، فانفتحت العيون المغلقة ليتحسسها الطلاب بين مكذب ومشكك،
فإذا بات المنظر واضحاً، تطلع الجميع إلى الأنبوبة فكانت فارغة.
"أين ذهب السائل"؟
"إذن تبخر السائل"
"برجة أو رجتين يطير السائل"
"هذا سحر..."
"لم نفهم شيئاً"
"كنت كالنائم"
"لقد نمنا فعلاً"
وفيما كانت التعليقات التي أطلقها الطلاب تتشابك مع
ابتسامة المعلم العارفة وقف شاب صغير الرأس وتساءل بهدوء بادر:
ـ وما علاقة التجزئة وما إليها بما رأيناه؟
وقبل أن تتحرك شفتا المعلم بالإجابة، أكمل الشاب
الصغير الرأس:
ـ هذا عمل سياسي وليس بدرس كيمياء.
ـ سياسي! ما هو السياسي؟.
كانت ساحة المدرسة تردد أصوات النفير التي تعالت في
الجو، لتقطع خيوط التحفز التي بناها عنكبوت القلق النزق. تفرق الطلاب من
صفوفهم وبقيت عينا الشاب الصغير توازيان عيني المعلم، وفيما جرفت حركة
الطلاب معها توثب الشاب، أحس المعلم بالراحة فأسرع بالخروج.
"لم يكن للدرس علاقة بالسياسة، ولن تخيفني تهديدات
الشاب المبطنة، ولكن من يدري فقد يقدك تقريراً مزيفاً يحمِّله ما لم أقله.
الدرس كان واضحاً: التجزئة ـ التحلل ـ الضياع، وقد أثبت تلك الصفات
الكيميائية بالواقعة الملموسة"؟
في البيت انفرد بنفسه في الغرفة المستطيلة الضيقة،
وبينما استلقت زوجته متعبة في سريرها وقد داخلها اليأس من دعوته إليها، ظل
هو يفكر ويقلب في الأمر، فإذا الأمر له مائة وجه، قال لنفسه بعد تعب:
ـ ما دام الموضوع قد يصل إلى هذا الحد، فالأفضل لك
أن تهيئ نفسك لاستجواب طويل وعريض. قد يسألونك عن الماضي، بل قد يمتد الأمر
إلى أدق التفصيلات.
"قد تكون غرفة الاستجواب باردة رطبة ولن تتوفر فيها
الراحة.
أكتب تقريرك هنا ومن خلف مكتبك النظيف، وتستطيع أن
تشرب القهوة متى تشاء".
ابتسم المعلم فيما يكدس أمامه الأوراق البيضاء، فقد
تخيل وجوههم تتطلع إليه فيما يخرج التقرير أمامهم وقد ضم بين سطوره إجابات
لكل ما يمكن أن يخطر في بال أي منهم.
"اسمك؟".
"تجده يا سيدي في رأس الصفحة على اليمين، ووفقاً
للبطاقة الشخصية تماماً، وفي السطر الثاني هناك محل الإقامة، وأنا من
مواليد عام 1935، ولا أذكر أن أحداً من العظماء أو المفكرين أو العلماء قد
ولد في ذلك العام، ووفقاً لمعلوماتي المتواضعة يا سيدي فإن الـ د.د.ت لم
يكن قد اكتشف بعد، وإن تكن مركبات الكبريت قد وصلت أوج استعمالها في تلك
الحقبة من الزمن، فأنا ما زلت أذكر أن أهلي دهنوا به جسدي من الكعبين وحتى
الرقبة للقضاء على الجرب الذي انتشر كالوباء في سني الحرب الكونية الأخيرة،
والسبب يا سيدي هو ارتفاع أسعار الصابون آنذاك".
توقف المعلم عن الكتابة، قال لنفسه فيما يحاسبها:
ـ هذا استطراد لا داعي له.
ـ ولكن من يدري فقد تكون تلك التفصيلات ضرورية، فهم
عادة يطلبون تقريراً إضافياً وشاملاً مانعاً.
ـ قد يسخرون منك.
ـ ولكن من يخفي جانباً من الحقيقة كمن يخفي الحقيقة
كلها.
ـ ما دام التقرير سيجيب على كل الأسئلة، فإنه من
المفروض أن تتوقع الإجابة على أي سؤال قد يطرح عليك.
"ولأكثر من سبب واحد فقد درست الكيمياء، لأني أحب
مهنة التدريس أولاً، ولأن العرب كانوا يطمحون إلى تحويل المعادن الرخيصة
إلى معادن ثمينة، ومع أن المنفلوطي الذي أحببته في صباي لم يقترب من سيرة
الكيمياء فقد دراستها، وهكذا ترى يا سيدي أن ميولي لم تكن سياسية في يوم من
الأيام، كان هناك المنلفوطي كما ذكرت وجبران وأرسين لوبين وأسماء أخرى لا
علاقة بها بالسياسية، وتستطيع أن تستوثق من زملائي في المدرسة الثانوية،
ففي عام 1948 لم أشترك في المظاهرة الكبرى التي خرجنا، أقصد التي خرج بها
الطلاب، إلى الشوارع ينادون بالهجوم على اليهود. قتل طالبات ولم أحزن
عليهما لأنهما لم يكونا من رفاقي الخلص. أنا رجل أفكر علمياً، أؤمن
بالمعادلات، حمض كلور الماء يعني تفاعل الهيدروجين مع الكلور، وهذا هو كل
شيء، لذا فأنا لا أستغل دروسي في المدرسة ولا أتكلم في السياسة، هذا ليس من
شأني.
حياتي مستقيمة، ولكني لا أنكر أني فعلت أشياء صغيرة
لا تشير إلى الاستقامة، سأذكر لك حادثة لأدلل على صدقي وشجاعتي الأدبية،
غازلت زوجة جارنا العجوز، كانت صبية وأنا فتى، ولا أنكر أني نمت معها.
أرأيت.. أرأيت.
أريد هنا أن أصحح لك بعض المعلومات التي سردتها من
قبل، فأنا اشتركت في مظاهرة 1948 ولكني لم أكن في المقدمة فالصغار كانوا
يهللون في المؤخرة فحسب، وقد أجمع جميع الكتاب والمؤرخين على أن تلك
التظاهرات لم تكن سياسية، وهذا دليل جديد على شجاعتي الأدبية وانتفاء عملي
السياسي المبطن.
يقولون إن السياسة مثل الكيمياء، ولكني أقسم لك أن
الكيمياء ليست كالسياسية تأكد من ذلك إذا شئت وارجع إلى الكتب أو إلى
محاضرات الجامعة..".
كانت الساعة تشير إلى أن منتصف الليل قد اقترب،
فتأمل المعلم نفسه في زجاج النافذة. اختلطت صورته بانعكاسات أنوار الشارع
الهزيلة. تمطى ولكنه أحس برغبة متجددة في معاودة الكتابة.
ـ إنها فرصة لقول كل شيء، فالصدق الكامل خير طريق
للنجاة.
كان يتمتم لنفسه فيما يكتب سطرين، ولكنه سرعان ما
مرر قلمه على الكلمات بقسوة. لم يشأ أن يتحدث، ولو بالإشارة، عن علاقته
الفاشلة بالصبية الحلوة أخت رئيس الطلاب الذي كان مسؤولاً مباشراً ذات يوم
عن التظاهرات التي قامت تطالب بتأميم شركات الكهرباء والمياه والدخان.
واضطر من أجل ذلك التخطي أن يعيد كتابة الصفحة بكاملها مجدداً حتى لا تظهر
تلك الكلمات السوداء كدليل على التردد.
"وكانت الاضطرابات التي سبقت ورافقت الأحداث التي
اشتعلت عام 1956، كانت كالجائحة، ولكني تفاديتها بانهماكي الكامل في دروسي
الجامعية. أنا لم أكن متوفقاً في الدراسة ولكنني هيأت نفسي للخلاص من
الجامعة بأسرع ما يمكن يا سيدي، فالطقس هناك كان ملبداً بالغيوم بشكل لا
نظير له، وأنا رجل علمي لا آبه للسياسة فهي مضرة، وكثيراً ما أودت بمستقبل
الشباب: طرد من الجامعة أو اعتقال مع تعذيب يعطل أحد الأعضاء. ألا ترى يا
سيدي أن تفكيري كان سليماً ولا يمكن له أن يساعد على تصديق تلك الوشاية،
فدرسي البارحة كان يتعلق بصلب الكيمياء. ألا تعتقد معي، أن التجزئة تؤدي
حتماً إلى الانحلال فالضياع، فما دخل السياسة في كل ذلك؟
هنا لابد لي من الإشارة بأمانة إلى أنني اضطررت
لأسباب نسائية بحتة إلى حضور مؤتمرين أو أكثر، كان بعض الطلاب قد دعي
إليهما لنصرة بعض القضايا الهامة كاستعادة اللواء وشجب العدوان على غزة
وقتال السويس وما إليها من مواضيع اجتماعية بحتة لا علاقة لها بالسياسة،
وأقسم لك على أن حضوري لم يغير أن يبدل كما أن عدم حضوري لم يكن يثير قضية،
كما أنني لم أعلق بكلمة أو نصف كلمة ولم أصفق أو أهلل، كان حضوري موضوعياً
ويتسم بما يتناسب وهيبة الكيمياء من هدوء وعدم تحيز.
أنا أعلم أن الذي تقدم بالتقرير المتعسف ضدي، سبق
وأن نال علامات متدنية في فحوص السنة، لذا فإن إجراءه هذا يعتبر ضغينة غير
موضوعية، وأنا هنا لا أدافع عن نفسي بقدر ما أدافع عن الأمانة العلمية في
تقييم الأحداث والأقوال. صحيح أن كلمة التجزئة قد استعملت في القاموس
اليومي للسياسة، ولكن ما ذنب الكيمياء إذا اضطرت أحياناً إلى استخدام كلمات
مشابهة لتلك التي تستعمل في الحياة اليومية. خذ الضياع مثلاً، إنها كلمة
تستخدم في القاموس النفسي والاجتماعي أكثر مما تستخدم في القاموس السياسي،
فما ذنبي أنا عندما أستخدم تلك الكلمة للتعبير عن تلاشي المواد؟
لقد غرقت آذاننا بعد حرب 1967 في بحر الكلمات،
خسارة.. هزيمة.. نكسة.. ضياع، وفي الكيمياء أيضاً هناك خسارة وهناك هزيمة،
خذ مثلاً بعض المواد عندما تخسر ذرة من ذرات تكوينها الأساسية، فإنها تصاب
بهزيمة تؤدي بها إلى التحول أو إلى الضياع. إنها أمور عجيبة يا سيدي تلك
العمليات الكيميائية! ارتفاع في الحرارة يؤدي إلى تفسخ المواد العضوية،
تغيُّر في الظروف الموضوعية يتسبب في خمول مادة ما، والخمول كثيرا ما يؤدي
إلى الشلل أو الموت.
هناك دليلاً جديداً على حيادي وعدم استغلالي لصحة
الدرس في استخدام السياسة:
أنا يا سيدي لم أشكك في الوضع القائم بعد معركة
حزيران، إلا أنني لا أنكر حزني آنذاك. صحيح أني دخلت إلى درسي ممتقع الوجه
منهوك القوى أحس كمن فجع بعزيز لديه، ولكن حزني هذا لم يؤثر في مجريات
الأمور، فلم أشعر الطلاب بما يدور في داخلي خوف التأويل أو التفسير بأني
حولت الكيمياء إلى تثبيط أو إحباط، ولكن طالباً ذكياً سألني آنذاك.
ـ ما هو الحل عندما يخسر الإنسان معركة؟
فأجبته متمالكاً أعصابي:
ـ الخسارة ظاهرة زمنية يا بني، وكل ما هو زمني يمكن
أن يتحول.
فقال بأسى لن أنساه مدى عمري:
ـ هل يمكن للخسارة أن تتحول إلى خسارة والخسارة إلى
هزيمة والهزيمة هل يمكن أن تبقى مقيمة؟
فأجبته بمرح مصطنع:
ـ إنك تخالف قوانين الطبيعية، فالأشياء لا يمكن أن
تبقى على ما هي عليه ما دام هناك تقلب في الظروف المحيطة بها.
بعد يومين قال نفس الطالب:
ـ هل يمكن للإنسان أن يكره وطنه؟
ـ ولماذا؟
فلم أستمع إلى تعليقه لأني بدأت آنذاك في تسطير
معادلاتي العضوية على السبورة السوداء، وساد سكون. ولا أنكر يا سيدي أني
تساءلت في سري، دون أن يعلم أحد بما يدور في أعماقي، هل يمكن للإنسان ألا
يحب وطنه. هل يمكن للإنسان أن يتنكر لحب الوطن؟ إنها مشكلة، أليس كذلك يا
سيدي؟
لا أريد أن أكون واشياً فالوشاية أمر ينافي طبيعة
الكيمياء، ولكنني يا سيدي سمعت أكثر من شخص يتغنى بقوة الأعداء، بل تعدى
الأمر ذلك، فهناك من قال لو أن الأعداء حكموا هذه الأرض إذن لاستتب الأمن
وراجت التجارة وتحسنت الأحوال.
إنني رغم كل شيء لا أعني في حياتي سوى بالعلم
والمعادلات ولكن أعترف بأنني شجعت ذات مرة لجنة لجمع التبرعات. دخلت حصتي
فلم أعترض، وكان سكوني تشجيعاً لهم، وتكلم رئيس اللجنة يحث الطلاب على دفع
ما يملكون من أجل الفدائيين فهل كان الأمر سياسية، لا أعتقد يا سيدي، وإذا
كان الأمر كذلك فإنني أعترف بخطأي، وأعد بألا يتكرر تشجيعي لجمع التبرعات
حتى لا يقال إنني خرجت عن موضوعيتي.
إنني رب أسرة كبيرة، ثلاثة أطفال وزوجة وعمة عجوز،
لذا فأنا لا أحب المغامرة، ولهذا السبب فقدت طموحي، فأنا لا أحب أن أكون
مديراً للمدرسة أو للتربية، ومع أن عدداً لا يستهان به من زملائي قد أصاب
من طموحه فنال مراكز ذات قيمة، إلا أنني لا أحب المغامرة، أفلا يؤكد
انضباطي هذا عدم تدخلي في السياسية؟
إن علماً كالكيمياء لا يمكن له أن يفسح المجال أمام
التكهنات أو التوريات، إنه كالرياضيات والفيزياء، علوم موضوعية وحيادية،
ولكنني لا أنكر أنه بالإمكان استغلال بعض طرائقها للخوض في مواضيع مختلفة،
فأنا شخصياً أستخدم أحياناً بعض المعادلات مع أهلي وأصدقائي لمجرد التسلية
يا سيدي، وإذا أردت ضربت لك مثلاً، خذ هذه المعادلات:
بيت + حب سعادة
وعود + كذب خيبة أمل
وطن – حب أرض بلا قيمة
أرض بلا قيمة + لا مبالاة احتلال
وهكذا يمكن للكيمياء أن تكون مجالاً للتسلية. صحيح
أن هناك بعض الاصطلاحات كالوطن والاحتلال تمت بصلة وثيقة إلى قاموس
السياسية ولكن اللغة واسعة، وغيب اللغة العربية يا سيدي أنها حمالة أوجه،
فما ذنبي أنا. وإذا كنا سنحاسب على مرونة لغتنا فالأجدر بالقوانين أن تحدد
أنواع الاستعمالات لهذه اللغة الواسعة الأرجاء. وهنا يمكن القول أن حسن
النية هو الذي يفصل بين المعاني المتعددة للكلمة الواحدة، وأنا حسن النية
كما يسهد لي الجميع، لذا أطالب برد جمع أقوال الطالب الذي ادعى أني أستغل
درس الكيمياء للتحدث في السياسة. وبناء على كل ما تقدم فإنني أطالب ببراءتي
من التهمة المنسوبة إليّ وللبيان حرر".
ولما كان الفجر قد لاح بنوره فقد قرر المعلم ألا
يستسلم للنوم العادي الذي يلجأ إليه الإنسان في كل ليلة بصورة آلية. طوى
التقرير من منتصفه ووضعه في الظرف في كتاب مبادئ الكيمياء، وبعد القهوة
المنشطة ارتدى ثيابه وتوجه إلى ذاك المبنى القديم الذي يقع عند مفترق
شارعين مزدحمين. وعندما أطل عليه موظف الاستعلامات بتثاؤب طويل قال المعلم
بتأدب:
ـ أنا فلان الفلاني، هل المدير موجود؟
وما أن استمع الموظف إلى اسم المعلم حتى استوى في
قفصه الزجاجي واقفاً وقال بخبث واضح:
ـ أعتقد أنهم ينتظرونك فوق..
فشكره المعلم، وتوجه بثقة كبيرة إلى الطابق الأعلى،
وقد تردد في ذهنه تساؤل لم يجد له جواباً.
ـ كيف عرفوا أني سأحضر!
|