القرار الصعب
كنت دائماً أتساءل لوحدي عن السر وراء هذا الانقلاب المفاجئ في سلوك
سعيدة وتصرفاتها. ولم أطلع على حيرتي أحداً. الحيرة سرٌّ، إذا فاجأك في
خضمها أحدٌ فضحك . حيرتي أيضاً سرُّ، وقد قررت أن أكشفه، لأنه لم يكن
محصناً بما فيه الكفاية . خفت أن يأتي يومٌ يعرف الناس فيه ما أكتمُ. ماذا
أقول آنذاك ؟ لن تبق لدي حجةٌ. ساعتها يخرس منطقي وأشرق بغصتي، وأنظر
باندهاش إلى الأشياء، فلا أقوى على تفسيرها.
ولم يكن سلوك سعيدة وحده الذي حيرني. ربما كنتُ رجلاً ضيع وقته في
قراءة الكتب القديمة ، وعندما انتبه وجد الأشياء قد تغيرت من حوله. ربما
أفرطت في إحسان الظن بالناس فانخدعتُ، وربما كانت كل الأمور على ما يرام،
لكنني رأيتها في لحظة يأس. لا أعرف لماذا أركز على سعيدة وحدها. تصرفات
الآخرين أيضاً حيرتني. وحتى عندما قرأت الرسائل كلها لم يُشْفَ غليلي. فما
حدث لم يكن متوقعاً. وما كان مفترضاً متوقعاً لم يحدث. فمن ذا الذي، يا
تُرى يجد لذةً في هذا العناد ؟ !
والصدفة وحدها قادتني إلى العثور على هذه الرسائل ، التي يبدو أنها
كانت محفوظة بعناية فائقة . ولا شك أن شخصاً ما قد جمعها بعد جهدٍ جهيد
ومشقة بالغة. لا أدري لماذا جمعها ؟ أما أنا فقد كدتُ أن أمزقها . كنت على
وشك أن ألقي بها في النار لولا أنني انتصرتُ في الأخير لصوت خافت ظل
يناديني على استحياء: "اتركها لعل سواك يرى غير ما رأيتَهُ فيها". وانتصرت
لهذا النداء البعيد والصوت الخفي. قلت في نفسي: صحيح ، من حق قارئ آخر
أيضاً أن يطلع عليها ، ثم لتوحي له بما يشاء. لقد انتهت مهمتي الآن. وفيما
يلي الرسائل، كما عثرت عليها، بدون زيادة ولا نقصان:
الرسالة الأولى
" ميلانو في 15/10/1990
عزيزتي سعيدة:
اليوم وصلت إلى ميلانو. ولك أن تتصوري مبلغ التعب الذي أشعر به .
قبل يومين كنا معاً . هل تتذكرين كم كنا بخير ؟ هل تتذكرين كل تلك الأوقات
الجميلة في كنف الأهل والأحباب ؟ هل تتذكرين كم سررنا ، وكم ضحكنا ؟ أنا
أتذكر كل التفاصيل والجزئيات . كلها جديرة بأن تُتذكر ، بأن تشع هنا أيضاً
، فليس منها ما لا يستحق أن أتذكره بفخر واعتزاز. التذكر زادي هنا، ومنه
يقتات الوجدان شيئاً فشيئاً. وأنت، لا شك أيضاً تتذكرين كل ذلك. أنا هنا،
لكن قلبي وعقلي معك . وعيني على موعد عودتي. تبّاً للأعداء، اليوم أحس أنني
انتصفتُ منهم. بالأمس رأيتُهُ يزدرد غصة الفشل. ربما ظن أنك رخيصة إلى ذلك
الحد. ولكن هيهات، هيهات. اليوم أدركت أنك فوق كل إغراء.
عزيزتي:
يوم الاثنين المقبل سأباشر العمل، فقد يساعدني على نسيان غربتي .
تذكريني. فلا بد أن يزورني طيفك كلما تذكرتِ. هل تعلمين ؟ عندما كنت أراك
قبل الخطبة كان قلبي يخفق لرؤيتك. ولست أدري لماذا كان الشك يساورني فيك.
لا أدري لماذا كنت أراك أملاً بعيد المنال. كنت أسمع بعض الأحاديث، لكن
اليأس لم ينتصر على رغبتي. كدتُ أنكسر في بعض الأحيان لولا أنني ثابرت. ولا
أدري هل علمت هذا. المهم أنها مرحلة من الصبر مضت . فأنت الآن زوجتي . من
قبلُ خشيتُ أن أفقدك . أما الآن فأنا على يقين أن الشوق إلي يداعبك . أنا
على يقين أنك تضعين صورتي قبالتك، في غرفة النوم، وتتطلعين إليها باستمرار.
أنا أيضاً، صورتك أمامي.
عزيزتي:
عندما أعود في المرة المقبلة سيكون بإمكاننا أن نستقل بمنزل خاص.
أعرف أنك مرتاحة بين أمي وإخوتي. لكنني عندما أعود سأشتري أو أكتري منزلاً.
لم أصارحك بهذا لما كنا معاً. كنت أريد أن أتركها للمفاجأة، فلا تعتبي علي.
أنا أريدك أن تكوني زوجة بمعنى الكلمة. زوجة لها بيتها الخاص المستقل .
تتدبر شؤونه، وتتحمل وحدها مسؤوليته. لا أدري لماذا قلتِ لي ذات مرة:"لا بد
أن يزورك أصدقاؤك في البيت"،لكنني الآن عرفت أن المرأة المتفانية في خدمة
بيتها معنيةٌ بسماع عبارات الشكر و التقدير من الآخرين ! لكن، هل تظنين
أننا سوف نبقى لوحدنا؟ الأيام تمر بسرعة، ويجب أن ننجب أطفالاً يملئون
حياتنا بالسعادة والهناء . سيأتي الوقت الذي تصبح فيه حياتنا مفعمة بفرحة
الأطفال وشغبهم اللذيذ . و أريده أن يأتي بسرعة . أعرف أن هذه أيضاً رغبتك
.
عزيزتي:
سأنتظر مكالماتك، سأنتظر صوتك، وأكثر من ذلك سأنتظر رسائلك،فهي التي
تتيح لي أن أتلذذ بقراءتها المرة بعد المرة.
شوقي الحار ، وإلى تواصل قريب .
حبيبك عمر ."
الرسالة الثانية
"ميلانو في 18/10/1990
أخي رشيد:
لقد وصلت، كما تعلم يوم الخميس الماضي . وأنا اليوم أكتب إليكم بعد
رجوعي إلى البيت مباشرة من جولة في شوارع المدينة . غداً سألتحق بالعمل.
الطقس هنا أيضاً متقلب . ولا زلت لم أتكيف معه تماماً . لقد حاولت بعد
وصولي أن آخذ قسطاً من الراحة، لكن أشياء كثيرة في حاجة إلى ترتيب قبل
مباشرة العمل . أكتب إليك و أنا أشكو من إرهاق شديد وإعياء شامل . ربما هي
مقدمة الإصابة بنزلة برد. لا تقل شيئاً لأمي . عندما أنتهي من كتابة
الرسالة سأحاول أن أجد بعض الأدوية .
أخي رشيد:
لا داعي ربما لكي أذكرك ، وألح عليك في كل مر . أنت تعرف . سلم على
الوالد و الوالدة . وعلى خديجة ونعيمة . وبلغهم أشواقي الحارة . وابذل أقصى
الجهد في دراستك . إذا تفوقت، أعدك من الآن بتوفير الظروف المناسبة لإتمام
تعليمك الجامعي في الخارج . لو لا أنني أريدك أن تنجح في دراستك لدبرت أمر
التحاقك بي هنا للعمل في أوراش البناء مثلي . أعرف أن هذه هي رغبتك . ولكن
صدقني ، إنه عمل شاق و محفوف بالمخاطر. البارحة أخبرني بعض الزملاء أن أحد
العمال المصريين سقط الأسبوع الماضي من سطح عمارة فمات . لقد كتبتُ إلى
سعيدة، فلا داعي لإزعاجها. وإذا رأيت شيئاً غير طبيعي كن أول من يخبرني كي
أتدخل ، في الوقت المناسب .
أخي رشيد :
كن حريصاً مقتصداً بالقدر اللازم.ولكن إذا احتجتَ،في وقت لاحقٍٍ
فالتمس حاجتك عند الوالدة. ولا تخبر أحداً غيرها.
دمتم جميعاً بخير ، والسلام
أخوك عمر "
الرسالة الثالثة
"ميلانو في 10/01/1991
عزيزتي سعيدة:
أكتب إليك للمرة الخامسة ولا جواب منك يطفئ بعض الغليل. ما الذي حدث
بعدي ؟ هل تنتظرين أن تأتيني الأخبار من غيرك ؟ هل يعجبك أن يتصل بي
الآخرون ويخبرونني ، وتظلين أنت هكذا صامتة. قبل أيام كان الناس هنا في
بهجة الأعياد. وكلما رأيت اثنين مع بعضهما تذكرتك وتضاءلتُ. لا يمكنك أن
تتصوري فرحة الناس بالعيد هنا ، كما لا يمكنك أن تتصوري طرق تعبيرهم عن
فرحتهم .
عزيزتي سعيدة:
أتظل هذه الرسالة أيضاً بلا رد أو جواب ؟ ! إن كنت عاتبة ، فنعم
عتابك علي . وإن كنت غاضبة فأقبلها منك . أعرف أنك لن تغضبي من غير سبب. قد
سألتك مراراً إن كان قد أزعجك أحد، أو أعوزك شيء . ألم تتوصلي بالنقود ؟
لقد اتصلت بهم أكثر من مرة ووبختهم . ولستُ أدري، هل ثمة مشكلة تقتضي
الاعتذار؟
عزيزتي الجميلة:
دعي الكتابة إلي جانباً ، فربما كانت مرهقة ، لكن اتصلي بالهاتف.
سأنتظر صوتك كل لحظة. ولن أمَلَّ سأنتظر، سأنتظر حتى يطلع علي صوتك الجميل
مثل شمس صافية. سأنتظر، ولن أَمَلّ.
الغريب المعذب عمر."
الرسالة الرابعة
الدار البيضاء في 20/01/91
أخي عمر:
بعد التحية والسلام مني ومن جميع أفراد الأسرة يؤسفني أن أخبرك أن
زوجتك سعيدة غادرت المنزل البارحة صباحاً. منذ مدة وهي تبدي بعض التصرفات
الغريبة . لقد لمحت لك إلى ذلك في بعض رسائلي السابقة. وكنت أود أن أحدثك
بالتفصيل، فلم أشأ أن أتسرع . شاورت أمي في الأمر . وهي التي حذرتني أن
أخبرك بما كان يحصل في الحين. ولحد الآن، لا أدري حقيقة ما حدث بالضبط. أنت
بالتأكيد أكثر دراية مني . هي إلى حدود البارحة لا تكاد تتكلم مع أحد منا.
وأخبرتني أمي أنها ظلت إلى آخر لحظة تسعى في أغراضها بنفسها داخل المنزل
وخارجه، كعادتها منذ تغيرت، كما أشرتُ. المهم أنها الآن غادرت المنزل.
وهناك أخبار – ولعلها مجرد إشاعات – تقول إنها التحقت للعمل بإحدى الشركات.
وسأتصل بك هاتفياً عند الحاجة.
أخوك رشيد".
الرسالة الخامسة
"الدار البيضاء في 09/03/91
أخي العزيز عمر:
أبلغك في البداية سلام وتحيــات أمي وأبي وأختي نعيمة وخديجة ،
وسلام خالتي السعدية وابنتها منال . كلهم يسلمون عليك، ويبعثون لك أحر
الأشواق وأجمل المتمنيات . قلوبنا جميعاً معك . الوالد أوصاني أن أقول لك
إنه يدعو لك في جميع صلواته .
أخي عمر :
القضية ليس فيها من جديد . فقبل يومين فقط ذهب أبي عند الحاج
البشير، رفقة عمي الحاج الميلودي والسي موسى صهره ، والفقيه الهلالي .
واستقبلهم الحاج البشير أحسن استقبال . لكنه هو أيضاً يبدو مغلوباً . فقد
ذكر لهم أنه لا سلطة له عليها ، ولا طاقة له بها. وأنها ربما تنوي مغادرة
منزل أسرتها نفسه . والمؤكد الآن أنها تشتغل بالفعل . ورأيتها بعيني تستقبل
الزوار في بهو مقر الشركة . و يبدو من مظهرها أنها مرتاحة جداً في ذلك
الوضع .
أمي في غاية الحسرة و الحزن . والكل استبطأ عودتك . فما العمل ؟ لا
شك أنك تتصل بها . هل صحيح أنها خرجت برضاك؟ أطلعنا على حقيقة الأمر،في
أقرب وقت، فإني لاحظت أنك تتأخر في الرد على رسائلي، ولا تتصل عبر الهاتف .
دمت بخير والسلام
أخوك رشيد ."
الرسالة السادسة
" ميلانو في 20/05/91
أخي رشيد:
سلام الله عليكم
وبعد، كنت طلبتُ منك منذ البداية أن تطلعني على كل أمر مريب . و قد
ذكرتَ في رسالتك الأخيرة ما ذكرتَ . ولستُ أدري خيط الشك من خيط اليقين
فيما قيل وما أسمع . وعتبتَ علي . ولا طاقة لي اليوم بالعتاب وشجونه . لقد
تحدثتُ ، كما تعلم مع الوالد والوالدة . وكان لا بد من اتخاذ ذلك القرار
الصعب .
ولنبق على اتصال .
عمر ."
الرسالة السابعة
" الدار البيضاء في 28/05/91
صديقتي الوفية رجاء :
قرأت رسالتك الأخيرة كالعادة بشغف كبير. و كم سررتُ بمشاعرك تجاهي
وعواطفك الجياشة نحوي، وعباراتك الرقيقة الجميلة. وعندما أقول إنك أعز
صديقة فإنني لا أوفيك حقك، ولا أبالغ، لأن ما أشعر به تجاهك يفوق ما أكنه
لوالديَ.
عزيزتي الوفية:
كنتِ سألتني عن الجديد . ولا أرى من جديد يستحق أن يذكر. أنت تعرفين
كل التفاصيل . وما تقصدينه ينتمي عندي إلى الماضي . أنا الآن مستقرة ، كما
وصفت لك في الرسالة السابقة . لقد غيرت رقم هاتفي ، كما أخبرتك . لكنه ساعي
البريد ما زال يحمل إلي رسائله . مؤخراً كتب يقول إنه قد أخطأ ، وإنه مستعد
لإصلاح خطئه ، وإنه لا يرى مانعاً مما أقدمتُ عليه ، وإنه سيعود قريباً
ليعيد الأمور إلى نصابها . ولست أدري عم يتحدث ؟ !
عزيزتي رجاء:
أمرٌ غريب حقاً أن يعترف الإنسان بخطأ لم يقع . ظلم للنفس و بؤس
صارخ . لعله الضعف و أشياء أخرى . لستُ أدري . هو لم يفعل ما يستحق أن أحقد
به عليه . لكنني غير مستعدة لأن أشفق على أحد . في آخر رسالة قال إنه لن
يمل من الانتظار . ومثل هذا الكلام يضايقني ، يخنق أنفاسي . فلا أجد
متنفساً منه إلا في رسائلك التي أنتظرها على أحر من الجمر .
صديقتك الوفية سعيدة ."
12- 14/11/2004
أضيفت في
12/01/2007/ خاص القصة السورية
/ المصدر الكاتب
القرعة
كثيراً ما ترددت مُنَى في مواجهة زوجها بالحقيقة. هي في الواقع لا
تصارح أحداً. في المدرسة كانت تزعم أمام زملائها أن أباها رجلُ أعمالٍ .
وبعضهم يعرفون أنه يبيع الفحمَ في السوق القديم. وغالباً ما تقص عليهم
قصصاً غريبة، حتى إنها ادَّعتْ يوماً أنها سافرت إلى فرنسا عبر الطائرة،
ولما كانت في أجواء السماء مرت الطائرة وسط غمامة بيضاء ناصعة البياض،
فاغتنمت هي تلك المناسبة وفتحت النافذة فملأت قارورة كانت معها بذلك الغمام
الناصع البياض، وأن القارورة موجودة بالفعل في مكان آمن من منزل العائلة،
وأنه ربما يأتي الوقت الذي تطلعهم عليها. فصدقوها. ومنذ ذلك الحين بدأ
الكثير منهم يتطلع إلى السماء لاسيما حينما يكون الجو صافياً إلا من الغمام
المتراكم الناصع البياض. وبدأوا يمنون النفس بالسفر عبر الطائرة ليتمتعوا
هم أيضاً بلمس الغمام الأبيض الناصع بأيديهم ، والاحتفاظ منه بتذكار .
ومنى لم تركب في حياتها طائرة. كانت عندما تحس بالحرمان تركب أجنحة
خيال بارع. بعضهم يتهمها بالكذب. لكنها لا تلقي بالاً لأحد. وزوجها نفسه،
الذي يضيق الآن ذرعاً بخيالها المجنح أسدت له خدمة جليلة من حيث لا يدري.
تعرفت عليه عرضاً في إحدى الأماسي التافهة. كان يجرجر أيامه من مقهى
لمقهى. يساعد السماسرة ويسدي المشورة للمقامرين والمغامرين، وفي الليل
يتسول في الحانات. ولما قدمته منى لأبويها زعمت أنه أستاذ في ثانوية ابن
بطوطة. ولو تقدم أبوها إلى الثانوية المذكورة لعرف الحقيقة. لكنه لم يتقدم،
فالناس غير معنيين بمعرفة الحقيقة أصلاً. وهي تعرف منذ البداية أن لأبيها
في السوق كل يوم تنافساً محموماً مع جاره "الأقرع" حول بيع الفحم، وإذا
تخلف ساعة واحدة فقط استأثر "الأقرع" ببعض زبائنه، أو أفسدهم عليه. لم يعد
الناس يدرون ماذا يجري حولهم . توسعت المدينة و ترامت أطرافها واختلطت
الأشياء فيصعب عليك أن تتحقق من الأخبار.
وعبد الكريم أيضاً لا يصارح زوجته. وهي تعرف أنه لا يصارحها. وإذا
كان الخلاف كثيراً ما يدب بينهما فليس مرده إلى روح الكتمان الذي يرعيانه
معاً. لكن، مع ذلك فبعضهم كان يحسدهما، والبعض يغار، معتبراً علاقتهما
مثالاً للزواج الناجح. ولست أدري، ربما كانت هذه هي الحقيقة، وأنني أنا
أيضاً أغار منهما. لستُ أدري، فقد أتيحت لي فرصٌ متعددة كنت قريباً جداً
منهما، وأنا أقص عليك ما رأيته في أحد الأيام.
كان ذلك اليومُ يومَ أَحَدٍ. تخيل الزوجان نفسيهما من الناس
الميسورين، وقررا أن يخرجا إلى ضاحية المدينة للاستجمام. منى في الواقع هي
التي أقنعته بالخروج، ثم حرصت على أن يظهر ذلك بمظهر الشيء الذي تحقق
بالتوافق بينهما.
قال لها وهما يتفيئان ظل شجرة:
- طالما منيت نفسي أن نتفق، ولو مرة واحدة في الحياة.
- ماذا تقول ؟ ! أليس وجودنا معاً، الآن في هذا المكان، تحت هذه
الشجرة ثمرة اتفاق ما ؟ !
- صحيح ، ولكننا نتفق في الأمور التافهة ونختلف في الأمور المصيرية.
نتفق في الهزل ونختلف في الجد، وما ذا يفيدنا مثل هذا الاتفاق ؟ !
- أنت ربما تريد أن تمتحن قدرتي على الجدل، ألهذا خرجنا إلى الطبيعة
؟ !
- لستُ أدري، ولكن ربما تهزئين مني. أليس من الواجب علينا أن نتحدث
مع بعضنا ؟ ليكن جدلاً أو غيره. المهم أن نتحدث. ومن مدرستك تخرجت حاملاً
شهادة الثرثرة. لا .. لا ، دعيني أسألكِ: لماذا تحرمين علي ما تبيحينه
لنفسك ؟ لماذا عندما أقترح عليك فكرة أو أتحدث مجرد حديث تقمعينني، هل
تودين أن أرد عليك بالمثل ؟
- وهل تستطيع حقاً ؟ لا تذهب بعيداً ..
- علينا أن نفعل شيئاً .
- كلامٌ كثيرٌ في الانتظار، من أين نبدأ ؟
- لنتدبر أمر الغذاء أولاً، أُنظري إلى تلك الأسرة، إنهم يُعِدُّونَ
الشواء في الهواء الطلق. ما أجمل الطبيعة، وما ألذ تناول الشواء بين
أحضانها !
- أحضانُ مَنْ أيها الوقح ؟
- أحضان الطبيعة طبعاً، يا لكِ من مغفلة، يبدو أن الجوع قد أفقد
أعصابك حيويتَها.
- كلامك هو الذي يكاد يفقدني الآن رشدي، ألم أقل لك إنكَ تهزل أكثر
من اللازم. لنغتنم فرصة وجودنا في هذا المكان الهادئ البعيد عن الصخب و
الضوضاء ولنتفق على شيء، إن كنتَ حقاً تريد أن نتفق. أما الأكل فأمره
يسيرٌ.
- الأكل ضروري، وأنا أحس بالجوع..
- ألا تَقْدِرُ أن تصبر حتى نرجع إلى البيت بعد ساعة أو ساعتين ؟
وها أنت ترى أننا لم نحمل معنا شيئاً ، ولم نخرج إلى هنا لنأكل. وإذا كان
بعضهم يفعل ذلك فهو اختياره. هل تريد أن نكون نسخاً مكررة من الآخرين ؟
- أُنظري، أُنظري، بدأوا يتعاورون السفافيد ..
- أنا لا يهمني الناسُ، منذ البداية ارتحت للخروج إلى هنا، ولكن
للتمتع بالطبيعة. الطبيعة بالنسبة إليَ تعني الإلهام.
- الإلهام ! يا سلام ، يا سلام ! ها أنتِ بين أحضان الطبيعة، ها هو
الظل الوارف وها هو ذا الماء الذي ينساب رقراقاً في الساقية. أُنظري،
اُنظري إلى الماء المعين، واسمعي العصافير تعزف أنشودة الربيع، أليست هذه
هي الطبيعة في أجمل مظاهرها وأبهى صورها ؟ !
- بلى، بلى،
- ماذا ألهمتكِ إذن ؟
- أشياء كثيرة،
- اُذكري شيئاً واحداً على الأقل،
- أن تكون أنتَ زوجي مثلاً، فكأنني ما تنبهتُ إلا الآن إلى كونك لا
تستحق أن تكون زوجي. لا شك أن غشاوةً سميكةً كانت تغطي بصري وترين على
بصيرتي ، وها هي تنقشع فجأة لأرى الحقيقة .
- هل أنهيتِ كلامك ؟ .. أنا ما كنت أحتاج للخروج إلى الطبيعة كي
أكتشف فيك حقاً ما ترينه فيَ باطلاً، كنتُ دائماً أقول لك مثل هذا الكلام
وأنت تتهمينني بالجهل ..
- أنا أهزل،أيها الأحمق. أنت زوجي العزيز، و رفيق دربي، لكنك مستعد
كي تحقد علي في كل حين.
- لكنكِ تتلاعبين بعواطفي !
- و ليكن، فأنت زوجي.
- لا بأس، لا بأس، لِنُأَجِّل هذا الكلام. هيا الآن نرجع إلى
البيت.
- ليس بعد، لدي فكرة. وما خرجت إلى هنا إلا لأجلها. لنجعلها مسك
الختام.
- لا تجعلينني أمل من أفكارك .. أرجوكِ
- سرعان ما ستغير موقفك.
- لعل الجوع قد طرق بابكِ،
- اسمع و لا تقاطعني.
- قد مللتُ من الكلامِ، إذا قاطعتكِ قطعَ الله لساني.
- البارحة علمتُ أنني فزتُ في قرعة السفر إلى أمريكا.
- فزتِ في القرعة ؟
- ألم أقل لكَ لا تقاطعني ؟ ودعوتَ على نفسك !
- عفواً سامحيني..
واستمرت هي تقول:
- نعم، فزتُ من بين الملايين الذين شاركوا. ولم يبقَ أمامي إلا بعض
الإجراءات الإدارية البسيطة قبل أن أحزم حقائبي وأغادر.
- وما لدينا إلا حقيبة واحدة .
- قلت لك اصمت .
- عفواً سامحيني .
صَمَتَتْ لحظةً كأنها تستردُّ أنفاسَها وتستجمع قواها، ثم استمرت
تقول:
- ليست المشكلة في الحقائب. نعم لدينا الآن حقيبةٌ واحدةٌ، لكن
عندما تحين ساعة السفر سنشتري حقائب أخرى وهدايا. سيقرضُنا كلُّ الناسِ.
قلتُ لكَ فزتُ. ألا تعرف ما معنى الفوز ؟ وما معنى القرعة ؟ الناسُ يحبونَ
الفائزينَ ، ينفرون من الخائبين الفاشلين. انظر ، انظر إلى تلك
الأسرة المتحلقةِ حول صينية الشاي ، إنهم لا يأبهون بنا إطلاقاً ، لأننا
منزويان ها هنا عند جِذْع شجرة ، لا سيارة بجانبنا ، ولا صينية أمامنا ،
ولا جمرَ يُضَهَّبُ فوقه الكباب ، ولا أطفال . لكنهم إذا عرفوا أنني فزتُ
في القرعة توددوا إلينا وشاركونا غذاءهم و جلسَ أنسهم . إنها "الفيزا" .
وبالضبط "فيزا" السفر إلى أمريكا ، وما أدراك ما أمريكا .
- وأنا ؟ سأبقى وحدي ؟
- لا تقاطعني .
- عفواً ، سامحيني ، لكنني ..
- أنتَ هو أنا. وأنا هي أنتَ. هل هناك فرقٌ بيننا ؟
كان يدرك أن هناك بالفعل فرقاً كبيراً بينهما. لكن، أَنْ يُعبر
الإنسان عما يعتقده ليس دائماً هو الحقيقة. وخاف أن تجبره مرة أخرى على
السكوت، فلم يجب ولم يعقب . واستمرت هي تقول:
- أنت سوف تظل هنا في المغرب حتى أهيئ أمر التحاقك بي . الحياة في
أمريكا ليست كالحياة هنا . هناك نظامٌ مضبوطٌ، وقانونٌ يطبقُ بصرامةٍ ، لا
حَظَّ للصدفةِ في ترتيب الأمور . وإذا لم يكن الواحدُ مستعداً للتأقلم مع
هذا الواقع فالأجدرُ به أن يظل حيث هو . عليكَ أن تتمرن من الآن على النظام
والانضباط. تأمل مثلاً كيف تصرفتُ أنا في إخبارك. أنا قصداً لم أرد أن
أخبرك في البيت، منذ البارحة مساءً، فَافْهَمْ ! والآن هيا نرجع إلى بيتنا.
- سيراً على الأقدام ؟
- بل عبر الحافلة .
- ليس في الجيب غير ثمن تذكرة واحدة .
- كم عندك ؟
- خمسة دراهم.
- إذن نقترع.
- كيف ؟
- المحظوظ يرجع راكباً، والآخر مشياً على قدميه .
- ولماذا نفترق هكذا ؟ نَخْدَعُ المراقبَ فنركبُ، أو نقطع المسافةَ
راجلين معاً .
- قد يفضحنا المراقبُ .
- عجباً ، تخافين ؟ !
- لا بد أن يتعلم المرء يوماً كيف ينأى بنفسه عن الشبهات.
- المكان يكاد يُقْفِرُ من الناس والشمس تجنح للمغيب .
- قلتُ لكَ نقترع ، تَمَرَّنْ على القرعةِ. لنتمرن أيضاً على
الفراق. أرأيت عندما أسافرُ إلى أمريكا ؟ ستبقى لفترة هنا وحدك ، وسأكون
هناك وحدي . ماذا أعددنا لذلك الموقف ؟ لنتهيأْ إذن.
- معكِ حق. لكن تذهبين أنت راكبةً، خذي، خذي ها هي الدراهمُ
الخمسةُ. سأدبرُ بعدكِ أمري. لي مطلب واحد فقط : عندما أصلُ إلى البيت أرجو
أن أجدكِ قد أعددتِ بَرَّاداً من الشاي المنعنع. لا بد أن نتحدث هذه الليلة
طويلاً .
- اِتفقنا.
أطلت منى على زوجها من نافذة الحافلة، وهي تقلع في اتجاه المدينة.
كانت تبتسم و تلوح له بيديها، وهو يجد السير في إثرها. في البداية سار
سيراً عادياً. وعندما توارت الحافلة، أو توارى هو عنها أخذ يهرول. ولما
اشتد به العياء واحتبست أنفاسه خفض الإيقاع مضطراً حتى كاد يقف،قبل أن
يستأنف تقدمه المندفع.
وهو الآن يحس بالتفاهة ومكر الأشياء. فطالما شارك هو أيضاً في
القرعة. في مستهل شهر نونبر من كل سنة يبدأ في التردد على مكتبة الفتح.
لصاحبها دراية كبيرة بتعبئة المطبوعات الضرورية. كان أستاذاً سابقاً للغة
الأنجليزية. والآن هو نعم المستشار للراغبين في اختبار حظهم مع قرعة السفر
إلى أمريكا. كان عبد الكريم يمني نفسه، ليس خلال شهر نونبر فقط. لكنه، لم
يخبر زوجته أبداً . ما من مرة أخبرها. هاجس كان يحبب له مفاجأتها عندما
يُنادى عليه، وهاجس يُزَيِّنُ له الانتقام منها . أو ما كان يطلق عليه
:"الانتصار عليها بالضربة القاضية"، وذلك عندما تعلن النتائج يوماً ما
ويكون اسمه ضمن قائمة الناجحين. لكن كل ذلك الآن قبضُ ريحٍ . كل ما كان
يمني النفس به قد حدث. ولكن لمن؟ وصاح صيحة مكتومة: "يا رب سترك". وزاده
ذلك وهناً على وهن. أحس بالتعب، وتوقف ليرتاح مرة أخرى. اتكأ على صخرة في
الطريق وشعر فعلاً بطعم الراحة. قال في نفسه :" ما لي أقتلُ نفسي، لن أصلَ
إلا في الوقت الذي قدر لي. و سرت في جسده قشعريرةٌ لم يعد معها يحس أيقظانٌ
هوَ أمْ نائمُ.
بعد فترةٍ قام ليستأنف المسير. وهذه المرة قرر ألا يعدو، كما كان
يفعل من قبل. قام، على رسله. وتقدم بضع خطوات يمشي بشكل عادي. كان يرنو إلى
الأمامِ مستشرفاً المسافةَ الباقيةَ. نظرَ أيضاً يمنةً. كانت منى إلى جانبه
، مَرِحَةً كعادتها. تبادلا البسمة. أرادت هي أن تقول شيئاً فصمتت في
اللحظة الأخيرة. أما هو فقال باختصار: لا بأس ، لنكمل هذه المسافة معاً .
|