حداء بدون كعب
الإثنين 24 / 12...
ركلت الهر الضخم. أخذت النساء أمام قاعة الأكل يضحكن. وصلت
الممرضة.. فتحت الباب، دخلنا وعمت الجلبة. وضعت صحني فوق المائدة.. وذهبت
إلى ركن الغرفة لآخذ كرسيا. لكزتني حلومة بمرفقه وهمست وهي تغمز بعينها أن
الطلبة الأطباء قادمون. نظرت ناحية الباب الحديدي: كان هناك حشد منهم برفقة
الدكتور "زهير" صرخت فينا الممرضة أن نأخذ أماكننا بسرعة. ابتسم لي الطالب
الأشقر ذو الشارب الكث، ثم وضع يده على كتفي وسألني بالفرنسية عن حالتي
الصحية. رأيت الدكالية في المائدة المجاورة تبتسم. ضغط الدكتور زهير على زر
الشاشة الإشعاعية، احتشد حوله الطلبة وأخذ يشرح لهم الصورة التي كان قد
وضعها على الشاشة. سمعت أحدهم يسأله إن كان لا يخشى على الحالة رقم "42".
تذكرت "ميلودة". لم تكن بالقاعة. همست في أذن حلومة بجواري:
- أين هي ميلودة؟
- في سريرها..لم تستطع أن تقوم للغذاء.
- وهل حملن لها الطعام؟
- لا أدري.
مرت قربي الممرضة فاطمة،أشرت لها أن تقترب مني.. ثم سألتها إن كانت
قد حملت الطعام للمريضة رقم "42"... هزت رأسها بالإيجاب.
كانت الصورة الإشعاعية لرئتي ميلودة على شاشة الجهاز... كلنا نتناول
طعام الغذاء.. عدس وسلطة طماطم وبصل مع قليل من الزيتون.. خمس حبات لكل
مريضة. الدكتور "زهير" يختم حديثه عن حالة ميلوده بقوله إنها حالة عادية
ويضيف بأنه ليس هناك أية حالة ميؤوس من علاجها في الجناح. غادروا قاعة
الأكل قبلنا من زجاج الباب رأيت أمي حليمة تغادر الجناح خلفهم دافعة أمامها
عربة الطعام.
أمام المغسلة أخبرتني "أمينة" أن ميلودة كانت تحلم ليلة أمس. وعندما
سألتها ماذا تعني بذلك، قالت أنها كانت تصرخ وتئن خلال نومها.. سألتها إن
كانت متأكدة من أنها كانت نائمة.. هزت رأسها بالنفي.
مسحت يدي على سروال بيجاميتي وتسللت قبل الأخريات خارج المغسلة
لأزور ميلودة. كانت تسدل جفنيها على عينيها الواسعتين وتتأوه... سألتها عن
حالها... هزت رأسها في محاولة لشكري وابتسمت. فكرت أنها جميلة.. تأملت
شحوبها... وزرقة شفتيها وقمت إلى "صالتي" قبل أن تضبطني إحداهن خارج سريري.
كانت الصالة فارغة تقريبا من الزوار عندما وصلت جدتي.
دائما بنظرتها التي يختلط فيها خوف قديم بدهشة طفولية، وكانت
كالمعتاد تحمل القفة الزرقاء والجريدة تحت إبطها. أخذت منها الجريدة قبل أن
أقبلها ثم أحمل عنها القفة. حيت جدتي نساء الصالة ثم جلست على حافة السرير
تسألني عن صحتي وعن موعد خروجي.. كان جليا أنها أصبحت تضيق من عناء الزيارة
ومحنة الحافلات اليومية.
لن تمكث معي طويلا. ليس هناك ما نقوله لبعضنا ولا أرغب في تكرار
نفسي. ثم إنها لم تتضايق أبدا من انشغالي عنها بالجريدة. لم يكن يبدو عليها
أنها تنتظر مني سلوكا بعينه ولم أكن أنتظر منها أكثر من القفة الزرقاء
والجريدة... ونظرتها المحببة تلك... هكذا فكرت وأنا أتفحص العناوين في
الجريدة.
نظرت إلى ساعة يدها الرجالية ثم جرت إليها القفة. أخرجت خبزة من
الشعير وقنينة من الماء المعدني وعلبتين. فتحت إحداهما وأرتني سمكة مقلية
ثم عادت فأغلقتها. على اليمين الدكالية تثني رجليها الطويلتين وتضمهما إلى
صدرها الضامر... كانت تبتسم موسعة ما بين ركبتيها. وضعت جدتي القفة قرب
السرير. ألقت بحقيبة يدها القديمة (متى رأيت هذه الحقيبة لأول مرة؟) داخل
القفة ووقفت.. فهمت أن علي أن أرافقها حتى الباب الحديدي الذي يفصلنا عن
جناح الرجال وحديقة المستشفى. قبلتني عند الباب وذهبت دون أن تلتفت.
وقفت أراقب أحد المرضى العجزة يحلق ذقنه على مرآة مكسرة بين فرعي
شجرة أمام الجناح الرجالي.. ضبطني فابتسم، ثم بدا كأنه تحدث إلي.. لم أتبين
جيدا ما الذي قاله.. ابتسمت ورفعت له يدي. خلف الأشجار رآني الحارس فصرخ في
أن أدخل، سمعه الشيخ.. ضحك وأشار لي برأسه أن أمتثل للأمر...
نظرت للحارس، الذي أخذ يقترب، أخرجت له أصبعي الوسطى و... دخلت...
الأربعاء 26 – 12
حالة ميلودة تزداد سوءا.
حلومة تجلس تحت الشجرة الهرمة تحاول قراءة الجريدة... أتذكر أول مرة
رأيتها فيها.. كانت تقف في الطابور أمام المطبخ، صحنها في يدها، تبدو غريبة
الأطوار بين النساء بكعبها العالي.. بعد ذلك رأيت كيف كانت تدخل الحوارات
مع بعض المريضات بعفوية تامة.. في ليلة نفس اليوم ضبطتها تدخن في المرحاض
بعد أن نام الجميع. ضحكت بدون صوت .نظرت إلى سيجارتها ثم إلي فسألتني عن
توقيت الاستيقاظ من النوم في هذه المستشفى..
حكت لي بعد ذلك – ونحن تحت الشجرة العجوزة ذات أحد – قصتها مع ابن
خالتها …
- كانت المناسبة عرس إحدى القريبات وكنت بصحبة البنات ننقل الماء من
البئر.. تأخرت عنهن قليلا كان هو هناك يراقبني منذ خرجت من خيمتنا طلب مني
أن يحمل عني القلة وهناك بين الأشجار في الطريق الخالية … كسر "قلتي"..
حضرت بعد ذلك خالتي والعائلة وكانت أمي وأخواتي البنات يبكين. أكبر إخوتي
هو جندي في الصحراء توعدني بالقتل.. كنت مرهقة وأريد أن أختفي من أمامهم
جميعا. لم تكن البكارة تعني لي شيئا بعينه.. لم
يهمني شيء أبدا.. كنت أرفضه زوجا.. شيء واحد كان أكيدا... كنت
أحتقره..
تقول حلومة أن ذلك كان منعطف حياتها الرئيسي. أخذت تاكسي حملها إلى
الرباط.
تضحك حلومة.. تضحك ملء مرارتها وهي تحكي..
- أتدري عندما أردت أخذ بطاقتي الوطنية سألني الموظف عن مهنتي
فأجبته:
"قحبة"
أراها ترمي القط الضخم بحجر.. ولا تصيبه.
أخبرتني وأنا أرتشف معها الشاي فوق سريرها أنها حاولت الانتحار أكثر
من مرة. في إحدى تلك المحاولات كانت ثملة وفي قمة اليأس لبست جلبابها وخرجت
جهة السانيات ومعها قارورة من دواء البرغوت، أنقذها سكيران كانا هناك
يشربان.
المساء...
" أكثر النساء حقيقية وعفوية عاهرات " كتبت خلف الصورة التي أهدتني
إياها حلومة هذا الصباح والتي تمثلها وهي باللباس الزموري الجميل.
الدكالية مستلقية الآن على صدرها تقضم تفاحة كبيرة. راق لي منظر
ساقيها الطويلتين وهما تتأرجحان في الهواء وسط سروال البيجاما، فكرت أن
هؤلاء النساء لم يسبق لهن أبدا أن ارتدين سراويل طويلة: هن الآن مضطرات لا
غير.
بعض النساء نائمات والبعض الآخر يحملق في الفراغ..
من خلال زجاج الباب رأيت الممرضة نوال التي يفسر جسدها الصغير كطفلة
غرورها واعتدادها المضحك، كانت تعنف حلومة الزمورية. في ذلك الصباح البعيد
وجدتها تصنفني مباشرة ضمن اليسار المتطرف " المريضة رقم 36 فوضوية " فتقف
عند رأسي الطبيبة ذات الشعر الأحمر الطويل، كجنيات الأساطير المرعبة، تتعجب
لعدم "وقوفي" إلى جانبهم لإرساء النظام داخل الجناح مع أنني "قارية
وواعية".
ألتفت حولي، فكرت أن أقف في الوسط وأخطب فيهن بخصوص ما حدث داخل هذا
الجناح.. عن المرحاض الذي يفتح ويغلق حسب توقيت محدد.. وحظر التجول في
حديقة المستشفى. عن الأسمال الإجبارية التي يسمونها بيجامات.. والدوش..
الدوش الذي أدلقوه فوق رؤوسنا حارا... أردت أن أدعوهن "للتمرد على الوضع"..
ظللن صامتات يحملقن في الفراغ أمامهن. الساعة في معصمي تشير إلى الرابعة.
تأملت وجوههن المنطفئة واحدة تلو الأخرى ثم انقلبت بجسدي الواهن وانسحبت
بعيدا بتفكيري أراقب بعض الطيور التي كانت تحط على الشجرة الهرمة أمام
الصالة. أخذت أعدها. أربعة.. بل خمسة طار واحد وحط بجانب الآخرين... في هذه
الفترة من الظهيرة من توقيت المستشفى يظل الكل شاردا محملقا في الفراغ...
حتى الطيور. لم يعد الآن على الشجرة سوى طائرين صغيري الحجم إذا ما
قورنا بالطيور الأخرى التي كانت تحلق الآن في السماء... سماء المستشفى...
ساعة القيلولة! حين يستعصي علي النوم عادة. الدكالية تعد أيامها
التي مرت وأيامها التي ستأتي بهذا الجناح.. وتستعمل أصابعها في ذلك..
ساقاها ما زالتا تتأرجحان في الهواء...
توقف المنظر عن أن يسليني. زلت قدم الهر الضخم فوقع في برميل
القمامة.. هناك كائنات هامشية تقتات على حساب بؤسنا... صعد الهر ببقايا
كعكة في فمه.. عيناه صفراوان. رأى بعض القطط الصغيرة قادمة من جهة المطبخ..
لم يعرها انتباها، من جهتها لم يصدر عنها أي سلوك بإمكانه إزعاج الهر
الكبير... حاول أحدها تسلق البرميل.. ظل الآخرون في الأسفل يبحثون في
الفضلات... لماذا لم أستطع أبدا أن أحب القطط؟..
في الجريدة قصيدة مترجمة لشاعر لا أعرفه، الشاعر تحدث عن شجرة تتضخم
عند المساء وعن مصابيح تلمع ليلا بين أوراق الشجر. تذكرت الضوء الذي ظل
يزعجني ليلا ولا أعرف مصدره. ذلك الضوء الذي يقتحمني من وراء النخلة
العملاقة التي تبدو سوداء عظيمة خلال الليل من مربع زجاج الباب في "الصالة"
أخبرت الدكالية بذلك فقالت إن المريضة التي كانت قبلي في هذا السرير كانت
تشكو أيضا من نفس الشيء.
- إنها سجن – ليست للعلاج أبدا! " كانت الدكالية تردد وتلعن زوجها
الذي أدخلها إليها.. وكنت أفكر بالخارج.
عندما يأتي الليل يستخرج النساء "طشتات" الغسيل البلاستيكية الصغيرة
من تحب الأسرة لإحياء حفلة المساء. أحيانا كانت "مي غنو" الحارسة الليلية
تقبل بجثتها الثقيلة فتعنفنا ثم تطفئ النور وتغلق الأبواب... وتنسحب كما
حضرت بخطوات بطيئة تئن فيها "بلغتها" تحت وطأة جسدها الضخم الهرم.
ذات ليلة وبعد أن ذهبت "مي غنو" وعم السكوت في الجناح بأكمله أنير
المصباح فجأة وانطلقت ضحكة هستيرية مدوية ثم تتالت الضحكات والصياح وكلمات
متداخلة من نوع "ويلي" و"حشومة". كانت النساء يضحكن ويخفين رؤوسهن وأمامهن
كانت "فاطنة الزايانية" تنزع سروالها وترقص متنقلة بين الأسرة.
في الصباح رأيت فاطنة الزايانية مقرفصة فوق فراشها تكحل عينيها
كعادتها كلما اقترب موعد قدوم الزوار.
مدت إحداهن رأسا نحوي وأخبرتني أن فاطنة كانت تعمل "بارميت" في
صباها وأنها شيخة متقاعدة كما أنها عملت في المنازل والفرمات إلى أن استقر
بها المآل بالمستشفى.
- إنها طيبة.. وزهوانية مع رأسها! ضحكت المرأة وأشارت إلى الزايانية
التي كانت تمشط بعض الشعيرات المتبقية على هامتها. عرفتها عندما جاءتني، في
ذلك المساء البعيد، بورقة وطلبت مني أن أكتب لها رسالة... وحين حمل لها
الدكتور زهير خبر خروجها وضعت الزايانية على خزانتي باقة الزهور التي كانت
على خزانتها وقالت لي "الزهور كتفاجي شويا على الخاطر". لحظة المغادرة بكت
وقبلتنا جميعا بعد أن اقترضت مني ألف فرنك ومن الدكالية جلبابها وقفتها على
أساس إرجاع كل ما استعارته خلال يوم أو يومين على الأكثر... ثم تقدمت بخفة
نحو الباب الحديدي الذي كان قد فتح لأجلها، لم تستطع أن تخفي سعادتها...
أبدا لم تكن الزايانية أكثر جمالا وأناقة من تلك اللحظة... التفتت إلينا
بنظرة أخيرة. رفعت يدها ثم غادرت الجناح.. ولم تعد. سألتني الدكالية:
- لمن أرسلت فاطنة الزايانية الرسالة؟
- لا أعرف … لأحد أقاربها فيما أعتقد.
لم يبد أن جوابي أشبع فضولها: نظرت إلي باستنكار، ثم أضافت أنها لم
تكن تحب تلك "القحبة الشارفة" وعموما هي لا تحب الزايانيات ولا الزموريات
ونعتتهن "بشلوح الخنز".
الخميس 27 – 12...
أمشي منحنية الظهر منذ يومين. أمي الطاهرة، المريضة التي تنام
أمامي، تدلك لي صدري وظهري ليلا بالزيت وتحزم حولي الخرق لأتدفأ، بعد ذلك
تلفني جيدا بالأغطية قبل أن تذهب إلى سريرها. الدكالية تضحك وتلقبني ب
"منانة" لأن منانة كانت أيضا لا تستطيع أن تستوي واقفة.
في هذا الصباح زارني أبي. كنت أصارع حمتي وكان هو يضع يده على جبينه
وينظر إلي من الأسفل... أخبروه أنني محمومة منذ ليلة البارحة وأن الحمى
كادت تقضي علي عند منتصف الليل. نمت قبل انتهاء الزيارة.. كنت أشعر بنظرات
أبي تسقط حنونة علي. راق لي أن أترك المشهد هكذا و... أنام.
آخذ قرصا مهدئا.
الدكالية تضع الفوطة على وجهها وتبكي بصمت. كسرت قطعة شوكولاطا
وناولتها إياها. أخذت أراقبها وهي تضعها داخل قطعة من الخبز وتأكلها..
الساعة تشير إلى الرابعة بعد الزوال. الطبيبة ذات الشعر الأحمر تمنع
أب ميلودة من الدخول وتحيله إلى الإدارة.. أب ميلودة العجوز يصر.. تدفعه
الطبيبة وتنادي على الممرضة.. ثم تطلب منها أن تطرد " هاذ العروبي الموسخ"
الممرضة تستعين بالحارس.. الحارس يضبطني أراقبه خلف زجاج الباب.. يهمس
للممرضة بأمر ما.. ينظران معا إلي ثم يسوقان أب ميلودة خارج الجناح...
في الجريدة إعلان عن أمسية شعرية سيحييها الشاعر ليلة رأس السنة. لو
أنط من الجدار ليلا! تنفجر في رأسي ضحكة قوية.. سيكون ذلك مثيرا خاصة إذا
استقريت جثة أسفل الجدار واكتشفوني في الصباح.. صباح السنة الجديدة..
الجمعة 28 – 12...
حدثت أمينة وحلومة عن فكرة القفز من الجدار. حلومة وجدت أن الفكرة
جيدة وأمينة علقت بأنها إن تسللت إلى الخارج في ليلة ما فلن يكون من أجل
أمسية شعرية..
- هناك أمور أكثر شاعرية في الخارج.
ثم دخلت في حوار مع باقي النساء. حلومة قالت إنها تعرف شاعرا في
بلدهم يطلق عليه ناس الدوار حمزة لهبيل لأنه لا يتوقف عن الغناء... ثم
أضافت أنها كانت تشفق عليه وتناوله بعض الخبز و "الشريحة" من حين لآخر.
عربة مي حليمة تمزق صمت الجناح. وقت العشاء: الخامسة والنصف. رأيت الدكالية
تقفز من سريرها وتحمل طبقها وتخرج. تبعتها باقي النساء... لو فقط أستطيع
الآن أن "أخترق" الباب الحديدي... في هذه اللحظة بالذات.. لكن الجسد كسمكات
"بريفير" ينكمش الآن داخل البيجاما، داخل فراش بارد في "صالة" عديمة
التدفئة في جناح الجنس الثاني المحاط بسور عال يفصله عن جناح الجنس الأول
في مستشفى بضواحي المدينة... ماذا يحدث الآن بالمدينة؟
خرجت جميع النساء يستقر نظري على النافذة المغلقة يقول
Brel إنه يفضل أن يعتقد أن
نافذة مغلقة تبيح للعشاق أن يحبوا بعضهم بشكل أفضل..
قالت الدكالية أن النافذة تطل على الخارج، وأنها أغلقت منذ ذلك
الحادث المشؤوم.
الزايانية وحدها كانت تعرف كيف تحكي قصة النافذة، تقول إنه حادث
طبيعي.. رجل "ينط" إلى صاحبته المريضة، يضيء الشموع في جسدها المنطفئ...
ومنذ ذلك الزمن أغلقت هذه النافذة... كي تعيش النساء وحدتهن بشكل
أفضل...
أمينة أسرت إلي ذات مساء أن صاحبها "الوحش" طلب منها أن تحاول فتح
النافذة..
كان صديقها الضخم يجلب لها "الصوصيت" والفواكه ولا يغادر الجناح إلا
بتدخل من الحارسة. في إحدى زياراته رأيتها تضع يدها بين فخذيه وتضحك.. ثم
رأيته ينزع يدها ويهب واقفا، وبخلاف كل المرات أنهى زيارته قبل الأوان.
عندما خرج قفزت إلى فراشي وعانقتني ثم همست "أرغبه". ثم أضافت "إنه
عن". في أحد تلك المرات التي جاءت فيها لتستمع معي للراديو قالت لي إنه
يحبها لكنه لا يستطيع أن يسعدها أبدا... هو يقسم لها أنه لولاه لكانت قد
أصبحت عاهرة "من زمان"... "إنه على حق" تقول أمينة وتضحك.. حكت لي كيف كانت
تتجرد من ملابسها كاملة وتسدل شعرها الأشقر الناعم على وجهها ونهديها وتجلس
قبالته... كان يناولها كؤوس"البيرة" واحدا تلو الآخر.. وهي تنتظر... ترفع
رأسها نحوه، الدفء يسري في مسامها... تشعر أنها أمام برميل من البيرة ينبغي
أن تتجرعه إلى آخره لتكتشف ما بقعره... لكنها قبل أن تتم البيرة العشرين
تكون قد سقطت.. وفي الصباح تكتشف أنها مرة أخرى لم تستطع أن تصل إلى قعر
البرميل...
تقول أمينة أنه كان يقدم لها الهدايا دائما ويعدها بالزواج وأنها
كانت تحب البيرة ولم يكن أحد غيره يملك أن يطفئ عطشها...
أخذت أضحك... كانت تتكلم بجدية مضحكة... "أرغبه"... انفجرت بالضحك
ثانية... نظرت إلى مستنكرة... ثم سمعتها تقول:
- لا.. ليس كما تظنين... إنه ليس شاذا... لكنها ظاهرة شبه عامة بين
هذا النوع من الرجال... هكذا أسمع الناس يقولون.
السبت 29 – 12...
سألتها إن كانت تحتفظ بلباس خارجي... أجابت أنها تخفي فستانها
وحذائها في كيس بلاستيكي تحت السرير فسألتها إن كانت تتحدث عن حذائها ذي
الكعب، قالت إنه ليس عاليا جدا وأنها تستطيع أن تركض به...
- أنت يا حلومة في حاجة إلى حذاء بدون كعب، أحذية الكعب هذه صنعت
للتتمايل الأرداف الثقيلة.. نحن سنقفز الجدار...
الأحد 30- 12...
في منتصف الليل ماتت ميلودة.
الإثنين 31 – 12...
كان الاتفاق أن نتسلل من أسرتنا بعد أن تنام النساء ونطمئن إلى نوم
مي غنو... هناك حفر كثيرة في الجدار
وحلومة قوية... رغم المرض.. ستقفز أولا ثم تمد لي يدها...
بالنسبة للحراس وممرضي الحراسة أفترض أن لا يكون هناك أحد...
فالليلة ليلة رأس السنة ومن العبث أن يهدي المرء ليلة مثلها للحكومة...
قالت أمينة لحلومة: " أنت تحنين للدعارة... هذا كل ما في الأمر... "
الساعة في يدي تشير إلى الثامنة والربع... الأمسية الشعرية ستبدأ في
التاسعة... أمي غنو قامت بدوريتها الليلة المعتادة ثم انسحبت بخطى ثقيلة
إلى مخدعها... أخذ يتناهى إلى سمعي شخير الدكالية.. أعلم أن العجوز "مي
يامنة" في الركن لا تنام.. لكنها لا تهتم لأمور "النائمات" في الغالب.
أخرجت برفق حذائي وسروالي من تحت الوسادة.. ثم تسللت خارجا.. رأيت
شبح حلومة أمام "صالتها" ترتدي حذاء أمينة.. تقدمت حلومة بهدوء وحذر من
الجدار... رفعت الكرسي القديم الذي تجلس عليه عادة مي غنو وصعدت فوقه ثم
تسلقت الجدار.. سمعتها تقفز من أعلى... وقفت فوق الكرسي، قبضت جيدا
بالحاشية.. نجحت في حمل نفسي إلى أعلى... حلومة في الأسفل.. تشير لي أن
أقفز بسرعة.. بدت المسافة خيالية.. مستحيلة... أغمضت عيني... "إلى الحياة
قدما"... وقفزت...
لم يكن هناك حراس … تماما كما خمنا... تسلقنا الباب الخارجي... هذه
المرة لم أجد صعوبة... قفزت حلومة من بعدي... وانطلقنا... خارج المستشفى...
آيس كريم
لم يكن الزمن واضحا, كنت أحمل ابني بين ذراعي كالمعتاد. أبي لم يكن قد مات
بعد لكنه كان سوف يموت قريبا.. قريبا جدا. رأيته يتقدمني في تلك الطريق..
نفس الطريق (أي طريق استرجعت في تلك اللحظة؟).
المكان أيضا لم يكن واضحا بما يكفي.
أمامي كان أبي المريض الذي سوف يموت في الأيام القليلة القادمة.. يجر قدميه
الثقيلتين و يمضي. نظرت إلى جسده القديم يتحرك أمامي... لم يكن نحيلا و
بئيسا كما كان الأمر قبل رحيله... أبي الآن يبدو تماما كما كان دائما خلال
طفولتي بأكملها قصيرا و بدينا بعض الشيء, بهيئة مهملة و مشية خفيفة (كان
يسرع فيما يبدو نحو هدف ما لم نكن نعلم نحن ما هو). رأيت بنطاله الكحلي
يسقط قليلا من حزامه فينكشف جزء صغير من مؤخرته... شعرت كالعادة بالخجل ثم
بالغضب. و ركضت نحوه لأرفع سرواله و أشد له الحزام (أبي لم يكن قد جن بعد,
و إن كانت لعنة الجنون و الإلقاء بالنفس من النوافذ تتربص بعائلتنا منذ
القرن السابق. شيء ما كلعنة الذنب عند عائلة أركاديو في مائة عام من
العزلة)... أبي يتقدمني نحو الحافة... أفكر أنه قد يفعلها , أقترب منه
أكثر, أمشي بجانبه من جهة الحافة و الطفل في يدي.
- سوف نمر ببائع الآيس كريم يا أبي , أليس كذلك؟
لم نكن نتحدث بهذه الطريقة أبدا خلال حياته. كان يشدني من رقبتي ...
أخبرتني أختي فيما بعد أنه كان يفعل معها نفس الشيء... يشدها من رقبتها
عندما تمشي بجانبه. أذكر أنني شعرت و أنا أسمع منها ذلك ببعض الخيبة. كنت
أعتقد طبعا أنه كان يفعل ذلك معي أنا وحدي, أقصد شدي من رقبتي و اصطحابي
معه إلى السوق. أبي مصاب بجميع الأمراض التي لا يعالجها الأطباء ولا
الدجالون في المغرب... لهذا السبب سوف يموت في السبت القادم كأقصى تقدير.
لا بأس في أن يتناول قرنا كبيرا محشوا بالآيس كريم الملون. ينظر إلي بنظرة
مستجدية دون أن يتكلم. أفكر بسرعة أنه لم يسبق له أبدا أن وجه إلي نظرة
مثلها خلال طفولتي الطويلة التي توقفت فجأة بموته المفجع الذي كان متوقعا
جدا رغم ذلك.
أومأت له أن يفعل... رأيته يخرج كل ما بجيبه من أوراق: أوراق نقدية مطوية
بإهمال مع أوراق أخرى خمنت أنها فاتورة الكهرباء و فاتورة الماء, وقسيمة
زواجه من أمي التي لم يستعملها قط خلال حياتهما الزوجية الرتيبة
بأكملها... ثم رأيته يمدها للرجل بائع الآيس كريم.
- لا تفعل يا أبي , قلت . ونزعت الأوراق من يده .
نظر إلي بخوف طفولي أغاظني لأنه سوف يجعلني أشعر بالذنب فيما بعد... أقصد
بعد موته.
تذكرت طفلي. كان يتثاءب و يرفع يده الصغيرة إلى عينيه و يحكهما.
و دفعة واحدة تذكرت أمرا حصل في زمن ما: هذا الرجل المريض الذي يمضي أمامي
الآن حيا يرزق رفض أن يشتري لي الآيس كريم في أكثر من مناسبة... ثم إنه لم
يكن اشترى الدراجة الهوائية لأجلي, بل لأجل إخوتي الذكور الذين رسبوا في
امتحان الثاني ابتدائي.
- كنت أنجح كل سنة... ولم يكن ذلك ليثير انتباهك أبدا, لهذا أصبحت نسوانية
حقودة فيما بعد... أنت السبب يا أبي..
ينظر إلي بغباء لا أحبه... و لا يتكلم... أكتشف أنه لم يتكلم طيلة هذا
الوقت... ثم لا أكترث للأمر.
- أنت لم تكن غبيا أبدا... لماذا تريد الآيس كريم الآن؟ لو أنك ساويت بيني
و بين إخوتي في حصص امتطاء الدراجة الهوائية لما تحولت أنا إلى امرأة بدينة
بصدر كبير و بوجه مكتنز و مصاب بالملل, و لما كان زوجي ( الذي يبدو أنني
تعودت على سخافته و لم يستطع هو في المقابل أن يتعود على نسوانيتي الأصيلة)
قد فر هاربا من تعاقدنا الذي سوف أفهم فيما بعد أنه لم يكن يلزمه في شيء
محدد... لن أشتري لك الآيس كريم. اخبط رأسك بالحائط إن أردت.
لم يكن هناك أي حائط.
عندما سيكبر طفلي سأشتري له الآيس كريم. أخشى ما أخشاه هو أن يتحول طفلي في
شبابه إلى شاذ. يقولون إن الأطفال المرتبطين بأمهاتهم أكثر من آبائهم
يتحولون إلى الجنس الثالث مباشرة فيما بعد... المرتبطون بأمهاتهم؟ و هل
هناك أطفال لا يرتبطون بأمهاتهم؟
أنتبه إلى بائع الآيس كريم. إني أعرفه:"با الحلاوي" الذي لم نكن نعرف له
غير هذا الاسم خلال مرحلة المدرسة الأولى و الذي التصق به– أظن- بسبب
الحلويات اللذيذة التي كنا نبتاعها منه خلال فترة الاستراحة وسط الدروس أو
بعد الحصة.
- أنظر أبي , إنه " با الحلاوي" بائع الحلويات أمام مدرسة موسى بن نصير.
المدرسة الأولى: موسى بن نصير... ينتفض جسدي مني
...أحس بتلك الألفة التي تحدثها فينا الأماكن التي نعرفها و تعرفها
ذاكرتنا.
أتذكر بسرعة أن الأطفال أصبحوا يطلقون عليها مدرسة موسى كعهدي بالطلبة
الذين كانوا يشيرون إلى "حي مولاي إسماعيل" بإسماعيل هكذا "حرفية" , ربما
نكاية في الرجل أو في المؤسسة, أو ربما في اللغة التي دأبت على التمييز بين
الفقراء /المغمورين و الوجهاء/ المشهورين بعبارات سيدي أو مولاي.
" با الجلاوي" أصبح يبيع الآيس كريم, و انا كبرت و سمنت و أنجبت طفلا ثم
طلقني زوجي غيابيا و سوف يموت عني أبي بعد أيام ولا أدري ماذا ينتظرني أيضا
في هذه الحياة الدنيا.
- أريد آيس كريم لأبي.
أبي سعيد كطفل و طفلي نائم في يدي... سوف يصبح صعبا علي فعل شيء بعيد عن
ابني. أشعر بتشوش عميق يحل في نظامي العقلي , لا أقصد الجنون , بل أقصد فقط
تبعات الأمومة و التي لا تعرفها سوى النساء اللواتي أنجبن و ربين ما
أنجبنه بمفردهن . منذ حصول الطفل في حياتي فقد الكون الكثير من ثوابته و
أصبح الثابت الوحيد داخل دوختي الوجودية هو طفلي.
أبي يلتهم الآيس كريم , أما أنا فأقف مسندة ظهري إلى الجدار... جدار
المدرسة, طفلي الصغير يريح رأسه فوق كتفي المنهكة, و أكتشف أنني في هذه
الصورة الرائقة التي قد يمر أحدهم و يشاهدها أبدو أما لأبي و لطفلي معا.
هذا الذي سوف يلتقط الصورة ينبغي أن يؤطرها جيدا بحيث يبدو "با الحلاوي" و
سور المدرسة داخلها عنصرين أساسيين في الموضوع.
عندما كان أبي أبي بالفعل كان يصحبني معه إلى الحانة التي كان اسمها في
ذلك الزمان الكانتينة (كان هذا الاسم يرن مقرونا بالخوف في آذاننا... الخوف
و الفرح معا, شيء من هذا القبيل , سوف أتأكد من هذا الأمر حين عودة أختي
التي أصبحت أكتشف مؤخرا أنها عاشت بعض التفاصيل المشابهة لتلك التي عشتها
مع أبي خلال طفولتي). أبي كان يتركني بمدخل الكانتينة , أبدا لم أدخله ذلك
المكان المظلم الذي يختفي أبي داخله و يتركني ببابه... ما كان يغيظني في
المسألة و ما زال, هو كونه لم يفكر أبدا في أن يشتري لي قرنا و لو صغيرا من
الآيس كريم لأتلهى به و أنا أنتظره أمام الكانتينة... في أحسن الأحوال
كان يقتني لي لفافة من عباد الشمس, ثم يختفي بالداخل لأكثر من نصف ساعة
أكون أنا فيها قد انتهيت من تكسير الحبيبات المملحة اللذيذة... بأسناني, و
أخذت أبحث عن شيء آخر أكسره..
أنظر إليه يلتهم الآيس كريم مثل طفل. لا أحد يمر من هنا...المدرسة مغلقة...
الأقسام وحيدة و الممرات صامتة. المدرسة سوف تنتظر إلى يوم الاثنين صباحا
كي تدب فيها الحياة ثانية.
كنت طفلة وحيدة جدا و لم يكن يهتم بشأني أحد.
أنظر إلى طفلي الذي أحبه كثيرا بدون ما حاجة إلى مبرر. أحبه كما آكل و
أتبرز... أمر فوق التفكير. ثم أجده جميلا و أتذكر أن القرد في عين أمه
غزال... ينبغي أن نلتزم الموضوعية كلما تسنى لنا ذلك.
ينبغي أن أركز أكثر في ما يحدث.. أبي سوف يموت... سيكون علي أن أدفنه.
عندما يموت الناس يعمل الباقون على قيد الحياة على دفنهم تحت الأرض. ينبغي
أن أخبر الجميع بأنه كان رجلا مسلما رغم أنه طالما سب الدين في ساعات غضبه
, ورغم أنه لم يركع و لو ركعة واحدة خلال حياته باستثناء تلك الركعات
المنتشيات التي كان أحيانا يجد نفسه مضطرا لها من فعل النبيذ... و أبي لم
يسرق أحدا , بل هو الذي كان ضحية عملية سرقة ما زلت أذكرها كأنها وقعت
اليوم , استولى أحد اللصوص الشعبيين على حوالته الشهرية كاملة داخل الحافلة
رقم 16 التي كانت تقله إلى البيت . أبي لم يكن مرتشيا و لا منافقا, بل لم
يكن سياسيا و لا حتى كذابا أو ممثلا للشعب بالبرلمان... كل هذه المعاصي و
غيرها التي يدخل بموجبها الناس عادة إلى جهنم لم يقترفها أبدا, كان موظفا
بسيطا يهوى إصلاح الراديو و التلفزة للجيران في أوقات فراغه, و يحب إعداد
أطباق من السمك و يهوى النبيذ بكل تأكيد.
لقد كان باختصار مواطنا صالحا و مسلما يواظب على شرب الخمر.
هكذا ينبغي له أن يقدم نفسه في ذلك العالم حين يصعد إليه بعد موته.
- أبي , اسمعني جيدا... عندما تصعد هناك و يسألونك من أنت, أخبرهم أنك
مواطن مغربي مسلم مستقيم واظب على شرب الخمر, إياك أن تخفي ذلك... لا ينبغي
أن تتنكر لماضيك الشخصي.
ماضيه الشخصي الذي هو جزء من طفولتي و من حنيني.
الزمن لا يزال غير واضح, و ا لطريق لا تزال طويلة أمامنا, و علينا أن
نقطعها على الأقدام سوية (لم أعد أتذكر لماذا على امرأة مطلقة غيابا مثلي
تزن أكثر من مائة كيلو أن تتكبد هذا العناء)... و طفلي النائم سوف يكبر
يوما ولن يتذكر هذه اللحظة أبدا, لكني سوف أحكي له الكثير من الحكايات
سيكون أكثرها من تأليفي الخاص بالتأكيد, كي أرمم تلك اللحظات المبتورة التي
أمضيتها مع هذا الرجل الذي سوف يتركني قريبا تماما, كما كان يتركني في ذلك
الزمن البعيد وحيدة مع أفكاري أمام الكانتينة أكسر القرف بأسناني....
الغرفة المجاورة
الزقاق موحش و بارد.. أجر خلفي عربة الخضار الفارغة فتصطدم عيني بمشهد
القطة الهزيلة متكومة على نفسها في شق الجدار المطل على مقهى الحي ..
تتقدم أمامي السيدة "فيونا" جارتي القادمة من إحدى تلك المدن البعيدة و
الباردة أراها تتحرك داخل ثوبها البرتقالي المتصلب..أراقب مشيتها الخفيفة
و أتذكر أن زوجي لا يحبها :"هذه المرأة العجوز أفسدت حياة زوجها.. السكير
الطيب, وحياة ابنتها التعيسة, وأيضا حياة حفيداتها الهادئات أكثر من
اللازم…لأنها من برج العقرب"..
تلتفت إلي و تهز لي رأسها الأحمر المصبوغ بالحناء..أحييها و أحيي زوجها
الذي كان يتقدمها بخطوات قليلة.. أفكر أنهما بصدد الجولة الصباحية الأولى
لهذا اليوم: يستيقظان في الثالثة صباحا, يتناولان فنجان القهوة الأول وبعده
تتوالى الفناجين ثم تبدأ الجولات..أنظر إلى ساقي زوجها المشعثين الخارجين
من سرواله القصير و الداخلين في حذائه الرياضي الأبيض..ثم أراه ينتظر
وصولها مبتسما.. ليلف كتفها بذراعه, بفعل العادة, ويمضيان صامتين..
أبتسم رغما عني, لأول مرة في هذا اليوم الجديد من حياتي القديمة, وأنا
أتذكر جوابه عندما سألته ذات مساء عن موعد نومهما:"المسألة تتوقف على
البرنامج الجنسي عموما" أجابني بجدية تليق بالموضوع..
ماذا سأعد لطعام الغذاء؟
أرجو ألا تصطدم عيناي بوجه أعرفه.. أستطيع أن أتخيل رأسي الآن : عيناي
منتفختان ,أنفي أحمر و شفتاي مشدودتان إلى أسناني..ما يكفي حتى لا تنفلت
مني أية كلمة..
ريح باردة مفاجئة تمسح وجهي في نفس الأثناء كانت قد بدأت تصلني تلك النغمة
الأليفة من مذياع مقهى الحي..أغنية شعبية قديمة و حزينة..
لله يا العطار اعطيني دوايا
كالو لي دوايا عندك نصيبو...
عطار كيداوي فراق حبيبو
..زبيدة عمتي..
..زبيدة عمتي.. كانت تشدوها..كانت تشدو هذه الأغنية في المناسبات العائلية
..أحس مرة واحدة بشحنة من المشاعر المبهجة تتدافع داخل جسدي..
آه يا زبيدة.." فينك الآن..و فين أيامك؟"
أتّذكر وجهها الصغير المشرق وعينيها الشبقيتين..أفكر أنها كانت في نهاية
الأمر مومسا طيبة من مومسات مغرب السبعينات الأصيلات اللواتي لا يشبهن في
شيء مومسات هذا الزمن ..كانت مهنتها هذه تجر عليها الكثير من المشاكل مع
الكبار في العائلة ليتم نبذها في النهاية..و مع ذلك كنت في طفولتي أنجح
دائما في زيارتها أنا و حليم أخي الأصغر خفية عن أبي و أمي ..لنأكل عندها
أطباق الحلزون اللذيذة.. التي كانت تعدها لأجلنا.. بالزعتر وقشور
البرتقال.. فنجلس حول ذلك الطبق الطيني الكبير و البخار يتصاعد منه, مدججين
بدبابيسنا..
"حلزون عمتي زبيدة كان بالفعل ألذ حلزون سوف أتناوله خلا ل حياتي" لا زال
حليم يردد إلى اليوم..
تتعقبني الأغنية القادمة من المقهى ..القادمة من حياة بعيدة جدا عشتها
..أكاد أشك في هذه الحقيقة من فرط التباين الحاصل بين حياتي الحالية في
هذه المدينة و بين تلك الحياة الأخرى في تلك المدينة البعيدة..تلك الحياة
الأخرى الساكنة رغما عني داخل جسدي..
لله يا العطار
اعطيني دوايا
كانت زبيدة تستجدي عطارا مجهولا بصوتها الحزين و الجميل ..بلوعة خاصة
بها..أتذكر ذلك جيدا..
...وكنت أظل قابعة في غرفة التلفزيون في منزلها..دائما رفقة بعض النساء
اللواتي لا أعرفهن وبجانبي كان يقرفص حليم الذي كنت أتوقع له مستقبلا واعدا
في التطرف اليساري.. كنا صغيرين و مراهقين .. وكان عالم الكبار التقليديين
لا يعجبنا.. لأنه لم يكن يشبه في شيء العوالم الرائعة التي كنا نجدها في
الكتب الكثيرة التي كنا نبتلعها .. أوفي الأفلام المبهرة التي كنا نشاهدها
في سينما صباح الأحد بالنادي السينمائي..عمتي كانت الأقرب من كل كبار
العائلة إلى تلك العوالم حتى وإن كانت منبوذة من طرفهم..ربما لهذا السبب
بالتحديد كنا نواظب على زياراتها خفية..
أنظر إلى جلبابي النظيف وأتذكر "الجينزات" المتسخة التي كنا نرفض نزعها
يوم الغسيل, حليم وأنا.. حتى تنسجم أكثر مع رؤِيتنا وتصورنا للعالم..
الريح الباردة لا تزال تداعب وجهي.. وتنشط ذاكرتي..
كل تلك الأفكار المهربة كانت تمنحنا, ونحن نشاهد التلفاز في بيت عمتي, ما
يكفي من مشاعر التسامح حيال ما يحدث في الغرفة الأخرى.. حيث توجد زبيدة
صحبة أحد زبنائها الغامضين..
أفكر الآن أنني لم أر أبدا أي واحد منهم....مع أنني كنت أجلس دائما هناك في
غرفة التلفزيون.
كانوا كثيرين, لم أستطع أن أعدهم ..كنت فقط أسمع طرقات على باب المنزل ثم
أسمعه يفتح ثم يقفل.. فهمهمات تكاد لا تسمع.. ثم صمت.. ثم صوت أقدام على
السلم فيفتح الباب ويغلق..و هكذا..
مجرد أشباح لا يراها أحد.. لم يكن لوجودها أن يوقف أحاديثنا أو تتبعنا
للمسلسل العربي.. الحياة كانت تمضي عادية و مملة والحرارة كانت غير محتملة
في أصياف تلك الحياة..رغم الحركة الدؤوبة القائمة .. بالغرفة المجاورة..
كنت أرى عمتي تتحرك بنشاط غريب داخل المنزل .. تأخذ دشا باردا, تغير ثوبها,
تعد شايا أو قهوة, تبدأ حديثا ..تمضي ذهابا وإيابا أمام الغرفة و تبتسم لنا
كلما التقت عيوننا بعينيها الحزينتين..فجأة نسمع طرقا على الباب.. تبتسم
لنا معتذرة عن شيء لم نكن نفهمه آنذاك..ثم تغيب لفترة قد تطول وقد تقصر..
الجو كان حارا.. و المدينة كانت مقفرة و شوارعها مصابة بالقرف.. لم يكن
لدينا مكان ألطف من منزل عمتي نلتجىء إليه..كنا نشعر بالغضب لأن لا أحد نجح
حتى ذلك الحين في قلب النظام وتعويضه بنظام اشتراكي تروتسكي كما يحدث في
أفلام سينما الأحد ..جميعهم انتهوا في زنازين بعيدة و مجهولة, كنا نحلم
بالثورة وبالحب الملتزم .. وبالحرية.. كنا بحدسنا الطفولي نفهم أن أحلامنا
ممنوعة لهذا كنا نهربها إلى بيت عمتي التي كنا نشعر بحدسنا الطفولي دائما
أنه كان بيتا متسامحا معنا كما كنا متسامحين معه أيضا..
عندما كان يأتي الليل إلى بيتنا وتأمرنا أمي بالتوقف عن القراءة حتى لا
نؤذي عيوننا وأدمغتنا و تطلب منا الذهاب إلى غرفتينا. كان حليم يطلب مني
المكوث معه بعض الوقت و التحدث عن العالم الجميل الذي كنا سنِؤسس له مع
حلول الثورة .. كنت أحكي له حكايات من خيالي أنسبها في النهاية إلى اسم
كاتب كبير ينتهي اسمه ب"سكي" أو ب"كوف"..عندما أفرغ من الحكي وأستعد للنهوض
إلى غرفتي كان يداهمني بالسؤال:
-هل الله موجود أم لا؟
أمي كانت تقول أن زبيدة عمتنا لم تطلق من زوجها سلام (زوجها الأول الذي
زوجت له في سن الثالثة عشر و الذي قفزت من نافذة منزله هاربة بعد شهر من
الزواج)..تقول أمي أنه لم يطلقها لأنه لم يعثر عليها ليفعل.. أو لأنه لم
يبحث عنها أصلا..
كنت أحب سماع هذه الحكاية..
عدم طلاقها لم يمنعها طبعا من الزواج "عليه" بالكثير من الرجال. كانت
لأحدهم دمالة كبيرة جدا في فخده و كانت تداوم على تنظيفها بالكحول
والضمادات إلى أن قرفت منها ذات صباح فطردته من منزلها ..
أستطيع أن أتذكر أزواجا آخرين, لكنهم كانوا أيضا مجرد أشباح تدخل المنزل,
تلتهم الأطباق الشهية التي تعدها عمتي بكثير من المهارة.. تنام ..تشخر..ثم
في صباح ما تدفع خارج الغرفة.. ثم خارج المنزل .. لتستأنف الغرفة نشاطها
المعتاد ثانية..
كان المنزل من طابقين.. الطابق السفلي يكتريه تجار أسبوعيون يبيتون فيه كل
ليلة خميس, يحملون سلعهم ويغادرون في اتجاه أسواق أخرى.. الطابق الأول كان
يتكون من غرفتين, كنا نقبع حليم وأنا, رفقة بعض أطفال العائلة الذين كانوا
يحبون العمة مثلنا, في غرفة التلفزيون.. هاربين من حرارة الصيف.. كان يحضر
معنا غالبا بعض الضيفات الغامضات اللواتي سوف أفهم فيما بعد أن العجوزات
منهن مومسات متقاعدات, في حين كانت الصغيرات فتيات حديثات العهد
بالدعارة.. كانت زبيدة تحتضنهن في بداية مشوارهن المهني في انتظار أن يصلب
عودهن ويحققن بالتالي استقلالهن المادي والمعنوي و يخرجن إلى الحياة معولات
على سواعدهن.. أقصد على أجسادهن بأكملها وليس السواعد فقط..
أتذكر أنهن كن جميعهن بيضاوات بشعور منسدلة على أكتافهن.. أثوابهن كانت
مطرزة وتكشف عن بياض سيقانهن و صدورهن.. أتذكر أن شفاههن و أظافرهن كانت
حمراء..دائما. كنا نحن الأطفال نتحدث كثيرا و نلعب الورق.. في الوقت الذي
كانت فيه الضيفات الغامضات يمكثن صامتات منتظرات شيئا ما لم يكن بوسعنا
إدراكه..
و كانت هناك الغرفة الأخرى..
لم أدخلها أبدا .. كنت أمر من أمامها فلا ألتفت. كنت أعلم أنها هي و لا شيء
غيرها تقف وراء مقاطعة الكبار في العائلة لعمتي و كنت أستطيع أن أحس أيضا
إلى أي حد كان ذلك مؤلما بالنسبة لها..
بسبب تلك الغرفة ,إذن, كان ممنوعا علينا زيارتها و مع ذلك كنا نحبها و
نفضلها على كل الخالات و العمات القاسيات اللواتي لم يكن يتوفرن على غرف
غامضة ولا على أطباق لذيذة من الحلزون..
أقول إنني لم أدخلها أبدا و مع ذلك أتذكر بالأحرى أنها فتحتها ذات مساء في
وجهي مباشرة و بدون سابق إنذار..كانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة..
فتحت الدولاب وأخرجت قنينة عطر من الحجم الكبير من النوع الذي يسوق بطريقة
الكونتر بوند.. وأخذت ترش ثيابي و شعري.. أعادت القنينة إلى الدولاب و
أقفلته ثم علقت المفتاح في خصرها..استرقت النظر إلى الداخل و رأيت السرير..
كنت أشعر أنني ما دمت لم أدخل تلك الغرفة فوالدي لم يكن لهما سبب مقنع في
منعي من زيارتها. كأن عمتي كانت تتوفر في تقديري على بعدين اثنين..و كنت
أنا أتعامل فقط مع البعد المتعلق بالحلزون.. بحكايات أزواجها الغامضين
المسلية.. بحكاية سلام زوجها الأول.. بالمستملحات المرتبطة ببعض صديقاتها
المومسات المعتوهات الطيبات: "بنت العسكري" التي اشترت لابنها الحشاش قردا
بسلسلة من ذهب ليِؤنسه في وحدته إلى حين عودتها من "السربيس".." بنت ماضي"
السيدة العجوز بجسد طفلة ذات الشعر القصير المصبوغ بالأصفر, و التي كنا
نتربص مرورها بساحة النافورة متأبطة كل مساء قنينة نبيذها الأحمر اليومية,
ملفوفة داخل جريدة, قاطعة الطريق من "البيسري" إلى بيتها مشيا على
الأقدام. كانت بنت ماضي توزع تحياتها الحارة على كل معارفها الذين تصادفهم
في طريقها..وإذا اقتضى الأمر كانت تدس قنينتها تحت إبطها لتنهال على
أصدقائها بالقبل..وقد تتوقف لتبدأ حديثا ما..أمام النافورة..
هِؤلاء النسوة الظريفات كن كل عائلتها..بالإضافة إلينا نحن أطفال
العائلة..طبعا..
الأغنية لم تعد تستطيع اللحاق بي.. ابتعدت كثيرا فيما يبدو..جسدي المصاب
بالحزن وبالحنين المؤلم.. يدب الآن فوق أرض أخرى..
الريح الباردة هذا الصباح حنونة تماما..
أغمض عيني و أتحسس وجنتي و عنقي..
" الخضرة جديدة .. آش حب الخاطر؟".. بائع الخضار الذي يبدو أنني لم أنتبه
إلى وقوفي أمام دكانه, يوقظني بسؤاله المعتاد..
أش حب الخاطر؟
لا يمكنه طبعا, إدراك ما يحبه الخاطر في هذه اللحظة..
هل عندك حلزون بالزعتر وقشور البرتقال؟
|