قرض تسليف
حلَّ الهدوءُ فجأةً على ممرّات ِ القِسمِ ، و سيتخامدُ الضجيجُ من الآن
رويدا ً رويدا ً حتى يصل بعد قليل ٍ إلى حدِّه الأدنى .. أنظرُ إلى ساعتي
فأجدها تشيرُ إلى الثانية عشرة .. انتهت ِ المراجعات ُ ، و ها قد بدأَ يصلُ
إلى مسامعي صوتُ ملءِ القواريرِ البلاستيكيّة بالماء من صنبورِ المغسلةِ
المتوضّعةِ في نهاية الممر ِّ . كل ٌّ سيملأ ُ قارورة ً أو إبريقا ً ،
فوقتُ (المتَّـة) قد حان َ .
كالعادة ، سأمضي ثلاثَ ساعات ٍ تذكرني يومياَ بأنني لا زلتُ مدفونةً
في مكتبي كقطعةِ أثاثٍ فيهِ. أتحدّثُ إلى الأوراقِ والكراسي و أمارسُ
عادةَ اجتراعِ (المتّة) كالآخرين .. و سيرنُّ الهاتف كالعادةِ الساعةَ
الواحدة لأسمعَ صوتَ حسام بعبارتهِ اليومية: ( ماذا سنتناول غداءً اليوم؟!
) ، هذا ما يربطنا .. الغداءُ المتأخّرُ و وجبةُ الإفطارِ الباكرةُ
..خمسُ سنواتٍ على هذا النحوِ أحسستها خمسينَ عاماً عنوانها التكرارُ و
الرتابةُ ، لكنني أتفاءلُ بعدَ كلِّ ليلةٍ نقضيها معا ً بنسيانِ الأمرِ و
القدرةِ على التعايش مع هذا الواقعِ رغم أنَّه يضفي على ختامِ السهرةِ
تذمُّرَه الدائمَ و يذكّرني دوماً و قبل أن يغفوَ بأنَّني عاقر لا تستطيع
أن تكونَ أمَّاً ، ويتمنَّى لو أنَّ لديه ولداً واحداً على الأقلّ ،
فيقولُ كمنْ يلفظُ كلماتِه الأخيرةَ قبل أن يوشكَ على مفارقةِ الحياةِ : (
ليتَ الله يرزقنا بولد !! ) .
تدخلُ وداد لإجراءِ التنظيفِ اليوميِّ و تهمسُ بصوتها الأجشِّ :
- ( هل سمعتِ الأخبارَ الجديدةَ ؟ )
- ( هل مِنْ جديدٍ ؟ )
تـتلفّتُ يـمـيناً ويـساراً متصـنّعةً تفـرّدَها في معـرفةِ الأمـــرِ
وتقول :
- ( رئيسُ القسمِ والمحاسبُ هما الآنَ رهن الاعتقال،لقد
اكتُشفَ أنَّ الأوّل قد رتّبَ عقوداً وهميةً
لتوظيفِ العمّال المؤقتين ،
ويتقاضى رواتبَهم بالاتّفاق مع الآخر.. و لا زال التحقيقُ في بدايته ،
واللهُ أعلم بما سيظهرُ بالإضافةِ إلى هذا ! )
قضيّةُ فسادٍ جديدةٌ تتكرّرُ في رتابةٍ معروفةٍ ! كلَّما جيءَ بموظّفٍ
نزيهِ ليكونَ رئيساً للقسم انقلبَ بسحرِ المال والحاجةِ إلى موظفٍ مختلسٍ!
.. أرجو ألاّ يتمَّ تكليفي برئاسةِ القسمِ لأنّني لم أعد واثقةً من نزاهتي
! و ربّما كانتِ المستخدمةُ وداد أنزهَنا جميعاً والأجدرَ بتولّي هذا
المنصب
.
بعد أيّامٍ تحضرُ زميلتي سميّة وتقولُ كمنِ اكتشفَ للتوِّ سرّاً غامضاً:
- ( تمَّ كفُ أيدي رئيسِ القسمِ والمحاسبِ عن العملِ ، وأنتِ المرشحة ُ
الآنَ لأنَّكِ الأقدمُ بيننا ! )
- (لا أريدُ هذه المصيبةَ ! إِنَّ عملي هنا مريحٌ والأفضل لي أنْ أستمرَّ
مدفونةً في مكتبي من أن أنتهيَ إلى ما آلتْ إليه حالُهما .)
- (هذا ما جنيا على نفسيهما . أمَّا أنتِ فمختلفةٌ.أليس كذلك ؟)
تدخل لما - موظّفةُ الديوان - حاملةً ورقةً تدفعها إلينا وهي تقولُ يائسةً
لتقطعَ عليَّ فرصةَ البوح بالإجابة الصريحة:
- ( لكأنَّهم عجزوا عن إيجاد الكفاءة اللازمة في قسمنا ليرسلوا إلينا
رئيسَ قسمٍ و محاسباً من دائرةٍ ثانيةٍ .. انظرا ! لقد عيّنوا الأستاذ رمزي
رئيساً ، والأستاذ ماهر محاسباً ، وكلاهما من خارج الدائرة.)
أقول :
- ( هم محقّون في ذلك .. فكما تعلمان لقد تكرّرتْ عملياتُ ارتكابِ الفسادِ
هنا ، و لا بدَّ لهم من تطعيمِ الطاقمِ بوجوهٍ جديدة ٍ .)
يتَّصلُ حسام ليستعلمََ عن الأمر ، ويبدي تذمُّرَه أيضاً لعدم حصولي على
المنصبِ ، ثمَّ يسألني عن طعامِ الغداء .
تحضر وداد في اليومِ التّالي وتدعوني لمقابلةِ الأستاذِ رمزي في مكتبه :
- ( أسرعي ! سترين كم هو جميلٌ وأنيقٌ .. طقمٌ كحليٌّ ، ربطةُ
عنق زرقاءُ ، مثل العرسان .. هيَّا ، سأسبقكِ . )
في مكتبِ الأستاذِ رمزي ، الجميعُ حاضرون ، سميّة و لما ووداد و وهبة و
خلدون وغيرهم . كانَ واقفاً خلف مكتبه ، والأستاذ ماهر إلى جانبه ، وحالما
رأيته عرفتُ أنَّه هو الذي و قفَ قبلَ قليلٍ عندَ بابِ مكتبي ناظراً إليَّ
و متفقِّداً المكتبَ بنظرةٍ خاطفةٍ قُبيلَ مغادرته . . لقد ظننته مراجعاً
أخطأَ في العثورِ على الموظــّفِ المطلوب !
ها هو يبدأ الآنَ بالتعرُّف إلينا .. كانت وداد محقّةً ، إنَّه جذّابٌ ،
قامتُه باسقةٌ شامخةٌ ، شعرهُ أسودٌ متناغمٌ مع شَيبٍ قليلٍ ، عيناه
سوداوان و نظرتُه حادَّةٌ و صارمةٌ ، لكنَّ ابتسامةً دائمةً ترافقُ حديثهُ
، أسنانُه بيضاءُ لامعةٌ - أكيدةٌ منْ أنّهُ لا يدخِّن - ملابسُه أنيقةٌ
و فاخرةٌ ، بشرتُه حنطيّةٌ ، صوتهُ هادئٌ و دافئٌ لكنَّهُ يكثرُ من تحريكِ
يديهِ أثناءَ حديثِه ويبالغُ في تعابيرِ وجههِ و خاصَّةً في تحريكِه
حاجبيهِ وتجعيدِه جبينَهُ .. كان أشبه ما يكونُ بشاعرٍ يلقي قصيدةً
حماسيَّةً :
- ( معاً سنحارب الفساد ، معاً سنبدأ سياسةً جديدةً في العمل ، ستطلعونني
على دقائقِ أيِّ أمرٍ مهما اعتقدتم أنه اعتياديٌّ .. لن تقرّروا شيئاً من
دون استشارتي ، ولن تكتبوا حرفاً في معاملةٍ قبل توجيهاتي الخطِّـيَّةِ ..
لا تجتهدوا في أمرٍ قد تعتقدون خطأً أنَّه من ضمن صلاحيَّاتكم .. تناولُ
المشروبات في أثناء وجودِ المراجعين أمرٌ ممنوعٌ منعاً باتَّـاً.. التجمّع
في المكاتبِ شيءٌ محظورٌ أيضاً.. كلٌّ سيكون خلْفَ مكتبهِ لخدمةِ المواطنين
، وسيكونُ مكتبي مفتوحاً بشكلٍ دائمٍ أمامَ استفساراتكم .. أريد أن تحرصوا
على عدمِ استعمالِ هواتفِ مكاتبكم لأغراضٍ شخصيَّةٍ ، و لا أريد أن أطلبَ
أحدَكم لأجدَ خطَّ هاتفِهِ مشغولاً لأكثر من دقيقةٍ واحدةٍ ، وهي مدَّةٌ
كافيةٌ لأيِّ استشارةٍ تخصُّ العملَ.. تعاملوا مع المراجعين باحترامٍ حتّى
و إنْ بدرتْ منهم فظاظةٌ.. أنجزوا المعاملاتِ يومياً من دون تأخيرٍ ، وفي
حال كثافتها تؤجَّلُ إلى يومٍ واحدٍ على الأكثر ، يومٍ واحدٍ فقط ، تحتَ
طائلةِ المساءلةِ .. كلِّفوا المستخدمةَ وداد بنقل المعاملات من مكتبٍ إلى
آخرَ و لا تنقلوها بأنفسكم حتّى لا يكون ذلك ذريعةً للتجمّعاتِ أو
لمغادرةِ المكاتب .. لا أريدُ لأيٍّ منكم أن يطلبَ المغادرةَ أو الإجازةَ
من المديرِ دونَ المرورِ عبرَ مكتبي ، و لقد اتفقتُ مع السيّد المديرِ حولَ
هذا الأمر .. أريدكم أن تعتنوا جيّداً بالمظهرِ اللائقِ ، فليسَ من
المستحبِّ أنْ تتركَ شعرَ ذقنِكَ هكذا من دون حلاقةٍ يوميّةٍ يا سيّد خلدون
!!
سأشتري نباتاتٍ للزينةِ لتوزعَ في مكاتبكم و في الممر ِّ، وخاصَّةً نبات
اليوكا ، وستقومونَ بالعنايةِ بها بشكلٍ مستمرٍّ بعد وضعها في أماكنَ
مناسبةٍ .. لقد مررتُ إلى مكاتبكم جميعاً قبل دخولي إلى هنا ، و وجدتُها
قاحلةً بلا حياة ! كذلك فقد وجدتُ بعضاً منكم يستمعُ إلى الأغاني أو نشراتِ
الأخبارِ ، هذا ممنوعٌ في أثناء العمل .. ستعرفون كلَّ الأخبار في منازلكم
مساءً ، وسيُصادرُ كلُّ جهاز راديو يحتفظُ به صاحبُهُ في مكتبهِ ..
أعرِّفُكم على الأستاذ ماهر المحاسبِ الجديدِ ، سيطلعكم في نهاية كلِّ
شهرٍ على صرفيَّاتهِ فليس في الأمر من سرٍّ بعد الآن . . سيعلِّق نسخةً عن
أمر الصرف في مكتبه ليعرفَ كلُّ موظفٍ ما الذي يجري .. كذلك سينشرُ لائحةً
موقعةً من قبلي تتضمّن أسماء العمّال المؤقتين و أصحابَ العقود . أمّا
بالنسبة إلى رواتبكم ، فلا أريد أن تسامحوه بأيِّ قرشٍ من مستحقّاتكم حتى
أجزاء الليرة ، و من واجبهِ أن يتدبّرَ تأمينَ القطعِ النقديَّةِ الصغيرةِ
مهما بلغتْ . . و الآن ، هل من سؤال ؟ ).
و لمّا لم يجدْ أحدٌ منّا نفسَه بحاجةٍ إلى الاستفسار بعد هذا الخطاب
الموسّعِ و الواضح، طلبَ منّا المغادرةَ لمعاودةِ العمل و تنفيذِ كلِّ ما
طلبَ ، وعند خروجنا سمعتُ خلدوناً يهمس لوهبةَ خلفي:
- ( نسي أن ينبّهنا إلى قصِّ الأظافرِ وتلميعِ الأحذيةِ! ).
فيعلّق وهبة ساخراً بعد أن يضحكَ :
- (إنَّه ديكتاتورٌ حقيقيٌّ ، أعاننا اللهُ عليه ! ) .
لم يكنِ الأستاذُ رمزي ديكتاتوراً ، بل على العكس من ذلك تماماً ؛ كان
لطيفاً ، حَسنَ التعاملِ معنا ، مقدّراً لظروفنا المعيشية و الاجتماعية،
كريماً في مكافأتنا ، لكنّه كان صارماً بشأن مواعيدِ الدوام والمغادرات ،
وكذلك بشأن إجراء المعاملات و الاهتمامِ بدقائقِ العمل .
كانَ يقفُ عن كرسيِّهِ لدى دخولي إلى مكتبه ، ويبادرني بابتسامةٍ رقيقةٍ
متودِّدَةٍ ، وكنتُ في بداية الأمر أحسبُ أنَّ ذلك نوعٌ من التعاطفِ أو
الشفقةِ التي اعتدتُ على تلقّيها من رؤسائي في العمل بسبب مشكلةِ الإنجابِ
، وخُيِّلَ إليَّ أنَّ أحداً ما قدْ قامَ بإخبارهِ عن الأمر منذُ تسلُّمهِ
لمهامهِ ، لكنّني فوجئتُ به يسألني ذات مرّةٍ :
- " هل أنت متزوّجةٌ ؟ "
- " طبعاً ! ألم تعلم بذلك قبلاً ؟! "
- " انتبهتُ لكونكِ بلا خاتمٍ فظننتُكِ عزباءَ . "
- " لقد بعتهُ بعد سنةٍ واحدةٍ من الزواج . "
- " ليس هذا فقط ؛ بل إنَّ المتزوجاتِ في القسمِ كثيراً ما يطرحن
مشاكلَ البيتِ و الأولادِ ويطلبنَ الإجازاتِ والمغادراتِ .. وأنتِ لم تفعلي
ذلك منذ ثلاثة أشهرٍ !! "
- " في الواقعِ .. ليس عندي أولادٌ . "
- " آا .. أأنتِ متزوجةٌ حديثاً ؟! "
- " منذ خمسِ سنواتٍ تقريباً ، لكنَّ الله لم يرزقْنا بعدُ بأطفالٍ
.. وربَّما لن يفعلَ لأنَّ هناك عوائقَ صحيّةً !"
- " حسنٌ ، لا عليك .. أخبريني لماذا جئتِني الآن ؟ "
توطَّدتْ علاقتي بالأستاذِ رمزي ، وأصبحتْ لديَّ عادةُ الدخولِ إلى مكتبهِ
عدّةَ مرّاتٍ في اليوم .. شيءٌ ما يدفعني إلى ذلك ، والحجّةُ الدائمةُ هي
سؤالُه عن أدقِّ التفاصيل ، حتى صرتُ انتظرُ بفارغِ الصبرِ أنْ تصلَني
معاملةٌ من أحد المراجعين لأسارعَ إلى استشارتِهِ بشأنها .. هكذا هي رغبتُه
التي أملاها علينا في يومهِ الأوّلِ . بتُّ اشتاقُ لرؤيتِهِ دوماً ،
وأختلقُ عذراً لرؤيتهِ أحياناً ، وصرتُ أفتقدُ إليه إن غادرَ القسمَ مرَّةً
.
كنتُ في البداية أسلّمُه المعاملةَ من جهة مكتبهِ الأماميّة، وأخيراً
أصبحتُ أقتربُ منه لكي أُصبحَ إلى جانبه خلفَ مكتبهِ، وأضعُ أوراقي أمامَه
ليراجعَها أو يدقِّقَها أو ليكتبَ عليها حاشيتَهُ وتوجيهاتِهِ . كنتُ أحرصُ
على الاقتراب أكثرَ في كلِّ مرّة حتَّى وجدتُ نفسي يوماً أنحني وأُسندُ
زنديَ الأيمنَ فوقَ زجاجِ مكتبهِ وأُلامسُ بأصابعِ يدي اليسرى مسندَ
كرسيِّهِ . كان منهمكاً وقتها بقراءةِ المعاملةِ
ويهمُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ بالتوقيع عليها، لكنّه نظر إليَّ فجأةً
فتغيّرتْ معالمُ وجهه الاعتيادية وأخذ نفساً عميقاً ممزوجاً بتنهيدةٍ
مخفيّةٍ ، فشعرتُ بالحرج وسويّتُ وقفتي ، لكنّه عادَ للابتسام وهو يسألُني
:
- " ما نوعُ العطرِ الذي تستخدمين؟ "
- " في الحقيقة إنَّهُ عطرٌ تركيبيٌّ اعتدتُ عليه منذ شبابي ، و هو مكوّنٌ
من الجوريِّ والفلِّ ، ويمزجُهُ البائعُ بطريقةٍ يجهلها سواه ."
- " لطيفٌ جدّاً ، ناعمٌ ومريحٌ ."
كلماتُ رمزي الناعمةُ جعلتني أشعرُ بارتياحٍ غامرٍ ، وهذا ما شجّعني
لأسألَهُ عمّا كنتُ أرغبُ في معرفتِهِ منذ شهورٍ :
- " منذ متى تزوّجتَ يا أستاذ رمزي ؟ "
أجابني من دون تردّدٍ :
- " منذ خمسة عشر عاماً وشهرين وستّة أيامٍ ."
- " الإجابةُ الدقيقةُ في مثلِ هذه الحالةِ لها مدلولان متناقضان ؛
فالسعداءُ والتعساءُ هم الذين يعدّون الأيّامَ في حياتهم الزوجية !! "
- " لستُ من السعداء جدّاً ، لكنّني لستُ من التعساء!"
- " وما الذي ينقصكَ لتكونَ سعيداً جدّاً ؟ "
- " أنْ تكفَّ زوجتي عن غيرتها المجنونة ."
- " لكنَّّ الغيرةَ دليلُ حبٍّ !! "
- " لا أعتقدُ ذلك ، فالمرأةُ تغارُ سواءٌ أكانت تحبُّ زوجَها أم
لا . وسواءٌ أكان زوجها ميّالاً لغيرها أَمْ لا . الغيرةُ لدى زوجتي تعبيرٌ
عن التملّك ، وبالمقابلِ لا أحبُّ أنْ يتملّكَني أحدٌ . والغيرةُ دليلٌ على
ضعفِ الشخصيَّةِ وعلى فقدانِ الثقةِ ، ليس بالآخر فحسب ، بل و بالنفس أيضاً
. وهناك رجالٌ يتعمّدون إثارةَ غيرةِ نسائهم بحجّة التأكّدِ من محبّتهنَّ
لهم ، لكنّهم معتوهون وقليلو الإدراك ، ومثلُ ذلك ما ينطبق على الرجال
الغيورين ، ولستُ واحداً منهم . "
أحسستُ أنَّ كلامَهُ كان استدراجاً وتمهيداً لأمورٍ ستحدثُ في المستقبل ،
وعلى الرغم من أنَّ أفكارَه التي طرحَها كانتْ مناقضةً لما أُؤمن به ، إلا
أنّني وجدتُ نفسي عاجزةً عن الاستمرارِ في مناقشتهِ فعدتُ إلى مكتبي
متسائلةً:
" لماذا لم أقلْ لهُ إنَّه مخطئٌ في تصوّراته عن الغيرة والتملّك ؟ وإنَّ
من لا يغارُ لا يحبُّ ومن لا يحبُّ لا يغارُ ؟ لماذا تركتُه يملي عليَّ
أفكاراً أعتقدُ أنّها غيرُ صحيحةٍ ، في حين أبديتُ له موافقتي في الرأيِ ؟!
لو أنَّ حساماً طرحَ ذلك لقامتِ الدنيا ولم تقعدْ . لكنْ ماذا لو كان صمتي
دليلاً على عدم صحّةِ قناعاتي التي اكتسبتُها منذ الطفولة ؟ أيكون لرمزي
هذا السحر الفائق في الحضورِ والإملاءِ ؟! ماذا حدثَ يا امرأةً ؟ أنسيتِ
أنّك متزوجةٌ وأنَّ لديك زوجاً يغارُ عليكِ بشكلٍ مفرطٍ ؟ أنسيتِ أنَّ ذلكَ
كان يُشعرُكِ دوماً بالسعادةِ والارتياحِ ؟ تستسلمين الآن لأفكارٍ مجنونةٍ
قد تستجرُّكِ لفعلِ المحظوراتِ ؟! إنَّ الميْلَ نحو رمزي محظورٌ والتفكيرَ
في ذلك محظورٌ ، فالمحظورُ فعلاً محظورٌ فكراً . "
ورحتُ أتصارعُ مع أفكارٍ هائجةٍ تتقاذفني هنا وهناك حتّى وجدتُ نفسي
مضطرّةً في أحد الأيّام إلى قبولِ هديَّتِهِ دون مناسبةٍ :
- " وما المناسبةُ يا أستاذ ؟! "
- " لا مناسبة . وهذا هو جوهرُ الأمرِ ؛ أي إنّني أحببتُ أنْ أُهديَكِ
شيـئاً تحبـّينه لـكوني أحبُّ إهداءَكِ شيئاً ما . "
- " اعذرني ، لم أفهمْ ! أكأنَّك تذكرُ جملاً فلسفيةً قليلاً؟! "
- " لا ، لا ، كلُّ ما في الأمر أنّني أقدِّمُ لكِ زجاجة عطرٍ، عربون
صداقةٍ بيننا ، فأنا أفعل ذلك مع كل الموظفين المميّزين .. "
- " وهل أهديتَ موظّفين آخرين ؟ "
- " قلتُ ( المميّزين ).. وحتّى الآن لم يتميّزْ أحدٌ غيرك. "
- " ولكن ، لماذا اخترتَ زجاجة عطرٍ ؟ ألم يعجبْكَ عطري ؟ "
- " ومن قالَ إنّني لمْ أقدّمْ إ ليكِ عطرَك المفضّلَ ؟ أتعتقدين أنَّ
بائعاً وحيداً يمكنه التوصّل إلى ذاك المزيجِ السحريِّ ؟! "
وحقّـاً .. كانتْ زجاجتُه تحوي مزيجَ عِطْرَي الجوريِّ والفلِّ.. الرائحةُ
نفسُها ؛ لا بدَّ أنَّ البائعَ قد جرّبَ كثيراً من النِسَبِ حتَّى توصّلَ
إلى العطرِ ذاته . حسنٌ ، هذا أفضل ، لأنَّ حساماً لن يلاحظ شيئاً .. إنّه
لم يكنْ ليلاحظَ شيئاً في جميعِ الأحوالِ .. وبتُّ أخفي عنه كثيراً من
الأمور التي كنتُ أصرُّ على إطلاعِهِ عليها سابقاً ، وهو لم يعدْ يكترثُ في
الآونةِ الأخيرةِ إلاّ للغداءِ نهاراً و لافتراشي ليلاً .. حتّى ابتسامتُه
التي كانَ يلاقيني فيها عندما كنّـا خاطبين فقد انقلبتْ إلى تعابيرَ
حجريّةٍ ، و تذمّرٍ مستمرٍّ أنساهُ كلامَه المعسولَ وعباراتِه الرقيقةَ
..كان يسمّيني ( عروس أحلامي، ملاكي المنزل ، جلالة الملكة .. ) وباتَ
يناديني بعبارةِ ( يا امرأة ) ثمَّ يتراجعُ عن ذلك في لحظاتِ غضبـِهِ
ويقولُ : ( حتّى هذه الكلمة فهي كثيرةٌ عليكِ ) !!
وجدتُ في رمزي مخرجاً لي من قوقعتي ، ومتنفّساً لهمومي ومعاناتي ، فبتُّ
أقضي وقتاً أطولَ في مكتبه ، وكانت كلماتُه دواءً شافياً وبلسماً سحرياً .
وكنتُ أُحسُّه نزيهاً في منصبه ، متفانياً في عمله ، دقيقاً في التعامل مع
كلّ موظفٍ. وشعرتُ أنَّ تناغماً في السلوك بيننا جاء وليدَ واقعينا في
بيتينا فسمحتُ لنفسي ذات مرّة بالوقوفِ ملاصقةً لكرسيّه، وتركتُ يدَه
تتلمَّسُ يدي فتحتجزُها لحظاتٍ شعرتُ خلالها أنَّ الزمنَ قد توقفَ وأنَّ
جميعَ العيونِ قد أُعميت عن ملاحظتنا فاستسلمتُ لدفءِ يدِه ورحتُ
أتأمَّـلهُ يقاربُ بين يدي وشفتيهِ اللتين استقبلتا أناملي بقبلةٍ زلزلتني
وأشعلتْ كياني بكاملِهِ ، لكنّـني استعدتُ يدي وانطلقتُ أبحثُ عن بابِ
الغرفةِ لأتجمّدَ خلفَهَ عاجزةً عن فتحِهِ عندما ناداني هامساً : ( انتظري
!! ) و وجدتُه قد لحقَ بي وأسند ظهرَهَ إلى الباب وعادَ ليمسكَ بيدِي
ويحتضنُها ويقبّلُها من جديدٍ فما كانَ منّي إلاّ الانقيادُ إلى أحضانهِ
خاضعةً خانعةً ، بينما راحَ يشدُّني إليهِ بقوّةٍ ويستنشقني ويسافرُ على
الدربِ الممتدّةِ بينَ عنقي و شفتيَّ .
تكرّرَ هذا الأمرُ يوميّاً حتّى اعتدْنا عليهِ ، وجعلني رمزي رفيقتَهُ في
كلِّ تحرُّكاتِهِ ، داخلَ المؤسَّسةِ وخارجَها . ولا بدَّ أنَّ ودادَ قدِ
اكتشفتْ أمرَنا فباتَتْ تدسُّ له طلباتِها من خلالي حتّى صرتُ صلةَ الوصلِ
بينه وبينَ كلِّ زملائي .
أخبرني رمزي مرّةً أنَّهُ رشّحني لأكونَ معهُ في سفرِهِ إلى ألمانيا
للتعاقدِ على شراءِ بعضِ الآلاتِ للمؤسّسةِ ، وسرعان ما وافقَ حسام بعدَ
أنْ علم أنَّ في الأمر مالاً وفيراً ، وجاءتني الموافقةُ من الوزارةِ ،
وسافرنا ..
ثمانية أيّامٍ في برلين انقضتْ سريعاً بصحبةِ رمزي ، أمضيناها في غرفةٍ
واحدةٍ في فندقٍ فاخرٍ فعلنا خلالَها كلَّ ما خطرَ على البالِ .. وفي طريقِ
العودةِ ، أُصبتُ بالغثيانِ والدوارِ أثناءَ هبوطِ الطائرةِ ، واعتقدتُ
أنَّ الأمرَ اعتياديٌّ في مثل هذه الحالة ، لكنَّ استمرارَ شعوري بالغثيانِ
دفعني لمراجعةِ طبيبِ الدائرةِ الذي أخبرني أنّني حامل في الشهرِ الثاني ..
- " حامل ؟! كيفَ هذا وأنا عاقر ؟! "
- " من هي في مثل حالك ليستْ بعاقر . أنتِ حامل والأمرُ واضحٌ
تماماً . "
- " ألا يكونُ حملاً كاذباً بسببِ توقي للإنجاب ِ ؟! "
- أنتِ حامل . أُؤكِّـدُ لكِ ذلك من جديدٍ ، وإنْ كنتِ لا
تصدّقين ، راجعي طبيباً آخر َ. "
صوت وداد يخدشُ مسامعي وهي تمسكُ بسمّاعةِ الهاتفِ وتقولُ:
- "الأستاذ حسام ؟ .. نعم ، نعم ، إنّها هنا ، لكنّها كانتْ مستغرقةً
في نومٍ عميقٍ ، يبدو أنَّ سهرتَها البارحةَ قد طالتْ كثيراً .. ها هي ،
ستتحدّثُ إليكَ . "
تناولني وداد السماعةَ وهي تقولُ :
- " رنَّ الهاتفُ طويلاً ولم تجيبي فاعتقدتُ أنّك غيرُ موجودةٍ في
المكتب ، وفوجئتُ عندما وجدتكِ نائمةً ، هل أنت بخير ؟ "
لم أكترثْ لها وبدأتُ بمخاطبةِ حسام الذي فاجأني بخبرٍ طالَ انتظارُه : -
" الحمد لله ، حُلَّتِ الأزمةُ وانقشعتِ الغيومُ .. لقد وافقوا على تقريبِ
موعدِ استلامي لقرضِ التسليفِ .. سأحصلُ عليه في الشهرِ القادمِ ؛ هذا يعني
أنّنا سنتمكّنُ من الزواج أخيراً ... وافيني إلى محطّةِ الباصات عندَ
انتهاءِ الدَّوامِ ، لقد اشتقتُ إليكِ كثيراً يا حبيبتي ....."
اللورد
- " نعم ، أنا أسعد ، من المتكلّم ؟"
- " سأعرّفك على نفسي بعد قليل .. لكنْ سأمنحكَ الفرصةَ للتذكّر .. "
- " التذكّر ؟ هل أعرفُكَ ؟! يظهر على شاشتي رمزُ دالاس ولا أعرف أحداً
هناك .. "
- " هل أشرقتِ الشمسُ عندكم ؟ "
- " نعم ، لقد أشرقتْ منذ قليلٍ "
- " وهل صحَّحتَ التقويم ؟ "
- " معن ؟! أأنتَ معن ؟ أنتَ معن بالتأكيد ! "
- " نعم يا صديقي ، أنا معن .. كيفَ حالُك ؟ "
- " أنا بخير ، وأنتَ كيف حالك ؟ أخبرني كيف اقتحمتُ خواطركَ ؟ وماذا تفعل
في دالاس ؟ "
- " فوجئتُ اليوم بديوانك ( الديك ) ولم أصدّقْ ما رأيتُ حتى اشتريتُه
وحصلتُ على عنوانك المدوّن على غلافه ، ثمَّ ساعدني حاسوبي لمعرفة الوقتِ
الذي تشرقُ فيه الشمسُ عندكم و أجريتُ هذا الاتّصال .. ولقد أيقنتُ الآن
أنّكَ لازلتَ على عادتِك منذ أربعة عشر عاماً .. هل تذكر ؟
- " لم تخبرْني بعدُ عن سفرك ، كيف وصلتَ إلى دالاس ؟"
- " اليومَ لن أتمكّنَ من إخبارك بكثيرٍ من التفاصيل بسببِ ضيق الوقت ،
لكنْ أعدك بالتواصل معك أسبوعيّـاً .. وعلى كلّ حالٍ فأنا الآن بخيرٍ
وحقّقتُ كثيراً من أحلامي ، لكنَّ الغربةَ تكلّفُ غالياً .. أستودعك الله
الآن و إلى لقاءٍ قريبٍ .. مع السلامة ."
- " مع السلامة يا معن .. مع السلامة . "
لماذا اتّصلتَ الآن يا صديقي ؟ آهٍ يا معن لقد حملتني على العودةِ إلى
الوراءِ أربعة عشر عاماً .. يا لها من سنين مرّت كلمح البصر .. نعم يا
صديقي ، لا زلتُ على عادتي ؛ السهر حتّى الشروق ومراقبة الشمس ......
" أشرقتِ الشمسُ ، والساعة تشير إلى الخامسة وتسع دقائق ، خطأٌ جديدٌ في
التقويم الجداريّ ، أصحّحه كالعادة ثم أبدأُ معركَةَ إيقاظِ معن الذي يسارع
كعادته إلى القول :
- " هل أشرقتِ الشمسُ ؟ "
- " نعم ."
- " وهل صحّحتَ التقويم َ؟ "
- " ولقد أبكرتِ اليوم َفي شروقها دقيقتين ! "
- " لا بدّ أنها نشيطة ٌفي هذا اليوم ! وربّما لم تُطلِ السهرَ ليلةَ أمس
."
- " كفاكَ تكاسلاً ، هيّا إلى الدراسة ! هيّا ! انهض ! "
- " الأمر الوحيد الذي يجعلني صابراً و محتملاً وجودَك هو تذكيركَ لي بأمي
كلَّ صباح . "
- " لقد قلتَ لي ذلك كلّما أيقظتكَ ، أما من عبارةٍ أُخرى ؟ "
- " حياتنا بكاملها مبنيّةٌ على التكرار ، والشــمـــسُ تــشرق كــلَّ يومٍ
من
جديدٍ ، وأنتَ بدورك تراقب شروقها لتصحّحَ التقويمَ ثمَّ لتسخرَ من
كاتبيه وهكذا، فلماذا تريدني أن أبحثَ عن عبارةٍ صباحيّة ٍجديدةٍ؟
على كلِّ حالٍ ، لقد فكّرتُ بالأمسِ قبل نومي باختراع عبارةٍ جديدةٍ
لليوم و وصلتُ إلى ابتكارٍ عظيمٍ .."
- " ما هو ؟ "
- " صباح الخير !! "
كان معن شديدَ الميل ِإلى الطرافةِ ومزج الأحاديث بالفكاهة وابتداع ِالنكات
ِوالدعابات ِ، وكان ينام ضاحكاً ويصحو ضاحكاً ، وكنتُ أحسدُه على ذلك
وأصرّحُ له بهذا الحسد ، ولم يكن منه إلاّ أن يقولَ دائماً:
" عوضاً عن ذلك ، تصرّفْ كما أتصرّفُ .. انزعْ همومك المدفونةََ فيكَ وارمِ
بها خارجاً فهي تلوّثُ ابتسامتك وتعكّر صفوَ حياتك و تنغّص عليكَ كلَّ
أساليب البهجة .. "
وكنتُ أستمع إليه متتبّعاً كلماتِهِ كمن يقرأُ ترجمةً في فيلمٍ أجنبيّ
تكرَّرَ عرضُه .. كان على حقٍّ ؛ فحياتنا بتفصيلاتها وكلّيتها شيءٌ يتكرّر
من دون توقّفٍ ، ونبدأُ اليومَ يوماً جديداً سينقضي كسابقيه إنْ لم نغيّرْ
فيه شيئاً، وما دمنا متفرجين فالأيّامُ تمضي من دون تبدّلٍ .
يتابع معن استفساراتِه الصباحيّةَ :
_ " أخبرني يا صديقي ، كيف تستطيع السهر حتّى الصباح ثمّ التوجه إلى
الامتحان وتقديم مادّةٍ ضخمةٍ بأعصابٍ باردةٍ؟؟ ثمّ كيف تحصل على نتائجَ
أفضلَ من نتائجنا علماً أنّنا ندرس لفتراتٍ أطول ؟؟ هل ِسرُّ ذلك في السهر
!؟"
- " السرُّ يكمن في سكون الليل ! صحيحٌ أنّني أبدأُ الدراسة بعد أن أصحو في
منتصف الليل ، لكنّني أواظب لمدّة ستّ أو سبع ِساعاتٍ متواصلةٍ ... "
- " لقد شرحتَ لي ذلك سابقاً ولم أفهمْه ، ولا أجرؤ عل فعل ذلك . "
أذكر أنّني تعرّفتُ على معن عندما كنّا في السنة الجامعيّةِ الأولى ، وكنّا
نتشارك في كلّ سنة السكنَ في غرفةٍ نتركها صيفاً بعد الامتحان ونبحثُ عن
أُخرى في بداية العام الجديد ، وكان البحث عن أوّل غرفةٍ سبباً في تعارفنا
في أحد أحياء بلدة صحنايا عندما أرشدني أحدُ السكّانِ إلى بيتٍ جرَتِ
العادةُ على تأجيرِ غُرفِهِ للطلبة ولم يتبقَّ فيه سوى غرفةٍ واحدةٍ شاغرةٍ
، فاقترحَ صاحبُ البيتِ ، وكان على وشكِ تأجيرِها لمعن ، أن نسكنَ معاً
فوافقنا وتمّ الأمرُ . وسرعان ما اكتشفتُ أنّه زميلي في قسم اللغة
الانكليزية ..
كان معن وسيماً لدرجةٍ لا تُقاومُ كما وصفته إحدى الفتيات ، طويلَ القامةِ
، أشقرَ الشعرِ أجعدَه ، ميسورَ الحال ماديّاً ، ينفقُ شهرياً أكثر ممّا
أنفقه في شهرين أو ثلاثة ، لكنّني فرضتُ عليه نظاماً ماليّاً لاستهلاكنا
اليوميّ متوافقاً وقدراتي المادّيّة . وكنتُ في بدايةِ الأمرِ أشعرُ بالحرج
قليلاً بسبب ذلك ، لكنّني تخلّصتُ من هذا الشعور عندما عدتُ إلى غرفتنا في
أحد الأيّام وسمعتُهُ يتحدّث إلى شخص ٍلا أعرفُه كان موجوداً معه في الغرفة
، وعرفتُ على الفور أنّهما كانا يتحدّثان عنـّي ، فاستبقيتُ نفسي خارج
الباب و أصغيت إليهما :
_ " .... إنّه إنسانٌ عظيمٌ ولديه طموحاتٌ كبيرةٌ .. أسرته فقيرةٌ بل أكثر
من فقيرة ، لا أعرف كيف أصفُ ذلك .. لديه ستّة أخوةٍ وثلاث شقيقاتٍ ، وهو
أكبرهم جميعاً ، وجميعهم في المدارس .. داوم في الجامعة شهراً واحداً ريثما
تدبّر عملاً في أحد مطاعم الفلافل ، ثمّ اكتشفَ مسألة الحصول على المحاضرات
من مكاتب المراسلات . وتجده يعمل طيلة النهار ثمّ يعود مساءً إلى الغرفة
فينام من السادسة حتّى الثانية عشرة ليصحو ويدرسَ في سكون الليل .. وبدلاً
من أخذ المال من ذويه كما أفعل أنا ، تراه يرسل إليهم النقود أسبوعيّاً ولا
يترك لنفسه إلاّ القليل . ولا ينفكّ يحمد الله في كلّ وقت في حين يمنع نفسه
عن كل ما يشتهيه الشابُّ في مثل عمرنا ليقدم لأهله كلَّ ما يجنيه ، حتّى
أنّه يكبتُ حبَّه لأنّه لا يريد إقحامَ فتاتهِ في واقعهِ الفقيرِ ، ويصرّح
لي دوماً بأمنيته أنْ يزوّج جميع أخوته قبل أنْ يفكّر هو بالزواج ، فهو
يُبقي حبَّه دفيناً بين حسراته و تنهّداته ويكتفي بالتنفيس من خلال أشعاره
.. سيحضر بعد قليلٍ وستُسرُّ كثيراً في التعرّف إليه.. إنّه وسيمٌ جداً
وكثيراتٌ هنَّ اللواتي حاولن التقرب إليه ، وكثيراتٌ سألنني عنه بعد
انقطاعه عن الدوام ، لكنّه لا يكترث لذلك ولديه فتاة أحلامه التي يناجيها
ويكتب لها شعراً .. ولو يوافقني على نشر أشعاره لكان سيحقّق نجاحاً باهراً
وشهرةً واسعةً . وهو مع كلّ هذا وذاك متعدّدُ المواهب فلا تجد أمراً غير
ملمٍّ به ؛ فهو واسع الثقافة الأدبيّة والعلميّة والشعبيّة ، وجُلُّ ما
ينفق من مالٍ ، هو على شراء الكتب .. انظر ! تلك هي مكتبته وفيها مؤلّفات
روسيّةٌ ، فرنسيّةٌ ، ألمانيّةٌ ، فارسيّةٌ ، عربيّةٌ جاهليّةٌ وحديثةٌ ،
هذا بالإضافة طبعاً إلى الانكليزيّة والأمريكيّة. "
يقاطعه صوتُ ذلك الشاب :
" أصبحتُ في غاية اللهفة للتعرّف إليه ... "
وعندها طرقتُ البابَ و دخلتُ ، وعرّفني معن في الحال على ذلك الشاب :
- " هذا صديقي جلال ، زميلي في الدراسة الثانوية ، وهو الآن طالبٌ مستجدٌ
في الكلّية الجوّيـّة . "
- " هذا واضحٌ من زيّه الذي يرتديه .. أهلاً وسهلاً سيّد جلال ! في
الحقيقة كان حلم طفولتي أنْ أصبح طيّاراً حربيّاً ، و تقدّمتُ بأوراقي إلى
الكلّيّة الجوّيـّة لكنّني فشلتُ في تخطّي الفحص الطبّي بنجاحٍ بسبب
الدوار."
يقول جلال بصوتٍ مواس ٍٍ :
" لا عليك ، تستطيع خدمة وطنك بشتّى الوسائل .. "
ثمّ بدأ يحدّثنا عن متعة التدريب وصعوباته .. كان جلال قريباً إلى القلب
لدرجة أنـّني شعرتُ بارتياح ٍ غامر ٍ لدى التعرّفِ إليه و تبادل الأحاديث
معه . كان ذا بنيةٍ قويةٍ وخشنةٍ ، ويتمتـّع بروح الدعابة مع قدرٍكافٍ من
الذكاء والفطنة مكـّنهُ من الحصول على ثقتي ومحبـّتي منذ الجلسة الأولى ،
لكنـّه لم يُطِلِ المكوثَ ، فكانت تلك أولى إجازاته وتوجّبَ عليه السفر
لرؤية أهله وذويه. وبعد مغادرته أخبرتُ معن إنـّني كنتُ أصغي لحديثهما من
خارج الباب فقال بلهجة الواثق : - " هذا لا يهمّ طالما أنّ رأيي فيك ثابتٌ
، غائباً كنتَ أم موجوداً ."
أشعرني اتّصال معن اليوم بالتأنيب .. فأنا ، منذ أن تركَ الجامعة َ وسافر
إلى الأردنّ ، لم أعد أعرف عنه شيئا ً ولم أحاول حتّى السؤال عنه ! قضينا
معاً سنتين استطعتُ خلالهما أن أنجحَ في جميع مواد الدراسة لكنـّه أخفقَ
ورحلَ... لازلتُ أذكر ذلكَ اليومَ جيّداً عندما عدتُ من العمل و وجدته
يوضّبُ أغراضَه ...
- " ألم تغيّر رأيكَ بعدُ ؟ أليسَ من حلٍّ سوى الرحيل ؟"
- "هذا هو الحلّ الوحيد !! ماذا سأفعلُ إنْ حصلتُ على إجازة في
الأدب الانكليزيّ ؟ هل سأصبح مؤدّباً على الطريقة الانكليزيّة؟ أم تراني
سأنافسُ شكسبير على مكانته ؟ "
- " وماذا ستصبح في الأردنّ ؟ أليس حلمكَ أن تصبحَ لورداً؟ فعلى
الأقلّ ليس في الأردنّ لوردات ! وعلى الأرجح لن يكونَ لكَ مكانٌ بينَ
لورداتهم !! "
- " الأردنُّ هو محطّتي الأولى ومنه سأنطلقُ لأكوّنَ ثروةً
طائلةً وأصيرَ سيّدَ اللوردات ! "
- " حسناً يا سيّدي اللورد .. ألم تفكّر قليلاً بأهلكَ ؟ كيفَ
يمكنكَ تركهم ؟ "
- " إنَّ أهل اللورد ليسوا كأهل أسعد !! اعذرني يا صديقي فلم
أعتدْ على التفكير بمثل هذه الطريقة ! نحنُ في البيت لدينا الاستقلاليّة
الفرديّة ، وكلٌّ يبني نفسَه بنفسِه !"
- " لكنّني لم ألحظ ذلك البتّة ! وبدوركَ اعذرني أيضاً ، فأنتَ
تستجرُّ أموالاً كثيرةً من والدكَ ولا نجده يبخلُ عليكَ بشيءٍ ، في حين
تعترفُ بأنّكَ عاجزٌ عن تدبير شؤون نفسكَ بنفسكَ .. فماذا ستعمل في الأردنّ
؟ هل ستغيّر مكانَ إقامتكَ ويستمرُّ والدكَ بإرسال المال إليكَ لتنفقهُ
هناكَ كما تفعلُ هنا ؟! "
بقي صامتاً وبدتْ عليه ملامحُ الامتعاض فشعرتُ أنَّ كلامي أزعجهُ فأضفتُ :
- " لم تحدّثــْني يوماً سوى عن أحلامكَ بأن تصبح لورداً ، لكنّكَ لم تطرح
يوماً كيف ستصبح ( اللورد معن )! هل تتقنُ القيامَ بأيّ عملٍ ؟ ماذا ستمارس
من وظائفَ هناكَ ؟ هل ستصبح تاجر مخدّراتٍ مثلاً ؟تأنَّ يا صديقي وتريّثْ
في اختيار طريق المستقبل فلا زال أمامك متسعٌ من الوقت."
_ " أيّ وقت هذا ؟! أنت الآن ستصبحُ في السنة الثالثة بينما لازلتُ أنا في
السنة الأولى ، وربّما أقضي نصف عمري في الجامعة حيث لن ينفع الندم في
النهاية ، لذلك قرّرتُ بعد كثيرٍ من التفكير أن أتوقّف َعن هدر السنين
القادمة عبثاً ، ولقد تطلّبَ الأمرُ منّي كثيرا ًمن الشجاعة لتوليد هذا
القدر من الإصرار على الرحيل .. ولا أخفي أنّني توقّعتُ منكَ أن تخاطبني
بهذه الطريقةِ وتخيّلتُ كلَّ هذا الحديث قبل حضوركَ ، فلا تتجشّم عناء
متابعة النقاش ؛ لقد حسمتُ أمري .."
_ " وسلوى ؟ هل علمتْ بهذا ؟ كيف ستتركها ؟ أليستْ جزءا ًمن أحلامك
اللورديّة ؟ "
_ " سأتركها في رعاية الله !! "
_ " يا لكَ من خاشعٍ وارعٍ !ستتركها في رعاية الله ؟ هل قلتَ لها ذلك؟"
أجاب متردّداً وقد أشاحَ بوجهه عنّي متصنعاً الانشغالَ في ترتيب ملابسه في
الحقيبة :
_" سأراها غداً قبل رحيلي وسأخبرها بذلكَ . سأخيّرها بين أمرين : أن تبقى
على حبّي و تنتظرني ريثما أكوّنُ ثروةً صغيرةً تسمح لنا بالزواج ، أو أن
تختارَ طريقاً آخرَ .. وعلى الأغلب ستختارُ أن تتركني لأنّني سألمّح لها
بأنَّ غيابي قد يكون طويلاً ولن تكون على استعدادٍ لخوض مغامرة انتظاري ."
_ "بلْ قلْ باختصار إنّكَ تقدّمها قرباناً على مذبح أحلامكَ ."
_ " لا، بلْ قلْ إنّني أقدّمُ قلبي أضحيةً في عيدِ مستقبلي .. أو قلْ
بالأحرى إنّني أعتقها من سلاسل عجزي و فقري !!"
أضحكُ بقدرِ ما أستطيع من دون القدرة على منع نفسي من مواصلة الضحك
متأمّلا ً وجهَ معن الذي ارتسمتْ عليه ملامحُ الاستغرابِ فسارعَ إلى سؤالي
:
_ "لِـــمَ تضحكُ هكذا كالعاهرة ؟ "
_ " أضحكني اعتبارُكَ نفسَكَ على لائحة الفقراء !! اعذرني يا صديقي ولكنْ
أجبني : هل تذوّقتَ يوماً طعمَ الفقر؟ هل شربتَ فقراً؟ هل لبستَ فقراً؟ هل
تعرّفتَ إلى هذا الشيء يوماً؟ أخبرني : هل تأخّرتَ يوماً في الوصولِ إلى
مكانٍ ما في الموعد المحدّدِ بسبب انتظارك أحدَ أخوتك ليعيدَ إليكَ قميصاً
يتيماً يرتديه كلُّ من في البيت ؟ هل علّمتكَ أمّك مرّةً كيف تعصبُ بطنكَ
لتُسكتَ أصواتَ فرقعة أمعائكَ الجائعةِ ؟ هلِ انتعلتَ يوماً الحذاء
البلاستيكيّ ذا الرائحة العطرة ؟! هل ذهبت مرّةً إلى المدرسة مرتدياً
ثياباً مرقّعةً تتحدّى نظرات الإشفاقِ والسخرية ؟ هل اجتمعتْ أسرتكَ يوماً
على مأدبةِ عشاءٍ طبقها الوحيد فُتاتُ الخبزِ المجبولةُ بالشاي؟ هل حاولتَ
عبثاً في إحدى الأمسيات أن تُغلق نوافذَ بيتكم لكيلا تصلَ رائحةُ الشواء من
مطبخ الجيران إلى أنوف أخوتكَ الصغار ؟ هل نفدَ المازوت مرّة ًمن خزّاناتكم
في إحدى الليالي الثلجيّة؟ هل تدثّرتَ يوماً ببساطٍ مشبعٍ بالغبارِ
والأتربة ؟ هل تعتقدُ أنَّ عجزكَ عن ممارسةِ حياة اللوردات يجعلُ منكَ
بالضّرورةِ رجلاً فقيراً ؟.."
تركَ معن نفسَه يسقط ُعلى الأريكةِ وغطـّى وجهه بكفـّيه ، وسمعتُ صوتهُ
يخاطبني وكأنـّه خلفَ جدار ٍ :
_ " أتعني حقّاً ما قلته ؟ هل مرَّ عليكَ كلُّ هذا ؟ خبزٌ وشايٌ ونوافذ ُ
وبساط ٌ و... لا شكَّ أنّكَ تبالغُ !"
جلستُ إلى جانبه وأخرجتُ لفافَتَيْ تبغ ٍ من علبتي وأشعلتهما معا ًودفعتُ
إليه بواحدةٍ :
_ " إنَّ الذي لم أخبرْكَ به لأشدُّ وأقسى ! "
_ " أيعقلُ ؟ "
_ " خذ ْ مثالا ً: كم دجاجة ً تأكلون على طعام غداءٍ ؟ "
_ " عندما يكون الغداء دجاجاً نحتاج عادةً إلى اثنتين أو ثلاثٍ . "
_ " و عددكم في البيت خمسة !! فما بالك أنّنا نعجز عن التهام دجاجةٍ واحدةٍ
، ليس لأيّ سببٍ سوى لأنَّ كلاًّ منّا يدفع بحصّته للآخرين ويكتفي بالخبز
والطبخِ المشبع بمرق الدجاج ... لا زالَ المستقبل بانتظاركَ يا صديقي
وربّما ستحمل إليك الحياةُ مآسي لم تتوقّــعـْها .."
يقاطعني معن بحزم ٍ :
_ " ولهذا السبب قرّرتُ الرحيل لأنَّ مستقبلي هنا واضحُ المعالم وسأبحثُ عن
آخرَ في بلادٍ أُخرى . "
_ " وسلوى ؟؟ "
_ " عدنا إلى سلوى ؟ أرجوكَ يا صديقي دعني أعالج موضوعها بنفسي وكنْ أكيداً
أنّها ستكونُ بخيرٍ .. اذهبْ للنوم الآنَ وأيقظني لأودّعكَ صباحاً . "
في الصباح لم أوقظْه بل كتبتُ له بضعَ كلماتٍ على ورقةٍ حشرتها تحتَ مقبض
حقيبته :
" صديقي الغالي .. لقد أمضيتُ في صحبتكَ سنتين تعلّمتُ خلالهما
الكثير منك .. نعم ، لا تستغربْ ذلك فقد كنتَ خيرَ مؤنسٍ لي ،
و أرجو أن أعود مساءً لأجدك قد عدلتَ عن رأيك وأعدتَ ترتيبَ
أغراضكَ في الغرفة .. وإنْ كنتَ مصرّاً على الرحيل فأرجوك ألاّ
تقسو على سلوى فهي تحبّك وسيتصدّعُ قلبها حزناً .. على كل حال أترككَ في
رعاية الله ! "
عدتُ مساءً إلى الغرفة .. لا وجودَ لمعن ولا لأيٍّ من أغراضه .. يا لعناده
!! لقد رحل تاركاً لي رسالته التي استسلمتُ لقراءتها عدّة َمرّاتٍ :
" أخي أسعد .. أسعدَ الله مساءكَ .. عندما تقرأ هذه الكلمات سأكون قد
أصبحتُ على مقربةٍ من عمّان .. وأرجو ألاّ تجهدَ نفسكَ في التفكير بشأني
..سأكون بخيرٍ وسأبحثُ عن عملٍ هناكَ لدى أصدقائي ، أيِّ عملٍ . و كما
ذكرتُ لك سأمضي في الأردنّ فترةً أتمنّى ألاّ تكون طويلةً لأنّ هدفي
الأساسيَّ هو الوصول إلى الولايات المتحدة وهناكَ سأثبتُ لك وللآخرين أنّني
خُـلقتَُ لأكونَ لورداً ! أمّا بالنسبةِ إلى سلوى فقد ذهبتُ لرؤيتها صباحاً
وطرحتُ عليها الخيارين اللذين حدّثتكَ عنهما أمس ، وتمكّنتُ بعد كثير من
العناء أنْ أحصلَ على مهلة سنتين ريثما أتمكن من الزواج منها وستكونُ قد
أنهتِ الدراسةَ الجامعيّةَ خلال هذه المدّة ولن تتمكّنَ بعد ذلك من إيجاد
حجّة لرفض طالبي الزواج منها رغم حبّها لي.. هل يرضيكَ هذا ؟ سأشتاقُ إليكَ
كثيراً في غربتي وستكونُ ذكرياتنا صحبةَ سفري.. لن أنساكَ ولكنّــني أطلبُ
منكَ أنْ تحاول نسياني .. وإذا حدثَ أنْ التقينا يوماً فسيكونُ ذلك َمصادفة
سعيدةً ..
الوداع يا صديقي ."
لقد قال لي إنَّه حقّقَ كثيراً من أحلامه ! هل تزوّجَ بسلوى؟ هل أصبح
لورداً؟ سأسأله عن كلّ هذا في المرّة القادمة .. وسأسأله عن صديقه جلال ..
كان يتردّد إلى زيارتنا في كل إجازاته ، وبعد رحيل معن جاء مرّةً واحدةً
فوجئ يومها برحيله و فوجئ أكثر عندما علمَ أنْ لا عنوانَ لمراسلته .. جلس
وبكى وهو يؤنبني :
_ " كيف سمحتَ له بالرحيل ؟ "
_ " حاولتُ منعه جاهداً لكنّني فشلتُ ، فأنتَ تعرفه جيّداً وتعرف مدى عناده
."
انتصبَ وهو يردّدُ :
" سيضيعُ هناكَ هذا الأحمق !! سيموتُ جوعاً !! لن يصبحَ لورداً !! سيصبحُ
متسوّلاً !! ضاع هذا الأحمق !! "
ثمّ غادرني ولم أره بعدها .
شروقٌ جديدٌ .. تصحيحٌ على التقويم .. ثمّ اتـّصالٌ من معن:
_ " كيف حالك يا صديقي ؟ انتظرتُ هذا الاتـّصال بفارغ الصبر ، أخبرني هيـّا
! ابدأ منذ وصولك إلى عمّان !! "
_ " لن أخبركَ الآن شيئاً . سأترككَ في لهفتكَ قليلاً ريثما تخبرني أنتَ
أوّلاً كيف أصبحتَ شاعراً مرموقاً ، وكيف وصلتَ إلى القناعةِ بالنشر ، هيّا
!! أطلعني على الأمر! "
_ " هذا معقّدٌ قليلاً لكنّني سأحاول التبسيط والإيجاز ..
بعد تخرّجي من الجامعةِ عُيّنتُ مدرّساً للّغة الانكليزيّة في القرية ..
وأمضيتُ في هذا العمل سنتين تمَّ تكليفي بعدهما بمهمّة أمين للمكتبة
المدرسيّة ، وهذا ما سمحَ لي بمعاشرة الكتب والتّفرّغ ِ للمطالعة ، فوقعَ
تحت يديّ الكثيرُ من دواوين الشعر الهابط التي تملأ رفوف مكتبتنا ،
وتملّكتني الدهشةُ لدى معرفتي أنَّ هذه المؤلفاتِ مسموحٌ بتداولها في
المدارس ، لكنّني أدركت في النهاية أنّها جودٌ بالموجود .. قرّرتُ عندها أن
أنشر أشعاري ، ولاقت دواويني نجاحاً كبيراً حتّى خارج البلاد ، وانتشرتْ
بشكلٍ هائلٍ وسريعٍ ، وبذلك حصلتُ على لقب (شاعر الجيل) .. لكنّ المفارقة
الكبرى هي أنّ تلك الدواوينَ الركيكةَ لازالت تُنشر !! "
_ " حدّثني عن أسرتك ، كم ولداً لديك ؟ "
_ " في الحقيقة .. أنا لم أتزوّجْ بعدُ .. ولا أفكّرُ بالزواج حالياً. "
_ " كيف تقولُ هذا ؟ و رنا ؟ أين رنا التي يشعُّ الخصب من طلعتها ؟! "
_ " لا زالتْ تشعُّ خصباً و تلهمني أشعاري .. لكنّها تزوّجت عندما كنتُ
لاأزال طالباً في السّنة الرابعة .. "
_ " وهل أدركتْ أنّكَ تحبّها ؟ هل تقابلتما ؟ هيا أخبرني ! أنا في أشدّ
حالات الاستغراب !! كيف تخلّيتَ عنها ؟ "
_ " لم أتخلَّ عنها .. لكنّنا لم نتقابلْ .. لم تشأ الظروفُ .. وأعتقدُ
أنّها أحسّتْ بحبّي لها .. كان وجهي يطاردها أينما ذهبتْ .. لكنَّ
المطاردات كانتْ تتوقّفُ عند حدّ النظر إليها والاستمتاع بعذاب الحواجز
التي بيننا .. لم أشأ أنْ أُدخلَها في دوّامة ظروفي القاهرة فتركتُ الأمرَ
لمشيئة الأقدار حتّى وصلني يوماً نبأ زفافها من ابن عمّها .. هكذا بكلّ
بساطةٍ ! وحتّى هذا الوقت لم أستطعِ التخلّصَ من ذكراها !! على كلّ حال
تمكنّتُ من تزويج ثلاثةٍ من أخوتي وخطبنا عروساً لرابعهم ، وهذا يعني أنّه
أصبح لديّ أربع أخواتٍ جديدات انضممن لجيش المطالبين بإرغامي على الزواج ..
"
_ " إنّك لغريبُ الأطوار حقاً ! والآنَ .. ألم تقعْ في حبِّ أُخرى؟ ألم تشأ
الأقدارُ أنْ تصبحَ جاهزاً للزواج ؟! "
_ " أصبحتُ جاهزاً للزواج ولكنّني لستُ جاهزاً لحبٍّ جديدٍ فلازلتُ أحبّها
و لازالتْ منبع شعري ! "
_ " بلْ قلْ إنّها لازالتْ منبع قهرك ويجب أنْ تقهرها ! "
_ " لا زلتَ كعادتكَ .. تسدي إليَّ النصائحَ ولا تقدّمها إلى نفسكَ ! هيّا
الآن ، أخبرني عنكَ ! "
_ "من أينَ سأبدأ ؟ أقلتَ منذ وصولي إلى عمان ؟ أليس كذلك ؟ "
_ " لا .. بلْ ابدأ من سلوى !! "
_ " سلوى ؟ ألا زلتَ تذكرها ؟ طيّب .. بعد أن عملتُ لأربعةِ أشهرٍ في مطاعم
عمّان تعرّفتُ إلى رجلٍ كويتيٍّ ساعدني على السفر إلى الكويت والعمل في
حقول النفط هناك حيثُ أمضيتُ سنةً وخمسة أشهرٍ ، و استطعتُ بعد ذلك العودةَ
إلى السويداء والزواجَ من سلوى .. "
_ " حقّاً ؟! تزوجت من سلوى ؟ هذا أمرٌ يسعدني سماعه .."
_ " ألم أقل لكَ إنني حقّقتُ كثيراً من أحلامي !؟ كلُّ ما جمعتُه من مال
حتى ذلك الوقت خصّصتُهُ للزواج .. وكانتْ إجازتي قصيرةً آنذاك وصُعقتُ لنبأ
استشهاد صديقي جلال رحمه الله قبل موعد زفافي بأربعة أيّام ، فألغيتُ
الدعوات وتمّتْ مراسيم الزفاف في جوٍّ مأساويٍّ ، ثمَّ سافرتُ وسلوى إلى
الكويت .. "
_ " وكيف حدثتْ وفاته ؟ "
_ " أسقط طائرةً إسرائيليّةً في اشتباكٍ جوّيٍّ فوق أجواء بيروت ثمَّ أصابه
صاروخٌ من بارجةٍ أمريكيّةٍ راسيةٍ قرب الشواطئ ممّا أدّى إلى تدمير طائرته
وسقوطها فوق مدينة خلدة .. "
- " رحمه الله .. "
- " بعد ذلك بعامٍ تقريباً تعرّفتُ إلى مهندسٍ أمريكيٍّ في إحدى شركات
النفط وأصبحنا صديقين بقدرة قادرٍ لدرجة أنّهُ أمّن لي فرصةَ عملٍ
استثنائيّةً هنا في دالاس بعد أنْ أنهى عقدَه في الكويت وعاد إلى أمريكا
ليؤسّسَ شركةً للتنقيب عن النفط .. والآن أنا أعملُ في مكتبهِ بل إنّني
ذراعه اليمنى في كلِّ شؤونه .
وهذا ليس كلّ شيءٍ، فسلوى أيضاً موظّفةٌ في الشركة وهي رئيسة قسم العلاقات
العربيّة لكونها تجيدُ اللغتين .. بماذا سأخبركَ أيضاً ؟ نعم .. لقد رزقنا
الله بولدٍ وبنتٍ ؛ مروان عمره عشر سنين ، و مي عمرها ستٌّ .. وسأهتمُّ
منذ الآن بتدريسهما أشعارَك المخصّصةَ للأطفال ، فهذا سيربطهما باللغة
الأمِّ و سيعلّمهما قيمَ الوطنِ المغروسةَ في شعركَ .. "
_ " يسرُّني جدّاً سماعُ هذه الأخبار .. لقد شعرتُ بارتياحٍ عارمٍ ..
ولكنّني أسألكَ الآن : هل ترى نفسكَ لورداً ؟ "
_ " بلْ سيّدَ اللوردات .. أنا أصرُّ على هذا .. إنَّ طموحاتي لا تقفُ عند
أيِّ حدٍّ و سأسعى لأكوّنَ شركةً خاصّةً بي في المستقبل .. "
_ " أنتَ محظوظٌ يا صديقي ، أليسَ كذلك ؟ بتُّ أحسدكَ قليلاً !! "
_ " وهذا ما يسعدني !! فإنْ لم تحسدني تبقَ على حالكَ ! ما رأيكَ في العمل
في أبي ظبي ؟ لدينا فرعٌ للشركةِ هناكَ وأستطيع تأمين وظيفةٍ مرموقةٍ لك
فيها .. و انكليزيّتكَ تؤهّلكَ لهذا العمل .. ما قولكَ ؟ "
_ " وأتخلّى عن الشعر ؟؟ "
_ " من قال هذا ؟! ستستمرُّ في الكتابة ولكن في ظروفٍ أفضل ! ! وهناكَ
سترقبُ شروقَ الشمسِ و ستجدُها دقيقةً في مواعيدها ، و قد لا تحتاج إلى
تصحيحِ التقويم !! ومن يعلم ؟ ربّما تجدُ سمراءَ جديدةً هناك يشعُّ الخصب
من طلعتها !! "
_ " ... سأدرسُ الموضوع .. "
نرجس
لم يكن صالح الصوّاجُ ليتوقّعَ أنّهُ سيصبح في يومٍ من الأيّامِ شهيراً إلى
هذا الحدِّ ، ولم يتوقّعْ أبداً أنّه سيتخبّطُ بين مهنةٍ وأُخرى ليكونَ في
النهاية أديباً معروفاً ، وباتَ يصرّحُ بذلكَ علناً ويذكّرُ زوّاره
باستمرارٍ بأنّه أسيرُ الأقدارِ ولا يدري ماذا سيختارُ غداً من مهنٍ أو
فنون ..
يسكن الصوّاج في بيتٍ متواضعٍ بناهُ حديثاً بعد أن تحسّنتْ أحواله
المادّيّة فهجرَ تلكَ الغرفةَ الملاصقةَ لورشة إصلاح السيّارات واستطاعَ
بعد كثير عناءٍ وطولِ خطبةٍ أنْ يتزوّجَ من سعاد ( حلمِ طفولتهِ الملهِمِ )
كما اعتاد أن يسمّيها ، فنقرأ في الصفحات الأولى من مؤلفاته دوماً : (
الإهداء ... إلى حلم طفولتي الملهِم... إلى سعاد ) .
كان يكبر سعاد بسنةٍ واحدةٍ ، وكان في طفولته كثيراً ما يتحدّثُ عنها
وكأنّها أختٌ صغرى ، ثمَّ تحوّلَ الأمر في المرحلةِ الإعداديةِ إلى تعلّقٍ
شديدٍ بها حتّى أنه صرّحَ لي مرّةً بأنّهُ سيتعمّدُ الرسوبَ في صفّه ليصبحا
معاً في صفٍّ واحدٍ العامَ التالي ! وبدأ في المرحلة الثانويّةِ بكتابةِ
القصائد المبهمةِ التي لم يكنْ يفهمها أحدٌ سوايَ !
كنتُ أشفقُ عليه وأعجبُ لما يبديه من توفيقٍ بين دراسته وعمله مع والده في
ورشة السيّارات حتى في أثناء دراسته لعلم الاجتماع . أمّا لقبُ الصوّاج فقد
أطلقناه عليه لنميّزَه عن صالح ابن عمّه الذي حضر إلى البلدة قادماً من
البرازيل، بينما أطلقنا على هذا الأخير لقب البرازيليّ .
كثيراً ما نجتمعُ عند الصوّاج حيثُ تتحوّل سهراتنا إلى منتدياتٍ أدبيّة أو
اجتماعيّةٍ أو إلى منابرَ لمناقشةِ كتاباته ، ولكنّنا كنّا نتوقّفُ عن
ممارسةِ هذه الطقوس أثناء انشغاله بالكتابةِ لأنّه يرفضُ أن يُطلعَ أحداً
على ما يكتب حتى سعاد ! لكنّه سرعان ما يهدي إلينا نسخاً من مؤلّفه فور
طباعته .. وفي تبريره لذلك يقولُ في إحدى سهراتنا :
- " لا أستطيع أن أغيّر محاورَ روايتي متأثّراً برأيٍ ما قد
يطرحه أحدكم! أريد أن أكتبَ تصوّراتي الشخصيّةَ ! وربّما تحيّدني آراؤكم عن
بعضِ هذه التصوّرات فأشعرُ بالضياع .. "
أقول مستفهماً :
- " لكنّك تهدي جميع مؤلّفاتك إلى سعاد مدّعياً أنّها ملهمتكَ!
فكيف تلهمك وهي لا تُبدي رأياً ؟ "
- " وهل تعتقدُ أنَّ الإلهامَ شيءٌ يشبه توجيه الأوامر أو الطلب
أو النهي أو حتّى الاقتراح ؟ لا يا صديقي ! الإلهامُ أشبه ما يكون بوحيٍ
خفيٍّ تقتبسُ منه أفكاراً من دون أن يلقّنكَ شيئاً ... "
يقاطعه البرازيليُّ ساخراً :
- " هل تقصدُ أنّه وحيٌ أخرس ؟! "
نضحكُ جميعاً ، ويهمُّ الصوّاجُ بمتابعة حديثه ولكنَّ سعاد تتدخّل بصوتٍ
دافيءٍ :
- " لا أعتقدُ أنَّ الأمر يحدثُ هكذا كما تتخيّلون ، لستُ وحياً
ولا شبحاً ! أنا موجودةٌ في قلب صالح وفكره ، وهو يفهمني ويدرك طريقةَ
تفكيري ! وهو يقرأُ أفكاري فيشعر بما أشعر ويزعجه ما يزعجني ويتأثّر بما
أتأثّر حتى من دون الحديثِ عن ذلك و... "
تقاطعها زوجتي لارا :
- " تتحدّثين عن تطابقِ الأفكار والانسجامِ التامِّ ، فهل يعني
هذا أنكما على وفاقٍ دائمٍ ؟ ألم يحدث بينكما خلافٌ مرّةً واحدةً على
الأقلّ؟"
- " بالطّبع هناك خلافاتٌ ! لكنّها سطحيّةٌ ولا تعبّرُ عنِ
الجوهر ، وهي تظهر في رواياته .. إنّه يكتبُ كلَّ التفاصيلِ بأسلوبٍ
تصوّريٍّ ، وبذلك يكون التباينُ في وجهات النظر مصدراً للإلهام أيضاً ...
هكذا يقول ! "
يسألُ البرازيليُّ :
- " ألهذا السبب تكتبُ دوماً قصصاً ورواياتٍ عاطفيّةً ؟ ألا
تلهمكَ سعاد قصصاً بوليسيّةً أو سياسيّةً مثلاً ؟ لماذا تصرُّ على حكايات
الغرام الموجّهةِ للشبّانِ ؟ "
يجيبُ الصوّاجُ بصوتٍ آخذٍ بالارتفاع رويداً رويداً :
- " ليس للحبّ عمرٌ محدّدٌ يا ابن عمّي ! وهو لا يكون في أوْجهِ
عند الشبّان بل إنّهم همُ الذين يكونون في ذروتهم ، وأنا لا أوجّهُ رواياتي
إلى جيل الشباب فقط بل إلى كلِّ الشرائحِ العمريّةِ ، حتّى وإنْ كان
الموضوع واحداً لكنّني أطرحهُ بشكلٍ جديدٍ في كلِّ مرّةٍ ! والحبُّ متعلّقٌ
بكلِّ المشكلات المجتمعيّةِ ؛ السياسيّةِ والاقتصاديّةِ والثقافيّةِ وغيرِ
ذلك ! ثمَّ إنّني لا أريدُ أن أدخلَ في دوّامة المتناقضات رغبةً منّي في
المحافظةِ على جوهرٍ واحدٍ وأصيلٍ للحبِّ ! "
أقول مقاطعاً :
- " لكنّ شخصيّتكَ أنتَ بالذات مبنيّةٌ على التناقضات : فكنتَ
صوّاجاً ودرستَ علمَ الاجتماع وكتبتَ الشعرَ والرواياتِ والقصصَ ومارستَ
أعمال البناء فبنيتَ بيتكَ بنفسكَ بعد أن صممتهُ بنفسكَ ثمَّ أنجزتَ أعمال
الديكور والزخارف والدهان وكلَّ شيءٍ ، هذا بالإضافة إلى عملكَ كموظّفٍ في
مديريّة الشؤون الاجتماعيّةِ ، ألا تجدُ ذلك ... "
يقاطعني قبل أن أُتمَّ جملتي الأخيرةَ ويقول بلهجة الواثقِ:
- " هذا تماماً ما أريدُ التعبير عنه وقد سبقتني إليه .. فكلُّ
هذه الأعمال التي تحدّثتَ عنها هي ممارساتٌ يوميّةٌ لا علاقةَ لها بما
نسمّيه تناقضاتٍ طالما أنّها تصبُّ في مجرىً واحدٍ هو سبل العيش ! لكنّني
أستثني منها ممارسةَ الكتابة ، فهي ليست سبيلاً للعيشِ بمقدار ما تكونُ
وسيلةً للتعبير عن الحياة وشرح مضامينها..على كلِّ الأحوال ، وعلى غير
المعهود، سأطلعكم اليومَ على قصتي الجديدةِ .. لقد أنهيتُ كتابتَها بالأمس
! وكنت سأبدأُ بتنقيحها اليومَ .. لكن لا بأسَ ، سأقرأ ثمَّ ستحكمون في
النهاية .. "
قال جملتَه الأخيرةَ متوجّها نحو خزانته المتوضّعةِ خلفه ، ثمَّ فتحها
وأخرجَ منها مجموعةً من الأوراق وسط دهشتنا واستغرابنا ، وعاد للجلوس على
كرسيٍّ خلف طاولةٍ خشبيّةٍ مِنْ صُنعهِ ، وبعثرَ الأوراق عليها ثمَّ أعاد
جمعها من جديدٍ في رزمةٍ أخذ يطرقُ حافّتها السفليةَ بلطفٍ فوق الطاولة ثم
نظر إلينا وقالَ:
- " هذه المرّة ستلاحظون اختلافاً في الأسلوب فقد كتبتُ بطريقةٍ
جديدةٍ .. ولن أضيّعَ عليكم متعةَ الاستماع والتشويق .. لقد جرتْ أحداث هذه
القصة في الثمانينات ، واخترتُ لها العنوان {نرجس}.. "
وبدأ يسمعنا ما كتبَ بصوتٍ تقمّصَ أصواتَ شخصيّاتهِ كما لو كان يمثّلُ
أدوارَهم :
" راحلٌ إلى الشارقة .. هناك سأبدأُ حياةً جديدةً محاولاً دفن كلِّ آلامي
وجراحي في البلدةِ الأثريّةِ الجاثمةِ منذ قرونٍ على تلالٍ بركانيّةٍ
جنوبيّ سوريّة ، شهبا .. مدينة فيليب العربي كما يحلو لمنشّطي السياحةِ
تسميتها ، أو المدينة النائمة كما يحلو لي أن أسمّيها .
غادرتها ليلاً متوجّها إلى مطار دمشقَ مودِّعاً أزقَّتها وأبوابَ دكاكينها
المسدلةَ منذ الغروب وشارعَها الرئيسيَّ الوحيدَ الذي كان يخلو من الحركة !
كلُّ شيءٍ فيها كان نائماً إلاّ ذكرياتي القريبةَ والعتيقةَ التي تأبى
النومَ فتتصارعُ على أبواب مخيّلتي لتحضُرَني دفعةً واحدةً و لا أجدُ
مخرجاً في مقاومتها إلاّ بتذكّرِ الساعاتِ الأخيرةِ التي قضيتها مع بعضِ
أصدقائي المودّعين وأفرادِ أسرتي الذين تجمّعوا في غرفتنا الكبرى يحبسون
دموعهم في زحمتها عبر ابتساماتٍ وداعيّةٍ أخفتْ خلفها حزناً صامتاً !
صوتُ أمّي يتردّدُ إلى مسامعي كلَّ قليلٍ من الوقتِ : "سنشتاقُ إليكَ يا
غالٍ ! " وصورةُ أختي الصغيرة ديانا التي أعتقتْ دموعاً فيّاضةً بلّلتْ
سترتي الجديدةَ وأنا أحتضنُها عند عتبةِ الباب ،لا زالتْ عالقةً في مخيّلتي
. كلٌّ يودّعني مصافحاً ومقبّلاً ومحتضناً .. وتودّعني أمّي مرّاتٍ ومرّاتٍ
.. تنهالُ عليَّ بالقبلاتِ والضمّاتِ كلَّما انتهى شخصٌ من وداعي ! أمّا
والدي ، فقد وقفَ جانباً يراقبُ المشهدَ بعينين دامعتين وكان يحاول ُ أنْ
يتجنّبَ الخوضَ في هذه المعمعةِ ، لكنَّه لم يفلحْ عندما ارتميتُ بين
ذراعيهِ أقبّلُ يديهِ وجبينَهُ وأقولُ بصوتٍ مختنقٍ : " لا تخشَ شيئاً يا
أبي ! سأعودُ غنيّاً وسأكملُ بناء (المضافة) وستتغيّرُ كلُّ حياتنا .. لن
تبردَ قهوتُكَ بعد الآن ! وسترمي عباءتكَ المهترئة وسيكون لكَ حضوركَ
القويُّ في مجالس الرجالِ ! ولا أريد منكَ سوى الدعاءِ لي بالتوفيق .. "
لا زال صوته يدغدغُ مسامعي وهو يقول :
- " رضي الله عنك يا رامي ! وفّقكَ اللهُ في كلِّ أمرٍ
وجعلَ دربكَ خضراءَ دوماً" .
في الطريقِ إلى المطار قال كرم الذي أصرَّ على مرافقتي رغم معارضتي للأمر :
- " احرصْ على نفسكَ جيّداً هناكَ ولا تخشَ علينا شيئاً ، سنكون
هنا بخيرٍ إنْ كنتَ بخيرٍ ! "
- " نعم يا أخي .. سأكون بخيرٍ .. سأولدُ هناكَ من جديدٍ ..
وستكونون بألف خيرٍ أيضاً .. سأعودُ غنيّاً مفاخراً بما سأكسبُ .. وسنرتدي
الملابسَ الثمينةَ ونركبُ سيّاراتٍ فاخرةً .. سأرمّمُ البيتَ وأوسّعُه
وأبني لكَ بيتاً كبيراً ، وسأساعدكَ على الزواجِ بهاجر، وسأسعى لتعليم ماجد
و ديانا في الجامعةِ .. سأشتري لكَ صالونَ حلاقةٍ جديداً وفسيحاً .. و لن
يكون أبو الكرم مضطراً من جديد لإصلاحِ الدرّاجات بل سيتقاعدُ ويتفرّغُ
لمضافتهِ وقهوتهِ ، ولن يتردّدَ في اقتحامِ أيِّ بيتٍ ليطلبَ عروساً لي أو
لماجد .. سأختارُ أجملَ النساءِ وسأُغيظ بها لونا .. وستصحو شهبا يوماً
لتجدَني أطوفُ شوارعها بسيّارةِ
( جيبٍ ) مكشوفةٍ وإلى جانبي تتربّعُ على عرشِ الجمالِ أحلى عروسٍ ! و
سأختارُ أفخمَ الصالاتِ لأقيمَ فيها حفل زفافي ، وسأُقدّمُ للمدعوّين مئةَ
(منسفٍ) .. "
يقاطعني كرم بصوتٍ هادئٍ وابتسامةٍ رادعةٍ :
- " مهلاً ، على رسلكَ يا رامي .. أرجو من الله أن يحققَ
لكَ كلَّ ما تتمنّاهُ .. لكنّني لا أريدك أن تتهوّرَ، وأوصيكَ ثانيةً
بالحرصِ الشديدِ .. ستتمكّنُ من تحقيقِ كلِّ ما تصبو إليه إنْ كنتَ هادئاً
وصبوراً، وتذكّرْ أنَّ كلَّ شيءٍ له ثمنٌ ، والغربة لها ثمنها المميّز! "
صمتَ قليلاً ثمَّ تابعَ متذكّراً بأنَّه الأخُ الأكبرُ ، المرشدُ والناصحُ
:
- " إنّكَ تقسو على لونا قليلاً ! هي لم ترفضْكَ ، بل رفضتْ
واقعنا الماديَّ المدقعَ .. تمنَّ لها السعادةَ والوفاق مع زوجها ، وعليكَ
أن تفكّرَ بنفسكَ وبما يحملهُ لكَ المستقبلُ .. وبالمقابل فأنتَ ترفضُ
تزويجَ أختكَ من طالبٍ جامعيٍّ لا دخلَ له ، ولا طائلَ لأسرته في الإنفاقِ
عليه ! إنَّ الزواجَ أمرٌ مكلّفٌ كما تعلم ! انظرْ كيف أصبحتُ وهاجَر
عاجزيْن عن الزواج بعد خطبةٍ أثقلتني بديونها فامتدّتْ لسنتين ، أمَّا أنتَ
فلا زلتَ صغيراً ولديكَ المتَّسعُ الهائلُ من الوقتِ لتبني نفسَكَ وتؤسّسَ
ثروتَكَ المنشودةَ ، وربّما ستعودُ قريباً لتكملَ دراستكَ الجامعيّةَ
وتتزوّجَ و.... "
لم يتوقّفْ كرم عن إسداء النصائح طيلة الطريق وكأنّه أمضى في الغربة دهوراً
، مع أنَّه لم يغادرْ شهبا إلا لتأدية خدمة العلم ، ويمضي عشرَ ساعاتٍ
يوميّاً في صالون الحلاقة يقضي معظمَها في مطاردةِ الذبابِ و مصاحبةِ أغاني
أُمِّ كلثوم ! لقد هجره غالبيّةُ زبائنِه الذين انساقوا خلف المظاهرِ
الغشّاشةِ لصالوناتِ الحلاقةِ الحديثةِ كما يقول . ومن جهةٍ ثانيةٍ فهو لا
يقتني مغسلةً للشَّعر ولا يعلّقُ صوراً خلاعيّةً على جدران صالونه ، ولا
يخالف التسعيرةَ التموينيّة، ولا يُسمعُ زبائنَهُ إلاّ صوتَ أُمِّ كلثوم ،
وتراه يحاربُ الجيلَ الجديدَ من المغنّين فخسر بذلك الجيلَ الجديدَ من
الزبائن .. ورغم مهارته الفائقة في قصِّ الشعر فإنَّ زبائنه على الأغلب من
المتقاعدين والمسنّين .. وحصلَ في الآونة الأخيرةِ على ترخيصٍ لبيع التبغِ
والمعسّلِ والجرائدِ وأوراقِ اليانصيب في صالونه !
استمرَّ كرم في ترديد عبارته ( احرصْ على نفسِك ) حتّى اللحظةِ الأخيرةِ
لوداعي في صالةِ المطارِ . و بعد أن أنهيتُ معاملةَ تدقيقِ أوراقي ، عدتُ
إليه ليكرّرَ قولَ تلكَ العبارةِ من وراءِ القضبانِ الحديديّةِ التي تفصلُ
المسافرين عن المودّعين .
في الطائرة أُنقّلُ نظراتي بين الوجوهِ التي تشبهُ التماثيلَ المزروعةَ في
ساحةِ متحف شهبا ! إنَّها نائمةٌ و معبّرةٌ ! أقرأُ فيها أحلاماً تشبه
أحلامي ؛ ذهباً وثروةً وخَلعاً للفقرِ وارتداءً للثراءِ الفاحشِ !
و وحدهُ صوتُ المضيفة ينبشُ صورةَ لونا التي أجاهدُ في دفنها مع فقري .. لم
أدرِ ما الذي حثّني على هذا ، فالمضيفة الحسناءُ لا تشبهها ولم تتعطّرْ
بالنرجس لكنّها أحضرتْ لي صورتَها فجأةً .. أيكونُ ذلكَ بأناقتها وحضورِها
الأنثويّ و حُسنِ اهتمامِها بالركّابِ أم بصوتِها الرقيقِ ؟ :
- " لماذا تبدو خائفاً ؟ أهذهِ هي المرّة الأولى لك في الطائرة ؟
"
أجيبها متلعثماً :
- " نعم . لكنّني لستُ خائفاً ، ربّما أكون مرتبكاً بعض الشيء ."
راحتْ تشرحُ لي كيفيّةَ ربطِ حزامِ الأمانِ ، ثمَّ دلّتني على مكانِ كيسٍ
صغيرٍ يُستعملُ للقيء إنْ شعرتُ بالحاجة إلى ذلك ، كما و أرشدتني إلى زرٍّ
كهربائيٍّ أضغطُ عليه فتحضر إليَّ كماردِ المصباح ! ثمَّ انتقلتْ إلى
مسافرين آخرين بعد ابتسامةِ انتهاءٍ ساحرةٍ .. كنتُ أصغي إلى صوتها بالقربِ
منّي في حين لم أستطعْ مقاومةَ التفكيرِ بلونا وكلماتِها القاسيةِ في
حديقةِ كليّة الآداب :
- " الحبُّ لا يطعمنا خبزاً .. لا أستطيعُ الاستمرارَ في رفضِ
كلِّ من يتقدَّمُ لخطبتي بحجّةِ إكمالِ الدراسةِ .. سئمتُ من هذا الأمرِ ..
وهذا العريسُ طبيبُ أسنانٍ و .. "
قاطعتها ساخراً :
- " وهو حلمُ كلِّ فتاةٍ ، و أنتِ لا تستطيعينَ الرفضَ هذهِ
المرّة ! حتّى حجّة إكمال الدراسةِ لنْ تكونَ مقنعةً ! طبيبُ أسنانٍ ..
مصرفٌ دائمٌ وحسابٌ جارٍ وذهبٌ وملابسُ فاخرةٌ و سيّارةٌ خاصّةٌ ! هل هذا
حقّاً هو حلمُ كلِّ فتاةٍ ؟ أين أصبَحَتِ الآنَ عبارةُ (الخبز والزيتون )
؟! هذا ولم نتحدّثْ بعدُ عن (الحصيرة )! أليس هذا ما كنتِ تدّعينَ في
جلساتنا؟ أم أنَّ ذلكَ كان قبل أنْ يدخلَ إلى الأضواء طبيبُ الأسنانِ ؟
حسناً .. سيكونُ لديك امتيازُ إصلاحِ أسنانِكِ مجّاناً ! وليسَ أنتِ فقط بل
جميع أفراد العائلة ! "
- " اسمعني جيّداً .. لازال أمامك ثلاثُ سنواتٍ للتخرّج ، هذا إن
لم يكن لديكَ رسوبٌ ! ثمَّ خدمةُ العلمِ ، ثمَّ البحثُ عن وظيفةٍ لأعوامٍ
أُخَرَ .. تخيّلْ أنّني سأنتظرُ كلَّ هذه السنوات ! هذا يعني أنّني سأكون
في الأربعين ! ثمَّ سنعيشُ في بيتٍ مستأجرٍ وقد نتمكّنُ من بناء بيتنا
بمساعدةٍ من أحفادنا ! .. لنكنْ منطقيّين قليلاً .. "
- " ولماذا تستبقين الأحداثَ ؟ ربّما تسيرُ الأمورُ على خلافِ ما
تتوقّعين ! "
تغمضُ عينيها وتكادُ أنْ تتأفّفَ لولا أنّها امتنعتْ عن ذلكَ خجلاً ، ثمَّ
قالتْ بصوتٍ خافتٍ :
- " لقد توصّلتُ إلى قرارٍ .. "
قاطعتها فوراً :
- " كأنّني عرفتُ ماذا ستقولين : ( سأبقى أحبُّكَ مثل أخٍ لي ،
ومن المستحسنِ أنْ يذهبَ كلٌّ منّا في سبيله .. ) أليس كذلك ؟ أليس هذا هو
قراركِ الذي توصّلتِ إليه بعد كثيرٍ من التفكيرِ والسهرِ والتردّدِ ؟ "
أخفضتْ رأسها من دون أن تستطيعَ النظرَ إليَّ وهي تقولُ :
- " أرجوكَ .. لا تقسو عليَّ ... "
قاطعتها أيضاً مستمرّاً باللهجةِ ذاتها :
- " من منّا يقسو على الآخر ؟ أنتِ مَنْ تقسينَ على نفسكِ ! كيف
استطعتِ التفكيرَ في هذا الأمرِ على هذا النحوِ ؟ هل ستطلبينَ منّي الآنَ
تسليمكِ رسائلكِ وصورَكِ كما يحدثُ في الرواياتِ عادةً ؟ هل تقمّصتِ شخصيّة
إحدى الرواياتِ اللاعاطفيّة..؟ "
تقاطعني بصوتٍ حازمٍ :
- " اسمعني يا رامي ! لقد اتّخذتُ قراري ولا أريد.."
- " لا تريدين أنْ يؤنّبَك ضميرُكِ ، وتريدينَ منّي أنْ أتقبّلَ
الأمرَ بكلِّ رحابةِ صدرٍ و من دون ردّة فعلٍ قد تتحوّلُ إلى انغماسٍ في
الرومانسيّةِ تخشينَ من تأثيرهِ على قراركِ أو على حياتكِ المستقبليّةِ ..
أنتِ بذلكَ تمهّدين لظروفٍ مناسبةٍ من دون ضغينةٍ أو خسائرَ .. هكذا ..
بكلِّ بساطةٍ . "
أصمتُ قليلاً فأجدُها لا تجرؤُ على الإجابةِ فأتابعُ :
- " لكِ ذلكَ .. اذهبي فأنتِ حرّةٌ ! انعتقي من حبّي إنْ كنتِ لا
تزالين أسيرةً حتّى سماعِ هذا ! تزوّجي من طبيبكِ وساعديه على إحصاءِ ريعِ
عيادتهِ كلَّ مساءٍ ! مثّلي أمامه دَوْرَ الزوجةِ الحبيبةِ التي اختارتهُ
من بينِ كلِّ رجالِ الأرضِ الذينَ تقاطروا لطلبِ يدها ! لا تَنسيْ تذكيرَهُ
كلَّ ليلةٍ بأنّكِ اخترتهِ لأنّه طبيبٌ فهذا سيشعرهُ بالفخرِ ويولّدُ لديهِ
الحماسَ بعدَ يومٍ شاقٍّ من الحفر و القلعِ و رؤيةِ الدماءِ والبصاقِ ! ولا
عليكِ منّي .. لا تسمحي لنفسكِ حتّى بتذكّرِ اسمي .. سأكونُ نقطةً سوداءَ
في ذاكرتكِ المنسيّةِ.. وربما أصيرُ مصادفة مزريةً في حياتكِ السابقةِ أو
ندماً آثماً حلَّ على أحلامكِ الدفينةِ ! وستقولين لطبيبكِ إنّكِ كنتِ
منشغلةً بالدراسةِ طيلةَ حياتكِ ، ولم يتسنَّ لكِ التفكيرُ في علاقاتِ
الحبِّ السخيفةِ ! وعندما سيُبدي استغرابَهُ من ذلكَ قد تتظاهرينَ
بالاعتراف أنّكِ كنتِ محطَّ إعجابٍ لأحد زملائكِ في المرحلة الثانويّةِ ، و
أنّكِ وضعتِ لهُ حدّاً في إحدى الرحلاتِ المدرسيّةِ عندما حاولَ الاقترابَ
منكِ فردعتهِ بقسوةٍ ! وسيصدّقُ ذلكَ لأنّه لا يريدُ التفكيرَ في خلافِ
ذلكَ ! ستساعدينهُ على الاعتقادِ بأنّكِ طاهرةٌ نقيّةٌ خاليةٌ مِنْ أيٍّ
مِنْ آثامِ الحبِّ ! وأنّكِ لم تسمحي لأحدٍ بتدنيسِ قدسيّتكِ بكلمةِ عشقٍ
أو رسالةِ غرامٍ أو قصيدةِ غزلٍ !
إن كنتِ تنتظرينَ سماعَ قرارِ الإفراجِ عنكِ فقدْ سمعتهِ للتَّو ! اذهبي
فإنّي أعتقكِ ! لن تكوني بعد اليومِ حبيبتي .. سأنساكِ إن كانَ هذا هدفَكِ
.. و لا عليكِ ، سأكون سعيداً في غيابكِ !
تبكينَ ؟ لستُ أدري أأتأثّرُ بدموعكِ أم سأشفقُ عليكِ ؟ لا أعلم إن كنتِ
تبكينَ نادمةً على ما حدثَ أو نادمةً على ما يحدثُ ! لا يهمُّ ... لا
يهمُّ .. "
أقفُ منتصباً و أغادرها مقاوماً رغبتي الهوجاءَ في النظرِ إليها، وأتوجّهُ
إلى غرفتي في المدينة الجامعيّةِ وأحزمُ أمتعتي ، كتبي ودفاتري وملابسي ..
يقول زيدون ، أحد شركائي الأربعة في الغرفةِ والذي لم ألقِ التحيّةَ عليه
لدى دخولي :
- " ماذا حدث لكَ ؟ إلى أين أنتَ ذاهبٌ ؟ "
- " راحلٌ إلى بلاد الله الواسعة ! لن أتمكَّنَ من إتمام دراستي
! ربّما أسافرُ إلى الشارقة ، ابنا عمّي هناكَ وقد شجّعاني على السفر
كثيراً لكنّني كنتُ أرفضُ و أصرُّ على الدراسةِ .. واليومَ اكتشفتُ أنّهما
كانا مصيبانِ عندما قالا : ( الدراسة لا تُطعمُ خبزاً )."
- " أستغربُ هذا منكَ ، فأنتَ الذي شجّعتني على الاستمرارِ في
الدوامِ بعد رسوبي في العام الماضي، وتقول هذا الآن !؟ "
- " لن أشجّعك على شيءٍ بعد الآن ! سأهتمُّ بإجراءاتِ السفرِ
وإذا نجحتُ في ذلكَ سآتي لوداعكَ . "
مسكينٌ يا زيدون .. نسيتُ أنْ أودّعهُ ، لكنّني سأكتبُ له رسالةً فور وصولي
إلى الشارقة .
أشعرُ برغبةٍ في رؤيةِ وجه المضيفةِ ومحادثتها فأضغط على الزر فأجدها إلى
جانبي وقد انحنتْ قليلاً وهي تهمسُ بصوتها الدافئِ :
- " هل من خطبٍ ؟ "
- " لا أبداً .. لكنّني لا أعلمُ أينَ أصبحنا الآنَ ! "
- " لا زلنا فوق الأراضي السعوديّة وسنصلُ بعد عشرين دقيقةً إن
شاء اللهُ . لكنْ أخبرني لماذا لازلتَ تربط حزامَ الأمان ؟ ألم تسمعْ
توجيهات الكابتن بإمكانيّة نزعه بعدَ الإقلاع ؟ تستطيعُ نزعَهَ الآنَ ثمَّ
إعادةَ ربطهِ قُبيلَ الهبوط ، وسنعلنُ عن ذلكَ في حينه ."
في مطار الشارقة كان ابنا عمّي زيدٌ و رباحٌ في انتظاري وبصحبتهما رجلٌ
بزيٍّ خليجيٍّ بدتْ عليه ملامحُ الأربعينَ ، عرّفني عليهِ زيدٌ فور انتهاء
طقوسِ الاستقبالِ الحارِّ قائلاً :
- " أعرّفكَ على كفيلنا الشيخ المنذر ، وسيكونُ كفيلاً لكَ منذ
اللحظةِ .. "
أنهى الشيخ المنذر المعاملاتِ الورقيّةَ وعادَ إلينا ليقولَ بلهجتهِ
الخليجيّةِ المميّزةِ :
- " هيّا .. هيّا إلى السيّارات ! "
شروقُ الشمسِ في الساعةِ الأولى لوصولي إلى الشارقة بعثَ في نفسيَ أملاً
بإشراقٍ جديدٍ لحياتي المستقبليّةِ وتفاؤلاً عظيماً بالقدرةِ على الولادةِ
من جديدٍ فتنفّستُ الصعداء .
في السيّارةِ يقول رباح :
- " كنّا نقرأُ رسائلكَ متأثرين بتعابيرك المنتقاةِ بعنايةٍ ..
صدّقْ أنَّها كانتْ أفضلَ سلوى لنا .. انظرْ حولكَ وسترى أنَّ هذه المدينةَ
لا تنامُ ! فالعملُ متواصلٌ هنا ليلاً ونهاراً ، وستجدُ أنَّ الناسَ هنا قد
تناسوا النومَ أو كادوا .. ورغم توافر الأرزاقِ هنا إلا أنّنا كنّا نحسدُكم
على وجودِكم في المدينةِ النائمةِ .. ألا يحلو لكَ أنْ تسمّيها هكذا؟ "
نضحكُ جميعاً ثمَّ يقول زيد :
- " ستمضي هنا بضعةَ أيّامٍ من دونِ عملٍ ريثما تتأقلمُ مع أجواء
البلاد فالحرُّ شديدٌ ونسبةُ الرطوبةِ مرتفعةٌ لكنَّ المكيّفاتِ تحلُّ
المشكلةَ في السيّاراتِ والشققِ وتبقى الصعوبةُ قائمةً في الشوارعِ حيثُ
عملنا .. ستكونُ ضيفاً عزيزاً حتّى تباشرَ عملكَ في شركةِ المنذر .. واعلمْ
أنّهُ رجلٌ طيّبٌ جدّاً لكنّهُ عمليٌّ جدّاً ولا يحبُّ التقاعسَ ويكرهُ
الإهمالَ ، وعليكَ أنْ تكسبَ ودَّه بالكدِّ والنشاطِ .. "
بقيتُ في شقّةِ ابنَي عمّي خمسةَ أيّامٍ ، وحيداً في النهارِ وبصحبتهما في
الليلِ . وكنا نخرجُ للتّنزّه الساعةَ الواحدةَ بعد منتصفِ الليلِ ،
فابتدعتُ أسلوباً جديداً لقتلِ الوقتِ عندما أكونُ وحيداً : كتابةَ
يوميّاتي .
في اليومِ السادسِ جاء المنذرُ ليقضي السهرةَ في ضيافتنا ، واتفقنا أنْ
أباشرَ العملَ في اليومِ التالي بعد توقيعِ العقدِ في مكتبهِ .
بدأتْ أهدافُ سفري تتحقّقُ .. عملٌ مضنٍ ومالٌ وفيرٌ .. واستطعتُ أنْ
أُرسلَ إلى أبي الدفعةَ الأولى من المالِ بعد شهرينِ من وصولي إلى الشارقة
! كانتْ خمسةً وعشرين ألف ليرةٍ ، أي أكثر بعشرِ مرّاتٍ ممّا يحصلُ عليه
شهريّاً من إصلاح الدرّاجات ، وطلبتُ من أبي الكرم أنْ ينفقَ هذا المالَ في
شراءِ الطعامِ والكساءِ والقيامِ بنزهاتٍ وابتياع الحاجات الضروريّة . ثمَّ
رحتُ أرسلُ دفعاتِ المالِ تباعاً .. خمسةَ عشرَ ألفاً كلَّ شهرٍ من دون
ادّخار أيِّ مبلغٍ هنا !
كان عملي كمندوبٍ للمبيعاتِ مربحاً جدّاً لأنّني أحصلُ على راتبٍ شهريٍّ
بدأ بألفي درهمٍ و وصلَ إلى ثلاثة آلافٍ وخمسمائةِ درهمٍ بعد سنةٍ من
العملِ ، بالإضافةِ إلى كسبِ نسبةِ خمسةٍ بالمائة من أرباحِ البيعِ . وكنتُ
نشيطاً لدرجةِ أنّني جنيتُ أكثرَ بكثيرٍ ممّا يحقّقهُ زيد و رباح معاً !
فاجأتُ الجميعَ هنا بإنجازاتي بمن فيهم الشيخ المنذر الذي كانَ كريماً
جدّاً ومقدّراً لكلِّ ما أبذلهُ من جهدٍ .. وصرتُ أرسلُ ثلاثينَ ألفَ ليرةٍ
شهريّاً اعتباراً من سنتي الثانية في الغربةِ !
ومن خلالِ الرسائلِ التي كانتْ تصلني من شهبا ، عرفتُ أنهّم رمّموا البيتَ
وغيّروا أثاثهُ و بدؤوا ببناء المضافةِ وتوسيعِ فسحةِ الديار . وقامَ كرم
باستئجارِ صالونِ حلاقةٍ جديدٍ لكنّه أخبرني في رسالتهِ الأخيرة أنّه قام
بنزعِ الصور الخلاعيّةِ عن جدرانه واستبدلَ بها صوراً لأمِّ كلثوم وفيروزَ
وفريدِ الأطرش ، وأنَّ عملَه صارَ على خير ما يرام ..
حصلَ رباح على عطلة لمدّة شهرين واستعدَّ للسفرِ إلى شهبا فأعطيتهُ ثلاثين
ألف ليرةٍ وأخبرتهُ أنَّ هذا المبلغَ مخصّصٌ لشراء حليٍّ وذهبٍ لهاجرَ ،
فقال مستغرباً :
- " أترسلُ ثلاثين ألفاً لكرمٍ وحده ؟! هنيئاً له ! "
- " وما الغرابةُ في ذلكَ ؟ "
- " سامحني يا أخي .. لا أتعمّدُ التدخّلَ في شؤونكَ لكنّكَ
ترسلُ كلَّ قرشٍ تجنيه ، وليسَ لديكَ رصيدٌ مصرفيٌّ هنا ، حتّى أنّكَ لم
تشترِ سيّارةً ، و هي حلمُ كلُّ واصلٍ إلى هذه البلاد !
كلّنا يرسلُ النقودَ لذويه ، و إلاّ لما جئنا إلى هنا، لكنّنا نودعُ حصّةً
لنا في المصرفِ تحسّباً لأيِّ أمرٍ طارئٍ."
يتدخّلُ زيدٌ بصوتٍ تخيّلتُ أنّهُ صوتُ أمّي :
- " أعلمُ تماماً ما يقصدهُ رباح من كلامهِ هذا .. سنشعرُ
بالأنانيّةِ لو تمتّعنا بالمالِ هنا و ذوونا بحاجةٍ إليهِ هناكَ ، هذا أمرٌ
محسومٌ .. لكنّنا نمتّعهم ونتمتّعُ.. خذْ حاجتكَ من المال ِ وأرسلْ لهم ما
يتبقّى .. هكذا نفعلُ ! "
- " لا حاجةَ لي بهِ هنا إلاّ لضروراتِ العيشِ ! ولا حاجةَ لي
بالسيّارةِ و أنا أمارسُ عملي سيراً على الأقدام متنقّلاً من بيتٍ لآخرَ،
ولن يكونَ ليَ الحقُّ في تبذير أيِّ درهمٍ قبلَ أنْ أتأكّدَ أنَّ كلَّ ما
تمنَّيْتُهُ لأهلي قد تحقّقَ .. هكذا بكلِّ بساطةٍ."
أوصلْنا رباحاً إلى المطار ، وفي طريق العودةِ أصرَّ زيدٌ على البدءِ
بتعليمي قيادةَ السيّارةِ بحجّةِ أنّني قد أحتاجُ إلى هذا الأمرِ يوماً
حتّى وإنْ لم أشترِ واحدةً ! ثمَّ أعجبني الأمرُ وأصبحَ ذلكَ تقليداً
يوميّاً دفعني إلى الانتساب إلى مدرسةٍ لتعليم القيادة فحصلتُ على رخصةِ
السوقِ سريعاً !
عاد رباح منْ شهبا برّاً محمّلاً بالرسائلِ والأكلاتِ الشعبيّةِ النادرة
هنا ،كالبرازقِ والكشكِ والهريسةِ والمكدوسِ والمغربيّةِ وكبيسِ القثّاءِ
والخيارِ البلديّ وغير ذلك من أشياءَ تركتُها جانباً وبدأتُ بفتحِ الرسائلِ
وقراءتها تباعاً .. واستوقفتني رسالةُ هاجر التي كتبتْ هذه المرّة بشكلٍ
مستقلٍّ عن كرم :
" أخي رامي .. أتقدَّمُ منك أوّلاً بالشكر الجزيلِ والعرفانِ بالجميلِ لهذا
الفضلِ الغامرِ والعطاءِ السخيِّ الذي سيبقى إلى الأبدِ دَيناً في ذمّتنا
قد نعجزُ عن إيفائهِ يوماً .. لقدِ استأجرنا بيتاً عربيّاً وقمنا بطلائِهِ
وتأثيثهِ ، واشترينا معظمَ لوازمِ العرسِ ، وننتظرُ الآنَ على أحرَّ من
الجمرِ عودتَكَ إلينا لنكونَ معاً في يومِ الزفافِ ، وسيكون ذلكَ بعد
انتهاء عمّي أبي الكرم من بناءِ المضافةِ وتجهيزِها ؛ أي بعدَ شهرين
تقريباً ، لذا أرجو حضورك ، معتبرةً هذا الرجاءَ بمثابةِ دعوةٍ رسميّةٍ
موجّهةٍ إلى شخصكم الكريم !
ملاحظة : ذكرتْ لي بعضُ الفتياتِ أنَّ هناكَ خلافاً محتدماً بين لونا
والدكتور أسامة قد يوصلهما إلى الطلاق ، وأردتُ أنْ أخبرك بهذا لأنّني
توقّعتُ أن يهمَّكَ الأمرُ ..
أختك هاجر
. "
كانتْ كلماتها الأخيرةُ انفجاراً أيقظَ غفوتي فبعثتْ في نفسي أملاً
لطالما تجاهلتهُ عُنوةً .. وكانتْ بحسّها الأنثويِّ كمن يصبُّ جرعةَ ماءٍ
على جذور قلبي التي أوشكتْ على اليباس ، فاعترتني بهجةٌ عارمةٌ لم أستطعْ
إخفاءها !
يسألني زيد :
- " ما الأخبار ؟ أجدكَ مسروراً بقراءة هذه الرسالة ! "
يتدخّلُ رباح :
- " إنها رسالةُ هاجر ، ولا بدَّ أنّها حدّدتْ موعداً للزفاف !
أليسَ كذلك ؟ لقد سمعتُ أنَّ ذلكَ سيكون بعد الانتهاء من تجهيزِ مضافة العم
أبي الكرم."
- " هذا ما قرأتُه تماماً ! إنّها تدعونا لحضور الزفاف ، ما
رأيكما ؟ "
- " عندما يحين الوقتُ سنذهبُ أنا وأنتَ ، وسيبقى رباح هنا
لضرورات العمل ! "
كانَ زيد و رباح منهمكين في فتحِ الحقائبِ وتفقّدِ الأغراضِ ، بينما رحتُ
أفكّرُ بكلمات هاجر متسائلاً .. ماذا لو حدثَ الطلاقُ فعلاً ؟ ولماذا
أجدُني مهتمّاً إلى هذا الحدِّ؟ أأكونُ قد فشلتُ في إزاحتها من قاموسي ؟
أين كرامتي الآنَ التي دفعتني أصلاً إلى محاولةِ نسيانها ؟ أينَ مبادئي
التي وضعتُها في أعلى الأولويّات عندما واجهتْني بكلمةِ رفضٍ ؟ أأنسى كلَّ
تلكَ الإهاناتِ ولا أنسى من وجّهها لي ؟ أين أنا من أهلي و هاجرَ و من نفسي
؟ ولماذا أخبرتني هاجرُ بخلافات لونا و طبيبها ؟ هل يعني ذلكَ أنَّ الجميعَ
قد أدركوا أنّني لن أتمكّنَ من الانعتاق منها ؟
هواجسُ كثيرةٌ وأفكارٌ شتّى تقاذفتني هنا وهناكَ حتّى قرأتُ رسالة ديانا
وماجد :
" حبيبنا الغالي .. يا أنبلَ و أعظمَ أخٍ في الدنيا .. أيّها الأبُ والأخُ
والأختُ والأمُّ وكلُّ الأحبابِ .. أسعدَ اللهُ أوقاتكَ بكلِّ الحبِّ و
الخيرِ .. اخترنا أن نكتبَ لكَ أنا و ماجد معاً لنعبّرَ لكَ عن شكرنا
العميقِ وامتناننا الجزيلِ لما غمرتنا بهِ من فضلٍ .. لقدْ غيّرتَ حياتنا
وخلّصتنا من فقرنا فبتنا نحسُّ بالطعمِ الحقيقيِّ للحياةِ بعيداً عن كلِّ
المشكلات الماديّةِ التي ذلّلتَها بتعبكَ وكدّكَ الذي لن ننساه ما حيينا !
نحن الآنَ في شهر الانقطاع عن الدوامِ استعداداً للامتحانات ، وأعدكَ أن
أحصلَ على مجموعٍ عالٍ لأكونَ في أفضلِ فرعٍ في الجامعةِ ، ويشاطرني هذا
الوعدَ أخي ماجد ويقولُ إنّه سيحصلُ على المعدّل المطلوب لدخولِ الثانويةِ
العامّةِ ، وهذا أقلُّ ما يمكنُنا أنْ نهديَه إليكَ عرفاناً بالجميلِ ..
نعم ، نهديه إليكَ أنتَ يا من انتشلتنا من الضياعِ وأوقدتَ في طريقنا
مشاعلَ الأمل !
محبّتنا واشتياقنا لكَ ونتمنّى أن نراكَ في حفلِ زفاف كرم ، وسنكون قد
أنهينا تقديمَ امتحاناتنا ..
أخيراً ،لا بدَّ أن أخبركَ بشيءٍ سمعتهُ يتردّدُ على ألسنةِ الناس هنا ، و
هو أنَّ لونا و زوجَها سينفصلان بسببِ كثيرٍ من عدم ِ التوافقِ بينهما !
وأحبُّ أنْ أعبّرَ لكَ عن أمنيتنا بأنْ تعودَ لتتقدّمَ لخطبتها ! هذا
مرادنا جميعاً لكنّه قراركَ أنتَ .. نرجو أنْ ترسلَ لنا ردّكَ حول هذا
الموضوع ...
ديانا و ماجد . "
على ما يبدو لي ، إنَّ الجميعَ هناك يتتبّعُ أخبار لونا وأسامة حتّى ديانا
و ماجد .. الجميعُ أدركَ أنّني لا زلتُ أحبّها و أنَّ انفصالَها عن زوجها
سيكون كافياً لأعودَ إليها .. الآنَ عرفتُ أنَّ شيئاً ما في داخلي كانَ
ينتظرُ بشغفٍ حدوثَ ذلكَ ! واللّهفةُ التي قرأتُها في رسالةِ ديانا وماجد
انتقلتْ لتحتلّني ثمَّ لتطلقَ همجيّةَ تعطشي لذلكَ دفعةً واحدةً ..
وكانتْ رسالةُ أمّي وأبي ورسالةُ كرم أيضاً لا تخلوان من التلميحات بشأنِ
لونا وزوجها : ( يمكنُ البدءُ من جديدٍ دوماً ) أو ( تعالَ لنزوّجك أنت
وكرم في ليلةٍ واحدةٍ ) . حتّى أنَّ بعضاً من عباراتِ الشكرِ والامتنانِ
قرأتُ فيها تلميحاتٍ : ( لقد أثبتَّ في غربتكَ أنّكَ كنتَ خيرَ طبيبٍ داوى
جراحنا ! ) . إنَّ هناكَ اتّفاقاً جليّاً لاستدراجي إلى شهبا وتزويجي من
لونا و كأنّهم قد حسموا أمرَ طلاقها !
خبّأتُ الرسائلَ في جيبي والتفتُّ نحو رباح الذي بادرني بابتسامةٍ غامضةٍ ،
فرُحتُ أسألُهُ عن أخبار شهبا و أهلِها رغبةً منّي في استنطاقِهِ ليخبرَني
بشيءٍ مفيدٍ لكنّه تعمّدَ أن يطلعَني على كلِّ شيءٍ مستثنياً لونا من
حديثهِ !
أيّامٌ مرّتْ و أنا في قلقٍ و أرقٍ انعكسا على أدائي في العملِ حتّى أنَّ
الشيخَ المنذر فاجأني مرّةً عندما قالَ مستغرباً :
- " يبدو أنّكَ بتَّ في الآونةِ الأخيرةِ غيرَ مهتمٍّ بالعملِ
كسابقِ عهدي بكَ ! هلْ تحتاجُ إلى استراحةٍ ؟ هلِ اشتقتَ لذويكَ ؟ هلْ أنتَ
مريضٌ ؟ "
- " كلُّ شيءٍ على أحسن ما يرامُ ، لكنَّ هناكَ ما يشغلني قليلاً
. "
- " بلْ قلْ إنَّ هناكَ ما يشغلكَ كثيراً ! حتّى أنّكَ لم تعدْ
مكترثاً بمظهركَ و هندامكَ ، وكما تعلمُ فهما من وسائلِ العملِ ! أتكونُ
عاشقاً يا ولد ؟ واللهِ لا يفعلُ هذا بالمرءِ سوى العشق ! .. على كلِّ حالٍ
، أخبرني إنِ احتجتَ لأيّةِ مساعدةٍ ! و يمكنكَ أنْ تستريحَ في البيتِ
لبضعةِ أيّامٍ إلى أنْ تتحسّنَ حالُكَ وتعودَ إلينا أنيقاً ! "
فُضحَ أمري هنا أيضاً .. لاحظَ المنذر و أدركَ .. بل أَقسمَ أنّني عاشقٌ !
الأمرُ جليٌّ إذاً ! قرّرتُ أن أسألَ رباحاً فذهبتُ إليه مساءً إلى مركزِ
التسوّقِ و فعلتُ .. وجاءَ ردُّهُ مفاجئاً :
- " انتظرتُ كثيراً لتسألني عنْ لونا ، هذا يعني أنَّ الطبخةَ قد
نضجتْ ! "
- " الطبخة ؟ ماذا تقصدْ ؟ "
- " أقصدُ ما حضّرناهُ في شهبا بالاتفاق مع الجميعِ .. سأختصرُ
عليكَ الأمرَ بقدرِ ما أستطيعُ ... "
وعندما لاحظَ أنّهُ استفزّني بكلماتهِ فبدا عليَّ التلهّفُ واضحاً ، تابعَ
مسرعاً :
- " في الحقيقةِ .. تمَّ الطلاقُ .. لكنّنا لم نشأْ إخباركَ
بذلكَ قبلَ أن نتأكّدَ أنَّ هذا الأمرَ يعني لكَ شيئاً .. واتفقنا على
التلميحِ و التمهيدِ فتوقّفنا عامدينَ عندَ نقطةِ ما قُبيلَ الطلاقِ ..
وبما أنّني قد لاحظتُ تغيّرَ لونكَ لدى قراءتكَ الرسائلَ ، وأنّكَ جئتني
اليومَ ملهوفاً تسألُ ، فلتعلمْ أنَّ الجميعَ هناكَ يتمنّونَ إنعاشَ هذا
الحبِّ الدفين !
لقد عرفتُ بواسطةِ أخواتي أنَّها نادمةٌ على رفضها إيّاكَ ، وأنَّ السببَ
الجوهريَّ لطلاقها هو أنتَ ! ولم يكنْ كلُّ هذا لأنَّ أحوالَكَ الماديّةَ
قد تحسّنتْ بل لأنّها تحبُّكَ ! و بالمقابلِ ، أنتَ تحبُّها ولا يمكنكَ
إخفاءُ ذلكَ ، والكلُّ يدركُ هذا ، هنا و هناكَ ! "
يتدخّلُ زيدٌ ليقولَ بصوتٍ مبتهجٍ :
- " حتّى الشيخ المنذر ، فهو يعلمُ بذلكَ ! وستُفاجأُ بما قدّمهُ
! "
أُطرقُ مستفهماً و عاجزاً عن السؤالِ فيقولُ رباح :
- " قرّرَ أنْ يقدّمَ إليكَ سبعةَ آلافِ درهمٍ كهديّةٍ للزواجِ ،
وأنْ يمنحكَ قرضاً بقيمةِ عشرةِ آلافٍ أُخرى! وهذا مع ما لديكَ سيكفي
لتزويجكَ بابنةِ ملكٍ ! وليس هذا هو كلُّ شيءٍ ، فقد صرّح المنذر بأنه
سيسافر لحضور حفل الزفاف ! هيّا .. هيّا إلى المنذر لنخبرَه بالموافقةِ . "
- " مهلاً ، فأنا لمْ أُقرّرْ بعدُ ! "
- " بلى ، لقد قرّرتَ ! عيناكَ قرّرتْ ووجهكَ أكّدَ وكلُّكَ يغلي
شوقاً إلى السفر وتنفيذِ الأمر .. هيّا ، ستركبُ مع رباح وسأوافيكما إلى
بيتِ المنذر . "
أحسستُ بأنّني أنفّذُ قدَراً أتوقّعُ حدوثـَهُ فأستسلمُ إلى مقتضياتهِ دونَ
أنْ يكونَ لي يدٌ في ذلكَ !
نجلسُ في شقتنا بعدَ عودتنا من بيتِ المنذر ، ونحصي النقودَ ونتفقّدُ
حاجاتِ السفرِ . سأرحل مع زيد ، ليس في سيّارته بل في سيّارة الشيخ المنذر
التي أعارني إيّاها قائلاً :
- " هذه سيّارتي ، ستكونُ في عهدتكَ حتّى أوافيكَ إلى شهبا ..
سأكون سائقاً لكَ في يوم العرس .. وإليكَ بعض الأشياء التي جهّزتُها سلفاً
منذ عدّةِ أيامٍ لأنّني كنتُ واثقاً من توصّلك إلى هذا القرارِ الصحيح ..
قُدْ بهدوءٍ وتناوبا على القيادةِ فالطريقُ طويلةٌ ..في رعاية الله .. مع
السلامة يا شباب ! "
عشرون ألف درهمٍ في جيبي ، وألفان إضافيّتان هديّة زيد ورباح ، وهدايا
كثيرةٌ قدّمها المنذر ؛ عطورٌ و ملابسُ ومجوهراتٌ .. لم أتمكّنْ من شكرهِ
إلاّ بالارتماءِ بين ذراعيهِ وتقبيلِ جبينهِ .. وكان يربّتُ على كتفيَّ و
يدعو لي بالتوفيق محضراً أمام ناظريّ صورةَ والدي عندما ودّعني في شهبا !
ها أنا قادمٌ يا لونا .. اشتقتُ إليكِ شوقَ الظامئ لقطرةِ ماءٍ.. أنا آتٍ
لنمحوَ كلَّ الآلامِ التي رافقتْ حبّنا النقيَّ .. سامحيني إنْ كنتُ فظّاً
في التعاملِ معكِ .. سامحيني إنْ قسوتُ على عينيكِ .. سامحي كبريائي واعذري
كرامتي .. أعدكِ بأنْ نكونَ أحلى عروسين .. ستصحو المدينةُ النائمةُ على
إشراقكِ و إطلالةِ الصبحِ من عينيكِ .. أنا قادمٌ ، فانتظري أزهارَ النرجسِ
.. ستكون حكايتنا مثلاً لكلِّ العاشقين و أملاً لكلِّ من يساورهُ شكٌ بأنَّ
الحبَّ منتصرٌ .. سنحقّقُ أحلامنا التي رسمناها معاً .. سنتزوّجُ وننجبُ
أطفالاً كما خطّطنا ،و سنشجّعهم على الحبِّ والوفاء والإخلاص .. سنؤسّسُ
مملكةَ الحبِّ التي تصوّرناها في قصائدنا ، وستكونُ كما أردنا لها أنْ
تكونَ : عذيّةً لا تُقهرُ . "
انتهى الصوّاجُ من قراءةِ الجملةِ الأخيرةِ ورفعَ رأسهُ ناظراً إلى وجوهنا
المشدوهةِ وعيوننا المنتظرةِ فأضافَ : " انتهت ."
سألتهُ باستغرابٍ :
- " أهذه هي النهايةُ ؟ أشعرُ أنَّ هناكَ صفحاتٍ إضافيّةً .."
- " نعم .. تنتهي الحكايةُ هنا ، أو بالأحرى أردتُ لها أن تنتهيَ
هنا."
تقول لارا :
- " إنّها نهايةٌ سعيدةٌ .. يعجبني هذا .. لكنْ ألا ترى أنّها
تقليديّةٌ؟حيث
ينتصرُ الحبُّ ويعودُ الحبيبُ إلى حبيبته بعدَ طولِ عناءٍ..و .. "
يقولُ البرازيليُّ مقاطعاً :
- " لكنّنا لم نعرفْ بعدُ إنْ كان قد تزوّجَ من لونا أم لا .. هل
وجدها بانتظاره ؟ هل رفضتهُ من جديدٍ؟ هل تزوّجا في يوم زفاف هاجر وكرم ؟
تساؤلاتٌ كثيرةٌ تطرحُ نفسها ! "
- " إنَّ إنهاء القصّةِ عند هذه النقطةِ يتركُ مجالاً للتفاؤلِ
لا أريدُ أنْ أكبـتــَهُ لدى القرّاءِ .. واخترتُ لها أن تكونَ على لسان
رامي نفسه كي تنتهيَ هنا ، فالأمواتُ لا يروُون شيئاً .. "
ثمَّ صمتَ قليلاً وهو يتجوَّلُ بنظراته بين وجوهنا المستفهمةِ لكنّه تابعَ
من دون أن يتركَ لنا المبادرةَ إلى سؤاله :
- " لقد اطّلعتُ على معظمِ أجزاء القصّة من خلالِ ثرثرات كرم
شقيق رامي ، فأنا أحد زبائنه الدائمين .. وبدأ يخبرني بتفاصيلِ الحكاية
عندما سألته مرّةً عن صاحب الصورة المعلّقةِ بين صورتَيْ فريد الأطرش و أم
كلثوم .. وعرفتُ أجزاءً أخرى من خلالِ زياراتي لزيدِ ابنِ عمّه .. و ما
تبقّى ألهمتني إيّاهُ سعاد .. "
تقول سعاد وقد اغرورقتْ عيناها بدموعٍ مجهولةِ التعابيرِ فبدا صوتُها
خافتاً وتلعثمتْ كلماتُها :
- " إنَّ ما دار من حديثٍ بين لونا ورامي في حديقةِ كلّيّةِ
الآداب مقتبسٌ من آخرَ جرى بيني وبين صالح عندما كنّا لا نزال طالبين في
الجامعةِ ، وكان الأمرُ وليدَ ظروفٍ قاهرةٍ جعلتني أطلبُ منه إنهاء علاقتنا
، لكنّه لم يذكرْ أنّني لحقتُ به إلى المدينةِ الجامعيّةِ وتراجعتُ في
الحال عن قراري .. "
أسألُ متلهفاًَ :
- " و رامي ولونا ؟ ماذا حلَّ بهما ؟ "
يقفُ الصوّاجُ عن كرسيّه ويجمّعُ أوراقهُ ثمَّ يتوجّهُ بها نحو خزانته
فيفتحها ويجيبُ من دون أن ينظرَ إلينا و كأنّهُ أرادَ أن يخفي حزناً عميقاً
ظهرَ في صوتهِ المتهدّجِ :
- " لقد توفّيَ رامي إثرَ حادثِ سيرٍ أليمٍ في درعا أثناء قدومهِ
من الشارقة .. بينما كُسرَ ظهرُ زيدٍ فأصيبَ بالشللِ ولا يزالُ مُقعداً
حتّى الآنَ ."
صمتَ قليلاً ثمَّ تابعَ يقولُ ملتفتاً نحونا و هو يحملُ الأوراقَ بين يديهِ
ويتردّدُ في إعادتها إلى الخزانة :
- " ذاتَ صباحٍ ، صحتْ شهبا لتخرجَ في جنازته تبكيهِ مودّعةً ..
حتّى أنَّ التماثيلَ الحجريّةَ في ساحةِ المتحفِ كانتْ تبدو باكيةً .. "
يضعُ الأوراقَ في الخزانةِ ثمَّ يغلقها بهدوءٍ ويكملُ بصوتٍ متخامدٍ :
- " أمّا لـونا ، فقد تزوّجتْ في العام الماضي من أستاذٍ أرملٍ
في الخمسين من عمره ولديهِ أربعةُ أولادٍ كبارٍ .. لكنّها حتّى اليوم لا
تزالُ تضعُ عطرَ النرجس ، و تصرُّ على ارتداء الأسود ." .
|