أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتبة: مريم محمد يمق-الملقبة بزاهية بنت البحر

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

زاهية بنت البحر(مريم محمد يمق) كاتبة وشاعرة سورية من مواليد جزيرة أرواد،

-درست الأدب العربي في جامعة دمشق،

-عملت مذيعة ومقدمة برامج في التلفزيون والإذاعة السورية عدة سنوات.

-أكتب القصة والرواية والقصة القصيرة،  والشعر،

-أحضر لديواني ومجموعتي القصصية.

-أكتب في الكثير من المواقع الأدبية،

-حزت على بعض الجوائز في الشعر والقصة،

-عملت مشرفة  على منتديات الشعر في رواء وملتقى الرابطة الثقافية، واتا الحضارية، منتديات الإسلام اليوم، بيت الجود، منتديات العز الثقافية، وغيرها كثير.

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

غبي

يمين طلاق

 الثأر

 

 

الثأر

 

أحستْ فاطمة بانقباضِ مفاجئ يحتل كيانَها، وينشر الفوضى في تفكيرها، فجندتْ كُلَ ما تملك من أسلحة المقاومة الإيمانية للوقوف في وجه هذا الاحتلال المباغت، لكنَّها فشلتْ أمامَ تسارع دقات قلبها الذي راح يستنجد بها مرتجفاً بين حناياها. وضعت فاطمة كفَّ يدها اليمنى فوق صدرها، أحستْ به يعلو ويهبط لاهثا، ينفث عبر مساماته الدّقيقة أبخرةً ساخنة، تنذر بانفجار مباغت. تمالكتْ نفسها في محاولةٍ للهروب مما ينتابها، وشفتاها تتمتمان بكلمات كانت تسمعها من أمِّها وهي صغيرةٌ تردِّدُها إذا ما ألم بها خوفٌ خفيٌّ (اللهمَّ اجعله خيرا ). مشتْ في الغرفة التي تضمٌّ أفرادَ أسرتها مهمومة فزِعة، بعد أن أغلقت وما زالتْ شفتاها تردِّدان الدُّعاء بصوت خافت مرتجف، وكأنّما الشّمس كانت تسمع من خلف الحجاب تمتمات شفتيها المثقلتين بالخوفُ، فتمد رأسها من وراء الأفق الشَّرقيِّ البعيدِ بابتسامة برتقالية ساحرةٍ ، غير آبهة بما يحمله النَّهارُ القادمُ معها من أحداث لكلِّ مشاهديه. صباحٌ مشرقٌ جميلٌ كان ضيف هذا اليوم، لكِنَّ فاطمةُ ظنَّتْهُ غولاً، وحسِبتْ زقزقةَ عصافيره عواءَ ذئبٍ بل نعيقَ بوم. بنظرةٍ خاطفة تفقَّدت أولادَها، وهي تقترب من فراش زوجها النَّائم وشخيرُهُ يملأُ أرجاء الغرفة هديراً، وجدتْهم بخير، لكِنَّها رغم ذلك لم تشعر بالطُّمأنينة، اقتربت منه أكثر، وهمست برقَّة ممزوجة بالحذر: أبو حامد، أبو حامد، لقد أشرقت الشَّمس.تحرك أبو حامد في فراشه.. نظر إليها بعينين نصف مفتوحتين، وقال بضيقٍ يشبه العتب: لماذا لم توقظيني قبل الشُّروق؟ ردَّتْ بسخرية: لصلاةِ الفجر؟! تقلَّب في فراشه ضجرا: كفاك وعظاً يا شيخة..هيَّا أيقظِي الأولاد.. لقد تأخرنا عن الحقل. تسّمَّرت ْعينا فاطمة بوجه أبي حامد كأنَّها تراه لأوَّل مرَّة، سألها بغيظ: لماذا تحدِّقين بي هكذا؟ هيَّا أيقِظِي الأولاد. تجاهلتْ فاطمةُ الأمر على غير عادتها، وراحتْ تنظر إلى صدره العاري المكسوِّ بالشَّعر الأسود كقرد، وإلى يديه الخشنتين، نظراتٍ لم يألفْها من قبل، نهرها بصوتٍ أجشِّ: لماذا تقفين كالبلهاء؟لم يضايقْها ما سمعتْ منه، إذْ ملأ الضِّيقُ مساحةَ كيانها كاملةً قبل قليل، عاد يأمرها غاضباً: تحرَّكي قبل أنْ.. فقالت وهي تتجه نحو الأولاد: لا تكملْ يكفيني ما بي.جلستْ القرفصاء بقرب رأس أحمد أصغر أولادها، والَّذي أتمَّ قبل أيَّامٍ عامه الخامس.. وضعتْ يدها اليمنى فوق جبينه، همستْ بصوت دافئ متقطِّعٍ :

أحمد..أحمد.. استيقظ يا قمري.

قبل أن ترفع يدها عن جبينه، أحسَّتْ بتيار كهربائي يشدُّها إليه، فاقشعرَّ بدنُها، وعرقتْ كفاها فعادتْ تتمتم: اللهمَّ اجعلْه خيراً. مازال أحمد يغطُّ في نوم عميق، وأبو حامد يرشق فاطمة بنظرات الغضب التي جعلتها تعاود المحاولة لإيقاظ أحمد:أحمد..أحمد .. قم يا حبيبي .. بهيَّة...بهيَّة ، وأنت يا حامد، هيَّا يا أولاد.. طلعتْ الشمس.

بدأتْ الحياة تدُّبُّ في الغرفة، والأولاد يتحرَّكون في فراشهم متكاسلين، بينما راح أبو حامد يتمطَّى كقطٍّ متوَحِّشٍ وهو ينهض من فراشه متَّجها نحو دورة المياه قبل أن يسبقه إليها أحدُ الأولاد، سألها وهو بباب الغرفة: الفطور جاهز؟

أجابته وهي تنظر إلى أولادها: والشَّاي كمان. قال بارتياح:حسنا.. سيكون لذيذاً والمياه تتدفَّق في السَّاقية.

أسرعتْ بالقول: سأرافقكم إلى الحقل لأُرَوِّحَ عن نفسي قليلاَ.

سألها ساخراً: ومما ستروِّحين إن شاء الله؟ أعادة جديدة هذه؟

أجابتْ بارتباك جليِّ: لست أدري، أحس ضيقا في صدري.

فقال: ضيق في صدرك ؟

صمتتْ برهة، وهي تجول بعينيها في المكان خشيةَ أن يكون أحدٌ من الأولاد يسمعها، ثمَّ تابعتْ: عندما فتحتُ النَّافذة قبل قليل، شاهدتُ سنبلة زوجة ابن عمك حسين تجلس عند ساقية حقلهم، وهي تبكي، انقبض قلبي وأغلقتُ النَّافذة .

انتفضَ الرَّجلُ كالثَّور قائلاً: أف لك ولهذا الصَّباح..اِبقي هنا لا مبرر لذهابك معنا اليوم إلى الحقل .

سألته بفتور: ومن سيحلب البقرة إذن؟

قال بضيق: أنا سأحلبها بعد سقاية الأرض.

همستْ برجاءٍ وانكسار: دع أحمد في البيت قد أحتاجه في عمل ما.

أجابها وهو يغادر الغرفة: لا أستطيع، أم نسيتِ أنَّ وجودَه معي يعطيني هِمَّةً ونشاطاً في العمل؟

وقفتْ فاطمة خارج البيت قرب الباب، تودِّع زوجها وأولادها، الذين راحوا يشقُّون الطَّريق الزِّراعيَ باتِّجاه الحقل، وقد لحق بهم أحمد متأخِّراً عنهم بضع خطوات، وهو يحمل الزَّاد بين يديه، وبين الفينة والأخرى كان يلتفت إلى أمِّه

ويبتسم لها ابتساماتٍ صافيةً ظلَّتْ ترميها بأسلحة الحنان حتَّى تواروا عن ناظريها خلف الأشجار، فعادتْ إلى بيتها تدير شؤونه اليوميَّة بقلب يكاد يُقلع من صدرها ويَلحق بهم حيث يعملون. مع هبوب النَّسيم، وتمايل الأغصان في الحقل الجميل، امتزج صوت الأطفال بزقزقة العصافير، وراحت بهيَّة ابنة الثّامنة، تساعد أخاها(حامد) ذا الأعوام السَّبعةِ في حفر التّرع الصَّغيرة، وجرِّ المياه إلى الأرض العطشى، الَّتي فتحت أفواهها لتنهلَ من مشاربها بشراهة إلهيم بعد عطشٍ طويل. أحسَّ أبو حامد بالتَّعب ينهك ظهره إثرَ انحناءة طويلة فوق السَّاقية الأُمِّ، فانتصب واقفاً والعرق يتصبَّب من جبينه الأسمر العريض إلى وجنتيه فرقبته فصدره، فابتلَّتْ ثيابُه بعرق العافية. رفع يديه إلى أعلى، رجع بهما إلى الخلف قليلاً، فأحسَّ بشيءٍ من الرَّاحَة، مسح جبينه بكمِّ ثوبه، وهو يلقي بتوجيهاته إلى أولاده كفلاح خبير. ملأت النَّشوة بالنَّجاح رأسَ أبي حامد، وزار الفرحُ قلبَه بعد هجرٍ مملٍ، وهو ينظر إلى السَّاقية يحمد الله، فالينابيع جاءتْ هذا العام كريمة، وهاهو الماء يتدفَّق في الحقل كتدفُّق الأمل والتَّفاؤل في نفسه بعد جدبٍ مزمنٍ.بفرحة أبي حامد وببهجة الانتصار، يعلو صوت المياه ثُمَّ يعلو.. يصبح هديراً وأبو حامد يحدِّق في السَّاقية بفرح كبير ما لبث أن تحوَّل وجوماً باغته على حين غرة.. تغيَّر لونه.  ارتجفتْ يداه وشفتاه، أصبح فريسة سهلة بين فكَّي الاحمرار تارة، والاصفرار تارة أخرى. مازال صوت المياه يعلو.. يملأ رأسه بالضَّجيج .. يُغلَبُ على أمره.. يحسُّ طّوفانًا يجتاحه.. يُغرقه إلى أعماقٍ مظلمةٍ.. من خلال الظُّلماتِ المخيفةِ

ينبعثُ ضوء خافتٌ تحيطه هالةٌ قرمزيَّةٌ.. يُحدِّقُ في دائرة الضَّوء.. يحدِّق أكثر.. تتسع عيناه.. يرى طيفَ سنبلة زوجة ابن عمه تنوح باكية قرب السَّاقية.. يؤلمه المشهد.. يسحق رجولته تحت حذاء سنبلة. يحس اختناقا يكبِّله.. يضع يده حول عنقه.. يغمض عينيه هرباً من الموت المحدق به.. يغمضهما بشدَّةٍ تعادل خوفَه.. يفتحهما بقوة فتلتقيان بعيني أحمد الباسمتين وهو يأكل لفافة الخبز والقريش، التي أعدَّتها له والدته. مازالتْ أذنا أبى حامد تسمعان نحيب سنبلة، لم يعد بكاءً أصبح عويلاً مزعجا بل عواء ذئبة. يحدِّق بوجه أحمد أحب أطفاله إلى قلبه، يبتسم لأبيه وهو يناوله كأساً من الشّاي، يأخذ الكأس من يده الصّغيرة ويلقي بها في السَّاقية، والمياه تجري مسرعة فيها، يسأله أحمد بسذاجة: ما بك يا أبي؟ خذ الشَّاي

يصرخ بصوت مرتعد: حامد حامد.

يلتفت حامد صوب أبيه ويداه ممسكتان ببعض تراب الأرض النَّدي بالفرح: نعم يا أبي ؟

يقول له بغضب: خذ بهيَّة واذهبا إلى البيت حالاً.

- لكِنَّنا لم ننهِ حفر التّرع الصَّغيرة بعد.

تعلو نبرة صوت الرَّجل: دعا العمل.. هيَّا انصرفا.

نظر حامد بوجه أبيه فَغَمَّ عليه الوجهُ، ظنَّه للوهلة الأولى وجهَ نمر أو  ضبع مفترس كذاك الذي يراه في الصُّوَرِ، هاجمه الخوف بوجه أبيه فجأة فسأله: أأصحب أحمد معنا؟

أحتد والده: لاشأن لك بأحمد، هيا اذهبا قبل أنْ أفتح رأسك بفأسي هذه.

ألقى حامد التُّراب من يديه متهيِّئاً للانطلاق هروبا من والده، لكِنَّ عينيه تعلَّقت بعيني أحمد المسالمتين، الباسمتين، البريئتين، وحب الحياة يلمع فيهما، وهيهات هيهات أن يرتوي المحبُ من عيني حبيبه. صراخ الأب يعلو، وحامد يهرب باتجاه الخارج بينما أسرعتْ بهيَّة بالفرار راكضة إلى البيت. وقف أحمد يلوِّح بيده الصَّغيرة لحامد، وكأنَّما يطلب منه البقاء معه.. يصرخ أبوه: أما زلت هنا أيَّها الوغد؟

سأل حامد نفسه، وهو يفلت من نظرات أبيه مختبئاً خلف كوم من القشِّ خارج الحقل: لماذا يريد أبي أن ينفرد بأحمد؟ آه لو أني أعرف. للوهلة الأولى ظنَّ حامد أنَّه في حلم مزعج، يريد الخروج منه قبل أن يتوقَّف قلبه، لكنَّه فشل في ذلك، وهو يراقب عن كثب ما يحدُّث قرب السَّاقية. تمشى نظره بحذر من خلال كوم القشِّ، فخُيِّلَ إليه أنَّ أباه يزداد طولاً وعرضاً، بينما راح أحمد يتضاءل أمامه كأرنب مذعور، والأب يناديه: اقترب يا أحمد، تعال سأغسل لك وجهك.

يردُّ الصَّغير ببراءة: غسلت وجهي في البيت يا أبي.

يدعوه ثانية بإصرار: اقترب سأغسله لك مرَّة أخرى.

مشى أحمد باتجاه أبيه ببطء شديد، وعيناه تتفحَّصان المكان الخالي من البشر إلا منه وأبيه علَّه يجد من ينقذه من غسل الوجه هذا، فهو لا يحبُّ الماء وعندما كانت أمه تدخله للاستحمام، كان يملأ البيت صراخاً وبكاء منذ أن كان وليدا.

لم يجد أحمد حوله سوى الأشجار، ويدي أبيه، والعصافير التي راحت تهجر أعشاشها، وصوت البوم ينعق في الحقول المجاورة . أطبق حامد بكفيه على القش دون أن يلفت انتباهه مرور أفعى صغيرة بالقرب من رجله اليسرى، ربَّما جاءت لتكون من الشَّاهدين .وصل أحمد إلى السَّاقية حيث يقف أبوه الذي سرعان ما أمسك برأسه الصَّغير، وراح يغمس وجهه في الماء بعنف ،وأحمد يرجوه خائفاً: أرجوك يا أبي لا أريد غسل وجهي ساعدني يا أبي أرجوك. ولكنَّ الأب يزداد ضغطاً فوق رأس أحمد، ويدخله في الماء كلَّما حاول إخراجه منه متوسلا بعطف أبيه. يزداد عزم الأب وقوَّته في عملية غسل الوجه الغريبة هذه، بينما راحت رجلا أحمد تحاولان الطَّيران في الهواء، كأنَّهما تريدان أن تصبحا جناحي نسر ينقذان صاحبهما من الموت، ولكن هل يصبح اللا معقول معقولا؟

لحظات مخيفة، رهيبة عاشها حامد بكلِّ تفاصيلها المؤلمة التي ستظلُّ تعصف في قلبه، ووجدانه مدى العمر، ل يدري كيف سيعيش بعدها، أو يصفها، قد يكون الموت أرحم منها به ألف مرَّة. ترك حامد لنفسه فسحةً من أملٍ اختطفها من الخيال محاولا إيهامَها بكذب ما يرى، كاد يصدِّق ما افتراه على نفسه، فربَّما كان يعيش حلماً، أو يرزح تحت وطأة كابوس مزعج ألمَّ به سهوا في لحظة خوف من شيء ما، لكِنَّه سرعان ما أحس باشتداد وطأة الرُّعب في إيلامه، وهي تنقضُّ على قلبه.. تفترسه.. تمتصُّ دماءه من شراينه الدَّقيقة التي كادتْ تنفجر من شدَّة الضَّغط فيها. أحسَّ بالغليان في داخله، بينما راحت حرارة جسد أحمد تتلاشى متَّحدة بحرارة المكان، وتوقَّفت رجلاه عن محاولة الطَّيران الفاشلة.

هدأ النّسرُ الصَّغير على حافة السَّاقية بين يدي والده، فألقى به فوق التُّراب جثَّة هامدة. شعر أبو حامد بنشوة عارمة وهو يقف قرب رأس صغيره الذي بدا كعصفور ميتٍ بلَّلَ الماءُ رأسَه. فرك حامدٌ عينيه، بينما باعد الذُهول بين شفتيه، وهو يرى أباه يُخرج من جيبه علبة سجائره، ويتناول منها لفافة من التِّبغ يشعلها بعود ثقاب، يلقيه قبل إطفائه بالقرب من جثَّة أحمد الممدَّدة فوق تراب الحقل المبلل بماء السَّاقية، وعيناه تنظران إلى القتيل، وهو يتنفَّس الصَّعداء. يا لها من طريقة بشعة لغسل الوجه لم يسمع بها حامد من قبل. ركض مذعورا  يتلفَّت وراءه خشية أن يكون والده قد شعر بوجوده، فيلحق به ليغسل له وجهه بماء السَّاقية المشئومة. وعندما سمعتْ فاطمة صوت حامد يخترق الفضاء عويلاً، وهو يقتحم باب البيت مستنجدا  بها، وقع الخبر عليها صاعقا، أحرق في داخلها الأخضر واليابس، ركضتْ كالمجنونةِ  بل أشدَّ جنوناً من أي مجنون على وجه الأرض، مسرعةً نحو الحقل، تقطع المسافة  بدقائق معدودة، والجيران يلحقون بها مذهولين.

وصل الموكب النَّائحُ الباكي إلى مدخل الحقل لاهثاً بالتَّعب والحزن والخوف، بينما راحتْ الأمومة تتفجَّر بفاطمة شظايا متناثرة من الصُّراخ والعويل، وأبو حامد يطفيء عقب لفافة تبغه بالقرب من رأس أحمد.

نظر إليهم بهدوء مقزِّزٍ وهو يقول: أحمد ولدي، وقد قتلته بيدي هذه، من كان له  منكم شيءٌ معي فليتقدَّمْ وليأخذه.

خلعتْ فاطمة غطاء رأسها، شقَّت ثيابها جاثية فوق جثَّة صغيرها، حملتها بين ذراعيها والدُّموع قد تحجَّرت بين أهدابها، صرخت بصوت حزين اهتزَّت له أرجاء الحقل ألماً: زغردي يا سنبلة.. لقد أخذ لك أبو حامد بثأر حسين.

تعالتْ الزَّغاريد في الحقل المجاور والدُّموع تنساب شلالاتٍ من عيون الحاضرين. وعندما سأله المحقق: لماذا قتلت ابنك أحمد؟

أجاب بفخر واعتزاز: قبل عدَّة سنوات قتلت ابن عمي حسين خطأ، عندما كنت أدافع عنه ضدَّ جاره إسماعيل، فأصابه فأسي بضربة قاتلة في رأسه، وقد سجنت بسبب ذلك عدّة سنوات.

سأله المحقق: وما علا قة ذلك بقتلك أحمد؟

أجابه ورأسه مرفوع إلى أعلى: ليس لابن عمي ولدٌ ولا أخٌ ولا أختٌ، فمن سيأخذ بثأره إنْ لم أفعل ذلك أنا بنفسي ومِنْ أعزِّ الناس بالنِّسبة لي؟

سيق الرَّجل إلى السِّجن، ومازالت فاطمة وحامد يطالبان بإعدام أعزِّ النَّاس إليهم.

 

 

يمين طلاق

 

عندما سمعت بشيرة صوت نقرات على الباب، شمّت رائحة زوجها العائد من الحقل بعد يوم عمل شاق، أمضاه في حرث الأرض، والعناية بتربتها قبل موعد الزرع.. بدافع من الشوق تهيأت لاستقبال القادم، بشيء من الأنوثة، رتّبت خصلات من الشّعر المتناثرة فوق جبينها، ورطبت برضابها شفتيها المتشقّقتين، ولم تنسَ أن تضيء وجهها بابتسامة رقيقة، أوحت إلى صغيرها فهد بوصول أبيه، فلحق بها لمشاركتها مراسم الاستقبال الّتي أحبها، ونافس فيها والدته في أحيان كثيرة.. وعندما فتحت البّاب، تأكّد لها أنها مازالت تحبّه كأوّل يوم التقت به قبل ثمان سنوات، رغم ما ينتابه من تغيرات نفسيّة قد تكون مؤذية إذا ما ألمّ به خطب عظيم.. قال لها ذات يوم في جلسة صفاء: أكره ضعفي عندالغضب.. أتبدّل بآخر لا أعرفه، قد أزور طبيبا عمَّا قريب.. أيّدته بشيرة بابتسامة عذبة، فابتسم..

وحين خرج من الحمّام، وقد أزال ما علق به من تراب وغبار، وما أفرزه جسمه من عرق، وجد ابنه فهد قدّ مدّ له سجّادة الصّلاة، فأدّى فرضَ العصر وبشيرة، والصّغير يأتمان به.. فوق حصير تحلّق الثّلاثة حول طبق من القش وضعت بشيرة فوقه صحون الطعام، وراحوا يتبادلون أطراف الحديث، وهم يتناولون غداءهم بشهيّة مفرطة.. كان المرح سيّد الموقف، إنها أوقات المعانقة العائليّة، حيث المحبة والهناء.. أفرغ أبو فهد في فمه آخر قطرة من الشّاي كانت في كأسه، والنّعاس يداعب جفنيه، بينما راح الصّغير يضحك من أبيه، واضعًا يمناه فوق شفتيه خجلا من الفراغ الّذي أحدثه سقوط بعض أسنانه اللبنيّة في سنّ التّبديل.. تثاءب سعيد وهو يمدّد جسده فوق الأريكة، وعيناه تنظران إلى بشيرة بحبّ وامتنان.. أحسّ فهد بالملل بعد استلقاء والده، فاستأذنه بالخروج إلى الحارة للعب مع رفاقه الذّين ملأت أصواتهم أرجاء الغرفة ضجيجا، فسمح له على أن لا يتأخر كثيرا خارج البيت..

أغلق فهد الباب وراءه بهدوء، والفرحة تطير به على جناح الحيوية والنّشاط للقاء أصدقائه الأحباء، بينما أبحر أبوه في نوم لذيذ..

إغفاءة قصيرة تصيّدتها عينا بشيرة قرب زوجها، لكنّ صراخ الأطفال خلف النّافذة وصوت بكاء وحيدها فهد، قطّع شباك صيدها، وأفلت النّوم من عينيها، فهبّت مذعورة تستطلع الأمر.. قبل أن تصل يداها إلى النّافذة، امتدت يدا زوجها من خلفها، تدفع بالشّباك الخشبيّ إلى الخارج مستفسرا عمّا يبكي ولده.. هي مثله لا تعلم، وقبل أن تجيب رأته يقفز من النّافذة ويركض باتجاه فهد الذي كان يضع يده فوق عينه اليمنى، والدم يغطي وجهه وملابسه.. مشهد الدم جعل بشيرة تتخلّى عن أنوثتها، وتقفز من النّافذة كقردة متمردة وهي تصرخ: ما بك يا فهد؟ ماذا أصابك؟ ..فهد لم يجب، وكان جواب الدّم أبلغ..

رفع سعيد يد ابنه عن عينه... هاله ما رأى.. تبدّلت العين الزّرقاء الصافية بهوة مظلمة، عميقة بعمق الألم، تنبع من جنباتها الدّماء ممزوجة بشيء من الدّمع اللزج.. أخفت بشيرة وجهها براحتي كفيها، والكلمات تموت فوق شفتيها، بينما كانت القوة تنمو في جسد سعيد نارًا، يندفع بهاهاربًا بابنه إلى المشفى القريب، علّه يجد فيه من يطفئ تلك النّار الّتي راحت تأكل داخله بشراهة، وحين خرج الطّبيب من غرفة الإسعاف، ربّت على كتف سعيد مواسيًا ومعزّيًا بفقء عين فهد، دارت به الدنيا... دارت... دارت وازدادت ناره اشتعالا...

انتشر الخبر في القرية، فاجتمع الأهالي عند باب المشفى يستطلعون النّبأ، فشمّوا رائحة الحريق تخرج من فم سعيد بقوله لبشيرة على مسمع من الجّميع: أنت طالق يا بشيرة بالثّلاثة ما لم أذبح محمود الذي فقأ عين فهد.. الجميع يعلم كم يحب الرّجل زوجته، ويعلمون أيضا كيف حارب من أجلها حتّى انتصر، فكيف يطلّقها؟!!

تطاير رماد الحريق في أجواء القرية الهادئة، فاستنشقه سكانها ريحا صرصرًا.. فاجعة ألمّت بالقرية الآمنة قبل الغروب، عين فقئت، وطفل سيذبح، أو امرأة ستطلّق، ياللهول، أحجرٌ في مقلاع طفل صغير يقيم الدّنيا ولا يقعدها فوق الرّؤوس؟!!! لمَ لا وحجر صغير في مقلاع طفل صغير، قد يسقط حكومة تمتلك القنابل الذّريّة، بل حكومات..

أمام المحقق قال سعيد: هل من المعقول أن أرفع قضيّة على طفل صغير؟ قال المحقق: لكنّك هددت بذبح الفتى..

أجاب سعيد بابتسامة صفراء: إنّه كلام يقال عند الغضب، إذا ذبحته، فاذبحوني.. وأغلق المحضر..

استنشقت عزيزة الرّماد ملء رئتيها، فانهارت كغزالة بين أنياب ليث.. قال لها زوجها مشفقـًا، وقد تأبط بندقيّة الصّيد الّتي يمتلكها: ثقي بي، لن أسمح لمخلوق بمسّ شعرة واحدة من ابننا محمود.. لكنّها لم تعد تثق بأحد..

خبأت عزيزة ابنها في ركن خفيّ من المنزل، وأحكمت إقفال الباب، دعمته بالدرباس، وأغلقت كلّ النّوافذ، والطّفل منهوك القوى، مسلوب الهدوء، يتبرأ من صيده الثّمين الّذي أصابه بحجر طائش لم يكن يقصد به شرّا..

وحين عاد سعيد بابنه إلى البيت ، سأله فهد: هل سأرى بعيني يا أبي بعد رفع الضّماد؟

أجابه بحرقة: من قلع عينك يا ولدي، سأقطع عنقه بالسّكين..

سأله فهد ببراءة: وهل يعيد قطع عنقه عيني؟

هذه المرة لم يجب بل همست بشيرة في أذن فهد: الحمد لله أن لك عينا ثانية ترى بها يا بني..

أحاطت الشّائعات القرية، وتمرّدت الطّمأنينة فيها، فسجنت بالقلق، وراح الأهالي يتقوقعون في بيوتهم بعد كل غروب، وإذا سمعوا صوت امرأة تصيح ظنّوا أنها عزيزة.. تمطّى الخوف في القرية وعربد في شوارعها، وخيّم اليأس فوقها شبحا اقشعرت له الأبدان..

صمت.. دمع.. وعد، وسكين عطشى تنتظر الدماء.. عاشت عزيزة في قبضة الفزع أيّاما يتفتت فيها قلبها في كلّ لحظة مئة مرّة، فانهارت قواها، وغشي الضّباب عينيها، وشلّ الأرق تفكيرها.. طال الحصار، أرهقها، فسألت زوجها في لحظة وعيّ عابرة، أن يهربا بمحمود إلى العاصمة، هناك لن يستطيع سعيد الوصول إليه في مدينة واسعة تكتظ بالسّكان، وتمتلئ بالحارات..

كاد الرّجل يوافق زوجته لولا تدخّل الأهل والمقربين منه الّذين كانوا يأتون لزيارته أحيانا، فأقنعوه بالبقاء كي لا يقال هرب جبنًا، فيطعن في رجولته، ويفقد احترام الجميع.. في قرية الرعب كان هناك شيء ما يجري في الخفاء، وقد آن الوقت لكشفه، والإفصاح عنه، لكنّ ذلك يحتاج لأذكى الرّجال، وأكثرهم حنكة ، قوة، وجاها.. الخطب جلل، أصاب الوهن النّفوس كما أصاب الرّكب.. ولكن رغم ذلك مازال هناك رجال يفكّرون، ويدبّرون، وينفّذون..

اجتمع أكابرالقرّية ووجهاؤها في بيت المختار، بدعوة من الشّيخ مفلح إمام وخطيب المسجد لبحث المشكلة، وإيجاد حل يرضي الطّرفين..

اختلفت الآراء، علت الأصوات، وسادت الفوضى جوّ الاجتماع..البعض طالب بدفع دية عين فهد مبلغا يحدده سعيد، أو تقلع عين محمود.. أمّا البعض الآخر، فقد أراد احتساب الأمر قضاءً وقدرًا، وآخرون شغلهم مصيربشيرة..لم يتّفق القوم على حلّ يطفئ نار الفتنة، فرأى الشّيخ مفلح أنه من الضروري وجود سعيد بينهم لقطع الأسلاك المكهربة في تلك القضيّة الشائكة، ولكن من يستطيع أن يأتي به، وقد رفض المجيء ؟

امتشق المختار قامته دون الجميع، متسلحا برباط الدم الّذي يصله بسعيد عن طريق أحد أجداده، متعهدا مسألة إحضاره طوعا أو كرها، فتمنى له المجتمعون التّوفيق في مهمّته..

بعض الرّجال انزلقوا في الحديث إلى شفا هاوية، كاد بعضهم يضرب بعضا، أمّا المختار، فقد كبّل سعيد بحنكته المعهودة، وعاد به بعدقليل، وعيناه مطرقتان في الأرض حزنا، وغثيانا، رحب به الجميع، فشعر برجفة.. نظرالشّيخ مفلح في وجوه الحاضرين، توقّفت عيناه عند سعيد، فوجده في هوّة سحيقة، يصعب الخروج منها دون جهد.. بادره قائلا: والله لن نرتدي لباس النّساء، ونذرف الدّموع مادام للرجولة فينا بقية..

تحدّث الشّيخ حتّى تعب، ظلّ سعيد صامتا، جامدًا،

كمصلوب، إلى أن قال: كلكم يعلم كم أحبّ زوجتي، فهلّ أطلّقها؟!!!

صاح الجميع: لا

انفرجت أسارير الشّيخ مفلح فقال: نفدي لك اليمين..

سأله سعيد ببرود: كيف؟

أجابه الشّيخ مفلح: طلّق أم ّفهد، ثم تزوّجها ثانية، وأنا أكتب الكتاب في حفلٍ كبير..

انتفض سعيد غاضبًا وقال: لا، والله لن أطلّقها مادمت على قيد الحياة..

قال الشّيخ: لا تطلقها يا سيدي، خذ دية العين ما تشاء من المال ..

قال باسما: لست بحاجة للمال.. عين ابني أغلى من أموال العالم كلّه..

طال النّقاش بين أخذ وردّ، وسعيد متشبث برأيه لا يتزحزح عنه قيد أنملة..

لم تفلح كلّ المحاولات في رده عن عزمه، ولكن لابدّ من حلّ لإنهاء المشكلة خشية أن تتطورالأمور إلى الأسوء..

بعد تفكير طويل قال الشّيخ مفلح: هناك حلّ قديرضيك..

سأله سعيد ببرود أكبر: ما هو؟

أجابه:سأخبرك به ولكن بعد أن تقسم بالله العظيم أمام الجميع أن لا تصيب الصبي بأذى..

قال سعيد : أقسم على ذلك، إن كان الحلّ يرضيني ويشفي غليلي..

قال الشّيخ والقوم يحدّقون به: تمرر سكينا فوق رقبة محمود كأنّك تذبحه، ولكن دون أن تمسه بسوء، وهكذا تفدي يمينك، وينجو محمود، وتأخذ أيضا دية العين..

أبدى سعيد إعجابه بهذا الحلّ بابتسامة عريضة بينما ضجّ المجلس استنكارًا، وبعد أن مسح الشّيخ مفلح على ذقنه سبع مرّات، ساد الصّمت أرجاء المكان، ورضي الحضور برأيه، ولكن هل سيرضى أبو محمود به، ولو مسح الشّيخ على ذقنه بعدد الشّعر الّذي فيها؟

رضي أبو محمود برأي الشّيخ مفلح، دون مسح أو غسل لذقنه أو تمشيط، فهو يعلم أن كلام الرّجل عقد دون حبر أو ورق، وهو يعلم أيضا أن سعيد رجل صادق إن قال شيئا فعله، على حين رفضّت عزيزة أن تسلم ابنها للخطر، وهمّت بالهروب به في غفلة من زوجها، إلى مكان لا يعرفهما فيه أحد، لكنّها فشلت أمام إصرار زوجها على إنهاء المشكلة..

ما أصعب الخصومة، الكره بغيض، والخلاص منه يتطلّب حكمة وتسامحا، كرما وإيمانا، فطنة وحذرًا، صلابة وشجاعة..

لأول مرة منذ دخول القرية في حالة الاكتئاب الجماعيّة، اكتظ الجامع بالمصلين الّذين أتوا لأداء فريضة الجمعة..

خطب الشّيخ مفلح خطبة مؤثّرة، جعلت بشائر الأمل تلوح في الأفق بعد غياب مقيت..

في نهاية الخطبة، أعلن الشّيخ أن يوم الاثنين القادم هو يوم التّصالح وفض الخلافات بين أبي محمود من جهة، وسعيد من جهة أخرى في حفل يضم أهالي القرية ..

نصب سرادق كبير وسط السّاحة التي تقام فيها الأفراح، وارتفعت الأعلام فوق رؤوس المحتفلين رجالا ونساء.. شيوخا وأطفالا.. دقّت الطّبول وعلت الزّغاريد، ومدّت الموائد في مهرجان لم تشهد القرية مثله على ذمّة الراوي، والله أعلم...

وبهذه المناسبة السّعيدة، قدّم أصحاب الخير المال بسخاء من أجل الفدية، والطّعام من أجل الحضور، والهدايا للطفلين..

فوق منصة الاحتفال، جلس الشّيخ مفلح متوسّطا الخصمين، ووجهاء القرية يحيطون بهم، بينما التصقت ركبة فهد بركبة أبيه، وجلس مرفوع الرّأس، منتصب الظّهر، وفوق عينيه نظارة سوداء، بينما جلس محمود في حضن أبيه خائفا، قلقًا، مرتجفا، ويداه معلّقتان بعنقه، وقد دفنَ رأسه في صدره خجلا من فعلته النّكراء، وفزعا من المجهول..

أكل القوم حتّى شبعوا، غنّوا، ورقصوا حتّى تعبوا، ثمّ ألقى الشّيخ مفلح كلمة، دعا فيها المحتفلين إلى الوحدة والتّسامح، وجعل المحبة طريقا للسّلام فيما بينهم. صفّق الحضور تأييد له،

وتعالت الهتافات تمجيدا بالمحبة والسّلام، وبأمر من الشّيخ تعانق الخصمان، كماتعانق الطّفلان، يحيط بهم جمهور غفير من الأصدقاء، والمقربين.. مشى الشّيخ مفلح إلى المكان الذي فرشت فيه سجادة بيضاء لتأدية الفدية، قام المختار بقص الشّريط الحريري إيذانا ببدء العمل.. داهم الرّعب محمود بوحشية، عندما شاهد السّكين بيد المختار، فحاول أن يخترق صدر أبيه بدموعه وتوسلاته كي يعيده إلى البيت، فقال له: لا تخف يا صغيري لن يصيبك أذى.. أنا معك ..

ولمّا عاد الغلام للبكاء نهره أبوه: أنت رجل، والرّجال لا يخافون، هيا قف منتصبًا..

أحس محمود بالإحباط فقد خذله أبوه، وأيقن أن لا حول له ولا قوة، فأضمر في نفسه ألا يحمل مقلاعه الصّغيرمرّة أخرى ..

أشار الشّيخ مفلح برأسه لأبي محمود، فتلّ الأخير ابنه فوق السّجادة البيضاء، ممسكًا إياه بكلتا يديه، بينما أعطى المختار السكين لسعيد وحذّره من الحنث باليمين.. نادى سعيد ابنه ليشهد فدية اليمين قائلا له: ستظلّ هذه اللحظات عالقة بذهنك مدى الحياة، واعلم أن لحظات الفرح قليلة.. أفتح عينك جيدًا، وعندما أخرج السّكين من قطعة القماش الملفوفة بها، حاول محمود الإفلات من يدي أبيه، ولكن ّبعض الحضور تحلّقوا حوله، وأمسكوا به من قدميه لتهدئة روعه، فشدّ الوهن ركبتيه وهويقاومهم، وعرقت جباههم، وهم يقاومون طفولته البريئة..

نظر الشّيخ إلى سعيد فرأه يخرج من هوّة الظّلام كمارد، ابتسم لأنّه قدّم الجهد الكثير من أجل ذلك، فقال له:

كن رجلا وافد يمينك بتقوى الله.

أناخ سعيد فوق رأس محمود وعيون الصّغار والصّغيرات تحملق بذهول بمشهد دراميّ يمثّل أمامهم حيّا على مسرح الحياة... تلاحقت الأحداث.. نظر سعيد في وجه فهد، أمره بخلع نظارته السّوداء عن عينيه، وعندما شاه دزرقة السّماء في اليسرى تسارعت دقات قلبه، بلل العرق جبينه، فقال له الشّيخ مفلح يستعجله:

هيّا يا رجل، افد يمينك قبل أن يصاب الولد بسكتة...

قال سعيد ساخرًا: لن أترك للسّكتة فرصة له..

اتجهت السّكين نحو طريقها تسير فوق رقبة رقيقة لينة، قطعت المسافة القصيرة بسرعة جنونية، فانفجرت نافورة من الدّماء تغطي السجّادة البيضاء بدم الطّفولة، والرّأس الصغير يتدحرج بين قدمي المختار، وعيناه تنظران إلى الشّيخ الذي وقف مشدوها، بينما راح الجسد الصغير يتخبط في بحر من الدّماء، وأبو محمود ممسك بيدي الذّبيح مذهولا، يدور محطّات النّدم، ويطحن فيها أوهام السّلام ...

 

 

الغبي

 

لست مجنونًا ولاغبيًا، رغم إحساسي بأنني أختلف عن الناس بشكلٍ أو بآخر، قد يكون شعوري هذا نعمة، أونقمة، أعترف بعجزي عن معرفة أيهما يكون، أحاول أن أعرف، ولكنني أفشل دائمًا لأمرٍ أجهله، يتملكني حب الاستطلاع بشراهة عجيبة، إن فكرت بأمرٍ ما، لا أرتاح قبل أن أخوضَ فيه، قد أجنُّ إن لم أصل لما أريد، وبأسرع وقت ممكن، و قلَّما وصلت لما أريد.

تقول أمي عني( بصلته محروقة، بس هادي!). ورغم هدوئي الذي يثير استغراب والدتي، فإنني أغلي من الداخل كماء المرجل، حسبما يقول والدي، وكأنه يلمس حرارته بيده، فيعرِّض نفسه لهجوم دفاعي شرس شفقة منها علي وتحسرًا، سمعتها تقول ذلك لأختي سهيلة ذات يوم، عندما كانت في زيارتنا مع أولادها الثلاثة، فقد تعودت المجيء إلينا مرتين في الأسبوع خاصة بعد زواج أختي الصغرى حليمة لابن خالي المهندس علي، وسفرهما إلى المهجر منذ ثلاث سنوات. لم أدع لهما مجالا للشك بأنني سمعت ما دار بينهما من حديث الشفقة والحسرة رغم ماسببه لي من ضيق، لا أدري ماذا ينقصني عن الناس كي أثير في قلبها هذا الشعور المهين! بلعتُ الألم على مضض بما لدي من مقدرة على ضبط النفس، فلا أظهر ما بداخلي لأحد، أتركهم يخمنون أمورًا كثيرة تبعدني عن دائرة الضوء خاصتهم، لرفضي أن أكون محط أنظار الآخرين، المربكة لحركتي بنظراتهم المتطفلة، وأسئلتهم الغريبة التي لا تنتهي، أو ربما يخيل إلي ذلك، هذا ما كنت أشعر به، ولا أدري له سببًا. كنت أبتسم في وجه خصمي أيًا كان، وأنا كاره له، وأتمنى موته. ابن أختي الأكبر رامي هو صديقي رغم فارق السن بيننا. عندما ولدته أمه كنت في العاشرة من العمر، فرحت به كثيرًا، بل طرت معه إلى ما فوق السحاب، حسبته أخًا ولدته أمي وليست سهيلة،فأنا آخر العنقود، وبحاجة لأخ صغير يسليني، ذهب بي خيالي بعيدا، رأيته شابًا يرافقني أينما أذهب، أحدثه بما أحب، وبما لا أحب، أساعده في دروسه، أغسل وجهه وأسرح شعره، سأحتفظ له بالجميل من ملابسي ليرتديها عندما يكبر، سأدلله كثيرًا، ولن أسمح لأحد أبدا بإزعاجه، أذكر كيف وضعته أمي في حضني بعد أن ألبسوه ثيابا بيضاء، كان وجهه صغيرًا جدا وأحمر اللون، في ذقنه طابع بحجم حبة حمص، ألبسوه في رأسه طاقية بيضاء أخاطتها أمي- فرحًا بحفيدها الأول الذي جعلها جدة - يحيط بها شريط من الساتان الأزرق، أحسسته حريريًا ناعم الملمس وأنا أمرر أصابعي عليه، لا أدري ما الذي جعلني ألفُّهُ حول عنق رامي وأنا أداعبه، ورحتُ أشد الشريط بقوة، رأتني أمي بالتفاتة منها، صرخت بي بصوتٍ عالٍ لفت انتباه الحضور، يومها أنَّبتني بقسوة، وهي تبعد الشريط عن رقبة رامي خشية اختناقه. كان منظره مخيفًا، ازرق وجهه للحظات، وسرت في جسده رعشة، ما لبست أن انتقلت منه إلى جسدي إثر صراخ أمي، وتأنيبها المربك لي أمام الحضور. في ذلك اليوم انتابتني مشاعر شتى، ما زالت تعاودني بين وقتٍ وآخر، وصوت أمي يرن في أذني( راح تطلع روح الولد ياغبي). ومنذ ذلك اليوم والجميع يتندَّرون بالحادثة، وفي نهاية الكلام يقولون: (ياله من غبي كاد يخرج بروح الولد). أحقًا أنا غبي؟ وهل ستخرج الروح بيدي، وأنا لا أعرف ماهي، ولا كيف سأمسكها؟ فبات عندي هاجس لمعرفة الروح، وكيف تخرج، ومن أين.

شاعت قصة محاولة خنق رامي بين جميع أفراد أسرتنا، وانتقلت إلى بعض بيوت الحارة، وراح الجميع يتناقلونها، ويتندرون بها وينتهون بالقول( ياله من غبي كاد يطلع بروح الولد). بت أسمعها كثيرًا في البيت، في الحارة، وحتى في المدرسة، بعد أن راح عادل صلاح ابن أخت جارتنا سعدية الملوم يسخر مني، مشيرًا إلي بأصبعه قائلا للتلاميذ (شوفوا الغبي)، فيضحك التلاميذ وألوذ بالفرار خجلا وغضبًا. ذات يوم انزويت قرب مرحاض المدرسة، وأنا أبكي إثر استهزاء عادل والطلاب بي، فجأة رأيته يسرع نحوي ساخرًا، تمنيت لو أنه يقع ميتًا قبل أن يصل إلي، لكنه للأسف لم يمت بل وقف أمامي كعامود الكهرباء الأسود، سألني باستفزاز عما يبكيني، لم أجبْ، كرر السؤال، لم أجب، أمسك بي وأدخلني المرحاض رغمًا عني، هددني بالخنق إن لم أخبره لماذا أبكي. يا إلهي ما أوقحه لقد جعل نفسه ولي أمرٍ علي بانفراده بي، وضعفي وقلة حيلتي، لم أجد من يخلصني من قبضته حيث يقع المرحاض في الجهة الجنوبية من باحة المدرسة التي يلعب فيها التلاميذ بعيدًا عن الصفوف، ولسوء حظي لم يأتِ أحد إلى هنا رغم أن جميع الطلاب كانوا قبل قليل يشربون الماء بغزارة من الحنفية المخصصة لهم في الباحة. كنت في الحادية عشرة من العمر بينما هو في الرابعة عشرة، رسب عدة سنوات في مختلف الصفوف الابتدائية، طويل الجسم عريض المنكبين، يداه مفتولتا العضلات، أخبرني سليم الحمدي زميلنا في الصف، بأن عادل يذهب إلى نادٍ رياضي لتقوية جسمه مع مدرب الرياضة، لم يهمني الأمر لأن صاحبه يكبرني بعدة سنوات، ويستطيع الذهاب إلى أي مكانٍ يريد، وهو أميل إلى الرجولة منه إلى الطفولة، خط شارباه، وخشن صوته بشكل مزعج يثير اشمئزازي، فاضطررت أمام تهديده وفشلي بالتهرب منه إلى قول ما كان يبكيني، وهو ينصت إلى باهتمام (أنا لست أهبل). نظرت في وجهه وأنا أمسح دموعي، رأيته مخيفًا، حاد النظرات، أمسك بي بقسوة، ووعدني بألا يناديني بالأهبل أبدًا، بل سيضرب كل من يناديني به، أو يسيء إلي بشيء إن أنا طاوعته فيما يريده منى، على أن يبقى الأمر سرًا بيننا.

منذ ذلك اليوم وأنا أكره نفسي، وأكره (عادل) الذي بات يلاحقني في المدرسة، وخارجها، وإن رفضت طلبه هددني بإخبار أهلي بما كان بيننا.

لم أعد أحب المدرسة، تمنيت الموت على بقائي فيها، طلبت من أمي ألا ترسلني إليها فلم تستجب لي، وأيد والدي بحزم رأي أمي، بحجة أن المدرسة قريبة من البيت، ولا تحتاج لوسيلة نقل توصلني إليها، إضافة إلى أن الإنسان اليوم لاينفع شيئًا دون علم، وأن عهد الجهل قد انتهى، وهو يريدني أن أرفع رأس العائلة عاليًا بين الناس.

لم تفلح محاولات والدَي في إثنائي عن ترك المدرسة، ضُرِبتُ وأهنتُ، ولكنني لم أتخلَ عن رفضي لها، فرضخ والدَي للأمر الواقع بعد أن أصبت بالسحايا، وفقدت قدرتي على الكلام بطلاقة، فانصاع لرغبتي خشية جرح مشاعري من قبل الطلاب إن هم سخروا من تأتأتي بالكلام، دون أن يتقصَّيا منذ بداية الأمر عن السبب الجوهري لرغبتي قي ترك المدرسة.

لم أعد أر (عادل) إلا عندما أكون في الطريق مع أمي أو أبي، أو أخي، فأطرق رأسي أرضًا أو أتجاهله، وإن وقع نظري عليه مصادفة رمقني بوقاحة دون أن يقترب مني، وأحيانا كان يشير إلي برأسه إشارة ماكرة، فأشيح بوجهي عنه.

بدأ جسمي يعلو طولا، ويكتنز لحمًا، ومشاعري تنمو، ومداركي تتفتح، ويداي تقويان، ولكن ظل أمرُ عادل قابعًا في رأسي، يؤرقني بلؤم مؤلم، أحببتُ أن أتخلص من هاجسه الذي يلاحقني كلما رأيت طفلا صغيرًا يسير وحيدا في الشارع، أو مرَّ بي رجلٌ تشبه ملامحه (عادل) الذي مات في حادث سيارة غامض ذات ليل، ودفن بعد أن شوهت جثته، لاأخفي سرًا إن اعترفت بأنني حزنت عليه إذ مات قبل أن أقتله بيدي.

عندما كنت أذهب مع والدي إلى متجره، وأساعده في بعض الأعمال هناك، كنت أحس باحتقاري لنفسي، وأنا أرى الناس تُكْبر والدي، وتناديه بالحاج محمود إحترامًا له وتقديرًا ، فقد عرف بحسن السيرة وسمو الأخلاق، فأزدادُ لها مقتًا، وأصاب بنوبة مزعجة عندما أستعيد مامرَّ بي، فأترك المتجر، وأبي يناديني غاضبًا، وأعود إلى البيت قبل أن يفضح أحد أمري ممن قد يكون عادل قد أسرَّ لهم به كما يخيل إلي، فيخبر أبي وتكون كارثة قد تتسبب في موته أو قتلي، فكنت أتسكع في الشوارع قلقًا في محاولة للهروب من ذكريات الطفولة الكريهة المؤلمة.

ذات يوم وأنا في هجمة الذكريات البشعة هذه، والدنيا سوداء بناظري، مررت في إحدى الحارات القديمة عبر طريق يودي إلى بيتنا، فوجدت بناءً كبيرًا يرتفع فيها، لا أدري ما الذي جعلني أقف بعض الوقت وأنا أتفحصه جيدا، قبل مدة لم يكن موجودًا، كانت مكانه حديقة صغيرة يلعب فيها الأطفال، وهي قريبة من بيت أختي سهيلة، تعجبت كيف تتبدل الأبنية سريعًا  في الشوارع كالنفوس التي تتغير فيها المشاعر. اتجهت إلى باب المبنى الرئيسي، وصعدت الدرج باتجاه الطابق الأول، فالثاني، فالثالث. كانت العمارة خالية من العمال، ولا يوجد فيها حارس.. عمارة ضخمة تحتاج لوقت طويل ريثما تصبح جاهزة للسكن. شعرت بوحشة، فنزلت منها بعد أن ألقيت نظرة على ما يحيطها من بيوت غير ملتصقة بها. لابد أنها كلفت صاحبها الكثير من المال، وعندما دخلت بيتنا، استقبلتني أختي سهيلة بالترحيب، قبلتني وهي تدفع إلي بابنتها رغد كي أحملها بعض الوقت، ريثما تعود وأمي من عيادة طبيب الأسنان، فقد حرمها ضرسها النوم ليلة أمس، وتريد أن تقلعه. أخذت رغدبلهفة، ورحت ألاعبها بينما تجمَّع حولي أخواها لمشاركتنا اللعب.

كان الجو باردا، لم تستطع المدفأة بث الدفء في جسدي عند عودتي إلى البيت، ولكن كثرة الحركة مع الأولاد جعلتني أتخلص من قرص البرد، حتى أنني كنت في بعض الأوقات أمسح العرق عن جبيني بيدي، ورغد تضحك بسعادة، وأنا أدفعها في الهواء وأتلقاها منه ثانية. رأيت بعض حبات عرق تلمع فوق جبينها، فتزيدها جمالا، وبعض شعرات ذهبية، تتدلى من تحت الطاقية ٌالبيضاء المحاطة بشريط من الساتان الزهري، غطت بها أمها رأسها طلبًا للدفء. جلست فوق الكرسي، ورحت أمسح العرق عن جبينها بمنديل ورقي، وأنظف أنفها من مفرزاته دون أن أشعر بالقرف، كانت تضحك وأنا أدغدغها في ذقنها، ضممتها إلى صدري.. قبلتها، وأنا أبعدها عني وقعت عيناي على شريط الساتان الزهري، فرحت ألعب بطرفيه المحيطين بعنقها، لامست أصابعي نعومته بينما كانت أصابع رغد تخرمش يدي بأظافرها، و رامي يدغدغها وهي تضحك بعذوبة. أغرق بذكريات الطفولة، رامي وليدًا، طاقية بيضاء، شريط ساتان أزرق، كاد يختنق، أمي تأنبني (راح تطلع روح الولد يا غبي)،

صوت عادل (شوفو الغبي)..

رغد تهبش بوجهي فيؤلمني ظفرها، ألقي بها فوق الكنبة، تبكي، أمشي في البيت دون وعي، أصوات ترن في أذني: مات عادل ، مات عادل.

صوت أمي يؤنبني (راح تطلع روح الولد يا غبي)،

صوت عادل وقهقهته - شوفوا الغبي- -لا تخبر أحدا بما حدث بيننا-

رامي يهرع إلى الباب يريد الخروج من البيت، ألحق به، بدا خائفا مني، لاأدري ماذا أصابه.. أمسك بيده وأنزل به إلى الطريق بعد أن أغلقت الباب ورائي، خطرت في بالي فكرة سأنقذها فورًا، وقبل مغادرة الحارة كانت أمي وسهيلة تدخلانها. عدت معهما إلى البيت، وأنا أمسك بيد رامي بعد أن هدأوهدأتُ، أخبرتُ سهيلة بأنني كنت أنوي شراء بعض الأكلات الطيبة للأولاد، وكان رامي يضحك من كلامي الذي عرقلت نطقه تبعات حمى السحايا، فاغتظت ُمنه دون أن أبدي له ذلك.

بدأت حالتي النفسية تحير أهلي خاصة عندما كان يسخر مني أحد الأطفال، أو أحد ممن يدخلون متجر والدي للشراء، وكثيرًا ما كنت أختلي بنفسي وأفكر بما وصلت إليه من سوء حال، حاولت التخلص منها فما استطعت، بل هيَّجت ذكرياتِ الماضي، فأحسستها حبلا يلتف حول عنقي، طرفاه بيدَيْ عادل صلاح، يمتدُّ إلي من تحت التراب، وهو في قبره وليمة للدود والعفن. ذات يوم خرجتُ إلى المقبرة، وقفت قرب قبره، ورحت أشتمه بصوت عالٍ حتى انتابني التعب، لكنني لم أحس براحة رغم أنني أفرغت محتوى مثانتي فوق قبره قبل عودتي إلى البيت. حار فكري كيف سأنتقم من عادل وقد مات، راودتني فكرة فتح قبره والتمثيل به، لكنني لم أهضم هذه الفكرة كي لا أصاب بالغثيان من رائحة جيفته القذرة. كنت طفلا بريئًا أحب الجميع، لم يخطر ببالي أن أتعرض لشيء يفقدني راحة النفس، نقاء القلب، وحبي للناس، لم أقترف ذنبًا يجعلني أسير الألم مدى العمر، هم كانوا ينادونني بالغبي رغم أنني لست كذلك، بل ربما كنت غبيًا، لكنني لا أشعر بالغباء شأن كل الأطفال، فلم يرحموا طفولتي، لن أرتاح قبل أن أنتقم من عادل، ولكن كيف وقد مات؟ كيف؟

كنت أهرب من والدي عندما يدعوني لحضور صلاة الجمعة في مسجد المدينة، وعندما يجبرني على ذلك كنت أحس بالخجل من نفسي، وأنا أصلي، يداهمني شعور بوجوب قطع الصلاة، والعودة إلى البيت قبل أن يطردني الإمام، لأن صلاتي غير مقبولة حسب ما يخيل إلي، فكرت بكتابة رسالة سرية إلى إمام المسجد أحكي له فيها قصتي، وأطلب منه النصيحة، لكنني خشيت أن يعرفني، فيخبر والدي، فدفنت الفكرة في مهدها. لن يريح نفسي إلا الانتقام وبنفس الطريقة، ولكن كيف أمن جيفة؟

اليوم الاثنين أيقظني أبي باكرًا للذهاب معه إلى المتجر لمساعدته في غياب أخي عارف، حيثُ يرقد في البيت مريضًا، وغدا وقفة عيد الأضحى المبارك، والناس يتزاحمون على المتاجر لشراء لوازم العيد. خرجت معه وقمت بدوري خير قيام، إلى أن جاء قبل الظهر (معروف السرابي) زميلي في المدرسة لشراء بعض الحاجيات، وكنت قد انقطعتُ عن رؤيته منذ زمن طويل حيث سافر مع أهله إلى إحدى دول الخليج، وعاد شابًا، طويل الجسم، نحيله، رحبتُ به، وخفَّضتُ له في سعر المبيعات، شكرني سعيدًا، وشدَّ على يدي وهو يهم بالخروج، فدعوته لزيارتي مرة ثانية، وعدني بذلك، لكنه وجه إلي طعنة قاتلة عندما قال لي هامسًا قبل مغادرة المتجر: عادل صلاح يسلم عليك، ويوصيك أن تكون معي كما كنت معه.

 غادر المتجر ضاحكًا، وغادرني الهدوء غاضبًا. هممتُ باللحاق به، وقتله ثأرًا من عادل صلاح، لكنني لم أجده، وكأن الأرض انشقت وابتلعته.

 ركضت في الطريق على غير هدى، وصوت عادل يضج في رأسي، أسمع به أصواتًا شتى تناديني ، أهرب، وأهرب والطريق تتسع أمامي، وأنا في صراع مع نفسي ومع الأصوات، ياللوغد لقد فضحني قبل أن يموت، أين المفر؟ كانت معاناتي داخلية فاخترقتني للخارج، ستظل تلاحقني إلى الأبد، تزداد أعماقي انفعالا، تسقط الدموع من عيني، وأنا بين فكي الصراع المفترس أسمع نداء رقيقًا: خالو.. خالو.

 التفت إلى مصدر الصوت، إنه.. رامي ابن أختي، حدَّقت في وجهه، وهو يبتسم ويقترب مني ممسكًا بيدي، وباليد الأخرى يحمل حقيبته المدرسية في طريق عودته إلى البيت، سرت معه وقلبي يخفق بشدة، وسُحب الغمِّ والغضب تحجب عن بصيرتي الرؤية، كان رامي يتكلم، لكنني لم أفقه شيئًا مما يقول، فجأة وجدت نفسي أمام العمارة الضخمة التي مازالت في طور البناء، توقفت بوازع خفي، نظرت إليها ثم في وجه رامي، تفقدت الطريق كانت خالية من المارة، أطبقت قبضتي على يد رامي، ودخلت به باب العمارة وهو يمشي معي باطمئنان، صعدت به الدرج إلى الطابق الأول، فالثاني، أدخلته إلى غرفة جانبية مليئة بالرمل والإسمنت، خلعت عنه المعطف.. كممت به فمه، وهو يضحك كعادته عندما ألاعبه في البيت مع أخيه، وبقسوة وحشية أخذت ثأري به من عادل صلاح، ورامي يتلوى ألما، والدموع تغرق وجهه، والدم يبلل ملابسه، ازددتُ غليانا ورامي يئنُّ، سأقتلك ياعادل، سأرى كيف ستخرج روحك بين يدي، وأطبقت كفاي على عنق رامي الباكي المتألم، وأنا أضغط بكل قوتي فوقه، فأحسست بروحه تغادر جسده، دون أن أعرف ماهي ولا من أين تخرج، وصوت أمي يرنُّ في أذني مؤنبًا(راح تطلع روح الولد ياغبي).

 

أضيفت في 24/03/2010/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية