الآلة
الغريب
ليل داج وسماء بلا أبراج
صاح الشيطان:
- هذا الليل ليلي
اندست أفعى ما بين قلبي ورئتي، فلم أعد قادراً على
الحراك. حاولت الصراخ فلم أفلح.
أسرى بي خيال ناعم الطرف نحو قبة السماء. وكان الليل
بلا نجوم ولا أقمار. هاجم الطوفان الأرض الملعونة ونجوت وحدي. شاهداً على
هذا الزمان الغريب. هاجت الذكريات القلب متعب يكابد صحراء الشقاء، يصارع
الموت المقرر منذ عهد الأنبياء. والنفس حبلى بالبكاء. وقد أضناها التشظي
والخواء. وكنت أتيه كطاووس في برية لا تخوم لها. وكانت الصحراء.
وحين انتقلت إلى المدينة. سرت بإزاء نهر كثير
التعاريج وأنا أستذكر الأغنيات البدوية الساذجة والبريئة. وفي الأفق البعيد
جعلت تقرع نواقيس تبشر بالغربة وسائر الأحاسيس الوحشية.
المدينة.. المدينة ركضت في الشوارع المزدحمة كجواد
تاه في أمواج بحر من الحيوانات الضارية. ناقة أضاعت بريتها الأولى وهامت في
غابة مظلمة. وكنت أعاني من أرق ليلي ومن اضطراب في الشعور والوجدان.
الأفكار تترى في المخيلة. والقلق شاهد على العصر المملوء بالنفايات
والأرقام. واصلت سيري. المدينة جائعة ونهمة. والروح تكابد الأسى السري
والانحباس في بوتقة الضلال والتيه. النفس ثكلى وقد أنهكها السير على الحصى
في ظهيرة عاتية.
اندست أفعى ما بين قلبي ورئتي. فلم أعد قادراً على
الحراك. حاولت الصراخ فلم أفلح. إن أية حركة كفيلة بأن تكلفني عمري.
سألت شيخي عن سر هذا فأجاب:
-الأفعى هي الحياة
حلم لطالما أقض مضجعي. أرقني وأقلقني. الحياة كابوس
ثقيل. وهذه الدنيا سيمفونية تعزفها قوى خفية. سرية وغامضة.
الآلــــــة
ما أن انتقلت من الصحراء إلى المدينة. حتى اعتقلني
بعض الرجال غريبي الملامح. واقتادوني إلى غرفة واسعة. وهناك استقبلني شاب
وسيم، أشقر الشعر، أبيض السحنة. ابتسم بحنو وهو يمدّ يده مصافحاً إياي
وقال:
-أنا المهندس- هـ- انحدر من الشمال وقد اخترعت هذه
الآلة العجيبة. وأشار بيده إلى آلة هائلة الحجم. أكبر من برج بابل، وأعظم
من الأهرامات وأطول من سور الصين العظيم.
تساءلت بدهشة واستنكار:
-وما شأني أنا، ولم تم اعتقالي بهذه الطريقة وإحضاري
إلى هنا.
ابتسم بلطف ثم أجاب بهدوء مطلق:
-أنت غريب، قادم من الصحراء، ولا يمكن أن تدخل
المدينة دون أن تمر بهذه الآلة.
قلت:
-كيف ذلك؟!
قال:
-ستعنى هذه الآلة بدراسة سلوكك، وحالة وجدانك وعقلك،
وأهليتك للعيش معنا في هذه المدينة الكبيرة.
قلت:
-هذا غريب
ردّ باسماً:
-إنما أنت الغريب وحسب. لقد أصبحت هذه الآلة جزءاً
من حياة الناس هنا، وحياة كل القادمين إلى هنا.
تساءلت:
-كيف؟!
أجاب:
-إذا أراد الرجال والنساء هنا أن يتناسلوا فإنهم
يلجؤون إلى هذه الآلة. يكفي أن يودعوا فيها بويضاتهم وحيواناتهم المنوية
لكي يحصلوا على أطفال حسب الطلب.
إذا أردنا زراعة حقل، صناعة مصنع، أن نأكل، أن نشرب،
إذا أردنا اختراع أو إحياء شعب، أو حضارة، إذا أردنا.. الخ فيكفي أن نزود
الآلة بالمعلومات اللازمة فتزودنا بالشيفرة المناسبة لذلك. باختصار لا
يمكننا اختزال عمل هذه الآلة إلى مجرد كلمات بسيطة. إنها تقوم بعمل أكبر من
إمكانية الكلمات التي يمكن أن تعبر عنها.
صمت قليلاً، ثم أردف:
-هذا جزء من مقدرة هذه الآلة. إنما مأثرتها الحقيقية
تكمن في أشياء ثلاثة
تساءلت وأنا أحسني بازاء شيء غريب ومبهم. قلت:
-ما هي؟!
قال بصرامة:
-هذه الآلة تشبه الخيار الإسبرطي، فهي الوسيلة
الوحيدة التي تحدد من يصلح للحياة ومن لا يصلح. إنها تخبرنا عمن هم جديرون
بالحياة. وهي تمدهم بالأصول والقواعد اللازمة لذلك أما من هم غير جديرين
ولا صالحين للحياة فهي التي تحدد أن لا مكان لهم تحت شمسنا الساطعة هذه. لا
مكان هنا للمقعدين والعاجزين والمشوهين والأبرياء والسذج والمعتوهين.. الخ
إنما هنا مكان المهارات الفردية. التوثب. الحيوية. النشاط. الإبداع
والاختراع.. الخ باختصار هذه الآلة تفصل بين من يحق له أن يحيا ومن لا يحق
له. من هو صالح ومن هو طالح.
راعني ما أسمع. فتساءلت وقد نفد صبري:
-ثم ماذا؟!
ابتسم. كأنه أحس بضيقي وتبرمي. لكن الصرامة لم تغادر
قسماته. قال:
-هذه الآلة تقدس الفرد والجهد الفردي. فهي تنقسم إلى
عدة آلات بعدد الأفراد المراد اختبارهم فيها، لكل فرد آلة خاصة به. تتفرع
عن آلة كبيرة جداً هي آلة الحضارة والمدنية أما الآلات المتفرعة عنها فهناك
آلة الاقتصاد وآلة السياسة وآلة للجغرافيا والتاريخ وأخرى لعلم الطيور وآلة
للسيمياء وآلة للهندسة.. الخ ولن ينتهي سيل الآلات مهما حاولت أن توغل في
العد والعدو خلفها.
لم أجب. فتابع:
-ثم إن هذه الآلة لا تدرس حاضر الشخص ولا ماضية
فحسب. بل إنها تدرس مستقبله أيضاً.
صمت قليلاً يرقبني وقد انغمست أصارع حيرة لا نهاية
لها. ثم قال مبدداً كل تساؤل يمكن أن يكون قد طاف بخاطري:
-ثم إن هذه الآلة هي التي أنا وحسب. وهي لا تعمل إلا
حسب أوامري أنا، أما الآخرون فإنهم ينفعلون بها ولا يمكن أن يؤثروا عليها
إلا بالمقدار الذي أسمح لهم به.
ساد صمت مطبق. وكنت أحسني أنهار. إن هذه تجربة
مريرة. ولن تطاق الحياة أبداً بعد ذلك، ولا يمكن مواصلة طريق كهذا. إن هذا
ضلال، ضلال مطبق. بل هو ضياع محض كيف يمكن أن أخضع وجداني وأحاسيسي ومشاعري
وفلسفتي وأفكاري وكل ما عشته ومارسته منذ خلقت إلى الآن. كيف يمكن أن أخضع
إنسانيتي إلى آلة صماء كهذه.
اندست أفعى ما بين قلبي ورئتي. فلم أعد قادراً على
الحراك. حاولت الصراخ فلم أفلح عاودني الحلم مرة أخرى. هامت بي الأطياف
والأحلام. تذكرت أسس التاريخ وقواعده مبادئ الإنسانية وقوانين الآلهة.
قال وقد خمن ما يمكن أن يجول بخاطري:
-هذا اكتشافي أنا، بعد تجربتي المريرة. وهو يعادل
اكتشافاتكم.
تساءلت مستغرباً:
-أية تجربة؟!
قال:
-سأروي لك قصتي.
قصة المهندس
أنا إنسان لقيط، ليس لي أب ولا أم. لا جذور ولا
تاريخ. ولدت في جزيرة نائية. من حجر أو من شجر. البحر حيوان مفترس. وحر
الشمس طاغ. افترشت الأرض والتحفت السماء والفضاء. كانت الأشياء لعبة. وكانت
الدنيا هباء. جعلت أنبش في جذور الأشجار وأقضمها. أقضم الحشائش وسائر
النباتات البرية. ثم اكتشفت الحيوانات جعلت أصطادها وأأكلها نيّة حتى
اكتشفت النار. ولم يكن يلذ لي شيء بمقدار أكل لحم أخي الإنسان. فلما جنّ
ليلي. رأيت كوكباً. قلت:
-هذا ربي.
فلما أفل قلت لا أحب الآفلين.
وحين كبرت، انتحيت جانباً. جلست في ظل شجرة صخمة
وجعلت أفكر في مغزى الشيخوخة والهرم. في سر الكائنات الضعيفة والآيلة إلى
الزوال والنفاذ. عندها تبدى لي شبح الأحلام مستوقداً كالضياء. توثبت أفكاري
ورؤاي. نهضت آنئذ وشرعت أبني مدينة بنيت الأسوار والأبراج. ثم أقمت الدور
والمساجد والأحياء والحمامات، وجعلت أبني المدينة تلو الأخرى. لكن قلقاً
خفياً ظل يعتمل في داخلي. شعرت بأني بحاجة إلى قوة خفية أكبر وأعتى. قوة
تضمن لي بقائي وسعادتي وكينونتي. وحين شاهدت القمر بازغاً، قلت:
-هذا ربي.
فلما أفل قلت لئن لم يهدني لأكوننّ من القوم
الضالين.
جبت البلاد. اكتشفت المدن والجزر النائية. فزادت
ثروتي وغناي. اخترعت الثورات والحروب، واخترعت الرق والإقطاع وسائر الأنظمة
العتيدة. اخترعت الأبجدية والكتابة بنيت أهرامات وأبراجاً طاولت أعنان
السماء اخترعت التاريخ والجغرافيا والفلك والسيمياء والطب والهندسة. اخترعت
السفن والطائرات. بل كدت أخترع الإنسان نفسه. لكن الفرح أغنية تائهة في لجة
المجهول. عدت أشعر في نفسي كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
فلما رأيت الشمس بازغة قلت:
-هذا ربي.
فلما أفلت صرخت:
-لا يمكنني أن أعيش وحدي.
تلج أسود.. صحراء الروح. خواء النفس. لا .. لا مفر
من أن أجد حلاً لغربتي ووحدتي. الليل أسطورة سرمدية. أحسني عرياناً
وجائعاً، البرد قارس والألم لا يطاق. دقت الحيرة إسفينها في داخلي. وهامت
بي الأطياف والأحلام إلى عالم أشدّ غرابة من عالمي. هي ذي غربة الروح.
تسافر من بلد إلى بلد علّ الجرح يستكين. لكنه ما ينفك يكبر ويكبر. بل جعل
يولد جراحاً وجراحاً.
صنعت تمثالاً من الشمع. فجاء على شاكلتي. قلت:
-هذا ربي.
لكن القلق تفاقم في داخلي. استحال رعباً طاغياً.
أخالني تائهاً في هذا الكون وحدي مثل قمر ضائع في سماء شاحبة. أخالني ذئباً
جائعاً يهيم في البرية. يهيم في مفازات الوجود الموحلة لا أرض تحتي ولا ظل
لظلي. أحسني كوكباً يدور حول نفسه. أحس الكائنات ترمقني بتشف وغلّ. هام
قلبي وتلظى. اكتوى بنار سعير. خانتني الشجاعة والذكريات، غادرني التاريخ
وترك القلب منهوك القوى. عندها قررت وقررت. فاخترعت هذه الآلة. حلاً مطلقاً
لجميع مشاكلي وهمومي التي جعلت أسلوها رويداً رويداً. بل إنها تحولت إلى
ذكرى جميلة ومؤلمة في آن واحد. وهكذا خرجت من الظلمات إلى النور.
صمت المهندس. وحدق فيّ يرقب ردّ فعلي. كنت جامداً لا
أنبس ببنت شفة. وجلاً وخائفاً عندها سألته بغتة:
-هل أنت سعيد الآن؟
قطب قليلاً متفكراً. ثم أجاب شارد الذهن:
-نعم. ولكني أحياناً أحس بقلق من المجهول. هذه الآلة
لم تسبر غور المجهول بعد. وهذا هو همي.
قلت:
حسناً لا أريد دخول مدينتكم. أريد العودة إلى
صحرائي
ابتسم الرجل بحزن وقال:
-لا يمكن. ليست المسألة أنك تريد أو لا تريد. فأنت
ما إن ترى هذه الآلة حتى تفقد حرية الاختيار. ويصبح من حقها ومن حقها وحسب
أن تختار لك طريقة الحياة المناسبة وتحدد لك النهاية المرجوة.
يجب أن تدخل في هذه الآلة حتى تتم دراستك. إن
الصحراء محض هباء، وهذه الآلة هي الحقيقة الوحيدة الباقية من تاريخ البشرية
الطويل.
صرخت هذا هراء. كذب وافتراء. قاومت ما استطعت. لكن
رجالاً انقضوا عليّ. قيدوني وأدخلوني في الآلة العجيبة.
عندها صرخ الشيطان:
-هذا الليل ليلي.
اندست أفعى ما بين قلبي ورئتي. فلم أعد قادراً على
الحراك. حاولت الصراخ فلم أفلح.
تمتمت في سري:
-سأهرب إلى الصحراء. وسأخترع آلة جديدة. آلة خاصة بي
وبالبشرية البائسة. آلة أعظم شأناً من هذه. سأرويها من نسغ تاريخي.
وسأظللها بقيمي ومبادئي العظيمة.
قصــــة حب
أو الرجل الثاني
راح ع.س. يضرب بقدميه الصاخبتين شوارع المدينة.
سائراً على غير هدى. الحياة صحراء جدباء وقاحلة. وقد أحس بنفسه وسطها نبتة
أصابها الجوع والظمأ. النفس تدور في دوامة. دوامة الحب والوله.وسألها
بلهفة:
- ما اسمك؟!...
ابتسمت ثم ردت بعذوبة:
-حياة..
قال:
- أحبك.
ضحكت حتى انقلبت على ظهرها ثم تمتمت:
- عشاقي كثيرون. وأنا لا أذهب إلا مع من أشتهيه.
ماذا عندك من جديد لتقدمه لي؟!...
قال:
- الدنيا كابوس مرّ. الأحلام نأت بي نحو الخطيئة.
الروح عريانة تنشد الستر. النفس ذئب جائع يهيم في بريّة لا تخوم لها. الليل
أبيض شاخت روحه وأرهقته وعثاء السنين. صحراء الروح. التشظي. تتحول الأحلام
فجأة إلى سكينة مغروسة في القلب.
ثم قال:
- سأنتزع كبدي من بين أضلاعي. أشويه ثم أقدمه لكِ.
ابتسمت بعذوبة ثم همست:
- قديمة.
حار هنيهة. ثم قال:
- سأشنق نفسي بضفائر شعرك.
صمتت قليلاً. بدت كأنها تحلم ثم قالت:
- حسناً. ابق معي. عش معي. وستكون لك غرفة خاصة بك
أسوة بسواك.
وهكذا وجد ع.س. مأوى وجسداً. لكن الأحلام سفينة تاهت
بين أمواج بحر عملاق وهائج. أصبح له غرفة في القصر الكبير. أسوة بسواه.
أصبح مثله مثل غيره. لكل منهم غرفته الخاصة.
تابع ع.س. تخبطه في شوارع المدينة. واصل هيمانه
المطلق والأبدي. النفس طائر جريح شاة تكومت حولها مجموعة من الذئاب وقد
باشرت عملية افتراس قاسية وضارية. النفس حائرة. تائهة. ضائعة. لكنها
بطبعها لجوجة وتتوق إلى المستحيل.
ثم تساءل:
- كيف تطور الإنسان من البدائيةإلى الألوهية؟..
الدنيا بحر واسع. ضخم وهائل. غول أو سعلاة. وقد شعر
ع.س. بأن أنفاسه تتلاطم مثل أمواج هذا البحر. الخواء منارة السفن التائهة.
أي أنك بعد أن تعجزك الحيلة وأنت تكابد وعثاء المسير لا تكاد تصل إلى مكان.
بل إلى اللامكان.
صاح هاتف يلاحقه كظله. يركض خلفه في الشوارع
والطرقات:
- ماذا بشأن الزمان؟!..
أجاب ع.س:
- الزمان معدوم تماماً. إنه فراغ. لا شيء.
قال الهاتف متسائلاً:
- إذاً؟!...
رد ع.س.:
- إنها حالة انعدام وزن.
تابع ع.س. سيره في شوارع المدينة. هاجم الليل
الأشياء. فشعت أنوار مباغتة من كل حدب وصوب. وعجب ع.س. لهذه الظاهرة. قال
في سره:
- يحاول الإنسان تقليد الله.
شعر ع.س. بأن الأرض تضيق به.وتساءل عن سر وحدته
وغربته. لكنه عاد وأكدّ في سره قائلاً:
- أنا الرجل الثاني.
صاح الهاتف به:
- ومن هو الرجل الأول؟!...
أجاب ع.س. مقطب الجبين بصرامة وحزم:
- أبي آدم.
دخل ع.س. باراً. احتسى فنجاناً من القهوة الساخنة
ودخن بشراهة. وهو يفكر بصمت. فكر في حياته. تاريخه. ثم قال في سره:
- أنا إنسان لقيط. ولدت في الشوارع. لا أعرف أمي ولا
أبي. كبرت أوكبر سني وأنا أفكر في الماضي. حتى التقطتني امرأة. عطفت علي
وأسكنتني في قصرها عديد الغرف. كانت غريبة الأطوار. في البداية عشقتني
وعشقتها. لكنها في الحقيقة الآن مجرد عشيقة. في البداية كانت كل حبي.
أملي. أما الآن فقد أصابني الملل والسأم من عشقها وجسدها. حدث هذا بعد أن
اكتشفت وبعد فترة وجيزة من إقامتي في قصرها أنها مومس. تمارس الحب في الليل
آلاف المرات مع آلاف الرجال. وقد خفف هذا من شدة حماسي ولظى هواي لكنها مع
ذلك ما زالت ترعاني وتعطف عليّ. وأنا أعيش في كنفها وتحت ظلها.لكن شعوراً
غامضاً بالبرود بدأ ينمو في داخلي.تجمدت عواطفي. انهارّ حماسي لحبها. أوهذا
ماخيّل إليّ في بداية الأمر. فقد أخذت أمارس الحب معها كأي رجل آخر من
رجالها الكثر.خيّل إليّ أن الحب غدا مثل الأكل والشرب والموت والحياة.
غريزة كسائر الغرائز. وقد زاد الطين بلة أن هذه المرأة متسلطة وجبارة.وهي
تعامل عشاقها المحبين بسادية مطلقة. على حين تعامل زبائنها العاديين بلا
مبالاة ولا اكتراث.
صمت ع.س. لحظة يلتقط أنفاسه. ثم تابع مونولوجه
الداخلي:
- عندها قررت التمرد.
صاح الهاتف به:
- كيف؟!...
رد ع.س. وقد اضطربت أنفاسه:
- صرت أخرج في الصباح الباكر. ولا أعود إلا في وقت
متأخر. وقت النوم. أذرع الأرصفة والطرقات. أهيم في الشوارع والبارات
والخمارات مثل ذئب جائع يبحث عن فريسة.
قال الهاتف:
- حل معقول.
لكن ع.س. أجاب بتشكٍ:
- لكن الجرح ما انفك يكبر. وتكبر المأساة معه.
تساءل الهاتف باستغراب:
- ولكن ما السبب؟!...
أجاب ع.س. بقنوط:
- اكتشفت بعدفترة وجيزة من تمردي أني مازلت عاشقاً.
والهاً. أحبها أعشقها. لكني أغار لأنها تعرف رجالاً غيري.
- رد الهاتف باستغراب:
- لكنها امرأة متسلطةوجبارة!!...
رد ع.س. باكياً:
- لكنها التقطتني أنا اللقيط من الشوارع. وحمتني من
الجوع والتشرد.
ثم أردف:
قال الهاتف:
- وهل ستقضي بقية حياتك هائماً كالمتسول. تعيش في
دوامة كهذه. حائراً. تائهاً.
رد ع.س. وقد عاد يتمالك نفسه:
- بالطبع لا.
تساءل الهاتف:
- وماذا ستفعل؟!....
أجاب ع.س:
- لقد بدأت ثورتي بهجرةالبيت. القصر. ولسوف أنهيها
هذه الليلة.
تساءل الهاتف:
- كيف ستنهي هذه المسرحية؟!..
قال ع.س. بصراحة:
- سوف أواجهها الليلة بالحقيقة. كل الحقيقة.
عندها كفّ الهاتف عن ملاحقة ع.س. الذي توجه صوب
القصر وقد أكل الغيظ والغضب نياط قلبه. وتوجه فوراً للقاء سيدته التي
استقبلته بلطف وحنو.
قالت بعذوبة:"
- هاقد عدت أخيراً. كنت بانتظارك. لقد أكثرت في
الآونة الأخيرة من غيابك خارج البيت أثناء النهار. وهذا غريب ولا أكاد
أفهمه. هلا فسرته لي.
استجمع ع.س. كل قواه المبددة بفعل رؤيته لجمالها
الأخاذ. ثم صرخ:
- اسمعي. لن أقبل بعد اليوم بكل مايجري داخل هذا
القصر. إما أن تكفي عن استقبال الرجال في الليل والنهار. وتكفي عن التصرف
حسب هواكِ كامرأةمتسلطة وجبارة. وأن تكتفي بي وحسب. أنا رجلك الوحيد.
عشيقك. أنا لكِ وأنت لي. إما أن تكفّي عن كل هذا وتخضعي لي خضوعاً مطلقاً.
أنا رجلك الوحيد. تنصاعين لما يأمر به وما ينهى عنه. إما أن تكوني كذلك.
وتجري الأمور حسب هواي ورغبتي. وأما أن أغادر هذا القصر إلى غير رجعة.
ولست بحاجة إلىجسدك وغذائك ومأواك.
ما إن لفظ ع.س. هذه الكلمات حتى أحس بأنه يكاد يلفظ
أنفاسه الأخيرة. أحس بأنه يحتضر. لكنه تماسك بانتظار ردة فعلها. كانت تنظر
نحوه بهدوء وبرودة مطلقين. وعندما شعرت بأنه أنهى مرافعته التاريخية. نهضت
واقفة بثقة وثبات. أشارت بإصبعها نحو الباب قائلة بهدوء وجبروت:
- اذهب إلى غرفتك. وعش كما كنت معي طوال حياتك.
هكذا.
عندها طأطأ ع.س. رأسه. أحس بجسده عارياً. وبروحه مثل
دخان السجائر تتطاير في الهواء. أحس بالهباء. بل إنه شعر بأنه يشبه الهواء
بلا وزن.
تمتم آنئذٍ في سره:
- لابد أنه ينقصني شيء ما.
غادر مكتب سيدته. وتوجه صوب غرفته منصاعاً لأوامرها.
يائساً وقانطاً من ثورته وعاد يمارس حياته كما كان يفعل في السابق.
1998
رجل وامرأة
اللقاء
مصادفة التقيا. في أحد المقاهي. كان المقهى خالياً
إلا منهما. جلس كل منهما على طاولة بعيداً عن الآخر. تبادلا نظرات حائرة.
مرت لحظة صمت. لا أحد -سوى الله- يعلم ما دار بخلد كل منهما. حاول كل منهما
للوهلة الأولى اصطناع اللامبالاة. فطلب كل منهما فنجاناً من القهوة. ثم
جعلا يحتسيان القهوة بصمت وقد أصابهما حياء من نظرات النادل إليهما. حيث
كان هذا الأخير يرمقهما بنظرات ذات مغزى. جعل كلاً منهما يحتسي القهوة
الساخنة ويدخن سيجارة ثم يختلس النظرة إلى الآخر. يختلسها اختلاساً. وكان
النادل ما زال يرقبهما اختلاساً هو الآخر. أحس كل منهما أنه يكاد يحترق
شوقاً للقاء الآخر. لكن نظرات النادل الصامتة كانت شوكة في الحلق. غصت
الأنفاس. تهدجت. واستمر الصمت سيداً على كل شيء. وحين فرغا من احتساء
القهوة. عاد الصمت والحيرة يطرقان بابيهما. فكر الرجل طويلاً فيما ينبغي
فعله. وفكرت المرأة بالموقف المحرج الذي وضعت نفسها فيه. ثم فكرت بنظرات
النادل. وبأشياء أخرى غريبة عنها.
خطوة إلى الأمام
عندها. وبعد أن استطال الصمت حتى غدا صراخاً جوانياً
طاغياً. نهض الرجل. توجه بخطوات ثابتة نحو المرأة التي جعلت تعد خطواته
ودقات قلبها.
وصل الرجل إلى طاولة المرأة. انحنى بكل أدب واحترام
وهو يقول:
-هل تسمح سيدتي بمشاركتي في تناول فنجان من القهوة
الساخنة.
تلكأت المرأة واضطربت. لكنها تماسكت وردت بخبث.
-لقد سبق لي أن تناولت قهوتي للتو.
لكن الرجل عنيد. وهو فوق ذلك داهية. قال:
-إذاً كأساً من النبيذ الأحمر.
الخمرة!.. قالت المرأة في سرها. أنا سكرانة دون
خمرة. ولكن لا بأس.
ثم تساءلت:
-إذاً يرغب السيد في مجالستي.
انحنى الرجل باحترام فروسي وهو يردد:
-هو ذا بالضبط يا سيدتي.
ثم حانت من كل منهما التفاته نحو النادل. كان هذا
الأخير يقف غير بعيد عنهما يرقب ما يحدث بصمت مطلق.
وافقت المرأة بعد تردد قصير. واتجها إلى طاولة
ثالثة. طاولة جديدة.
قال كل منهما في سره:
-كأن ثمة قوة خفية تسير الأحداث. إن هذه الأرمونية
غير طبيعية.
ثم قال كل منهما في سره:
-لعلها الغريزة!
ثم تساءل كل منهما في سره:
-لعله الله.
الصفقة
قال الرجل للمرأة:
-أنت جميلة
ارتبكت المرأة وقالت في سرها:
-لعلها الخمرة!
ثم ردت:
-وأنت أيضاً لا تخلو من وسامة ثم إنك مفتول العضلات.
مرت لحظة صمت. قطعها الرجل بقوله:
-لم لا نعقد صفقة بيننا. ها أنت ذي ترين أن المقهى
خالٍ. وليس ثمة أحد سوانا. وهذا النادل صامت. لا تستغربي فهو قد يبقى
صامتاً إلى الأبد. إن هذه هي بالضبط مهمته.
ردت المرأة:
-من يدري؟ هل تعتقد حقاً أنه سيبقى صامتاً إلى
الأبد؟
ارتبك الرجل. لكنه تماسك وقال:
-آمل ذلك.
قالت المرأة:
-ما هي إذاً هذه الصفقة التي تريد عقدها معي؟!
رد الرجل بخبث:
-ألا تريدين أنت أيضاً أن تعقدي صفقة معي؟!
ارتبكت المرأة. لكنها عادت وأجابت بلا مبالاة:
-هذا جائز.
قال الرجل بصرامة:
إذاً لنبني برجاً.
تساءلت المرأة باستغراب:
-وما نفع البرج؟
قال الرجل:
-يمكننا أن نقطن فيه. وهو سيقينا من الحر والبرد.
وسننجب أطفالاً لا حصر لهم ولا عدد ثم نعيد تشكيل الكون حسب رغبتنا.
تساءلت المرأة:
-أرى أنك قد أعددت كل شيء مسبقاً!..
ابتسم الرجل وقال:
-لم يكن تفكيري بصمت عبثاً.
قالت المرأة:
-حسناً أني أوافق
لكن كلاً منهما شعر في داخله أن هذه الإجابة متسرعة
بعض الشيء. لذا مرت لحظة صمت فكرت المرأة في تسرعها بحيرة بالغة. وفكر
الرجل باستغلال الموقف فقال دون أن يعطيها مهلة إضافية للتفكير.
-ولكن ستكون لكل منا مهامه المنوطة به.
شعرت المرأة أنها تغرق في بحيرة لا قرارة لها. لكن
الأوان كان قد فات. إنها مضطرة الآن لمتابعة اللعبة حتى النهاية. وقد شعرت
في الوقت نفسه أن ثمة خدراً أصاب قدميها. فتخلصت من حذائها بغية تحرير
القدمين. ثم أجابت وهي تكاد لا تعي ما تقول:
-أنا أيضاً أعتقد أن لكل منا مهامه الخاصة به.
شعر الرجل أنه يسيطر على الموقف تماماً. قال:
-المنزل يحتاج إلى تنظيف. إلى إعداد طعام. إلى عناية
بالأطفال وهذه كلها سوف تكون من اختصاصاتك.
بردت أطراف المرأة. وشعرت بعجز تام. لكنها تمتمت:
-وأنت؟!
رد الرجل:
-أنا من سيكدح طول النهار. منذ الصباح وحتى المساء
ليفوز بلقمة عيش له ولكِ ولأطفالنا إن هذا عمل شاق. والنساء كما هو معروف
غير قادرات على بذل الجهد في سبيل كسب القوت اليومي وتأمين مستقبل الأولاد.
عندئذ. أسقط في يد المرأة. وشعرت مرة أخرى أن ثمة
قوى خفية تعبث بها. فكرت في كلام الرجل. في تكوينها الجسماني. للأسف لم
تفكر المرأة في هذه اللحظة بالذات بأن للعقل طاقات تفوق طاقات الجسد.
فانهارت أمامه بغتة وهي تردد:
-إني موافقة.
عندئذٍ تأبط كل منهما ذراع الآخر. وخرجا من المقهى.
وكان النادل ما زال يرقبهما بصمت.
في أعلى قمة البرج
كانا مضطجعين على سرير ضيق. متلاصقين. وكانا عاريين.
قالت المرأة:
-لقد أنجبنا الكثير من الأولاد. وقد نالت منا وعثاء
السنين.
قال الرجل بثقة:
-ما زلنا شابين. ما زلت جميلة وما زلت قوياً.
ثم قال:
-لنقاوم
وردت المرأة:
-لنقاوم
ثم ما لبثت أن تنبهت إلى أمر شديد الأهمية وقالت:
-أحتاج إلى قليل من المكياج والصباغ لأعود صبية
جميلة تسر ناظريك.
قال الرجل وهو أشبه بالحالم:
-إني أفكر في تغيير العالم.
قالت المرأة:
-أحب ممارسة الحب معك كما كنا نفعل أيام زمان.
قال الرجل:
أحب الدخول في حرب مقدسة.
قالت المرأة:
-أريد ثياباً جديدة. يجب أن تشتريها لي.
قال الرجل:
-أحتاج إلى بعض الأسلحة لتجنيد الأولاد من أجل خوض
معركة مقدسة تهدف إلى تغيير العالم.
قالت المرأة:
-لقد ملأت التجاعيد وجهي.
وقال الرجل:
-لقد عم الفساد في الأرض ونحن بحاجة إلى دين جديد.
رددت المرأة بإلحاح:
-أحتاج إلى ثياب جديدة. إلى مساحيق جديدة. إلى حب
جديد. إلى لذة جديدة وأبدية. إلى عطفك وحنانك. هذه هي جنتي.
قال الرجل:
-أحتاج إلى التفكير في الميتافيزيقيا. إلى ابتكار
أخلاق ونظم وقوانين تحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان بين الإنسان
والطبيعة بين الإنسان والله.
الثورة والفراق
قالت المرأة:
-إننا مختلفان.
رد الرجل:
-لا أعتقد
قالت المرأة:
-لقد خدعتني
قال الرجل:
-هذه هي طبيعة الأشياء.
قالت المرأة:
-كم أكرهك.
وقال الرجل:
-كم أحبك.
قالت المرأة:
-أنت سادي وأناني
وقال الرجل:
-أنت جميلة وساذجة وغبية
وهكذا افترقا. وكل منهما يحمل بين أضلاعه ألماً
ممضاً.
اللقاء الأخير
صدفة التقيا. في نفس المقهى. كانا عجوزين. وكان ثمة
نادل. النادل نفسه لكنه تحول إلى عجوز هو الآخر. وكان المقهى خاوياً إلا
منهما. دعاها إلى طاولته. فلبت الدعوة وهي تقول:
-هذه المرة ليست كسابقتها.
قال الرجل بمرارة وأسف:
-أعلم ذلك
قالت المرأة العجوز:
-لقد لعبت بي طويلاً. وقد أزهقت كل شبابي وصباي من
أجلك.
قال الرجل:
-لست مذنباً.
تساءلت المرأة:
-من هو المذنب؟!
قال الرجل:
-لعله الحظ
ردت المرأة:
-لا أؤمن بالحظ ولم تعد تنطلي عليّ ألاعيبك
قال الرجل: لعل الله قد كتب عليك ذلك
ردت المرأة:
-الله أرحم من أن يفعل ذلك بي وبك
عندها صرخ الرجل بغضب:
-لعله هذا النادل. الخسيس. الواطئ
ضحكت المرأة ضحكة مرعبة ثم تمتمت:
-ما زال النادل صامتاً.
عندئذٍ تقدم النادل نحو الرجل والمرأة. ثم همس بكل
لطف وأدب واحترام:
-أرجو منكما دفع الحساب. لأن المحل سيغلق بعد قليل.
هذه تعاليم البلدية وأنا آسف لذلك أشد الأسف.
عندها صرخ كل من الرجل والمرأة:
-إنه الكاتب
وهنا كفّ الكاتب عن متابعة الحكاية. وانتهى النص.
1998
|