كروان
[1]
تلفتت كروان يساراً قليلاً يميناً قليلاً ثم استدارت
باتجاه الصوت الأغنّ وقد عبث بوقارها المهذب الذي اعتاده الحي كله، وامتطى
كبريائها في تحدّ فظّ.. حدّقت في الوجه اليافع، تمعنت فيه، بحرّت.. ربما
إنه راق لها، ربما أعجبها فقط..، لكنها قالت: استح.. يا ابن الشرمو [..].
فالفتى صبّ تغزّله على الموقع الأكثر اختباءً وإخفاءً في جسد أي امرأة..
وتجرأ، بل تواقَحَ وسمّاه.
اكتفت بهذه الشتيمة واستمرت سير الحجل الغرير
متجلببة بالسواد.. كان كعب حذائها النحاسي العالي يقرع الرصيف من أولّه حتى
آخره.. فيرنُّ –ليس الرصيف فحسب- وإنما الشارع كله، ويلبس لرنّته رداء
الاشتياق.
[2]
عيّنت كروان في فراغ لامرئي وأذِنت لخيالها أن يرجع
عشرين سنة وأكثر.
أبصرت بعين الخيال [بسّام] ذلك الفتى الأشقر في
نظافة بادية ومحسوبة رغم أنه مجرد صبي لدى بائع الخضرة وظيفته أن يتولى
توصيل طلبات المنازل.. كان مبتسماً على الدوام، ويرفض على الدوام تناول
المكافأة النقدية من يدها الطرية، فتبادله ابتساماً بابتسام، ثم لا تغلق
الباب على عجل، إنما بتؤدة متمهلة ورفيقة، كأنها لا تودُّ أن تغلقه.. لم
تكن تريد أن تنتهي الابتسامة العذبة..
كان يقول لها: - احفظي مكافأتي لديك. وكانت تحفظها..
تضعها كل مساء تحت وسادتها. وفي الصباح تدسها في محفظتها وتذهبان معاً إلى
المدرسة.
لقد امتلكت نقود بسّام كيانها كله.. وكما احتفظت بها
سراً بينها وبينه، كذلك احتفظت بابتساماته.. فكانت تدسها في قلبها عند
الباب، وما إن يغادر تستخرجها وتلهو معها النهار كله، وتحلُّ بها مسائل
الرياضيات العويصة، وتستعين بها على حفظ قصائد الشعر الجاهلي.. غدت وحيدة
الصف التي حفظت دون غلطة واحدة، منهاج الشعر الجاهلي كله وخطبة قسِّ بن
ساعدة ومقاطع من بخلاء الجاحظ.. مما جعلها موضع العناية الفُضلى لدى
مُدَرّسة الأدب العربي، وموضع حسد بعض الزميلات وإعجاب بعضهن الآخر.. وإذا
آوت إلى السرير خبأت الابتسامات بين نقوده تحت الوسادة، كي تسترجعها من
جديد في الصباح..
ومثلما كانت تزداد النقود مع ازدياد طلبيات الخضار
أو الفواكه، فكذلك كانت الابتسامات.
[3]
بعد أشهر، وربما عام.. قال لها بسام: أنت جميلة..
وناولها طبقاً فيه تين وكيساً فيه عنب، وأردف: أجمل من كل فاكهة الدنيا. ثم
ابتسم. قالت: أنت أجمل. وأغلقت الباب بالأناة المعتادة.
[4]
إحدى زميلاتها حدّثتها عن أشياء حميمة تفعلها البنات
مع الصبيان في خلوات تتهيأ لهم أو يهيئونها على سطح منزل أو تحت درج، وأنها
–كما قالت- ترد الروح. سألتها:
-هل تحبين؟
أجابت:
-وأنتِ، هل أحببت أحداً؟
-أقول لك عن الأشياء الحميمة، ثم تسألينني.. طبعاً
أحببت وأحب، ويا لكثرة ومتعة ما فعلناه.. كل مع الآخر.
تمنّت كروان، فشابت وجهها حُمرة حييّة وداعبته تلك
الابتسامة.. ودت لو كان مدّ يده إلى خدها يوم أن قال لها أنت جميلة.. وودت
لو أنها مدت يدها ورفعت خصلة شعره الشقراء، العابثة أبداً بالجبين الأحبّ،
لكانت أحست لبعض لحظةٍ، لحظةً جزءً من الحميمية التي سمعت بها على التوّ.
[5]
الفتى اليافع الذي أسمعها ما أسمعها، عاد فشاغل
سمعها بالتغزّل نفسه. لم تتوقف هذه المرة، كما لم تشتمه.. اكتفت بأن نظرت
في وجهه. عاودها وجه الفتى صبي الخُضار والفواكه، فاستشعرت قشعريرة
خلَجَتْها كلها حتى كادت أن تسقط.. ولكن الحجل استمر يمشي.. واستمر اليافع
يتبعه، إلا أنه لم يعد يقول شيئاً. ظل وراءها ظلاً من الظلال أشبه بالأليف.
ثم حاذاها.. خاف كل شيء فيها من لمسة أو إمساكة لعضد..
-كيف أتصرف إذا فعلها؟ إن الجرأة التي له أمر لا
يصدّق. أبْعِدْهُ عني يا رب..
تظاهرت بلا مبالاة متيقظة. مضت وقد حاذاها تماماً.
تعمدت ألا تنظر إليه. لكنه كان ينظر وكان يبتسم، بل ويكاد يضحك.. نظر إلى
الرصيف الآخر وهمس إني أعتذر، حقاً كنت قليل أدب. وصمت، ثم لوى خطواته فصار
على الجانب الآخر من الطريق. لكنه ظل ينظر إليها.. وظل يبتسم.
[6]
تمنت لو أنه ما اعتذر.. لا تدري لماذا هذه الأمنية..
كانت في داخلها مساحة رغبة واشتياق تناديه على استحياء ليسحب اعتذاره،
وربما ليعاود قول ما قال. أما الشتيمة فقد كانت من قبيل رد الفعل
الإنعكاسي.
[7]
-ما الذي حدث جراء ما قاله؟ لا شيء.. إنه شاب
واشتهى، لم يمكنه عمره من إبداء الإعجاب بطريقة أخرى. لقد قذفه عمره باتجاه
النهايات. ومن كان في مثل سن يفاعته تعنيه النتائج لا المقدمات.. إن قلت عن
نفسي كيف لي أن أتعامل مع فتى يافع، لا يجب أن أقول كيف لفتى يافع أن
يتعامل معي.
صمتت برهة لتعاود القول لنفسها:
-ثم ربما إن زوجة أب رّبته فافتقد الأم حتى وجدها
في.. إن الحرمان العاطفي يفعل أكثر من هذا. وإن الحرمان العاطفي يفجر
المضامين.. والفتى باعتذاره، لم يقصد أن يعتذر، بل عبر عن مقدار ما فعلته
لديه، شتيمتي.. لا، أنا ما قسوت. كان يستحق ما سمع..
[8]
تقصدت أن تنظر إلى الرصيف الآخر وأن تجعله يراها
تنظر إليه.. ما كانت تظن أن له الابتسامة التي لبسام. بسام كان عرق ورد
والتوى في هاجرة الحرب. عشرون ربيعاً فتياً أكلتها نيران الحرب. لقد أخذ
مني ما أخذ بينما أنا داخل النشوة والرضا. بلى، لقد كان فعلاً حميمياً
ودافئاً، ومدعاة سعادة لم أقدر على وصفها إطلاقاً.. هل يريد اللّه بجلال
قدرته أن يكرر علي بسام؟ من يدري. والعمر؟ تباً للعمر كيف يحول بيننا وبين
صبواتنا.. لا، يجب ألا يحول، فإن نازك الصلحدار جعلت من عمرها جسراً وعبرت
عليه إلى ضفتها الثانية.
كان الفتى اليافع يتشاغل بالنظر أماماً، ولكنه أيضاً
كان يبتسم.
[9]
في يوم آخر صعقت كروان، رأته واقفاً بالباب كالقدر.
قالت:
-ادخل.. لا تفضحنا.. يا لك من جريء.
ابتسم الفتى..
لم يدخل
قال:
-أتيت لأعتذر وجهاً لوجه، فأنت بمقام أمي.
نظر بحنان جم في وجهها الفل. كانت له نظرة جندي
مندحر وجريح على سرير في الوطن.
همّ بقبلة عجلى. أسلست له خداً توّرد في اندهاش.
لامست الخدّ شفتان من ندى، وشارب من زغب الدُرّاق
وكَمَنْ فوجئ بجمرةٍ تأكل فمه.. أدار وجهه. وجعل
يهبط درجات السلم كأنه مطارد.. كان خائفاً من شيء ما..
بتوءدة كظيمة، تركت كروان الباب، فأوصد الباب نفسه.
عنق الجمل
من يرى الذي اسمه نزَّال بن رافع، كما ادعى حين
اقتيد إلى سجن حلب مصفد اليدين ثم أُسقِط في يده وتعامل باسمه الحقيقي طيلة
السنوات السجن لا يملك إلا القول بأنه من البدو الذين لم ينزلوا حاضرة
قطُّ، والألصق ـ في معاشهم وسلوكهم ـ بزمن قديم وظل قديماً، لا هو تغيَّر
ولا هم أرادوه أن يتغيَّر.
كان منظره وملبسه يؤكدان أنه لم يخالط غير سباع
البيد وأبناء آوى ونجم الشمال وعواصف الرمل وسكون الصحراء واستكانتها.. كان
بادي البداوة أشعث بجديلته ونهايات كل منهما الأشبهِ بنباتِ شوكي اضطهده
الماء زمناً طويلاً.. لم يُعرف له في البدو قبيلة ولا عشيرة ولا فخذ ولا
حِمى. ولم يُعرف من أي الاتجاهات جاء، كما لو كان قُدَّ من جبل بعيد، فركب
ريحاً إلى أن استقرَّ عند خيمة الشيخ. حتى إن شيخ القبيلة نفسه رغم معارفه
وعلومه، لم يعرف.. لكن تِبْعاً من الأتباع قال بأنه قد قدم من بلد الهجران،
وصمت.
وحين سئل نزال عن أصله وعن فصله، لم يُسمَع له جواب
لا إيماءً ولا نطقاً.. فقيل:
ـ أخرس، أطرش، لكنه يُبصر ويرى.
أحد الجلساء قال:
ـ إن أقرب بدو إلى مضاربنا يسكنون على مسيرة يومين
من هنا أو أكثر..فكيف وصل إلينا؟..
تنحنح الشيخ وقال:
ـ لابد أنه تَعِب الآن.. سنعرف خبره غداً، لقد طال
علينا الليل يا رَبْع.
ثم أمر له بطعام..
حدق نزال في الشيخ بعينين زائغتين حادتين حمراوين
كعيون الجن. ظن الشيخ أنه يشكره، فهز له رأساً ثم مسد لحيته الشهباء ونهض
ثقيلاً، فهبَّت المضافة وقوفاً.
ارفض المجلس عن بكرة أبيه،إلا نزال فقد استمر يأكل
يزدرد الطعام ازدراداً؛ قبضة أرزٍّ إثر قبضة، ويردف الاثنتين بقطعة لحم
مختلط بياضاً كثيراً باحمرار قليل، ثم يعدل من قعدته ويعاود الكرة هكذا،
ويسمع له لغط كأنه خوار؛ ثم يعود يزدرد ويزدرد.. فيما الخادم الذي بقي معه
يوليه ظهره ـ حيث من اكتمال الكرم ألاَّ يرى المضيف أو ممثله، الضيف وهو
يأكل .
طال الوقت، حتى ملَّ الخادم واستشاط ليس لأن نزالاً
التهم وحده ماكان يكفي ثلاثة فرسان أشداء، بل لأنه والنوم أخذا يتغالبان
بعد نهار شديد الحرارة أضرم فيه النار وأنجز الطبيخ وأعدَّ القهوة أكثر من
عشرين مرة وسلَّمها للخَوِيِّ ( ) يدور بها على الشيخ وضيوفه: الجلساء
والندمان والشاعر الذي يعيد كل ليلة الشعر نفسه بالصوت الخشبي نفسه تعاونه
الربابة نفسها.. وبنصف دورة رأس باتجاه نزال، حسب الخادم أن ساعة الطعام قد
آذنت نهايتها. أعاد رأسه كما كان. حدق في ظلام المضارب والصحراء.. من يكون
هذا الغريب الأكول؟ ما سرُّه؟ من أين جاء؟ .. هل يضمر شراً ما لأحد ما؟..
عاد فالتفت.. فهم من حركة عينيْ نزال بأنه لم يشبع.. قال له:
ـ أطعمناك طعام الحريم، ولم تشبع؛ يشهد اللّه إنك
لمن الجن أو الوحوش. سأحضر لك شيئاً آخر تتسمَّمُهُ لتنام بعده كبغلٍ
بَشِمٍ نافق.
لم يبدِ نزال ماقد يشير إلى أنه قد سمع أو فهم..
قام الخادم متثاقلاً. رجع فقدَّم لنزال خبزاً وسمناً
ودبساً وعاد إلى جلسته الأولى يحدق في فراغ المضارب والصحراء، فيما برودة
الليل تزداد ثقلاً وإثقالاً.. وإذ التفت بنظرة عجلى، وجد نزالاً قد تدثر
فروة تيس متآكلة وغط في نوم ثقيل، وشخر كبعير لم يكتمل ذبحاً.. فأطفأ
السراج الوحيد في المجلس، واصطحب بندقيته وأحكم إغلاق طربال( ) الباب، وذهب
ينام.
وصل الشيخ إلى المجلس مع أول خيط من الضوء، ووصل معه
كبار العشيرة، يتبعهم الخَوي الكبير متمنطقاً حزاماً جلدياً بنياً متآكلاً
فيه جيوب ملأى بالرصاص وعلى كتفه الأيمن علق بندقيته؛ أما الكتف الأيسر
فيتدلى منه جراب فيه سيف لا يُعرف ما إذا كان بتَّاراً أم لا؛ وفي حزام
خصره بين الخاصرة والسرة تظهر قبضة مسدس نمساوي أهديَ للشيخ زمن العثمانيين
لخدمة أداها لسرية من الجند بالدلالة على اتجاه نجدٍ، وإرساله معها خوياً
لم يرجع عنهم، وقيل آخاهم فأرسلوه إلى الأستانة مستشاراً للباب العالي لما
أبدى من الإخلاص للسلطنة وماكان عليه من خبرة لا تُجارى في تقصي الأثر
ومعرفة بالصحراء قبائلَ وأفخاذاً ومساكن.. وقيل في أحاديث أخرى، إنهم بعدأن
أوصلهم نجداً، قتلوه.
سأل الشيخ خويه عن وقت نوم الأخرس، كما سماه، فعاد
الخوي بالسؤال إلى أصغر الخدم، ثم أجاب.
شاور الشيخ رهطه عن إيقاظ الأخرس؛ قيل نوقظه يا طويل
العمر.
انحنى الخوي على النائم. هزه بغلظة مرتين فصحا ونشب
واقفاً في زعرٍ باد.. وما كاد يستجمع وعيه حتى أقبل منحنياً على يمين الشيخ
فقبل كتفه ثم لثم ظاهر الكف.
شرب الشيخ وصحبه قهوتهم. أمر فَصُبَّ لنزال بفنجان
ثم أومأ. فطوَّح الخوي الفنجان..
مرت أيام الضيافة الثلاثة، ولم يفه نزال بحرف.. جرت
محاولات كثيرة لتعرف حاجته دون جدوى..
في ضحى اليوم الأول من الأسبوع الثاني، قيل:
ـ يا شيخ، دعه يسرح ببعض غنمك مع السارحين.
استحسن الشيخ الرأي. بدا على نزال أنه قد فهم، فقد
أقبل هاجماً على الشيخ يقبل عقاله وكتفه ثم ظاهري كفيه.
في الفجر اللاحق بدأ نزال يضرب مبتعداً عن المضارب
إلى حيث الكلأ، بأغنام كثيرة وكلب وبعير واحد يمتطيه في الذهاب إلى المرعى
وفي الإياب، ويسرحه مع الأغنام يأكل ويجترُّ ويمرح على هواه..
استمر نزال هكذا يوماً بعد يوم، شهراً في إثر شهر.
لم يدر نزال أن التجاءه إلى مضارب الشيخ كان نجَّاهُ
لو أنه بقي في المضارب. لكن بقاءه في المضارب يعني أن يعمل ليس خادماً
فحسب، بل أقل مرتبة في خدم الشيخ كلهم، كان عليه أن يأتمر لكل خوي وكل
خادم، وإن نفسه تعاف هذا. ومن يدري فربما استاء أو تشاجر فسيضطر لأن تبدر
منه كلمة تكشف أنه يسمع وأنه يتكلم.. فتكون طامة كبرى. هكذا كان ظن نزال..
ثم ماذا لو أنه باح بسره، من يدريه بأن الشيخ لا يسلمه.. لكنه لم يفطن إلى
أن الشيخ، كغيره من شيوخ البادية، كان سيجيره وسيحميه لا حباً به، وإنما
كي لا يقال في العرب إنه لم ينتخِ، فما أجار وما حمى.. فتزول هيبة المشيخة
ويصبح مضغة تلاك، وربما شعراً يُتغنّى به في الأماسي..
ذات يوم لمح نزال في مرمى النظر غباراً كثيفاً لم
يتبين منشأه على التوِّ. وحين اقترب الغبار عرف أن سيارة أثارته. حين اقترب
الغبار أكثر، ودَّ نزال لو انشقت الأرض فالتهمته والسيارة ومن فيها من
الدرك( ) والأغنامَ والجملَ والكلبَ جميعاً.. أطلق ساقيه للعدو أقصى ما
يستطيع، يتبعه الكلب والجمل. الراكبون الثلاثة لم يترجلوا.. أوقفوا سيارتهم
وأخذوا يضحكون.. إن الصيد صار إن لم يكن في الشبكة، فهو في المرمى الآن..
إلى أين يا هذا الطريد؟ إلى أين؟؟ إن المدى مهما بَعُدَ، هو دون قدرتك على
الهرب البعيد..
لك الله يا نزال.. لم يعد لك الآن، إلاَّ الله.
أجهده الجري. وقف يلهث. زمَّ عينيه. رأى السيارة في
مكان وقوفها، تساءل: لِمَ لم يلحقوني!! وحير جواباً..
رَجَّ قلبه أن السيارة تحركت باتجاهه.. أناخ الجمل..
لمع في وهج الشمس ساقا جزْمة.. إن دركياً ترجَّل.. قال له بصوت أجشَّ واثق:
تعال.. أقبل نزال خافضاً رأساً، رافعاً عينين كسيرتين. فتح الدركي مغارة
فمه، زعم الفم أنه يبتسم. ترك نزال لجام الجمل وسار، صعد السيارة صامتاً..
وقفت السيارة قرب الأغنام. جفلت الأغنام برهة. فزعت ثم عادت إلى طعامها من
عشب الأرض الأزغب.. أصعد دركي إلى السيارة كبشاً مفتول القرنين كالوعل.
وانطلقت السيارة باتجاه الإسفلت.
اقشعَّرَ نزال..
خرَّ قلبه بين قدميه حين أمسك أحد الدركيين يمناه
فلواها وأحكم فيها سوار حديد معلقاً بسوار آخر دسَّ له فيه يُسراه، وهو
صامت سارح في ملكوت متلوِّن بالخوف وبالندم وبالذعر وبالتحدي، وبشيء من
الراحة لم يعرف مثلها ويجهل أي سببٍ لها.. تذكَّر لتوِّه معصمي سناء وساعدي
سناء وكتفي سناء، ثم برقت له رقبة سناء.
ـ يا ابن الكلب، سنة كاملة نجري وراءك في إثر
إثرك.. تترك الهندسة ودعة المدينة وتتعاطى رعي الأغنام يا ابن الكلب.. إلى
أين كنت تظن نفسك هارباً؟؟.. إن يد الدرك طويلة، تصل إليك ولو كنت في أبعد
سماء.. وها نحن صدناك كما يصطاد كلب جرب ولو كان مسعوراً.
دارت السيارة مائة وثمانين درجة ثم أوقِفتِ لأن أحد
الدركيين قال:
ـ ألن يسألنا رئيس المخفر، ماذا أحضرتم لي؟
قال الثاني:
ـ حبذا لو أخذنا له الجمل فاقتسمه مع قائد الفصيل.
الثالث قال:
ـ وكيف نحمل جملاً في سيارتنا الجيب هذه؟
كان نزال يتابع الحوار.. نسي سناء فقال:
ـ تذبحونه وتجرونه بحبل، أليس معكم حبل؟
قال ثلاثتهم:
ـ من يقدر على ذبح جمل صحراوي؟ إن الكباش الصحراوية
عصيَّة على الإمساك، فما بالكم بجمل، ونذبحه أيضاً؟؟ لا.. لا نستطيع.. ..
والله إن أفلت برك علينا وعلى السيارة جميعاً فجعلنا عجيناً.
قال الذي أصفد نزالاً:
ـ إن مَن قَدِرَ على سناء، لن يعجزه جمل.
وقع قلب نزال. دخل انعدام الوزن هنيهة رجعت إليه
فيها: سنوات دراسته الجامعية.. حديقة الجامعة، صحاب الجامعة، الطريق إلى
الجامعة، وعده لسناء بالزواج وعش يملآنه أطفالاً ووروداً.. فاغرورقت عيناه
بدمع غصَّ، غصَّ في المآقي، ما ظهر وما انحدر على خدٍّ من خد يه البارزين
ككثيب متشقق في الصحراء الموحشة.
رفع الدركي كفَّاً كخشبة وهوى بها علىخد نزال، ثم
أخرج من جيب سترته مفتاحاً أصغر من عينه الحولاء، وأدخله في صفد اليدين،
وتابع في إزباد:
ـ انزل يا ابن القحـ[…..] أمسك الجمل واذبحه.
نظر نزال إلى الدركي نظرة أشبه بالبلهاء.. كانت
ذكريات الجامعة ماتزال ماثلة تتراوحه كما يتراوح الوقت بندولٌ رتيبٌ في
ساعة خشبية..
صار أمام الجمل. أمسك اللجام. عَيَّنَ في عينيه.
توقف الجمل عن مضغ اجتراره الأثير. ثم أغرق عينيه في عيني ذابحه وفتح شدقه
فتحة صغيره كأنه يبتسم...لوى باتجاه نزال وهو في بَرْكَتِه، عنقاً رخياً
سلساً كعنق زرافة ثم حناه أسفل فأعلى وشده باستقامة عن نحره، فبدا المنحر
مستعداً لقدره المطلوب..هم الرجل ليفعل ما طلب منه. أمال السكين باتجاه رمل
الصحراء. لامس بيسراه العنق الطويل ومسده بكف حنون كمن يلامس خد حبيب أو خد
طفل وليد. أرخى اللجام وقفل إلى سيارة الدرك. حدق فيه صافِدُهُ بحدَّةٍ
وصلف.. قال نزال:
ـ اذبحوني أنا إن شئتم.. لن أقدِر.
وتحدرت من عينيه دمعتان.. سمع أحداً يقول:
ـ اعتبره سناء.
ويردف:
ـ دموع التماسيح.. أتدعي عدم القدرة على ذبح بهيمة..
حقَّاً إنك لمكَّار كبير.
لم يجب نزال بأن العشاق والمحبين لا يُميتون أحداً
ولا يقتلون بل إنهم هم يموتون ويُقتلون هوىً وصبابة.
سمع كفَّاً كمرزبة تهوي على الخد المدمع. سمع، ولم
يتألم.. خرَّ على الرمل. ثم نهض رمحاً متكسراً.. فتلقى بصمت وألم، ركلة
حذاء ضخم على فخذه.. بادل الركلة بنظرة تحدٍّ من عينيه الحمراوين كعيون
الجن. تاهت منه العينان. غاص في الذكرى..
السيد سالم
أول ما رأى من حلب.. كان دوّار الصاخور( ): بناسه،
وبغاله، والباعة بعرباتهم التي يجرونها –لا آلة ولا حيوان- مليئة بالبرتقال
أو الموز أو الخيار وغير ذلك من فاكهة أو خضروات أو آنية بلاستيكية ملونة،
وبازدحامه بالمنادين إلى السفر.
انبهر سالم السلوم، كمن أخذته الصيحة.
استغرب أكثر ما استغرب ذلك العجّ من الرجال والنساء
والأطفال المتزاحمين إلى سفر لجهات منها الوجهة التي غادرها.. تساءل بينه
وبين نفسه كيف يتزاحمون ويترجّون ليعودوا من حيث أتوا. فهذه حلب التي
ماردّت أحداً، بل جبرت خاطر كل قاصد.
كانت السيارة تواصل بحمْلها الصعب: المسافرين
وأنعامهم وأطفالهم الباكين أو المتباكين مللاً أو ألماً من مرض ما.. حتى
بلغت مقصدها: باب الحديد( )، فاستكان ضجيجها وضجيج الراكبين. ترجل الجميع
إلا سائقها ومعاونه الفظُّ الذي نهر الركاب جميعاً طيلة الرحلة كأنه لم
يعرف من الكلام في حياته إلا الشتائم؛ أربع ساعات من القرية إلى حلب
وماكفَّ له زجر أو صياح أو شتيمة أو صفعة لولد.. حمداً لله فقد وصلنا
أخيراً؛ فلنفارق هذا المتجبر الأخرق.. قال سالم ذلك عندما أصبح على مبعدة
كافية من السيارة.
عبَّ سالم من هواء حلب. إن لهواء حلب رائحة أخرى.
وإن للصباح فيها نكهة ميْس السنابل في العصاري. وإن للرزق فيها أبواباً
كثيرة مُشرعة لكل قاصد..
منذ الغد، بل منذ اليوم إذا يسّر الله أعمل مع
العتالين في "باب جنين"( ) حتى إذا انقضى عام - بل أقل- تكون لي عربة أبيع
عليها مالذّ وما طاب مما يستهوي الحلبيين؛ ولن أجرها كالباعة الجهلة في
الصاخور.. ستكون لي دابة تجرها فتريحني، وأنا أنادي على بضاعتي وأقبض
الأثمان..
حادث سالم السلوم نفسه بهذا..
تقدم لا جهة من ميدان باب الحديد. استوقفه لحاف
ممدود على الرصيف صفّت عليه تباعاً أشياء وأدوات متنافرة ومتآلفة في آن
معاً، ووراءه امرأة تربعت بسوادها – لباساً وسحنة - وقد انهمكت في جدال مع
مشترٍ يبدو أنه من أهل البادية حول مفتاح لقفل ليس معه. اشتد الجدال
اختلافاً حول السعر، ثم عن نية المشتري إعادة المفتاح إذا لم يفتح القفل.
تدخّل سالم معبراً عن استغرابه أن يشتري أحد مفتاحاً لقفل ليس معه فزجره
المشتري. وإذ تحول إلى امرأة السواد المتربعة- وقد أخذت تُرضع في بلهِ
هُرَةٍ هرمةٍ، وليداً أصفر مزرقّاً كأنه ليمونة قطفت منذ سنة –وأردف:
- وماذا تخسرين إذا أعاده عندما لايتراكب مع القفل؟
ماذا يفعل به عندئذ؟
نهرته المرأة من وراء حجابها، فضرب كفاً بكف وقال:
- خيراً تعمل، شراً تلقى.. والله إنك لظالمة.
أبعدت المرأة رضيعها فصاح الرضيع. مالت إلى قبقاب
أمامها ورمته به فأخطأته..
مضى ومعه استغرابه واندهاشه من الباعة والمشترين، بل
ومن حلب نفسها، وعلى الأخص، أبواق السيارات التي لاتكفّ عن الصياح كأن جناً
مسّها أو هو مقيم داخلها. وكيف يختلط الناس بالحديد، بغبار أسود، بالعدو،
بالتأني، بالضوضاء، بقامات الرجال المتأنقين والنساء السافرات والمحجبات،
ببسطات سلع متباينات على الأرصفة، برواح وغدوِّ عصافير لايعلم من أين تجيء
ولا أين تروح، بأضواء كثيرة في واجهات المتاجر مع أن الوقت ضحى.. تالله
ليكونن لي متجر مثل هذه المتاجر، بل أحسن منها إن شاء الله.. هل هذا كثير
عليك ياربي وأنت الوهّاب بغير حساب..
..دَفَشَهُ خرج على جحش كان ينهق برتابة وبأنين..
فكاد يقع، لولا أن عاجل فاحتمى بمصطبة دكان.. تخيّل لو أنه ماكان عاجل، إذن
لزحمه الجحش فدخل رأسه بزجاج واجهة المتجر.
لاح في الناحية المقابلة دخان شواء فتحسس جيباً
خفياً في قميصه، أدخل كفه، لامس القطع النقدية، ثم شرع في عبور الشارع
والرائحة الزكية تطوي الشارع كله، تلفُّ الناس والسيارات والإشارة
الضوئية.. وسالم منجذب إليها. لكنه قبل أن يدخل في زخم الرائحة تسمّر..
اندفع ثم وقع كأن جبلاً دهم مؤخرته.. أحسّ باندلاق سائل ساخن قليلاً بارد
قليلاً على ظهره.. ثم تمشى الساخن البارد، إلى باطن ركبتيه في أناة التذّ
لها. شعر بنعاس حالم فنام دون أن يدري بأنه قد نام.
..حين صحا ظن نفسه في الجنّة. فهذه الحسناء –بزيها
الأبيض كالطحين - حورية وُعِدَ بها منذ خلق الكون.
فُتح باب.. دخل اثنان: رجل وامرأة. فازدحمت الغرفة
بعطر عبق ما شمّ مثله قط، ولاحدّثه أحد عن مثله قط.
فتحت المرأة فستق فمٍ كأنه قلب من اللوز واللؤلؤ:
- نحمد الله على أنك عدت لنا.
..رفع رأسه. بدا له الرأس ثقيلاً بوزن مئذنة. مدّ
بصراً كحد مثقب.. تنهّد لحظة وقال:
- وأين كنت؟
قال الرجل الوسيم:
- لاعليك.. لا عليك إننا نحمده فعلاً.
لاقت عيناه عينيْ الحورية، فتبسّمت العيون:
- كنتَ في عالم، وأنتَ الآن في عالم ثان.
تلفت حواليه.. لم ير أنهار عسل وخمر، ولا أرائك
يُتكأ عليها، ولا ولداناً يطوفون.. كاد أن يثقب السرير بسبابته ليتأكد من
أنه لايحلم. أيقن أنه في مكان ما من حلب، لكنه لم يعرف أين، كما لم يعرف أن
حورية الطحين ممرضة في المستشفى، ولا من تكون المرأة الوردة أو الرجل
الوسيم، ولا مأتى العطر الذي ملأ المكان كله، ولا أن المكان محض غرفة.
أذن لمخيلته أن تطير به بعيداً.. حلم بالحورية تبذر
معه القمح وتتولى حلب الأغنام والماعز.. لا، لا.. سيبذر ويحلب عنها، فليس
عليها إلا التفرغ له، تتمشط وتتزين النهار كله، حتى إذا كان الربع الثاني
من الليل، تضاحكا معاً، ومارسا أموراً حميمة ودافئة. وحلم بالسرير يطير
بهما معاً فوق غيوم ماخطرت على قلب بشر وما رأتها عين. وبأن هذا الرجل
الوسيم كأنه المحافظ نفسه، يقول له نحمده على سلامتكم، كلما حطّ السرير من
الرحلة خلف حدود المعلوم. وحلم بالمرأة الوردة تهش له وتبتسم كلما اكتحلت
عيناه بها.
غير أن السيدة الفوّاحة، ردته من أحلامه السارحة
عندما مدّت إليه بكف من شقائق النعمان والفل البهيج، ورقة نقد مطوية بأناقة
واعتناء، وورقة عليها كتابة. أخذ سالم الورقتين ببراءة غراء رضية، تملاّهما
طويلاً، قلّبهما. هم بإرجاعهما لكنه أمسك إذ سألته ما إذا كان قد قرأ
المكتوب على الورقة قال:
- أيهما؟
قال الرجل:
- أيهما؟؟.. هذه بالطبع، فالثانية ورقة عملة ياسالم.
توشح وجه سالم بحمرة خجل رقيقة. إن سالم لايقرأ ولا
يكتب، فهو أمي أباً عن جد. ولم يكن في حياته كلها قد رأى ورقة نقدية كهذه..
داخله فهم بأن لأهل حلب نقوداً غير التي يتداولون في القرية.
- النقود وفهمناها، والورقة كتابة، هل علي أخْذُهما؟
- بل تأخذ النقود هدية لك حلالاً زلالاً.
سألت المرأة بغنج باد:
- أنت لاتعرف الكتابة ياسيد سالم، ولا توقع أليس
كذلك؟
أحس باغتباط جم. كانت هذه هي المرأة الأولى التي
يسمع من يقول له يا [سيد].. كم سعد.. وكم أعتز.. أحست المرأة كأنه طاووس.
وقبل أن يجيب، استل الرجل المهيب الوسيم من جيب سترته علبة معدنية رقيقة
فرفع غطاءها وأمسك إبهام سالم بجفاء، ومهر الورقة به. لم يُسمع لسالم صوت.
لم يصدر عنه اعتراض. كما لم يصدر عنه استفسار.. فقد بشت أساريره. بدا
ممتناً ومبتهجاً أشد الابتهاج، فهو يعلم أن قبض النقود يستلزم بالتأكيد
بصمة أو توقيعاً.
وبينما الورقة وبصمة سالم السلوم تأخذان طريقهما
للاستقرار في محفظة السيدة.. كان غمٌّ كثير قد غمر الممرضة الشابة، فهمت أن
تقول شيئاً، لكن حلقها غص، فأغضت حزينة وكسيرة.
خرجت كف السيدة من محفظتها بورقة نقد تُشبه أو
لاتشبه ما أعطته لسالم. إن سالم لايدري، لكنه رأى وسُرَّ سروراً عظيماً لما
اعتبره جود المرأة وجود الرجل.
الممرضة ظلّت تريد أن تقول لسالم ماودّت قوله قبل أن
يغصّ حلقها، إلا أنها لم تقله.. بان على المرأة الفواحة ظفر عظيم وهمّت
تغادر. أراد سالم أن ينزل من سريره لوداعها. أدرك أنه لايستطيع. قال:
-تبّاً لك ياحلب.
ثم سحب ملاءة السرير فغطّى جميع وجهه.. وأخذ يبكي
بصمت، وبذبول.
|