أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى

التعديل الأخير: 15/08/2024

أعمال مترجمة / الكاتب: معن مصطفى الحسون

خوف على الطريق

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الأعمال المترجمة

 

 

الأعمال المترجمة

 بلد خائن

 خوف على الطريق

 

خوف على الطريق

 

 

الكاتب: ايتالو كالفينو ـ ترجمة معن مصطفى الحسون

 

(عن الإيطالية)‏

في التاسعة والربع وصل إلى "كوالاّ براكّا" برفقة القمر، في التاسعة وعشرين دقيقة كان عند تقاطع شجرتين. يجب أن يصل النبع في التاسعة والنصف، في سان فاوستينو قبل العاشرة، العاشرة والنصف في بيراللو، منتصف الليل في غريبّو، وحوالي الواحدة ربما انتهى إلى فيدتّيا دي كاستانيو. عشر ساعات من المسير بخطوات عادية، ست ساعات كافية لقول الكثير لهم، إنه بيندا، الساعي، أسرع ساعٍ بين صفوف المجاهدين. كان بيندا يسير بقوة، جسد ميت يجتاز أقصر الطرق، دون أن يخطأ أبداً كل المنعطفات المتشابهة ينهض صدره صاعداً نحو الأعلى. صدر ثابت لا يغير إيقاع التنفس، عزيمة الساقين المطفأتين أشبه بصمام أمان...‏

 

-تشجيع يابيندا...‏

 

يقول لـه الرفاق ما إن يلمحوه من بعيد صاعداً نحو معسكرهم. يجاهدون في سبيل قراءة تعابير وجهه لمعرفة ما إن كانت الأخبار أو الأوامر التي يحملها سيئة أم حسنة، لكن وجه بيندا مثل قبضة يد. وجه جبلي ضيق ذو شفتين نما عليهما الزغب وجسم قصير عظمي كأنه جسد فتى أ كثر من كونه ليافع، عضلات كالعظام.‏

 

كانت مهمة عسيرة وفريدة، أن يظل متيقظاً كل الساعات، مرسل من سيربه، من بلله، لذا يتوجب عليه المضي عبر ليل الوادي وعلى كتفيه سلاح فرنسي خفيف كأنه بندقية من خشب، يتوجب عليه الوصول إلى معسكر والمضي إلى آخر، ثم العودة مع الجواب. لذا يوقظ الطباخ، يفتش في القدور الباردة، ثم يمضي وما تزال في حلقه بقايا من قطعة كستناء، لكن هذه المهمة لم تكن غريبة عنه، لم يكن ليتيه في الغابات، محيطاً بكل الدروب، كان يذهب عبرها منذ الطفولة، يرعى الماعز، كان قادراً على اجتياز كل هذه الممرات الوعرة والحصباء، والتي كانت عسيرة على باقي المجاهدين القادمين من المدن، ومن البحر.‏

 

شجرة كستناء ذات ساق مجوف، خشب أزرق اللون فوق صخرة، فسحة عارية لحقل من الكربون، وأشياء كثيرة تثير في دخيلته ذكريات بائدة. تهرب عنزة، نمس يخرج من جحره، ملابس داخلية لفتاة، وإلى كل هذا تنضاف الذكريات الجديدة، الحرب الدائرة في الأصقاع التي يقطنها، كل هذا استمرار لحكايته، لعب وعمل، صيد يتحول إلى حرب، رائحة دخان القصف على جسر لوريتو، عمليات الإنقاذ هناك أسفل المنحدر، سهول ملغومة حبلى بالموتى.‏

 

كانت رحى الحرب تدور في هذه الوديان، كأنها كلب يهم بعض ذيله، المجاهدون في مواجهة القناصة والعساكر، إذا صعد فريق منهم الجبال، يهبط الفريق الآخر نحو الوديان، ثم، فريق في الوديان، والآخر فوق الجبال، لقد دأب كل منهم على الدوران ليتجنب جنون الآخر، ليتجنب نيران الآخر، وعلى الدوام، فوق الجبال أو في الوادي. هناك من يموت. كانت بلدة بيندا في الريف، إنها سان فاوسيتونو، ثلاث كتل من البيوت. أحدهما هنا والآخر هناك، وفي أسفل الوادي تقع نافذة ريجينا(1)، غطاء سريرها يفرد في أيام التذرية. كانت بلدة بيندا عبارة عن استراحة تتوسط الصعود والهبوط، جرعة حليب، وكنزة نظيفة تهيئها أمه له، ثم الجهاد في سبيل الهرب المستمر لكي لا يصلوا إليه بغتة، الآن لقد مات الكثير من المجاهدين في سان فاوسيتونو...‏

 

الشتاء لعبة بين التسابق والاختفاء، القناصة في باياردو، العسكر في موليني، الألمان في برينا، وفي الوسط يقف المجاهدون عند كوعي الوادي، متجنبين أماكن التذرية وهم يتجولون هنا وهناك في الليل، عبر أماكن مألوفة. في تلك الليلة بالضبط كان ثمة سرية من الألمان تسير من بريغا، ربما تتوجه إلى كارمو، يهيئ العساكر أنفسهم للصعود من مولتيني، فريق المجاهدين يرقد مدفوناً في منزل مهجور وقصي. بيندا يسير في الظلمة عبر الغابات، كانوا قد اطمأنوا إلى سماع صوت أقدامه، ثم الأوامر "إخلاء الوادي على الفور، وعند الشفق يهيئ الفريق عدته وعتاده للرحيل عن بيلليفرنو، كان القلق رفرفة أجنحة خفاش تدق في رئتي بيندا، تحدوه رغبة عارمة في مد يده وإمساك ذلك المنزل الذي يبعد كيلو مترين، في العتمة، دون أية إشارة موجهة أو علامة دالة. يجب أن يصل هناك، أن ينفخ الأوامر، ليسمعهم يغادرون حتى فيذتا، سيربه، غوريلليا. ومن ثم حفر بؤرة في أوراق شجرة الكستناء، والدلوف إلى الداخل هو وريجينا، ولكن يتوجب بادئ ذي بدء نزع الإبر التي انغرست في جسد ريجينا، طالما استمرت الحفريات داخل الأوراق يصادفهم الألمان، من المستحيل إذاً إيجاد مكان لريجينا بينهم، ريجينا ذات الجلد الرقيق والناعم...‏

 

تتكسر الأوراق اليابسة تحت قدمي بيندا، تصدر ما يشبه الشخير، حيوان الجيرو ذو العينين المدورتين والمضيئتين يهرع للاختفاء في أعالي الشجر- تشجع يا بيندا، هذا ما قاله لـه فيكاتو القائد وهو يعطيه الأمانة. يصعد النعاس من قلب الليل ويحوم حول الأجفان، لقد رغب بيندا في التيه عبر الدروب. والغوص في بحر من أوراق الشجر اليابسة، ثم السباحة نحو العمق حتى الانغماس الكلي،‏

 

-تشجع يا بيندا.‏

 

يسير بيندا الآن على طول ساحل تومينا، ما تزال متجلدة، تنطبع آثار الأقدام على الجليد. كان تومانا هو الوادي الأوسع في هذه الأرجاء، ذا شواطئ عالية وبعيدة. أما الشاطئ الآخر فقد كان يلهث في الليل، حيث يسير بيندا في المنحنيات، بين الدغلات التي تحيط به. يخيل لبيندا أنه يرى ضوءاً قصياً، بالضبط في تومانا، ضوء يسير أمامه. ما ينفك الضوء يتحرك أحياناً بخط متعرج كأنه ينعطف، يختفي، ثم ما يلبث أن يظهر بغتة في مكان غير متوقع. من عساه يكون هذا الساعة؟ أحياناً يتراءى لبيندا أن الضوء جد قصي، على الضفة الأخرى، أحياناً يتوقف الضوء عن الحركة ثم ما يلبث أن ينتقل خلف بيندا. ها هي الآن عدة أضواء مختلفة، ربما كانوا يمشطون كل دروب تومانا السفلى، ربما خلفه أو أمامه في تومانا العليا، أضواء تشتعل ثم تطفئ. الألمان!‏

 

ثمة بهيمة تسير فوق آثار أقدام بيندا، لقد استيقظت من الأعماق، هذه الأضواء ليست سوى ألمان يمشطون تومانا، جنب غب جنبة. كتيبة إثر أخرى. شيء مستحيل، كان بيندا يعرف هذا، ولكن مع ذلك خالجه شعور بأنه ربما كان الاعتقاد بشيء كهذا أمراً محبباً، يجب النأي عن خداع هذه البهيمة الطفلة التي تتبعه منذ أمد، يدق الزمان في حلق بيندا بإيقاع متواتر، لقد تأخر الوقت، لم يعد من الممكن تحذير الرفاق من الخطر الداهم لم يعد من الممكن الوصول قبل الألمان، وهكذا أخذا بيندا يتخيل منزل فيندته الواقع في كاستانيو وهو يحترق، أجساد الرفاق المخضبة بالدماء، رؤوس بعضهم معلقة على جذوع الأشجار اللاريشي....‏

 

-تشجع يا بيندا..‏

 

يثير المكان الذي هو في داخله دهشة عارمة، يتراءى لـه أنه قطع مسافة قصيرة في زمن طويل، ربما تباطأ إبان سيره بل ربما كان واقفاً لم يتزحزح. لكنه لا يغير طريقه وهو عارف بشكل جيد أن خطواته كانت على الدوام هادئة وثابتة لم تتغير، ولا يجب الوثوق البتة بهذه البهيمة التي تقوم بزيارته ليلاً، بيندا يثق بنفسه كثيراً مذ كان طفلاً، لذا تراه ذا عزيمة، حتى ولا كان يحمل هذه الهيئة التي تتعربش على رقبته مثل قرد...‏

 

بدا سهل تولا براك طرياً تحت سنا القمر. "الألغام"، فكر بيندا، هناك في الأعالي لا توجد ألغام إنه يعرف ذلك جيداً، ولكن هنا في السهل كانت الألغام تنتشر متباعدة، وها هو ذا يعتقد بأن الألغام تتحرك تحت الأرض، تسير من جهة إلى أخرى، من الجبال إلى السهل، تتبع خطواته، كأنها عناكب ضخمة تحت أرضية، كانت الأرض فوق حقل الألغام مغطاة بفطر غريب، سيكون أمراً مهولاً لو وطأها بقدميه، سينفجر كل شيء في وهلة، ولكن ها هي ذي الثواني تتحول إلى قرون، ويبدو العالم ثابتاً كأنه مسحور ينحدر بيندا نحو الغابة يحيط به النعاس والليل البهيم، كان قد دأب على وضع إشارات تمويهية على جذوع الأشجار وعلى الدغلات، الألمان يحيطون بالمنطقة، هذا حقيقي ومن المؤكد أنهم رأوه وهو يعبر سهل كوللا براكا تحت ضوء القمر.‏

 

وها هم الآن يتبعونه، إنهم ينتظرونه عند المعبر، يتصاعد صراخ بوم من بعيد، إنه الصفير الذي يطلقه الألمان المتمرسون حوله، وها هو ذا صفير آخر يتردد، تتحرك بهيمة من بين إحدى الدغلات، ربما كانت ثعلباً أو ذئباً، بل ربما كانت ألمانيا متخفياً وراء سيقان الشجر وهو يهم بالتصويب علي، خلف كل دغلة هناك ألماني فوق قمة كل شجرة يثوي ألماني مع حيوانات الغيرو. التي تتعربش قمم الأشجار عادة، الصخور مليئة بالخوذات، تنصب البنادق بين أغصان الشجر تنتهي جذور الأشجار تحت أقدام إنسانية، يمشي بيندا الآن على طول سياج حيث يثوي الألمان يحدقون فيه، بنظرات لامعة كأنها أوراق شجر ندية، وكلما أوغل في المسير ازداد ولوجه بين الألمان، وعند الصراخ الثالث أو الرابع، أو السادس. سيهب الألمان متحلقين حوله، الأسلحة مصوبة نحوه، يخترق صدره حديد ساخن...‏

 

أحد هؤلاء الألمان كان يدعى غوند، لـه ابتسامة بيضاء مرعبة تحت الخوذة، ربما مد يديه الهائلتين إليه، كي يحوله إلى حديد صلد، وها هو ذا بيندا يخشى الاستدارة ليتجنب رؤيته فوق كتفيه، أو ربما تقدم غوند عبر الدرب، مشيراً بإصبعه نحوه. أو ربما سمعه يضرب الأحجار بقدميه فتتدحرج حول بيندا، تسير الأحجار على جانبه بصمت وسكون.‏

 

في لحظة ما، خيل لـه أنه تاه عبر الطريق حتى ولو كان قادراً على التعرف عليه. الصخور، الأشجار، نوافح المسك، ولكن حتى الصخور والأشجار والمسك العطر يبدو أنها تنتمي إلى مكان آخر، مكان بعيد، ثمة الآلاف من الأماكن المختلفة والقصية، بعد هذه الحصباء توجد طرق فرعية، ربما كان المستنقع الذي خبره هناك قد جف الآن، لا ماء ولا ضفادع، إنها ضفادع تنتمي لواد آخر، ضفادع قريبة جداً من الألمان، وعندما ينعطف في الطريق سيصادف علامات خادعة وضعها الألمان. لقد وضعوها بأيديهم، قرب الألماني الكبير الذي يثوي في داخلنا، إنه يدعى غوند، محملاً بالخوذات، المدافع، أفواه أسلحة مصوبة، حيث يفتح يديه الهائلتين ليغلقنا بداخلهما، ولا مجال لنا أبداً للتملص منهما...‏

 

ولطرد غوند يجب التفكير بريجينا، ويجب التفكير بحفر محراب في الثلج برفقة ريجينا، لكن الثلج قاس ومتجلد، لا يمكن لريجينا الاستلقاء عليه وهي ترتدي ملابس رقيقة مثل الجلد، ولا يمكن لها أن تثوي تحت أشجار الصنوبر، حيث الإبر طويلة ولا نهاية لها، التراب مليء بالنمل، وغوند فوقنا يبسط كفه فوق رؤوسنا، حول حلوقنا، يضغط على صدورنا، يوغل غوند في بسط يده، نصرخ، يجب التفكير بريجينا، الفتاة التي بداخلنا، ريجينا التي نكرس كل حياتنا لنحفر لها محراباً في أعمق أعماق الغابة ولكن السباق في النهاية كان بين بيندا وغوند، لم يبق سوى مسيرة خمس عشرة دقيقة، عشرين دقيقة للوصول إلى معسكر فيندتا، يجب الركض، ركض الأقدام وتتابع الأفكار، ولكن ها هي ذي خطواته تتابع على الدرب بنفس الانتظام والرتابة، وعندما يصل إلى الرفاق، ربما زال الخوف، ربما محي من أعمق أعماق الذاكرة، يجب أن تقذفه حتى حدود المستحيل. يجب التفكير بإيقاظ فيندنا وشابولا، لقد شرح لـه مفوض المنطقة أوامر فيكاتو، ويحب الذهاب بعد فيذنا إلى جيربونه انطلاقاً من سيربه..‏

 

ولكن هل عساه سيصل المنزل هناك؟ ألم يكن مشدوداً إلى خيط يسحبه، ورويداً رويداً يقترب المنزل منه؟ وإذا وصل ألن يسمع كلمات الألمان وهي تتردد، وهم ثاوون حول نار موقدة، ومنهمكون في التهام بقايا الكستناء؟ ها هو ذا بيندا يتخيل نفسه وقد انتهي إلى منزل الرفاق ليجده وسط الحريق متصحراً، يدخل المنزل، إنه خاو، ولكن في زاوية من زواياه يثوي جندي معتمراً خوذة هائلة تملأ المكان، إنه غوند، عيناه مستديرتان ومضيئتان كعيني غيرو، ابتسامة الأسنان البيضاء تظهر بين شفاه متضخمة، يشير لـه غوند أن أجلس.. ربما جلس بيندا...‏

 

ها هو ذا، بعد مائة متر، ثمة ضوء إنهم هم، من هم؟ داهمته الرغبة في العودة والإياب إلى الوراء، الرغبة في القرار، كأن كل أخطار العالم تكمن هناك في منزل بين كاستانيا، لكنه يواصل المسير، الوجه صارم ومغلق مثل قبضة يد.. الآن يبدو لـه أن النار تقترب بسرعة مفرطة، تتحلق حوله؟ هل يبتعد، هل يهرب؟ لكنه كان واقفاً في مكانه لا يريم، إنها نار المعسكر ولم تطفئ بعد، بيندا يعرف ذلك جيداً.‏

 

-من هناك؟‏

 

يصرخ الحارس ثم يردف:‏

 

-هذا أنت يا بيندا، هل من أنباء جديدة؟‏

 

-أتنام يا فيندّتا؟‏

 

هاهو ذا بيندا داخل المنزل حيث ينام الرفاق، هذا طبيعي، ومن عساهم يكونون إن لم يكونوا رفاقه؟‏

 

-الألمان وصلوا إلى برفيا، والفاشيون في موليني، ارحلوا، عند الشفق يتوجه الجميع إلى بلّيفرينو.‏

 

فيندتّا الذي استيقظ للتو، والوسن ما زال يداعب أجفانه، قال:‏

 

-لتتحرك قدماً..‏

 

ثم ينهض. يخبط كفيه ويصرخ:‏

 

-استيقظوا لقد أزف أوان الرحيل.‏

 

يتحلق بيندا حول قدر من الكستناء يغلي، يقشر الغشاء الذي يحيط بالثمرة. يهرع الرجال، يوزعون المهام فيما بينهم، يهيئون متاع الرحيل. يقول بيندا بينما ينصرف:‏

 

-إني ماضٍ إلى سيربه، ثم إلى جيربونته...‏

 

يرد رفاقه:‏

 

-تشجع يا بيندا.‏

(1) ريجينا: اسم فتاة، ويعني الملكة..‏

 

 

بلد خائن

 

للكاتب: إيتالو كالفينو ـ ترجمها عن الإيطالية: معن مصطفى الحسون

إبان رقاده، حلم بأن بهيمة ما، ربما كانت أفعى:عضت ساقه. استيقظ، كانت الشمس عالية جداً، وقد ظلت عينا توم زائغتين، وأنى استدار ببصره يرى أشعة الشمس وهي تتغلغل عبر أغصان الصنوبر. ثم مالبث أن تعرف على المكان الموجود فيه، حيث كان قد تهالك تعباً عندما بدأت ساقه الجريحة تؤلمه. وقد كانت العتمة ليلة أمس داكنة جداً لذا فقد يئس من العثور على دربه واللحاق برفاقه. للوهلة الوهلة نظر إلى رجله. كان ثمة بقعة داكنة، سوداء، وقد انتفخ الجلد حولها..‏

 

في الحرب، يبدو جرح كهذا أمراً لا قيمة له. عندما تخترق طلقة ما الفخذ، دون أن يحس المرء بأي ألم في اللحظات الأولى لقد ارتكب خطأً فادحاً ليلة أمس، فبينما كان يتراجع، ويمضي عبر الغابة قائلاً: "لا، لا، أستطيع السير جيداً بمفردي وبالفعل فبادئ ذي بدء كان عرجه خفيفاً، وقد داهمهم هجوم الأعداء المفاجئ، فتفرق الرفاق وتخلف توم، لم يكن بمقدوره الصراخ، وهكذا فقد تاه وحيداً في الغابة إلى أن أزف المساء.‏

 

كان قد سقط فوق أشواك ثمار الصنوبر المتعثرة، ومن يدري كم من الوقت ظل راقداً. وهكذا عندما أستيقظ ثانية كان قد مرَّ يوم كامل. كان يشعر بالحمى، ولم يتعرف على المكان الموجود فيه..‏

 

نهض، اتكأ على غصن كان قد اتخذه كعصا ليلة أمس، لم يدرِ في أي اتجاه سيمضي وقد حجبت الغابة مجال الرؤية عنه. فوق قمة الجبل كان ثمة صخرة رمادية، صعد توم متهالكاً من التعب، شاهد الوادي يمتد أمامه سحيقاً. وتحت السماء الفسيحة، بالضبط في الوسط، هناك بلد، مرتفعٌ على قمة هضبة، ومحاط بدوالي العنب الناحلة. ثمة طريق ترابي يمتد من البلد إلى أعلى الجبل، كل شيء صامت وأخرس. لا يكاد يطل أي كائن في البيوت أو في الحقول، ولا أثر لطائر يحوم في الهواء، الشمس تقرع الطريق الترابي الذي بدا وكأنه قد أخلى كل شيء للوزاغات(1).لا أثر يدل على وجود الأعداء، حتى ليتخيل للمرء أنه لم تجر أية معركة ليلة أمس.‏

 

لقد سبق لتوم أن مرَّ بهذا البلد، منذ عدة شهور خلت. حيث كان عدد المجاهدين آنذاك ضئيلاً، ولم يتوقفوا آنذاك في هذا البلد، لم...؟ حسناً لا يبدو هنا أي أثر لوجود أعداء، لكن البلد مربوط إلى عدة طرق أخرى تتفرع منه وتمضي إلى حيث يكمن الأعداء بعيداً مدججين بكامل قوتهم، لذا يمكن أن يكون ترك هذا البلد خالياً من القوات مجرد مصيدة.‏

 

ولكن في الأيام السعيدة الخوالي، وعندما كانت كل المنطقة تحت سيطرة المجاهدين، كان متاحاً للمرء التجول في البلدان بحرية تماماً كما لو كنت في منزلك يتذكر توم يوماً سالفاً أمضاه في هذا البلد، يتذكر صبايا يحملن الورود، صحونا من المأكولات الشعبية تتناثر على طاولة، ورقصاً في الهواء الطلق، وجوهاً أليفة وغناءً. قال في سره، سأمضي إلى هذا البلد، سأجد من يقدم العون لي، ويساعدني في العثور على رفاقي.‏

 

ولكن في كل الأحول، ثوت في ذاكرته جملة كان قد سمعها من أحد الرفاق، إنه فولمينه، جملة لم يكد يعرها آنذاك أيما اهتمام، فخلال الحفلة أوحى فولمينه له بشيء ما يتعلق بهذا البلد، قال بأنه كان أمراً محبباً لديه لقاء الناس في هذا البلد، إلا أنهم كانوا غير مرئيين. ثم قهقه فولمينه بلحيته البيضاء، وتلمس بأنامله أخمص بندقيته. لكن فولمينه كان قد دأب على الحديث بهذه اللكنة، وقد أبعد توم عن رأسه تلك الذكرى. خرج من الغابة، وانحدر عبر الدرب.‏

 

الشمس مضيئة، لكن كثافة الضياء واللهيب كانت قد ازدادت. غيوم صفراء تحترق عبر السماء. تقدم توم مجاهداً في عدم ثني ركبته لئلا يحس بألم رجله. سال العرق من جبهته متلهفاً للوصول بأسرع ما يمكن، ولكن لا أثر لأحد ما في هذا الموطن، لا إشارة لحياة ما. هذا البلد هو عبارة عن نوافذ مغلقة وحسب.‏

 

فوق الجدار الذي يحيط بالحقل عُلق إعلان معنون بحظر، كان يقول: "يعد القائد العسكري الألماني كل من يتعاون معنا في إلقاء القبض على مجرم متمرد حياً أو ميتاً... "مزق توم الإعلان بعصاه، لكن الأمر تطلب منه بذلاً لمزيد من الجهد، لأن الإعلان كان ملتصقاً بالجدار جيداً.‏

 

خلف الجدران ثمة شبكة من الأسلاك المعدنية، هناك دجاجة تنقر التراب تحت فيء شجرة تين، إذا وجدت دجاجة فهذا يعني أن هناك أناساً، يحدق توم عبر الأسلاك المعدنية، ومن خلال أوراق الكوسا التي تصعد عالياً. يعثر على وجه ثابت الملامح، أصفر اللون، كأنه ثمرة كوسا، كان يحدق فيه. إنها عجوز متدثرة بثياب سوداء. أومأ توم. إيه: ناداها، لكن العجوز والدجاجة اختفيا في مكان ما، وسمع توم صرير قفل يدوي.‏

 

يتابع توم، يزداد ألم ساقيه، يكاد يحس بالغثيان، يصل إلى مدخل مخزن حبوب، يدلف نحو الداخل، وفي الوسط ثوى خنزير سمين لا يريم. يتقدم ببطء شديد، إنه عجوز، تنسدل قبعته فوق عينيه، ويرتدي معطفاً رغم أن الحر كان قائظاً. يتبعه توم، يتساءل:‏

 

ـ اسمع هل ثمة أي أثر للألمان في هذه الأنحاء...؟‏

 

يتوقف العجوز، لا يرفع وجهه، بل يخفض رأسه كما لو أنه يقول في سره، ألمان؟‍..‏

 

أنا لا أعرف، لم يسبق لي أن شاهدت الألمان.‏

 

يقول توم:‏

 

ـ كيف ذلك..؟ ألم تر الألمان ليلة البارحة..؟ ألم يصلوا إلى هذه الناحية، ألم تجر أية معركة ليلة أمس.؟‏

 

يدلف العجوز داخل معطفه، يكرر:‏

 

ـ أنا لا أعرف، لا أعرف شيئاً البتة.‏

 

يكاد توم يفقد صبره، يشده الجرح، يحس بالعضلات تتلوى، ومن ثم يجد نفسه ثانية في العراء.‏

 

تصعد الطريق عبر البيوت، ربما يبدو أمراً خطيراً المضي قدماً في هذا البلد، ولكن توم حذر، ومسلح على الدوام، كما أن ذكرى تلك الحفلة القديمة تتأوبه، وتجعله يفترض وجود أصدقاء هنا بين القاطنين.‏

 

ها هو ذا، عند زاوية أول بيت، ينبجس رجل. كان بديناً، رقبته القصيرة حمراء اللون، يتبعه توم، يصعد سلماً خارجياً.‏

 

ـ اسمع.‏

 

يقول توم، لكن الرجل لا يستدير خلفه، يمضي توم وراءه، وينجح في منعه من إغلاق الباب.‏

 

يقول الرجل البدين:‏

 

ـ ماذا تريد؟.‏

 

يجد توم نفسه مقابل طاولة، ثمة حساء ساخن، وعائلة مكونة من ثلاثة نساء حسنات الهندام. ويافع ناحل، ذو شفتين شاحبتين. الجميع يحمل الملاعق في يديه، يقرر توم، ويتقدم وهو يقول:‏

 

ـ صحن حساء، لم أذق منذ يومين لقمة زاد، وأنا جريح.‏

 

تتلاحق أنظار النسوة الثلاث واليافع الناحل بين توم ورب العائلة الذي كان يتأفف، ثم يرد بعد لأي:‏

 

ـ إنه ممنوع، لا نستطيع، ثمة أمر الحظر.‏

 

يقول توم:‏

 

ـ أمر الحظر؟ ولكن من أي شيء تخشون؟ لا يوجد ألمان هنا في البلدة، وقد مزق أمر الحظر.‏

 

يكرر الرجل السمين:‏

 

ـ إنه ممنوع..‏

 

يخطر بباله توم أن يسدد بندقيته صوبه، ولكنه يشعر بضعف حاله، فيتلكأ على عصاه، راغباً في الثواء، ولكن لم تكن ثمة أية مقاعد خالية داخل الغرفة. وبينما يحدق حوله، يلاحظ على أحد الجدران رزنامة هولندية مخفية تقريباً، كان ثمة لوحة تمثل حصاناً، حصاناً قوياً وجامحاً، ومن على السرج يتدلى حذاء فرسان، وفوقه بزة عسكرية لرجل بدين مزين بالأوسمة. أما باقي اللوحة فقد كان مخفياً، يرفع توم الرزنامة فيشاهد خدود موسوليني وخوذته العسكرية، يتساءل:‏

 

ـ وهذا، ماذا يفعل هنا؟‏

 

ـ آه، هذا، إنها صورة قديمة، ولم نستخدم هذه الرزنامة منذ أمد.‏

 

يجيب السمين وهو يحاول إخفاء اللوحة، وفي الوقت نفسه، الاحتفاظ بها سليمة. يقول توم كمن يحادث نفسه:‏

 

ـ أنا لا أفهم، لقد استقبلنا الناس هنا منذ عدة أشهر استقبالاً حافلاً، المعكرونة، الرقص، الزهور، ألا تذكرون؟‏

 

يرد الرجل:‏

 

ـ مه، نحن لم نكن في البلدة آنذاك إذاً.‏

 

لم تتمالك امرأة من النسوة نفسها فهتفت:‏

 

ـ المعكرونة، لقد صنعناها من صحنينا نحن، ثلاثون كيساً...‏

 

لكنها قطعت حديثها عندما حدّق فيها الزوج بنظرة صارمة... عندئذٍ يتذكر توم حديث فولمينه.‏

 

يتساءل:‏

 

ـ ولكن، أين أصدقاؤنا....؟‏

 

يجيب البدين:‏

 

ـ مه، لا أعرف، هناك العديد من العائلات، وقد رحل معظمها في الآونة الأخيرة، أيها الشاب يمم شطر البلدة، قدم نفسك للعمدة، وهناك يمكنهم الاعتناء بك...‏

 

ـ العمدة...؟‏

 

ربما رغب توم في أن يقول، سأثقب معدة عمدتكم بطلقة، لكن الكلام خانه، كان الرجل البدين يدفعه نحو الأمام، دون أن يكاد يحس، يريد إخراجه من الباب..‏

 

ـ طبيب، أنا بحاجة لطبيب، إني جريح.‏

 

يقول البدين:‏

 

ـ أجل. أجل. الطبيب، ستجده في الساحة، إنه يتواجد هناك في هذه الساعة...‏

 

على كلٍ كان قد أخرجه خارج البيت، واضعاً إياه عند السلالم، ثم أغلق الباب خلفه. يجد توم نفسه على قارعة الطريق، ثمة القليل من الناس، كانوا يتحدثون بصوت خافت، هامسين في الآذان تقريباً، لكنهم يقطعون حديثهم غب رؤيتهم إياه، ثم تتيه أبصارهم. يرى توم كاهناً طويلاً، يرتدي ملابس ملونة بالأبيض والفضي، كان يتجاذب الحديث مع امرأة قصيرة القامة وأنيقة، وقد بدا لتوم أنهما يشيران إليه بإصبعهما.‏

 

بالنسبة لتوم؛ خيل له وهو يتقدم وهو يعرج متهالكاً من التعب أنه يرى الناس نفسها التي سبق له أن التقاها فيما مضى، وهذا الكاهن ذو الوجه الفضي يظهر ثم يختفي، وهو يهمس في كل أذن فيها، يشعر توم رويداً بأن الناس أخذت تغير موقفها منه، هاهم يحدقون فيه باهتمام، يبتسمون، إلى أن تقدمت منه تلك المرأة القصيرة التي كانت تحادث الكاهن وهي تقول:‏

 

ـ ياللفتى المسكين، لا تكاد قدماك تسندانك، تعال معي....‏

 

للمرأة وجه نمس وقد خيل لتوم أنها ربما كانت معلمة تحمل آلة تسجيل في يدها، وترتدي هنداماً أشبه بالأزياء الرسمية.‏

 

ـ لقد أتيت لتعرّف بنفسك، هذا جيد...‏

 

قالت المعلمة، وهي تحاول نزع بندقية توم عن كتفيه كمن ينزع عن كاهله ثقلاً ما. لكن توم يتشبث بحزام البندقية بيده، ثم يتوقف هنيهة وهو يقول:‏

 

ـ ماذا..؟ أقدم نفسي! لمن؟‏

 

فتحت المعلمة باباً بدا أنه باب صالة. كانت المقاعد مكدسة في زاوية ما، ولكن على الجدران يلاحظ المرء أنه ما زالت لاصقة صور رومانية، انتصارات أباطرة، خرائط جغرافية لكل من ليبيا وأبيسينا، تقول المعلمة وهي تدفعه نحو الداخل:‏

 

ـ اجلس هنا في المدرسة، وسنقدم إليك الحساء في الحال:‏

 

يدفعها توم وهو يهتف:‏

 

ـ طبيب، يجب أن أمضي في الحال إلى الطبيب.‏

 

في الساحة، وقف رجل صغير ذو ثياب سوداء، يحمل صليباً أحمر كبيراً، ذا قبضة بيضاء..‏

 

ـ أنت الطبيب، أليس كذلك؟‏

 

يقول توم، ثم يردف:‏

 

ـ أريدك في أمر..‏

 

يفغر الرجل القصير فاه/فمه، وهو يحدق حوله حائراً، لكن الناس القريبين منه يدفعونه، يهمسون في أذنيه، يتقدم الطبيب نحو توم، لا يشير إلى الصليب الأحمر، ويقول:‏

 

ـ أنا محايد، لا أنتمي لهؤلاء أو أولئك، إني أؤدي واجبي وحسب.‏

 

يقول توم:‏

 

ـ نعم، نعم، لا يهمني الأمر كثيراً..‏

 

ثم يتبعه عبر الساحة نحو بيته، وقد تقدم الناس خلفهما يتدافعون، تاركين فرجة بينهم وبين الطبيب وتوم، حتى جاء رجل ذو هيئة صارمة، وهو يقطر غضباً، كان يرتدي سراويل منتفخة، ثم يشير إلى الناس أن دعوا الأمر لي.‏

 

يلحق توم بالطبيب إلى العيادة، تفوح رائحة الأسيد، كانت أدوات الطبيب مكدسة ومبعثرة هنا وهناك بفوضى، يفتح الطبيب النوافذ، على حين يقفز قط من فوق سرير الطبيب.‏

 

ـ هنا مدّ ساقك هنا.‏

 

يقول الطبيب وهو ينفخ متقدماً نحو توم، يعض توم على شفتيه كيلا يصرخ، بينما ينهمك الرجل القصير بيدين مرتعشتين يجس الساق. يقول:‏

 

ـ التهاب كبير، التهاب كبير.‏

 

يبدو لتوم أن الأمر لن ينتهي أبداً، إلا أن الطبيب يتناول لفافة ورق طبي، وبدلاً من أن يضمد بها ساق توم، يبدأ بلف كل شيء بالورق. حول السرير الطبي، ساعد توم، لكن الأخير يمزق كل شيء بيده وهو يصرخ:‏

 

ـ ولكن، هل أنت مخمور، دعني، سأفعل كل شيء بمفردي.‏

 

وبعد هنيهة ينتهي من تضميد الفخذ بعد أن لف الورق الطبي وأحكمه جيداً. ثم يقول:‏

 

ـ إليّ بمضادات الحمى.‏

 

ولما كان الطبيب مازال غارقاً في فوضى الأدوات والأدوية المنتشرة في كل مكان، فإن توم يسارع يمدّ يديه، يقرأ اسم علبة الدواء، يتناول قرصين منه، ثم يضع علبة الدواء في جيبه.‏

 

يتناول بندقيته وهو يقول:‏

 

ـ شكراً على كل شيء.‏

 

ثم يخرج. لكنه يشعر بالدوار، وقد كاد يهوي من أعلى السلالم. لو لم يتلفقه ذلك الرجل ذو السراويل الفضفاضة، وهو يقول مبتسماً:‏

 

ـ إنك بحاجة للخلود إلى الراحة، لابد أنك متهالك من التعب والمرض، تعال إلى بيتي.‏

 

ثم أشار بيده خلف سياج الحديد، كان ثمة بناء أشبه بنصف قصر، ونصف ثكنة، تتضبضب رؤية توم، لكنه ينساق وراءه.‏

 

يغلق السياج خلفهما تلقائياً، ورغم أن سمة البناء المعمارية قديمة، إلا أنه كان مزوداً بمغاليق أمان.‏

 

في هذه اللحظة يصّاعد صوت دقات ذات إيقاع متتال، يأتي من برج الكنيسة دقات متشابهة، بطيئة كما لو أنها تنوح على ميت، لكن صوت الدقات كان أشبه برسالة تلغرافية، يقول توم في سره وهو يركز ذهنه وأحاسيسه في هذا الصوت المتواتر، ولكن هل هذه رسالة، ثم يسأل الرجل:‏

 

ـ ولكن ما هذا..؟ لماذا يقرعون الأجراس على هذا النحو. وفي هذه الساعة بالضبط؟‏

 

يجيب الرجل:‏

 

ـ لا شيء، لا شيء البتة، أسقف الكنيسة، وهذه إشارة على ما أعتقد إلى شيء ما.‏

 

كان الرجل قد أدخل توم إلى ما يشبه الصالة الفسيحة، كانت صالة جيدة، ذات أريكة ومقاعد. وعلى الطاولة كانت قد هُيئت زجاجة وكؤوس، يقول الرجل:‏

 

ـ تذوق هذا النبيذ..‏

 

وقبل أن يعترض توم، رغم أنه كان يشعر بالحاجة لذلك، صب الرجل له كأساً. قال وهو يخرج.‏

 

ـ المعذرة سأهيئ الآن الغذاء.‏

 

ترك توم جسده يستلقي فوق الأريكة، كان رأسه يدور مع إيقاع رنين جرس الكنيسة، دون، دان، دين، دون، دان، دين. ثم شعر بنفسه تدخل في قماش رخو، لكنه دون قاع.‏

 

حدق في بقعة سوداء داكنة على سطح البوفيه المركون أمامه، تتسع البقعة السوداء، تغدو دون أطراف أو حدود، يجاهد توم في مقاومة النعاس، وهو يركز بصره على هذه البقعة السوداء التي كان لها أبعاد وامتدادات طبيعية. كانت عبارة عن شيء قصير ومستدير، وها هو ذا يجاهد في سبيل فتح أجفانه. لكي يميز ما عساها تكون، إنها أشبه بغطاء رأس، مدور وأسود اللون، منسوج من خيوط الصوف، إنها عمامة زعيم، وقد وضعت تحت ناقوس من الزجاج أعلى البوفية.‏

 

هاهو ذا توم يفلح في النهوض من على الأريكة، في هذه اللحظة، يهب الهواء كأنه طنين بعيد. يرهف السمع، يخيل له أنه ثمة حافلة تمر من جهة ما، حافلة واحدة أو قافلة من الحافلات، يتصاعد الصوت ويقترب شيئاً فشيئاً. يجاهد توم في التغلب على الاضطراب الذي داهمه بغتة. جرس الكنيسة يدق، وتنساب دقاته مع دوي الحافلات القادمة، يهتز الزجاج والنوافذ. أخيراً، يخرس الجرس.‏

 

ييمم توم شطر النافذة، يرفع الستارة، كانت النافذة تطل على رحبة واسعة، يشاهد توم صانع حبال يعمل مع صبيانه، لا يفلح توم في رؤية وجهه جيداً، بدا أنه عجوز من أولئك العجائز القساة، ذوي الشوارب السود، الصامتين، يتحركون بخفة. كان الجميع منهمكين في شد الأخشاب الرقيقة، ربما يصنعون حبلاً.‏

 

يستدير توم، يسارع نحو الباب ينحدر، يشاهد في مخرج المنزل ثلاثة أ بواب موصدة، اثنان منها مقفلان بالمفاتيح، أما الثالث فكان مخرجاً واطئاً يفضي إلى سلا لم مبنية من الصلصال، العتمة داكنة، يغذ توم خطاه مسرعاً. يجد نفسه بغتة وسط اسطبل عريض، يشاهد في المعالف تبناً عتيقاً. لم يكن ثمة مخرج واضح من الإسطبل، يتصاعد ضجيج محركات الحافلات، لابد أنها حافلات عسكرية تصعد في غياهب غيمة من الغبار. تنتهي إلى حيث الدرب المؤدي إلى البلد. هاهو ذا توم يقع في المصيدة.‏

 

عندئذٍ يتناهى إلى سمع توم صوت ناعم يناديه:‏

 

ـ أيها المجاهد، أيها المجاهد.‏

 

ومن خلف أكداس التبن تظهر صبية صغيرة ذات شعر مضفور. كانت في يدها تفاحة حمراء.‏

 

تقول:‏

 

ـ خذ، كل التفاحة، وتعال معي..‏

 

ثم تشير له خلف أكداس التبن، حيث يظهر جدار، يخرجان، يجدان نفسيهما وسط حقل زراعي مملوء بالزهور الطبيعية. لقد أمسيا خلف البلد، وفوقهما ينهض جدار حزين لقصر عتيق، تسمع أصوات الدبابات لابد أنها وصلت آخر المنعطف.‏

 

تقول الطفلة:‏

 

ـ لقد أرسلوني لأرشدك إلى طريق الهرب..‏

 

ـ من...؟‏

 

يقول توم وهو يعض التفاحة، لكن الطمأنينة كانت قد دلفت إلى دخيلته، طمأنينة إزاء تلك الطفلة، حيث يمكن الوثوق بها بعينين مغمضتين..‏

 

ـ كلهم، كل من نستطيع نحن رؤيتهم في البلد، إننا مختبئون، وإلا لأدخلوا الجواسيس بيننا، لي شقيقان من المجاهدين، هل تعلم.‏

 

ثم تضيف:‏

 

ـ هل تعرف طرزان، هل تعرف بوفيرا؟‏

 

يقول توم:‏

 

ـ نعم.‏

 

ثم يفكر في دخيلته، "كل بلد، حتى ذلك الذي يبدو معادياً، يحمل وجهين، وفي لحظة ما ينفجر الوجه الطيب، لقد وجد على الدوام، ولكن لم تكن أنت قادراً على رؤيته ولم تكن تؤمن بالتفاؤل والأمل.‏

 

ـ هل ترى هذا الطريق الذي يدلف بين دوالي العنب..؟ أنحدر هناك، إنه مخفي، ثم أعبر السياج سريعاً قدر ما تستطيع، تنبه، إن السياج مكشوف، أدخل الغابة، تحت شجرة سنديان ضخمة ثمة كهف، ستجد في هذا الجحر كل ما يلزم من مأكل، ستمر بك الليلة فتاة، إنها تدعى سوزان، إنها تقوم بعمل الساعي، ستقودك إلى حيث رفاقك، أي المجاهدين، امضِ، امضِ سريعاً.‏

 

ينحدر توم عبر دوالي العنب. لم يعد يحس بألم ساقه، وخلف السياج تمتد الغابة الكثيفة معتمة، لونها أخضر وأسود، حيث لا تفلح أشعة الشمس في اختراقها، وكلما تصاعد مرور المحركات القادمة من البلد، كلما ازدادت عتمة الغابة وكثافتها، يقول في نفسه:‏

 

"لو أستطيع أن ألقي بقلب التفاح في التيار، سأنجو.‏

 

تشاهد الطفلة ذات الضفائر توم يعبر السياج بعد الحقل الزراعي، مختبئاً خلف جدار ثم يسقط قلب التفاحة في بحيرة صغيرة تنتصب وسطها أعواد القصب، عندئذٍ تصفق ثم تمضي. ‏

 

الهامش:‏

(1) ـ الوزاغة، أو وزغة، هي أنثى الضب........‏

 

أضيفت في 07/01/2009/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية