أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: مصطفى حمزة-الإمارات العربية المتحدة

       
       
       
       
       

 

منوعات أدبية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

من مواليد مدينة اللاذقية 1959

-إجازة في اللغة العربيّة –  جامعة تشرين باللاذقية 1981.

-دبلوم التأهيل التربوي –  كلية التربية – جامعة حلب 1989.

-درّست اللغة العربيّة في ليبيا – طرابلس.

-أعمل مدرّساً للغة العربية في وزارة التربية بدولة الإمارات منذ 1994، ولا أزال.

-أكتب القصّة القصيرة، والشعر، ومقالة النقد الأدبيّ.

-نشرتُ عدداً من المقالات في 'المجلّة العربيّة' السعوديّة، أذكر منها هذه العناوين:

(الطفولة بين الأميريّ والبدويّ) و (أحلى العيون في عيون الشعر) و(طيف الحبيب في الشعر العربي) وغيرها.

-لي ديوان شعر مخطوط بعنوان 'بوح القلب' ومجموعة قصصية مخطوطة بعنوان 'نظرة'.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

قصص قصيرة جدا

  2ًقصص قصيرة جدا

 3ًقصص قصيرة جدا

 4ًقصص قصيرة جدا

فتة الحمص

نظرة

نور

الله يرحمه

صحوة

منى

 

قصص قصيرة جداً4

 

حَنين

أظهر السَبْعينيُّ  أنّه يُتابع نشرة أخبار المساء . ولمّا تأكّد أنّ زوجته العجوز اسـتغرقت في النوم أمسك جهاز التحكّم ، وراح يبحث عن " توم وجيري " !

 

حَسْرَة

ما إن استوى الرجلُ الخَمْسـينيُّ فوق كُرسيّ الحِلاقَة حتى أغمض عينيه بإصرار ..

كان مشطُ الحلاّق الصغيرُ يلهو بِطلاقَةٍ على ما تبقّى من شعر رأسه !

 

تَوْبة

كلّ خمسٍ وعشرين دقيقة تقريباً كانوا يدفعونَ بمريضٍ خارجَ غُرفةِ العمليّاتِ وهـو   يُردّدُ عِبارةً بعينِها ؛ قبلَ أن يأخذه ذووه إلى غُرفتِهِ في المستشفى . ورغمَ عِلْمي بأن عمليّةَ قسـطرةِ القلبِ باتتْ مُيسّرةً ومضمونةَ النجاحِ ؛ إلاّ أنّني كنتُ قلِقاً جدّاً على أخي الخمسينيّ . ثمّ رأيتُهم يُخرجونه نصفَ مخدّرٍ وقد أنهَوا عمليّته ، فهُرِعْتُ إليه لأســـتلمه منهم ولمّا دنوتُ من وجههِ لأقبّله سمعتُهُ يتمتم بالعبارةِ ذاتِها : " توبة .. لن أعودَ للتدخينِ بعدَ اليوم " !

 

تَفَرُّد

 ما إنْ قُرعَ جرسُ استراحة الظّهيرة حتّى تركَ العاملون تحتَ الشمسِ القائظة ما بأيديهم وتسابقوا إلى غُرفتهم الجماعيّة ،  وافترشـوا الأرضَ ، ثم بدأوا يتناولونَ غَداءهم البسيط بنهمٍ شديدٍ ويُطفئون حريقَ قُلوبِهم بالماء البارد ..

إلاّ هو ، فقد انزوى في رُكن الغرفة ، وجلس مُسـتنداً إلى الحائط ، ثم بدأ يحلم بحياةٍ أخرى !

 

إدمان

أدمنَها منذ كانَ طالباً في الجامعة فأسَرَتْ حِسّـهُ وعقلَه وساعاتِهِ ودقائقَهُ ! وضربَ في الأرضِ شَرْقاً وغرباً وهي معه ، وهو أسيرُها !! وعجزت زوجتُه بِخُلُقِها ورِقّتِها وبأولادِهما أن تُخفّفَ عنه مِنْ سـطوتِها !

واليومَ ، وقدْ غزا الملحُ فلفلَ رأسِهِ ، مازالَ كُلّما شـمَّ طِيباً كَطِيبِها ، أو سـمعَ اسماً يُشابه اسمَها أو كانَ منه مُدانِياً ؛ يثورُ وَجيبُ قلبِهِ ، وتفِرّ من عينيهِ الدّموعُ !

 

المَرْحوم

ماتَ أبو سعيد في الخامسة والخمسين ، وترك ثروتَهُ الضّخمةَ التي ورثها عن أبيه تاجرِ الأخشاب . لم يتحقّق ما كانَ يُردّده - حتّى الخَفْقَةِ الأخيرةِ من قلبه- أمامَ لائِميهِ على بُخله الشـديد : " أبي عاشَ أكثر من اثنتين وثمانين سنة ، ما أدراكم ، قدْ أعيشُ مثلَهُ وأكثر ! من أين سأصرف حينَها ؟ من جُيوبكم أنتم ؟!  " وما لبثتْ نِعَمُ الله أن سَطَعَتْ عَقِبَ وفاته على زوجته وَوَلَدَيْهِ الشّابّينِ ، وعلى بيتهم : فاشترى سعيد وأخوه محلاً تِجاريّاً في وسط المدينة  وأحْيَتْ أم سعيد البيتَ العتيق وأثاثَهُ ، واختفتْ من البيت لأول مرة منذ ثلاثين سنة رائحةُ العُفونة !

لم يستغرب أحدٌ ممّنْ زارهم بعدَ ذلك أنّه لمْ يرَ ولو صورةً صغيرةً واحدةً مُعلّقةً على الجدار للمرحوم !

 

رِهـانٌ

تراهنتِ المُمّرِّضتانِ المُناوبتانِ على مِهْنَةِ المريضِ الجديدِ الذي هُرِعَ بهِ فوراً إلى غُرفةِ الإسعاف !أمرَ الطبيبُ بإجراءاتٍ سريعةٍ لهُ : صورةَ أشعّةٍ ظليلة للمعدة والاثني عشريّة ، تحليلَ دمٍ وتحليلَ بوْلٍ . ولمّا قامَ بِقِياسِ ضـغطِ قلبِـهِ أخافه الرقم  مئتان على مئة ! وبعدَ قليلٍ وردته النتائج : في الكولون السّيني ثمّة قرحةٌ مُزمنة نازفة  ومستوى السّكّر أربعمئة !

وكادت الممرضةُ الأولى تطيرُ من الفرح ، لقد كسبتِ الرّهانَ .. إنّه مُعلّم !!

 

 رَدٌّ

نَشَرَ في الموقعِ الأدبيّ واسعِ الانتشارِ قصـيدتَهُ الغَزَليّةَ العَصْماءَ ؛ التي حلّقَ بها واصفاً محاسنَ حبيبته التي مَلكتْ عليه قلبَهُ . وفي اليوم التالي شعر بنشوةٍ غامرةٍ وهو يقرأ التعليقاتِ التي تمدحُ شاعريّتَهُ ، وتُثني على القصيدةِ وصُورِها الرائعةِ ولكنّه توقّفَ طويلاً طويلاً ؛ وهو يُفكّرُ في هذا الردّ الذي جـاءه من غزّة بفلسـطين : " ألا تخجلُ ؟! "

أضيفت في24/02/2009/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب

 

 

 

قصص قصيرة جداً3

نَخْوَةُ المُعْتَصِمِ

 

 انزعجَ وهو يُتابع من التلفاز آخرَ الأخبارِ عن قصفِ الصهاينةِ لِغَزّة . وانزعجَ جدّاً حينَ رأى طِفلاً فَقَدَ بصرَهُ بقنابل الفوسفور الحارِقة . وشهَقَ لمّا شاهدَ أباً يرفعُ من بين أنقاضِ بيته بقايا جسدِ طفله المُمَزّق . ونزلت دمعتان على خدّيهِ وهو يستمعُ إلى طفلةٍ في المستشفى تروي للمُراسِلة كيفَ فقدتْ ساقيْها بِقَصْفِ مدرستِها .

وفجأةً ، أوقفَ كُرسيّه الهَزّازَ وانتَفَضَ غاضِباً بعدَ أنْ رَشَفَ من فنجان القهوة الذي قدّمتهُ إليه الخادمة ؛ فوجدَ أنّ سُكّرَهُ قليل !!

 

رجُلٌ ، والرّجالُ قليلُ !

 

رَفَعَ رأسَهُ وأخبرني بِحَزْمٍ وجَزْمٍ : ضَرَبْتُها . نَعَمْ ضَرَبْتُها لأعلّمَها كيفَ تكونُ الطّاعَة !

قلتُ في نفسي : وأخيراً فَعَلَهـا ، وقرّرَ أنْ يُصبحَ  " رجلاً " ! سـألتُهُ لأتأكّدَ ممّا سمعتُ : ضَـرَبْتَ مَنْ ؟ قالَ : ابنتي " مُطيعة " !! رَجَوْتُها أن تذهبَ للمطبخ وتقلي لي بيضتين لأنني ميّتٌ من الجوع فلم تكترثْ لي وظلّتْ تُحدّقُ في الحاسوب ، وأمُّها جالسة تسمع وترى! فتناولتُ حذائي ورميتُها به  فأصبتُ قدمَها اليُسرى ، فقامَتْ أمُّها و ..

وقبلَ أنْ يُتابع ، عرفتُ لماذا جاءني في هذه الساعة المتأخّرةِ من الليلِ لينامَ عندي .

 

 

الغلطة الأولى ... والأخيرة

 

 

كَتَبَ لها : " أسعد الله صباحكِ بكلّ أنواعِ الورود  قبلَ قليل ذهبتْ – ذهبَ اللهُ بروحِها – في زيارةٍ صباحيّة . مشـتاق ، غداً السـبت أكلّمكِ من المكتب قُبلاتي " ثم اختار : إرسال ، بحث  موافق ..

جاءه الردّ بسرعة فاقت كلّ توقّعاته : " أنا عائدة إليكَ فوراً .. أيّها الخائنُ الجبان !! " قفز قلبُهُ من صدره !!فتحَ الرسائل المُرسَلَة .. يا لطيف !! اختار من لائحـة الأسماء " زوجتي " بدلاً من " زوزو " !!

 

شَخير

 

قال لزوجته: وجدتُ حلاًّ لهذه المشكلة التي تُعكّر أيّامَنا !  تسبقينني أنتِ إلى النوم ، وأنا لن ألجأ إلى السرير إلاّ بعد أن أتأكّد من استغراقك في نومِكِ ، وهكذا لا تسمعين شخيري ، وتنامين دون إزعاج .. ما رأيك ؟ وافقت بسرعة .

في صباح أول ليلة على الاتفاقيّة كانت ترجوه أن يعودا كما كانا : يغفو هو أولاً ، ثم تُحاول بعدُ أن تنام  .. لأنها اكتشفت أنّ شخيره الذي يمنعها من النوم أول الليل ، أخفّ وألطف بكثير من شخيره الذي يجعلها تهبّ مرعوبةً مذعورةً وهي في عزّ نومها !!

 

عَطّاس

 

عَطَسَ الأولى ، فَشَمّتَهُ : " يرحمُكم الله " ، وعَطَسَ الثانيةَ فَشَمّتَهُ ، ثم عَطَسَ الثالثةَ فَشَمَتَهُ ولمّا عَطَسَ العاشرةَ لَعَنَ الساعةَ التي جمعتهُما على مقعدٍ واحدٍ في هذا الباص !!

 

 

فأر

 

صاحتْ ليلى خائفةًَ : ماما .. ماما .. فار .. فار  أسرِعي !

فهبّتْ إليها أمُّها مُهروِلةً ، ومعها ضيوفُها جميعاً  وقد تناول كلٌ منهم ما طالتْهُ يدُهُ من سلاح : نِعالاً  مكنسةَ قشّ ، حِزاماً ، زجاجة ماء !! وَوَلجوا المطبخَ دفعةً واحدةً ليجدوا الطفلة المسكينة تنظرُ إليهم مُندهشةً ، وهي تُشيرُ إلى إبريقِ الشـاي المُنسـكبِ فـوقَ موقدِ الغاز !!

أضيفت في24/01/2009/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب

 

 

 

قصص قصيرة جداً2

 

ضَعْفُ بَصَرٍ

 

عَشْرُ سنواتِ زواجٍ مَضَتْ وجَوابُه الوحيدُ لها : حاضِرْ .. يا بُؤْبُؤَ عيْني ..

اليومَ فقط أدْركَ سببَ ضَعفِ البصر في عَيْنَيْهِ !

 

 

سُرعة فائقة ..

 

 

بينَ مقرّ عمله في الغُربة ومدينته في الوطن ثلاثُ ساعاتٍ بالطائرة !

تنفّسَ من هواء مَطارِهِ ملءَ رئتيه ، ثم تمتمَ: ما أسرعَ ما يُعانقُ المرءُ كرامتَه !

 

رجولة

 

نزعتْ عنها يدٌ أمريكّةٌ كلَّ ثيابِها ورمتْ بها في مهجع الرجال داخلَ السجن  فصرختْ بلهجتِها العراقيّة من أغوارِ قلبِها : " الله أكبرُ .. وا نخوةَ الرجال ! "

 وفجــأةً شَـعَرَتْ بأنها سُترت بألفِ ثوبٍ حين استداروا جميعاً وواجهوا الجُــدران ولَمْ تأثمْ عينٌ واحدةٌ بالنظرِ إليها !! 

عزيـز

 

إنّهُ هو ، عزيز !

كمْ ستشهدُ للهِ حارتُنا القديمةُ على أنينِ أمّهِ وهو يَنْهالُ عليها ضَرْباً حينَ كانَ يعودُ آخرَ الليلِ سـكرانَ ، أو حينَ كانَ يطلبُ منها مالاً ممّا تركَ أبوه للأرملةِ المسكينةِ وصغارِها !

ويتمرّدُ أنينُ المسكينةِ بينَ يديه دُعاءً من قلبٍ مكلومٍ :  " اللهُ يغضب عليكَ يا ولَدي  ويشلّ يَديْك .. "

ثم ما لبثتْ أن ماتتْ ، ليهجر هو وإخوتُهُ بيتَهم ويغيبوا في المجهول ..

نعم إنّه هو ذلك الرجلُ الأربعينيُّ الواقفُ عند زاويةِ الطريقِ العامّ  ؛ يمدّ يدَهُ اليُسرى يتسـوّلُ المارّةَ ! أمّا يُمناه فكانتْ مَرْخِيّةً إلى جانبِهِ  ومشلولةً تماماً !

 

 

الفُستقة والبُندقة

 

 قالت الفستقة للبندقة : ها قد التقينا من جديد يا أختاه ، في هذا الكيس الورقيّ !

أجابت البندقة : نعم ، ولم يسـتطع أن يُفرّقنا التاجرُ، ولا السمسارُ ، ولا نارُ المحمصة . منذ قَطفونا من شجرتينا المتجاورتين في بُسـتان " أبو عرَب " و نحن نلتقـي مرّةً بعد مرّة !

الفستقة :صدقتِ ، فقَدَرُنا أن نبقى معاً إلى الأبد .

ولمْ تكد تُنهي الفستقةُ جملتَها حتى سـمعتْ طقطقةَ أضلاعِها تحتَ ضرسين لايرحمان ! فصرخت تُنادي متأوّهةً :- آه .. الآن أظنّ أنّه الفِراقُ يا أختي البُندقة ! فالوداع .. الوداع !

صاحت البندقة قبلَ أن يُطبقَ عليها الضرسانِ نفساهُما : - لا يا أختي الحبيبة لا  لابدّ أن نلتقي يوماً .. لابُدّ !

 

أفكارٌ جهنّميّة

 

لأنّه يعيشُ في جهنّم ، ويكتوي بنارِ الفَقر ألفَ مرّةٍ كُلّ شهر ، فقد صارت تنهالُ عليه أفكارٌ جهنّميّةٌ عجيبة ! وكانَ آخرَها في العيد الأخير ..

نهضَ صباحَ العيدِ مع أذان الفجر ، وهمسَ في أذن زوجته أم محمود متوسّلاً إليها ألاّ يتكلّما طوالَ هذا اليوم إلاّ همساً ..

كي لا يستيقظَ الصغارُ من نومِهم !!

 

 

 

الأيّامُ الحُلْوَةُ

 

كانتْ أمّي الأمّيّةُ تُنتجُ بيديها في البيت ما تطرحُهُ مصانعُ بعُمّالِِها !

تصنعُ من العجين الشُّـعيْريّة ؛ تفتلها شُعَيْرَةً شُعَيْرَةً ! وتصنعُ المُرَبّات من العنبِ  والمشمشِ والكرزِ والخوخ ، ومن اللبنِ الكشكَ ومن القَريشـةِ السّـوركة  وتُنقّي كٌلّ أنواعِ الحُبوب ، وتصنعُ الزّعترَ الفاخرَ ، وتُحلّي الزيتونَ والعَطّونَ ، وتَحْفِرُ أكوامَ البانجانِ واليقطينِ وتُجفّفها في الشمس ، إلى جانبِ الرّمان . وتستخرجُ ماءَ الورْدِ من زهرِ الليمون ، وكانتْ تُعدّ كلَّ أنواعِ المآكلِ والحلوى المعروفة في البلد . وكانت تغسل ملابسَنا بيديْها في حوضِ الماء والبوتاس ؛ حتى لَيَخرجُ من كفّيْها الدمُ ! ثمّ لم تكُن تنسى الفُلّةَ البيضاء المُكبّسة ؛ تضعها على صدْرِ فُستانِها النظيف لتسـتقبلَ أبي لدى عودته من عملهِ ظُهراً .

.....................

انتزعني من هذه الذكرياتِ العَذْبةِ صوتُها الراعِدُ المُرعِبُ :

- قُمِ اتّصِلْ بهذا المطعمِ الـ ... ما هذه الحال ؟! كُلَّ يومٍ ، كلّ يوم .. تتأخّرُ وجبةُ الغَداء !!

أضيفت في04/12/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب

 

 

قِصَصٌ قصيرةٌ جدّاً

ضُيوفُ الإجازة

 

لَعَقوا البوظة ، والتهموا الكنافة ، وعبّوا القهوة ، وقبلَ انصِرافِهم تسـلّمَ كلُّ واحـدٍ منهم هديّتـه الخليجيّةَ السنويّة فخرجت كلماتُ الشكرِ من أطرافِ شِفاهِهِم !

لقد كانَ يحفظ بالحرفِ تعليقاتهمِ عليهِ وعلى هداياه عندما سيحتويهم المِصعد بعدَ قليل !

هي وحدَها مَنْ يُشعرُ قلبَه بالحب : " الحمدُ لله على سلامتِكَ ، يا روحَ أمّك "..

 

المسكين

 

صاحَ يستعطفهم للمرّة الألفِ هذا اليومَ : أريدُ أن أسـمعَ نفسي أريدُ أن أفكّر،أريد أن أكتب ، أريد أن أرتاح ... أن أنام ! أرجوكم خفّضوا أصواتَكم ، كفّوا عنِ أحاديثِكم المخلوطة ، أخرِسوا أغانيّكم

الهارِجة المارِجة ، أسكِتوا مًسلسلاتكم الفاسِقة .. دونَ جدوى

شكّ في أداءِ حِبالِه الصوتيّة ، وفي حاسّةِ سمعهم ، وفي فهمهِم للغتَهِ !

بعدَ حين ، سمعهم يتهامسون فوقَ مثواه الأخير : المسـكين .. قبلَ أن يموت أصيبَ بانفصامٍ شديدٍ في الشخصيّة

 

لِقــاءٌ

 

في الصّباحِ : تناولَ حقيبتَه وهُرِعَ فرحانَ كالطفلِ لِلِقاءِ وطنِهِ ، بعدَ عشرينَ سنة

فِراقاً .

في الطّريقِ إلى المطار : شاحنةٌ كبيرةٌ رَفَضَتْ هذا اللقاءَ !

في المَساءِ : كانَ يضمّهُ تُرابُ الوطن !

 

جُروح

 

 

ليلةَ العيد ، في السُّوق ، كان مع ابنه عندَ بائع الحَلْوى .

سَمِعَها تُنادي طفلَها باسمه هو !

والتقتْ العيونُ لحظة !

 

***

- 2 -

 

عُقوبَة

 

" ستُعاقبَ أيها التلميذ المُشاغِب " !

توسّلت طفولتُه ودموعُه .. تشبّث بطرف فستانها .. دون جدوى !

دفعتْه داخلَ المرحاض الصغير ، وأوصدت البابَ من الخارج !

قُرع الجرسُ وعاد التلاميذُ جميعُهم إلى أمهاتهم ، وهي عادت إلى أطفالها .

ونسوه !

في الصّباح ، وَجَدُوه :

الخوفُ أزهق روحَه ، والفئرانُ أكلتْ عينيه الخضراوين !

***

 

 - 3 -

 

الغُربة

 

عشيّةَ السفر إلى الوطن في إجازة الصيف؛ كان يُوضّب الحقائبَ

تُساعده زوجتُه و أولادُهُ.

منذ أربعة عشرعاماً يُمارسون هذاالطقس .

باتَ لا يدري : هل هُم عائدون ، أم مُسافرون !

أضيفت في21/02/2008/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتب

 

 

القصّة القصيرةُ – في رأيي – هي مُحاولةُ إيقاف لحظةٍ إنسانيّةٍ عِشْناها في حياتِنا – التي لا تقف – وتقديمها بشكلٍ أدقّ وأجمل إلى إنسانٍ آخر، لعلّها تُضيفُ إلى إنسانيّته زمناً من حياتنا ممتعاً ومؤثّراً؛ فَنُغني بذلك – بقصدٍ وإصرارٍ – معانيَ الإنسانيّةِ مِنْ حَوْلِنا.

مصطفى حمزة

 

 

فَتّة الحِمّص

 

 

جفّ ريقُه وهو يُنادي بصوتِه الأجشّ: على السّكين يا جبس 00 على السّكين يا جبس 00 ولكنْ لم يكن واحدٌ من سُكّان الحارة يُقبل عليه ويشتري، ولو جبسة واحدة !

 

أطلّ من الشُّرَفِ المُحيطة بعربته - دُفعةً واحدةً - عشرون ، ثلاثون امرأة بدينة قبيحة؛ وبدأنَ يقذفن جبساته  بعُيونهنّ التي تُشبه الكُراتِ الصغيرة، فكانت تطعنَ جبساته فوقَ عربته الخشبيّة المتهالكـة فتَفْلَعُها وتفضح بياضها ؛ ثم ترتدّ إلى محاجرها، في وجوه أولئك القبيحات...

 

نظر بإحباطٍ شديد إلى أكوام الجبس المفلوق التي تراكمت على بُعد أمتارٍ فقط من بابِ بيته الأرضيّ القديم ؛ وقد افترّت كل جبسة عن بياضِها المكروه 00 وكانت أذناه تلتقط من هنا ومن هناك، من النوافذ المفتوحة والنوافذ المُغلقة ، ومن خلف الجدران:

 

- الله لا يُعوّض عليك يا 'أبو خليل' 00 الله لا يُعوّضْ عليك يا 'أبو خليل'00

 

لمح أحدَ الأولادِ الأشقياء يتسلل إلى كومة الجبس، ويلتقط ربعَ جبسة ثم يلتفتُ يميناً وشمالاً، ويُسدّدُ جيّداً باتّجاه صلعته 00 ويقذفها بكلّ ما أوتي من قوة، ويفرّ هارباً من زابوقة الحارة 00 لم يزعل، بل جمع بكفّه العصيرَ السائلَ على وجهه، وراح يلعقه ويتلمّظ بشهيّةٍ فائقة 000

 

رآها 00 إنّها 'أم خليل'، زوجتُه القصيرة النّمشاء ، بشحمها المتكدّس 00 تخرج من باب بيتهم مُلتحفةً بالمنشفة القديمة، وتهجم مُباشرة على رقبته المُرطّبة بعصير الجبس وبالعرق ، وتخنقه بكفّيها الصّغيرين 00 وهي تصرخ :

 

- قُمْ يا خامِل 00 قُم 00 اترك هذا الجبس الملعون 00فلن يمسّه أحد ، واصعد إلى الأحْراج وأحضر بعضَ الحطب لنبيعه ونأكل ونطعم الأولاد 00 قُم لقد متنا من الجوع 00

 

ردّ عليها وهو يفك كفيها عن رقبته بقرف :

 

وماذا لو قبضتْ عليّ شرطة الحِراج ، وأخذوني إلى السجن ؟  هل تزورينني هناك ؟ وهل تجلبين لي معك البرتقال اليافاوي 00 آه 00 كم أشتهي عصيرَ البرتقال اليافاويَّ الباردَ 00 المُثلّجَ 00

 

وجدَ نفسَه عائداً من الأحراجِ في طريقٍ ضيّقة مليئة بالحجارة والأشواك القاسية 00 وبالكاد كان يستطيع إظهارَ رأسِه من تحت كومة الحطب ؛ التي كانَ جسمُه الضئيل الناحلُ يتمايل بها يميناً وشمالاً000

 

- هل أسمع صوت سيارة الدوريّة ؟! هه ؟ لا 00 لا 00 مالهم وللحطب00 عليهم لعنة الله 00 أريد أن أشرب ، أريد أن أشرب 00 أكاد أموت يا أم خليل من العطش00 الثروة الحراجيّة مهمّة لتلطيف الطقس وجلب المطر00 المطر المطر 00 أين المطر ؟00 أنا عطشان أنا عطشان 00 '

 

وأمام باب بيتهم 0 يضع عن ظهره كومة الحطب التي أنقضت ظهره 00 وفجأةً يصيح بأعلى صوته: 'أوقفوا لسانَ هذه العجوز الخرقاء عني 00 أسكتوها 00 هل أنا الذي زرعتُ الجبس يا ناس؟!  هل أنا بداخله لأعرف ما إذا كانَ أبيضَ أو أحمر ؟! وهي هي نفسُها كانت تقول لي كل يوم : بِعْ على السكين، بِعْ على السّكين، الكلّ يبيع على السكين بِعْ على السّكين 00 سكّين في بطنك 000يا أم خليل 00

 

جلس على كومة الحطب، وأخرج من جيبه منديلاً قذراً وراح يمسح عرق جبينه وعنقه 00 وفجأة مجموعة من الشباب والفتيان والصبيان والأولاد والنساء حتى شيخ الجامع 'أبو مُطيع' 00 تراكضوا جميعاً من هنا ومن هناك، وتحلّقوا حولَ عربتِهِ المُعَرّمة بالجبس السليم 00 وخرج من بينهم رجلاً يعرفه 00 إنّه مُدير المدرسة 'الأستاذ فارس'00 استلّ سكيناً كبيراً وراح يصيح:

 

- جبس على السّكّين ، جبس على السّكّين 00 تعالوا إلى جبس ' أبو خليل ' 00 أحمر يا جبس ، أحمر يا جبس 00

 

ويتدافع الحشد من حوله صائحين :

 

- أعطني واحدة 00 وأنا أيضاً 00 وأنا أيضاً واحدة الله يخلّيك 00 جبس لذيذ يا سلام 00

 

وكان الأستاذ فارس يشدّ يده على مقبض السّكّين ويُغمدها في الجبسة ، ثم يشقّها نصفين فتنشطر عن لونٍ أحمر فاقع ! وبذورٍ سوداء كالليل الدامس ! ويدفع بها إلى أحدهم وهو يصيح بحماس :

 

- ذُق 00 ذُق الحلاوة 00 خذ على حساب 'أبو خليل' 00

 

ثم يلتفت إلى جبسة أخرى ويشقّها، فإذا هي أيضاً حمراء كالدم ! ثم ثالثة فرابعة فخامسة 00

 

- كُلْ على حساب ' أبو خليل ' 00

 

وكان أبو خليل يُراقب هذا المشهدَ الذي يجري أمامه وهو لا يُصدّق عينيه 00 إنّه جبس أحمر 00 جبسُه هو أحمر 00 والناسُ تأكل منه في الشارع بمنتهى الشّرَهِ والتلذّذِ 00 فصاحَ بأعلى صوتهِ :

 

- أنا عطشان 00 عطشان ، اقذف لي قطعة جبس يا أستاذ فارس ،  الله يرحم والديْك ، أنا عطشان 00 عطشان 00

 

أفاق على صوت أم خليل وهي تصيح :

 

- خذ اشرب 00 بسم الله الرحمن الرحيم 00 نصحتُكَ مئة مرّة ألاّ تأكل فتّة الحمّص قبل النوم 00 ولكن لا فائدة ، تتعشّاها وتنام 00 وتأتيك الكوابيسُ !!

***

- أهل اللاذقية يُسمّون البطيخ الأخضر: (الجَبَس)، والبطيخَ الأصفرَ: (البطيخ) دون إضافة إلى الأصفر وفي ليبيا يُسمّون البطيخَ الأخضرَ (الدّلاّع)، ويُسمَونه في الإمارات (يَحْ)

 

- 'على السّكين' عبارة مَحكيّة في اللاذقية، ومعناها أن يفتح البائعُ بالسكين جزءاً من الجبسة ليراها المشتري قبل أن يدفع ثمنها، فإذا أعجبته أخذها ، وإلاّ اختارَ واحدة أخرى غيرَها 0

 

 

 

صَحْوَة

 

كانَ يجلس وراءَ مَكتبهِ الفارهِ، في شركته

 

وكانَ رمضانُ

 

ومِن المِذياعِ بجانبِهِ كانت تَضُوعُ 'سُورةُ الإسْراء'

 

وعندما لامَسَتْ سَمْعَهُ 'وقُلْ ربّ ارْحَمْهُما كما ربّياني صغيراً' ذَرَفَتْ عيناهُ بغزارةٍ ! وهبَّ إليها ..

 

لَمْ يَرَها منذُ حين !!

 

كانَ طُولَ الطريقِ يُنصِتُ إلى صَدْعِ قلبِهِ :

 

'أمّاهُ : لَنْ تَبقَيْ هُنالكَ بعدَ اليوم، ولَنْ تغيبي عنْ عَيْنِي أبداً ... أمّاهُ : في بيتي عَرْشٌ بانتظاركِ .. وَلْيَكُنْ من زوجتي ما يكون'  !  

 

 

نَظرةٌ

 

لَمَحَهُ من بعيد ، يجلس وحده في زاوية المقهى الصَيفيّ ، إلى طاولة منفردة ، يتناول وجبة طعامه.. إنه هو، والدها !

 

راحَ يتذكّر ملامحها من ملامحه: العينين الخضراوين، والوجهَ الأبيضَ المسـتديرَ،  تلفّتَها  ونظراتها ، حركةَ يديها .. سبحان الله ! خفق فؤادُه بشدّة ، وأحسّ بلذّةٍ مُؤلِمَةٍ .. وتمنّى أن يسـمعَ صوتَها من صوته ..

 

ترك فنجان الشاي من يده وقام متّجهاً إليه ، حين وصل إلى طاولته لم يكن يدري ماذا سيقول، كان فقط يريد أن يسمع صوتَه ..

 

-السلامُ عليكم

 

رفع الشيخُ السّتينيّ رأسَه عن طبق الطعام:

 

-وعليكم السلام ورحمة الله !

 

اشتدّ خَفَقانُ قلبه حين سمع صوتَه ، وأحسّ بطيفٍ يحوم حول الطاولة .. تماسك ورسم على شفتيه ابتسامةً ، وقال بِأدبٍ :

 

-أنا آسفٌ يا حاجّ ! رأيتُك وأنا جالسٌ هُناك – وأشار بيده إلى طاولته التي كان يجلس إليها -  فأحببتُ أن أسلّم عليك .. ألم تعرفني ؟

 

أجابه الشيخُ بابتسامةٍ حنونة  :

 

-لا والله - من غَيْر شرّ - تفضّلْ يا بُنيّ اجلسْ ، مُدّ يدَكَ ، شارِكْني غَدائي المتواضعَ .

 

تناول الكرسيّ القريبَ وجلس بهدوء :

 

-شُكراً، صحّة وهَنا .. طمئنّي عنكَ يا حاجّ ، كيف الهمّة  ؟

 

-الحمد لله .. تشكيلة واللهِ يا بُنيّ ! السّكّر والضغط والرّبو .. نحمده على كلّ شيء.

 

كان يهزّ رأسَه بأسفٍ وهو يُتابع كلمات الشيخِ الشاكيةَ ، ويسمع في الوقت نفسه من كلماته موسيقا حالمةً أرجعتْه خمسـاً وعشرين سنةً إلى الوراء !

 

-عافاك اللهُ يا حاجّ، عافاك الله .. المَصيفُ الجبليُّ هُنا يُخفّفُ الرّبوَ، أليس كذلك يا حاجّ ؟

 

-طبْعاً، الهواءُ الجبليُّ الجافّ دواءٌ للرّبوِ ، لذلك أنا أقضي مُعظمَ أيّامِ الصيفِ هنا .. الحاجّة لا تحبّ مغادرةَ المدينة .. وأنا لا أُطيقُ الرّطوبةَ هناك .. الحمد لله . تأتي إليّ كُلَّ خميس وجمعة  وتعود إلى البلد صباحَ السبت .

 

سكتَ لحظة، ثم ابتسم بِطِيبةٍ،  وقال له:

 

-عدمَ المؤاخذة يا بنيّ، ما تعرّفْنا !

 

-نحن جيران يا حاجّ .. أنا عفيف ، عفيف حسين .. كُنّا نسكن ..

 

لَمَعَتْ عينا الشيخِ الخضراوان، وقاطعه بِحَفاوَةٍ:

 

- أهلاً أهلاً أهلاً .. طبعاً نحن جيران .. جيران العمر .. رحم اللهُ أباكَ .. كيف حالك يا بني  ؟

 

كيف أمّك وإخوتك ؟ أين أنت في هذه الأيام ؟

 

-بخير والحمدُ لله ..

 

وحكى له مُوجَزاً عن مسيرة ربع قرن، منذ أن تخرّج في كليّة الآداب، إلى أن صار أباً لأربعة أبناء  أكبرُهم بنت في السابعة عشرة، وأصغرهم في الخامسة، وعن عشر سنين معاناةً قضاها في البلد بعدَ تخرّجه، قبلَ أن يُكرمَهُ اللهُ بعقد عملٍ في دولةِ الإمارات، فتحسّنتْ أحوالُهُ، واشترى بيتاً في اللاذقية وآخَرَ في المصيف، هنا حيثُ يقضي إجازته الصيفيّة معَ عائلته كُلّ سَنةٍ.

 

كان الشيخُ يُصغي إليه مُعجَباً ، وحين توقف عن الكلام سأله فجأة:

 

-الآن تذكرت .. ألم تكن أنتَ و تَقِيّة، ابنتي ، زملاءَ في الجامعة ؟

 

آه .. تَقِيّة .. أبوها ..  صوتُها .. طيفُها .. رائحتُها !!

 

أجاب وعيناه سارحتان في وجه الشيخ  :

 

-نعم .. طبعاً .. نحن كُنّا زملاء ، وكُنّا نتبادل أحياناً بعضَ المراجع ، ونتعاونُ في كتابةِ البحوث .

 

وماذا يُمكن أن يزيد على ذلك !

 

أطرقَ سارحاً . لم يسمعْ من أخبارها شيئاً منذ سنين وسنين .. شعَرَ بالظّمأ لأنْ يعرفَ شيئاً ما عنها.. أينَ هي الآن ؟  فقط يُريد أن يعرف أينَ هي الآن .. أينَ تسكن .. لعلّه يقصدُ الشارعَ، أو الحارةَ ..

 

-ما أخبارُها يا حاجّ ؟ بالتأكيد تزوّجت و ..

 

-مَنْ، تقيّة ؟ أووه، وصار عندها خمسُ بناتٍ.. لم تُرزق بصبيان.

 

ودمعتْ عينا الشيخ :

 

-لم أرَها، هي وبناتها وزوجها، من سنتين ..

 

-لماذا ؟! خيرٌ إن شاء الله ؟

 

-هُمْ بخير والحمدُ لله ، في فرنسا .. تزوّجَها مهندسٌ ، وهاجروا جميعاً إلى هناك ، من عشـر سنين  الآن صاروا كلّهم فرنسيين ، أعطوهم الجنسيّة ..

 

هزّ رأسَه مبتسماً ابتسامةً مريرة :

 

-ترى وجهَهُمْ بخيرٍ إن شاءَ الله يا حاجّ ..

 

-سلّمك الله يا بنيّ ..

 

ثم استدرك الشيخُ مُبتسماً ً :

 

-نسيتُ أنْ أسألكَ ، لماذا أنتَ وحدَكَ ؟ أين زوجتك وأولادك ؟

 

-سيحضرون بعد قليل ، سبقتُهم إلى هنا .. لأنفردَ بنفسي قليلاً ..

 

ثمّ لَمَحَهُمْ وهم يدخلون بابَ المقهى ، فخفَقَ قلبُه بشدّة ! أفاقَ من حُلُمِهِ الغائِمِ !

 

كانت ابنتُه تسيرُ إلى جانب أمّها ؛ صبيّةً يُطلّ وجهُها من خلال الحجاب كالقمر ، تُمسك يدَ أمّها  ويلفّهما معاً جِلبابُ الحياء .. ومن خلفِهِما صِبيانُهُ الثلاثة بوجوههم البريئة الوضيئة .. تُزَيّنهم الصحّةُ والعافية ..

 

توقّفوا عندَ مدخلِ المقهى  يبحثون عنه بنظراتهم  . راح يتأمّلهم وكأنّه يراهم أولَ مرّة ! شعرَ بسعادةٍ غامرةٍ ، وبسكينةٍ تهبطُ على قلبه .. رآهُ الصغيرُ ، فأفلتَ يدَ أمّهِ وانطلقَ إليه ..

 

هبّ عن كرسيّه نحوَ ابنه ، فالتَقَطَهُ ورفعه في الهواء وراحَ يُقبّل خدّيه ورقبتَهُ .. ثمّ توجّهوا جميعاً إلى طاولتِه البعيدةِ ..

 

ونَسِيَ أنْ يُسلّمَ على الشيخ !!

 

 

نـورٌ

 

 

خَرجَ من غُرفةِ مكتبه وراحَ يتمشّى باتّجاه البحر، وصلَ إلى الصخرةِ العاليةِ الكبيرةِ الملساءِ التي يرتاح عندَها كلَّ يومٍ، جلسَ في موضعه وراحَ يتأمّلُ البحرَ بعينين ساهمتين مُتعَبَتَين .. البحرُ هائجٌ جدّاً هذا اليومَ ! لمْ يعتَدْ أنْ يراهُ كذلك ! لقد ألِفَ هذا الشاطئَ منذ أكثر من سنةٍ ونصف ، لكنّه لم يره كاليوم هياجاً وغضباً ! أحسّ بأنّه لا يُحبّ البحرَ.. مع أنّه طالما جلسَ عندَ هذه الصخرة ذاتها ، وكتبَ خواطرَه يُناجي بها البحرَ ، هذا البحرَ نفسه !

 

ماذا جرى له اليومَ ؟!

 

التفتَ إلى الوراء وراحَ يستعرضُ بنظره محتويات المستودعِ الكبيرِ الذي يمتدّ أمامَه بضعَ مئاتٍ من الأمتار، كلّ هذا أمانة في عُنقه ؟ ! أكواع، وتِيهات، ووصلاتٌ، وبَراغٍ، وكلّ القطع الخاصّة بأنابيب جرّ المياه من النهر البعيد إلى المدينة. هذه الأنابيب المعدنيّة المرصوفة إلى بعضها حِزَماً حِزَماً  وازدادت ضَرباتُ قلبه حينَ توقّفت عيناه عندَ تلك القضبان المعدنيّة التي تطوّق كلّ حزمة من تلك الأنابيب !

 

قفز إلى سمعه كلماتُ سائق الرافعة:

 

- أترى تلك القضبان يا أستاذ طاهر؟

 

- ما لَها ؟

 

- إنّ قطرَها اثنا عشـر ملمتراً، أتدري، إنها مفقودة من السـوق؟ وهناك مَنْ يدفع لك ثمنها المبلغ الذي تريده ..

 

- يعني ؟!

 

- يعني ، لو ننزعها عن الأنابيب، ونجمعها، وأنا أعرف رجلاًً مسـتعداً لأن يأتي إلى هنا  ويدفع ثمنها في أرضها، والنقل على حسابه .. ما رأيك ؟

 

- يعني نسرق يا أبا محمد ؟!

 

- هذه ليست سرقة يا أستاذ طاهر، ليست سرقة .. اسمعني، نحن نُرحّل هذه الأنابيب بالعدد أليس كذلك ؟

 

- أجل !

 

- والقضبان هذه ، بعدَ نزعها ستبقى في المستودع، ولن يسأل عنها أحد، لأنها ليست في القيود، أليس هذا صحيحاً أيضاً ؟

 

- أجل !

 

- إذن ؟!

 

- وبكم تظن أنها تُباع ؟

 

- بالكثير يا أستاذ ، بالكثير .. إنها تُساوي ذهباً هذه الأيام .. ستضع في جيبك مبلغاً محترماً ألا تُريد أن تأتي ببنت الحلال ؟! والله يا أستاذ طاهر يكفيك سنتان خطبة  !!

 

وعادَ بنظره إلى البحر، كانت موجةٌ عظيمةٌ تزحف نحو الصخرة التي يجلس فوقها ! لقد خُيّل إليه للحظةٍ أنها حصانٌ جامحٌ يُريد أن ينقضّ عليه ! انكمشَ على نفسه خائفاً ، قبلَ أن تتبدّدَ الموجةُ وتتلاشى على الصخور .. 

 

أسندَ ذقنه براحتيه .. إنّه يُحسّ بإرهاق شديدٍ .. تذكّرَ أنّه لم يَنَمْ ليلةَ أمس ، لقد أمضى الليلَ يتقلّبُ دون أن يستطيعَ الإغفاءَ ولو لحظةً واحدةً ! حاولَ أنْ يقرأ في كتاب ؛ لكنّه أحسّ بغُربةٍ مُرّةٍ بينه وبين الكتاب ، وكأنّ الكتابَ لا يُريده! قامَ فتوضّأ ودخلَ في الصلاة ، شعر وهو يقرأ الفاتحةَ وكأنّه يقرأ في جريدة يوميّة ! أينَ القداسةُ التي كانت تتنزّلُ عليه وتلفحُ كيانه لحظةَ يدخلُ في صلاته ؟! حتى القِبلةٌُ ، هذه الوجهة التي وقفَ أمامها عشرين سنةً ، يشعر حيالها هذه الليلةَ بأنه غريبٌ نَجِسٌ في محرابها الطاهر ! رمى بنفسه على الكَنَبةِ مرهقَ الأعصاب ، وأسندَ رأسَه إلى الوراء ، ولمّا وقعتْ عيناه على صورة المرحوم والده المعلّقة على الحائط المقابل سرتْ بجسمه قُشعريرةٌ رهيبة رجفتْ لها أطرافه ! كانت الصورةُ بديعةَ الإطار ، هادئةَ الألوان ، تُضفي عليها ملامحُ صاحبها الطيبةَ والسماحةَ والصَلاح !

 

انتبهَ لدمعتين تجريان على خدّيه ، فمسحهما ، وقامَ ليعودَ . وقبلَ أنْ يخطو خطوةً واحدةً رفعَ وجهه إلى السماء ، ودُهشَ أنْ رأى الغيومَ تنكشفُ شيئاً فشيئاً عن صفحةٍ زرقاء غايةٍ في الروعة ! ونظر

 

إلى البحر، لقد كان رائعَ الزُرقة، هادئاً،  تُداعبه نسماتٌ رقيقة !

 

 

 

اللهُ يرحمُه

 

 

بعدَ سنتين ونصفِ السنةِ من خُطوبتهما ، أذِنَ اللهُ .. وماتَ  "صابر" عن تسـعةٍ وعِشـرينَ عاماً  بسكتةٍ دماغيّةٍ مُفاجِئةٍ ! وأصبَحَ رَقْماً في السجلّ السّرمديّ ..

 

يومَ وفاتِهِ بَكَتْهُ خطيبتُهُ "وفاء" بنتُ العشرين ربيعاً بُكاءً مُرّاً ، وأغميَ عليها أكثرَ من مرّةٍ، وكانتْ  كأنّها لم تُصَدّق موتَه المفاجئ ! وبكى عليه أهلُ خطيبتِه ، وإخوتُه الأربعة وناحتْ عليه أختُهُ ودمعتْ أعينُ الجاراتِ .. أمّا أمُّهُ، فَواهاً لأمّهِ !

 

لكنّ الرجالَ لمْ يُبالوا، فوضعوه بعدَ الغسْلِ داخلَ النعشِ، وأوْصَدوا عليه، ثمّ رفعوه على الأكتافِ وساروا بهِ إلى المقبرة، خارجَ المدينة .

 

في طريق الجنازةِ أخفضَ أصحابُ المتاجر أصواتَ الأغاني ، ووحّدوا الحيَّ الباقيَ، ثم أطلقوا للطربِ والدندنة العَنان حينَ واراها أولُ منعطف !

 

وعندَ القبرِ كان ثَمَّ رجلٌ مسكينٌ ينتظرُ الأمواتَ ليعيشَ ... يتناولُ الجثّةَ الملفوفةَ من أيدي الرجالِ ويُمدّدها في حفرتها التي جهِدَ في حَفْرِها ، ويُسوّي اللحدَ ، ثمّ يُهيلُ الترابَ فوقَها بهمّةٍ ونشاطٍ ، ثُمّ يمسَحُ عرقَه بظاهرِ ساعِدِهِ ، وعيناه تبحثان عن أهل الميّت ! فيتقدّمُ " محمد " أخو المرحوم " ويضع في يده مبلغاً من المال ، فيمضي المسكين إلى " أفراخِه " المنتظرين !

 

انتهتْ أيّامُ التعزيةِ الثلاثةُ،  فانصرفتْ أختُه "سلوى" إلى "أطفالٍ صِغارٍ ، وزوجٍ لا يُحبّ الحزن" ..

 

واقترحت زوجةُ أخيه الكبير أن يكونَ الاجتماعُ في بيتهم الليلةَ "ليراجعوا تكاليفَ الجَنازة.." فوافقوا  ولمْ ينتبه أحدٌ منهم إلى ذهول أمّهم العجوز!

 

وفي الأيام التالية تلقّتْ "وفاء" الكثيرَ من التعازي بوفاة خطيبها الشابّ .

 

ثم زارتهم "أم سعيد" وفي حقيبتِها صورةُ شابٍّ وسيمٍ ، يعمل في إحدى دول الخليج . لمّا سمعتها تُحدّث أمّها عنه رمتها بنظرةِ كُرهٍ شـديدٍ ، وركضتْ مُسـرعةً إلى غرفتـها وهي تُغالبُ البُكاء، وهنـاك

 

سَفَحت دموعَها الحارّةَ فوقَ مخدّتها على حبيبها الراحل ! .. استرجعتْ عبرَ نحيبِها أوقاتاً معه لاتُنسى وأحلاماً بنتْها معه حجراً فوقَ حجر .. وحين قفزت إلى ذاكرتها جلسات " الشـاي بالقرفة " في مقهى"اللؤلؤة " عند الكورنيش الجنوبيّ " أحسّتْ بقلبها يحترق ، وراحتْ تُناجي جدرانَ غرفتها المغلقة عليها ..

 

في يوم "الأربعين" حينَ انصرفتِ المُعزّياتُ بقيتْ " أم سعيد" جالسة، وسمعتها "وفاء " تهمسُ في أذن أمّها:

 

-"إلى متى ؟ ما زالت صبيّة .. حرام .. الحيّ أوْلى من الميّت !"

 

وفي عصرِ اليومِ التالي حينَ كانوا ينتظرون أمَّ سعيد مع الشابِّ صاحبِ الصورة،  وأهلِهِ .. كانت وفاء على أحرّ من الجمر ...

 

 

مُنى

 

 

كنت قد تجاوزت السابعةَ بقليل حين وُلد "عصام" أخي ، وأمّنا مريضة، وكان عُمر أختنا "منى" حوالي خمس سنين.

 

أذكر حينَ كنّا نذهبُ كلَّ مساءٍ، قُبيلَ المغرب، إلى بُستان "أبو مُراد" المواجه لبيتنا. كانت تسـير إلى جانبي ممسكةً بطرف بيجامتي، وأنا أحمل الوعاءَ الألمنيوم الصـغير الذي يتّســع للتر واحد من الحليب

 

فنخـوض في التراب الرطب، وتملأ أنفينا رائحةُ البقر والشجر !! وكانت تلتصق بي خائفة كلّما خــارت بقرة في الزريبة فأمسك بها متظاهـراً بالشـجاعة وعدم الخوف ! حتى يظهر لنـا "أبو مراد" فيملأ لنـا الوعاء ونعود به إلى أمّي مُسرعَين فتملأ منه الرضّاعة، وتُلقمها "عصام". فيما بعد،  وبعـد ســنين طويلة، كانـت أمّي تمزح مع عصام بقولها: "أنا لستُ أمَكَ، أمّك بقرةُ أبي مُراد !!".

 

في تلك الفترة من طفولتنا كنت أخرج إلى الشارع وأجمع أغطيـةَ زجاجـات " الكازوز " وعيدان "البوظـة " المرميّة في الأرض وأعُـود بها فَرِحاً إلى أمّي  ، فتغسلها وتنشّفها ، ثم تـلفّ على أحد الأغطية قطعـة قمـاش بيضـاءَ وترسم عليها العينين والفم والأنف لترسمَ وجهاً ، ثم تربط إليه عودين متصالبين لتشكل اليدين والرجلين .. فتصنعَ دميةً لمنى .. وكنـت أتابعها بزهوّ كبيرٍ  وهي تلعب بدميتها وتكلّمها ، وكأنني أنا الذي صنعتها لها !!

 

وفي ليلة "المَحيا" – ليلة النصف من شعبان – أحضر لنا أبي مجموعة من الألعاب النارية على شكل عيدانٍ تُشعل من طرفها فتتطاير منها النار في كل اتجاه كأنها نجوم الليل .. وخُيّل إليّ وأنا أرى النجوم تتطاير حول مركـز النار راسمةً طَوْقاً من النجوم أنّ هذه النجومَ لو خرجت من شعر منى  سـيصبح وجهها منيراً يُحيط به النور ؛ كمريم العذراء - التي رأيتُ صورتها يوماً معلّقةً إلى الجدار في بيت جارتنا " أمّ غسّان " ! فما كان مني إلاّ أن رفعتُ شعرها من الخلـف فوق رأسها ودفعتُ فيه " عُودَ نجوم الليل " المشتعل ! فاشتعل شعرها بلمح البصر ، فهرعتْ إلى البيت تصرخ خوفاً ! وكانت أمي تجلس أمامَ الحَوضِ تغسل ملابسَنا ، فهبّتْ إليها حاملةً ما كانَ بيديها بمائه وصـابونه ولفّت به رأسها فأطفأته !

 

ولا زلتُ أذكر من تلك الليلة ألَمَيْن اثنين :ألَمَ حزام أبي الجلْـديّ الذي نالَ من جلدي تلك الليلة ! وألمَ حزني على شَعْر مُنى الكستنائيّ الطويل - الذي طالما أحببتُه - وقد غـدا قصيراً جدّاً ، وقبيحاً ، بعد أن قصّت أمي ما احترق منه بمقصّ الخياطة !!

 

في صباح أحد الأعياد، ولم أكن قد تجاوزتُ العاشرة، أردتُ أن أصطحبها إلى ساحة العيد !  فاسترقنا

 

غفلة من أمي وهربنا ! أخذتها من يدها وهبطنا السلم من بيت خالتي في قلب حيّ "الصّليبة" ثم توجّهنا إلى ساحة العيد العامرة أمامَ وحولَ "قوس النصر" وهناك أكلنا "الفول المسلوق" و "الترمس" وركبنا المراجيحَ بأنواعها، وتفرّجنا على مُرقّصي القرود، وعلى السّحَرة .. ثمّ سألتُها بحماسة :

 

- هل آخذك إلى سينما حقيقيّة ؟

 

فنظرت إليّ مستغربة ، وقالت :

 

-"وأينَ هذه" ؟

 

فجذبتها من يدها ، وقلت لها:

 

- أنا أعرف، امشي ...

 

مشينا باتجاه الغرب حتى وصلنا إلى الشارع الرئيسيّ، ثم انحرفنا شمالاً ومشينا ومشينا حتى وصلنا ساحةَ

 

"أوغاريت" كنتُ أتخيّلُ مكاناً فيه "سينمات" كثيرة، وكنت أريد أن أصل بها إلى هناك ! انحرفت بها باتّجاه الغرب مرة أخرى وأنا أنظر إلى أعلى في كلّ اتّجاه أبحثُ عن الإعلانات الكهربائيّة  للسينمات التي في خيالي ، ولكني لم أرها !

 

ومشيت بها أجرّها من يدها، وهي مستسلمة لخطاي واثقة بي ! حتـى أوصلتنا أقدامُ الطفولة إلى شارع فيه زحام شديد من الناس والأصوات والمحلات والروائح من كل نوع ولون ! وكم فرحتُ حين وجدتُنا أمام باب سينما كبيرة والناس يتدافعون في الدخول إليها ... وكان أمام الباب رجل يجمع من أيادي الأطفال والأولاد والكبار ما يستطيع مـن النقود ، ثم يسمح لهم بالدخول ..فأخرجت من جيبِ بنطالي كل ما تبقّى فيه من عيديّتي وعيديّة منى ودفعتُ بها إلى الرجل وأنا أقول له لاهثاً :

 

- أنا وأختي ..

 

فأخذها مني ودفعني أنا ومنى إلى الداخل : " يا الله 00 فوت " .

 

كانت القاعة مظلمة جداً ، ومزدحمة جداً ، ولم نستطع أن نرى طريقنا ولا أن نعثر علــى مقعد نجلس

 

عليه ! ولم يكن ذلك مهماً ، فالمهم أن نرى ونسمعَ الشاشة الضخمة العملاقة ! وأصـوات الممثليـن  والسـيوف والخيول، وأن نسمع التصفيق والصَّفير من الجمهور ! أن نعيش "جوّ " السينما الحقيقيّة لا السينما الخرساء التي في ساحة العيد ! كان في ذلك متعة وأيّ متعة !

 

ولكنّ متعة ذلك اليوم كانت نهايتها مؤلمة !!

 

حين انتهى العرض ، أضيئت الأنوار فأخرجونا من باب كبير غير الباب الذي أدخلنا منه ! كان الناس يخرجون كالقطيع الهائج يدفع بعضهم بعضاً ، حتى كدنا - أنا ومنى - أن نختنق وسط الزحام ! وفجــأة

 

وجدنا نفسينا في شارع فرعيّ لا نعرف له اتجاهاً ، بعيد، غريب، له طعم غريب، وريح غريبـة إنــه

 

الضــياع، لقد ضعنا أنا وأختي !! وبدأت السماء تُمطر !

 

لم يُفارقني الشعورُ بيديها البضّتين تتشبثان بذراعي ، وأنا أجرّها وأجرّ نفســي ، وهـي تبكي : - "بدّي ماما" !

 

والمطر ينهمر علينا بغزارة 00

 

كنت كلما سرت في طريق أحسب أن نهايته بيتُ خالتي!  فنسرع؛ حتى إذا وصلنا إلى نهايته ، وجدنا نفسينا في طريقٍ آخرَ، أكثرَ غربة !!

 

كنت أقول لها ونحن نخوض في الماء تائهين:

 

-"عندما نرى الكنيسةَ المعلقةَ نكون وصلنا عند بيت خالتي" !

 

و"الكنيسة المعلقة" هي التسمية المحلية لقوس النصر الروماني الواقع وسط حي الصليبة ..

 

وبدليل لا أعرف له اسماً غير رعاية الله وصلنا إليه ، ثم وصلنا إلى بيت خالتي لنجد أن العيد عندهم قد تحوّل إلى بكاء ولوعة حين تأخرنـا في العودة وتوقّعوا أننا ضعنا !!  وتلقّتنا أمي تضمّنا إليها وتقبّلنا وهي تنزع عنا ملابسنا الغارقة في الماء !

 

ومضى بنا قطارُ العمر ، ولم تُغادر مُنى سطراً من سطور حياتي .. ولم أغادر .. في كلّ مفردةٍ من مفردات عمري حرفٌ منها ، وكنتُ في حياتها كذلك .. حتى ذبحتني !

 

ماتت في يومٍ أبت فيه الشمسُ أن تطلع، لولا أمرُ خالقها !

 

والطيورُ اعتصمت في أعشاشها لا تُريد مغادرتها، لولا أفراخها !

 

ماتت في الخامسة والثلاثين بعيدةً عنّي بُعدَ الغريب عن وطنه !

 

ماتت وهي تضع ابنها " محمد " بعد أخواته الأربـع ، فما استفاقت من مخدّر العمليّة لترى مولودها الذكر الذي طالما حلمتْ به !!

 

أنا لم أعد أراها ...

 

حُرمتُ بموتها حبّاً كان يفيض من عينيها ، ومن  قَسَمات وجهها، ومن كلماتها ورائحتها ..

 

حين تفتح الباب لتستقبلني، وحين تُعانقني ، وحين تكلّمني !! وحينَ كنّا نتناجى بالذكريات ..

 

رحيل منى أفقدني شيئاً مهمّاً لروحي ، ولقلبي ، ولطمأنينتي .. شيئاً لا أعرف له كُنهاً  .. راحَ معها !!

 

مـن يوم ماتت منى أحببتُ الموت لألقاها ، وأتمنّاه لأراها ...

 

أتمنّاه في كلّ لحظة أخلو بها مع نفسي ودموعي وذكراها ؛ بعيداً عن أعين أولادي وزوجتي ..

 

"منى" حين يتوقف نبض القلب في صدري ، وحينها فقط ، أنساها !

 

أضيفت في 16/02/2008/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية