مساحيق للعدل
ها أنا أتجمل، أضع المساحيق التي فيها أغطي حقيقة وجهي بل حقيقتي.
لا أعتقد أن المساحيق أدوات لابراز الجمال أو ردم بعض العيوب
الجمالية، بل للتعمية على حقيقة المشاعر والتعابير.
اليوم حاولت التهرب ، لكن ما من مهرب.
يوم تزوجت رجلي الذي لا ينتمي الى شعبي وأمتي وملتي عارضني الكثيرون
وحاولوا أن يوضحوا لي الفروقات والصعوبات التي سأواجهها يوماً والتي لا علاقة
لها بالحب أو اللاحب، كنت أحترم آراءهم لكني دوماً اعتقدت أن الحب الحقيقي يلغي
الفروق ويجمع الأبعاد والابتعادات.
ومع أن حبنا كان وما زال حباً حقيقياً الا أني أحسُّني اليوم حزينة،
مكسورة القلب فشعبي هناك يعاني ويموت وأنا هنا علي أن أتجمل وأضع المساحيق وقد
أحتاج الى قناع لأتمكن من الخروج مع زوجي وأتمم واجباتي نحوه ونحو عمله وعلي
ألا أبتسم فقط وأتابع الأحاديث مهما كانت بل ربما أن أغني وأرقص، بالتأكيد ألا
أبدو حزينة كي لا أفسد متعة عشاء العمل.
قد تحين لي فرصة للتعبير عن رأيي وعن محنتي ومعاناة شعبي وسيؤازرني
زوجي ويدعم احساسي وكذلك سيفعل ضيوفه لكننا بعيدون جداً وكآبتنا ليست متوقعة.
الأقمار الصناعية وضعتنا وجهاً لوجه ودقيقة بدقيقة أمام كل ما يحدث
وفضائيات بلداننا المتعددة تنقل الأخبار بحذافيرها واختلافاتها، وهنا ينقلون
الينا ما يريدوننا أن نسمع ونرى. أولادنا يسمعونهم، ولا يفهمون الكثير مما أريد
شرحه. وعندما يسمعونني يعتقدون أنني أبالغ، أوأصطف في الصفوف القديمة. يتعاطفون
ويحسون، أما النقاش فلا ينتهي والجدل لا يترك للود محلاً.
للأسف، الحياة ليست عادلة.
الحياة للأقوى، ونحن ان كنا ننتمي الى المعجم الأضعف وتزاوجنا من
المعجم الأقوى لن نتمكن من الانتقال من تلك الصفحات الضعيفة الى تلك الأقوى.
أسفي وحزني على الأجيال القادمة التي ستبدأ حياتها منتمية الى
المعجم الأعجمي.
وبئس العدل غير العادل.
1-8-06
الفرجة
أتفرج على المشاهد من خلال شاشة التلفزيون وأفكر بفعل تفرَّج.
تفرجَ أي نظر الى الشيء ولم يتدخل، ولم يشترك ولم يقل ولم يعبّر عن
رأيه ولم ولم ....الخ
أتفرج لكنني أنفعل، تختلج مشاعري ويتصبب الدم في عروقي حامياً
ويتسارع ليُخرج حمائم غضب واستياء ولا أكثر.
مشاهد لا تجد كلمات لوصفها ولا مشاعر لتتحملها .. يا لهذه الحرب
القاتلة ، يا لهذه الآلة اللعينة ، يا لهؤلاء ......
وأُحسُّني أدخل وراء شاشة التلفزيون فأنا قد شبعت من التفرج، أريد
أن أحاول الولوج، كرهتُني وأنا أبدو كمثل هذه الحكومات المنتشرة ، أردت أن أكون
واحداً من الداخل.
سمعته يقول واحدهما للآخر: لا تمسك الفتاة هكذا وتفسح المجال
للمصورين لتصويرها فعندما سيراها والدها سيغضب منك، صحيح أنها لا تتعدى السابعة
ولا يهم لو انكشفت على الأغراب لأنها طفلة لكن والدها لن يقبل بالتأكيد تصويرها
في هذا المنظر ، صحيح أنها تعكس صورة واضحة عن همجية الهجوم وهمجية القتال
وهمجية القصف.
خاصة شعرها الطويل الحريري الذي نكشته قطع الحجارة التي تداعت على
الرأس الطري، وجلدها الحريري الذي تمزق وتخدش من هرس قطع الباطون المتراكم على
جسدها.
عيناها الجميلتان المغلقتان على المأساة وشفتاها المجرحتان
الصامتتان الا عن ابتسامة كانت قد ارتسمت قبل وقوع الدمار.
لا تصورها ولا تؤذي مشاعر أهلها.
أجابه الثاني بنفس الكآبة والاحباط التي جعلته يحملها من الأساس،
ويدعو المصورين لتصويرها : أهلها ؟ أين أهلها؟ يا صديقي .
تعال هل تريد مشاهدة أهلها ؟
إن كنت لا تصدقني تعال لتتفرج واطمئن لن يستطيعوا مشاهدتها ولن
يتمكنوا أن يغضبوا مني.
قد يشكروني لأني على الأقل أدعو من خلالهم العالم لمشاهدة هذه
المجزرة.
أدعوهم لرؤية ما تفتعل أيديهم وآلة حربهم.
هل تريد أن ترى أخاها المقسوم قسمين، هل تريد أن ترى قدم أختها التي
وجدناها في مكان غير المكان.
هل تريد أن ترى يد أخيها التي كانت تعانق رقبة أمه وأمها ووجدناهما
منفصلين عن باقي الأجزاء؟
حينها ستفهم أنني أحضرت الفتاة للتصوير لأنها الوحيدة التي انتشلنا
جثتها قطعة واحدة نعم الوحيدة.
هل تريد أن تتفرج عليهم؟ كما يتفرج العالم كله، الفرجة هي كل ما
يجري، نعم الفرجة فقط الفرجة.
الفرجة هي كل ما يفعله الجميع..
ووجدْتُني أسرع خارجاً من الشاشة الى مكاني على الكرسي وقد أقعدني
المشهد وأخرس كلماتي وجفف دموع عيني.
نعم الفرجة هي كل ما نفعل.
30 -7-06
الشرنقة
كالشرنقة داخل خيوط الحرير كنتُ.
أو هكذا أحسستُ.
كنت كمن انغلقت حوله كل الصور والأصوات، أقف مذهولة وأنا أنظر الى
الجميع من حولي، يتراكضون ويتساءلون بعضهم بعضاً بصوت منخفض، يتكلمون لغة لم
أتعلمها بطلاقة بعد، أتمكن من فهم الكثير من كلماتها لكن حالتي الآن لم تسمح لي
فهم أي من الكلمات التي يقولونها.
قلقي على زوجي أعمى بصيرتي وأخرس كلماتي القليلة التي تساعدني على
التفاهم هنا في هذا البلد الذي أبقاني فيه حبي لزوجي، زوجي الذي يكاد القلق
يقتلني للاطمئنان عليه.
كنت أنظر اليهم مستاؤون من اللاتعبير على وجهي واللا جواب
على شفاهي.
ماذا أكل؟ ماذا حدث؟ متى بدأت العوارض؟ ماذا أحس؟ ماذا فعلتِ؟ لماذا
لم تسرعي به الى الطبيب؟ لماذا لم تتصلي بنا؟ لماذا وألف لماذا؟؟
كان أهله جميعاً حولي .. يسألونني، لكن الكلمات التي يتكلمون بها لم
أستطع فهمها أبداً و اللهجة التي يستعملونها تمحي كل ما كنت أفهم.
يعرفون أن السرعة في الكلام تؤخر فهمي وكانوا دائماً بمحبة ينتبهون
الى ذلك، ما بي اليوم أحس لهجة مختلفة، هل هي لهجة القلق أم تبدو لهجة كره، هي
تبدو فقط كذلك.
أنا أريد أن أحكي لهم كل شيء، فلينتظروا حتى أتماسك وألتقط أنفاسي،
أعرف أنهم يريدون الاطمئنان، الطبيب سيخرج ويخبرنا حالاً.
كان الطبيب لطيفاً جداً، تمكنت كلماتي القليلة من شرح حالة زوجي
المبعثرة عند وصولنا، هبوط ضغطه المفاجيء أو أزمته القلبية وآلامه المفاجئة.
هل أخطأت باخبارهم أنني نقلته الى المستشفى؟ هل كان يجب أن أنتظر
النتيجة.
ما جعل الأمور أسوأ أنهم كانوا مجتمعين فأسرعوا جميعاً ووصلوا معاً
وتناولوني بالأسئلة.
ليت أحدهم يحس بي وبغربتي، يشفق على لوعتي، ويكسر هذا الغلاف
البلاستيكي أو الزجاجي الذي أحسه يحيطني وسيخنقني قريباً.
ليتني أتمكن أن أقول بل أصرخ بهم، ماذا تظنون ألا أريد أن أنقذ
زوجي وأطمئنكم؟ ألا تعتقدون أنني أود التفوه بكل كلمات لغات العالم لانقاذه،
تركت كل شيء لأجله.
لطالما قلت له: لنبقى في بلادي فأنت تتكلم لغتي وأهلي يحبونك وهذا
جيد، باستطاعة أولادنا أن يكبروا هنا براحة وأنا باستطاعتي الاعتناء بك وبهم
جيداً وأساعدك في العمل. لكنه أصر على العودة الى بلاده وأكد لي أنني سأتعلم
اللغة بسرعة وسيحبني أهله ويعتنون بي وسأكون جزء من العائلة سريعاً ولن أحس
بالغربة.
حبي له جعلني أصدقه، وكان كل ما حوله جنتي ، لكن الحب أمر وحقيقة
الأشياء أمر آخر.
صار عمر ابني سنتين ولا زلت لا أتكلم من لغته الا القليل، ولا أحظى
من حب العائلة الا القليل. لكن من أجله كانت كل الأمور تهون دوماً.
حين بدأت عوارضه الصحية تظهر طلب مني ألا أخبر أحداً. أقنعني أنها
حياتنا ووحدنا نتمكن من التغلب على كل شيء، أطعته لأنني أتفق معه بالرأي ورحت
أسهر أكثر على راحته وخدمته ، وكان تحسن صحته ملحوظاً فنسينا الأمر.
حتى عاد الألم الفظيع مساء البارحة فجأة.
أحس أنهم سيقتلونني عندما سيعلمون من الطبيب أننا كنا هنا منذ فترة وأجرينا
فحوصات مشابهة ولم نخبرهم.
كانت ارادته ألا نخبرهم، أفهم حب أمه وخوفها، لكن ما بيدي حيلة،
ليت بامكاني أن أقترب منها وأحضنها وأطلب منها أن تصدق مشاعري ، نحن الاثنتان
نحب هذا الرجل ونحن بحاجة الى بعضنا البعض.
لا أدري لماذا لم تحبني منذ اليوم الأول، أحسست بفتورها لكنه دائماً
كان يعزوه الى حاجز اللغة.
حتى عندما انتقلنا الى منزلنا كنت أحاول جاهدة مسايرتها لكنها كانت
دائماً فاترة، ربما أرادت له عروساً أخرى من يدري.
يوم ولد ابني، لم يفرحوا كما توقعت ولم يقدروا لي تسميته باسم جده.
لكني لم أتوقف مطلقاً عند التفاصيل ودقائق الأمور، لأن سعادتي في بيتي مع زوجي
وابني كانت كبيرة عوضتني عن كل شيء.
واليوم أنظر حولي وأراهم جميعاً عداه، فما أنا فاعلة؟؟ تضيق الشرنقة
حولي وأحس بالاختناق.
اقتربت الممرضة مني محاولة مؤاساتي، وقالت لي أن الطبيب سيدعوني
لزيارة زوجي لأنه في حالة خطيرة.
حالة خطيرة؟ لا لا أنا لا أفهم اللغة جيداً، هي المرة الأولى التي
أحس أنني أتمنى أن أكون ما فهته خطأ.
قدمَتْ لي كأس ماء ، شربْته علني أذيب الشرنقة من حولي... وأتنفس.
خرج الطبيب، فوقفنا جميعاً حوله، لحظتها تمنيت حقاً أن تتوقف عقارب
الساعة هنا في هذه الدقيقة بالذات، لا أريد أن يكون أي خطر آتٍ من كلام الطبيب
أنا لا أريد سماع أي خبر سيء.
ولكن بكل أسف ، تحدث الطبيب مطولاً وأنا أصارع الشرنقة حولي لأسمع ،
لأفهم دون فائدة، أمسكتني الممرضة من يدي واصطحبتني مع أمه وأخواته الى الداخل.
شهقت، شهقت عندما رأيته مكبل بكل أنواع الأنابيب والكمامات وأحسست
بالموت يرفرف.
سمعتُ عويل أمه، سمعتُ بكاء أخواته، لكني لم أسمع عويلي ، كان قلبي
ينزف بشدة وقلبي يطرق والشرنقة تضغط على حواسي حتى فقدتها كلها، وأنا أنظر الى
عينيه المغمضتين وقلبه المنطفىء.
وصرخت في غيبوبتي ، دعوته ، رفعت صوتي في وجهه لأول مرة ، عاتبته
تارة وتدلعت عليه تارة أخرى، حاولت استعمال الألاعيب النسائية كلها دون فائدة،
بقيت عيناه مغمضتين الاغماضة الأبدية.
لم يعد يهمني ما يقولون، لم أعد آبه لفهم لغتهم، حملت ابني وضممته..
وأحسست أنني لن أنعتق من هذه الشرنقة بعده ان لم أحزم حقائبي وأعود من حيث
أتيت.
قبل أن أغلق باب بيتنا حاملة ابني ، نظرت حولي أودع الجدران التي
طوتنا وكانت شاهدة على فرحنا وحبنا اقتربت أمه مني وأعطتني كتاب تعليم اللغة
الذي تركته عن سابق اصرار ولم أحزمه وقالت بكل وضوح ومحبة بلغة فهمت كل
تعابيرها: أرجوك، لا تحرميني من حفيدي مدى العمر. وفجأة تعانقت يدانا وانعتق
لساني وانهمرت دموعي بغزارة فحضنتها وقلت لها بلغة واضحة: سأعود، صدقيني سأعود
وحملت ابني والكتاب وغادرت.
أيهما بيتي؟
قال لي: سيدتي، أنا منطلق بسيارة الشحن الى البيت الجديد وأتمنى أن
تكون نقلتنا التالية هي الأخيرة، في طريقنا الى هناك سينضم الينا عاملان آخران
لمساعدتنا في تنزيل الأغراض وتركيب الخزانة الكبيرة. لا تقلقي فأنا أكثر منك
رغبة للانتهاء اليوم.
الى اللقاء.
أغلقتُ الباب والبوابة ودخلتُ أستطلع اللمسات الأخيرة، الحقائب
الأخيرة والعلب الأخيرة.
منذ اللحظات الأولى التي بدأ الأولاد حديثهم عن وجوب الانتقال من
هذه المنطقة التي باتت قديمة وبعيدة، وبدأنا فيها الحديث عن تغيير البيت وأنا
أفكر بهذه اللحظة بالذات، ولطالما خفت منها.
منذ أن قررت العائلة أن تغيير المنطقة أفضل للجميع عرفت أنني ضمن
الخطة وأن عليَّ تغيير بيتي أيضاً واللحاق بهم فلا يمكنني أن أكون بعيدة عن
أولادي وعائلاتهم. لكل منهم أسبابه للانتقال أما السبب الذي يخصني فهو أن أكون
الى جوارهم ولا أبتعد. وهو سبب كاف لعدم الاعتراض.
لكن عدم القبول والتأقلم فهذا أمر آخر مختلف.
رحت أعاني بصمت، وليس لي ما أتمكن فعله.
اليوم بعد أن حزمت كل صغيرة وكبيرة في بيتي للانتقال الى البيت
الجديد، أتساءل ! كم سيطول الزمن لأحس أن ذاك البيت الجديد بيتي؟
اليوم وأنا أنظر الى علب الكرتون المكدسة المرقمة والتي تحتوي على
كل دقائق وتفاصيل بيتي تنتقل الى البيت الجديد... أحسست أن قلبي ينتقل معها ،
هل هي بيتي؟؟
دخلت ورحت أجوب الغرف الفارغة غرفة غرفة، أتوقف عند كل باب، أستذكر
تفاصيل الحوادث والمناقشات ، الضحكات والمشاحنات أنظر حولي فأرى مجدداً الكراسي
والطاولة التي ذهبت وأراهم متجمعون حولها، على الستائر المعلقة التي لن نأخذها
معنا تدلت الضحكات وانتشرت الروائح، وتساءلت؟هل ستدفئني الستائر الجديدة، هل
سيدفئني غطائي الجديد أم أن نظام التدفئة الحديث سيقوم بالمهمة.
الغرف فارغة ، وها أنا أضع في الحقائب ما تبقى من الثياب وفي علب
الكرتون ما تبقى من أشيائي الصغيرة، أنا أتلكأ وكأنني لا أريد لهذا اليوم أن
ينتهي مع علمي أن السيدة التي اشترت البيت تتوقع استلام المفتاح اليوم لتنتقل
الى بيتها الجديد.
أتلمس الجدران، فأحس الفرح الذي غمرنا هنا بينها، وأتذكر الأيام
الصعبة التي مررنا بها وكانت هي سَترنا وغطانا كما يقولون. أتلمس المرآة التي
لم نستطع اقتلاعها وأخذها، أرى فيها المشادات الكلامية والنكات المضحكة.
أتذكر قول ابنتي: هيا يا أمي ، البيت الجديد سيأتينا بكل جديد،
فلنفرشه بالفرح وندهن جدرانه بالسعادة وننسى ما نستطيع من الحزن والتعب، تراها
محقّة؟
أحسُني خارج الزمان والمكان، أغلق الحقائب، وأسكر علب الكرتون وأضع
عليها الشريط اللاصق، أكومها على المدخل الرئيسي.
أعود الى الغرف مجدداً واحدة واحدة ترافقني دموعي ألقي نظرة الوداع،
أتنشق رائحتها ملء رئتي، والمفتاح في يدي أقبض عليه بقوة، أشد عليه بكل شغف.
ليتها تطول هذه الدقائق،، أشهق حزني وأبكي ثلاثين عاماً من حياتي
علها تفرغ حزني وتأخذه عني بعيداً، أحمل زهراتي الجميلة أداعبها، أستمتع برؤية
وريقاتها المتفتحة تحدثني بفرح وتبتسم، أنظر من النافذة فأرى الشارع يمتد وتدخل
عيون قلبي الى كل البيوت التي كنت أحيي أهلها كل صباح، جيراني الذين عشت معهم
طوال السنين الماضية، احتجت مساعدتهم واحتاجوا مساعدتي، فرحوا لفرحي وحزنوا
لحزني وكنا خير الأصدقاء، امتد نظري الى تلك الحديقة التي لطالما جلست على
كرسيها الخشبي أشكي همي وأغني فرحي، ورحت أغوص في دنيا غريبة من المتعة.
أشهق عالياً إذ يرن جرس البوابة قوياً عالياً. ها هي السيدة قد وصلت
لتتسلم بيتها الجديد، بعد لحظات لن أستطيع أن أدّعي أي صفة تربطني به. هي
مستعجلة جداً وأنا متباطئة جداً.
انتصبت ، مسحت دموعي، متماهلة بفتح البوابة، ذهبت مجدداً الى المرآة
ونظرت الى وجهي ثم طلبت من المرآة أن تسمح لي بأخذه معي، لآ أريد أن أترك شيئاً
ورائي لها، سمعتُني أقول وداعاًً وداعاً بصوت عالٍ ، أو خلته عالياً ونظرت
مجدداً الى المرآة فاذا وجهي مبتسم والمرآة لا تعرفني بل تبحث عن وجه جديد.
ابتعدت وفتحت الباب مسرعة.
استقبلتها، دعوتها للدخول وأكدت لها أنني لن أكون ضيفة ثقيلة، نصف
ساعة وتصل سيارة الشحن لنقل الفتات الأخير. وفتحت كفي وسلمتها المفتاح.
رحبت بي بخجل ودعتني للتمهل فلا داعي للعجلة، هي فقط تريد أن تتجول
وتستمتع بالبيت الجديد، رأيتها تقترب من المرآة تتلمسها وتطيل النظر، عرفت
أنهما تتعارفان وتتواعدان وأن المرآة بدأت بالتسجيل.
تابعت الابتسام وأنا أتجول معها في الغرف للتأكد من خلوها، رأيتها
تحيط الجدران بنظراتها الحنونة، اعتقدت أنني سأغار كالمحب ينظر الى محبوبته وهو
يرى الآخرين يتغزلون بجمالها، لكني أحسست بالخجل، أحسست بالبرود، فعلمت أنها لم
تعد لي لأبداً، لم أعد أعرفها هذه الجدران.
تابعت الابتسام ولأول مرة ساعدت العمال في نقل الأغراض بكل همة
وخرجت، لم أنظر الى الوراء، ودّعتها بسرعة، لم أغلق خلفي الباب ولم أنتظر
البوابة حتى تغلق كما في كل مرة أغادر البيت.
فقط أردت الابتعاد.
مشت بنا السيارة عبر الشارع، نظرت الى البيوت بكل محبة
مودعة أعدها بالزيارة، وراحت عيون قلبي الى البيت الجديد، أحسست أنني الآن أعيش
في الزمن الضائع، في هذه اللحظة ليس لي بيت، ولا يمكن للانسان أن يعيش دون
بيت، وذاك الذي تركته صار لها، لذا أريد الوصول بسرعة، لأتلمس الجدران والمرآة
وأبدأ بوضع لمساتي لأحس فعلاً أنه بيتي.
سبتمبر 2006
أضيفت
في 07/05/2008/ * خاص القصة السورية /
المصدر الكاتبة
كرسي الانتظار
غرف الانتظار في عيادات الأطباء هي أماكن محشوة بالقلق والانفعالات،
فمهما ساعدت أفكار المهندسين المهتمين بالديكور ومهما حاول الاخصائيون
الاجتماعيون بخلق جو يبعث على الهدوء والاطمئنان، فأنت نادراً ما تجلس على تلك
الكراسي وأنت مطمئن البال.
ما يزيد الأمر سوءاً أنك ولو كنت على موعد مع الطبيب وأتيت في الوقت
المناسب فلا بد من الانتظار الذي يؤجج القلق.
جلستُ على إحدى هذه الكراسي والأفكار القلقة تتراودني والاختلاجات
المختلفة تتقاذفني الى القريب والبعيد..
ها أنا أقف على بعد دقائق من معرفة أخبار قد تغير مجرى حياتي، وربما
تخبرني أني أحمل مرضاً فتاكاً سيودي بحياتي عاجلاً أو عاجلاً جداًً.
تراني كيف سأخرج من هذا الباب؟ ماذا سأعرف عندما أدخل وراء هذا
الباب؟؟
هل أخطأت عندما جئت وحيدة، هل سأحتاج الى من يقويني ويسندني عند
خروجي، هل سأنهار؟
أحسني قوية حتى الآن،
منذ أن لاحظت تلك الكتلة في صدري وبدأت أراقبها لم أحس بالضعف
أبداً، لا أنكر أنني توهمت قليلاً في البداية إلا أن اشغالي الكثيرة أخذتني من
نفسي ونسيتها حتى انتبهت الأسبوع الماضي أنها تكبر وأنني يجب ألا أهملها، فقد
قرأت كثيراً أن الاكتشاف المبكر لسرطان الثدي يساعد في علاجه، وأن الكتل
المشابهة للكتلة التي أحسست بها قد لا تكون سرطانية، إنما اهمالها هو خطأ فادح،
لذا طلبت الموعد السريع وها أنا اليوم هنا.
هل الكتلة من النوع الخبيث أم السليم؟ هل يمكن أن تكون مجرد كيس
دهني كما حدث مع احدى صديقاتي؟ أم أنها علامة من علامات انتشار سيءٍ جداً وقد
أهملته؟ أهملته نعم ولكن هل أهملته بخاطري؟ انشغالي بعملي وبمن حولي وبأحبائي
هو سبب الاهمال .
هل هذا عذر مقبول، أو كافٍ أو مقنع؟ بالتأكيد لا، فلن يرحمني أحد لو
علم بذلك. ربما لهذا السبب لم أقبل أن أصطحب أحداً معي، نعم لهذا السبب، لم أرد
أن أخبر صديقتي لأنها لطالما قالت لي: انتبهي لنفسك، نعم هم جميعاً بحاجة اليك
ولكنك بحاجة الى نفسك لتقومي بخدمتهم وتقدمي لهم كل ما يلزم.
دعيهم يساعدونك، زوجك الذي أقعده حادث السيارة لفترة طويلة وصرت
مضطرة لخدمته، دعيه يتأقلم أكثر مع وضعه الجديد، لن تستطيعي الاستمرار بما
تفعلين حتى يتحسن. أنت تنسين نفسك وستقعين يوماً بشكل أو بآخر،- كيف أجرؤ أن
أقول لها رافقيني الى الطبيب فقد أهملت تورماً في صدري.
زوجي المصاب باكتئاب بسبب حالته الصحية، كيف أخبره بما أهملت في
نفسي بسبب انشغالي به، سيزيده الأمر اكتئاباً ويؤخر شفاءه.
يجب أن أبتعد عن هذه الأفكار وأنظر حولي علَّ ديكور المكان يساعدني
على انتشال نفسي من أفكارها. أنظر الى هذه اللوحات الكبيرة المعلقة على الحائط،
ألوانها الهادئة تدعو للراحة، الا أنني حولت نظري عنها وكأنني أعاقب نفسي، أو
أستصعب الراحة.
كل الجدران متشابهة في غرف الانتظار وكل الكراسي متشابهة، كرهتها
يوم اضطررت الجلوس طويلاً عليها بانتظار خبر عن زوجي ونتيجة الحادث الذي تعرض
له، كرهتها يوم أدخلوه للعملية الأولى ويوم أدخلوه للعملية الثانية، نسيت كم
كان الجلوس على هذه الكراسي ممتعاً يوم كنت بانتظار تأكيد خبر حملي الأول
والثاني، يوم كانت مشاعري وأفراحي تسبقني اليها ليحدد لي الطبيب موعد ولادتي.
الكراسي في عيادات أطباء الأطفال مختلفة لا تدعوك للكره لأنك تكون
مشغولاً بطفلك ومشكلته ومرضه وبكائه الذي تعرف أنها كلها أمور عادية، لا غنى
عنها ومقدور عليها.
لأتخيل نفسي جالسة على هذا الكرسي لأمر مفرح ربما هذا يساعدني،
انتظار ولادة احدى زوجات ابنائي مثلاً، هل سأتمكن من الوصول الى هناك؟ هل سأعيش
لأحيا هذه الفكرة أم سيقضي المرض علي؟ وأعود للفكرة ذاتها.
يتصارع في نفسي شعوران قويان الأول وهو أن النتيجة لن تكون سيئة
والكتلة هي مجرد ترسبات من الحليب تكتلت كما حدث بعد ولادتي الأخيرة، لكن بما
أن هذا حدث منذ زمن بعيد جداً يأتي الشعور الثاني ليحتل تفكيري وهو أن الكتلة
هي من ذلك المرض اللعين وسيقتضي استئصال ثدي أو ربما ثدييَّ ، وربما سأتبع ما
نسمع من معالجات كيميائية وما يتبعها من أعراض جانبية كثيرة هي من صميم أنوثة
المرأة ولذتها.
أنوثة ولذة ؟ نهداي عنوان أنوثتي؟
كيف سأبدو بعد استئصالهما؟ كيف سأتحمل؟ زوجي كيف سيتحمل؟
يقولون أن نتائج العلاج في هذه الأيام ناجحة بدرجة كبيرة ولا تنتهي
بالموت.
لكن هل يكفي ألا يكون المرض مميتاً جسدياً ليكون المريض بخير، وماذا
عن المرض الفكري والحسي والعاطفي ، اليس هذا ما حدث مع زوجي، عندما اعتقد أن
الحادث سيشل حركته السفلية الى الأبد، وابتهج مبدئياً عندما بدأ يتأكد أن
المعالجة الفيزيائية ستعيد كل العضلات المصابة الى العمل بنسبة أكثر مما توقع،
وسيعود يوماً الى طبيعته، وأن كل ما عليه هو الصبر والمثابرة والتمرين.
هل سأمر بعده بالمعاناة نفسها؟
يجب أن أفعل شيئاً يبعد عني أفكاري، حتى يحين دوري.
ترجلت وذهبت الى الموظفة أسألها عن موعد دخولي واستكمال أوراقي ثم
رحت أعبث بالمجلات أحاول أن أجد واحدة تشدني لقراءتها.
ولم أتأخر في الدخول.
دخلت وأغلقت الباب خلفي، تزاحمت أفكاري وخِلتُ المسافة من الباب الى
الكرسي المواجه للطبيب أمتاراً لا تنتهي، ماذا سيقول لي؟
طلب مني أن أشرح له التفاصيل وطلب مني الدخول الى غرفة الفحص.
بدأ بفحصي وانتهى وأنا كمن لا ذاكرة له ولا تفكير.
قال لي: هل في تاريخ عائلتك من أصابه المرض؟
قلت : لا
وراح يشرح لي كيف أنه لا يستطيع الجزم بالأمر قبل أن أقوم بالفحوصات
المختلفة وأن ورماً كهذا قد يعني كل شيء وقد لا يعني شيئاً، وبشكلٍ روتيني كتب
كلمات على ورقتين وطلب مني العودة الى الموظفة التي سترتب معي كل شيء وبعدها
نتكلم.
خرجت كما دخلت، وليس كما توقعت فقد زاد كلامه من حيرتي وقلقي.
سألتني الموظفة إن كنت أرغب باجراء الفحوصات اليوم أم في يوم آخر،
وبسرعة أجبتها الآن، الآن إن كان بالإمكان، دعتني لأتبعها الى عيادة أخرى في
هذا المبنى الكبير الذي لا أرى فيه إلا جدراناً بيضاء. كنت فقط أنظر الى خطاها
وأتبعها ولا شيء آخر حولي.
دخلنا غرفة انتظار أخرى فيها كراسي مماثلة كثيرة، وطلبت مني الجلوس
والانتظار حتى أسمعهم يدعونني باسمي، وبدأت رحلة الانتظار الممل المؤلم مجدداً.
حرارة أفكاري تتصاعد وبرودة أحاسيسي تشتد، ليتني أخبرت أمي أو أخي،
لكن ماذا سيفعلان، يقلقان؟ وبعد، ربما للاشيء.لاشيء، أعجبتني الفكرة، ليتني
أستطيع التمسك بهذا الاحتمال، لا شيء .
القلق سيزيد من قلق أمي البعيدة، والقلق الزائد يزيد مرضها لا غير،
وأخي البعيد معها لن يقربه قلقه ولن يزيل عني قلقي ولو قليلاً.
تساءلت هل كان يجب أن أخبر زوجي؟ وأجبت نفسي كلا كلا بالطبع لا، فهو
لا يحتمل أي جرعة اضافية من القلق، ولكن ألن يحس أنه بعيد عني اذا لم أشركه في
محنتي، كيف سيتقبل الخبر فيما بعد ان كان خبراً سيئاً؟ ربما كان يجب أن أشركه
في قلقي ليحس بشركتنا التي كانت دوماً قوتنا.
ربما هي مجرد كتلة دهنية نزيلها بسرعة وننساها، فلماذا لا أخبره؟
آه ما أقسى الانتظار..
لو كان بقربي أحد أتحدث اليه، لو كان بامكاني رؤية الوجوه التي أنظر
إليها، بالتأكيد بينها وجوه فرحة لوجودها هنا فربما تنتقل الابتسامة إلي
كالعدوى، لو كان بامكاني مشاهدة الصفحات التي أقلبها في المجلات المتكدسة على
الطاولات لابتعد فكري عما يرعبني من الموضوع برمته.
لا أنظر ولا أرى إلا وجوهاً متشابهة بلا تعابير ولا معالم، ولا أرى
من الصفحات سوى خطوطاً سوداء تقودني الى اللانهاية.
نادى صوتٌ اسمي فتنبهت ووقفت آملة أن أترك خلفي على الكرسي كل
الأوهام والأفكار ومشيت نحو الباب.
دخلت، ومجدداً أحسست الخطوات القليلة دهراً، واذا بها غرفة انتظار
أخرى لكنها صغيرة وليس فيها إلا كرسيين. هل هذا أفضل ؟ لم أعرف بما أجيب نفسي،
لكن الصوت لم يدعوني للجلوس بل للدخول الى غرفة أخرى لتغيير ملابسي وارتداء
الثوب الخاص بالتصوير الضوئي.
- مرحباً سيدتي، كيف حالك؟ ألم تتذكريني؟ أم أن الشارب الذي ربيته غير ملامحي
كثيراً، رأيتك قبل قليل في البهو الكبير تنظرين إلي وكأنك لم تتذكريني، أما
عندما لم تعرفيني عن قرب قلت لا بد لي أن أسلم عليك وأذكرك بنفسي.
- أهلاً أهلاً(تلعثمت الكلمات فيما بين لساني وشفتيّ، ولم أعد أعرف بما
أجيب،) أحسست بخجل كبير.
وأنقذتني الممرضة بحثي على تغيير ملابسي.
في تلك الغرفة الصغيرة أحسستُ الأفكار تنحشر في مساحة أصغر حاملة
كماً أكبر من القلق يكاد يحشر أنفاسي، فقد اقترب المصير.
لبست الرداء بسرعة وكأنه سينقذني من القلق وخرجت لتطلب مني الجلوس
على الكرسي بانتظار دوري التي قالت أنه لن يطول.
فعلاً لم يطل، ودخلت غرفة التصوير.
صمت طبيب التصوير وهو يقوم بعمله سمح لأفكاري بالعودة لكنها اصطدمت
بالشاب الذي قابلته للتو، كيف أنساه، كيف أنسى يوم أحضرناه الى هذه المستشفى في
حالة اسعاف، يومها خفت عليه جداً وتعاطفت مع كونه يعيش وحيداً بعيداً عن اسرته
ليبني مستقبله، وأحسستُني بجانبه أخت كبرى أو حتى أمٌ صغرى تسأل عن ولدها
المريض. زرته مراراً وسألت عنه أكثر وأخبرت أصدقاءه وحثثتهم على زيارته حتى
تعافى، تراه يذكر تلك الأيام؟
في الأشهر التالية لمرضه كانت تحيته الصباحية الدافئة في المكتب
تغني يومي وتعطيه نكهة أخوية يحتاجها كل انسان بعيد عن أخيه. وعندما ترك العمل
تمنيت له كل التوفيق لأنني علمت أنه ذاهب الى مركز أعلى، لكني علمت أنني سأشتاق
الى تلك التحية الصباحية الدافئة والاحساس بالإمتنان
الذي كان يشعرني به كلما التقينا. تراه يذكر؟
فرحت عندما سمعت أنه تزوج وصارت له رفيقة في غربته تعتني به وتنتبه
لصحته.
تنبهت لنفسي وقد انتهيت من الفحص ولبست ثيابي وعدت الى غرفة
الانتظار.
لم أرد الجلوس على الكرسي ذاته فربما أفكاري السوداء لا زالت هناك،
لاحظت أن عيناي راحتا تبحثان عن هادي، لماذا أبحث عنه؟ لأطمئن عنه أم لأطمئن عن
نفسي؟
فرحي برؤيته أكد لي أنني كنت أحتاج صحبة أحدهم في هذا الوقت، لماذا
لم أدعُ صديقتي الحميمة، لماذا لم أنتظر أحد أولادي الذين يدرسون في الخارج؟
أنا لم أخبرهم أو على الأصح لم أفكر بإخبارهم. لو كانت لي ابنة ربما كنت
سأخبرها ألا يقولون أن البنت هي سر أمها ، لطالما سألت الله لماذا لم يرزقني
بابنة تكون لي صديقة ولكني اليوم ربما سأشكره لأنني لم أرزق بابنة ترث عني
سرطان الثدي، لكن ربما ليس لدي أي شيء، أدور وأدور بأفكاري لأعود الى الفكرة
الملعونة ذاتها.
- مرحباً مجدداً سيدتي،
- أهلاً أهلاً هادي.
- أراك تنتظرين، هل تسمحين لي أن أحثهم على احضار الصور والتقارير فأنا أعرف
الجميع هنا.
- لا، لابأس لا تتعب نفسك لكن طمئني عنك كيف حالك وحال عائلتك سمعت أنك تزوجت،
هذا ان كان لديك بعض الوقت.
- للحقيقة لقد انتهى دوامي واعتقدت أنه من واجبي خدمتك طالما أنك هنا فأنت لم
تقصري معي يوماً.
- لا تقل هذا ، تعال واجلس بجانبي وأخبرني،
- أنا أعمل في الشركة المسؤولة عن جميع الأجهزة الالكترونية في المستشفى لذا
أقضي فيها أياماً كثيرة. صدقيني لطالما حدثت زوجتي عنك واتفقنا على زيارتك لكن
صعوبة حملها الذي حصل مباشرة بعد عودتنا من شهر العسل لم يفسح لنا المجال
باقامة الحفلة التي وعدت جميع الأصدقاء بها ولا بزيارة أحد وكنت أقضي كل أوقاتي
خارج العمل بجانبها حتى ولدت الشهر الماضي وهي الآن بخير مع ابنتنا الحلوة.
- جيد، جيد، ألف مبروك ليحفظها الله لك، سأزوركم للمباركة بالتأكيد.
- صدقيني أننا نعتبرك صديقة وأخت في بلاد الغربة، أرجوك اقبلي دعوتي.
- سآتي بدون دعوة لأتعرف على زوجتك وابنتك.
وتابعنا الحديث عن العمل والناس الذين نعرفهم ومضى الوقت بسرعة
البرق.
أشكرك يا الله على حنانك، أرسلت لي هادي وتمسكت أنا به كالغريق الذي
يتمسك بلوح الخشب.
وجاءت الممرضة تدعوني لرؤية الطبيب لاستلام نتائج الفحوصات.
أحسست بقدمي مسمرتين في الأرض، ويداي تكادان تتمسكان بهادي الذي
همَّ بالذهاب، هل أستنجد به؟ هل أدعوه لانتظاري وأخبره لماذا أنا هنا، ربما
سأنهار في الداخل، وأسترجع قوتي وأقول لنفسي ما هذا الضعف الذي سيطر علي؟
ونبهتني الممرضة الى ضرورة الدخول ، اعتذر هادي بكل أدب وأكد علي
أنه بانتظار زيارتي.
نظرت الى الممرضة نظرات تحمل معانٍ ملؤها الخوف والرهبة والقلق،
وفهمتني، ربتت على كتفي ودلتني على الغرفة التي يجب أن أقصدها.
أحسست بالاستسلام، كل دقائق الانتظار الطويلة على الكراسي لا تعادل
مطلقاً تلك الخطوات باتجاه غرفة الطبيب، حسبتها طريق لا تنتهي، وخطوات لا عدَّ
لها.
جلست على الكرسي المقابل للطبيب، لا أذكر كم طال حديثه، لا أذكر إن
أجبته أو سهوت عنه، لا أذكر أبداً هل انتهى حديثه أم أنا انتهيت؟
هناء كرم أيار 2006
جُمان يا جُمان
قالت لها أمها : هيا يا جُمان، كما أوصيتك لديك سبع دقائق فقط
للحمّام.
احتجَّت جُمان قائلةً: الحمام أيضاً بالقطارة؟ أوف ما هذه الحياة؟
كل شيء بمقدار محدود، الأكل والبوظة والعصير والحمّام؟ حتى النوم، فأنا لا
أستطيع أن أنام في غرفة لوحدي ، عليّ أن أنام مع شقيقتيي سارة ونور، ما هذا؟
لقد مللتُ هذه الحياة.
قالت الأم: جُمان! لن نعود للقصة ذاتها من جديد؟ فكري بالناس الذين
لا مأوى لهم مثلك وقد شردتهم الحرب من بيوتهم، على الأقل لديك غرفة مع شقيقتيك،
ولنا حمامنا المستقل، الماء قليل نعم، ويجب أن نستعمل أقل ما يمكن منه وهذا
عدل.
- أي عدل يا أمي، أي عدل ؟ أريد أن أعود الى بيتنا، أنا متعبة جداً.
صمتت الأم ، فلا إجابة لما تقول ابنتها،
الأم أيضاً تريد أن تعود الى (بيتنا) وقد تعبت أكثر من ابنتها جمان.
كلهم تعبوا وكلهم يرددون نريد العودة الى بيتنا. لكن أين بيتنا أو
قل أين الطريق الى بيتنا؟
فتحت جُمان الماء وبدأت حمامها ونظرت كارلا الى الساعة لتتأكد كم من
الماء ستستهلك جُمان.
جديدةٌ هذه المراقبة، لكنها اضطرارية فقد سمح لهم صاحب الفندق
باستعمال المياه وطلب منهم التقنين وقال : إذا ساعدتموني أساعدكم.
استلقت على السرير بانتظار جُمان وهي تراقب عقارب الساعة ، وغلبها
التعب والقلق.
ها هي تسمع من بعيد ابنتها الكبرى سارة، تلقي محاضرة اجتماعية على
أختها الوسطى نور وتسألها الانضمام الى صفوف الشبيبة التي ستتجمع بعد ساعة
للذهاب الى الكروم والحقول لقطف الفواكه وتجميعها ثم ارسالها الى من يحتاجها،
بدل أن تموت في أرضها فلا عمال ولا مزارعين والفواكه تموت على أمهاتها، ونور
غير مهتمة بكل ما يجري حولها، وكأنها بَنت جدراناً عالية حولها، تجلس طول
النهار وأمامها كتاب تقرأ أو لا تقرأ لا يهم، لا تسأل ولا تجيب، تدعوها للطعام
فتأكل أقل ما يمكن.
سنواتها الأربع عشرة تضاعفت، تستمع للجميع وتحمل الهمَّ صامتة،
تطلب منها عملاً فتقوم به صامتة، كانت دوماً هادئة ، تدرس بهدوء تفرح بهدوء
وتغضب بهدوء، أما صمتها الحالي فقد تعدى الهدوء بكثير ، وسارة دوما غاضبة من
هدوئها فكيف وهي الآن أمام صمت مطبق، سارة بحيويتها الفائقة وحركتها الدائمة
كانت دوماً القطب الموجب الذي يحرك قطب نور السالب فتجرها الى اللعب والمناقشة
والحوار والقتال والمغامرة، هي التي تدفعها للتعبير باستثارتها. أما اليوم!!
اليوم ومع كل ما قالت لم تستطع أن تحرك فيها ساكن، يبدو أن نور
متأثرة جداً بما حصل وتراجع اهتمامها بما يدور حولها وأطبق صمتها، بدأت سارة
تصرخ من غيظها ويعلو صوتها متهمة أختها باللامبالاة والضعف والأنانية والتبجح.
فإن كانت فعلاً متأثرة بما يحدث وإن كانت تهتم لكل هؤلاء الأطفال والعائلات
التي تشردت دون مأوى ومأكل فعليها أن تتحرك وتفعل شيئاً، عليها أن تفكر أصلاً
بما يجب أن تفعل ولكن بما أن الآخرون فكروا فلتساعدهم اذن، لتساعدهم بما فكروا
وتشاركهم العمل والتعب لتحس أنها جزء من هذا الوطن الذي يعاني، فلتعاني أيضاً
معهم . معاناتها الصامتة لن تفيد أحداً ولن تفيد بشيء فلتتحرك وتقوم بشيء مفيد.
تمادت سارة في حدة نقاشها وكأنها تفرغ ما في نفسها من اضطراب وغضب ،
فالاضطراب ينفث الغضب في الهواء. لهيب الحرب المشتعل يستعير في الأجواء قلقاً
وخوفاً. هروبهم من البيوت واختلال توازن استقرارهم غلفهم بالغضب.
كان غضب سارة يشتد وهي ترى نور مستغرقة في الصمت وكأنها لا تسمع ولا
ترى فرفعت كفها لتصفع أختها وكأنها تريد ايقاظها من غيبوبتها، وتنتفض نور
لتدافع عن نفسها وعن صمتها وتبرهن لسارة أن كل ما يفعلونه هباء، كل ما يقولونه
هباء، كل ما نسمع في التلفزيون هباء وكذب، كيف نصدق ما يقوله هذا وذاك،
وختمت بقولها: أنا لا أريد أن أكون جزءاً من لعبة الآخرين.
نسمعهم يقولون يجب أن نحرر بلدنا ونقاتل اسرائيل عدونا الأكبر،
وعندما يحاربها الثوار يقولون لا! لا! هناك طرق أخرى للتفاوض ، في التلفزيون ،
الشعب بل الشعوب كلها في قتال مع اسرائيل ، والحكام صمت مطبق ، لا أحد يحرك
ساكناً. الغرب ليس صامتاً بل مسانداً لاسرائيل لأنها على زعمهم تدافع عن نفسها،
لا يهم أنها تأخذ أرضاً ليست لها وتعتقل وتختطف المئات دون سبب ظاهرودون
محاكمة، هذا مشروع لها، لأنها تدافع عن نفسها وعندما يُخطف لها جنديان وبقصد
واضح وبعملية واضحة تقوم الدنيا ولا تقعد وتهدم البلد كلها والجميع يدعمها ،
كيف تريدينني أن أتحمس وأنا أرى أن لا أهمية لي إن عشت أو مت، إن دافعت عن
حقوقي أو بلدي أو لا !! المهم ما تعتقده الدول الكبرى والمتآمرون من بلدي معهم
وما يركزهم في مراكزهم ويملأ جيوبهم وأنا وأنت وبيتنا وجارتنا لا يهم أبداً.
وتتابع سارة النقاش لتتهم أختها بالانهزامية والتراجع والتخاذل،
والأم لا تصدق اذنيها وتتساءل من أين تعلمت البنات كل هذا الكلام؟ هذا كلام
جرايد وأخبار فضائيات، ما زالتا صغيرتين على كل هذا، خاصة وأنها كانت دائماً
تحاول مع والدهما أن تبعدانهما عن كل هذه التفاصيل لأنها لا تؤدي الى مكان.
دخل الوالد على عجل سامعاً أصوات المناقشات الحادة، وهي .. تتابع
المشهد أمامها، ترى كل شيء لكنها عاجزة عن الحركة والكلام ، قدماها ملتصقتان
بالأرض وشفتاها مطبقتان.
قال الوالد: ما هي المشكلة ولماذا أصواتكما عالية؟
- يا أبي أريد لنور أن تتحرك فهذا البرود غير معقول يجب أن نفعل شيئاً ، لا
نستطيع أن نبقى هكذا دون عمل أي شيء مهما كان بسيطاً.
- لكن يا ابنتي ماذا باستطاعتكم أن تفعلوا ؟؟
- لقد تشاورنا مع شبيبة الضيعة البارحة في المركز وقررنا الخروج الى المزارع
والكروم لقطف الفواكه وتوضيبها في صناديقها وتوزيعها. ومن ثم نفكر بشيء آخر
لنفعله لا يمكننا أن نبقى مكتوفي الأيدي أو فقط نتسلى وأبناء شعبنا يقتلون
ويتشردون ويتألمون.
- مهلاً مهلاً، الحرب دائماً هكذا صعبة وقاسية، لكن ماذا لو أصاب القصف
العشوائي منطقتنا؟ حتى الآن نحن آمنون ولكن من يدري؟ الحرب مجنونة وأعداؤنا
مجانين.
وتقول سارة بانفعال كبير: وهل نبقى في البيت خوفاً من ذلك؟ اذن
ربما يقصفون هذا المكان الذي هربنا اليه وهم لا يهمهم مناطق مدنية أو عسكرية ،
وتتحمس نور وتقول: قل لها يا أبي ، لا فائدة من كل ما يفعلون، فربما
نكتشف بعد حين أن هذه المجموعة تستعمل الشباب المتحمس لمساعدتهم في قطف الفواكه
لبيعها وليس لتوزيعها كما يدَّعون.
- لا تكوني متشائمة لهذا الحد!
- الحقيقة يا ابنتي أثبت العالم بكل أسف أننا نكتشف خيانة الجميع بعد حين.
انظري الى جميع القادة ، الى جميع القادة العرب بكل أسف . يصيبك الاحباط حين
تنظرين الى ردود فعلهم ، أنت تذكرينني بالأيام الخوالي ، منذ زمن بعيد حين
تحمسنا وحاربنا ودافعنا ودفعنا بأنفسنا الى العمل الاجتماعي ثم الى الحرب. ومن
ثم خُذِلنا واكتشفنا أنهم جميعاً كانوا متآمرين، يكذبون ولا أحد منهم يهتم
بصالح البلد بشكل حقيقي، ومن كان منهم كذلك ضاع بين الجموع وجرفه التيار خارجاً
. أقول ذلك وأنا في غاية الأسف.
وتعقب سارة: لكن يا أبي، يجب ألا نفقد الأمل ونبدأ دائماً من جديد،
وهذا ما يفعله الأبطال هناك.
- أحس معك بالفخر أنهم يحاربون حقيقة، لكن انظري حولهم كيف يفسر العالم
محاربتهم وشهادتهم، يعتبرونهم ارهابيين ويريدون نزع سلاحهم وكثيرون حولنا
يعتبرونهم سبباً في خراب البلد وتدميرها وقيادتها الى حرب لا طائل منها لأنها
أمام أقوى قوة في العالم.
وتخرج جُمان من الحمام لتنضم الى النقاش وتقول: كل ما أعرفه أنهم
أبعدونا عن بيوتنا واضطررنا للهروب دون أن نأخذ أغراضنا ونحن الآن نعاني من
شحٍّ في كل شيء ويجب أن نتحمل ونفكر بالمهجرين الآخرين الذين لم يكونوا محظوظين
مثلنا واستطاعوا الحصول على شقة صغيرة في فندق بل افترشوا الحدائق والمدارس،
يجب أن تمر أيامنا هكذا بانتظار انتهاء الحرب وأن نتحمل كل ما يحدث ولا نتأفف
كما تقول ماما ونشكر الله، الجميع يشكر الله ويطلب منه الرحمة ولا أعرف لمن
سيستمع الله، للمقاتلين أم للمهجرين أم لمن؟؟
- انتبهي لكلامك يا جُمان هذا حديث الكبار لا تتدخلي فيه.
- لكن يا أبي أريد أن أكبر أو بالأحرى لا، لا أريد أن أكبر ، فلا شيء أمامي
يحمسني ، ويجعلني أتوق للوصول اليه. كانت الاجازة تغريني والسفر والراحة
والاستمتاع معكم لكن بعد ما عانينا مما نحن فيه لا شيء في الدنيا يستأهل.
وتعود سارة للقول: اذن أظنك تشاركينني الرأي بأن علينا أن نفعل
شيئاً لنثبت وجودنا ونحس أننا نفكر ونحاول لا أن نجلس بصمت وبلا حراك، ولنكتشف
بعد حين ما قد نكتشف، على الأقل لا نتخاذل أمام أنفسنا، ونعرف أننا قمنا بما
نظن الآن أنه صحيح، ما رأيك يا والدي؟ هل تأتي معنا؟
وتهب كارلا لتقول لهم: انتظروا، فإما أن أذهب معكم أو تبقون جميعاً
هنا، يجب أن نبقى مع بعضنا فإن حدث شيء فليحدث لنا جميعاً ونموت معاً،
لكنها لم تستطع الحركة ولا الكلام قدماها مشلولتان وصوتها مكبوت لا
يُسمَع.
وتحس كارلا بيد ابنتها على خدها قائلة:
ماما، ماما استفيقي ، لقد أنهيت حمامي، بأسرع مما طلبتِ، فقط أربع
دقائق. ماذا بك هل نمت؟
وتستفيق كارلا من حلم النقاش وتنظر حولها لترى نور مستغرقة في قراءة
كتابها وسارة جالسة بقرب والدها يتابعان الأخبار وتسأله:
بابا هل هناك ما يمكننا أن نقوم به هنا للمساعدة؟ أحسني أريد أن
أثبت نفسي ولا أرى الأيام تمر دون فائدة.
ابتسمت كارلا بحزن وتساءلت في نفسها، هل تخبرهم بأمر الحلم أم أنها
ضعيفة لدرجة لا تريد لبناتها حتى الخروج من الدار.
أمي الختيارة
الجميع قال لي : "مجنونة"."تقودين سيارتك وتذهبين وحيدة الى الجنوب.
ألم تجدي أحداً يرافقك؟ هذا يعني أن الطريق غير آمن."
كنت أقود السيارة بسرعة قصوى عبر الطرقات التي حفظتها عن ظهر قلب
لكثرة ما قدت سيارتي من قريتي الى بيروت وبالعكس. منذ أن بدأت الدراسة في بيروت
كنت أعود الى البيت كل يوم سبت أقضي العطلة الأسبوعية مع أمي كما وعدتها. وكنت
أستمتع بالمناظر الخلابة دائما وحتى بعدما اقتنيت السيارة كنت لا أنزعج من
القيادة لوحدي فالطريق تعج بالناس في كل الأوقات ثم إن موسيقاي المفضلة تغني لي
أحلى الأغاني من فيروز الى ماجدة الرومي الى عبد الوهاب.
حتى عندما قلت زياراتي الى الضيعة وطالت فترات غيابي الى أشهر كنت
أسلك الطريق دوما بشغف.
أما اليوم فلا ناس على الطرقات ولا موسيقى في سيارتي هي الأخبار فقط
أستمع لما يجري فربما طريقي غير آمن كما أصر زملائي في العمل على تنبيهي.
الشبابيك مفتوحة رغم الحر الشديد فأنا لا أريد اغلاقها واشعال
المكيف لتلتقط أذناي أية أصوات غير طبيعية على الطريق.
يدايا مثبتتان على المقود بتوتر وعيناي على الطريق أمامي فقد حذرني
كثيرون من الحفر التي حصلت نتيجة القصف الاسرائيلي على الطرقات، أذناي تستمعان
الى ما يقوله المذيع من فترة لأخرى أما عقلي فهو عندها أمي الحبيبة. تراها ما
هي فاعلة دون أن تطمئن عني وتسمع صوتي لأسبوع كامل؟ إن كنت أنا في هذه الحالة
من القلق فكيف تكون هي؟ هي الأم. بالرغم من أنها أصرت في مكالمتنا الأخيرة أنها
تطمئن عني أكثر إن بقيت في بيروت وأنها لا تريد أن تراني حتى ينتهي كل شيء
لكنني أعرفها جيداً لا بد أنها لم تترك نبياً أو قديساً بعد الله لم تسأله
حمايتي ولقياي.
الجميع قال أنني مجنونة للقيادة الى الجنوب لجلبها وأصروا جميعا
أنها لن تقبل بمرافقتي وأنا شخصياً أعرف أنها ستعذبني كثيراً قبل أن تقتنع
بمرافقتي. أعرف أنها أصرت على البقاء في بيتها وأنها لا تريد أن تترك الضيعة
لأي سبب كان. لكنني لم أعد أستطيع تحمل هذا الوضع. هي بعيدة عني وفي محور الخطر
المباشر ولا هاتف قريب منها أتصل بها للاطمئنان عليها ولا امكانية لي بترك
عملي ومصدر رزقي الوحيد لأبقى الى جانبها وهي لم توافق يوما على الانتقال الى
بيروت لتعيش معي فأنا أذهب الى عملي في الصباح ولا أعود الى المساء. أما في
الضيعة فكل جيرانها وأهلها حواليها.
قطعت شوطاً كبيراً من الطريق وشفتاي تتمتمان صلوات متواصلة وعقلي
ومخيلتي ملتصقان في مقعدها المفضل في غرفة الجلوس ممكسكة سبحتها تسبح وتصلي
وتستمع الى الأخبار أو تشتغل بالابرة لتكمل غطاء الطاولة أو الشال الذي تعده
لجهازي والذي تستعمله ذريعة مشروعة كل مرة ومنذ سنوات عديدة لتسألني ان كنت قد
وجدت ابن الحلال لتستعجل في انهائه.
وصلت الضيعة كالحلم. وعانقتها كالحلم .
فرحة عينيها للقائي أنستني قلق الطريق وعرقه.
أطفأت الراديو فلم تعد بحاجة لتعرف ما يجري وأسرعت لاعلان فرحتها
بزغرودة فهمتها الجارات وتهافتن للسلام علي وتهنئتي وتهنئتها بالسلامة.
فرحتها الكبرى منعتني من فتح موضوع السفر الى بيروت.
حيرتي دفعتني الى تجاهل سؤال قرأته في عينيها عن سبب زيارتي.
أنا أعرفها جيداً وهي تعرفني أكثر فمنذ توفي والدي وهاجر أخي مروان
الى استراليا ونحن متلازمتان، روحيا لا مكانيا هي ملاذي القريب الى قلبي تفهم
رفة عيوني ونبرة صوتي وكذلك أنا.
نمت ملء جفوني بعد أن قبلتها.
أعرف أنها كانت تقوم من فراشها كل ساعة لتتأكد من أن وجودي ليس حلما
وأن الساعات القليلة التي نامتها أعادت لها نشاطها فقد سمعت حركتها باكراً
لكنني لم أتحرك، كنت أنتظر رائحة القهوة.
أما صراخ أم فادي: "مروى الحقينا" فقد اقتلعني من الفراش بخوف كبير
وركضت لأراها واقعة على الدرج في مدخل المبنى وبجانبها كيس المناقيش وأم فادي
تحاول مساعدتها على الوقوف أو الجلوس.
صرختُ: " سلامتك يا أغلى الحبايب، دقيقة لأبدل ثيابي وأقلك الى
المستشفى".
صرخَتْ: "لا، الى فراشي ، فقط الى فراشي، بعد قليل سأكون بخير."
قالت لي: لا تأخذيني يا ابنتي، فليس لديهم وقت لي هناك، دعيني في
فراشي . أمسكت يدي وتابعت:"أرجوك ، فقط ابقي الى جانبي."
كنت أنظر الى وجهها الحبيب، قلبي يطرق بشدة وفمي يطلق تعابير فاقدة
الهدوء.
قبلت يدها التي تمنعني من مساعدتها على القيام لمحاولة الوصول الى
السيارة.
شدت يدي وصرخت من الألم ثم أردفت: "إن اردت مساعدتي فقط اسأليهم أن
يعطوني ما يخفف من آلامي."
فقدتُ هدوئي وصرخت معترضة على هذا المنطق.
ساعدتني أم فادي وحملناها الى السيارة ودلتني على الطريق الأقصر
للوصول الى المستشفى الكبير الذي عمره المغترب الاسترالي وصار أكبر مركز طبي في
المنطقة.
أسرعت في طلب نقالة تحملها شارحة باختصار حالتها.
سألني شاب يلبس الرداء الأبيض: ما عمرها؟
قلت : اثنان وسبعون عاماً.
قال لي بصوت منخفض : أعتذر يا أختي لن أتمكن من ادخالها المستشفى
وخاصة الى غرفة الاسعاف، ألا ترين ؟ ألا تسمعين ما يحدث؟ ليس لدينا الوقت
والمكان لاستقبال الجرحى والمصابين جميعاً وأنت تطلبين طبيباً ليسعف رجل والدتك
المصابة بكسور و"ربما"؟ اذن ربما تكون مكسورة أو لا تكون.
خذيها الى البيت وسأعطيك بعض الأدوية المهدئة، أعيديها الى هنا
عندما يتوقف القصف.
وقبل أن أستفيق من الصدمة التي أصابتني من كلامه، ربَّتَ على كتفي
وقال: في الداخل عشر حالات مستعجلة عمر أكبرهم 40 عاماً وليست لدينا القدرة على
اسعافهم جميعاً.
كلهم أصيبوا في القصف المجنون، وزادت أحوالهم سوءاً حتى وصلوا الى
هنا.
نظرت اليه بدهشة كبيرة ولم أتكلم.
تابع قائلاً: سامحيني، لن أستطيع أن آخذ والدتك مكان أحدهم والمزيد
قادم والا لكنت طلبت منك الانتظار، الألم سيزول قريباً فقط لن يكون بامكانها
الحراك.
وأمسك بيدي وسحبني "مرغمة" و "منذهلة" أجر قدميَّ خلفه.
فتح الباب المواجه لنا وتابع كلامه :
صدقيني لا تتركيها في السيارة ولا تعذبيها أكثر، تعالي تعالي معي
لتصدقي.
بهو الاسعاف الكبير يعج بالناس، ممرضين وممرضات وأطباء والحجرات
الصغيرة المجزأة من البهو مفتوحة الستائر دون خصوصية، مرَّ المشهد أمام عيني
كالافلام السينمائية السريعة، فليس من المعقول أن تكون هذه المشاهد حقيقية
وبالسرعة الطبيعية.
كلهم يتصايحون ويتراكضون في لباسهم الموحد يضعون على أفواههم
وأنوفهم أقنعتهم البيضاء،والأيدي ترتفع وتنخفض والأقدام تروح وتجيء والدماء في
كل مكان.
أسِرَّة تنسحب من هنا لتنتقل الى هناك ويأتي مكانها أسرة أخرى تحمل
آخرين.
والدماء في كل مكان.
وقبل أن أتفوه ببنت شفة، سحبني مرة أخرى الى الخارج وقال: أنظري الى
غرفة الانتظار، إنها فارغة وهذا يعني أن أحداً ممن في الداخل ليس لديه من ينتظر
خبراً عن نتائج جروحاته واصاباته، فهنيئاً لأمك بقربك منها، خذيها الى البيت
وأعطها المهدئات اللازمة وحبك وعنايتك، صدقيني هي محظوظة بك.
تركني في الغرفة الفارغة وحدي أنظر حولي مستعيدة كلماته. لم يطل
غيابه إلا برهة وعاد بعلبة دواء دفعها اليَّ وقال: الله معك.
نظرت الى العلبة بين يدي ونظرت اليه وقفلت راجعة الى السيارة،
منذهلة، صامتة ومرغمة.
فتحت باب السيارة ونظرت الى أمي وقد غلبها الألم فراحت في غيبوبة.
قالت جارتنا: ما بك؟ منذهلة؟ مجدوبة . ماذا حدث؟
لماذا لم يأتوا بالكرسي المتحرك بعد لأخذها؟ إنها تتألم، أنظري فقد
غابت عن الوعي من شدة ألمها.
هزتني ، هزتني تحاول شد انتباهي وافاقتي من صدمتي.
قال لي: محظوظة هي بك، خذيها الى البيت وأعطيها حبك.
ومرَّ شريط سريع أمام عيني ، لقد تركتُها كثيراً، وبعدتُ عنها
كثيراً، اعتقدتُ أن الهاتف اليومي والسؤال اليومي كافيان، حسبت الاجازة السنوية
كافية للبقاء بقربها.
والآن ها هي ترقد أمامي متألمة وأنا لا حول لي ولا قوة.
لقد وقعَتْ على الدرج حين كانت تحاول أن تعدّ لي افطاراً ساخناً
أحبه ويجب بحسب قاموسها أن يتضمن منقوشة ساخنة، لم تقتنع أن الأجواء مضطربة
والخروج من البيت غير ضروري، وأن الفرن ربما هو مغلق.
أرادت أن تذهب في غفلة مني، فوقعت وراحت تكيل لنفسها السباب ولم
ترغب في الذهاب الى المستشفى وأكدت أنها ستكون بخير قريباً.
قالت:ماذا سيفعلون بختيارة مثلي في المستشفى في هذه الأيام
بالذات. دعيني في البيت.
ألم تسمعي الأخبار؟ انهم يحضرون الجرحى والمصابين من المناطق
المقصوفة الى هنا.
أنا التي أصررتُ على نقلها وكبدتُها العناء ظناً مني أنني أساعدها
وأخدمها وأعتني بها.
والآن سأعود بها مكسورة الخاطر وقد زدت من آلامها وأكدت اقتراب
أيامها، كلا، لا يمكن هل آخذها الى مستشفى آخر؟ هل في بلدتنا الصغيرة مستشفيات
أخرى؟
صرخت جارتنا مجدداً: ما بك؟ ماذا حدث لك؟ يا حزني عليك وعلى عقلك!.
هذه أمك تحركي.. تحركي.
وبدا لي أن الشلل الذي أصابني هو أكثر بكثير مما أصاب أمي، شلَّ
تفكيري ودموعي وصوتي وربما قدمي.
هناء كرم 3-8-06
الوحيدة البعيدة والحرب
كان يا ما كان ، ليس في قديم الزمان ، بل قريبه ، فتاة في عمر
الورود، تدرس بجدٍ وتعمل بجد أكبر.
مع أنها وحيدة أبويها فقد استجابوا لرغبتها بالذهاب الى فرنسا
لمتابعة دراستها وتحقيق طموحها، وكيف يستطيعون رفض أي طلب لها وهي التلميذة
المجتهدة والبنت البارة. لم تزعجهم يوماً ولم تؤذِ أحداً منهم بكلمة.
ومع أن ما جمعاه من مالٍ طوال حياتهم هو لها ولدراستها وسعادتها
ومستقبلها لم تقبل إلا أن تعمل الى جانب دراستها وتتحمل جزءاً من مصروفها ،
كانت تقول لوالدها: كدّسهم وسأدعوكم لنذهب معاً في مشوار رائع الى قبرص في
الصيف.
مرت السنة الأولى من تخصصها بخير واقترب الصيف واللقاء.
في كل مرة يتصلون بها منذ أن بدأ العد العكسي لإجازتها كانت تذكرهم
بالحجز الى قبرص في الأسبوع الثاني من شهر آب. طبعاً ففي الأسبوع الثالث عيد
ميلادها وكيف ينسون ذلك.
كان من المفترض أن تعود في السادس والعشرين من حزيران 2006 ، كانت
ووالداها على أحر من الجمر لّلقاء الحميم، صار والدها يتصل كل يوم فلم يعد
يحتمل الانتظار، وراحت والدتها تعد قوائم الطعام التي يجب أن تحضيرها للاحتفال
بوصول الغالية إيليان.
في العشرين من حزيران أتاها صاحب المكتبة التي تعمل فيها يرجوها أن
تؤجل سفرها ثلاثة أسابيع لأن الفتاة التي تعمل معها اضطرت لاجازة سريعة وهو
يحتاج الى أسابيع ثلاثة حتى يوظف أخرى وتستلم مكانها، وشرح لها أنه يقدّر شوقها
لأهلها وللعودة الى بلادها لكنً ما جعله يتشجع ويطلب ذلك منها أن الكاتب
المشهور الذي طالما انتظرت زيارته الى باريس قد أخبره البارحة أنه قادم أخيراً
وسيأتي في العاشر من تموز ووافق أن يُقام له حفل توقيع لكتابه الجديد في
مكتبتهم، وهو يعلم كم يعني ذلك لها.
وقع طلبه عليها وقع الصاعقة. صمتت وبلحظة مرَّ أمام عينيها وجه
والدها وعيني والدتها حين ستخبرهما أنها ستتأخر.
بلحظة، استذكرت كم سيؤثر ذلك على نفسياتهم جميعاً ، هي أيضاً قد
ضاقت ذرعاً بالانتظار، مشتاقة أن ترتمي في حضن أمها، مشتاقة أن يغمرها والدها
بحنانه ودلاله، مشتاقة لكل تفصيل في البيت، في غرفتها.
ولكن،
صاحب المكتبة يستحق أن تقدم له هذه الخدمة وهو قد ساعدها
كثيراً طوال مدة عملها عنده وآزرها في أوقات صعبة كثيرة وتفهَّم غيابها بسبب
امتحاناتها وأمَّن لها المراجع التي تلزمها.
وزيارة الكاتب المشهور الذي تحب، منذ أن أخبرها صاحب المكتبة أنه
يعرفه ووعده بالمجيء وتوقيع كتابه الجديد في المكتبة وهي تحلم بذلك الحدث، هي
تجربة تستحق الانتظار دون شك.
ثم إنه انتظار ثلاثة أسابيع فقط وربما أقل، ولكن؟؟.. يعود الشوق،
وعليها أن تتخذ القرار.
فجأة خطرت لها فكرة أحست أنها ستساعدها على اتخاذ القرار.
قالت لصاحب المكتبة: حجز طائرتي في السادس والعشرين ومن الصعب جداً
تغييره والحصول على مكانٍ شاغر في شهر تموز فهو من أصعب الشهور.
صمت برهة وقال: إن تمكنت من استعمال معارفي وتغيير موعد سفرك هل
توافقين؟
صمتت ثانية وكأن رده أعادها الى دوامة التفكير.
يجب التحدث لأهلها.
اتفقا أن تتحدث هي لأهلها وهو يحاول تغيير موعد سفرها.
تلك الليلة لم تنم، بالرغم من أن خلاصة حديثها مع والديها كانت
مقنعة ومعقولة ومرضية إلا أن الحزن العميق لتأخر قدومها قرأته بين الكلمات وخلف
القبلات التي أنهيا بها المكالمة.
كانت متأكدة قبل أن تخبرهم بما حدث بأنهما سيتركان القرار لها ولن
يدعا شوقهما يؤثر على شيء تريد القيام به فهما منذ البداية تعاملا معها على هذا
الأساس.
هكذا ربياها وتألما كثيراً من أجلها، وضحّيا بوجودها بينهما من أجل
ما تحلم به وتسعى اليه.
هذه المرة شعرت بالتردد، وأوضحت ترددها لأبيها، فانتهى الأمر بينهما
بقوله :أتركي الأمر لله يا ابنتي فإن تمكن صاحب المكتبة تغير موعد سفرك فذلك
يعني أن هذا أفضل لك وإن لم يتمكن فمعناه أنك حاولت مساعدته ولن تشعري بالذنب
ولا هو سينزعج.
لكنها سمعت من بعيد والدتها تدعو الله ألا يتمكن من ذلك وألا تغير
الموعد.
لم تنم، كانت تارة تحلم بوصولها وارتمائها بين ذراعيهما ثم الوصول
الى البيت والمأكولات اللذيذة تملأ الثلاجة، والجيران يهللون بوصولها وتسألها
الجارة كالعادة: " شو ما في ابن حلال شاف هذا الوجه الحلو" وأمها تجيب كالعادة
" بكير بعد خليها تخلص وترجع لنا ونشبع من وجودها بيننا قبل ما تروح مع ابن
الحلال"
وتحلم بنظرات والدها التي لا تفارقها وكأنه يخاف أن تغيب عن عيونه،
وتتقلب في الفراش لتحلم بالعمل الصيفي والمبلغ الكبير الذي ستحصل عليه، وتتساءل
ماذا ستشتري به لوالدتها ووالدها ولنفسها.
والحلم الكبير ، سيحضر الكاتب الى المكتبة وستعد له قهوته وستسنح
لها الفرصة للحديث معه والتعبير عن اعجابها به وستفخر أمام الجميع بالصور التي
ستأخذها معه وستحدثهم مطولاً عن تفاصيل ذلك اليوم.
ومن بعيد ترى صديقتها الحميمة فرنسواز التي طالما رجتها ألا تسافر
مباشرة بعد انتهاء الدروس لتمضيا معاً بعض الوقت في الصيف لتسهرا معاً ةتتعرفا
على الشباب الحلوين الذين يأتون للسياحة، كانت فرنسواز تصر أنها ستجد لها شاباً
لبنانياً وسيماً يستحقها.
وتتقلب أكثر في الفراش لترى والدتها تصلي وتصلي حتى لا تتأخر، وتغط
أخيراً في النوم.
عندما أخبرها صاحب المكتبة أنه تمكن من ايجاد مكان لها على متن
طائرة الثالث عشر من تموز، لم تدر هل تفرح أم تحزن؟ إنهما اسبوعان ويومين فقط،
لا بأس.
قال لها بأن الكاتب سيأتي يوم السبت بعد المقبل.
كان الحل معقولاً ومقبولاً من الجميع.
سُرَّت به وراحت تستمتع بعملها وأيامها ولا توفر وقتاً فارغاً إلا
وتقضيه إما في الأسواق بحثاً عن الهدايا لأهلها ولنفسها أو في التسكع مع
صديقتها والسهر ومحاولة التعرف على أصدقاء جدد "أولاد حلال" كما تسميهم فرنسواز.
ومرت الأيام مسرعة.. وجاء اليوم الكبير وحضر الكاتب، واستمتعت
بالاحتفال به بكل طاقاتها، أخذت من الصور أكثر مما توقعت وسنحت لها أكثر من
فرصة للتحدث اليه.
عندما اتصلت بأهلها آخر النهار لتخبر والدها بكل ما حدث وبكل
التفاصيل رجاها أن تؤجل التفاصيل الى حين حضورها وإلا فإنها ستدفع مبالغ طائلة
ثمناً لتلك المخابرة.
وناموا جميعاً مسرورين لأن بقاءها واجازتها استحقا العناء وقد اقترب
اللقاء.
أخيراً حلَّ يوم الأربعاء الثاني عشر من تموز.
عندما اتصلت بهم لتطمئنهم بأنها قد وضبت كل أغراضها وباتت جاهزة
للقدوم وراحت تسأل والدتها عن قائمة المأكولات قرأت في صوتيهما قلقاً وتردداً
غير عادي.
بلهفة قالت : ماذا يا أبي؟
تردد قليلاً ثم قال: ألم تسمعي الأخبار؟؟
قالت: كلا ماذا هناك؟؟
قال: على كل حال الأمور ليست واضحة، ان شاء الله تصلين بالسلامة ،
لولا شوقنا الكبير اليك لقلت لك لا تأتي.
وأنهيا المكالمة بتردد وترقب شجب فرحتها وحماسها .
لم تستطع ليلتها مسايرة صديقتها بالذهاب الى النادي حيث رأيا
الشابين الوسيمين. بل سهرا قليلا قرب البيت ثم نامت حيث لم تستطع فعلاً تقدير
ما حدث ولم يخطر ببالها أن شيئاً خطيراً على الأبواب.
رن هاتفها باكراً، جفلت وأسرعت للرد ، وسمعت صوت والدها بكل القلق
يقول: لا تأتي يا بابا أرجوك لا تأتي ، على كل حال لن تستطيعي المجيء اليوم
فالمطار قد أغلق ولو فتحوه أرجوك لا تأتي فأنا أشم رائحة حرب على الأبواب.
ايليان يا حبيبتي ، ردي علي ولا تدعيني أقلق عليك. وانفجر الاثنان بالبكاء.
تمالكت وحاولت أن تصحو من الصدمة وقالت : بابا لا تقلق علي، كلمني
بعد قليل.
هاتفت شركة الطيران، هاتفت المطار كلهم أكدوا أن الرحلة التغت حتى
اشعار آخر.
لحظتها فقط أحسّت كم هي ضيقة غرفتها، وكم هو صغير شباكها. كانت
فرانسواز تسألها دائماً كيف تتمكن من العيش في هذه الغرفة الصغيرة وكانت دوماً
تجد لها تفاسير عما تضيفه هذه المرآة وعما تقدمه هذه اللوحة للمشهد العام. أما
الآن فبدا لها كل شيء أسود وضيّق يدعو للاختناق.
حرب؟ حرب مجدداً .. لا لا يمكن ، هذا بابا يبالغ كعادته، سوداوي
يخاف من كل شيء ويعتبر كل شيء مغامرة ما لم يمكن مؤكداً مئتين بالمئة.
اتصلت بفرنسواز لتخبرها بعدم جلب سيارة والدتها لنقلها الى المطار
واذا بفرنسواز تدق على الباب مبكرة على موعدها. حينها فهمت أن والدها اتصل
بفرنسواز بالتأكيد كي لا تبقى وحدها كعادته.
في الاتصال التالي قال لها والدها: استمتعي باجازتك يا حبيبتي ، ولا
تبخلي على نفسك ، بسيطة خيرها بغيرها، انشاءالله نراك عندما تهدأ الأمور ولا
تقلقي علينا انشاءالله لا خطر مباشر علينا، بدورنا سننتبه على أنفسنا.
قالت له نعم نعم
وقالت لأمها نعم نعم ،
لا تقلقا فأنا أتدبر أموري لكنها كانت تعلم أن أمها حزينة حزينة
حزينة ووالدها مثلها بائس بائس بائس .
ذهبت مع فرنسواز الى المقهى الذي يتجمع فيه العرب حيث يستمعون الى
الأخبار والأغاني العربية.
نقل مباشر وتصوير مباشر للقصف على المطار ثم الضاحية الجنوبية.
ارتبكت وحزنت ولم تستطع أن تبتلع قهوتها المثلجة التي تعشقها.
راحت فرانسواز تستعمل كل أساليب صداقتها الصادقة للترفيه عنها، إلا
أنها فهمت أن الموضوع جدّي ولا يحتمل الترفيه.
مرَّ اليوم الأول ثقيلاً ، مملاً ، حزيناً ، كئيباً مع كل ما يمكن
أن يضاف الى ذلك من صفات ، ونام الجميع على الآمال والصلوات.
ومرّ اليوم الثاني ، ومر اليوم الثالث والخامس والسابع... والحالة
تزداد سوءاً وهي تقضي وقتها في المقهى أمام التلفزيون مع الكثير من اللبنانيين
مثلها تطلب الشاي ثم القهوة ثم العصير ولا تشرب شيئاً فقط تتابع الأخبار، لم
تستطع حتى مشاركة الآخرين أي حديث ، فقط الأخبار.
في الصباح والمساء تتصل بأهلها للاطمئنان وفي كل مرة يتمنون ألا
تنقطع الخطوط فيبقون على اتصال على الأقل.
حتى المكتبة لا تستطيع العودة والعمل فيها فهي لا تملك
تركيزها بعيداً عن شاشة التلفزيون.
عرضت على صاحب المقهى أن تعمل فيه فذلك سبيل أفضل للبقاء أمام تلك
الشاشة اللعينة خاصة وأن رواد المقهى يتكاثرون.
ومرّ اليوم السادس عشر والثامن عشر ...
وهي في كل ليلة تحلم أنها بين أحضان أمها تبكي شوقها ، وعلى كتف
والدها تستسمحه التأخير وهو يقول لها: الرب أنصفنا ببعدك كنا سنخاف أكثر لو كنت
هنا.
ترى أصناف الطعام تنتظرها على المائدة وهي تمد يدها ولا تصل، يسيل
لعابها كمن ينظر الى الوليمة من خلف الأبواب والنوافذ والقضبان.
ترى الجيران يطرقون الباب ويسألون عنها وهي لا ترد .
لم تعد تلتقي بفرنسواز كل يوم فالمقهى بعيد عن بيتها وقد بدأت عملها
الصيفي، لكنها تتكلم معها كل مساء تفرغ ما في قلبها من أسى وحزن وانتظار وقلق،
وفرنسواز تسألها كل يوم عن الشابين اللبنانيين الوسيمين وتحثها على التعرف
اليهما وتستثيرها بمراقبتهما وتستفزها بالمجيء والتحرش بهما.
مثلها كثيرون اتخذوا المقهى مقراً لقضاء الوقت وسماع آخر الأخبار
بانتظار الفرج.
كانت تسمعهم يتناقشون، كل يدلي برأيه ويتحدث من وجهة نظره، هذا يريد
حضور المحطة الفضائية الفلانية وذاك يفضل أخرى ، وصاحب المقهى حاول في البداية
مسايرة الجميع حتى قرر برنامج توقيت يطبعه على ورقة موزعة في المقهى بمواعيد كل
قناة.
منذ اليوم الأول شرط صاحب المقهى عليها ألا تتدخل في أي من النقاشات
أو الأحاديث التي تستمع اليها وذلك لم يكن مستحيلاً فهي منذ زمن أدركت عقم
النقاشات خاصة بين الطلاب.
لذا كانت تنفر من المشاحنات التي تشتد حيناً وتبرد حيناً آخر حتى
يضطر مديرها الى فضها بالحسنى في معظم الأحيان. أما هذان الشابان الذان كانت
فرنسواز تشاور عليهما دائماً فقد توطدت معرفتها بهما لأنهما مداومان هادئان مما
جعلها تطمئن اليهما الا أن عملها منعها من اطالة أي حديث بينهما.
كانت الأيام تمر بطيئة وطويلة ، تنتهي من عملها فتعود في المترو الى
بيتها البعيد دون أن تستطيع حتى التركيز على القراءة كما اعتادت أن تفعل، تتحدث
الى أهلها مطولاً غير آبهة بتكاليف المكالمات، تسألهم عن كل صغيرة وكبيرة، وكل
يوم تقترح حلاً مختلفاً للخروج ، لم يقبلوا بأي منها ، كان طلبهم الوحيد منها
أن تهدأ وتطمئن عنهم فهم لا يريدون ترك المنزل لا للهرب الى قبرص كما فعل
الكثيرون ولا للمجيء اليها.
يوم قصف الجسر المجاور لبيت جدتها هلعت وأسرعت الى الهاتف لتطمئن ،
هذا البث المباشر يقتل، فأنت على بعد آلاف الأميال ولا تستطيع شيئاً إلا أن
تتحسر وتحزن وتفقد الرغبة في العيش.
في ذلك اليوم طلبت اجازة من المقهى لأنها لم تعد تستطيع الابتسام في
وجه الزبائن. تفهم المدير رغبتها وخلعت مئزرها وهمت بالخروج ولم تنتبه أن أحد
الشابين يراقبها ويتبعها.
اقترب بكل أدب وقال: عفواً آنسة إيليان هل أستطيع أن أتمشى معك؟
تبدين محبطة ومتأثرة أكثر من كل يوم. لا بد أن قصف الجسر اليوم أثر فيك كثيراً
هل تأذى أحد من أهلك؟
نظرت اليه متفاجئة ، في داخلها رغبة كبيرة بمرافقة أحد يحس بوجعها
ويستمع الى آلامها بين ضلوعها شوق لحب كبير لتدفن رأسها بين ذراعيه وتبكي .
نظرت الى وجهه وكأنها تراه للمرة الأولى ، لم تنتبه يوماً الى
وسامته ولا الى ابتسامته الرقيقة، تمالكت وقالت : لا بأس شكراً لاهتمامك،
لنتمشى، يبدو أنك متأثر أيضاً.
مشيا طويلاً يتحدثان ويتناقشان، ومن ثم تناولا طعام الغداء ورافقها
الى المكتبة التي كانت تعمل فيها لزيارة أصدقائها ، ثم بعد فنجان القهوة الأخير
الذي تناولاه في مقهى قريب من بيتها ودعها حين اطمأن أنها ارتاحت قليلاً
واقتنعت أن الصلاة من أنجع الأدوية.
ذلك المساء شعر والدها بهدوئها وأن في رنة صوتها شيء جديد أراحه
لكنه لم يسأل، وفرنسواز ارتاحت كثيراً عندما سمعت القصة كلها من البدء الى
فنجان القهوة الأخير.
صارت الأيام الثقيلة تمر أخف، ابتسامة من نوع آخر علت وجهها ورافقت
الأيام التالية.
صار انتهاء دوامها من أسعد اللحظات لأن فريد بانتظارها ، يتمشيان
ويترافقان ثم يوصلها الى بيتها.
يوم العطلة عرفت فرنسواز على فريد وعرفهما على نائل صديقه وقضى
الأربعة وقتاً ممتعاً لم يستمعا فيه الى أية أخبار.
عندما تكلمت مع والدها في المساء وسألته عن الأخبار لأنها لم تستمع
الى شيء اليوم، استغرب وتأكد أن في الأفق أحد، قبل أن تحدثه عن فريد ونائل
الذين يخففان عنها محنتها.
حتى اتت المحنة على النهاية وانقضت الأيام الثلاثة والثلاثين وتوقفت
الحرب. وكان الهدوء.
الهدوء الذي يرافقه همّ جديد، متى سيفتح المطار أبوابه؟ متى ستستأنف
الرحلات وكيفية الحصول على مكان في ظل الزحمة للعودة.
حتى جاء الفرج، فاجأها والدها في تلك الليلة بالخبر الذي أفرحها
جداً وهو أن حجز الاجازة في قبرص لم يلغَ وأنه سيتمكن من الوصول الى قبرص عن
طريق دمشق في الأسبوع التالي ان كان بامكانها الوصول. وهكذا أحست أن الأيام
الصعبة ستنتهي واقترب اللقاء.
كان الفرح للقاء الأهل يصاحبه قلق وحزن من نوع جديد لم تعتده بعد ،
استغربته في البدء لكن فرنسواز فهمتها وأفهمتها،أنه خوفها من الابتعاد عن فريد،
هي تعلم أن علاقتهما لا تزال في مراحلها الأولى لكنها الأكثر حلاوة. وكلما كبر
الفرح واقتربت أيام لقاء الأهل كان الحزن يكبر وكانت تقرأ حزناً مشابهاً في
عيني فريد.
في الليلة الأخيرة السابقة لذهابها، سألها إن كانت تمانع من اعطائه
عنوانها في بيروت وأرقام هواتفها فربما ذهب لرؤية جدّيه اذا فتح المطار، بكل
فرح سجلت له كل ما تذكرت من أرقام وعناوين ثم انتبهت وقالت لكن البريد
الالكتروني أسهل من كل هذه الأرقام، فهو يمكن أن يكون لقاءاً يومياً.
ارتاحا للفكرة، وتذكرا أنها حتى في قبرص باستطاعتها التواصل معه من
خلاله.
وحلقت الطائرة مغادرة الأجواء الفرنسية، مقتربة من لقاء الأحبة،
نظرت من الأعلى الى الأرض التي اعتقدت أنها ستغادرها بفرح كبير لكنها اليوم
تحمل معها غصة لذيذة وشوق لحياة جديدة لا تدري كيف وأين ستنتهي، عادت الوجوه
الحبيبة تحتل ذاكرتها كلما اقتربت الطائرة من الشرق، أسندت رأسها على الكرسي
وغطت في حلم زهري جميل.
|