هبة
هل تتمكن مَن لم تنجب أن تصبح أماً؟ أم أن أمومتها أنانية؟
هل هو الإنجاب فقط، ما يولد الأمومة الحقيقية؟
هناء كرم
تزيحُ الستائر وتفتحُ النافذة وتستنشق أم هبة ملء رئتيها النسمة الباردة التي
تعبر الى الداخل وتقول:"الله!!! الجوّ جميل".
الشمس تعلو رويدًا رويدًا في كبد السماء والضباب الخفيف يلفّ الشوارع والبنايات.
تباشير الصباح تهلّ معلنة مولد يوم رائع بعد أيّام من عاصفة الغبار والهواء
الشديد أُغلِقت فيه النوافذ ولم تفتح.
ما زال الوقت مبكرًا، حتى حركة باصات المدارس لم تبدأ. أمُ هبة تنظر الى الساعة
باستمرار، تريد للساعات أن تسرع بل أن تركض ولا مانع لديها لو أتى الظهر
قبل الصباح طالما سيحمل معه هبة. موعد طائرتها في الواحدة ظهرًا.. رفعت
عينيها إلى السماء وقالت من كل قلبها:" بالسلامة يا رب ".
امتد نظرها من خلال النافذة بعيداً ورأت نفسها يوم وصلت الى الكويت حاملة هبة على
ذراعيها طفلة رائعة الجمال، تلفها في ذلك الغطاء الأصفر الذي اشتغلته بيدها
عندما كانت تتنتظرها. انتظرت طويلا لكنها أخيراً حظيت بهبة فرحة عمرها. لم
تهتم كثيراً أنها بعيدة عن أهلها دون عون مباشر لمساعدتها في تربية هبة،
لأن الأمومة المشتعلة في قلبها كانت خير مرشد وقائد، ثم إن مساعدتها لأختها
حسناء في تربية أولادها كانت خير تدريب.
ترى هبة وهي تودعها باكية عندما ذهبت للمرة الأولى الى المدرسة، ولو لم تمسك يارا
ابنة الجيران يدها لما قبلت الصعود الى الباص. تراها عائدة وهي تمسك يد
يارا وتضحك معها، ثم تمتلىء عينيها بفرح غريب رائع عندما ترى أمها
بانتظارها وهي تنزل من الباص فتترك يد يارا وتركض الى حضن أمها.
لطالما أحبتها يارا ولعبت معها وعطفت عليها. وعندما بدأتا تكبران تضاءل الفرق
بينهما وصارتا صديقتين لا تفترقان أبداً، الطعام معاً والدرس معاً، أما
النوم فكل منهما في فراشها. يوم طلبت هبة من والدها النوم عند يارا حتى
تتمكنا من انهاء دراستهما أصر قائلاً: "عندنا وعندهم مطعم لا بأس، أما فندق
ونوم فهذا أمرغير مقبول ولا مجال للنقاش فيه" وكبرتا وهما ترددان هذه
الجملة وتضحكان كلما عنَّ على بال إحداهن السهر عند الأخرى، وسهّل الأمر أن
الشقة التي يسكنها أهل يارا في الطابق الأعلى من شقتهم فقط.
تراهما عائدتين من المدرسة تهللان يوم أخذت يارا جائزتها الأولى كأفضل أداء شعري
في المسابقة المدرسية، كانت فرحة هبة أعظم من فرحة يارا وأصرت هبة على
الاحتفال في بيتها ودعت كل الجيران ليباركوا ليارا بجائزتها.
ترى هبة تنتظر يارا حتى تعود من الجامعة، تجلسان في غرفة هبة وتتحدثان وتدرسان
وتقضيان الوقت المتبقي من النهار، وهي تحضر لهما الشاي مرة والعصير مرة
أخرى مع بعض الحلوى، وهبة تبذل قصارى جهدها لتنال علامات عالية تخولها
الانتساب الى جامعة الكويت كما فعلت يارا.
لا يمكن أن تنسى حزنهما وأسفهما حين نجحت هبة ولم تحصل على المعدل اللازم، انقلبت
فرحة النجاح الى غم ويأس، وراح التساؤل الكبير يجتاح الأيام، هل ستضطر هبة
الى إعادة تقديم امتحانات الشهادة الثانوية للحصول على معدل أعلى، هل تنتسب
الى إحدى المعاهد الموجودة في الكويت والتي لا تطلب معدلات عالية، أم تسافر
الى دمشق للانتساب في جامعاتها إن كانت علاماتها تخولها بذلك.
كانت الحيرة تلف الأيام، تذكر جلوسها أمام هذه النافذة محتارة، مكبلة اليدين
بانتظار اتصال هاتفي من دمشق يعلمها بالنتائج رغم علمها أن هبة تصلي كي
يتسنى لها السفر.
حتى رن الهاتف في ذلك اليوم (المشؤوم! لا تستطيع إلا أن تدعوه مشؤوماً لأنه حمل
هبة بعيداً عنها، وإلى أين، الى آخر مكان كانت تتمنى أن تسمح لابنتها
بالذهاب اليه). بينما هبة تدعوه يوم الفرج.
عندما أخبرتها ابنة خالتها عن صدور جدول علامات القبول في الجامعات السورية
وعرفت أنها ستتمكن من الانتساب الى كلية الحقوق في دمشق حينها فقط، سمحت
لأهلها بالاحتفال بنجاحها.
الاحتفال بنجاح هبة كان خجولاً لأسباب كثيرة. نجاحها يعني أنها كبرت وانتقالها
الى المرحلة التالية سيغير بالتأكيد أموراً كثيرة ومن ثم سيأتي الزواج، لا
لا، هي لا تريد الوصول الى هذه المرحلة فهي تحس أن هبة تضيع من يدها.
ترى هبة تحضر حقيبتها للسفر الى دمشق. بالرغم من غضبها الشديد وقلقها لسفر ابنتها
إلا أنها لم تستطع أن تمنعها.
وتذكر، قبل يومين من سفرها دخلت عليها هبة في غرفتها بعد قيلولتها وقالت لها:
-هيا يا أمي لا تفسدي فرحتي، أنا أيضاً سأشتاق اليك، لكنه مستقبلي، ألا تريدين لي
الخير؟
-طبعاً يا حياتي أريد لك الخير ولكن من أكد لك أن الخير هناك؟ كان بامكانك إعادة
التقديم والحصول على معدل أعلى وتدرسين هنا بيننا.
وتحيط رقبتها بذراعيها مداعبة شعرها كما تفعل الأم بطفلها الصغير وتتابع:
-يا ماما سنعود الى الحديث نفسه ونكرر، لم أتمكن صدقيني، ثم أنا أعرف أنك لا
تحبين السفر الى دمشق لذلك سآتي اليك في كل عطلة وفي كل مناسبة. لا أعرف سر
اصرارك على عدم سفري.
-كل محبتي ليست كافية لإقناعك؟
-يا ماما قال لك بابا أن ترافقيني، أنت لا تحبين دمشق ماذا أفعل أنا، للحقيقة أنا
أعشقها ومتحمسة جداً للعيش فيها ثم إن في بيت عمي العائلة التي حلمت دائماً
أن أعيش بين أفرادها.
تنظر الى البعيد فترى هبة تتمشى في الشارع ذاهبة الى الجامعة ترافقها احدى بنات
عمها. تراها جالسة معهم الى مائدة الغداء يتناولون الطعام الذي أعدته أختها
حسناء، فتشتعل الغيرة مجدداً في قلبها وتكاد تنسى سعادتها بوصول هبة، وككل
مرة تتذكر أن الدراسة خطفت منها ابنتها يتجهم وجهها وتعود الى كآبتها.
يقطع أبو هبة شريط ذكرياتها ويقترب بكل حنان واضعاً يديه على كتفيها قائلاً:
- ماذا يا أم هبة كيف هو الطقس اليوم؟؟
- إنّه جيد يا أبو هبة. ألم أقل لك؟
ربتت على يده الحنونة وتابعت:"البارحة أعلنوا في النشرة الجويّة أن الرياح خفّت
حدّتها ولن تثير الغبار اليوم. لكن الطقس قد يكون رطبًا وأشدّ برودة."
- لا بأس. قال وهو يطل برأسه من النافذة، "لن يتغيّر عليها إذًا، فالطقس في دمشق
بارد جدًّا. ندعو الله أن تصل بالسلامة لقد اشتقنا لها فعلاً.
ينظر الى زوجته " لقد تركت فراغًا كبيرًا في حياتنا."
- أنتَ تقول هذا؟؟ وأنا ماذا أقول إذن؟ هي كل حياتي. أنت تموّه عند ذهابك إلى
العمل وأما أنا فقد كانت صديقتي وأختي قبل أن تكون ابنتي. هذه الأشهر
الثلاثة مرّت وهي بعيدة عنّا وكأنها ثلاث سنوات أما اليوم فأحسّها قد
انتهت. لكن الساعات اليوم لن تمر.. أراها بطيئة جدًّا...
تنحدر دمعتان على وجنتي أم هبة تمسحهما وتتابع بصوت أغرقه الشوق:
- لا أعرف كيف سأتحمّل بعادها مرّة أخرى.
وتمشي باتجاه المطبخ.
- إتّكلي على الله يا امرأة ولا تعكّري صباحنا، ستصل هبة اليوم، لا تفكّري بغير
ذلك.. هل أعددت كلّ شيء؟
تتوقف وتنظر الى أبي هبة:
-طبعًا كلّ شيء معدّ وعلى أتمّ ما يرام بانتظار حبيبة القلب. لم يبق إلاّ أن
تُحضِر أزهار القرنفل التي تحبّها لنضعها في مزهريتها المفضّلة.
في هذا البيت كل شيء بِرَهْن طلبات ورغبات هبة فهي البنت الوحيدة المدللة، وزاد
في دلالها، حبُها وطاعتها لأهلها فكما أنهما لا يردان لها طلباً هي أيضا لا
تخالفهما أبداً. ولولا أن سفرها كان اضطرارياً للانتساب الى الجامعة لما
تخليا عن وجودها بجانبهما، ولولا ضعف صحة الأم وسوء صحتها كلما سافرت الى
دمشق، واضطرارها لمتابعة علاجاتها في الكويت لما سمحت لنفسها
البقاء بعيدا عنها ولتبعتها وسكنت معها.ً
تحضر أم هبة فنجانَيْ القهوة، تقدم فنجاناً لأبي هبة وتأخذ فنجانها وتجلس أمامه
على الأريكة المقابلة للنافذة في غرفة الجلوس ويرتشفان القهوة صامتين. كل
منهما يفكّر باللحظة التي سيقابل فيها هبة. هي أول مرة تطول غيبتها عنهما
كل هذه المدة. أحيانًا كانت تحبّ السفر في عطلة المدرسة الانتصافية لكن
غيابها لا يطول سوى خمسة عشر يومًا. أمّا أشهر ثلاثة فهذا كثير. ولكن ما
بيدهم فعل غير ذلك. لقد فضّلت أن تلتحق بكليّة الحقوق التي تحبّها كثيرًا
وليس لهما سوى توفير ذلك لها. فهي تلميذة مجتهدة وتستحق أن يضحّى من أجلها.
يكسر الصمت المطبق ويقول:
- غدًا سنشرب القهوة معها. لقد اشتقت لصوتها، تملأ الدنيا غناءً منذ الصباح.
فتبتسم الأم وتقول:
- وتقول لها أنتَ :الأفضل لك أن تدخلي كليّة الفنون لتصبحي مطربة وليس محامية.
فتجيبك قائلة: أنا سأسترد حقوق المظلومين بالغناء سأقف أمام سيادة القاضي
وأقدم مرافعتي ملحّنة فيتأثّر القاضي ويقتنع ببراءة موكّلي.
يضع فنجان قهوته على الطاولة ويقول:
- كم أتمنّى يا أم هبة أن يوفّقها الله وتصبح محامية كبيرة. سأفتح لها مكتبًا
كبيرًا في دمشق، وسأشتري لها سيارة تليق بمكانتها.
- الله كريم. أتمنى أن تنال ما تتمنّى. لقد وهبنا سبحانه وتعالى هبة ولم يبخل.
سنراها محامية كبيرة.
الجرس يرن وطرقات متناغمة متتالية على الباب الخشبي
- إنها يارا. أعرفها من طرقاتها.
تضع أم هبة الفنجان على الطاولة وتسرع لفتح الباب
- أهلاً يارا تفضّلي.
تلوح بيدها باشارات فرحة وتقول:
- صباح الخير. شكرًا خالتي أنا ذاهبة إلى الجامعة. إن شاء الله ستصل هبة بالسلامة
سأراها عند عودتي. لا تنسي أخبريها أنّ لديّ امتحاناً لذلك لن أستطيع
مرافقتكم إلى المطار.
وتسرع الخطى على الدرج قائلة:
- هل تريدين شيئًا يا خالتي؟ ادعي لي.
- سلامتك يا ابنتي، ليوفّقك الله. ويكون معك. سننتظرك على الغداء. لا تتأخّري.
- حسنًا إلى اللقاء.
يصل صوتها بعيداً فتغلق أم هبة الباب وهي تدعو ليارا بالتوفيق.
يارا ليست ابنة جارتها وصديقتها فحسب وهي ليست فقط صديقة هبة بل في مكانة هبة
بالتمام. لقد كبرتا ونشأتا معًا ولولا وجود يارا يخفف عن أم هبة بعض الأسى
لتغلبت على نفسها وسافرت قبل مرور الشهر الأوّل على سفر هبة.
تعود مبتسمة وتأخذ فنجانها وترشف رشفة وتقول:
- أتدري يا أبو هبة. لو كانت يارا وهبة أختين لما كانتا متفاهمتين إلى هذه
الدرجة.
- ولم لا تكونان هكذا. فمنذ نعومة أظفارهما تكبران وتلعبان معاً، طباعهما متشابهة
وهذا يزيد من تفاهمهما وكأنّهما توأمان.
- الحمد لله الصداقة الحقيقيّة هذه الأيام نادرة. كم كانت الأمور ستكون أفضل! لو
كانت علامات هبة عالية مثل يارا لانتسبت إلى الجامعة هنا ولم نضطر إلى
إرسالها إلى دمشق ولقضتا معًا أياماً ممتعة في الجامعة.
انتصب أبو هبة وقال:
- قلت لك لا تعكّري صباحنا بالعودة إلى النغمات القديمة. انتهت مناقشاتنا لهذا
الموضوع وهي في دمشق ليست بمفردها فهي بين أهلها وإخوتها.
- ما أشدّ ما يخفيني هذا.
يقف أمام المرآة المعلقة على الحائط الذي يفصل غرفة الجلوس والمدخل ينظر الى
تسريحة شعره وربطة عنقه ويتابع:
- هل تنسين أنّهم يحبّونها كأخت لهم، وهي تحبّهم
كذلك. قلت لك اذهبي لزيارتها، قلت لك لنشتري لنا بيتاً هناك فنحن أولاً على
آخر مرجوعنا الى هناك، وأنت دائماً معترضة تتحسسين حتى من مجرد فتح موضوع
زيارتنا الى هناك وأنا كما تعلمين أكره أن أراك حزينة.
يطل برأسه من الباب ليقول:" يا سبحان الله كلما فكرت كم تغير شوقك للذهاب الى
أهلك منذ خلقت هبة".
أدارت وجهها الى النافذة حتى لا تلتقي أعينهما وقالت:
- عدنا الى هذا الموضوع، دوركَ الآن لتعكر فرحتي، وهل تعتقد أنني أتحمل رؤيتها
بينهم كواحدة منهم؟ لا أريد أن أرى كم تشبه هبة أختي، قد أفقد أعصابي
وينزلق لساني بالحقيقة.
- كل هذه السنين ونحن نذهب في كل صيف ونلتقي معهم، لم تفكري يوماً هكذا.
تنهدت، وانهمرت عبرة من عينها وقالت:
- دوماً كان هذا الشعور يقتلني لكني لم أحدثكَ عنه أبداً، والآن الأمر مختلف فهي
تعيش معهم، في بيتهم.
ابتعد باتجاه الباب قائلاً:
- لا تدعي الوساوس تعذّبك من جديد. أنا ذاهب. هل تريدين شيئًا غير القرنفل؟
- أبدًا.. سلامتك. لا تتأخّر. يجب أن نكون في المطار قبل الواحدة.
أخذ مفاتيح السيارة المعلقة بجانب المدخل ونظر الى ساعته وأومأ لها بيده:
- اطمئنّي سأذهب إلى المكتب. ومن ثم أمرّ عند أبو يارا في المعرض وأحضر الزهور
وأعود. كوني جاهزة.
تبعته الى الباب قائلة:
- رافقتك السلامة. أنا بانتظارك. وسأتّصل في الثانية عشرة باستعلامات المطار
للتأكّد من عدم التأخير.
- إلى اللقاء.
- مع السلامة.
تغلقُ الباب وراءه وتروحُ الى النافذة تتابعه كما في كل صباح حتى يبتعد
بسيارته. كيف ستنسى كم تشبه هبة أختها حسناء، كيف ستنسى قلقها وهبة تعيش
بينهم والجميع ينتبه الى هذا الشبه الكبير.
هذا الموضوع لا يغيب عن ذهنها ويعكر مزاجها كلما فكرت به لكنها وعدت نفسها ألا
تعود اليه خاصة اليوم، اليوم ستصل هبة ولا شيء يجب أن يعكر صفو هذا الفرح.
تبتعد عن النافذة و تحث الخطى إلى غرفة هبة.. تدخلها وهي تحاول أن ترسم ابتسامة
كبيرة على ثغرها. كل يوم تدخلها وتلقي الصباح على الصور المعلّقة في كلّ
مكان ، تحتضن ميمي لعبة هبة المفضّلة وتشمها علّها تحسّ بوجودها. أمّا
اليوم فلا حاجة لها بذلك. تفتح الستائر وتقول وكأن ميمي ستفهم : هبة قادمة
يا ميمي، ستصل هبة بعد ساعات قليلة.
تمسح دمعة فرح وتسرع إلى المطبخ تنهي الترتيبات اللازمة لإعداد ما تحبّ هبة من
طعام.
تدق الساعة الثانية عندما يفتحون الباب.
- أهلاً.. أهلاً بك يا هبة. وتعلو الزغاريد تطلقها أم هبة بكل فرح.
- أهلاً حبيبتي، حمدًا لله على سلامتك. والحمد لله رأيناك بصحة جيّدة.
- أهلاً بابا، أهلاً ماما لقد اشتقت لكما كثيرًا. اشتقت للكويت. اشتقت لبيتنا.
اشتقت لغرفتي. اشتقت لكل شيء.
وراحت تدور في البيت رافعة يديها وكأنها فراشة تبحث عن الوردة الأحلى لتحط عليها.
تلمس الزهرات وتقول:"أوه ما أروع هذه القرنفلات. أنتم لا تنسون أبدًا ما
أحب. كم أحبكم. وهذه الرائحة الطيبة المنبعثة من المطبخ. ما أروع العودة
إلى المنزل.
وراحت تقبّل والدها ووالدتها من جديد. وتسرع بحقائبها إلى غرفتها حيث تحتضن
لعبتها ميمي وتدور في الغرفة فرحاً ثم ترمي بنفسها على الفراش كمن يريد أن
يرتاح أخيراً.
طرقات متتالية على الباب فتسرع هبة من غرفتها قائلة:
- ماما.. أليست هذه يارا تطرق على الباب؟!!
- بالطبع إنها يارا هذا موعدها.
وتتعانق الصديقتان عناقًا يفجر دموع الأم التي كانت تغالب نفسها. فتدخل مسرعة إلى
المطبخ بحجة إعداد الطعام.
تقول يارا:
- سمعت صوت الزغاريد فعلمت أنكم وصلتم - لم تتأخروا أبدًا في المطار حمدًا لله
على سلامتك يا هبة. كم أنا مشتاقة إليك.
- وأنا كذلك مشتاقة جدًا جداً.
وتقترب منها فتهمس في أذنها بعيدًا عن آذان الوالدين.- وعندي كلام كثير كثير أريد
أن أحكيه لك.
- تبدين بأحسن حال خير إن شاء الله.
- لو تعلمين؟؟
يجلس الأب الى مائدة الطعام ويدعوهما للجلوس معه قائلاً:
- على رسلكما ستتهامسان ما شئتما لديكما الوقت الكافي لذلك ،هيّا إلى المائدة
الآن.
تسحب هبة كرسيا استعداداً للجلوس:
- مع أن الغداء الذي قدّموه لنا على الطائرة كان لذيذًا إلا أنني كنت أعلم أن
حبيبة القلب ماما ستحضّر لنا ألذ طعام في الدنيا. هيا.
كانوا يتناولون طعام الغداء وعيونهم تلتهم هبة، الشوق إليها كان جوعًا لا تشبعه
إلا ساعات اللقاء والعناق.
أكلوا جميعاً كما لم يأكلوا منذ زمن، هي مشتاقة الى طبخ أمها وهما مشتاقان
لوجودها ويارا مسرورة بالجميع.
وبعد الغداء، فنجان آخر من القهوة.
يرتشف القهوة بلذة وينظر الى زوجته ويقول:
- ما أطيب فنجان القهوة من يدك يا أم هبة..
تفهم أنه يريد أن يتأكد أنها بخير بعد كل القلق الذي حدثته عنه في الصباح
كعادتها، فتدور أم هبة الى ابنتها وتقول:
- يصير أطيب عندما نشربه معك يا ست هبة...
تغمز والدها بعينيها وتقول:
- بابا.. احم، احم، لا بأس غازلها أمامي. لن أغار. أعرف أنك تحب كل شيء من يدها.
لست بحاجة إلى المجاملات.. أم أنك تريد أن تثير غيرتي.
يرسل لها قبلة في الهواء ويقول:
- اشتقنا إلى لسانِكِ الطويل يا هبة، لا يسلم منه متحدّث. سأتركك الآن مع والدتك
ويارا. أظنّ أنكن لن تنتهين من الكلام وسأراكن في المساء.
وتقفز هبة من مكانها:
- ماذا؟؟ أنت ذاهب إلى العمل. لقد اشتقت إليك. ألم تعدني بأنك ستكون في إجازة عند
حضوري.
- طبعًا وأنا عند وعدي. إجازتي ستبدأ غدًا. لم أشأ أن أضيّع يومي هذا في الإجازة.
أعرف أن أمك ويارا لن تتركا لي المجال اليوم لأجلس معك لذلك فضّلت أن أخلي
الجو لهما وأنفرد بك أسبوعًا كاملاً.
يعدل من ياقة قميصه ويتابع:" يلزمني أن أشتري قميصين وأنت تحبين السوق لذا سنعود
الى سابق عهدنا في الأسواق منذ الغد. ما رأيك؟"
تتعلق بعنقه وتقول:
- يا أحلى أب. الله معك.
ويحضنها متمنياًً لو أن العالم يقف عند هذه اللحظة، لو أن الوقت يتجمد، فما أحلى
هذه العاطفة التي تغمره وهذه السعادة وهي بين يديه وفي أحضانه.
وتغلق وراءه الباب مودعة بقبل تنثرها في الهواء.
تعود لتجلس هبة مع والدتها ويارا، تأخذ الفنجان بين يديها وتنظر اليه كما كانوا
دائما يتسلون بما يدعونه قراءة الفنجان، وتقول : أخبريني يا أم هبة أرى هنا
طريقاً مفتوحاً أم مسدوداً؟ ما هذا الطائر هنا؟ وتضحك. وتأخذ منها أم هبة
الفنجان كعادتها وتحاول أن تكون طبيعية بالسؤال عن الغيمة في قعر الفنجان،
والوردة على الطرف الأيمن والعصفور الذي يزقزق حاملاً أخباراً حلوة والطريق
المفتوح الى النجاح وما شابه. لكنها وضعت الفنجان بعيداً وقالت بقلب غمره
القلق.
- أتركينا الآن من الفنجان. لنبدأ من جديد، أخبريني كيف أحوال عمّك وخالتك
والأولاد جميعًا.
- كلهم بخير وجميعًا يقبّلونكم. منذ أن عاد سامر للاستقرار النهائي بعد حصوله على
الماجستير وقرر أن يبقى لعدّة سنوات ومن ثم يعود لنيل الدكتوراه. تحسّنت
صحّة عمّي كثيرًا لأنه يساعده في المكتب وهذا يطمئنه على أحوال الشركة.
والآخرون كلهم بخير. سأحكي لك عنهم لاحقًا كل بمفرده.
- وأنت يا حبيبتي أخبريني عن حياتكِ الجديدة. أريد أن أعرف كل شيء عنها. كيف
تقضين أيامكِ في الجامعة. هل أحببّتِ الفرع؟ والمواد المقرّرة؟ و و
- يا ماما مهلاً مهلاً، كل هذه الأسئلة أجبتك عنها عبر الهاتف مرات عديدة.
- لا بأس. أريد أن أسمعها منك الآن ليطمئن قلبي وأشعر بصدق ما تقولين.. هل حقًا
أنتِ مرتاحة هناك.. هل أنتِ مسرورة في حياتك الجديدة.
- صدّقيني يا ماما لا ينقصني إلا وجودكم معي.. ولا يعكّر صفو أيامي هناك إلا شوقي
إليكم وإحساسي بشوقكم إلي وما يعزيني أنكم وعدتموني أن بابا سيتقاعد بعد
سنتين وتلحقان بي فنعود إلى سابق عهدنا.. وكما ترين ليرزقه الله، أنا سآتي
في كل إجازة وسنقضي فصل الصيف معًا والأيام تجري مسرعة وينتهي الأسبوع
وبعده الشهر.
- أخبريني إذن هل أنتِ مرتاحة في بيت عمّك.. كيف تعاملك خالتك.. وأولاد عمّك..
حدّثيني بصراحة يا ابنتي واصدقيني القول ليرتاح قلبي فهم كثر وأنتِ معتادة
على الهدوء بمفردك. أربعة (ما شاء الله) والآن صاروا خمسة بعودة سامر. كيف
تتقاسمون الغرف؟
- للحقيقة يا أمي. أنا مرتاحة جدًّا في بيت عمي. ولكن معك الحق في أن الجو تغير
علي كثيرًا. فبينما كنت هنا في غرفة كبيرة بمفردي. أنا هناك مع بنات عمي
الثلاث نتقاسم غرفة واحدة. لذلك سأطلب منكما أن توافقا على طلبي في حجز
غرفة في بيت الطالبات. ذلك سيكون أفضل لي ولهم جميعًا.
- هل هذا هو السبب فقط. أم أن هناك أمورًا أخرى تزعجك؟؟
- أبدًا يا أمي. على العكس فخالتي تعاملني وكأنّي إحدى بناتها. ولا تفرّقني عنهن
أبدًا وبما أنني ضيفة أحسّ أنها تدلّلني أكثر منهم جميعًا. أظن أن أولاد
عمّي يشعرون بذلك ولو أن أحدًا منهم لم يعبّر لي عن ذلك، حتى أن جيرانها
يعتقدون أنني إحدى بناتها وقد قالت لي احداهن أنني أشبهها كثيراً.
" أشبهها كثيراً" ترن الكلمة في أذني أم هبة فتأخذ نفسًا عميقًا وتستوي في جلستها
وتقول:
- ولمَ لا فأنت كواحدة من أولادها. وهل حدّثتِها بأمر الغرفة في بيت الطالبات؟؟
- نعم لقد طلبت منها أن تتفهّم موقفي وأن ذلك لا يعني مطلقًا أنني لست مرتاحة
عندهم.. لكنها تصرّ بشكل غريب على بقائي عندهم.. حتى لأشعر أحيانًا أنّها
تخاف عليّ أكثر من بناتها.. وهذا يثير غيرة بنات عمّي وخاصة سوسن فهي
الأخيرة المدلّلة وجئت لآخذ مكانها.
- إذن سوسن تزعجك أليس كذلك كنت أحس بذلك، لكنكِ لم تحكي لي شيئاً أليس كذلك؟
- الأمر ليس كذلك هي فقط تغار مني قليلاً وتريد كل ما تراه معي وسامر يحاول
جاهداً التكلم معها وابعادها عن تصرفاتها الصبيانية، كما أنه يطيب خاطري لو
صدف وأزعجتني ويقول لي دائماً لا تقلقي هذه أمور طبيعية تحدث بين الأخوة
ولأنك وحيدة فأنت لست معتادة على هذه المشاحنات.
وتتدخل يارا لتقول:
- أرأيت كم أنا أخت لطيفة لا تزعجك أبداً.
وتضربها هبة ضربة لطيفة على يدها وتتابع:
- أنا أصدق سامر لأن هذا يحدث أيضاً عندما تشتري خالتي شيئاً لهدى وكما تعلمين هي
تشتري لها الكثير من الأشياء فقد اقترب زفافها.
وتعود يارا لتسأل بلهجة مستهزئة:
- طبعاً طبعاً وماذا يقولون لك أيضاً؟
وتعقب أم هبة:
- هل هو سامر فقط من يتحث اليك ألا تقول خالتك شيئاً؟
- أنا لا أشتكي لها يا أمي، لا أريد مشاكل هناك.
تشدها أم هبة اليها وتعانقها وتقول:
- وتتحملين كل هذا؟ لا بأس سنتحدّث في الموضوع بعد عودة والدك.
وتتدخل يارا لتقول:" أنا أيضاً أصادف هذه المشكلة عندما أذهب الى زيارة اخوتي في
دمشق، بالضبط كما تصفين يا هبة.وأنت محظوظة لأنهم ليسوا إخوتك أما أنا
فغيرتهم مني أكبر وهذا يجعل الأمر معقد أكثر".
تستوي هبة في جلستها:
- لطالما تذكرتك يا يارا ولطالما وددت لو كان بامكاننا التكلم عن هذا من خلال
الرسائل الالكترونية لكن وجودي بينهم لا يسهل لي الوقت للذهاب الى المقهى
والتحدث اليك مطولاً لذا كانت رسائلي قصيرة دائماً.
تعدل جلستها وتتساءل الأم بلهفة: هل هذه هي الحقيقة أم جزء منها يا هبة أريد أن
أعرف كل شيء.
تقترب منها هبة وتجلس بجانبها وتداعب خديها قائلة:
- يا ماما هي الحقيقة صدقيني، تريدين أن أخبرك بكل شيء. وإذا أخبرتك تقلقين، هي
أمور عادية صدقيني.
تبعد أم هبة يدها عن خديها لكنها تبقيها في يدها وتقول:
- وماذا يزعجك أيضاً؟
- أكثر ما يتعبني هناك هو المواصلات للذهاب إلى الجامعة وفي معظم الأحيان أسير
إليها على الأقدام لأرتاح من الازدحام.
وتتساءل يارا:
- بمفردك كل تلك المسافة؟؟ أم أن واحدة من بنات عمك في الجامعة نفسها؟ ألم تتعرفي
على صديقات هناك ترافقيهن الطريق.
تعلو وجه هبة حمرة خفيفة وتتأخر في الجواب ثم تقول:- يرافقني سامر، لأن ذلك هو
طريقه إلى المكتب وكذلك في العودة أمر من أمام المكتب ونعود معًا. أنا
أستمتع جداً بالسير وخاصة عندما يكون الطقس صحواً فهي رياضة ممتعة، أما اذا
كان ممطراً فنضطر لأخذ سيارة.
وتتابعن الأحاديث والأسئلة والاستجوابات.
سامر.. كل حديث يحمل معه سامر. كلما تحدّثت عن أحد من أولاد عمّها كانت تقارنه
بسامر. سامر هو الأفضل. سامر هو الأكثر لطفًا. هو الأكثر وسامة هو الأكثر
فهمًا وشخصية.
تقوم الأم وتبدأ بوضع الفناجين في الصينية استعدادا لأخذهم الى المطبخ وتقول:
- لا بد أن الأيام التي قضاها في إنكلترا للدراسة قد أكسبته شخصية قوية.
وتهب الفتاتان تساعدانها وتجيب هبة:
- نعم يا أمي.. عندما سافر كنت صغيرة نوعًا ما، لا أعرف كثيرًا عن الثقافة
والشخصية. لكني الآن بدأت أميّز بين الشبّان المثقّفين والمتعلّمين وذلك
واضح بين تلاميذ الجامعة. ترين منهم من هو مجتهد ومتفوّق ولكن إذا ما خضنا
أي حديث بعيدًا عن المواد الدراسية ترينه يسكت ويتوارى. مع أن المحامي
الناجح يجب أن يلم بجميع أنواع الدراسات. أما سامر فعندما تتحدّثين إليه
تجدين لذة كبيرة بالاستماع اليه، فهو ملمٌّ بمجموعة كبيرة من المعلومات
ويفهم في كل المواضيع.
تضحك يارا وهي تتبعهما الى المطبخ وتردف: - لا تنسي أنه كان في إنكلترا وهناك
مجاله مفتوح ليتعرف على مختلف أنواع الثقافات والعلوم فالمجالات كثيرة
والصحف كذلك وكلها تتسابق لنشر كل جديد. فيكفي الإنسان أن يتابع الصحف
والمجلات ويقرأها بشغف لتزيد ثقافته.
تتوقف هبة على باب المطبخ وتتوجه الى يارا قائلة:
- أولاً يا يارا كثير من الشبان يذهبون إلى إنكلترا وحتى إلى أوروبا وأميركا
ويعودون وهم قد تعلّموا فقط أما الثقافة العامة فلا يهتمون لها. ولا
يضيّعون أوقاتهم في أمور غير موادهم الدراسية. أو يلتهون بأمور أخرى
للتسلية، أما أنا فبرأيي أن المعرفة والثقافة هذه ليست مضيعة للوقت.. وإنما
كسب كبير يحقق منها الإنسان شخصيّة متطوّرة. ثمّ إن سامر لم يعتمد فقط على
الصحف والمجلات لزيادة ثقافته بل قرأ كتبًا كثيرة وأحضر معه بعضًا منها وفي
كل مرة يحدثني عن واحد منها.
حمرة الخجل وهي تتحدّث عن سامر لم تخفَ على أم هبة ويارا، أم هبة بقلب الأم فهمت.
ويارا بشعور الصديقة فهمت وفيما تضع الصحون في المجلى ليتم تنظيفها تقول:
- يبدو أنّك مفتونة بسامر. ما القصة؟ هل هو موضوع شخصية وثقافة؟؟
تضرب هبة يارا بالفوطة التي تحملها بيدها استعداداً لتنشيف الصحون وتقول:
- يارا لا تبدّلي الموضوع. نحن نتناقش عن الثقافة بشكل عام.
- إذن لماذا احمر وجهك من جديد؟
تتغير لهجة أم هبة وتقول لهما:
- اذهبا وأكملا نقاشكما عن الثقافة والشخصية لأكمل أنا عملي بعيداً عن أصواتكما.
تنظر هبة في عيني أمها، اذ أنها تلاحظ أن غضبها غير متوقع، لكنها تأخذ ما في يدها
من صحون وتقول:
- أبدًا يا أمي هذا غير معقول لا يمكن أن تغسلي الصحون ونحن هنا.
- أبدًا يا خالتي. أنا وهبة سننهي كل شيء.
تحاول أن تستعيد الاسفنجة من يد هبة قائلة:
- بسيطة سأقوم اليوم فقط بغسل الصحون ومنذ الغد تتسلّمان المهمّة. فهبة تعبة ويجب
أن تستريح.
- لا يا ماما. أرجوك. لقد اشتقت للدخول إلى مطبخنا، ثم ما هذا التعب المرهق. كل
ما في الأمر ساعتا طيران من مطار دمشق حتى مطار الكويت وهذا غير متعب.
أرجوك أدخلي غرفتك وخذي قسطك من الراحة.أعرف أنّك تحبين القيلولة. فلا
تدعيني أشعر بأنني غيرت لك عادتك وسنتعاون في إعادة كل شيء إلى مكانه. ثم
نحن الاثنتان (ستّات بيوت) أليس كذلك؟
همست يارا في أذن هبة: - يبدو أنّ الأمر بدأ يهمّك.
رشتها ببعض الماء وقالت:
- أسكتي. ثم توجهت الى أمها قائلة:
- ماما ألا تريدين رؤية هديتك؟؟
- بالتأكيد هي جميلة؟ لا بأس الآن ، أنهيا العمل، لن أنام سأرتاح قليلاً فقط وبعد
ذلك نفعل كل ما تريدين.
- حسنًا.
لا يبدو انسحاب أم هبة من المناقشة لمجرّد تنظيف الصحون أو القيلولة، نظرتها
وقلقها يحملان ألمًا كبيرًا.
ألمٌ يبدو أنه بدأ منذ وقت بعيدٍ، يقارب ربع قرن من الزمن،. ألمٌ منذ حملت هبة
بين يديها وعرفت أنها لن تتمكن من حمل غيرها، ألمٌ تشعر به كلما أحست أن
هبة قد تفلت منها لأي سبب من الأسباب وها هو سامر يأتي ليفسد كل شيء، سامر
ابن أختها الحبيب، ماذا أعاده الى دمشق الآن، هل هو القدر الذي يقف
بالمرصاد.
الألم يأخذها في غفوة تشبه القيلولة ، تمسح من ذاكرتها كل التفاصيل وتتركها
مسلوبة القوى مستلقية على الفراش تتساءل ما العمل؟؟ تنساب الدموع غزيرة
بصمت على الوجه البائس حتى لتكاد تجرف فرحة اللقاء.
في المطبخ الفتاتان تنظفان الصحون إحداهما تنظفها بالصابون والأخرى تغسلها بالماء
وتتهامسان:
- يارا. لماذا قلت هذا أمام أمي وجعلتها تشعر بأن بيني وبين سامر شيء؟؟
- حديثك يدل على ذلك دون إشارة منّي. ولكن ما قلته لا يستحق تعليقك. فأنا كثيرًا
ما أقول ذلك أمام خالتي ولم تعترضي. لماذا الآن وعندما كان الحديث عن
سامر؟؟ هل هناك أمر جدي فعلاً؟
تتوقف هبة عن العمل وتنظر الى يارا قائلة:
- قبل أن أخبرك. ألم تشعري أن أمي امتعضت من الحديث وكنت أظنّها ستشجّعني وتفرح
لأنها تحب سامر كثيرًا فهو كبير أولاد عمي وجميعهم متعلّقون به كثيرًا.
توميء يارا بالايجاب وتتابع هبة قائلة:
- أعرف أن أمي لا تحب كثيراً زيارة بيت عمي وأقول أنها لا تتوافق مع أختها
توافقاً كبيراً أو أنها تجد فرقاً كبيراً بين أخلاق أبي وعمي وهذا لا
يريحها لأن عمي عصبي جداً. لكنها تحب سامر كثيراً، هو الوحيد من أبناء عمي
الذي تحبه كثيراً.
- معك حق. ثم اننا نذكر مزحات مماثلة أحيانًا في أحاديثنا ولا تفعل ما فعلت
اليوم. لم تعلّق وانسحبت وفي وجهها علامات غريبة لم أفهمها.
قالت هبة بنوع من المغالاة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة:
- ربما وبحسب تحليلي الشخصي الذي لا يخطئ إنها بدأت تشعر أني أطير من يدها. إن
الأمور الجدية بدأت تأخذ مجراها. ولا يخفاك الأمر. فأنا وحيدتها أحمد الله.
يعني دراسة وتخرج وبعدها حب وزواج.
أجابت يارا باللهجة ذاتها:
- تعتقدين أنّك عالمة نفس ومحللة أيضًا. لكني هذه المرة سأوافقك الرأي. لأن
تحليلك فيه شيء من الصحة فهو مقنع.
- أنت مضطرة للموافقة. الست صديقتي. وإلا؟؟
- لكني أحب أن أزيد عليه يا حضرة المحللة، سامر هو ابن عمك وابن خالتك، أي أن
القربى من الطرفين وهذا غير مستحب للزواج.
تسكت هبة برهة تتذكر فيها شيئاً وتتابع قائلة: أتدرين ربما معك حق ؟ إنني لاحظت
أن خالتي غير مرتاحة لعلاقتي معه وتؤكد لي دائماً أننا مثل الأخوة.
- طبعاً معي حق، وأمر آخر أضيفه يا حضرة المحللة لا بد أنها تخاف على ابنها منك
فأنت وحيدة، مدللة وقد لا يستطيع تلبية رغباتك وطلباتك.
ترشها بقدر من الماء وتقول:- دعينا من المزاح الآن.
- هيا نكمل عملنا بسرعة فأنا بأشدّ الشوق لسماع أخبارك مع سامر.
- إنه شاب رائع. للحقيقة أنا معجبة به جدًّا وهو أيضًا معجب بي ولا يترك فرصة
ليعبّر لي عن ذلك.
- هل الموضوع كلّه إعجاب فقط؟؟
- وماذا تريدين إذن أكثر من ذلك؟؟
- حب.. وعد بالزواج مثلاً. أو زميل آخر في الكلية؟ ألم يقترب أحد منك ويعبر لك عن
اعجابه؟
- يارا! لا تخلطي الأمور، لا سامر ولا غيره. الوقت لا زال باكرا" جداً لأي علاقة
جدية.
- حسناً لنعود الى سامر، هل لمّح لك باي شيء من هذا القبيل؟
- بشكل مباشر كلا. لكن هناك أدلّة كثيرة على ذلك أحسّها بقلبي. لو أحدّثك عنها
فستشاركيني الرأي.
- هيا.. هيا حدّثيني.
- سيطول الشرح ولن أنتهي من الحديث. هل لديك دوام في الغد؟
- كلا.. اليوم كان عندي امتحان والحمد لله غدًا استراحة..
- جميل جدًّا.. كيف تسير أمورك في الجامعة؟ وخالد ما هي أخباره؟
تغيرت سحنة يارا وتبدل وقع كلماتها وقالت: لا أريد الحديث الآن أبداً عن علاقتي
بخالد.
- يارا ما بك، هل من مكروه؟ دوما كنت تقولين في رسائلك أن الأمور جيدة ماذا حصل؟
تنشف يارا يديها وتبتعد وتتصنع شرب الماء ثم تقول:
- لا تقلقي سنتحدّث بالتفصيل فيما بعد فأنا بحاجة الى جلسة طويلة معك.
- وأنا أيضاً يا يارا أود أن أخبرك عن المشاكل التي حدثت هناك بسبب سوسن وسمير
أيضاً، الموضوع ليس كما حدثت ماما بل هو أكبر بكثير.
- حقاً؟
تنشف هبة يديها وتلتفت الى يارا فتقول :
- يارا، لم تسأليني عن الأخبار التي أحملها لك من أهلك.
- لم تحن الفرصة بعد. شغلتنا سيرة الأستاذ سامر..
- من يسمعك لا يقول أن الأخبار من أمك وأبيك وأخوتك.
- أتصدّقين.. صحيح إنها أمي وهو أبي اللذين أنجباني.. لكن محبّتي لأهلي الذين
يربّوني أكثر بكثير.. ولا أشعر نحو أبي وأمي وإخوتي إلا ما أشعر نحو عمي
وزوجة عمي وأولادهم.. أنا أحبهم بالطبع ولكن محبة تختلف عن محبة أم يارا
وأبو يارا. هنا أحسّ أنني كل شيء بالنسبة إليهما وهما كذلك يشعران بهذا.
اقتربت منها هبة وداعبتها قائلة:
- ماذا يهمّك؟ كل الناس لديهم أم وأب وأنتِ لديكِ أمّان وأبوان. وكلهما يحبّونك.
أدارت ظهرها لها وكأنها تصدها وتابعت:
- أحيانًا أقول لو أن أمي وأبي الحقيقيين كانا يحبّاني فعلاً لما تخلّيا عنّي..
أسرعت ووقفت بمواجهة وجهها وتابعت قائلة:
- كيف تقولين هذا وأنت تعرفين صدق الحكاية وكيف أن عمّك الذي هو أبوك قد تمنّاكِ
بحسرة ولم يقبل والدك أن يبقى أخاه بحسرة. كل الموضوع تم محبة في محبة.
فكيف لك أن تستائي أو تشكي بالموضوع..
أدارت يارا وجهها مرة أخرى للطرف الآخر وقالت:
- مع أنني خائفة هذه الأيام أن أفقد حبهما لي.
أمسكتها هبة من يديها وأدارتها باتجاهها لتواجهها قائلة بصوت عالٍ:
- ماذا؟
وضعت يارا يدها على فمها لاسكاتها فتابعت هبة بصوت منخفض:
- تفقدين حبهما لماذا ؟ ما الأمر؟
- لنبدل الموضوع الآن ،
- ماذا؟ لنبدل الموضوع، يبدو موضوعاً هاما وتقولين لنبدله.
تنفعل يارا وتغرورق عيناها بالدموع وتقول:
- أرجوك يا هبة، لا تدعيني أفكر به الآن يجب أن نكون بعيدتين عن هنا حتى أتمكن من
الحديث، أنا محتاجة الى الحديث معك لكن ليس هنا ، أريد أن نذهب غداً كما
اعتدنا الى شاطىء البحر فأنا لم أعد أحتمل ترك كل شيء في صدري أكثر من هذا،
لا تصري علي، بامكاننا سوية الانتظار حتى الغد . لنغير الموضوع الآن، أمك
ستحضر في أية لحظة. ماذا أحضرتِ لي معك.. هيا نفتح الحقائب..
وتسكت هبة ناظرة الى يارا تتمعن في قسمات وجهها تحاول أن تفهم قصدها وعندما تفشل
تسرع لحضنها وتتعانقان عناقاً حاراً ثم تذهبان الى غرفة هبة.
تخرج كيساً من حقيبتها وتقول ليارا:
- هذه الرسالة من أهلك وهذا الكيس أظنّ أن فيه هدية عيد ميلادك.
- شكرًا.. أرني.
وتصمت الصديقتان، يارا تقرأ رسالة والدتها وهبة تنظر اليها وتحاول أن تفهم ما عسى
أن يكون الموضوع الذي يزعج يارا الى هذا الحد، هل قطعت علاقتها مع خالد،
لكن إن فعلت ما دخل هذا بعلاقتها مع أهلها؟ أو ربما علما بأمره؟
- رسالة عادية جداً يسألون عني ويسلمون على الجميع لا جديد.
تخرج هبة فستاناً وتقول:
- أنظري أحضرت هذا الفستان لماما هل يعجبك؟
- رائع..
وتخرج قلماً جميلا فضي اللون.
- هذا القلم أحضره لي سامر في أول يوم امتحان وتمنى لي التوفيق ، أليس جميلاً؟
إسمي محفور عليه.
- أنيق جدًّا.. صحيح أنه ذو ذوق رفيع.
وتخرج قلماً آخر،
- وقد أحضرت لك قلمًا مشابهًا وحفرت اسمك عليه. تفضّلي أتمنّى أن يعجبك.
وتهجم لعناقها قائلة - شكرًا جزيلاً.
تتوقف هبة عن ترتيب أغراضها وتقول:- يارا.. أتصدّقين أن أولاد عمّي هذه المرة لم
يقبلوا أن يحضّروا لي لائحة بما يريدون من أغراض. معاملتهم لي تغيّرت
تماماً. هل تذكرين كيف كنت في كل مرة، أحضر معي قائمة طويلة برغباتهم.
وخاصة غادة وسوسن. وكأنهم لَم يصدّقوا أنني سأغادر. أشعر أنهم يغارون منّي.
خالتي أم سامر تعاملني معاملة خاصّة جدّا وهذا يثير غيرتهم وبالتالي بدأوا
يشعرون وعن قرب بالفارق المعيشي بيني وبينهم. مصروفي أكبر من مصروفهم.
ثيابي كلّها تختلف.
- إذن الحقيقة أكبر مما ذكرت لوالدتك؟
تقترب هبة من الباب وتنظر الى الخارج لتتأكد من عدم وجود أمها وتتابع:
- أحسّ يا يارا أنّني أسبّب لهم ضيقًا وإحراجًا
وخاصة لعمي أبو سامر. إن أحوال عمله ليست على أتم ما يرام ولا يستطيع البذخ
وهم كثر ما شاء الله أما أنا فواحدة وأحوال والدي المادية جيدة ثم إن صرف
الدينار بالنسبة لليرة السورية عال جدًّا حتّى أنني في الفترة الأخيرة
اقتصدت كثيرًا من مصروفي. وهم يسمّونني دائمًا الكويتية، عندما أدخل
يقولون:"جاءت الكويتية"، إذا اقترحت الذهاب الى مكان يقولون:"ماذا يهمّك
أنتِ كويتية".. وهم طبعًا يقصدون أنني غنية ولا تهمّني أية مصاريف.
- ربما يمزحون!!
- صدّقيني لو اقتصر الأمر على المزاح لما اكترثت
لكنّي أقرأ في عيونهم غيرة لا أريدها أن تكبر. خاصة أنّني وسامر يمكن أن
نتقرّب من بعضنا أكثر. لا أريد أن أخسرهم.
تقترب من صورتها مع بنات عمها تلقي عليها نظرة سريعة ثم تتابع:
- سأحاول الابتعاد وفعلاً حجزت غرفة في بيت
الطالبات وسأستلمها فور عودتي. خالتي أم سامر تعارض بشدّة وكذلك عمّي أبو
سامر. لكنّي سأقنعهم وسأطلب من بابا أن يكلّمهم فهذا ربما يخلصني من كل
المشاكل.
- لو أن خالتك قبلت منذ البداية بأن تعيشي في
البيت الجامعي لما تعرضت لكل هذه الضغوط.
- لا أفهم لماذا أصرت يومها، ربما نكاية بأمي.
وعمي، يومها أصر اصراراً فظيعاً ولم يستطع أبي مجابهته. لا أفهم سر العلاقة
بينهما، محبة كبيرة لكنها مغلفة بشيء ما. شيء غريب غير مفهوم. أو على الأقل
لم أستطع فهمه الى الآن.
استوت يارا على الفراش بجانب هبة وقالت باستهزاء:
- وسامر ألم تتحدثي اليه بالأمر؟
- بلى، لن أرد على استهزائك، كالعادة تخلطين الجد بالمزاح.
- أنا؟
- اسمعي، مرّة تحدّثت مع سامر في هذا الموضوع إذ سألني كيف سيكون موقفك لو أن
والدك يعمل في دمشق وراتبه بالليرة السورية... هل كنت ستنفقين بهذا الشكل؟؟
- وماذا أجبته؟
- الإنسان يتكيّف مع ما تسنح به الظروف.. وأظن أنه لو كان والدي يعطيني مصروفًا
محدّدًا لكيّفت متطلّباتي بحسبه.. لكنّه لم يوافقني الرأي وقال أنتِ قد
اعتدتِ على نوعية معيّنة من الحياة.. مستوى من الصعب عليك جدًّا مغايرته..
ولو فعلت فذلك سيكون له تأثير سلبي على حياتك ككل. ستشعرين بالإحباط..
- معه الحق يا هبة. ولطالما حكيت لك عن ذلك ولم تقتنعي. عندما أسافر إلى دمشق في
الإجازة أبقى عند ماما سعاد، وطبعًا لا يقبلون أن آخذ مصروفي إلا منهم. أحس
بالإحراج وأشعر بالحاجة إلى التصرف كما أريد. هذا، ويكون حينها معي من
الثياب ما لا حاجة بي إلى غيره.. وأشعر أن إخوتي يعيشون بشكل مختلف، صحيح
أنهم لا ينقصهم شيء لكن حياتي تختلف عنهم وحياتهم تختلف عني.. من جهة هذا
أفضل إذ نتعلّم أن لكل شيء حدوداً، وأنّه باستطاعتنا تدبّر أمورنا بأبسط
الأمور.. لكننا اعتدنا هنا الحصول على كل شيء بسهولة وكما نريد.. أعتقد
أننا لو عدنا للاستقرار هناك ستلزمنا فترة طويلة للتأقلم ولن يكون ذلك
سهلاً..
تنظر هبة مجدداً الى الخارج وتعود لتتابع:
- ربّما يكون معكما حقّ لكني أقول مجدّدًا. لو حدث ذلك للإنسان مرغمًا ربّما
يضايقه ذلك أما أن يختار تلك الطريقة بمحض إرادته فسيكون الأمر مختلفًا.
مثلاً لو اخترت الزواج من إنسان يعيش في دمشق وبراتب متوسط فلا شكّ أنني
سأتكيّف مع مدخولنا. قد لا يكون ذلك سهلاً لكنه معقول. المهم أن نحبّ ذلك
ونقتنع به.
- وسامر كيف كان رأيه في النهاية؛
- إستطعت إقناعه فتلك هي بلدنا وليس باستطاعتنا الاستغناء عنها. أينما ذهبنا
سنبقى زوار. نحن في الكويت نشعر أننا في بلدنا ونحبها كثيرًا ولكننا نعلم
أننا في أي وقت سنغادرها ونعود إلى وطننا الأم الذي لا غنى لنا عنه.
- مع أنّك تتكلّمين بمثالية.. إلا أن في كلامك ما يقنع.. لكن الكلام سهل، أما
التنفيذ فأصعب بكثير.. غدًا عندما تنتقلين للمعيشة في بيت الطالبات وتكونين
مضطرة لتحمّل كل مصروفات الطعام والشراب حاولي أن تنفّذي ما قلت واعتبري أن
مدخولك محدود حينها قابليني وناقشيني فقد أقتنع.
في الغرفة الأخرى تتحامل الأم على نفسها وتقوم من فراشها، تنظر في المرآة وتحاول
استحضار فرحتها التي كانت بالأمس تملأ وجهها والمكان، يجب أن تكون فرحة،
ستأتي أم يارا وبعض الجيران بعد الظهر لا يمكن أن يروها هكذا. ترسم على
شفتيها ابتسامة مشابهة لابتسامة الأمس وتخرج.
تطرق على باب غرفة هبة وتفتحه وتمد برأسها وتقول:
- يا بنات ألم تنتهينَ من ترتيب الأغراض. هيا تعاليا لشرب القهوة.
- ماما هل استيقظت؟؟
- ألم تشعرا بي. الحديث شغلكما.. هيا أحضري لي هديتي يا هبة وتعاليا قبل أن تبرد
القهوة وها هي أم يارا آتِية لتشربها معنا.
تضع هبة فستان أمها عليها مقلدة عارضة الأزياء وتتمشى باتجاه أمها قائلة:
- أنظري يا ماما هل يعجبك هذا الفستان. أعتقد أنه مناسب لك تمامًا.
وهذا الكيس لك أيضًا فيه بعض البهارات ولا أدري أيضًا ماذا وضعت فيه خالتي أم
سامر تفضّلي، وهذه ربطة عنق لبابا أليست جميلة الألوان.
- شكرًا لك يا ابنتي.. ذوقك دائمًا يعجبني.
- هذه المرة اشترك معي سامر في انتقاء الهدايا. ما رأيك؟
- ذوقه حلو أكيد.. كم اشتقت له.
ويدق الباب،
- هيا افتحوا الباب لأم يارا.
وبدأ المحبّون بالوفود للسلام على هبة. الجيران.. الأصدقاء.. كلهم يحبّون هبة
ومشتاقون إليها ويسألون عن أحوالها.. كانت بينهم كالوردة المتفتّحة وسط حقل
من الزهور.. مبتهجة.. فرحة.. هذه هي مملكتها.. هذا هو وطنها وهؤلاء
هم أحبّاؤها.. هذه هي حياتها التي فتحت عينيها عليها.. لقد افتقدتها في
الأشهر الثلاثة التي قضتها بعيدًا عن هنا... هي بينهم الآن تحسّ أنها في
مكانها المناسب.. كالفراشة تحطّ على أزهار حديقتها بعشق وشغف تقرأ في
عيونهم لغة الحب المتبادل والتفاهم.. لقد عاشت حياتها ترنو بينهم وعلى
أكتافهم.. كانت تحتضنهم بأشواقها.. تلفّهم.. تريد أن تضمّ بين ضلوعها كلّ
هؤلاء الذين اشتاقت إليهم.. تغمض عينيها وتستنشق ملء رئتيها الهواء الذي
تعشقه..
في الكويت وبين المقيمين، الجيران والأصدقاء هم الأخوة والعائلة. العلاقة أكثر
قوة منها في البلد الأم، هم هناك الأهل لبعضهم البعض، الكل بعيد عن أهله
ويحتاج للدفء العائلي، الأطفال يكبرون معاً كالاخوة، والأمهات تصبحن
كالأخوات والرجال مرتاحون للعلاقات الأخوية فتقوى الروابط كلها. يحتفلون
بالأعياد معاً يشتركون في الأفراح والأحزان، ويتآزرون في الصعاب والأمراض.
لم يتأخر الساهرون ، الجميع يعرف أن هبة لا بد أن تكون تعبة، بالرغم من أن
التعب كان بادٍ أكثر على وجه أم هبة.
بعد مغادرة الجميع، تتوجه هبة الى أمها قائلة:
- ما بك يا أمي، لِمَ أراك تعبة هكذا، أرجوك
انتبهي الى صحتك هل أخذتِ دواءك؟
- آه نسيت أن آخذ دوائي لا تقلقي سآخذه الآن
وسأشعر بتحسن، سأذهب للنوم وأنت كيف تشعرين؟
- أنا بخير يا أمي ، أبي أرجوك اعتنِ بها، هيا
تصبحون على خير.
- وأنت من أهل الخير.. نامي جيّدًا سنشرب القهوة باكرًا معك.
- تصبحين على خير يا أمي.. أنا مسرورة.. مرتاحة جدًّا وسأنام في سريري الذي اشتقت
إليه كثيرًا.. تصبح على خير يا أبي.. غدًا إجازة أليس كذلك؟؟
- نعم تصبحين على خير.
ويدخل كل منهم غرفته.
تغلق هبة باب غرفتها وتتحسس الجدران والمكتبة، تمرر أصابعها على كل الرفوف وتحاكي
كل الصور المعروضة، هذه صورتها مع يارا وهما تجلسان على شاطىء البحر
مكانهما المفضل، لا بد أن تذهبا غداً فقد اعتادتا أن النقاشات الخاصة كلها
يجب أن تكون هناك، وهي بحاجة ماسة اليها. ترى ما الذي يقلق يارا الى هذا
الحد؟ لم تستطع الاقلاع عن التفكير به كلما التقت عيناهما طوال السهرة. إلا
أن يارا لم تقبل الافصاح بأي شيء. ستعرف غداً بالتأكيد .
هذه صورتها مع والديها يوم تخرجها، والداها أعز مخلوقين على قلبها، أمها يجب أن
تطمئن عن صحتها وتتأكد ألا تتماهل في أخذ دوائها، لن تستطيع أبداً الافصاح
لها عن معاناتها هناك في بيت عمها، صحتها لا تحتمل أية انتكاسة، خالتها
لطيفة جداً، لماذا لا ترتاح أمها للتعامل معها؟ أهو خلاف قديم؟
والدها الحبيب الرقيق الحنون، هل ستحكي له كل شيء، قد اعتادت ذلك منذ صغرها، أما
اليوم فهي ليست متأكدة أنه يجب أن يعلم كل شيء يجب أن تشاور يارا. صورة
التخرج التي تضمها مع تلامذة صفها في السنة النهائية وهم جميعا" يلبسون
الرداء الأسود ويعتمرون القبعة العالية السوداء ذات الشريط الأحمر ويحملون
شهاداتهم. هذه الصورة موجودة أيضاً في بيت عمها في دمشق، تذكرت تعليق سامر
عندما رآها قال: تخرجكم هذا يشبه التخرج في المدارس الاجنبية فهم يهتمون
بذلك كثيراً لكنها أيضاً وبسرعة تذكرت سوسن وهي تضيف بسخرية : إن كنتم
تحتفلون هكذا في التخرج من المدرسة فماذا تفعلون حين التخرج من الجامعة؟
هذه صورتها مع بنات عمها في الصيف الماضي ، تمسك الصورة وتنظر الى كل منهن وكأنها
تراهن للمرة الأولى وتتساءل هل هذه هي سوسن التي طالما أحبتها واعتقدت أنها
ستكون أعز صديقاتها لأنها أقرب بنات عمها سناً منها، تنظر فترى وجهاً آخر
عرفته مؤخراً، وجه يعاندها ويغار منها ويختلق لها المشاكل، ترى هدى أكثر
بعداً عنها فهي ملهية بخطيبها وبالتحضير لحفلة زفافها في الصيف المقبل
فتكاد أن تراها. أما غادة فسعيها الى العلامات العالية لتتخرج هذا العام
بتقدير عالٍ جعل التعاطي معها شبه المستحيل أما اذا احتدمت المشاكل بين
الفتيات فهي أكثرهن عدلاً وهدوءاً.
تجلس وراء مكتبها الذي لطالما جلست ودرست وقرأت ولعبت عليه، تلقي السلام على جهاز
الحاسوب وتسأله لو كان قد اشتاق لها كما اشتاقت هي؟
تستلقي على فراشها، تحتضن ميمي بقوة وتتجول بعينيها على اللوحات المعلقة على
الجدران هذه مزهرية فيها أزهار ملونة رسمتها في المرحلة الابتدائية وأصرت
والدتها على وضعها في اطار وتعليقها لشدة اعجابها بها. وهذا اطار فيه صور
لها التقطتها على شاطىء البحر مع أبناء عمها يوم ذهبوا جميعاً في رحلة الى
اللاذقية كم لعبوا وتسلوا وركضوا وسبحوا. لم تكن بينهم مشاكل أبدأً.
هذه لوحة فيها أطفال كثر، كل منهم أجمل من الآخر، كانت والدتها تضعها في غرفتها
قبل أن تولد وأصرت هي على تركها بعد أن كبرت وأرادت أمها تغييرها. كلما
نظرت اليها تبتسم لأن جميع الأطفال فيها يبتسمون.
وهذه صورة للتلميذات صديقاتها خلال أيام الدراسة.
وتحس براحة تخدر أطرافها، هذه مملكتها، هذا مكانها، ماذا تفعل هناك بعيدة عن كل
شيء.
هناك في دمشق، ماذا إذن..
وطنها الأم؟؟ لكنها لا تحسّ بالشعور ذاته. ضيفة هي هناك، زائرة. أو ربما ما زالت
كذلك لأن الفترة التي قضتها هناك وجيزة. هناك معظم أقربائها تحبّهم
ويحبّونها لكنها بينهم سمكة انتُشلت من البحر ووضعت في حوض جميل، لكن مهما
كان الحوض رائعًا إلاّ أن السمكة تشعر بالاغتراب. حينما يداهمها هذا الشعور
بالاغتراب تفهم عدم رغبة أمها بالعيش في دمشق.
الآن وبعد أن عادت الى غرفتها شعرت كم هي ضيقة عليها زاويتها في غرفة البنات في
بيت عمها. لما استلقت بملء راحتها على سريرها دون أن يطلب منها أحد اغلاق
النور أو تخفيف الموسيقى، أحست بقيمة وجودها بكامل حريتها في بيتها. ولكن
هل هذا جلّ ما يقلقها فعلاً؟
بالتأكيد لا، فهي كانت تعرف كل هذا قبل ذهابها ووافقت عليه لأنها كانت تعتبره
سبيلها الى عائلة كبيرة لطالما حلمت أن تكون جزءاً منها. لكنها اكتشفت أن
الزيارات القصيرة الصيفية مختلفة تماماً وأن الاقامة أمر مختلف.
الإخوة الكثر في البيت لا يقضون أيامهم في الضحك والمزاح والاحتفالات دائما كما
في أيام الصيف، وبوجود الضيوف. حياتهم مليئة كذلك بالمشاكل والاختلافات،
لكل تفكيره ولكل طريقته في فهم الأمور، لكل اسلوبه في التعامل مع الآخرين
وفي الدراسة وهي جديدة على التعامل معهم، لطفها ومسايرتها للجميع أشعل غيرة
البنات وخاصة سوسن فهي تحب أن تكون مركز كل الاهتمامات أما أن تأتي هبة
وتأخذ مكانها فهذ ما لم تتقبله بالمرة. واحتارت في التعامل معها
وتعبت من مسايرتها تعطيها ما تريد فتطلب أكثر، ترفض أن تعطيها ما تريد من
نقود أو ملابس فتزعل وتغلظ لها في الكلام وهي لا تريد أن تخبر خالتها بما
يجري وتحاول أن تتعامل مع الموضوع بحذر، لكنها تعبت، حاولت أن تحدث هدى
لكنها في عالم آخر وهي تطلب منها الصبر دائماً، أما غادة فلا تستطيع
الاقتراب منها لأنها تصفها بالمدللة باستمرار ولو أخبرتها بأي من هذه
المشاكل البسيطة لضحكت منها ومن دلالها. أما سمير فذلك مشكلة كبيرة أخرى،
يكاد أن يغرقها فيما لا تريد، يسحب منها المال بحجة شراء الكتب والملابس،
لكنها قلقة لأنها لا ترى ملابس ولا كتب. يجب أن تحدث يارا عنه وربما والدها
أيضاً.
لذا فوحده سامر استطاع أن يكسب ثقتها، استطاع أن يقف في صفها ويسندها.
خالتها حسناء ليعينها الله على مسؤولياتها، هي تحاول مساعدتها قدر المستطاع لكن
حملها ثقيل.
عمها أبو سامر، مشاكل العمل لم تترك له فسحة هدوء فهو دائم العصبية وبعيد عن
المشاكل الصغيرة في البيت وان وصل اليه أي منها فالويل لهم، لأنه حينها يصب
جام غضبه حتى قبل أن يفهم المشكلة على حقيقتها، لذا يبعدونه قدر الامكان عن
معظم الأمور.
تحتضن هبة لعبتها ميمي وتنام ملء جفونها كما لم تنم منذ أشهر ثلاث.. ولو علمت أي
حديث يدور في الغرفة المجاورة لما نامت وما هدأت طويلاً طويلاً.
وفي غرفة النوم المجاورة.
- ما بك يا أم هبة؟ لست طبيعية أبدًا. ماذا هنالك؟ أحسّ وكأن قلقًا كبيرًا يلفّ
نظراتك. منذ أن عدتُ إلى البيت مساء وأنا أحس بذلك ولم تسنح لي الفرصة
لسؤالك. هل هبة بخير؟ مرتاحة في بيت عمّها. هل حصل خلاف ما بينهم؟
- ليته كان كذلك لكان وقعه أهون على قلبي. أنا غير مرتاحة أما هبة فهي مرتاحة
جدًّا في بيت عمها وخالتها تدلّلها كثيرًا حتى أن بنات عمّها يغرن منها.
لكن الأهم من ذلك أنني قرأت في عينيها بريقًا أخافني. فهمت من كلامها معانٍ
لم أجرؤ على إعادتها لنفسي وهي تخيفني وترعبني.
تتقلب في فراشها ومن ثم تجلس وتتردد في القول فيقول:
- ماذا هناك تكلّمي. لقد أوقعت الرعب بين ضلوعي.
- إنّه سامر.
يجلس بمقابلها،
- ماذا به
- أقرأ في عيني هبة وكلماتها ميلاً إليه. عسى ألا يكون حبًا أو حتّى وعد
بالزواج..
يدير رأسه مقطباً حاجبيه ويقول:
- قلت لك ألف مرة. هذا ما كنّا نخاف منه طوال الأعوام الماضية.. لنخبرها الحقيقة.
تمسك بكتفه راجية:
- لا.. لا تقل هذا. لا أريد أن أخسرها بعد كل هذه السنين.
يدور مجدداً ناظراً اليها:
- هل سنتكلّم بالموضوع من جديد. لا بأس. لكنّي أعتقد هذه المرة أن الأمر لا
يتحمّل التأجيل. هبة صارت واعية متفهّمة ومدركة ومن حقّها أن تعرف.
- أخفض صوتك. لا أريدها أن تسمع. ماذا ينفعها أن تعرف؟
يمسك يديها ويقول:
- في كل مرة أوافقكِ أو بالأحرى أقبل لأجلك لكني اليوم لا أرى مانعًا من إخبارها.
- بل أنا لا أرى سببًا لإخبارها.. حتى لو كانت تحبّه بإمكاننا منعها من ذلك. هي
منطقية وستفهم جيدًا أن قرابتها منه هي من طرف الأم والاب. أمّه خالتها
ووالده عمّها وليس من المناسب أن تتزوّجه أو إن شئت أخبرناها أن مرضًا
خطيرًا وراثيًا في الأسرة لا نستطيع بموجبه الموافقة على زواجهما.
يضع يده على فمها ويقول:
- مهلاً مهلاً. تتكلّمين بخلط عجيب. بدأت حديثك بميل من هبة نحو سامر قرأته في
عينيها وها أنت في الزواج. لنتكلّم في المبدأ. هل تريدين قبل كل شيء
إخبارها بالحقيقة؟؟ يعذّبني جدًّا أننا لم نخبرها. أحسّ بالذنب.
تترك يديه وتضعهما على وجهها قائلة:
- أنا مضطربة ولا أعرف ماذا أريد. أنا أيضًا يعذّبني أننا لم نذكر لها الحقيقة.
لكنني خائفة جدًّا أخاف أن أفقدها . ارتعد كلّما فكّرت أنها قد تتركني..
يضع يده على كتفها لتهدئتها،
- لكنها كبرت الآن وأولاً وآخرًا ستتزوج وتتركك.. هذا أمر طبيعي فلمَ الهروب من
الواقع؟؟ إن لم يحدث هذا بعد سنة سيكون بعد عدة سنوات لكنه حاصل مهما
تأجّل.
- تبتعد بالزواج لا بأس.. لكنها ستكون قريبة منّي.. سأسكن إلى جوارها وستبقى
ابنتي التي أحببتها بكل حبّ الدنيا.
- ولماذا تعتقدين أنها لو علمت الحقيقة ستتركك؟؟
- يكفي أن أقول ربما، لأغير رأيي.
وتنتصب من فراشها وتتابع:" لو لم يظهر سامر على المسرح لما أثرنا الموضوع من
جديد."
- بل إن الموضوع يجب أن يُثار في كل مرة ولا تخلطيه مع أي موضوع آخر. ومن ثم لا
تتعجّلي الأمور.. ربّما كان شعورًا أخويًّا فقط.. أحسّت به أخًا قريبًا إلى
قلبها طالما هي وحيدة.. حاولي أن تفهمي حقيقة الأمر من يارا دون أن تلاحظ
هبة وسأتصل غدًا بأخي أبو سامر، وأسأله رأيه..
تجلس بجانبه:
- لطالما قال لك الأمر لكم. أنتم أصحاب القرار. ولم يرد الحديث في ذلك الموضوع
أبدًا.
- أعرف ذلك لكني أقصد الموضوع الذي يتعلّق بابنه.. علينا أن نستبق الأحداث قبل
وقوعها. لا أن ننتظر وقوع الخطأ ونندم حيث لا ينفع الندم.
- معك حقّ تصرّف كما تشاء. لكن أن تعرف هبة لا.. حبيبتي.. لا أريد لها الألم
أبدًا.
ويضمها قائلاً:
- يا أم هبة إهدئي، هذا الألم مقدر عليها عندما ستعلم، فلماذا لا نعلمها نحن،
وتحزن بيننا ونداريها ونفهمها الحقيقة. أليس أفضل من أن تعلم ونحن بعيدان
أو لسنا على قيد الحياة.
- ولماذا يجب أن تعلم؟
- يا أم هبة ما من سر يدوم العمر كله، لا بد له من أن ينكشف، وأنا أريد أن أخبرها
بنفسي، أحزن كثيراً كلما فكرت أنها قد تعلم ولسبب ما من شخص آخر وتفقد
ثقتها بي وتكرهني فقد عودتها على المصارحة التامة.
وتنظر اليه مستفهمة:
- من سيخبرها؟ لا أحد يعلم بالموضوع سوانا وأم سامر وأبو سامر.
ينظر الى صورتها الموضوعة بقرب سريره ويحملها في يده ويقول:
- أتعذب كثيراً من هذا السر وما يعذبني أكثر هو موقفك، أخاف عليك، لكن صدقيني
ستحزن قليلاً لكن الأمر سيكون بخير بعد ذلك. يارا هنا وستساعدنا في اقناعها
بسلامة نوايانا.
- معك حق فيما تقول.
ثم تعود لتقول:" لكن ، لا لا يا أبو هبة، أنا خائفة جداً ومن ثم ما دخل يارا
بالموضوع هل سنقول للجميع؟ أم فقط لها".
- سيكون الأمر متوقفاً عليها، هي تقرر ذلك. يا أم هبة دعينا نخطط للموضوع
ونستغل وجودها بيننا ونخبرها، لا تخافي. نامي الآن ولنفكر غداً بحل معقول،
صدقيني سنرتاح جميعاً حينها. تصبحين على خير. - تصبح على خير.. أما أن أنام
فلا أظن ذلك.
- انتبهي لصحتك. أنتِ تعلمين جيدًا أن الانفعال يؤثّر على ضغط الدم لديك، أرجوك
إهدئي. سندرس المشكلة غداً ونقرر ربما لن نخبرها. نحن لا غنى لنا عنك.
ومهما حدث فهي تحبّك أكثر من نفسها.. هل نسيت ذلك؟
- كم أتمنّى أن يدوم ذلك...
استلقيا على الفراش للنوم لكن كل منهم رحل بتفكيره وقلقه بعيداً، الى ما قبل
ولادة هبة بكثير.
هي،
أحبت زوجها كثيراً منذ أن خطب أخوه أختها حسناء وأحبها أكثر. وما ان أنهت دراستها
الجامعية تزوجا. سافرت معه الى الكويت وعاشت كمن في الجنة. ولم تعرف أن ثمن
السعادة الذي ستدفعه كان غالياً الى هذا الحد.
مرت السنة الأولى دون حمل، لم تكترث كثيراً، كان الحب يعوضها حتى عن التفكير بشيء
آخر غيره. وأختها حسناء تلد ولداً في كل عام.
أخيراً حملت وانتشر الخبر وفرح الجميع، لكنه فرح لم يكتمل.
يوم أجهضت للمرة الأولى اعتقدوا أن ذلك حدث بسبب وفاة والدتها وعدم استطاعتها
السفر بسبب الحمل .
أخبرها الطبيب أن حملها عزيز، لم تدرك معنى الكلمة بوضوح، لكنها فهمتها جيداً
عندما راحت تحاول وتحاول دون جدوى، حتى حملت مجدداً، في المرة الثانية بدأ
الحمل وقبل أن تدرك معنى الراحة والالتزام بتعاليم الطبيب أجهضت.
اضطرت لاجراء الكثير من الفحوصات وأخذ الكثير من الأدوية قبل أن تحمل في المرة
الثالثة. يومها لم تتحرك من السرير، كانت الجارات تتناوبن على خدمتها
والجلوس معها حتى يعود زوجها من العمل. في الشهرين الأولين لحملها لم تكن
تجرؤ على القيام بأية حركة حتى أنها لم تجرؤ على الحلم، كان الخوف من
الاجهاض كابوساً يسمرها في فراشها مجمداً حتى أفكارها وأحلامها.
عندما مر الشهر الثالث بسلام، ارتاحت نفسيتها واستقر ضغط الدم وتحسنت قابليتها
للطعام والحياة، راحت تقضي أيامها وهي تحلم بابنها بين ذراعيها ترضعه
حليبها وحنانها وتهبه حياتها وحبها وزوجها بجانبهما يغمرهما معاً بالسعادة.
لم تعد تعدّ الساعات الطوال في السرير كانت الأحلام تأخذها بعيدا في دنيا
الأطفال فتقضي الوقت تتفرج على برامج الأطفال والرسوم المتحركة وتحس أنها
تشارك ابنها فرحته واستمتاعه وتحيك له أحلى الملابس والأغطية.
ما أن شارفت على أواخر شهرها الخامس بدأت الأمور تتراجع، راح ضغط الدم يشكل خطراً
على صحة الطفل وصحتها.
كثرت المشاكل حتى أجهضت الطفل والأحلام والفرح وسط الذهول والألم والحزن.
الأمل ،
لم يفقد الطبيب الأمل بالانجاب، لا زال هناك أمل ولكن يجب الانتظار.
بعد أن شارفت صحتها على التحسن نصحها الجميع بالسفر والاستراحة وابعاد فكرة الحمل
عن ذهنها لفترة لا تقل عن سنة ليرتاح رحمها وتستعيد قوة أعصابها.
حزمت حقائبها الى دمشق، الى حيث أختها المشغولة بتربية أطفالها الأربعة، بحسب
القول القائل"وداوها بالتي هي الداء"، فكان وجودها خير معين لأختها التي
أنجبت لتوها سوسن وخير معين لنفسيتها. أحبها الأولاد وأحبتهم، كانت تحس
بالمرارة كلما حضنت أحدهم لكنهم أنسوها وقع الأيام. وانغمست مع أختها في
واجباتهم. كانت تجلس ساعات وحولها سامر وهدى وغادة تقرأ لهم القصص وتعلم
سامر القراءة والحساب وتلعب معهم فيما يريدون. تأخذ سوسن بين ذراعيها
وتغمرها بكل الحنان حتى تنام.
عندما أتي زوجها لاصطحابها بعد انتهاء الأشهر الثلاث طلبت منه أن تبقى حتى تتجاوز
سوسن أشهرها الستة وتذهب هدى مع سامر الى المدرسة، وافقها عندما أحس
براحتها الى جانبهم ولمس استقرار قلقها وغادر دمشق دونها وتحمّل مجدداً
بعادها عنه.
بعد عودتها الى الكويت ضاقت الدنيا عليها وصارت عصبية المزاج، سريعة الانفعال، لم
يعد الحب يكفي وحده لاستمرار الحياة، صارت الأمومة عقدتها الكبيرة التي
تنخر أيامها وتأبى لها دواء. راحت تقضي يومها بالتحدث الى أختها والسؤال عن
الأولاد. ابتعدت عن جاراتها وامتنعت عن زيارتهن.
مرت الشهور ثقيلة وكادت أن تدخل في كآبة خطيرة وهي ترفض الذهاب الى الطبيب حتى
أخبرتها أختها أنها حامل مجدداً وعبرت لها أنها كانت تود التخلص من الحمل
لكن زوجها أصر على عدم الاجهاض لأنه يريد أخاً لسامر. يومها أصرت على زوجها
أن تسافر الى اختها لاعانتها على تربية الأولاد.
وتذكر جيداً كيف عانقت زوجها ساعة السفر عندما كانت تشكره على قبوله بسفرها،
وقالت له" سأعوضك عن كل شيء طالما أنت صابر هكذا" فقبلها من جبينها
وقال"أحبك وليس لي إلا الصبر".
وما بين يوم ذهابها وعودتها أحداث لا تريدها أن تكون جزء من الذاكرة، لو أن هناك
طريقة تمحو ما حدث أو تلغي ما جرى.
ما تريد أن تعرف فقط أنها عادت وهبة على ذراعيها.
هو،
كان كمن يرمي على الجمر الرماد.. يغطيّه.. يخبّئه ولكنه لا يطفئه أبدًا.. النار
في داخله لم تطفأ أبدًا. كان يرمي عليها الرماد. عيناه مغمضتان لكن الحقيقة
مستيقظة في عقله أبدًا. لم تغب عن ناظريه. كان كلما نظر إلى هبة خاف من هذه
اللحظة بالذات. لماذا وافق زوجته منذ البداية. لو نشأت هبة وهي تعرف
الحقيقة لما اضطر اليوم لهذا الموقف. ولكن هل كانت الحقيقة ستريحها فعلاً.
كانت زوجته تقنعه دائمًا أنه لا لزوم لمعرفتها. في الأحوال المماثلة
لحالتها يضطر الأهل إلى إخبار الولد بالحقيقة عندما يكون السر متفشّيًا أو
معروفًا أما بالنسبة إليها فلا أحد يعلم إلا هما وأخوه وزوجته والطبيب.
إنه لا ينسى ذلك اليوم أبدًا.. تلك الفترة بأكملها كابوس يلاحقه بمرارته.. ولم
تستطع أيام السعادة كلّها التي عاشها وهبة في كنفه أن تمحي تلك المرارة.
سنوات كثيرة. تسعة عشر عامًا ومازالت اللحظات تمرّ أمامه كشريط سينمائي حي.
بعد سنوات من الزواج والحمل والاجهاض المتتابع ، مرت فترة طويلة ، تعذبت كثيراً
خلالها ولم تترك وسيلة علاج لم تجربها حتى نفع العلاج الأخير وحملت زوجته
مجدداً .. وكانت الفرحة الكبرى التي لم تكتمل لأنها وفي الشهر الخامس حدثت
مضاعفات كثيرة بسبب ارتفاع الضغط واختلاطات مختلفة وفقدت جنينها.
مع أن الأمل كان كبيراً بالله إلا أن آلامها أبعدت الفكرة عنها واستبدلتها
بمساعدة أختها على العناية بأولادها الأربعة الذين هم أولاد أخيه. قبل على
مضض سفرها المستمر الى دمشق لمساعدة أختها وأحس بمرارة كبيرة
عندما سافرت في المرة الأخيرة فور علمها أن أختها تنتظر مولوداً جديداً. وافق
مرغماً وودعها متألماً وهو يحس أن أولاد أخيه سرقوها منه ومن حلمهما
بالانجاب.
حزن كثيراً وسأل الله لماذا لم يرزقه واياها بابن يزين أيامهم. لكنه كان يستغفر
ربه دائماً ويتقبل الأمر راضياً بالواقع آملا الخير.
لاينسى أبداً يوم اتصلت به في العمل بعد شهر من سفرها لتخبره أن الطبيب أخبرها
أنها قد تكون حامل. كيف ينسى صرخاته وأسئلته حتى أن زملاءه في العمل تجمعوا
مستطلعين سبب فرحته.
كيف ينسى عدد المرات التي اتصل يومها ليتأكد أنها لا تمزح، كيف ينسى ذهابه الى
دمشق في اليوم التالي وزيارة الطبيب حيث قال له : زوجتك حامل.
كان أمله فقط أن يستمر الحمل بخير وينتهي بسلام.
استأجر لها منزلاً في دمشق لتبقى بجانب أختها فتعتني بها وتساندها وأحضر لها
خادمة خاصة لتبقى معها. لم يكن يخابرها في الصباح والمساء فقط للاطمئنان
عنها بل كان يحضر الى دمشق كلما سنحت له الفرصة ولو لعطلة نهاية الأسبوع،
كان يتشوق للطفل أكثر من شوقها له، لكنه دائماً حاول ألا يشعرها بذلك قط كي
لا يزيد من الضغط على نفسيتها.
قضت شهور حملها وهي مستلقية على الفراش دون حراك، تصلي وتدعو الله أن يهبها طفلاً
صحيحاً يملأ دنياها فرحاً.
مرت الشهور طويلة بأسابيعها وأيامها ولياليها.
بدأت أحلامهما بعد أن تجاوزت الشهر الخامس، راحا يحلمان معاً بتربيته وغرفته وحتى
مدرسته، تناقشا كثيراً بتسميته أو تسميتها هي تقول:"أريد أن أسميه على اسم
والدي راغب رحمه الله" وهو يقول:"مع أن أخي سمى ابنه سامر فأنا أحب هذا
الاسم وهو اسم أبي وكذلك تيمنا بسامر ابن أخي ليكون ابني رائعا مثله".
والبنت كانت تريد أن تسميها ورد على اسم امها وردة رحمها الله وتقول له:"ها
هي أختي قد سمت هدى على اسم والدتك ويتناقشان ساعات طوال وينتهيان بموافقته
على كل ما تطلب فهي الحبيبة الغالية التي لا يرد لها طلباً.
إلا أن حملها لم يسر على أتم ما يرام.. ارتاحت كثيرًا وبذلت أقصى ما في وسعها إلا
أنها لم تستطع المحافظة على سير الأمور.
ضعفت قواها، وضعف جنينها فأسرعوا في طلبه وكانت في شهرها السابع، كان لديهم أمل
كبير بانقاذ الجنين ولو أنه في شهره السابع.
ولكن ،
يوم طلب الطبيب نقلها الى المستشفى علم من نظرة عينيه أن الجنين في خطر.
مات الجنين في بطنها.
لم يشأ الطبيب إخبارها كي لا تسوء حالتها الصحيّة فتتعسّر الولادة. وافقه
بالتأكيد وفهم أن عليه مؤازرة الطبيب بالكذب عليها حتى تتم الولادة. لكنها
لم يكن ليخفى عليها أمر كهذا.. جنين لا يتحرّك ليومين يعني بوضوح
للأم أنه بغير حياة...
ساءت نفسيّتها أكثر عندما علمت أن أختها في المستشفى تضع مولودها الخامس في ذلك
اليوم..
شجّعها الطبيب.. وساعدها ليحافظ على حياتها.. ساءت حالتها... وتعسّرت ولادتها..
تعب الطبيب كثيرًا لإنقاذ رحمها.. ولكن كانت الطامة الكبرى.
كيف ينسى تلك اللحظة حين خرج اليه الطبيب ليخبره أن الجنين غير حي وان عليه
استئصال رحم زوجته لانقاذ حياتها صرخ بأعلى صوته أنقذها ، أنقذها، لكنه كان
يعرف أنه يغتال الحلم والأمل. والذي ربما يقضي عليها. أجرى الطبيب العملية
القيصرية وأخرج الطفلة الميتة وكان لا بد من استئصال الرحم لإنقاذ حياة
الأم.
المشاعر الملتهبة كانت لحظتها تلفّ الجميع.. الأم المنكوبة في غرفة العمليات ، لم
تستفق من آثار المخدّر. والأب الملتاع في غرفة زوجة أخيه ينظر إلى أخيه
بعينين يحرقهما ألم الحزن.. والأخت النفساء تنظر إلى رضيعتها بين يديها
وتحس بالأمومة الثكلى في صدر أختها وتفكّر عندما ستستفيق أختها وتعرف أنها
فقدت جنينها ورحمها ولم يعد لها أمل بالإنجاب ماذا ستفعل؟؟ الجميع في
الغرفة مضطربون صامتون يفكّرون بالموضوع ولا أحد يتكلّم..
أم سامر تنظر تارة إلى ابنتها بين يديها وتارة إلى أبي سامر وكأنها تسأله شيئًا
دون أن تتكلّم.
أبو سامر ينظر إلى زوجته تارة وطفلتها بين يديها تحتضنها وإلى أخيه تارة.
أخوه ينظر إلى اللاشيء، لا يفكر لأنه لم يعد يستطيع ذلك. ينظر إلى الطفلة بين يدي
أمها فلا يرى سوى طيف وليدته التي تمنّى رؤيتها بين يديه فرآها ميتة بين
يدي الطبيب ورحلت. وتتساقط الدموع من عينيه وهو غائب الحس.
ويتهامس أبو سامر وأم سامر طويلاً ثم ينحني أبو سامر على زوجته ويقبّلها قبلة
تحمل حنان الدنيا كلّه.
يحمل ابنتهما بين يديه ويذهب إلى أخيه. ويقف أمامه مقدّمًا له الطفلة.
ويقف الأخوان دقائق أحدهما أمام الآخر والطفلة نائمة بين يدي أبيها وعمّها ينظر
إليها.. كانت اللحظات تصنع تاريخًا.. تقيم صرحًا للمحبّة الأخويّة التي لا
يمكن تصوّرها...
ينظر أبو سامر في عيني أخيه ويقول:
- خذها يا أخي.. هبة.. أعرف أنك ستحبّها وتربّيها وتعتني بها.. ومنذ هذه اللحظة
هي ابنتك وأنت أبو هبة.
لن نكون أكرم من الله عليك، لكنه ألهمنا بذلك ونحن نستجيب لإلهامه من عمق قلوبنا.
ينظر إلى زوجة أخيه صامتًا.. عيناه مغرورقتان بالدموع.. يراها طيفًا بعيدًا لا
يرى منها إلا عينين متعبتين من البكاء تومئان إليه بالإيجاب... بالموافقة
وتقول بصوت متهدّج..
- هبة ابنتكما.. أختي ستعتني بها أحسن عناية.. نحن أنجبنا وسننجب غيرها.. هي
ابنتكما منذ الساعة..
حمل الطفلة بين يديه.. حضنها.. لا يستطيع وصف تلك اللحظات فقد اختلطت المشاعر
لديه.. أخوّة رائعة.. تضحية كبيرة.. ما كان يفكر بها يومًا.. وأبوّة جديدة
بين يديه.. مشاعر تخلقه من جديد.. تبني كيانه مرة أخرى.
لحظات لا يمكن أن نسيانها تقطعها طرقات على الباب. يدخل الطبيب قائلاً:
- السيدة تستفيق من آثار المخدّر.. هل تريدون أن أخبرها أم أترك الأمر لكم..
الجميع واجمون.. والطفلة بين يدي عمها..نظر الطبيب الى الوجوه فقرأ عليها
كلامًا لم يفهمه لكنه يجب أن يقال:.. فبادره أبو سامر بالقول:
- دكتور.. سنطلب منك طلبًا ربما هو مخالف للقانون لكنه غير مخالف لقانون
الطبيعة.. لقانون الحب.. أنا عندي أربعة أولاد وباستطاعتي إنجاب المزيد..
أحسست وزوجتي بالهام كريم من الله ومن كل قلبنا نعطي ابنتنا لأخي..
باستطاعتك مساعدتنا ونعدك بألا نزعجك بهذا الأمر. سجّلها باسمه ولن نخبر
أحدًا بذلك.
نظر الطبيب إلى الزوجة وأومأ اليها مستفسرًا..
فأجابت بكل حنان:
- أختي أحق مني بطفلتي.. أعرف كم عانت للحصول على طفل وأراها أمامي الآن فقدت
الطفلة والأمل بالإنجاب مرة أخرى.. لن أستطيع تربية طفلتي وأنا أعرف أن قلب
أختي يحترق. أقدّمها لها من كل قلبي وإن أردتم لا تخبروها بالموضوع. قولوا
لها أن ابنتها حيّة.
ذهل الطبيب من حجم الحب وعظم التضحية. صمت برهة ثم قال:
- للحقيقة أمركم غريب ومحيّر.. لم أصادف في حياتي محبّة كهذه.. واجهت مواقف
كثيرة.. مؤثرة، محزنة، واجهت خلافات عديدة.. حقدًا وغيرة وتصرّفتُ أمامها
بكل بساطة وقوة.. أما اليوم أراني مذهولاً.. لم أتوقّع محبّة كهذه.
اقترب الطبيب من الطبيب وهي نائمة في حضن عمها وتابع:"لا أعرف بما أجيبكم.. في
هذه الأيام.. أخت تضحّي بفلذة كبدها.. أظنكم تبالغون.. أنتم اليوم
متأثّرون.. ربّما تغيّرين رأيك يا سيّدتي بعد فترة وتندمين وسيكون حينها
الموقف صعب عليك وعلى أختك."
تحاول الجلوس في سريرها وتقول:
- لا أظن يا دكتور. أرجوك ساعدنا.. لننقذ أختي ونقسم لك أننا لن نغير رأينا.
- لا أستطيع أن أعطيكم رأيي الآن. الأمر مخالف للقانون وأنا المسؤول أمام القضاء.
ربّما تغيّرون رأيكم ذات يوم وتستطيعون مقاضاتي.. لا لا أستطيع..
- ولم لا تستطيع.. لن يكون في يدنا أمر نثبته عليك ولن يعرف أحد بذلك.
- بلا تحاليل طبية كثيرة تثبت ذلك الآن.
اقترب من الباب ليفتحه ويغادر، لكنه عاد قائلاً:
- أعرف إن إنسانًا يتبرّع لأخيه بالدم، بكلية أما بالولد فهذا كثير.. دعوني
أفكّر.
أمسكت أم سامر بطرف كمه وقالت:
- أنت تقول أن أختي بدأت تستفيق ويجب أن نعرف بماذا سنخبرها..
وتضيف أم سامر قائلة للطبيب:- دكتور ربما أنت مندهش من تصرّفي وقد تجد في كلامي
أمرًا غير طبيعي لكنّي أودّ أن أخبرك شيئًا.. هبة كانت من نصيب أختي منذ
حملت بها.. رغبتي في إعطائها المولود أيًا كان ولدت، منذ حملت وحتى قبل أن
أخبرها أني حامل وسبب هذه الرغبة صديقة لنا هي جارتنا وجارتها في الكويت
تبنّت ابنة أخي زوجها بعد أن مضى على زواجها عشر سنوات ولم يعطها أي طبيب
أمل بالإنجاب فاتّفق الأخوان على حمل الزوجة وإعطاء الطفل أيًا كان لهم.
جلس الطبيب بجانبها وهو يستمع اليها فتابعت:" ومنذ أن ولدت الطفلة وسموها (يارا)
وكلتا الأسرتين سعيد.. لم يختلفا بل على العكس زادت أواصر المحبة بينهما..
أم يارا تخاف على الطفلة وتربّيها بحنان ولهفة ربّما أكثر من أمّها
الحقيقيّة المشغولة بعدد من الأولاد.. كانت أختي تراقبهم بصمت ولطالما قرأت
في عينيها تلك الرغبة الجامحة لأن يكون لديها طفل.. الأمومة في صدرها تغلي
وهي تنتظر رأي هذا الطبيب وذاك.
يقاطعها الطبيب ويقول:" هي قصة حقيقية؟"
- نعم يا دكتور صدقني والجميع موجود. دعني أتابع.
حين حملت أختي أخيرًا وصادف حملها مع حملي لم أخبرها بشيء عن رغبتي تلك. وأنت
تعرف بقية الأمور.. ما تراني فاعلة وأختي في هذا الموقف.. ألا تعتقد أن أي
أخت مكاني تفعل ما أفعل فأنا لا أرمي طفلتي أو أبيعها بل على العكس أهبها
هبة غالية لإنسانة عزيزة على قلبي وما يزيد الأمر واقعية أن أزواجنا أخوة..
وهذا يزيد رابط المحبة والقربى.. ما رأيك؟؟
- حيّرتموني. قلبي يوافقكم.. لكن واجبي يمنعني.. لما لا تتكلّم يا سيد؟ أم أن
الطفلة بين يديك أنستك العالم؟؟
نظر الى الطفلة ومن ثم الى الطبيب:
- طبعاً تنسيني العالم، لو كنت مكاني يا دكتور.. واقفًا أمام محبة أخيك لأصابك ما
أصابني.
انتصب الطبيب وقال:
- وستكون الطفلة باسم عمها؟
- هو عمها وهي خالتها جميعهم من العائلة.
توقف قليلاً ثم قال:
- لكن الأم يجب أن تعرف الحقيقة.. حينها يمكن أن نتباحث بالموضوع، ولي شرط واحد
ألا يعرف أحد بالأمر وأن توقعوا لي على ورقة تخلي مسؤوليتي.
أجابه الجميع:
- لك ماشئت.
وعلت وجه أبو هبة ابتسامة لها طعم مختلف وراح يدور في الغرفة ويقول:
- شكرًا شكرًا يا دكتور، شكرا يا أخي، شكراً يا أم سامر، شكراً يا الله، شكراً يا
الله.
ثم أسرع يعطي الطفلة لزوجة أخيه ناظرًا إليها نظرات تعبّر عن كل المحبة والعرفان
وطبع قبلة على جبينها حملت إليها كل فرحه وعانق أخاه... عانقه طويلاً ...
وبكى الأخوان... وساد صمت عميق.
خرج الطبيب برهة من تأثره ثم عاد وقال:
- هيّا يا أبو هبة.. تمالك نفسك ستستفيق الآن أم
هبة أنت من ستخبرها بذلك.
أمسكه الطبيب من يده واستأذنهما وخرج به الى غرفة العناية المركزة.
بعد أن وضع على رأسه قبعة التعقيم ولبس المريول الأبيض، دخلا الغرفة.
رأى زوجته تستفيق، فنظر الى الطبيب وكأنه يتأكد من موافقته.
طلب الطبيب من الممرضة الخروج بهدوء.
وقف بجانب زوجته يتأمل وجهها ويفكر بما سيقوله لها. حاولت فتح أعينها لتنظر حولها
ثم أغمضتهما ثانية لتعود فتفتحهما مجدداً ونظرت اليه لكنها لم تدركه
وأغمضتهما ثانية كأنها لا تريد أن تستفيق وترقرقت دمعتان محبوستان على
خديها.
أمسك يدها وراح يضغط عليها برفق ويقبلها، فتحت عينيها وقالت له: مات الطفل أليس
كذلك؟ هل كان صبياً أم بنتاً؟ كانت بنتاً أليس كذلك؟
وقبل أن تبدأ بالبكاء وضع يده على فمها وقال لها: ابنتك تنتظرك هيا استفيقي
لتريها وتحمليها.
- لا تكذب عليَّ ودعني أموت أنا لا أريد الحياة
دونها، سمعت الطبيب يقول للمرضات أنها ماتت.
- لا يا حبيبتي ، لا ترفضي الحياة، ابنتك في
الطابق العلوي تنتظرك صدقيني، صحيح أن ابنتنا ماتت لكن الله أرسل لنا ابنة
غيرها لتكون ابنتنا.
- ماذا تقصد؟ وفتحت عينيها لتقرأ في عينيه صدق أو
كذب ما يقول.
- حبيبتي، شعورك بموت ابنتنا صحيح، لكن أختك حسناء
وأخي أبو سامر يريداننا أن نأخذ ابنتهما التي ولدت للتو.
وصرخت بصوت مخنوق:
- مثل يارا، سآخذ ابنة أختي،دوماً كنت أفكر بأن
أطلب منها ذلك لكني لم أستطع.
- وستكون ابنتك.
حاولت أم ترفع رأسها لتقوم لكن الألم أقعدها فأعادت القول:
- اذن لدي ابنة حقاً، لدي ابنة، أصدقني الخبر.
- إنها هبة أخي وأختك وسنسميها هبة ما رأيك؟
نظرت الى الطبيب الواقف في طرف الغرفة يراقب ضغط دمها وضربات قلبها وسألته بنظرة
مستجدية؟
فأجابها بإيماءة ايجابية من رأسه.
- .............
أغمضت عينيها مجدداً وراحت في غيبوبة.
لا ينسى لحظات الرعب التي داهمته حتى طمأنه الطبيب أنها لا زالت تحت تأثير البنج
وردة فعلها معقولة حتى الآن، وطلب اليه أن يبقى بجانبها ممسكا بيدها فستحس
به دون أنا يكلمها.
-وغمرت الفرحة الجميع.. وعلت الابتسامة الوجوه بعد أيام وشهور من القلق. الأختان
تتعانقان وتبكيان والأخوان يشدّان على يدي بعضهما البعض والطبيب ينظر
إليهما.. فلا يستطيع التراجع.. كبّله الحب.. وربط لسانه.. إنسانيته لم
تستطع تمزيق لوحة الحب التي رسمتها محبّة الأسرتين.. حيرته مسؤوليتان..
إحداهما مسؤوليته أمام القانون بموافقتهما والثانية أمام الحب
بمخالفتهما... وانتصر الحب وانتصرت الأخوة.. وأحضر لهما بنفسه بيان الولادة
وبيان الوفاة، وكان الأولاد أصغر من أن يصروا على السؤال عن أخيهم أو أختهم
التي ولدت واقتنعوا سريعاً أن الأخ الذي ولد كان مريضاً فمات. وحدها الجدة
كانت دائماً تتساءل، كيف لم يستطيعوا انقاذ الولد، وما هو المرض الذي أصابه
مقتلاً.
وصارت هبة إبنة أبو هبة وأم هبة وعادا بها إلى الكويت بعد شهرين من العناية
تماثلت خلالها أم هبة الى الشفاء الكامل.
بعد أن هدأت الأمور ومضت الأيام والشهور تملّكه كابوس غريب وقلق جديد... ترى
يغيّر أخوه رأيه؟؟ هل عليه إخبار ابنته يومًا بالحقيقة.. هل سيضطر يومًا
إلى ذلك؟؟ كان كلّما رأى هبة بين ذراعي زوجته مرّ الكابوس أمامه.. لكن
ابتسامة هبة تبعده دائمًا..
كان خوفه الكبير أن تضطره الأيام لإخبارها الحقيقة.. لذلك كان يفضّل أن تكبر وهي
عارفة بالحقيقة أما زوجته فلم تقتنع أبدًا.
أخوه وزوجته كان موقفهما إيجابيًا جدًّا وساعدهما على ذلك بعد الطفلة عنهما
وأنجبا بعد ذلك سمير أخاً لسامر. ولم يحدث يومًا أن أثير الموضوع من جديد..
في كل صيف عندما تجتمع الأسر في دمشق تسير الأمور بشكل طبيعي.. حتى الجدة
لم تعرف بالموضوع قبل وفاتها.. وكثيرًا ما قالت أن هبة تشبه خالتها
كثيرًا.. لم يخبروها بالحقيقة، وقد أراد أبو هبة إخبارها عندما كانت تحتضر
فسأل أخاه رأيه فامتنع الأخير عن الإجابة قائلاً:"هذه ابنتك وأنت حر فيما
تتصرّف أنا لا دخل لي بذلك"، واختلفت الأختان يومها لأن أم هبة أصرت على
عدم البوح بالسر لأحد فربما يتسرب بشكل أو بآخر. وكان أن خلق الموقف حساسية
بين الأختين دام وقتاً طويلاً ولا زال يحمل ذيوله. غير أن الجدة توفيت قبل
أن يتخذ قراره.
حتى ظهر سامر... لم يفكّروا بهذا الموضوع أبدًا.. هل يحب سامر هبة ويتعاهدا على
الزواج.. هذا لا يمكن أن يتمّ أبدًا.. ولكن ما هي الحجة إذا صار الحب
كبيرًا وليس بالإمكان مجابهته.. الأمر محسوم يجب اقناع أم هبة بضرورة
اخبارها الحقيقة كاملة حينها تنتهي كل المشاكل. وان لم تقبل هذه المرة
أيضاً؟ سيبحث الأمر مع أخيه.. ربّما وجدا حلاً لذلك. ولكن هل سيمكنه ذلك من
خلال الهاتف؟؟ ؟؟ يجب أن يفكر بحل..
وغلبه التعب والقلق والنعاس..
طرقات إيقاعية على باب الغرفة باكرًا..
- بابا.. هيا القهوة جاهزة.
وتمطره بالقبلات والمداعبات..
- صباح الخير.. اشتقنا إلى هذه الإشراقة.. هكذا يستيقظ الناس... كم الساعة؟
- الساعة تقارب التاسعة وأنت كسول جدًّا هذا اليوم.. يبدو أنك أطلت السهر.
- أين والدتك؟ هل استيقظت؟
- منذ فترة طويلة.. نحن بانتظارك هيا.. القهوة جاهزة وأم يارا معنا لا تتأخر.
- حسنًا سألحق بك مباشرة.
ويخرج الى غرفة الجلوس حيث اللقاء اليومي لفنجان الصباح، ويلقي تحية الصباح على
يارا ووالدتها.
كانوا يحتسون القهوة ويستعمون إلى حديث هبة مستمتعين بنكاتها التي لا تغيب
وضحكاتها ومرحها الذي يزيل الهم من القلب..أم هبة وأبو هبة نسيا ما فكّرا
به الأمس.. وما قضّ مضجعهما طويلاً.. وجودها بينهما هو الأساس حديث وآخر..
نقاش وآخر.. ومضت ساعة وبعدها أخرى ولم تنته جلسة القهوة.. كلٌ مشتاق
للآخر.. مستمتع بصحبته..
نظرت أم يارا الى ساعتها وقالت:
- لقد سرقنا الوقت بصحبة هبة.. هيا يا يارا هل تذهبين معي أم تريدين البقاء
مع هبة...
- أنا آتية يا امي.ثم التفتت الى هبة قائلة:. هبة هل تأتين معي.. هناك أشياء أحب
أن أريك إيّاها
- حسنًا سأذهب، لكن لحظة
وسألت أباها: بابا هل أنت مستعد للخروج.. لقد اشتقت للخروج معك...
- إذهبي قليلاً مع يارا وسآخذ حمامي وأحلق ذقني وسأكون بانتظارك.
- حسنًا مع السلامة.. ونعيمًا مقدّمًا.
وكأن بين وجودها وذهابها دهر.. قبل مغادرتها كانت الأجواء كالعسل الكل يضحك..
الجميع يبتسم.. وما إن أغلقت وراءها الباب حتى أسرعت أم هبة إلى زوجها
قائلة:
- ماذا قررتَ. لقد خرجت، هل ستتصل بأبي سامر.. أريد أن أتكلّم مع أختي.
يتمشى في البيت وهو قلق ويقول:
- ولكن ماذا سنقول لهم..؟ هل سنخبرهم بأن هبة تحب سامر.
هذا أمر غير معقول..
هي تعرف أن كلامه هذا صحيح ولا يستطيع أن يقول هذا لأخيه. تخطر لها فكرة فتسرع
لتقول:
- ما رأيك لو تكفّلت أنت بمصاريف سامر لمتابعة دراسته وحصوله على الدكتوراه
سيسافر من جديد ولن يعود قبل سنوات ثلاثة.
- ربما هو حل لا بأس به ولكن هل يوافق أخي.. هل يوافق سامر.
يتوقف قليلاً ثم يتابع: لكن إذا كانا فعلاً متحابّين فالسفر سيزيد من هذا الحب.
يتوقف أمامها ويقول في وجهها:" رأيي يا امرأة أن نخبرها ويكفينا عذاب".
تبتعد عنه ودون أن تنظر اليه تقول:
- لا تقل هذا.. دعنا نتصل وحاول عرض الموضوع على أبو سامر وسأقنع أختي بالموافقة
على انتقال هبة إلى بيت الطالبات وهكذا تبتعد من جديد عن جوّهم.
- أخاف أن يفهمني خطأ..وأنا متأكد أن أختك ستفهمك خطأ. ستعتقد أنك ربما تفضّلين
هبة على بناتها وتريدين راحتها أو تتكبّرين، وأنك عدت لتصرفاتك السابقة
أتنسين؟
تصمت قليلاً ثم تقول:
- لا لا أعتقد.
- بل أنا أعتقد، الموضوع حسّاس يا ام هبة دعينا لا نتسرّع ونفكّر بالموضوع أكثر.
وتمسك بسماعة الهاتف الموجود على الطاولة في زاوية غرفة الجلوس وتجلس أمام
النافذة وتطلب الرقم.
وتقول له:
- حاول فقط. هيا سأجرب أنا. سأطلبهم قبل عودة هبة.
- مازالت الحيرة تأكل قلبي. هل أوافقك مرة أخرى. أم أنهي الموضوع، دائمًا كنت
أقول البتر أفضل أنواع التخلّص من الحيرة. الحل الوسط لا يفيد أبدًا. كل
حياتي استطعت تحقيق ذلك إلا في موضوع هبة كنت دائمًا أنتِ الرابحة. لكني ما
زلت أقاوم وأقول دعينا ننهي الموضوع. لتعرف هي.. وهي فقط وليس بالضرورة أن
يعرف أحد غيرها.
- تعال.. تعال.. الهاتف يرن عندهم.
- مرحبًا أم سامر كيف أحوالك؟
بدأ حديث الأختين اعتياديًا سؤال عن الصحة والأحوال واطمئنان عن الجميع وعن وصول
هبة بالسلامة.
ثم سمعها تقول لأختها:
- لا تقولي هذا يا أم سامر وأنتِ تعلمين جيدًا ما أقصد وكذلك هبة لم تشكو يوما من
ضيق المكان ولا ينقصها شيء عندكم ، كل ما تريده وأؤيدها ألا تسبب لكم أي
ضغط أو إزعاج.
وتجيبها أختها بما لم يرضيها فتعود لتقول:
- لا تقولي هذا يا أختي طبعاً هي ابنتكم وأنتم لا تسببون لها أي ازعاج. لكن لماذا
تمانعين أن تستعمل حريتها.. أرجوك يا أختي.. ستأتي كل يوم لزيارتك.. لماذا
تعتقدين أن الموضوع غير ذلك؟
وتترك الأخت الكلام لزوجها فتقول له أم هبة:
- صباح الخير يا أبو سامر كيف أحوالك؟
وتصمت قليلاً لتسمع أبو سامر يردد ما قالت أم سامر ويصر على بقائها معهم.
فترجوه قائلة: "الله يخليّك يا أبو سامر، كلّمها أنت.. لا لزوم للزعل" . هذا أبو
هبة يريد أن يكلّمك.
وتعطي الهاتف لزوجها آملة أن يتمكن من الحديث مع أخيه.
ويتحادث الأخوان طويلاً عن العمل والأحوال والشركة ويفهم أبو هبة مقدار فرحة أخيه
بعودة سامر وعظم مساعدته له.. كان يكلّمه والحيرة تنهش قلبه.. هل يحرج
أخاه.. أم يزعج ابنته.. لم يجد سبيلاً لفتح الموضوع مع أخيه.. ولكن عندما
قارب حديثهما على الانتهاء ولم يبق ما يقولانه خطرت له فكرة فقال لأخيه:
- يعني يا أبو سامر لن أستطيع إخبارك بما كنت قد فكّرت به.
- خير تفضّل.
- أنت تعرف أنني أحب سامر كثيرًا. وكنت أفكّر أن أتكلّف مصاريف رسالة الدكتوراه
التي سيقوم بها. لكن يبدو أنك متمسّك بوجوده بجانبك كثيرًا.
- لا.. لا أرجوك. لا أريدك أن تتكلم في هذا الموضوع. لن أستطيع الاستغناء عنه
أبدًا. لقد تجدّد أملي بعودته. ربما نستطيع النهوض بالشركة من جديد. إنه
أملي الوحيد ولن أتخلّى عنه أبدًا.
- كيف علاقته مع هبة؟
- ماذا تقصد؟
- لا أدري.. أسألك.. فأنت من تعيش معهم؟
- أنا لا أراهم كثيرًا.. لكن يبدو لي أنهما متفاهمان جدًا وكأنهما نشآ معًا..
ماذا تعتقد..؟؟ الآن فهمت قصدك..
- لا أدري يا أخي.. لا أريد للأمور أن تتطور بحيث تفسد كل ما بنينا.
- طبعًا لا.. ولكن لا تقترب من سامر. إفعل ما شئت واطلب مني ما تريد أما أن
أتخلّى عن سامر ليسافر من جديد. فهذا مستحيل أفهمت؟؟
- مهلاً.. رويدك.. فأنا محتار ولست أدري ما أفعل.
- إفعل ما يحلو لك.. المشكلة مشكلتك لكن سامر لا تقترب منه إنه أملي الكبير.
- حسنًا إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
وانتهى الحديث بحيرة أكبر. الأم تضرب كفًا بكف. والأب تأخذه الأفكار وتغرقه في
بحار من التيه لا قرار لها.
بعد وجوم طويل.. لمعت فكرة في رأس أم هبة...
- ما رأيك لو قلنا لها أن سامر يفكّر بخطبة إحدى الفتيات في دمشق ونرى ردّة فعلها
حينها نعرف حقيقة مشاعرها وعلاقتها به. ربّما كانت أخوية فقط. حينها لن
نضطر لإخبارها ما رأيك، اليست فكرة جيدة؟؟
- يا أم هبة، أيضًا هي مراوغة. لماذا نطيل الطريق ونسبّب لها آلامًا هي في غنى
عنها ونسبب لأنفسنا قلقًا. لنخبرها ويكون من الأمر ما يكون نحن فعلنا كل ما
يتطلّبه منا واجبنا كأب وكأم. ومن حقّها علينا أن تعرف الحقيقة.. أخاف أن
أموت وأنا أكذب عليها. كيف سأقابل ربي. ألا يكفيني عذاب ضميري بأن أمي ماتت
وهي لا تعلم الحقيقة.
- لنجرب.. صدقني.. لن يفيدها بشيء لو أخبرناها. ربما نجحت فكرتي هيا.. قم الآن
وخذ حمامك ستأتي بين لحظة وأخرى.. أخبرها عندما تخرجان لنرى كيف سيكون
ردها. أرجوك يا أبو هبة إفعل ذلك من أجلي.
حلق ذقنه وأخذ حمامه وتهندم كما تحبّه هبة أن يكون.. لكنه مثقل بالأتعاب بحيث لم
يشعر لهندامه معنى. غمامة سوداء تغشي تفكيره فتمنع عنه كل فرحة.
في الطابق العلوي،
تدخل يارا وهبة غرفة يارا
تسرع هبة لتغلق الباب وتتوجه الى يارا مستطلعة
- قولي لي أكاد أجن، أريد أن أعرف ما بك يا يارا
أنت لست طبيعية أبداً، هذه ليست يارا التي أعرف.
- ليس الآن يا هبة قصتي طويلة ويجب أن أحكيها لك
كلها حتى تساعديني على أخذ القرار، أنا على أحر من الجمر ولكن ليس هنا وليس
الآن.
- لقد وعدت بابا بالذهاب معه، ولا أستطيع الاعتذار
الآن، فقط أعطيني اشارة ما هو الموضوع؟ يخص خالد بالتأكيد.
- نعم يخص خالد لكني لست متأكدة لا من مشاعري نحوه
ولا من رأيي به وبأخلاقه، ما أعرفه فقط أنني أحببته بجنون وأكرهه لذلك.
وتصرخ في وجهها: ماذا؟؟؟ فتهدئها واضعة يدها على فمها لتخفض صوتها. فتهمس بقسوة:
- ماذا لماذا تكرهينه؟
وتطرق أم يارا الباب وتدخل قائلة:
- هبة أريد أن أشتكي يارا لك.
وتفتح الفتاتان عينيهما بقلق مفاجىء وتنظر يارا الى هبة بخوف.
بعد برهة من الصمت، تتشجع هبة وتقول:
- ماذا هناك يا خالتي، يارا تعذبك؟؟
- نعم تعذبني في أكلها كثيراً ألم تلاحظي كم من
الوزن قد خسرت في الفترة الأخيرة، انها لا تأكل جيداً.
- ما هذا الذي أسمعه يا يارا، لقد لاحظت ذلك ولكني
لم أعتقد أن الموضوع جدي.
وتسرع يارا لتحضن والدتها وكأنها تريد اسكاتها وتقول:
يا ماما لا تشغلي هبة بهذه القضية أيضا،ً هي هنا لفترة قصيرة ولن نشغلها بنا ثم
إنني وعدتك أليس كذلك، ألم آكل جيداً البارحة واليوم.
- طبعاً أكلتِ بوجود هبة، وربما تعودين الى عادتك
بعد ذهابها.
- اذن دعي هبة هنا ولا تدعيها تسافر.
تضحك أم يارا وتقول:
- هذا حل جيد يناسبني وأظنه يناسب أم هبة سأقول
لها.
وتسأل هبة جارتها وأم صديقتها:
- طمئننيني على أمي يا خالتي، هل تتضايق كثيراً في
غيابي؟ أعرف أنكم لا تتركونها، كيف تأقلمت مع الوضع.
- تريدينني أن أصدقك الخبر، هي تشتاق اليك كثيراً
وليست لها سيرة إلا الحديث عنك، وأحس بدموعها التي تحاول اخفاءها كلما جاءت
سيرتك وكم قلت لها اذهبي وابقي معها هناك، لكنها دائماً لا تحب التحدث بهذا
الموضوع وتغير الحديث باستمرار، ولم استطع أن أفهم لماذا؟
- وأنا أيضاً، لكنها وعدتني أنهم وبعد سنتين
سيتقاعد بابا ويلحقوا بي.
- ان شاء الله
- هي لا تستطيع الابتعاد عن أبي أنا أعرف ذلك.
ويرن جرس الهاتف فتسرع الأم للاجابة.
تعود هبة لتهمس في اذن صديقتها: لقد قلبت كياني كيف سأستطيع الانتظار حتى نلتقي
بعد الظهر؟
وتجيبها يارا هامسة: أنا بانتظارك وسنتحدث.
تعود أم يارا لتخبر هبة أن أباها جاهز وهو بانتظارها.
قبل سفرها كانت هبة تحب الطواف في المجمّعات التجارية لتلقي نظرة على الألبسة
المعروضة وتستمتع بالمقارنة وبعد عدّة جولات تنتقي ما أعجبها لتشتريه. كانت
تسير وكأنّها تقفز. فرحة وهي تتأبّط ذراع والدها وفي كل مرّة تخرج معه تقول
له: سيقول الناس مسكينة هذه الصبيّة متزوّجة من عجوز في عمر والده..
لذلك اصطحبها إلى أحد المجمّعات الجديدة
لكنه اليوم لا يبتسم لنكاتها. ولا يضحك لتحرّشاتها به وتعليقاتها وكأنه يحس أن
نكاتها مفتعلة وتعليقاتها دون شهية.
- ماذا هنالك يا أبي. أنت غير طبيعي. لم أعهدك مهمومًا. ما الأمر أخبرني ألست
ابنتك حبيبتك التي لا تخفي عنها شيئًا.
- تعالي لنأخذ فنجان قهوة في المطعم.
جلسا في مقهى على كرسيين متقابلين ونظر الى عينيها
هي تنتظر حديثه وهو ينتظر شجاعته. يدعو قوته ليتمالك أنفاسه فيخبر ابنته
بالحقيقة ويريح ضميره. لكنه متردّد، تتقاذفه الأفكار وتتلاعب به التوقّعات.
ولكن لا مفر، السرّ لا يمكن أن يبقى سرًا ستكشفه يومًا ما. ربما يكون ذلك
عاجلاً أم آجلاً. ربما بعد موته، فلما لا يقوله لها هو ولتفعل ما تشاء. على
الأقل يتحمّل هو غضبها وثورتها وزعلها إذا كان سيحدث. لكن لن يتحمّل أن
تحسّ بذلك بعد موته وتأسف على أي شيء. ويهم أن يبدأ بالحديث لكنه يتذكر
موقف زوجته واصرارها ويفكر فيما يمكن أن تكون النتائج على صحتها. فلينتظر
قليلاً.
- أبي ، ما بك يا أبي، ما هو الموضوع الخطير الذي
يشغلك هكذا؟ هل هي مشاكل في العمل؟؟
استدرك وأجابها
- ما يشغلني هو أنت يا هبة أصدقيني القول كيف هي
أحوالك هناك؟ كيف تدبرين أمورك مع أولاد عمك؟ أحس أن هناك أمر ما غير
طبيعي، طمئني قلبي وتحدثي الي بصدق.
- بابا ، أنت تعرف أنني كنت ألجأ اليك في كل
مشاكلي لكني أكبر الآن، وأنت لست أبي .
- ماذا؟؟؟
- لست أبي فقط بل صديقي ورفيقي يا بابا، وعلي أن
أتدبر أموري بمفردي أليس كذلك؟ ما بك؟ لماذا ارتعدت هكذا؟
- لا، لا شيء ولكن ماذا تعنين بذلك؟
- أعني أنني لن أكذب عليك وأقول لك أن أموري جيدة
مئة بالمئة ولكني أريد أن أعتمد على نفسي في حلها هي أمور صغيرة وتافهة ولا
تستحق العناء. تأكد أنني حين سأكون في مشكلة كبيرة سألجأ اليك.
كيف يغالطها وهو الذي علمها الاعتماد على النفس والثقة بما تفكر. كيف سيقنعها بأن
تحكي له صغائر الأمور ليفهم ما يجري؟
قالت له: " لكنك لست طبيعياً فكما أنت تعرفني جيداً أنا أيضاً أعرفك، أخبرني ما
الأمر؟ فقط أرجو ألا يكون مرضاً خطيراً لأحدكما قل لي بصراحة"
لم ينتبه أن عليه أن يخترع كذبة مقنعة بشكل سريع هكذا فقال لها:
- لا تغيري الحديث وتكوني كذلك التلميذ الذي تفوق
على استاذه وأخبريني أنت، أفهم أنك تعتبرين المشاكل مع أولاد عمك بسيطة
وتافهة وتريدين حلها بنفسك، أخبريني اذن عن الجامعة، دروسك محاضراتك وأوقات
دوامك.
- حسناً سأخبرك بكل التفاصيل.
وراحت تخبره بالتفصيل الممل عن كل التفاصيل في حياتها الجامعية. شربا العصير ومن
ثم البابونج ولم تنتهي القصص وهو يريدها أن تصل الى سامر لكنها لم تذكر سوى
رفقتهما في الطريق الى الجامعة.
أراد أن يقتحم الموضوع فقال لها:
- والشباب كيف أحوالهم في الجامعة ، ألم يلاحظ
أحدهم الجمال المتمثل في وجه ابنتي وعقلها ويقترب منه؟
- بابا، لا تخجلني أنت تراني جميلة ولكني مجرد
فتاة عادية ، ثم أن هذا الموضوع يبدو لي بعيد المدى لا زال الوقت مبكراً
للتفكير بهذه الأمور، دعني أعيش حياتي الجامعية بهدوء.
- وسامر ألا يحذرك من الشباب في الجامعة؟ ألا يغار
عليك؟
- سامر شاب متفهم وكلامه موزون دائماً، لم يزعجني
بكلمة لأنه يعرف تماماً حسن تصرفي مع الشباب فأنا أحكي له كل شيء وأسأله عن
كل ما أريد معرفته.
- تعنين كأخ كبير لك.
- أعتقد ذلك، ما يفاجئني أنكم جميعاً تصرون على
هذه الكلمة مثل أخ لك، ما الفرق بين كونه ابن عمي وأخي، لماذا تستعملون
جميعاً هذه الكلمة؟
- ومن يستعملها أيضاً؟
- خالتي حسناء ترددها علي دائماً وأحياناً عمي أبو
سامر وها أنت تفعل الشيء نفسه. هل نسيتم أنه لا أخوة لي ولا أعرف كيف يكون
الأخ، لذلك أعتقد أن تعامله معي هو كما يعامل أخواته لكن كلمة أخ تقلقني.
- لماذا يا هبة؟ ماذا جرى لماذا استأت بهذا الشكل
من هذه الكلمة، كلمة طبيعية للتعبير عن وضعك مع سامر.
- لا يا بابا أعتذر أحس بها أكثر من طبيعية، أعتذر
عن غضبي لكن أرجوك لا تستعمل الكلمة مرة أخرى، كنت أتمنى أن يكون لي أخ مثل
سامر، لكن بسيطة ليس لي أخ ولا أخت لا بأس.
وضعت يديها على وجهها وغالبت دمعة اختنقت في حلقها. نظرت الى عيني والدها
الحنونتين وقالت:
- أعتذر مرة أخرى ولنغير الموضوع ولنعود الى
الموضوع الذي يجب أن تحدثني عنه أنت.
أمسك بيدها وشد عليها وقال:
- لقد تأخر الوقت والأيام الكثيرة قادمة أليس كذلك
سنتحدث في يوم آخر، ستفتقدنا والدتك الآن فهي بانتظارنا على الغداء.
- حسنا حسنا، هل غضبت مني؟
- كيف أغضب منك وأنت حياتي يا هبة حياتي.
- نعم نعم، أسمعني هذه الكلمات الحلوة التي
أفتقدها. ذكرني بدلالي في قلبك. وراحت تلحن كلماتها (أنا موافقة على تأجيل
الموضوع للجلسة القادمة يا سيدي، رُفِعت الجلسة)
- آه... لنلحق بأمك قبل أن تقلق وتأكلها الغيرة.
تمسك بيده وتتضحك وتقول:
- نعم هيا لنسرع.
ساد الوجوم أثناء الغداء، كل مُلتهٍ بهمِهِِ الذي يملأ حواسه.
أم هبة تفكر ما عسى أن يكون الحديث الذي دار بينهما.
أبو هبة يفكر بما قالت ابنته وتعليقها الغاضب على أخوتها لسامر فهل هذا يعني
شيئاً؟
أما هبة فقد نسيت مشكلة أباها لأن تفكيرها متجه الى يارا، صديقة عمرها ترى ماذا
يقلقها وما هو السبب الذي جعلها تكره خالد لأجله؟ هل أخطأ اليها؟ وما هو
الخطأ الذي يمكن أن يرتكبه معها؟؟؟
بعد الغداء استأذنت أهلها للذهاب الى يارا وأخبرتهما بعزمهما على الذهاب الى
البحر.
لم تعترض الأم مطلقاً لأنها كانت تريد أن تفهم بالتفصيل كل ما دار بينهما من
حديث.
اعتادت الفتاتان اللعب كثيراً على شاطىء البحر حيث كانتا تذهبان مع والدتيهما
باستمرار وتقضيان أوقاتاً طويلة هناك دون ملل ولا كلل. فقط في السنة
الماضية بدأ الأهل بالسماح لهما بالذهاب بمفردهما الى الشاطىء ولكن ليس الى
ما بعد غروب الشمس.
توجهتا الى الشاطىء، تتمشيان صامتتين، يارا لا تدري من أين ستبدأ وهبة تنتظر.
جلستا على المقعد الخشبي المواجه للبحر تنظران الى الأفق الواسع حتى كسرت هبة
حاجز الصمت وقالت بصوت يكاد يسمعه كل من يجلس بجوارهم:
- اذن هل ستخبريني بما حدث بالتفصيل أم لا؟ أكاد
أجن. هيا ابدئي .
- - اهدئي وأخفضي صوتك.
- - هيا أنت تستفزينني .
- - ماذا أخبرك يا هبة ومن أين أبدأ؟
- - ابدئي من حيث تشائين، المهم أن أعرف قبل كل
شيء ما هو السبب الذي جعلك تكرهين خالد الذي كان خالد الحنون الرقيق؟
أزاحت عينيها حتى لا تتواجهان وقالت:
- - لقد تركني.
هبت هبة من مكانها وقالت:
- لماذا؟
- هل تريدين الخلاصة أم بالتفصيل؟
بحلقت هبة عينيها وراحت تنظر الى يارا مستفهمة
- وهناك تفاصيل؟ بالتأكيد أريد التفاصيل.
جلست مجددا" على المقعد وقالت:
- لقد وقعتِ قلبي يا يارا، أرجوك أخبريني بما حدث وكفى استهتاراً بقلقي.
- حسناً حسناً. كما تعلمين بدأت علاقتنا بالاعجاب المتبادل.
فقاطعتها هبة قائلة:
- أعرف بداية القصة عن ظهر قلب وتقابلت عيونكما في الشارع ومن ثم عرفت أين يسكن
في البناية المقابلة ثم رأيته في الجامعة ودعاك الى الكافتيريا ولم تقبلي
في المرة الأولى الى آخره. أريد النتيجة.
- على رسلك يا هبة، ما حصل جرحني كثيراً وأنا لا أستطيع التفكير به. ثم هل تريدين
النتيجة أم التفصيل؟
- حسناً تابعي.
- بعد أن تعمقت علاقتنا وبدنا نتعارف بشكل جدي وقبلت أن أجلس معه في الكافيتيريا
لنتحدث. كنا نقضي أوقاتاً ممتعة معاً وأعطيته رقم هاتفي المحمول وراح
يحدثني كل ليلة، وبدأت أشعر بجدية ارتباطنا. حتى طلب مني أن يحضر للقاء
أهلي أولاً ومن ثم يحضر أهله لخطبتي.
قفزت هبة في مكانها بفرح
- طبعاً رحبت كثيراً بالفكرة
- طبعاً رحبتُ بالفكرة.
جلست بمواجهتها لتحدثها وهي تنظر اليها وتابعت: "ولكني أحسست أنه من واجبي أن
أطلعه على حقيقة أمري مع أهلي الحقيقيين وأم يارا وأبو يارا. رحت أفكر في
الطريقة التي يجب أن أصارحه بالأمر ومن جهة أخرى كيف أصارح أهلي بالموضوع.
وهنا احترت كثيراً."
- كالعادة وأحسست بالضيق وأن هذا الموضوع يقلل من شأنك ويجعلك مختلفة عن الآخرين.
- هبة أليست هي الحقيقة وها هو يؤكدها لي. منذ أن أخبرته بالحقيقة وهو يعاملني
بشكل مختلف.
- لماذا؟ من يعتقد نفسه وكيف يفكر؟
- في البداية فوجيء الى درجة الذهول واعتقد أنني أمزح.
وقفت هبة وابتعدت قليلاً قائلة:
- تمزحين؟؟
- ثم أتدرين ماذا سألني؟ قال لي هل هذه هي الحقيقة بالتأكيد أم هي ما أخبرك به
أهلك.
وتعود وهي تقول متهكمة:
- وبمَ أجبته حضرتكِ؟
- رحت أؤكد له أن هذه هي الحقيقة وأنني على علاقة جيدة بأمي وأبي الحقيقيين،
وأخذت له صور الجميع وحكيت له عن كل شيء لكن الموضوع ضايقه جداً وراح
يعاملني ببرود مفتعل وكدت أجن.
- - ولماذا تجنّين، فهو ليس بأول ولا آخر شاب في
هذا الكون.
- أنا أحبه يا هبة وهو الانسان الأول الذي أشعرني بأنوثتي وأحبني لشخصي في
البداية.
- وبعد هذا ألم تقاطعينه؟
- بل زدت تعلقاً به ورحت أتعقبه أينما ذهب وحاولت الاتصال به لكنه لم يرد على
اتصالي.
تغير مكان جلوسها لتبعد أشعة الشمس الساطعة في عينها وتقترب من يارا أكثر
- و؟ ماذا حدث؟
- صرت أنتظره في الكافيتيريا ولا أذهب الى محاضراتي. ولا أكتفي بالنظر اليه بل
أحاول الحديث معه وهو يتهرب مني.
تهم هبة بأن تقول شيئاً لكنها تتراجع وتضع يدها على فمها وتؤشر لها بيدها لتكمل
الحديث
- أردت فقط أن أفهم وجهة نظره. ما الذي يجعلني مختلفة إن حرم الله أمي أقصد خالتي
من الانجاب وربتني؟
- وهل قلت له أنك تريدين الحديث معه فقط؟
- لم يسمح لي بالاقتراب منه وكرامتي لم تسمح لي بفرض نفسي عليه أو بطلب المعونة
من صديقتنا المشتركة منى أو ارسال رسالة تلفونية تبقى لديه كدليل على تقربي
منه.
وضعت يارا يديها على رأسها وخفضته لتداري دموعها.
احتضنتها هبة وقد نفذ صبرها :
- وبعد؟
- - غضبي ليس فقط منه ومن ردة فعله. ماذا اذا كان
ما يقول هو الحقيقة؟
- - يا الله جعلك تشكين بنفسك وأهلك يا يارا؟
- - لقد جعل الأفكار القديمة تعود الى رأسي، لماذا
تركوني، لو كانو فعلا يحببونني كيف لهم أن يتخلوا عني حتى بمحبة كبيرة.
ماذا لو كنت كما قال وأن ما يقولون هو كذبة كبيرة. قال فكرة اقتنعت بها وهي
أن من يتبنى يكون بسبب وضع سيء للولد كأن يكون يتيم الأبوين أما أن يكونا
على قيد الحياة فهذا غير مقنع.
- - يارا!! ارجوك عودي لرشدك، تذكري كم تكلمنا
وناقشنا هذا الموضوع معا.
مسحت يارا دموعها محاولة أن تهدىء نفسها.
- - لا أستطيع التغلب على شكي في ساعات غضبي
وحزني، أحس بالغضب منهم لأنهم وضعوني في هذا الموقف وأخاف أن يكرهوني اذا
علموا بذلك. كنت فقط بحاجة ماسة الى حبه.
ساعدتها هبة في مسح دموعها وقالت:
- - مجنونة أنت، وليذهب الى الجحيم. لا يستحق حتى
هذه الدموع التي تذرفينها يا حبيبتي. لن يكرهوك لأي سبب من الاسباب. أما
خالد فهو انسان جاهل.
- - لا تقولي عنه هكذا الكلام جزافاً.
- - يبدو أنك التي ستجنني. لا زلت تدافعين عنه؟
- - من يحب يسامح يا هبة.
- - لا أصدق أذني، هذه يارا تتحدث. أنا لا أصدق.
- - انتظري حتى تحبي وستصدقين مشاعري.
- - يارا، وماذا بعد؟؟ أخبريني وماذا بعد؟
- - لا أدري كل ما أعرف أنني أحبه ومستعدة أن
أسامحه من كل قلبي اذا عادت لهفته وحبه كالسابق.
- - وإلا فما العمل؟
- - هل أخبرتك حتى تزيدي همي أم لتساعديني؟
- - حبيبتي أنا هنا بجانبك ولكن بالتأكيد خالد ليس
الى جانبنا.
- - لكنه حبي الأول، هل تنسين كم تحدثنا عن الحب
الأول، وها أنت بدأت تشعرينه ألا تحسين بأي مما قلت لك؟؟
- - لا يا حبيبتي، أنا ما زلت في أول الطريق وما
من قوة تجعلني ألحق بأي كان وأكون مستعدة لمسايرته مقابل حبه لي ولهفته
للقائي. ثم أن كل من حولي يصر على أنه أخي.
انتصبت هبة وراحت تتمشى.
مسحت يارا وجهها ونظرت الى هبة مستغربة ومن ثم لحقتها مبتسمة وقالت:
- - أخوك؟ لماذا؟
- - الجميع مصر على تذكيري أنه مثل أخي كلما
ذكرته. حتى أنني كدت أزعل من بابا اليوم لأنه يقول مثلما يقولون.
- - أتدرين اعتقدت أنهم سيفرحون لعلاقتك معه.
- - وأنا كذلك لكني لا أفهم السر. ثم أنا ليس لي
أخ فكيف يتوقعون أنني أعرف إن كان ما أحس به هو الأخوة أو الحب؟
- الحب يا هبة لا يخفي نفسه، لا أستطيع وصفه لكنه
يهجم الى قلبك دون استئذان ويقلب كيانك.
- آه !! اذن لم يهجم بعد الى قلبي هو يطرق الباب
فقط.
توقفت هبة ونظرت الى يارا وقالت:
- أرأيت حتى أنت أنقذتك سيرة سامر. هيا هوني عليك
ودعي الأمور تسير بهدوء وركزي على دراستك وسيقدم الله لك كل ما هو في
صالحك.
- كنت بحاجة للحديث اليك يا هبة، كدت أختنق بفردي. أتدرين بعدك عني هو الذي جعلني
أتعلق به.
- يا حبيبتي ما هذا النفاق تريدين أن تحمليني هذا الخطأ وحدي. ورفعت يدها كأنها
تريد أن تضربها ، فردت يارا يدها وأمسكتها. ضحكتا معاً وراحتا تمشيان جنباً
الى جنب وكأنهما فراشتان خرجتا لتوهما من الشرنقة.
قالت هبة: ما رأيك أن نمشي قليلاً على الرمل؟
- أمك لن يعجبها ذلك. هل تذكرين كيف كانت تمنعنا خوفا من أن تبرد أقدامنا. لكن
هيا اذا كنت ترغبين.
- هيا سنرمي همومنا هناك.
- خلعتا أحذيتهما وراحتا تتمشيان على الرمال،
تلتقطان بعض الحصى وترميانه بعيداً كما كانتا تفعلان دائماً.
قالت يارا:
- أخبرتك أنا عن مشكلتي أخبريني أنت عن مشاكلك.
- سأخبرك، عن كل شيء عن سوسن وعن سمير كلاهما يغاران مني كثيراً وأنا ضعيفة جداً
أمام طلباتهم وأعطيهم كل ما أملك. لكن اتركي هذه التفاصيل ليوم آخر لأنني
اليوم صادفت مشكلة أكبر لا أعرف ان كانت حقيقة أو من نسج خيالي.
- قد تكون، فخيالك واسع كما أعرف. أجابت يارا ضاحكة.
- لا تسخري من كلامي، لم أرتح أبداً لوضع بابا. أحسست هماً كبيراً يثقل كاهله،
أراد أن يخبرني به لكنه تردد وأجلّ الحديث.
- همّ وما هو يا ترى؟
- سألته ان كان يتعلق بالعمل أو بصحة ماما لكنه غيّر الموضوع وأنا أعرفه عندما لا
يكون مستعداً للكلام يتهرب بشتى الطرق. تركته اليوم ربما يخبرني بنفسه
غداً.
- أرجو أن يكون من نسج خيالك فأنا لم ألاحظ شيئاً أثناء غيابك، صحة أمك هي
كالعادة ولا جديد فيها صدقيني.
- أرجو ذلك، هيا لنعود الآن قبل أن نتأخر عليهم.
- أشكرك يا هبة، لقد ارتحت كثيراً بعد أن أخبرتك.
توقفت هبة بمواجهة يارا ووضعت يديها على كتفيها وقالت:
- يارا، أتعرفين لا أريد أن ندعو بعضنا أختين من الآن فصاعداً.
- ماذا تقولين؟ لماذا؟
- أريد أن نكون صديقتين مخلصتين، يبدو أن الأخوات لسن متفاهمات الى الحد الذي نحن
به، قبل ذهابي الى دمشق اعتقدت أنني سأجد في بنات عمي أخوات أرتاح اليهن،
لكني وجدت الأخوات تتناحرن وتشاجرن وتغرن من بعضهن البعض.
- حسناً يا صديقتي العزيزة مع أنني كنت أعتز بلقب أختي، لكن للمرة الثانية خلال
يومين أحس أنه علي أن أوافقك الرأي يا حضرة المحامية.
وعادتا ترفلان مسرورتان، تمشيان وكأنهما تطيران، حرارة محبتهما أدفأت قلبيهما
اليافعين مكتفيتان بمودة إحداهما للأخرى. وقبل أن تجتازا الشارع المؤدي الى
البيت، تمسك يارا بيد هبة وتشدها بقوة وتقترب منها وتهمس:
- خالد، خالد هناك يركب السيارة مع والدته.
شدتها هبة وتابعت السير مستقيمة وكأن شيئا لم يكن قائلة: "تجاهليه يا مجنونة."
- نعم، نعم سأفعل.
- هذه أمه؟؟ أظن أن أمي تعرفها.
- أعتقد ذلك.
وتابعتا المسير حتى مدخل العمارة.
بعد أن أغلقت وراءها الباب الحديدي أمسكت هبة يارا من كتفيها وقالت:
- ماذا جرى لك؟
- هذا ما يحدث لي عندما أراه، أضطرب وأخجل وأذوب.
- كما يقول غوار (يضرب الحب شو بيذل).
ضحكتا وصعدتا الى البيت.
في البيت كان الأصحاب بالانتظار، وجودهم يجبر الجميع على نسيان المشاكل الخاصة
والانغماس في الأحاديث المشتركة من أوضاع عامة وسياسية.
ويعود الليل ليرخي ذيوله السوداء على المكتئبين، فتزيدهم اكتئاباً.
دخل أبو هبة وأم هبة الى غرفتهما وكلاهما متجهم الوجه. قال لزوجته:
- كم أحزن أننا لا نستطيع الاستمتاع بوجود هبة
بيننا.
- هي تلك الفكرة اللعينة التي نسفت فرحتنا.
- لا يا حبيبتي هو قلقنا الدائم من هذه النقطة
دعينا نعالجها وننتهي فمهما كان رد الفعل سينتهي وتنهي معاناتنا ونعيش
بسلام.
- لو كنت متأكدة أننا سنعيش بسلام لأخبرتها منذ
زمن بعيد، لكن الخوف يقض مضجعي.
- أريد أن أنام الآن أنا تعب جداً وليلهمني الله
على القرار الحكيم.
- تصبح على خير.
- وأنت من أهله.
ولكثرة التعب والارهاق يغطان في نوم عميق.
يبدأ اليوم التالي باشراقة تضيفها ابتسامات هبة ومداعباتها.
وتذهب كما هي العادة لتلقي تحية الصباح على يارا وتتمنى لها يوما" جميلا".
لا تنسى الأم أن تعيد على الأب كلام البارحة في غياب هبة، يطمئنها ولكنه يشعر بأن
قرار البوح قد آن أوانه.
تعود هبة وتجهز نفسها للخروج مع والدها.
ويذهبان معاً، يتمشيان صامتين. يدخلان محلا" اعتادا شراء القمصان منه.
لم يتوجه معها الى المنصة التي عرضت عليها البضاعة بل وقف بعيداً ينظر اليها
وعيناه لا تشبعان.
أعطت والدها قميصاً أعجبها لونه الأزرق ليرى قياسه ولونه. لم يخفَ عليها شروده
وأكد لها صمته أن في الأمر مسألة جدية عليها أن تحاول معرفتها.
اشتريا القميص وتوجها للجلوس في المقهى، وقبل جلوسهما رن هاتف هبة المحمول.
- يارا؟ ماذا تريد يا ترى؟
وتعتذر من أبيها وتبتعد قليلاً لترد على مكالمتها.
- شو يارا ما الأمر؟
- هبة، هبة أرجوك هل باستطاعتك القدوم الى
الجامعة؟
- لماذا؟ ماذا جرى؟ صوتك يرتجف، هل هي فرحة أم
خوف؟
- هبة لن تصدقي، طلب خالد مني أن نلتقي في الساعة
الحادية عشرة، قال أنه يريد أن يتحدث الي بأمر مهم.
- صحيح؟ وكيف كان حديثه؟
- كان طبيعياً جداً. هبة هل تعتقدين أنه غير رأيه؟
أرجوك لن أتمكن من الانتظار بمفردي.ليس لدي الآن محاضرة وأكاد أفقد أعصابي.
هل بامكانك القدوم؟
- سأحاول، كنت أود الجلوس مع بابا. لم يعجبني حاله
اليوم أيضاً.
- أرجوك هبة.
- حسناً حسناً سأتصل بك عند وصولي الى الجامعة.
تغلق الهاتف وتعود الى والدها وعلى شفتيها ابتسامة عريضة تحرض شفتي والدها لتنشقا
عن ابتسامة خجولة فيقول لها:
- أخبار حلوة؟ وجهك ينبىء بأخبار حلوة.
- ليت الأخبار حولنا كلها حلوة.
- هل يمكنك أن تخبريني؟ ما الأمر؟
تقترب من أذنه وتهمس:
- أخبرك اذا وعدتني أن تخبرني ما بك؟؟ ما الذي
يشغل بالك؟
فيقلدها مقترباً من أذنها
- يا حبيبتي، أنت صديقتي وابنتي سأخبرك، أقسم أنني
سأخبرك
ثم ينتصب ويقول بصوت عالٍ: فرحينا الآن.
- ربما لن أستطيع أن أخبرك التفاصيل لكن يارا حلت
مشكلة كبيرة كانت تقلقها وتريدني أن أكون الى جانبها. هل يمكن أن تأخذني
الى جامعتها؟
- طبعاً حبيبتي لنذهب، هيا.
- لو أنني لا أدرك مدى حاجة يارا إلي لما تركتك.
أريد أن أعرف ما بك.
- هي أختك اليست كذلك؟
- بحسب المثل القائل: هي أختي التي لم تلدها أمي
لكن في حالتنا نستطيع أن نقول هي أختي التي لم تلدها أمي وأمها.
لم يجبها فهو لا يريد أن يدخل في أي سجال فيه أمها ويتساءل هل جاء الهاتف ليبعد
المصارحة ثانية؟ هل يرتاح لذلك أم أن القلق سيكبر بطول الانتظار؟
- وصلنا، هل أنتظرك؟ أم أعود بعد ساعة؟
- ربما سأعود مع يارا بعد انتهائها. أو ربما كلا،
طبعا كلا، لديها محاضرة ثانية. هل أزعجك كثيراً اذا طلبت منك أن تأتي الي
بعد ساعة؟ قد نكمل جولتنا ما زال الوقت باكراً.
- أبداً حبيبتي سأذهب لرؤية أبي خليل محله هنا
بقرب بوابة الجامعة وعندما تجهزين اتصلي بي.
أرسلت له قبلة في الهواء ونزلت من السيارة.
وجدت هبة يارا جالسة بكل جدية في الكافتيريا تشرب فنجان شاي. اقتربت منها ووضعت
حقيبة يدها بقوة على الطاولة المستديرة الصغيرة وجلست قائلة:
- من يسمع صوتك عندما كلمتني يعتقد أنك تدورين في حديقة الجامعة وتقفزين وترقصين.
- هبة، أنا لا أصدق. اجلسي ولا تسلطي عليّ لسانك. هبة أنا في غاية الفرح.
- هل أنت متأكدة أنك يجب أن تفرحي؟ ما الذي يجعلك تعتقدين ذلك؟
- كنت واقفة على الباب قبل بدء المحاضرة حين رأيته يبحث عني.
تحمست هبة وراحت تفرك يديها
- جيد وبعد؟
- اقترب مني وقال: تنتهي محاضرتي في الساعة
الحادية عشرة هل بامكاني رؤيتك في الكافتيريا؟ لدي ما أقوله لك.
- ووافقت طبعا بكل سذاجة.
- ولماذا لا أوافق؟ يا رب يا رب أن يكون ما سيقوله
كما أحب. رافعة يديها باتجاه السماء.
- يا ابنتي أو يا أختي لا لا يا صديقتي الحبيبة،
لا بد أن الحب مجنون وكذلك المحبون. الحمدلله لا أشعر بكل ما تحسين
وتفعلين. ما الذي دعاك للتفكير الايجابي؟
- نظرته يا هبة، رقة كلماته والطريقة التي يتحدث
بها.
- الله،، يا عيني على الغرام. استيقظي يا ابنتي.
لن أدعك تقابلينه.
- ماذا؟
- ما هذا تبدين متهالكة. تماسكي.
- ولو يا هبة ألا تعرفينني؟ أنا فقط أبوح لك
بحنايا قلبي أما امامه فأنا جدية أكثر من اللزوم. لا تقلقي. من يسمعك
تتحدثين معي هكذا يعتقد أنك أكبر مني بكذا سنة.
- ها حسبت أنك ستنهارين. احذري ربما كان سيعتذر
عما بدر منه فقط.
- أعرف ولكني حقيقة أتمنى أن يكون قد تفهم وضعي
ولا يمانع من ارتباطنا.
- انشاءالله.
صمتت هبة برهة ثم قالت:
- يارا اطمأننت عليك وحدثتني بكل ما تريدين. أنا
قلقة على بابا أريد أن أعرف سره وهو ينتظرني في مكان قريب. ما رأيك أن
أتركك لمصيرك وألحق به؟
- حسنا اتركيني الى مصيري. آه يا هبة لو كنتِ هنا
باستمرار لما أصِبتُ بأي حالة احباط. أرجو أن تطمئني على والدك وأن يكون
الأمر من محض خيالك.
جلست بقربه في السيارة وعلامات متباينة على وجهها تتالى. كيف ستسأله عما به؟ كيف
ستستفهم منه ما يضايقه؟ ليته كان مثل يارا، تفرغ ما في قلبها بسرعة.
يارا، كم أتمنى أن تتسوى الأمور بينها وبين خالد. أم تراه سيعتذر منها فقط؟
لم يتحدثا حتى وصلا الى مجمّع زهرة. قبل أن ينزل من السيارة قال لها:
- لم تنبسي ببنت شفة، هل تريدين أن نعود الى
البيت؟
- هل تتهرب مني أنت؟ كلا أريد أن نجلس معا ونتحدث.
يجلسان في مقهى ويطلبان فنجاني شاي. ويقول:
- ماذا؟ هل حلت يارا مشاكلها.
- أرجو ذلك سنعرف لاحقا. سأخبرك بكل شيء لكن الآن أريد أن أسمع لقد وعدتني.
استوى في جلسته ورشف رشفة من فنجانه ونظر اليها بكل حنان وهو يستجمع قواه ويؤكد
لنفسه: هو زمان البوح.
- هيا لا تستفزني مثل يارا.
- هبة، موضوع لا أدري إن كان خطيرًا. أو بسيطًا. لا أدري إذا كان سيصدمك. أم
ستتقبلّينه. كوني قوية وافهمي جيدًا ما أريد أن أقوله لك . ولست بحاجة لأن
أذكّرك بمدى محبّتي ومحبّة أمك لك أليس كذلك؟
- ماذا في الأمر؟ أهو عريس؟؟
- الأمر جدّي يا هبة ولا مكان للمزاح.
- أهو مرض.. مرض خطير.. تكلّم بسرعة.
- ليته كان كذلك فربّما كان بالإمكان العلاج والشفاء..
- ماذا هناك.. أرجوك يا أبي تكلّم.. لقد أوقعت قلبي. منذ البارحة وأنا أتحرق
لمعرفة ما بك.
- هبة.. أوه لا أستطيع.
صمتت.. لجم الخوف فمها.. شخصت عيناها على شفاهه بانتظار الحروف تخرج لتحل لغزًا..
مدّت أصابعها إلى فنجان الشاي الساخن واحتضنته ولم تشعر بسخونته. وهو، يبحث
عن الكلمات، عن الشجاعة، فقد اتخذ القرار وعليه التنفيذ.
- هبة سأحكي لك الحكاية بالتفصيل لو طلبت مني ذلك. لأنها حكاية طويلة. تبدأ
بزواجنا أنا ووالدتك. وأتمنّى أن تنتهي اليوم.
منذ أن تقدّمت لخطبة والدتك حذّرني الأقرباء بأنها قد لا تنجب أطفالاً لمرض ألمّ
بها وهي في سنّ البلوغ. ولكن تمّ علاجها. حبي لها كان كبيرًا ولم أستطع
التخلّي عنها وتزوّجنا.. ومضى على زواجنا سنوات ثلاثة دون أن تحمل.. وعندما
حملت فقدت جنينها الأول والثاني والثالث فقدته في الشهر السادس نتيجة
مضاعفات صحية. وكان العلاج يرافق سنوات زواجنا وأخيرًا حملت ولكن حملها لم
يتم على ما يرام وصادف حملها حمل أختها أم سامر.. وولدتا في الأسبوع ذاته.
ولكن.
عيونها تتابع كلماته وتقول متلهّفة هيا هيا لكن ماذا؟؟ أما شفتاها فكانتا قطعاً
ثلجية لا حول لها ولا قوة..
- أجرى الطبيب العملية القيصرية وأخرج الجنين. واضطر لاستئصال الرحم.
هذا الجنين لم يكن أنتِ. بل كان طفلة ميتة. هذا الأمر لا يعرفه أحد يا هبة سوى
أنا وأمك وخالتك أم سامر وأبو سامر.
الحقيقة أم سامر ليست خالتك بل أمك التي حملتك بين أحشائها تسعة أشهر.. وكانت
أختًا رائعة إذ أنها وهبتنا إياك عندما رأت أننا قد فقدنا الأمل بالإنجاب..
وأنتِ رضيعة بين يديها ولديها أطفال أربعة وتستطيع إنجاب المزيد..
هل فهمت يا هبة..؟
أرجوكِ أجيبيني أو على الأقل... اصرخي.. اغضبي لأنني لم أخبرك الحقيقة. ثقي أننا
جميعًا نحبّك. أنتِ ابنتنا وروحنا. لكن يجب أن تعلمي أن سامر هو أخوك
الحقيقي. لم أكن مضطرًا لإخبارك. لكنّي لم أستطع أن أبقي الحقيقة غائبة عنك
أكثر من هذا.. ضميري يؤنّبني وأنت قد كبرتِ وباستطاعتك تقدير الأمور. هذه
يارا تعرف بالأمر وكانت تتعذّب لأنها كانت صغيرة ولم تفهم أما أنتِ فواعية
وتقدّرين عظم محبة الأخ لأخيه كي يهبه فلذة كبده التي يحبّها...
كان يتكلّم ويتكلّم ليبرّر ويترجم .. أما هي فهنا وليست هنا... لا تعليق لا سؤال
ولا إجابة. شرائط سينمائية تمر أمامها أخذتها من واقعها ومن نفسها وابتعدت.
هل هي هبة أم يارا؟ هل يمكن أن تكون في حلم وقد تلبست شخصية يارا وتحلم أن
والدها ينفذ التقمص. ستسفيق بعد قليل وتلتفت يميناً ويساراً فترى نفسها
وجهاً لوجه أمام والدها الذي يقول لها أنه ليس والدها وتتذكر عمها الذي هو
والدها وخالتها التي هي أمها والبنات وسمير وسامر أخوها. اذن هو أخوها،
ربما لهذا لم تشعر نحوه بالعشق ولطالما تساءلت ما هو الشعور الذي تحس به
نحوه. وتكبر الحقيقة أم هو حلم كبير؟ لا بد أن يكون حلماً.
هل تصرخ لتستفيق من حلمها؟ شفتاها مطبقتان وعقلها في مكان لا تعرف له عنوان. ربما
كان أهون على أبيها أن تثور لكنها لم تفعل.
أطبق صمتها، كاد أبو هبة أن يبكي وهو يرجوها أن تثور أن تجيبه بأي شيء. لكنها
جامدة جمود الجبال.
ركبا السيارة وعادا صامتين.
وصلا وصعدا الى البيت ولم ينبسا ببنت شفة.
ما أن فتحت باب البيت حتى ركضت ودخلت غرفتها وأغلقت وراءها الباب. دون أي رد فعل
سلبي أو إيجابي وكأنها إنسانة آلية مبرمجة لتفتح الباب وتمشي وتدخل غرفتها
وتغلق وراءها الباب. لم تحيي والدتها. تفهّم الأب عظمة الصدمة على نفسها
لكنه شرّ لا بدّ منه.
دخل إلى أم هبة إلى المطبخ فهي لم تشعر بعودتهما.
- أين هبة.. هل ذهبت عند يارا..
- كلا أرجو أن تتصلي بيارا لتأتي إليها. لا أريدها أن تكون وحيدة.
- لماذا، ماذا حصل؟ أخبرتها؟؟ قل! هل أخبرتها؟؟
أومأ بالإيجاب
فانفجرت بالبكاء.فقالت:
- لماذا؟ لماذا تفعل بي وبها ذلك؟؟ لم تكن مضطرًا..
وأسرعت إلى غرفة هبة تدقّ على الباب
- هبة حبيبتي.. إفتحي. أرجوكِ.. أنا أحبّك يا هبة أكثر من روحي.. أرجوك..
لا جواب.. موقف محيّر ومخيف.. صدمة عنيفة اجتاحتها أخرست الحروف في حلقها.
وتسرع الى الهاتف وتتصل:
- يارا أرجوكِ تعالي بسرعة.. هبة بحاجة إليك.
- طبعا ماذا هناك؟
- أرجوك تعالي.
- حسناً حسناً أنا قادمة.
ويحضن أبو هبة زوجته ويقول لها بحنان:
- يا أم هبة أتركيها مع نفسها قليلاً هي بحاجة لأن تبقى وحيدة قليلاً وستأتي يارا
الآن وتخفف عنها، فهما متفاهمتان جيدًا. اهدئي، تعالي، ادخلي غرفتك
واستريحي. لن تلبث أن تستعيد هدوءها وتخرج إلينا.
لم يستطع الأبوان إخبار يارا بالحقيقة فربما هبة لا تريد.
لكن هبة لا تريد شيئًا. لا فتحَ الباب ولا فتحَ النقاش ولا بدءَ العتاب ولا حتى
الرفض، سلبية. وكأنها قد جردت من كل أحاسيسها. واجمة. مستلقية على الفراش
حتى أفكارها غير متسلسلة. حتى مشاعرها غير مستقرّة. مع أن الأمور توضّحت
لها. وفهمت أشياء كثيرة ما كانت لتجد لها جوابًا. إلا أنها الآن تحسّ
بسلبية كبيرة. ونفور من الذات مقرف.
لهذا إذن كانت أم سامر تحيطها بذلك الحنان كله. كانت تحس أنه غير طبيعي لكنها
اعتقدت أنها تريدها زوجة لسامر. هي أمّها إذن. لكن لماذا تخلّت عنها.
أهي تمثيلية الحب التي أخبرها إياها والدها. هل يمكن أن يكون والدها ، الأب هو
الذي ينجب أم الذي يربّي. وتختلط الأمور. أبو سامر أبوها أم عمها. كان
يعاملها كما يعامل بناته تمامًا. لكنها كانت تخاف نظرات لا تفهم لها معنى
في عينيه وتتساءل أهو قاس.. كلا ربما هي نظرات الاعتذار كان يقدّمها
لابنته.. هل هو الحب الذي جعله يتخلّى عنها هبةً لأخيه. أم تراه كان يخاف
أخاه. أم إنها كانت طفلاً غير متوقّع. ولكن إذا كانت كذلك لماذا أنجبا
غيرها من بعدها. وأم هبة. حب فائق ودلال كبير. وهي بديل لطفلة ماتت ورحم
استؤصل. أمور تختلط في عقلها وتفكيرها. دون ترتيب. دون تركيز. وسامر حلم
المستقبل. أمل الأيام الجميلة. أخوها.
هل تسرّ أم تحزن. أخ لم تكن تحلم بوجوده. أخوة طالما اشتاقت ليكونوا كثر في
بيتها. وها هم موجودون.
- هبة. إفتحي أرجوك. لن أطلب منك الكلام. فقط دعيني أجلس معك. هبة هل نسيتِ أنني
أختك، لا، صديقتك العزيزة؟
وانسابت الدموع غزيرة على خدي هبة وهي تفتح ليارا وتسمح لها بالدخول وترتمي بين
أحضانها.
- إهدئي. ما الأمر. أخبريني. أو ربما لا تخبريني. فقط إهدئي وتمالكي أعصابك. لا
تقسي على نفسك هكذا. حسنًا إبكي كما تشائين سأبقى إلى جانبك. دعيني أغلق
الباب.
ومن وراء الباب طمأنت أبو هبة وأم هبة وطلبت منهما الابتعاد.
ومرت الساعة طويلة. كانت الدقائق دهرًا من الثواني وكل منهم تتخبط في عقله
أفكار مخيفة ومرعبة. كل يتساءل ترى؟؟ ماذا يحدث؟ وفي الداخل يارا تحاول
تهدئة هبة ولا تطلب منها الكلام. حتى هدأت واستعادت روعها.. ولم تستطع إلا
أن تقول ليارا:
- أنا مثلك يا يارا إبنة متبنّاه.
- ماذا؟
- أمي التي أنجبتني هي خالتي أم سامر وأم هبة ربّتني وأجهشت مجددًا بالبكاء.
- وبعد ذلك؟
- بعد ذلك، ماذا تريدين أكثر من ذلك؟
- لم أفهم قصدك. هل ما تقولينه حقيقة.
- نعم لقد أخبرني بابا بذلك الآن.
- إهدئي. إهدئي الآن سنتكلّم في الموضوع بروية.. لم أفهم منك شيئًا.
- لقد أخبرني والدي اليوم بأنني لست أنا الطفلة التي أخرجها الطبيب من بطن أمي
قبل استئصال الرحم كما يخبرون دائمًا بل تلك الطفلة كانت ميتة أنا إبنة
خالتي أم سامر التي ولدت في الأسبوع ذاته..
- أوه.. هبة.. هل يمكن أن نكون متشابهتين حتى في هذا الوضع..
وأبو سامر وأم سامر وجدا أن أباك وأمّك لن يستطيعا الإنجاب فأعطياك لهم.. فصل آخر
من فصول المحبة الأخوية الإنسانية.
- ولمَ لا يكون بأنهما أرادا التخلّص منّي.
- هبة لطالما أقنعتني أنت بالمحبة المتبادلة بين الأخوة خاصة في مواقف كهذه ورفضت
كل مرة أقول لك أحس أنهم تخلّوا عني. فكيف تأتين اليوم لتغيّري كلامك. أم
أن ذاك كان مجرد كلمات تقنعيني بها دون أن تكوني أنتِ مقتنعة بذلك.
- لكنهم كذبوا علي وعلى الناس جميعًا. أما أنتِ فكانوا صادقين معك.
- هل تعتقدين أن ذلك أفضل. لطالما تمنّيت أنهم لم يخبروني بالحقيقة لوفّرت على
نفسي تلك النظرات التي لا يمكن أن يشعر بها أحد غيري في عيون الناس. لن
أستطيع أن أترجم لك مشاعري. كنت كلما نظرت إلى عيني ماما سعاد أقول تراها
تحبّني مثلهم، أخوتي.. أم تحبهم أكثر مني. وفي النهاية أقول يكفيني حب أم
يارا لي. هل نسيت نقاشنا الطويل الدائم في ذلك.
- لا أدري يا يارا الآن فقط ربما أحسّ بما كنت تشعرين. ربما كنت محقة وكنت أنا
مخطئة في كل ما قلته لك.
- بل أنت المحقّة. لأنني كنت أرتاح عندما أكتفي بالنظر إلى عيني أبي وأمي وأرى
نفسي وحيدتها الغالية.. أمل الدنيا بالنسبة إليهما. ربما أفضل بكثير لو كنت
ابنتهما الحقيقية ولكن ما كان بيدهما فعل غير ذلك.
- وأنا. ماذا أقول؟ أنا مشتتة الأفكار. لا أعرف ما هي ردّة فعلي، هل أنا مستاءة،
هل أنا حزينة، لا أدري، لا أحس بأي شعور فقط أحس بالإحباط وبالرغبة في
البكاء.
- إبكي إذن، إبكي واتركي العنان لمشاعرك حتى تستقر. الأمر قاس، لكن والدك يحبك
لدرجة كبيرة وسنناقش الأمر غدًا عندما تهدئين، سأخرج الآن لأحضر لك فنجان
شاي وأعود حالاً.
- لا تتركيني يا يارا.. أنتِ الوحيدة التي بقيت لي في الدنيا.
- سأخرج وعند عودتي سأبين لك أنك مخطئة، استرخي واستريحي..
- وكيف لي أن أستريح وأنا أرى والدي يتخلّى عني.
- هل تعتقدين هذا؟؟
- إذن لماذا أخبرني وهو يقول أنه لم يكن مضطرًا لذلك وأن لا أحد يعرف الموضوع
سواه وأمي وخالتي أم سامر وعمي أبو سامر.
- أنا شخصيًّا لا أرى في ذلك تخلّي وإنما خوف عليك..
- كيف ذلك؟؟ ماذا تقصدين؟؟
- بما أنه لم يكن مضطر لذلك. إذن أخبرك لأنه يحبك ولا يريد لأنانيته أن تخفي عنك
سرًا.. ثم ألم يذكر لك السبب الذي دعاك لإخبارك..
- كل ما قاله لي: سامر أخوك يا هبة. أخوك الحقيقي.
- توضحت المسائل إذن. شعرت والدتك بميلك نحو سامر. وخافت على مشاعرك من التطور.
أرأيت إذن محبتهم العظيمة لك. جعلتهم يخبرونك بالأمر خوفًا من أن تسيري في
طريق خطأ تصبح العودة منه أصعب عليك.
- ...؟؟
- سكتِّ إذًا.. نعم هذا هو السبب الأكيد.. المحبة وإلا فكان باستطاعتهم ألا
يخبروك ويمنعونك من الزواج من سامر، هكذا منع تعسفي، ألا تعتقدين ذلك؟
سأذهب لإعداد الشاي.. فكري قليلاً فيما قلته لك وستقتنعين.
خرجت يارا من الباب لتجد الأبوين جالسين على أحر من الجمر..
- اطمئني يا خالتي، إننا نتحدّث. وهي الآن بحاجة أن تبقى بمفردها قليلاً. لا
تقلقي. لن يكون إلا الخير. فقط اسمحي لي. سأعد كوبين من الشاي. أرجوك يا
عمي دعوا هبة بمفردها قليلاً ربما حتى الصباح. سأبقى معها. سأكلم ماما
وأطلب منها المبيت عندكم سنكسر قاعدة الفندق والمطعم اليوم.
حاولت يارا أن تخفف بمزاحها على الأم والأب عندما وجدتهم في حالة يرثى لها حقاً
لكنهما لم يتجاوبا معها. قال أبو هبة: "أنا سأتصل بوالدك وأخبره بحاجة هبة
اليك."
لم ينم أحدٌ منهم. و الهدوء والسكينة يلفان المنزل.
صمت شامل .. سكينة، لا تدري إن كانت تشابه سكينة ما قبل العاصفة أو بعدها. الكل
يستعيذ بالله مما سيحدث. أبو هبة وأم هبة مستلقيان. لا ينبس أحدهما بكلمة
يداهما متشابكتان يشد كل أزر الآخر قليلاً ويشد عل يده بقوة. وهبة ويارا
مستلقيتان.. يداهما متشابكتان. تارة تشدها يارا لتشدد من أزر صديقتها وتارة
تشدها هبة مستنجدة طالبة العون.
بدأت الشمس تشرق. ترى أي تباشير يحمل هذا الصباح. آذان الفجر يشق الآفاق والجميع
مستلق بعيون مفتوحة، هدّها التعب وصبغها الحزن بحمرة حارقة.
طرقات خفيفة على الباب
- يارا.. هبة.. إليكما فنجانا شاي.. هل تريدان الخروج لنتناوله معًا..
- لحظة يا عمي. وتهمس له ربّما من الأفضل أن نمكث هنا، لا تقلق سنخرج بعد قليل،
ويجيبها بالهمس
- حسنًا طمئنيني كيف حالها
- بخير لا تقلق.
وتمضي الساعات طويلة. النوافذ مغلقة. الستائر تمنع دخول الضوء. النهار في الخارج
بدأ منذ مدة طويلة وأما في الداخل فالعتم يلفّ المكان. لا أحد يريد أن
يحرّك ساكنًا وكأن الزمن قد توقّف بانتظار هبة، المهم أن تتفهم الموضوع.
وهبة مشتّتة ، تتخبّط في رأسها الأفكار ولا تستقرّ.
تبادر يارا بالقول:
- هيا يا هبة لنخرج إليهم.
- كيف سأقابلهم. ماذا سأقول. كيف سأقول لها أمّي من جديد؟
تقترب منها وتجلس بجانبها وتضع رأسها على حجرها مداعبة شعرها كما كانوا يفعلون في
الصغر عندما تغضب أمها فتصالحها يارا. وتتابع كلامها:
- لا يا هبة. لا تجحدي بفضلها عليك كونها لم تحملك
في بطنها تسعة أشهر، إلاّ أنك تعلمين حقّ المعرفة كيف ربّتك وكم سهرت على
راحتك. لم أعهدك حاقدة، جاحدة. كل ما في الأمر أنّك الطفلة التي تمنّت
إنجابك ولم تستطع لكنّك ابنتها الحقيقيّة فأنتِ جزء من نفسها وكيانها
وحياتها وهنا لا يهمّ إن لم تكوني جزء من دمها ولحمها. أليس كذلك. أليس هذا
ما كنت تقولينه لي؟ هل سأذكّرك بالمواضيع التي طالما بحثنا عنها وناقشناها
عن حقيقة الأمومة والأبوّة.
ترفع لها رأسها لتجلس بمقابلها:
- الأمومة الحقيقيّة ليست فقط أمومة الإنجاب وإنّما أمومة التربية. والأبوّة
الحقيقيّة ليست فقط أبوّة الإنجاب. الإنجاب لا يكفي. ولطالما بحثنا عن
أمثلة عن أهل أنجبوا ولم يرعوا أطفالهم ولم يربّوهم كما يجب وقلنا عن هؤلاء
إنّهم بمثابة الأيتام. بينما الأب الحقيقي هو من ربّى ابنه تربية حقيقيّة
وعاش معه فرحه وحزنه ومرضه وكبر معه وعلّمه كل ما في قلبه من مثل وأخلاق
حتى ولو لم يكن هو الذي أنجبه..
هل نسيت أننا وجدنا أنّه حتى المعلّم المخلص الذي تتمتّن روابط العلاقة بينه وبين
تلميذه يرشده ويعلّمه ويربّيه يصبح أبًا له أو المعلّمة أمًّا؟ ما بك صامتة
لا تتكلّمين يا حضرة المحامية الناجحة.. والمحللة النفسية البارعة. هل نسيت
كل ذلك عندما مسّتك المشكلة؟ هل ستجعلينني أغيّر رأيي فيك أم في والدي؟
وتتابع يارا:
الأمر كان خارجًا عن إرادة الجميع، ربما أخطأوا بأنّهم لم يخبروكِ الحقيقة لكنّهم
لم يكونوا مضطرّين. صدّقيني ذلك أفضل بالنسبة لك. أنتِ الآن متفهّمة
وستستوعبين الأمور وليس مثلي.. أنا عرفتُ الأمر من أولاد المدرسة
وعانيتُ الكثير من عدم الفهم.. هل نسيتِ الأيّام الطوال التي كنت أقضيها
هنا إلى جانبك في الفراش أبكي ولا أريد العودة إلى البيت لأن أحد الأولاد
سألني عن ماما سعاد. حتى كبرتُ وفهمتُ.
تحكي يارا وتحكي وهبة تستمع. تمسح دموعها وتعانق يارا وتقول لها:
- لا أدري. لا أستطيع السيطرة على نفسي. لا أجدني قادرة على مواجهتهم مجدّدًا..
- هل ستتركينهما هكذا ملتاعين متشوقين لضمك الى صدرهما .. فهما يحترقان في
الخارج..
- أعرف. لا لا أعرف. أحسني في نفق طويل.
- أعرفك قويّة، أكثر من هذا بكثير.
- أرجوك يارا.. قدّري موقفي.. ربّما بعد حين أستطيع.
- حسنًا سأخرج لأطمئنهم. لكن أرجوك أنا، كوني قويّة. ولن أعود إليكِ حتّى تخبرني
خالتي أم هبة أنّك خرجت من الغرفة بنفسك.. وتذكّري أنّها مريضة بالضغط وقد
تتعب في أي وقت من شدّة التأثّر والانفعال. سأترككم ربمّا أنتم بحاجة إلى
لحظات انفراد.
وخرجت يارا وأغلقت الباب وراءها.
اعتقدت أنها هكذا تضغط عليها وتتركها لمواجهة مشكلتها وحلها، توقعت أنَّ هبة
ستخرج بعد قليل وتعانقهما وقد تعاتبهما.
قالت يارا لهما:
- لقد أخبرتني هبة بكل شيء. اطمئنّوا ستكون بخير. لقد تكلّمنا كثيرًا. ستكون
بخير.
ضمتها أم هبة الى صدرها وكأنها تحس ابنتها المتألمة، وأجهشت يارا بالبكاء. لم
تستطع أن تكون قوية أكثر من ذلك، أمام هبة كان عليها أن تكون كذلك لكنها
الآن لم تعد تستطيع تمالك نفسها وكأنّها أعطت قوّتها كلّها لهبة ولم يعد
لديها ما تتمالك نفسها به وتتماسك.
احتضنتها أم هبة بقوة أكبر وبكت معها.
- خالتي أنا ذاهبة قليلاً إلى البيت لأبدّل ملابسي وسأعود اطمئنّي لن أخبر أحدًا.
وعاد الصمت ليلفّ المكان. يرن جرس الهاتف. لا أحد يجيب. ليست باستطاعة أحد منهم
الحركة أو الكلام .. وبين فترة وأخرى يشقّ الصمت زفرات حارقة تصدرها الأم
من قلب يحترق.
بدأ الأب يخاف على زوجته، هذا القلق لا يفيدها أبداً، وهو لا يريد أن يحل مشكلة
بأخرى أكبر منها، يجب أن يجد حلاً.
بعد حين استجمع قواه وطرق طرقات خفيفة على بابها،
- هبة هل أنتِ مستيقظة؟؟
أجابت بصوت تخنقه الدموع
"اتركوني.. أرجوكم اتركوني"
- صدّقيني يا هبة نحن نحبّك جدّا وأنت تعلمين ذلك. أعرف أن الصدمة شديدة عليك. لا
تدعيها تسيطر عليك. لو لم أعرف أنّك قوية لما أخبرتك.
لحقت به والدتها.
- هبة حبيبتي. أرجوك افتحي لي. أريد أن أضمّك إلى قلبي. لطالما خفت من هذه
اللحظة. أنتِ تحتقريني لأني سرقت كلمة أمي من أمك أليس كذلك. أنتِ تكرهينني
لأني كنت السبب في تفرقتك عن أمّك وأخوتك، أرجوكِ. حتى لو أردت الذهاب
إليهم دعيني أضمّك الآن. أنا أحبّك، أنا بحاجة إليكِ. هي عندها خمسة أمّا
أنا فليس لي سواكِ.. أرجوكِ يا هبة.. أرجوك يا نور عيني.. لا تعاقبيني أنت
أيضاً.
فتحت هبة باب غرفتها. وقفت برهة بدون أي تعبير على وجهها. لا حزن. لا فرح. حسبت
الأم أنها سترمي بنفسها بين ذراعيها. واعتقد الأب أنّها خاراجة للوم أو
للصراخ أو لأي ردّة فعل آخر. إلا أنها فاجأتهم بأن فتحت باب البيت واندفعت
خارجًا دون كلمة..
كانت أم هبة تراقبها تركض خارجًا وتقول بصوت ينخفض قليلاً قليلاً.. فقدتها..
فقدتها.. قلت لك سأفقدها.
وسقطت مغشيًا عليها.
ووقع الأب في حيرة أيلحق بابنته أم يبقى بجانب زوجته المغمى عليها، إلى أين ستذهب
يا ترى؟ ليس لها أحد. مؤكّد أنها ذهبت عند يارا..
ويصرخ أبو هبة:"أم هبة.. أم هبة تمالكي نفسك. هذا دواؤك خذيه". وأم هبة فاقدة
الوعي لا تسمع.. ولا تستطيع السيطرة على نفسها لتأخذ حبّة الدواء. مؤكّد أن
ضغطها قد ارتفع. لكن لا بدّ أنه ارتفاع قوي ومفاجئ قد يكون خطرًا على
حياتها. لون وجهها لا يطمئِن. حمَلها ووضعها على الأريكة لترتاح ولم يترك
سبيلاً لإعادة وعيها فلم يفلح.
- ألو. أم يارا إلحقيني. أم هبة أصيبت بنوبة ولا أعرف ماذا أفعل؟
- سآتي حالاً
- لتأتِ هبة ويارا معك
- لكن هبة ليست هنا
- ستأتي حالاً أحضريهم جميعًا معك.
وفي ثوان كانت أم يارا بجانب أبو هبة تحاول إيقاظها بلا فائدة فاقترحت نقلها إلى
المستشفى
- وهبة ويارا لماذا لم تأتيا
- بسيطة. الأمر لا يحتمل الانتظار سأكتب لهما ورقة وسنتّصل بهما من هناك.
ما إن وصلا إلى المستشفى وفحص الطبيب ضغط أم هبة حتى حوّلها إلى غرفة العناية
المركّزة.
اتصلت ام يارا من هناك.
- ألو يارا.. ألم تأتِ هبة إليكِ
- الحقيقة أنها لم تأتِ وهاتفها مغلق وأنا بانتظارها ماذا حصل؟
- يقول أبو هبة أنها فتحت الباب وخرجت دون أن تقول شيئاً.
- لا تقلقي يا أمي. أنا أعرف أين أجدها. كيف حال أم هبة؟
- حالها غير مطمئنة هي في العناية المركزة. يجب أن تجديها؟
- أنا أعرف أين أجدها.. هذا سرّ من أسرارنا.
سأخابرك مجدداً لأطمئن وأطمئنك.
كانت يارا متأكّدة أنّها ستجد هبة على شاطئ البحر القريب من المنزل.. حيث تذهبان
معًا وتجلسان أمام البحر الكبير وتشكوان له مشاكلهما وتحملانه مشاعرهما..
فليس من مكان آخر تذهب إليه.
كانت هبة تجلس على الرمال غير مدركة ما خلفت وراءها. تنظر إلى الأمواج تتلاطم كما
تتلاطم أفكارها بلا استقرار. تنظر إلى البحر البعيد. فتجد نفسها بعيدًا
بعيدًا عن كلّ ما حولها. وكأنّها كائن قادم من البعيد. كل ما حولها غريب.
فجأة أحسّت أنها غريبة. كل ما حولها لا تعرفه. كل ما يحيط بها لا تدركه.
هل تحبّهم؟ أم تكرههم؟
العقل يلومها على فعلها ويقول لها:" إما أنك قاسية أو أنّك مزدوجة الشخصية. كيف
تقبلين وضعًا لصديقتك ولا تقبلينه لنفسك. مشكلتها صارت مشكلتك. عندما كانت
لها. كنت تخاطبينها بمنتهى المنطق والرزانة وتقنعينها أما اليوم فعندما
صارت يدك في النار انسحبتِ واعتبرتِ كل ما قلته كلاماً فارغاً. هل حقّا
تنسحبين؟ هل حقًا تكرهين من ربّاك وتعب لأجلك ووهب حياته لسعادتك؟ أنتِ
قاسية".
القلب يقول لها الحب. تتساءل"هل هذا حبّ أم أنانية".
هل تشكّ بحب والدتها التي ربّتها ووالدها؟ أم تشكّ بمحبّة والدتها التي حملتها في
بطنها تسعة أشهر وتخلّت عنها. هل تخلّت عنها لأنها تحبّ أختها؟ هل يمكن أن
تصل محبّة الأخت إلى هذه الدرجة. هل تصدّق أنها هبةُ محبةٍ بين الأخوة. نعم
تصدّق. هل تبلغ أنانية الاحساس بالأمومة والأبوة الى اقتلاع طفلة من
عائلتها وابعادها عن عنها؟ أنانية؟ هل هي أنانية؟ محبة أم أنانية هي مضطربة
ولا تتمكن من التفكير.
ابنة من هي؟ هل هي ابنة أهلها برابط الدم أم هي ابنة التعب والتربية.
شعور قاس ألاّ تحسّ أنها ابنة هؤلاء أو هؤلاء أو أن تحسّ أنّها ابنة هؤلاء
وهؤلاء.
لكنهم قرّروا منذ زمن بعيد. هي ابنة والديها الذين تعبوا عليها. هي ابنتهم فعلاً
ولو لم ينجباها. هما فعلا لأجلها ما لا يفعله أبوان حقيقيّان تراها كانت
تفضّل أن تعيش بين أخوتها وتنال اهتمامًا أقل بكثير مما تناله. هي هنا
متربّعة على العرش. ملكة بين جميع من يحبّونها. لا بأس إن لم ينجباها بالدم
والجسد. فمحبّتهما خلقتها كإنسانة. محبتهما غذّت كل خليّة من خلايا جسدها
وكل جزء من تفكيرها وعِلمها فكيف تنكر عليهما ذلك. هي تحبّهما نعم. ربّما
تحسّ بعض الكره تجاه خالتها. أو بالغيرة من إخوتها. لكنها تحبّهم بحيث تنسى
كل شيء. نعم تحبّ أم هبة وأبو هبة. يجب أن تسرع إليهما.
تنظر إلى البعيد. ترى والدتها ووالدها يرنوان إليها عبر موجات البحر يمدّان
ذراعاهما وهي مكبّلة الأقدام لا تستطيع التقدّم إليهما ولا الهروب وكأنّ
الصدمة جرّدتها من كل المشاعر للتقدّم أو الهروب. ومن ثم ترى أمها تسقط من
الاعياء ويسرع الأب لينتشلها قبل أن تغرق ويغوصان معاً في البحر البعيد.
ترى ماذا جرى لأمها. نعم يجب أن تسرع لا بد أنها قلقة الآن.لا بد أن
مكروهًا قد حصل.
انتصبت وبدأت تحث السير للعودة وإذا بها ترى يارا من بعيد. لوّحت لها. مسحت
الدموع المنسابة على خدّيها.
- هيا.. يا هبة والدتك في المستشفى...
وتركضان الى الطريق العام تستقلان سيارة أجرة وتسرعان الى المستشفى. في الطريق لم
تستطع يارا أن تعطيها تفاصيل كثيرة عما حدث، كما أن هبة لم تستطع أن تسأل
كثيراً فقط كانت تقول لنفسها ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
في المستشفى تجدان الأب يروح ويجيء بعصبية ملحوظة وهو أمام المدخل الرئيسي.
وترتمي في أحضان والدها
- سامحني يا بابا.. لكني لا أعرف لماذا تصرّفت هكذا سامحني..
- هبة حبيبتي. هيا لنسرع. نحن نحبّك. وأنتِ تحبّيننا. أنت ابنتنا ولا غنى لك
عنّا. هيا لنسرع لنكون بجانب ماما
- هيا.. كيف حالها.
- لا أدري تركتها بعد أن وضع لها الطبيب المصل وقال ستستفيق بعد ساعة. لا أريدها
أن تستيقظ قبل أن تكوني بجانبها.
في المستشفى، الأم غارقة في غيبوبتها وإبرة المصل تمدّها بالغذاء والدواء الذي
ربّما يعيدها إلى رشدها بأسرع ما يمكن وزوجها وابنتها حولها يحاولان مدّها
بالحنان والحب اللذين هما دواءها الحقيقي..
ترى وصل الحب بعد فوات الأوان؟
ما فتئت هبة تلوم نفسها. هل كان يجب أن تكون قاسية إلى هذا الحد؟ لو أنها خرجت
للقائها. لو ثارت. لو فعلت شيئًا. ربما كان ردّ فعلٍ طبيعي. لكن صمتها كان
قسوة كبيرة. اعتقدت معه الأم أنّ هبة قد رفضتها تمامًا.
تقف أمام النافذة في غرفة العناية المركزة، تنظر إلى والدتها وعيناها تترجيانها
بالعودة إلى الرشد لتضمّها وتصرخ أمام الملأ هذه أحلى أم في الدنيا. هذه
أغلى أم في الدنيا. لقد رضيت أن تتحمّل العذاب سنوات طوال وكانت مستعدّة أن
تتحمّله العمر كله ولا تُشعر ابنتها بشيء.
وتمضي الساعة، هنيهاتها دهر. والقلوب شاخصة قبل العيون. من وراء الزجاج تتابع
خفقات القلب المرتجفة. الشفاه أطبقت على الكلمات. والكل صامت.
ساعة، وبعدها ساعة. الممرضات في رواح ومجيء. هذه تقيس الضغط. وهذه تراقب نبضات
القلب وتلك تراقب المصل.
بعد زيارته الثالثة يخرج الطبيب ويستدعي الأب. فيهرع إليه الجميع.
- ارتفاع ضغطها كان شديدًا ومفاجئًا. حالتها الآن مستقرّة. ربّما يجب أن نخاف من
تأثير جانبي سنعرفه بعد أن تستفيق. لكنها مرت بحالة خطرة جدًّا. من المؤكّد
أن ذلك أثّر على إحد أعضائها أو أكثر. فادعوا أن تكون النتائج أخفّ ما
يمكن.
الأفكار هجمت في رؤوس الجميع للتساؤلات الكثيرة. هل تصاب بالشلل باحد أعضائها؟ هل
يصيبها الفالج في أحد نصفي جسمها؟ أسئلة كثيرة لكن الشفاه خرساء والمفاجأة
أذهلت الجميع.
وساعة بعد أخرى من القلق والصمت، يخترقها صوت بكاء صامت. دموع حارة تنحدر على
خدّي هبة. تصاحبها شهقة هستيريّة. تحدّث عن القلق الكبير والانهيار العصبي.
يقترب أبو هبة من ابنته ويحضنها ويبعدها عن نافذة غرفة العناية الفائقة
قائلاً:
- هبة حبيبتي. تمالكي أعصابك. لا أريد أن أفقدكما معًا. ستستفيق الآن. انظري
إليها. هيا تعالي. انظري إليها. ستفتح عينيها الآن. امسحي دموعك. ستتصلّح
الأمور كلّها. ونعود إلى حياتنا الحلوة. نمرح ونفرح ونشرب القهوة معًا.
- قل لها يا أبي أني أحبها حتى لو لم تكن أمي، فأنا أحبها لا أريدها أن تبتعد
عنّي...
وتغرق الدموع على صدر الأب الذي تماسك.. وكأن الله وهبه صبرًا غير طبيعي.. كان
يمسح شعرها بكفة يده ليهدئ من روعها وهو يحسّ العبرات في حلقه تخنقه حتى
الموت.
يتماسك.. ويتماسك ويدعو الرب السلامة. "سلمها يارب.. سلمها لنا.."
تأتي يارا مسرعة:
- عمو.. هبة تعاليا.. لقد بدأت تتحرك..
ويسرع الاثنان للاقتراب من النافذة مجدداً. من وراء الزجاج تبدو وهي تفتح عينيها
تارة وتبحث حولها.. ويعود الإجهاد ليغمضها. تقاوم وتفتحهما ثانية ليغمضها
التعب. تدعوهما الممرضة لرؤيتها. تطلب إليهما ارتداء الملابس الخاصة وتشدّد
على عدم الكلام قائلة:
- دقائق فقط لرؤيتها والاطمئنان عليها أما الكلام فممنوع..
تمسك هبة يدًا. ويمسك الأب اليد الأخرى. علّ حرارة الحب تنتقل إلى الجسد الراقد
بلا حراك.
تضغط هبة على اليد الباردة فلا تحس. وكأن الروابط بينهما انقطعت. حتى الدماء لا
تجري لتنقل النداء.
يضغط الأب بدوره فتفتح عينيها وتنظر إليه وفي نظراتها كل الأسئلة. وفي ضغط يدها
كل الحنان والحب. أين هبة؟؟
فيجيبها بابتسامة يشقّها بصعوبة على شفتيه ها هي!!
تنظر إلى الطرف الآخر. فتتعانق العيون. وتختلط الدموع دون أن تلتقي. وتضغط هبة
مجدّدًا على اليد الباردة. لكنها باردة وتبقى باردة. والطبيب واقف يراقب
ردود فعل الأم. ينتبه أن الأم تحرّك يدها اليسرى فقط. ويطلب إليهما الخروج
لعدم الإجهاد. فترتمي هبة في حضن أمها باكية، دموعها غزيرة على وجهها تغسل
وجه الأم الذي ترتسم عليه ابتسامة عميقة مغمضة العينين.
يطلب الطبيب منهما الخروج فيحاول الأب مساندة هبة لتتمالك ليخرجا لكنه أحس بحاجة
هبة الى حضن أمها فتركها برهة وإذا بالأم تحرك بصعوبة يدها الحية وتضعها
على رأس هبة ويغيبان في عناق الحنان الخالد.
يشدها والدها بأمر من الطبيب ويخرجان ليبدأ الطبيب عمله.
إنها ترى. نعم لقد رأت زوجها وابنتها، والذاكرة حاضرة. يدها اليسرى تتحرك. طلب
منها تحريك يدها اليمنى. لا فائدة فهي باردة بلا حراك. القدم اليسرى
تتحرّك. القدم اليمنى باردة بلا حراك. إذن شلل نصفي امتص الطرف الأيمن.
بعد ساعة من الفحوصات.. ثم إجراءات السلامة. خرج الطبيب لينقل إليهم النتائج.
- ستبقى في غرفة العناية المركزة لمدة ثلاثة أيام مبدئيًا. الزيارة ممنوعة إلا من
وراء الزجاج. باستطاعتكم الدخول إليها نصف ساعة يوميًا فقط لكن الكلام
ممنوع
- وماذا عن حالتها يا دكتور؟؟
- الحقيقة يبدو أنها أصيبت في طرفها الأيمن.. فهي لا تستطيع تحريك يدها وقدمها
اليمنى..
- هل أصيبت بشلل دائم أم هذا مؤقّت؟؟
ندعو إلى الله ألا يكون دائمًا. المهم أن ترتاح الآن حتى لا تسوء حالتها أكثر
وتحدث لها مضاعفات سلبية.
انفجرت هبة ببكاء عال. فحضنها والدها وابتعدا إلى غرفة الانتظار. ولحقت بهما يارا
ووالدتها
- كل هذا بسببي. يا أبي. لماذا، لماذا حدث هذا؟. هل أنا سيّئة إلى هذه
الدرجة.أهلي يتخلّون عني. وأنا أسبب العذاب لكم. لماذا جئت إلى هذه الدنيا؟
أنا أحبكم جميعًا. لماذا تفعلون هذا بي. لماذا أنا موجودة. لا أريد هذه
الحياة..
- هبة تماسكي ولا تُخرجي الكلام جزافًا. أنتِ لا تدركين ما تقولين.. إبكي الآن
ودعي عواطفك تتفجّر لترتاحي. ستكون بخير. أنتِ لستِ السبب. هذا كان يجب أن
يحصل منذ مدة طويلة وليس لك يد فيه. إغسلي وجهك وتعالي أوصلك إلى البيت
لترتاحي..
- أنا تعبة يا أبي. تعبة جدًّا. أحس أنني تجرّدت من كلّ شيء. حتى من نفسي. لم أعد
أدرك من أنا. أو ماذا أنا.. لا أقصد بالذات ابنة من أنا وإنما. أنا نفسي
أضعتها. وفعلت ما فعلت دون قصد أو إدراك.
- لا بأس إهدئي. الأمر قاس وصعب. ولو لم أعرف أنكِ قوية ومدركة بما يكفي لما
صارحتك. لكن المصارحة كانت ضرورية. هذا قاس علينا جميعًا. هل تعتقدين أنني
مرتاح. لكن هذا كان يجب أن يحدث. لا مفرّ. فلندعو الله أن يسلمها وسنعمل
جاهدين لمساعدتها لاستعادة صحتها. هيا تماسكي ولنذهب إلى البيت.
تتدخل أم هبة لتقول:
- استرح أنت يا أبو هبة. سآخذ هبة ويارا ونذهب معًا إلى البيت أمام المستشفى
سيارات أجرة كثيرة. إبقَ أنت هنا وسنتّصل بك. واتصل أنت لتطمئننا إذا حدث
أي تغيير. تعالي يا هبة. لنذهب ونرتاح قليلاً.
لكأن جبل الصبر والحكمة الكامن في قلبه انهدّ بعد خروج هبة فاستسلم للعويل في
داخله. سياط الحساب تجلده بقوة. وصراخ يضجّ في عقله بصوت عالٍ قائلاً:"لقد
آذيتَها. وقد تفقدها .لقد جرحت نفسها. أضعتَها. ما كان عليك القبول بأية
حال منذ اللحظة الأولى. ربما كان باستطاعتك العيش قريبًا من أخيك وعائلته.
أما أن تأخذ واحدة من أولاده وتسجلها بإسمك، فهذا بالغ القسوة والأنانية.
يسند رأسه على النافذة ينظر الى زوجته الحبيبة وتتردد في أنحاء قلبه أسئلة
متعاكسة. ويجيب نفسه:
- وماذا في ذلك؟ هي ابنة أخي. لقد فقدت زوجتي القدرة على الإنجاب ولا أستطيع
التخلّي عنها. ولا أريد الزواج بأخرى.. هل كان أفضل أن أتزوج أخرى وأطلقها
بعد الإنجاب. هل ذلك حل أفضل؟؟ أن يكون الطفل طفلي وآخذه من أمه.
لم أقترف ذنبًا.
ويقول عقله:
- لكنك أسأت للبنت شئت أم أبيت. ستعاني من الضياع، ذلك صعب. أن يفقد الإنسان
هويته في ساعة مظلمة ويحتار في أمر انتمائه. لم تقصد. لكنك فعلت. تماسك
الآن. وساعدها بمحبّتك. ابتلع خوفك وقلقك. لتكون قويًا. الجميع بحاجة إلى
قوتك اليوم. يوم أخذتها لم تحس بالخوف. واليوم عليك أن تنسى الخوف لتواجه
الأمور كلها بقوة وصبر.
تقترب ممرضة من أبو هبة وتقول:
- يا سيد مضى على جلوسك هنا أكثر من ساعة وأنت هكذا تدفن رأسك بين يديك. هل نمت؟
أوه ما بك يا سيدي؟ عفواً ، هل تبكي؟ السيدة استفاقت وهي تريد رؤيتك.
هل تريد أن تغسل وجهك؟ الحمام من هنا
- شكرًا لك. كلا لا أريد شيئاً .هل استفاقت.. كيف حالها؟؟
- هي بخير. لكنها لا تستطيع الكلام. أشارت أنها تريد رؤيتك وتدل أيضًا على فتاة
لها جدائل طويلة فمن تكون؟ تراها ابنتها.
- هي ابنتها بالتأكيد. سأغسل وجهي وأصلح من حالي وآتي حالاً.
وأسرع الى زوجته،
- حمدًا لله على سلامتك. لا بأس لا تتكلّمي. لا تحرّكي يدك. لا يهم أنك لا
تستطيعين الكلام أو تحريك يدك.. المهم عندنا أنك استعدت وعيك. نحن نحبك..
هبة في البيت ترتاح لأنها كانت تعبة جدًا. ألم تريها كيف بكت على صدرك كما
في كل محنة، سأذهب الآن لإحضارها إذا شئت. هي تحبك. نحن نحبك. المهم أن
تتعافي وتعودي إلينا.. لا تبكِ، لا يا أم هبة ستشفين وتعود الأمور
إلى سابق عهدها. أرجوك اطمئني. لا تخافي أبدًا هبة ستبقى بجانبك.
الآن علي أن أخرج. الطبيب يطلب مني ذلك. سأحضر هبة إهدئي الآن وارتاحي..
الراحة!! كيف تأتي؟؟ لولا الدواء الذي تدفعه الإبرة عبر الشرايين فيخدّر
الأحاسيس وتستسلم أم هبة للنوم العميق مجددًا.
- دكتور أرجوك اسمح لي أن أرى ماما ولو بضعة دقائق. أريد أن ألمس يدها. أريد أن
أقبّلها وأرتمي في حضنها.
- عزيزتي أنتِ لست صغيرة وتفهمين هذه الأمور. وأنا قد عرفت من والدك القصة كلها.
أخاف أن تثور مشاعرها إذا ما لامستك أو رأتك بقربها. وهذا غير جيد بالنسبة
إليها. انتظري يوم آخر. بعدها اسمح لك بذلك. لأنك مهما وعدتني بالتماسك لن
أتأكد من أنك لن تتأثري لرؤيتها لا تتكلم ولا تحرّك أطرافها.
- لكنك البارحة طلبت مني الانتظار وها نحن في يوم جديد.
- لا بأس يوم آخر. لتكون النتائج أكيدة. لم أتوقع للحقيقة أن يتأخر تجاوبها هكذا
واعتقدت أنها ستكون أقوى اليوم. بسيطة الانتظار مهم. أخبريني الآن كيف حالك
أنتِ.
- نفسيتي استقرّت قليلاً. أحساسي بالذنب تجاه أمي. وإحساسي بالظلم من تجاهها
يتصارعان في نفسي ولا أدري أين ومتى الاستقرار. كل ما أعرفه أني أحبها ولا
أريد لها الأذية مهما كان السبب. فقد تعبت من أجلي كثيرًا. وكذلك أبي لا
أريد له العذاب والألم.
أما المستقبل. فكلما فكّرت به. أرى أمامي بحارًا عاتية الأمواج. غيوم متلبّدة
تغطي الشمس الساطعة خلفها. وأرى خلف الأمواج مركبًا وحيدًا يسبح ويسبح
ويتأرجح عاليًا تارة وغارقًا تارة أخرى. أنا مؤمنة يا دكتور. أنا متأكّدة
أن الله سيساعدني على الوصول بمركبي إلى برّ الأمان. الجميع يحبّني. وأنا
أحبّهم جميعًا. أخاف الآن أن يكرهني إخوتي.. أن يغاروا مني أكثر. لا أعرف
كيف ستكون ردّة فعلهم. لكن كما قال بابا واقع لا مفرّ منه ولا مهرب. سأكون
قوية. أرجو أن أكون قوية. المهم الآن أن تتعافى ماما.
- أرجو ذلك معك.. ولو أنني لن أكذب وأقول انها ستعود إلى كامل صحتها. لكن ستتحسّن
دون شك.
- سأبقى إلى جوارها وأكون عصاها التي تستند عليها واللسان الذي تتكلّم به.. علّني
أردّ لها شيئًا مما قدّمته لي.
ويقول أبوها:
- أنتِ ابنة بارة يا هبة لو أنك ابنتنا الحقيقية لما كان باستطاعتنا أن نتوقّع
منك أكثر من ذلك.
- هيا يا بابا ادخل إلى ماما وسلم لي عليها وقل لها أنني بانتظارها
- هبة.. لقد اتصلت خالتي أم سامر لتطمئن على أختها وقد حدّثتها بما قاله الطبيب.
هي تسأل هل تريدون أن تأتي هي إلى الكويت لتكون بجانب أختها، وقد سألت
عماذا حدث بالتفصيل ولم نستطع اخبارها بشيء.
- أوه يارا، هذا جانب آخر كرهت التفكير به كيف سأقابلهم؟ كيف سأواجههم؟ لا أظن يا
يارا أن باستطاعتي أن أفعل الآن، لن أستطيع مواجهة أم سامر . الأمر صعب
جدًا علي. أو على الأقل الآن.
- ماذا تخافين المواجهة؟ لكنهم لا يعرفون شيئاً مما حصل.
- ربّما ليس خوفًا. لكنه عدم استقرار. أحسّ أنني غير مستعدّة للمواجهة. ثم هل
سنبقي الأمور في العتم مجدداً. لقد حدث ما حدث من أجل الصدق والصراحة. لا
أدري يا يارا أنا مشوشة لكني بالتأكيد لست مستعدة الآن. فلأنتظر. وأرجو ألا
يطول بي الأمر.
- عسى ألا يكون خوفك هروبًا.
- لا تقسي علي يا يارا. سأكون قوية صدقيني. فقط أمهليني وسأعيد إلى نفسي هبة التي
أعرفها أنا. هبة التي فقدتها وما زلت أبحث عنها.. أعيش كابوسًا مستمرًا
أشعر أنني سأستفيق منه يومًا.
- هبة التي طالما كانت جزءاً من نفسي، أتذكر أيامي الصعبة وأنت بجانبي تشددي إزري
وتقوي احساسي بحب أهلي لي، كل هذا صنعَ مني شخصية قوية لا تهمها الصعاب ولا
تأبه للمشاكل بل تواجهها بكل شجاعة.
- آه يا يارا، لم أتوقع أبداً ما يحصل، عندما كان بابا يخبرني بالموضوع
كنتِ دائماً أمام عيني، آلامك، مخاوفك، تفكيرك ومعاناتك كلها حضرتْ الى
ذاكرتي ورأيت نفسي أقوم بدورك في فيلم سينمائي. نسيت سامر، نسيت خالتي أم
سامر وإخوتي، ربما فقط صدمني كوني أعيش في كذبة عمرها من عمري.
- ربما لك الحق بالتفكير كذلك لكنك كنت قاسية عليهم.
- لم أدرك نفسي، صدقيني لم أحس بما أفعل، فقط أحسست بأنني لن أستطيع المواجهة.
- لذا حبست نفسك وثم هربت؟
- لم أستطع النظر في عيني أمي ولا أبي.
- أفهمك يا عزيزتي أفهمك، اهدئي الآن، وأرجو أن تتحسن صحة والدتك وكل شيء يتصلح.
- يا خوفي من النتائج.
ويتجه الطبيب الى أب هبة ليقول:
- يا سيد أريد أن أصارحك. حالة السيدة غير مستقرة. عضلات قلبها ضعيفة. حاولنا
جهدنا وما زلنا، لكني أخشى أنها دخلت فترة خطر جديدة. يبدو أن كابوسًا
يطاردها. فهي تحلم أو كأنما تحلم فيرتفع ضغطها فجأة.. أخشى أن يؤثّر ذلك
عليها.
- وماذا بعد؟؟ هل تقترح أن ننقلها إلى مكان آخر. هل تريد أن نسافر بها إلى
الخارج.
- لا أقصد هذا يا سيد. لقد استدعيت كبير الأطباء وناقشت معه الحالة ونتابع علاجًا
جديدًا. كل ما أخشاه هو ألا نستطيع السيطرة على ضغط دمها. وقد رأينا أن
نسمح لك ولابنتها بزيارتها بعد ساعة من الآن.
ويصرخ الرجل دون وعي منه:
- ماذا تقصد بالتحديد. بعد ثلاثة أيام من منع الزيارة منعًا باتًا تسمحون لنا
هكذا فجأة، كلامك غير مطمئن يا دكتور.
- ألا تريد الصراحة. واجبي أن أكون صريحًا معك..
- هل سأفقدها بعد هذا العمر الطويل؟ أنا السبب في ذلك. لم أستمع لنصيحتها، أردت
إراحة ضميري، فكرت بهبة أكثر من أمها، كان يجب أن أفكر بردة فعل زوجتي قبل
أن أتخذ قراري باخبار هبة الحقيقة.
- تماسك يا سيد ابنتك في طريقها إلينا. ثم إن الأعمار بيد الله.
- لا حول ولا قوة إلا بالله. يا الله ساعدني، لا تحملني إزرها، فقط أردت اظهار
الحقيقة، لقد كنت بجانبنا يوم أضأت لنا عقولنا وحدث ما حدث في ذلك اليوم
المؤلم، ساعدنا برحمتك.
تقترب هبة وتقول للطبيب:
- ماذا يا دكتور هل تسمح لنا بزيارة ماما؟
- نعم بعد ساعة من الآن.
- جيد.. هذه بشرى سارة.
- أذكّركم الكلام ممنوع.
- ولم لا ندخل الآن.
- إنها نائمة الآن. بعد ساعة يكون مفعول المنوّم قد خفّ. حينها يكون باستطاعتكم
رؤيتها.
- أرجوك دكتور فقط أزح لنا الستار عن النافذة لنراها.
- حسنًا تعاليا سأزيحها برهة وبعد ساعة سأدعوكم أنا بنفسي.
- أنظر يا بابا إنها نائمة بهدوء. يبدو أنها ستتماثل للشفاء. كم أنا مشتاقة
لأضمها إلى صدري. وأخدمها بعيوني.
فيقول في نفسه:
- مسكينة أنت يا هبة لم تدركي بعد ما قاله الطبيب ولم تدركي لمَ سمح لنا برؤيتها.
بل مسكين أنا. أردت الراحة النفسية.. أردت إراحة ضميري فإذا بي أعذبه أكثر
وأجلب لنفسي مصيبة لا يعرف عظمها إلا الرب. زوجتي الحبيبة سامحيني. ما
فعلته كان ضروريًا. لم أتوقّع أن يكون تأثيره شديدًا عليك إلى هذه الدرجة.
سامحيني. هل باستطاعتك ذلك. هل سأراك لأطلب هذا منك؟؟ هل ستستعيدين عافيتك
لأقضي العمر مستسمحاً.
- بابا.. هل تبكي؟؟ ما بك؟؟ أعرف أنك تحبها كثيرًا..
احتضنها وضمّها إلى قلبه المفتت. وبكى وبكت وقالت له: "أنا أحبها يا بابا كثيراً
وأحبك"، وقال لها: "أنا أيضاً أحبها وأحبك."
ومن خلف الزجاج، أم هبة تصرخ بصمت : "نعم أعلم أنكما تحباني".
نعم تعلم انه يحبها، ها هي تسمعه بقلبها لا بأذنيها لكنها لا تتمكن من الحراك
والجواب، ولن تتمكن، وهي بدورها تصرخ في قلبها بحبه وتطلب منه السماح،
أنانيتها منعتها من مجرد التفكير بما يقول، كانت الفكرة ترعبها وتخيفها حتى
الموت وها هو الموت قريب، قريب جداً. من وراء الأنابيب المغروزة في أنحاء
كثيرة من جسدها تحاول النظر الى هبة تفتش عنها بعينيها المغمضتين ، تجدها
تحتل القلب والعقل والدم. تحاول أن تلمس يدها فاذا البشرة باردة واليد
مقيدة والغرفة فارغة.
أحست بقلبها يهرب منها ودمها يجف رويدا رويدا وعيناها تتفتحان على نفق بعيد في
آخره طاقة بعيدة جداً.
تريد الصراخ، تريد النجدة، لا تريد الذهاب بعد، تريد احتضان هبة ولو مرة لتعرف
أنها سامحتها، ولكن يبدو أنها لن تحظى بذلك فالموت يقترب. يقترب جداً وتبكي
صامتة دون حضن دافىء يضمها ويد دافئة تمسح دموعها.
وبكت معهما واختطلت الدموع. بكت من سريرها وكأنها معهما ورحلت وتركتهما وقاربهما
يغرق بهما في أمواج الحزن تتقاذفه رياح الأسى والندم.
وساد سكون وصمت . هبة نائمة تحت وقع المنوم الذي اضطر الطبيب الى إعطائه لها بعد
الثورة الهستيرية التي أصابتها عندما علمت أن أم هبة قد رحلت وأبوها جالس
بجانب سريرها، يمسك يدها خوفاً وحسرة.
صعدت التنهدات حتى نفذت. سالت الدموع حتى جفت. والعناق الطويل والمحبة
الحقيقية والايمان هي ضوء الأمل الوحيد الذي يطل من ظلام السكون الدامس.
كان يجب مرافقة الجثمان لدفنه في الوطن.... ومرافقة هبة الى حين تصحو من صدمتها.
فلا بقاؤها في الكويت بين أنفاس أمها التي تملأ البيت سينفعها ولا سفرها
وحيدة سينفع وهو لن يستطيع تركها مجدداً أبداً.
إجازة طويلة ولا يهم أن تكون مدفوعة أو غير مدفوعة، المهم عدم فراق هبة.
هبة لم تستطع الدخول الى البيت، وبقيت في بيت يارا مصرة على البقاء في الفراش ولا
تريد أن تتقبل تعازي أحد.
أم يارا تحاول دون فائدة، لحملها على الطعام، لاستعادة بعض قواها.
يارا بجانبها باستمرار، لا تتركها أبداً محافظة على سرها ومهتمة بنفسيتها.
أبو هبة، محبط حزين، يفكر في كلام زوجته ويعاتب نفسه أنه لم يستمع لها ويلبي
رغبتها وها هو قد فقدها وربما فقد هبة أيضاً. يتقبل التعازي دون أن يرى
وجوه المعزين أو يستمع الى مواساتهم. أغلق الحزن على تفكيره أبواباً جعلته
كالمخبول، يتحرك دون احساس ويتكلم دون تفكير. الجميع يسأل عن هبة لتعزيتها
لكنهم يتفهمون ألمها ويقدرون مصابها.
كانت أم سامر وأبو سامر يتصلون باستمرار منذ حصل ما حصل ودوماً كان أبو يارا أو
أم يارا من يجيب الهاتف فلا هو قادر على الحديث الى أخيه ولا هبة تقبل حتى
فكرة التحدث الى أحد منهم.
قال المسؤول في مكتب دفن الموتى ونقلهم : "أسبوع واحد لا أكثر بامكاننا تأخير
نقل الجثمان".
وكان على الجميع أن يصحوا مما هم فيه ويعودوا الى الحياة.
دخلت يارا على هبة في صباح اليوم الرابع قائلة:
- هبة يبدو أنك تودين فقدان أبيك كما فقدت أمك؟
- ماذا، ماذا حصل له؟
وتهب هبة من فراشها وكأن ما قالته يارا أفاقها من غيبوبة عميقة وقالت:
- لا لا أريده أن يرحل أيضاً هو الوحيد المتبقي لي
في هذه الدنيا.
- اذن هيا اذهبي اليه فهو بحاجة ماسة اليك.
وتتحامل على نفسها، وتسرع للنزول الى البيت، تدق الجرس فيفتح لها وينخرط الإثنان
في بكاء حار وعناق طويل انتشلهم من الضياع معاً.
قال لها: "هبة ألا تريدين أن نأخذ أمك لدفنها في دمشق حيث يمكننا أن نزورها
باستمرار؟"
- طبعا، طبعاً يا أبي.
- اذن علينا أن نغادر في الغد. أخبرني الموظف أن
جثمانها سينقل في طائرة الغد وأنا أحب أن نرافقه، ما رأيك؟
- لا زلت تسألني رأيي، طبعا يا حبيبي.
وحضنته بكل الحنان الذي كان وكانت بحاجة اليه.
كان يجب أن تحزم الحقائب، وهي أمور كانت لأم هبة الخبرة الكبيرة بها، وجدت نفسها
تتصرف مثلها وتفكر كما تفكر حيث قالت لوالدها: كم قميصاً تعتقد أنك بحاجة
اليه؟
فقال لها:" تتحدثين مثلها تماما، أنت تقصدين أن تسأليني كم من الوقت سأقضي هناك
أليس كذلك؟
- أنا خائفة جداً يا أبي.
- من ماذا بالتحديد؟
قالت له:" كيف سأقابلهم، كيف سأقابل أم سامر؟ وإخوتي؟
- إن كنت تحبين ألا نخبرهم بالحقيقة مباشرة فلا
مانع لدي أبداً، أعرف أن أعطاءك القرار سيعذبك كما عذبني طول هذه الأيام،
لكنه قرارك الآن. أنا قد دفعت ثمنه بما فيه الكفاية، لكني أعدك أنني لن
أتركك أبداً. سأبقى بجانبك حتى تفرجي عني، أنا رهن اشارتك الآن.
- أعوذ بالله ، لكني حقاً بحاجة اليك بجانبي حتى
أتخطى كل الصعاب التي تنتظرني. ثم ابتسمت وقالت وحتى بعد أن أتخطاها.
وابتسم وقال:
- وأنا بحاجة أكثر اليك الى جانبي بعد أن فقدت
حبيبة عمري. يا الله كم افتقدت ابتسامتك الحلوة هذه. صحيح أنهم يقولون أنك
تشبهين حسناء لكنك تتحركين وتبتسمين وتتصرفين مثل أم هبة.
- هل تعتقد أننا يجب أن نخبرهم بالحقيقة؟
- يا حبيبتي طوال أيام عمري أحببت أن أعلن الحقيقة
للجميع فما من مانع بنظري وذلك لن يغير من الواقع أي شيء، كانت أمك تخاف
كلام الناس وما يمكن أن يؤثر عليك من تعليقاتهم، وكنت أؤيدها بتلك التقطة
بالذات. أما بعد أن كبرتِ ونضجتِ فلا أجد مانعاً أبداً.
- واخوتي كيف سيتقبلون الأمر؟
- يجب أن نحضِّرهم لذلك أعتقد.
- يجب أن نفكر جلياً كيف يجب أن نقوم بهذا.
- أشاركك الرأي بأننا نستطيع الانتظار حتى يحين
وقت مناسب. فلننسى ذلك الآن ونبعده عن تفكيرنا.
هيا رتبي الأمور وقرري ماذا سنأخذ معنا.
كانت مهمتها صعبة، يارا تتبعها من غرفة الى أخرى، وهي محتارة فيما عساها أن تأخذ
معها.
طلبت يارا من هبة أن تذهبا معاً الى الشاطىء للتمشيا، ربما للمرة الأخيرة. ،
وشجعها والدها على ذلك وقال: اذهبي مع يارا وسأذهب الى المكتب لانهاء بعض
العمل وسنلتقي ظهراً.
أمسكت يارا بيد هبة وشدت عليها وهما تتمشيان كالعادة على طول الشاطىء، لم تنبسا
ببنت شفة وكأن الأصابع المتشابكة تنقل كل ما يمكن أن يقال من كلام يعزي
ويقوي ويدعو الى التفاؤل. هي أخوة حقيقية ما يجمعهما ولا تحتاج للكلام. كل
منهما تستعيد شريط حياتها كما تفعل كلما جلست أمام فضاء البحر الواسع.
في طريق العودة توقفت يارا ونظرت الى هبة في عينيها وقالت: "هبة دائماً تذكري
مشاويرنا الى هنا، فقط تذكري كل ما كنت تقولينه لي والذي لم أنس حرفاً منه
وأنا متأكدة أنك لم تنسَي أياً منه فلطالما أعدته علي كلما ساءت حالتي
وأصابتني حمى الضياع لما حدث لي والذي حدث الآن لك. تذكري أن قوتي
الآن هي من القوة التي أعطيتني دائماً، وها هي يدي في يدك، وسنلتقي في
الصيف دائماً فبدل أن تأتي أنت سآتي أنا لأزور ماما سعاد وسأفعل ذلك بكل
سرور لأنك هناك أيضاً.
وبالرغم مما حدث لكِ لا زلت غير متأكدة إن كان من الأفضل أن يحصل كما حصل معي أو
معك؟
وانفجرت هبة بالبكاء والضحك معاً ، وتعانقت الفتاتان، وبكتا معاً وضحكتا ودون أن
تتكلما تشابكت أيديهما مجدداً.
"ألن تأتي لحضور خطبتي؟" قالت يارا
توقفت هبة ونظرت الى يارا
-خالد؟؟ لقد نسيت أن أسألكما حدث يومها. اعذريني يا يارا.
-بالتأكيد أعذرك، لو تعلمي ما حدث.
-عادت حليمة لعادتها القديمة. هيا أخبريني بالتفصيل ولكن بسرعة.
-هل تذكرين يوم رأينا خالد ووالدته أمام المبنى. يبدو أنها دلته علينا وقالت له
أليست واحدة من هذه الفتيات في كليتك؟
-وبعد؟؟ هي تعرفنا اذن.
-يبدو أنها تعرف والدتك. اسمعي قالت له ربما هي الفتاة التي تربيها خالتها وزوج
خالتها.
نظرت هبة الى البحر واغرورقت عيناها بالدموع. وقالت لو علمت لقالت الفتاتان
المتربيتان عند خالتيهما.
-هبة! تقولي هذا!
-هي الحقيقة، عفواً تابعي كلامك اذن كيف كان رد فعل والدته؟
-يبدو أنها شجعته على الاقتراب منا لأننا فتاتان مشهود لنا بحسن الخلق في الشارع.
ترفع رأسها عالياً وتمشي متقدمة على هبة وتتابع
-ولذلك فقد قررنا أن نتابع برؤية بعضنا في الجامعة أما الخطبة فمؤجلة الى حين لكن
ليس بالبعيد.
-أنا فرحة جدا لأجلك يا يارا، هل ستحدثينني عن لقاءاتكم ومخططاتكم؟
-بالتأكيد، ثم أن هناك شيء آخر حصل في ذلك اليوم المشؤوم.
-أمر مكروه آخر.
-بل جاء لصالحي.
-كيف؟
-يوم اتصلت بي أم هبة رحمة الله عليها.
-نعم بتنا نترحم عليها. وتنهمر الدموع دون استئذان.
-عفوا يا هبة.
-أنا التي أعتذر تابعي ماذا حصل.
-يوم اتصلت بي لآتي اليك عندما عرفت بما حصل كنت جالسة معه في الكافتيريا ونحن
على أتم الانسجام بعدما أخبرني بكل ما حدث. وعندما شاهد لهفتي عليك حتى دون
أن أعلم بالتفصيل لماذا تطلبني أمك، احترم موقفي كثيراً وأصر على اصطحابي
الى البيت ومن يومها وهو يقول ان كنت تخافين على صديقتك هكذا اذن ستكونين
زوجة وأما صالحة.
لم تنبس ببنت شفة. فقط عانقتها مجددا والدموع تنفر غزيرة من عينيها.
وعادتا الى البيت صامتتين وكأن الصمت سلاحهما الوحيد.
كانت الحقائب معدة عندما عاد أبو هبة من مكتبه، والفتاتان تتنتظرانه للصعود الى
بيت يارا. تناولا طعام الغداء معاً، وقبل مغادرتهما يبتسم ويقول: "أحب أن
أبشر هبة بشيء أمامكم فأنتم أعز الأصدقاء ولا أدري لولا وقوفكم الى جانبنا
ماذا كنا فاعلين".
يتطلع الجميع في وجوه بعضهم البعض ويسرع أبو يارا ليقول:" ولو يا أبو هبة
الأصدقاء لبعضهم وخاصة في وقت الشدة. هيا بشرنا نحن جميعاً بحاجة الى خبر
جيد".
تسرع هبة وتتعلق بكتفيه وتقول:" أسرع قل، ماذا هناك".
-قدمت استقالتي وتفهم مديري الأمر وسمح لي بالسفر لمدة تطول وبحسب حاجتي، فقط
سألني أن أعود لفترة شهر لأسلم كل ما هو في عهدتي من أوراق ومعلومات.
-يا أحلى بابا. وغمرته بحب كبير. وقالت والبيت؟
-سنعود لترتيب كل الأمور ونشحن كل شيء الى دمشق. وخلال هذه الفترة نكون قد عثرنا
على بيت مناسب.
تعرف يارا أن هبة يجب ألا تطيل البقاء في البيت بعد أن أنزل أباها الحقائب لأن
أعصابها لن تحملها للدخول الى غرفة أمها، فتشدها من يدها وتخرجها مسرعة
بحجة أن والديها يريدان توديعها.
في المطار ينتبه والدها أنها يجب ألا تمضي وقتاً طويلاً في وداع يارا فيستعجلهما
للدخول الى قاعة المسافرين. تتعانقان وبسرعة تفلت هبة من يدي يارا وتركض
عبر الأمن العام الى قاعة المسافرين وهي تحمل بيدها لعبتها ميمي.
يقول لها والدها: أوه، هذه ميمي مسافرة معنا؟ خبئيها فأنا لم أحجز لها مقعداً ولم
أستخرج لها جواز سفر.
تفهم قصد والدها، يريد أن يداعبها ليبعد عنها الغم والحزن. ولتثبت له فهمها قالت:
لا بأس لقد أضفتها على جواز سفري.
يبتسمان معاً لكن الصمت كان رفيقهما الدائم.
وتحلق الطائرة في سماء الكويت، ينظر أبو هبة من شباك الطائرة نظرات لا تودّع
أرضًا فقط. بل تودع ذكريات حياة سعيدة. ذكريات عمر. يودّع زوجة يأخذ
جثمانها معه، لكنها حية في كل بقعة من هذه الأرض التي عاشا عمرهما فيها..
كل شبر من هذه الأرض يذكّره بها. نسمات الهواء هنا تحمل أنفاسها.
أين الدموع تغسل الأحزان؟؟ لقد جفّت.. وربما جفّت للأبد فليكفه من الآن
وصاعدًا أن هبة جالسة بجانبه تشدّ على يده لتنقل إليه حزنها وقلقها
وتوتّرها وتمتص حزنه وقلقه...
وتسبح الطائرة في الجو.. وقارب الأفكار تتقاذفه الأمواج والرياح.. وينحدر عبر
شلالات أفكار سوداء تغشي المستقبل فلا تبدو له صورة واضحة.
أما هبة فجلَّ ما يخيفها هو اللحظة التي سترى فيها أم سامر وأبو سامر، وثم عندما
ستعانق أم سامر، ماذا ستحس؟ ماذا ستقول لها؟ خالتي؟
وتهبط الطائرة...
عينا هبة شاخصتان على الأرض.. أرض الوطن..
فجأة بدأت تحسّ أن القارب الذي يتمايل في نفسها بدأ يستقرّ في مياه جديدة لا
تعرفها. لكنها تبدو لها مياه هادئة. أتستقرّ فعلاً بعد تلك المأساة؟ أتجد
لها هوية جديدة؟ أم تغرق؟
كيف تغرق؟ كيف؟ وهي بين أيدٍ أمينة؟ واستشهدت في سبيلها أحضان دافئة. يجب
أن يستقر مركبها ويعاود المسير. ولا بأس أن يسلك معبرًا آخر، فالحياة
تستمر.
تتأبط ذراع والدها وهما يعبران نقطة الجمارك للخروج الى صالة الاستقبال وتتباطأ
خطواتها. يربت على يدها ويشد عليها وقال: "لا بأس يا حبيبتي، هذا مشوار
جديد سنبدأه معاً ويجب أن نشجع بعضنا أليس كذلك؟"
فتمسح الدمعة التي سقطت وتنظر اليه وتحاول أن تبتسم في وجهه وكأنها تقول له: نعم
أنا بجانبك دوماً.
في صالة المطار يندفع نحوها الأخوة كلهم يحيطونها بحنانهم ومحبتهم.. ومن بعيد تقف
الأم حزينة.. منكسرة الخاطر تنظر الى هبة وتنتظر حتى التقت العيون وتعانقت.
من سيبدأ الخطوة الأولى؟
العيون تتعانق أما الضلوع فقد تجمّدت وتصلّبت الأقدام.
ولبرهة بدت طويلة جداً يقف الجميع ينظرون ويتساءلون ما الذي يحدث؟
إلا أن عناق العيون والنظرات كانت أقوى، تنظر هبة الى أبيها فتره يومىء اليها أن
تسرع. فتركض هبة وترتمي في أحضان أم سامر وتحس بحنان غريب وتشم رائحة أمها
الراحلة فتعرف أنها ستكون هنا كلما احتاجتها فتهدأ روحها وترح من جديد
تعانق اخوتها بعبق جديد وروح جديدة.
ينظر أبو سامر الى أخيه وهو يترقب ردود الفعل ويشير له بالايجاب أن كل شيء سيكون
بخير.
ويلوح في الأفق شعاع مضيء في عيني سامر الأخ وعلى شفتيه ابتسامة تبشّر بخير كبير.
|