أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

روايات الكاتب: د. عبد الهادي أحمد الفرطوسي
الأرض الجوفاء
عن الكاتب

لقراءة الرواية

 

 

الرواية

الفصل الثالث

الفصل الثاني

 الفصل الأول

 

 

الأرض الجوفاء

الفصل الأول

 

-1-

  

أهي صدفة أم ضرورة ؟  أم قدر رسمته قوى مجهولة تتحكم بمصائرنا ؟ ألا نقوم بسفرة الصيد المشؤومة الا في الأول من آذار حيث يحتفل الإنليليون بعيدهم الأكبر. وحيث يخطط أعداؤهم الكوريون للانقضاض عليهم مستغلين انشغالهم بالعيد العظيم.

 

ترى. أي أصابع مجهولة تحركنا كما تحرك بيادق الشطرنج  ؟ وتجر أقدامنا الى هذا المنزلق؟ وتقودنا من مطب الى آخر، فأي شيطان وسوس في أذني لأدعو أخي الصغير عباسا  ليشاركنا سفرة الصيد التي قادتنا الى هذه النتيجة المظلمة ؟ أهو الشيطان الكوري كما يزعم الإنليليون ؟  أم  ابليس اللعين ؟ كما تقول أمّي يوم اعترضت طريقنا  ، ونحن نزمع القيام بتلك السفرة ؟.. وأي بصيرة نافذة تتقد في ذهن هذه القروية العجوز لترى انياب القدر مكشرة ؟

أتذكر وجهها قبل سبع سنوات وهي تهمس في أذني صبيحة الأول من آذار:

-أ ضروري أن تأخذوا عباسا معكم ؟

كنا نتهيأ - انا وعباس - للقيام بسفرة صيد في وادي المهاري ، برفقة بعض الاصدقاء . قلت لها وأنا أتنكب بندقية الصيد :

-عباس لم يعد طفلا . يا أمّي . أن عمره صار ستة عشر عاما .

-انه مازال طفلا متهورا . لا تأخذوه معكم .

 سمعها عباس فرد بصوت ثائر:

-ماذا .. هل تريـدين مني أن اقعد في البيت كالنساء  .

-قلبي يحدثني بأن أمرا خطيرا سيحصل لك . إلعن الشيطان ولا تذهب معهم  .

-لا تقفي في طريقي سأذهب .

عقبت‘ بتذمر شديد

-الذي يرى حالتك يتوقع ان ابنك ذاهب الى معركة  . انها سفرة سياحية الى مشارف المدينة برفقة سبعة رجال أشداء .

كان آخر ما سمعته منها ونحن نغادر البيت  . زفرة واهنة  ، ودعاء يصعد ساخنا الى السماء  :

-يا راد يوسف الى يعقوب رد إلي ولدي .

 

*    *    *

 

اختطفتنا سيارة الجيب  . وتلقفنا وادي المهاري الممتد من مشارف وادي الشنافية  حتى حدود نجد . كان عباس أكثرنا مرحا وانطلاقا  . يقفز من كثيب الى كثيب  ، مطاردا الأرانب  والحيوانات البرية . وأثناء عودتنا في الساعة الرابعة والنصف عصرا توقفنا على مقربة من تل المهالك . واقترح أحدهم :

-ما رأيكم ان نقتحم تل المهالك  .

وآزره آخر:

-فكرة جميلة

اعترض ثالث:

-ما لنا وتل المهالك دعونا نمرح على هذه الأرض الجميلة .

ضحكنا منه جميعا.

-هل تخاف العفاريت التي تسكن التل .. ايها المثقف الطليعي.

اعتراه الخجل وعقب على كلامنا   :

-لا تسيئوا فهمي . أنا لا استبعد أن يكون تل المهالك مخبأ للمهربين  وقد نورط أنفسنا معهم في معركة غير متكافئة .

كنا - نحن  السبعة - نمثل الشريحة المثقفة في المدينة .وكان لزاما علينا ان نرفض الحكايات الخرافية التي تنسج حول هذا التل كما كان علينا ان نجد تفسيرا منطقيا لهذا التواتر في الروايات التي يتناقلها البدو حول وجود أشباح تطاردهم اذا ما اقتربوا من تل المهالك .  وكيف انهم يرون في الليل نيرانا تشتعل أحيانا على التل . وأضواء حمراء وخضراء وبنفسجية تومض منه في أحيان اخرى . كان صاحبنا الذي يحلو له أن يطلق على نفسه صفة المثقف الطليعي ، قد وجد نفسه مقتنعا ان تل المهالك ليس الا مخبأ من مخابئ المهربين , وان تلك الحكايات لا تعدو أن تكون اشاعات يروجها هؤلاء المهربون ولا يستبعد منهم أن يفتعلوا ألاعيب يخيفون بها السذج من البدو اذا ما اقتربوا منهم …. يفعلون كل ذلك ليبعدوا المتطفلين عن مخابئهم  .

أمام اصرارنا على اقتحام تل المهالك   ، رضخ صاحبنا للأمر ورافقنا نحو التل . انطلق عباس أمامنا فطلبت منه أن يتريث قليلا . لكنه قال :

-قلب عباس لا يعرف الخوف  .

وانطلق بسرعة أكبر . صعد السفح بخفة  حتى وصل قمته . غاب عن انظارنا بين كثبان الرمل  قليلا . ثم ظهر على أعلى صخرة في القمّة  . ورأيناه يضع كفيه على جانبي فمه . ويهتف بصوت عال :

- تعالوا بسرعة  … اركضوا لقد وجدت كنزا   .. كنزا ثمينا  . سيغنيكم جميعا .

تصورنا ا لأمر مزحة فلم نزد في سرعة مشينا   . لكنه عاود النداء :

-اركضوا قلت لكم اركضوا   . ما لكم كسالى   . انه كنز ثقيل من الذهب لو استطيع حمله لحملته لكم   .

قبيل ان نصل التل رأينا مخلوقا غريبا يخرج من كهف في  أسفل السفح وينتصب أمامنا سادا الطريق علينا  . كان عملاقا يزيد طوله على خمسة الأمتار ، ذا فم عريض متقوس الى الاعلى وعينين مدورتين حمراوين وانف افطس ، واذنين طويلتين مدببتين ، وجلد مجلل بالشعر  … ركض اثنان منا عائدين لكن صاحبنا المثقف الطليعي قال :

-لا تفزعوا . اظنه دمية .

غير ان المخلوق الغريب فتح فاه كاشفا عن أسنان طويلة ثم جثا على ركبتيه . ونهض ثانية، فعل كل ذلك ، ربما ، ليخبرنا انه كائن حي وليس دمية . ظلت عيناي موزعتين بين أخي الذي يقف على قمة التل وبين المخلوق الغريب. صوبت بندقيتي نحو جسد العملاق . لكنه لم يأبه لتهديدي  . أطلقت عليه النار وحذا جماعتي حذوي   . والعملاق لم يتزحزح من مكانه   ، ظل يواصل تحريك اذنيه الطويلتين ساخرا منا …. وحين سمع أخي أصوات الطلقات غادر موقعه متجها الينا . لكني لاحظته بعد قليل يتراجع الى قمة التل مذعورا  ، ثم يغيب بين كثبانها  … واصلنا الرمي حتى نفد عتادنا  . عند ذلك غادر المخلوق الغريب متجها الى الكهف الذي خرج  منه  .

وقفنا في مكاننا قليلا بانتظار عودة عباس  ، لكنه بقي مختفيا عن الآنظار  . وارتقيت الى القمة ورأيت صحابي يتبعونني ببنادقهم الفارغة  .. توزعنا بين القمة والسفوح لكننا لم نجد لعباس أي اثر . ووقفت على الصخرة التي كان يقف عليها أخي قبل قليل واصلت النظر في الصحراء الممتدةأمامي دون أن ألمح إنسانا   …. عند غياب الشمس قررت البقاء على التل  حتى أجده . ولكن اصحابي رفضوا . قال احدهم :

- المسألة اصبحت أكبر من طاقتنا . اذا كنا لم نعثر عليه في وضح النهار . فكيف سنجده في الليل  . علينا ان نخبر الشرطة .

رضخت للأمر وعدت معهم . ووجه أمّي يرتسم أمامي وهي تقول :

-يا راد يوسف الى يعقوب اردد الي ولدي .

 

-2-

 

بعد تحقيق مطول ، لم يصدق رجال الشرطة اقوالنا احتجزونا طيلة الليل . حتى اذا أطل الصباح اقتادونا الى مكان الحادث وهناك سأل المحقق عن الكهف الذي خرج منه العملاق المرعب . وكم كانت سخرية المحقق ورجال الشرطة قاسية ونحن ندلهم على ذلك الكهف  . قال احد الضباط وهو يرسم ابتسامة ساخرة :

-أمن هذا الثقب يخرج عملاق طوله خمسة امتار انه لا يتسع لأكثر من قنفذ .

وبالفعل لم يكن ذلك الكهف الذي أشرنا اليه لم يكن غير وجر صغير لا يزيد عرض فوهته على سنتيمات عشرة وقد ادخل أحد رجال الشرطة عصاه داخل ذلك الوجر فاصطدمت بقاعه  وبذا حدد عمقه بعشرين سنتيما  …. دونت كل هذه الملاحظات في ملف التحقيق . وعدنا الى السجن ثانية  …. وبعد أربعة اشهر اطلق سراحنا لعدم كفاية الادلة ضدنا   .

بقي اخي عباس مجهول المصير، رغم محاولات ابي الدائبة في البحث عنه ، وزيارته مضارب البدو المتوزعة في الصحراء . لم يحصل على اجابة شافية . كان جواب البدو واحدا . انه تل المهالك . سمي بهذا الاسم لأن الوصول اليه مهلكة .. فقدنا ابلا كثيرة هناك . ولم نجرؤ على اقتحامه . انه تل مسكون والوصول اليه اكثر من طاقتنا  .

اماأجهزة التحقيق فقد توصلت إلى قناعة مؤقتة : وهي ان ذلك التل يمكن أن يكون مكمنا لعصابة من الخارجين على القانون  ولما اقتحم المجني عليه مقرهم آثروا اختطافه على أن ينكشف سرهم . وفي الوقت الذي كان بعض افراد العصابة يشاغلون بقية افراد المجموعة بلعبة الشبح المرعب . كان آخرون يبتعدون بالمجني عليه عن التل . وبرغم ان هذا التفسير كان السبب في الافراج عنا لكننا ، كنا نرفض تصديقه ، لأننا عشنا الأحداث بتفصيلاتها فكيف نصدق ان ذلك الشبح الذي رأيناه يتحرك أمامنا ويسد الطريق علينا لعبة يقوم بها نفر من السذج ! !!  لقد كنا نجيد التسديد وما اصطدناه صباح ذلك اليوم دليل على براعتنا في الرماية .. وقد كنا نرى رشقات الرصاص الغزيرة تنهمر على جسد الشبح مخترقة إياه وغائرة في رمال السفح . فلو كان ذلك الشبح آلة لتهشمت تحت سيل الرصاص الجارف : ولو كان كائنا بشريا أو حيوانا لتمزقت اشلاؤه شر ممزق .

لقد قامت الدوريات خلال الاشهر الأولى التي اعقبت الحادث بجولات تفتيشية في ذلك المكان دون ان تعثر على شئ يخدم القضية . لكن شرطيا جاءني الى مركز التوقيف وهمس في اذني سرا رجاني ألا ابوح به ، لأنه يهدد مستقبله ، وفحوى ذلك السر انهم خرجوا ليلة الى ذلك التل وكانوا اثني عشر رجلا بسيارتين يقودهم ضابط عرف بالشجاعة . وحين وصلوا الى عتبة التل توقفت السيارتان. ، وانطفأت الاضواء فيهما ، وعبثا حاولوا أن يكتشفوا سر العطل . فأمرهم قائد المفرزة بالسير راجلين مستعينين بمصابيح يدوية تعمل ببطاريات جافة ، غير انهم ادركوا بعد قليل أن مصابيحهم كانت معطلة أيضا . وأن أجهزة الاتصال التي في ايديهم قد توقفت عن العمل . وحين قرروا العودة الى المدينة عادت الطاقة الكهربائية الى السيارتين . وهدر المحركان فانطلقوا عائدين.

على اثر ذلك توجهت قوة كبيرة الى التل طوقته من كل جانب . ثم اقتحمته وفتشته تفتيشا دقيقا . فلم تجد شيئا يثير الآنتباه فعادت باللائمة على افراد المفرزة الأولى ، واتهمتهم بالتخاذل والتضليل .  واتفقوا على ان يبقىالأمر سرا حرصا على سمعة رجال الشرطة  .

 

-3-

 

خاطبني بلهجة ثائرة :

-هكذا تتركون أخاكم في الصحراء وتمضون ؟

-الله يشهد اننا لم نقصر بحقك ، ولكن الأمر كان اكبر منا .

-أي أمر ؟!  ما ان غبت عن انظاركم حتى نسيتموني : افترضوني رفيقا عابرا . أيحق لكم أن تتركوني بهذا الموقف ؟

احتضنه ابي وقبّله بحرارة سائلا :

-ولدي عباس اين كنت طيلة هذه الفترة ؟

لكن الضابط صرخ في وجوهنا .

-كفى تمثيلا . أتضحكون علينا ؟ اجلسوا في أماكنكم . ولا يحق لكم الكلام الا بأمر مني .

سأله ابي:

-أين وجدتموه . يا سيادة الضابط؟

-اجلس في مكانك و لا تتفوه بكلمة واحدة .

بعد فترة صمت توجه الضابط لأبي . وأمر كاتبه أن يدون ما يقال .  

-افدت - قبل سنة ونصف - أنك قد فقدت ولدك . أليس كذلك ؟

-نعم.

-متى عثرت عليه ؟

-لم اعثر عليه الا في هذه اللحظة . وفي هذا المكان .

-غير ان ابنك عباس ينكر كل هذا الكلام .

-أمر غير معقول ؟

-حسنا (  ووجه سؤاله إلى عباس ) أين كنت خلال السنة والنصف الماضية ؟

-كنت في البيت بين أهلي ومدرستي وأصدقائي .

-ولم تتعرض لحادثة اختطاف أبدا ؟

-لا

-سؤال اخر  …. ماذا كنت تفعل  هذه الليلة في الصحراء  ، حين ألقت الدورية القبض عليك ؟  

-اولا : الدورية لم تلق القبض علي ، بل أنا الذي ناديتهم بأعلى صوتي . رجوتهم أن يحملوني معهم الى المدينة. أما عما كنت افعله فقد أجبتك قبل قليل .

-أعد أجابتك .

-خرجنا صباح اليوم أنا و اخي الجالس أمامك وعدد  من الاصدقاء في سفرة صيد  عند وادي المهاري  . وفي الساعة الرابعة والنصف توقفنا عند تل المهالك وقررنا التوجه الى التل . وقد سبقتهم الى ارتقائه ، غير اني حين التفت ورائي لم أجد لهم أثرا ، فاضطررت الى العودة الى المدينة بمفردي . ولما كانت المسافة تزيد على العشرين كيلومترا ، فقد جن علي الليل وأنا ما أزال أركض وسط الصحراء . وحين أبصرت ضوء سيارتكم توجهت نحوها فنقلتموني الى هنا .

-ها … ماذا تقولان ؟

اجبت بحيرة وذهول .

-لكنني كنت هذا اليوم في الدائرة .

رد أخي

-اليوم عطلة رسمية .

-لماذا ؟

-انه يوم الجمعة .

عقب الضابط بسخرية

-اليوم هو الأربعاء أيها الشاطر .

-ماذا ؟ أتسخرون مني ؟

تدخل أبي :

-سيادة الضابط أن ما رواه عباس قد وقع فعلا يوم الأول من آذار  في العام الماضي وليس هذا اليوم  . وهو مثبت في ملف  القضية .

-حسنا: المسألة تحتاج الى دراسة .

 أشار الى شرطي أن يقتاد عباسا الى زنزانة الحجز ، حاول أبي الاعتراض لكن الضابط قال :

- هذا عملنا ونحن أدرى به

قلت له:

-المسألة اصبحت واضحة فهو مصاب بفقدان الذاكرة .

-وهناك احتمال أخر.  ربما كان متورطا في قضية خطيرة لا يستطيع البوح بها .

 

 

-4-

 

بعد عدة أيام أطلق سراح أخي . وبقي غير مصدق انه قضى سنة ونصف السنة بعيدا عنا . و كلما حاصرناه بأسئلتنا ينفجر بالبكاء ويصرخ فينا .

-لا اتذكر شيئا . والله لا أتذكر .

-والكنز ؟ كنت بعد ارتقائك التل  تنادي علينا أن نسرع  وتقول انك وجدت كنزا من الذهب .

-كل ما أتذكر 00 اني صعدت التل وحين شارفت الوصول الى القمة التفتت نحوكم  ، فلم أجدكم  . ناديتكم فلم تجيبوا . عدت مسرعا الى السيارة ، فلم أجدها في مكانها .. أول الأمر تصورتكم تختبئون في مكان ما لاختبار شجاعتي . فتظاهرت بعدم المبالاة وسرت بهدوء نحو المدينة لكن السكون المخيف الذي يخيم على الصحراء جعلني أغذ السير مسرعا وحين غابت الشمس بدأت أعدو بأقصى سرعتي .

وفي النهاية نكف عن طرح الاسئلة . ونحمد الله على عودته سالما  .

لقد لاحظت على عباس انه صار منطويا هادئا . ولم يعد ذلك الفتى المتمرد الجامح الذي كانه . وكانت تنتابه بين آونة وأخرى كوابيس ثقيلة يهب على إثرها مذعورا من نومه : هاتفا ( الشيخاليين .. الشيخاليين .. ))  … وحين نهرع اليه ونسأله عما رآه  وعن معنى (( الشيخاليين )) يظل مذهولا ، وينكر أنه ردد هذه العبارة .¸

لقد واصل دراسته بتفوق ملفت للنظر . وأصر على دخول كلية العلوم ( قسم الجيولوجيا ) .. ونجح بتفوق في السنة الأولى .. ومع الأشهر الأولى من السنة الثانية  بدأت الكوابيس تنهش نومه بشكل متواصل . فصار شارد الذهن مشتت الأفكار ، خائفا من المجهول . مما اضطره أن يبعث لي ببرقية يدعوني فيها للحضور الى العاصمة .ومرافقته لمراجعة طبيب نفسي  . وتواصلت زياراتنا للطبيب الذي اخبرنا أن شفاء عباس مرهون بإعادة الذاكرة له عن طريق سلسلة من الجلسات التحليلية    كان آخر لقاء لي بعباس في مقهى صغيرة تقع على مقربة من مبنى كليته  . جاءني شاحب الوجه مرتعش الساقين  ، وقبل أن يحتسي قدح الشاي قال :

-أراني أقف على حافة الجنون .

-كيف ؟

-تصرفت اليوم تصرفا غير منطقي في قاعة الدرس 

-00000

ارتشف من كوب الشاي وواصل حديثه :

-(( كان الاستاذ يستعرض النظريات التي تناقش باطن الأرض   …تناولها بعرض موجز . وأنهى حديثه بالتطرق الى نظرية فحواها ان الأرض مجوفة  وقد وصفها بأنها نظرية لا يعتد بها  . وأن علماء الجيولوجيا يستخفون بصاحب هذه النظرية … عند ذاك وجدت نفسي أقف محتجا وأرد على الاستاذ بنبرة غليظة :

-من قال لك ان الأرض ليست مجوفة ؟

-القرائن العلمية تقول ذلك وقد درسناها مفصلة خلال الشهر الماضي   .

-تعني أجهزة رصد الزلازل   . وتغيير ذبذبات م وذبذبات ط   .. أنها ليست أدلة كافية أبدا ويبقى الرأي القائل بأن الأرض مجوفة هو الحجة الدامغة .

-وما الدليل  ؟

-الدليل  آني رأيتها بعيني هاتين  … وصلت الى باطن الأرض ووجدتها مجوفة .

تساءل الاستاذ مستغربا :

-وصلت الى باطن الأرض  ؟ … كيف ؟

علق أحد الطلبة :

- في الحلم طبعا   .

ضجت قاعة الدرس بالضحك  وعبارات السخرية ووجدتني أترنح على مقعدي مذهولا   .. ولم ينقذني من مواصلة توبيخ الاستاذ لي إلا رنين الجرس   ومغادرة القاعة  .

وجدت نفسي غير قادر على مواصلة بقية المحاضرات فغادرت الكلية هائما في الطرقات ابحث عن تفسير  مقنع لتصرفي هذا  … فحين كنت أتفوه بتلك الكلمات لم أكن مازحا و لا متهكما  بل كنت جادا كل الجد ومقتنعا تمام الاقتناع بما قلت  .  علما بأن كل ما درسناه - خلال السنتين الماضيتين  - يؤكد على ان الأرض لم تكن مجوفة  . وأن حرارة باطن الأرض تصل الى أربعة آلاف درجة مئوية تقريبا  . فكيف تسنى لذلك الوهم أن يتغلغل الى ذهني  . وفرض نفسه على تفكيري ؟ …. ثم  ما معنى اني وصلت الى باطن الأرض ووجدتها مجوفة ؟ أهو بداية إلهذيان  ؟ أم هي الافكار التسلطية   ؟ .. كما يسميها  علماء النفس .

 

 

-5-

 

السكون العميق والآنارة الخافتة يضفيان على الغرفة جوا رهيبا . ويوحيان بحالة من الترقب الغامض .. نبرات الطبيب الرخيمة إلهادئة ذات مفعول سحري ليس على أخي فقط . بل علي شخصيا  ، انا القابع في زاوية من الغرفة ، مترقبا ما تسفر عنه  الجلسة التحليلية ..أمر الطبيب أخي  بالتمدد على السرير والاسترخاء التام . والتركيز الذهني  ثم بدأ من نقطة الصفر ، حيث يبدأ كل يوم :

-قلنا توقفت سيارتكم على مقربة من تل المهالك  ... وبعد . ماذا جرى ؟

بدأ أخي يقص تفصيلات الحادثة التي يقصها كل يوم حتى  يصل الى ارتقائه قمة التل . فيتوقف عندها عاجزا عن التذكر . لكنه هذا اليوم قد واصل سرد الحكاية  قائلا :

-ارتقيت التل  .. تجولت على قمته .

-ماذا رأيت هناك ؟ تذكر بالتفصيل .

-قفزت من كثيب الى كثيب . تأملت الصحراء الممتدة أمامي .. تابعت وادي المهاري الملتوي وسط الصحراء  حتى غاب في الافق البعيد .

-وبعد . ماذا فعلت ؟

-تجولت قليلا . رأيت بقعة معشبة  فاتجهت نحوها .

-وبعد. تكلم بهدوء . ولا تتوقف .

-أبصرت في زاوية شيئا لامعا فاتجهت نحوه  … كان جسما بيضويا من الذهب … حاولت حمله لكنه كان ثقيلا … انه ثقيل جدا . لا استطيع زحزحته  من مكانه .يا إلهي انه من الذهب الخالص   … انا متأكد انه من الذهب  … لو كان من معدن آخر لما أحتمل المطر والغبار المتواصل دون أن يصدأ … ركضت نحو أعلى صخرة في التل . وناديت جماعتي   … أخبرتهم بوجود الكنز  … طلبت منهم الصعود  … ولكنهم ظلوا يسيرون بهدوء . وكأن الأمر مزحة سمجة واصلت ندائي لهم  . وفجأة حصل ارتباك في صفوفهم  . ركض اثنان منهم عائدين الى السيارة … رأيت أخي يصوب بندقية نحو  أسفل التل  … تساءلت : ما الأمر . لكن رصاص البنادق انهمر على  أسفل التل بغزارة …  قفزت من الصخرة وتوجهت هابطا نحوهم  … وفي طريقي رأيت بيضة ذهبية كبيرة كالتي رأيتها قبل قليل .. كانت تتقدم نحوي وتنفث لهبا ازرق تصوبه نحوي فتصيبني صعقة تيار كهربائي   … اضطررت  الى إلهرب أمامها صاعدا الى القمة  ، والبيضة في أثري . تلسعني بالصعقة الكهربائية كلما أبطأت  في العدو … انطلقت بأقصى سرعتي ، محاولا إلهبوط من السفح الآخر  … لكن بيضة ثانية اعترضت طريقي فغيرت مساري باتجاه القمة  ثانية … ظللت أقفز من كثيب الى أخر  والبيضتان الذهبيتان في أثري  .. كانتا تدفعانني باتجاه كهف في قمة التل  . لم يكن أمامي الا أن الج ذلك الكهف  … كان يهبط بي الى الأسفل والبيضتان تنيران الطريق أمامي بضوء أزرق باهت . وكلما حاولت إلهبوط صعقتني إحداهما بنفثة كهربائية  ؛ فأواصل إلهبوط    …توغلت في ذلك النفق المنحدر مسافة طويلة  . والبيضتان الذهبيتان في اثري   … وفجأة ، انصفق ورائي باب . وحل ظلام دامس  … يا إلهي  … ظلام دامس … ظلام …ظلام… ظلام …

كان عباس يصرخ من سريره كمن يرزح تحت وطأة كابوس مرعب …أمره الطبيب بالسكوت ، منهيا الجلسة  . نهض عباس من السرير مرتعشا . وجسده يتصبب عرقا . ناوله الطبيب قرصا مهدئا . وأضاف :

- لقد عثرنا على مفتاح المشكلة … ذاكرتك عادت اليك   .. والآن عليك أن تعود الى البيت وتنام نوما هادئا   .. وغدا تعود وتكمل لي بقية الامور.

ثم توجه إليّ ونصحني الا أوجه له أي سؤال عن هذا الموضوع حتى يوم غد .

غادرنا عيادة الطبيب . وبعد أن أوصلته الى القسم الداخلي  افترقنا على أمل اللقاء غدا في نفس الزمان والمكان  .

 

-6-

 

وصلت المقهى قبل الموعد بساعة كاملة  . تملؤني اللهفة لسماع ما يرويه عباس ، عن غيبته التي دامت سنة ونصف ، والتي امحت من ذاكرته طيلة السنوات الماضية .

ولكن نادل المقهى فاجأني بتقديم مظروفين احدهما يحوي رسالة مغلقة . والاخر يضم رزمة ورقية  . كما أخبرني ان أخي حضر صباح اليوم  . وأوصاه بتسليم المظروفين الي . استغربت الأمر . وبادرت الى فتح المظروف الأصغر . فرأيت الرسالة التالية مكتوبة بخط أخي عباس   :

((أخي العزيز

عذرا لك ولأبوي اذا كنت قد ازمعت الرحيل دون أن أودعكم . اذ اني على يقين انكم ستمنعونني عن السفر بشتى السبل  . حتى لو اقتضى الأمر تكبيلي بالسلاسل أو ارسالي الى مستشفى الأمراض العقلية  .

اخي العزيز

 حين تفتح هذه الرسالة وتبدأ بقراءتها . أكون قد دخلت عالما آخر أعرفه بخباياه ودهاليزه وكل معالمه . ولم يبق مني أمامكم غير الذكريات وهذه الاوراق التي بين  يديك . فعذرا على هذه المفاجأة غير السارة . وأرجو ن تكونوا مطمئنين فأنا في أمان تام هناك  . أرجو أن تصدقني في كل كلمة أقولها لك في هاتين الرسالتين . ولا تراودك الشكوك في اختلال قواي العقلية . لقد انزاحت الغشاوة عن بصري بعد هذه السنين . ان السنة والنصف المجهولة من حياتي عادت واضحة أمام عيني بكل تفصيلاتها … وقد دونتها لكم على هذه الوريقات ، لأني ادرك كم انتم متعطشون لمعرفة حقيقتها   … أما الاسباب الموجبة لرحيلي المفاجئ فلا بد أن تكونوا على بينة منها لعلي أجد لنفسي عذرا أمامكم في شروعي المفاجئ بالرحيل .

 اخي العزيز

حين غادرتك الليلة البارحة . أويت الى فراشي تنفيذا لتعليمات الطبيب . ونمت نوما عميقا . واستيقظت بعد منتصف الليل شاعرا بحيوية متدفقة : وسعادة غامرة . وعندها تسلمت رسالة تخاطرية من الآنسة  سيليا الإنليلية . تدعونني فيها الى العودة الى عالم الإنليليين . وتخبرني ان الظروف التي اضطرتني الى مغادرة ذلك العالم في 24/ 7/ 1986 قد زالت تماما . كما حذرتني من خطر يحدق بي من قبل الكوريين اذا ما بقيت على سطح الكرة الأرضية اذ ان سياسة الكوريين الجديدة تقضي باختطاف البشر الذين تربطهم علاقة بالأنليليين للاستفادة من معلوماتهم  … كما اخبرتني انها وراء تلك الكوابيس التي كنت أتعرض لها خلال الفترة الماضية . انها كانت تمارس - بالاتصال التخاطري - من موقعها غسلا لذاكرتي من آثار الاشعة التي سلطوها علي يوم خروجي الى سطح الأرض  في 24/7/  1986  فأفقدوني الذاكرة حرصا منهم على عدم ذيوع المعلومات التي كنت أعلمها عن عالمهم . لقد استمرت سيليا تمارس غسلا لذاكرتي طيلة الاشهر الأربعة الماضية . اذ ان تسلمي للرسالة التخاطرية مرهون بعودة الذاكرة الي .

أخي العزيز

حين قررت الرحيل شرعت بكتابة هذه الوريقات لكم استعرض فيها ما تعرضت له خلال فترة غيابي عن سطح الأرض  من 1/3/ 1985 الى 24/7/1986 وستجد كل هذه المعلومات في المظروف الاخر .

وفي الختام أرجو أن تكونوا مطمئنين ولا تشغلوا انفسكم في البحث عني ودمتم بخير. ))

 

 

الأرض الجوفاء

الفصل الثاني

 

-1-

 

ترى أيّة قوة سحرية اختارتني من بين ملايين البشر فوسوست في أذني أن أرافق أخي وأصدقائه في تلك السفرة ، وأن اندفع بذلك التهور نحو تل المهالك باحثا عن المجهول ؟ … وأن اتفحص بيدي تلك البيضة الذهبية الكبيرة ثم اصرخ بملء فمي معلنا عن وجود كنز ثمين .  أكان ذلك تصرفا اخترته لنفسي بملء إرادتي ؟ أم  كان أمرا فرضه علي الكوريون  - كما يزعم الإنليليون -  فجعلوا مني آلة يحركونها من مواقعهم ؟

 

لقد اعتقد الإنليليون بذلك فسلطوا علي تلك الآلة العجيبة - التي اعتقدتها أول الأمر بيضة ذهبية كبيرة - فاقتادتني عبر ذلك النفق الملتوي الذي انحدر بي الى الاعماق حتى تركتني  عند الفسحة الملتحفة بالظلمة الداكنة ، أعيش حالة من إلهلع الشديد ، لقد صرخت بأعلى صوتي : استغثت ، واستنجدت .. ولكن من يسمع استغاثتي ! حاولت أن أجد بابا للخروج فلم تعثر كفاي الا على جدران صخرية خشنة ، وبعد دقائق قليلة توقفت عن الصراخ وبدأت افكر بجدية ، وقادني تفكيري الى الاعتقاد بأن أكواما من التراب قد انهارت على ذلك الممر الطويل فدفنت‘ حيا تحت تراب تل المهالك . وان الموت قادم لا محالة ، لولا اني سمعت صرير باب يفتح وأبصرت خيطا واهنا من النور يتسلل عبر ممر ضيق ينفتح أمامي ، عاودني بعض الاطمئنان المشوب بالقلق ، وتقدمت بخطى حذرة متجها الى مصدر النور الواهن  ، وبعد ان اجتزت الممر الطويل انعطفت يسارا ، فأبصرت بابا يفتح أمامي ، ووجدت نفسي في صالة كبيرة يتوسطها تمثال ضخم من الحجر الأسود لمخلوق غريب كان يقف منتصبا على منصة عريضة ، له عينان خضراوان مشعتان تمتدان طوليا على جانبي انفه ولم يكن فمه غير شق طويل  أسفل أنفه دونما شفتين ، تفحصته جيدا ، وأثارت انتباهي النقوش المرسومة على منصته ، تأملتها ،  فتأكد لي انها كتابة مسمارية كالتي شاهدتها في كتب التاريخ القديم ، التي تملأ مكتبة أخي .

   

وبزغت في ذهني فكرة انني دخلت منطقة اثرية ، وتساءلت مع نفسي : لكن هذه الاضواء الزرقاء ، ما مصدرها ؟ ! أجلت النظر في سقف الصالة فوجدتها تشع باللون الازرق ، وأعدت التساؤل :  هل كان اجدادنا القدامى قد استعملوا الكهرباء ؟ّ! ….واذا كانوا كذلك فهل ان مصدر الطاقة ما زال فاعلا منذ آلاف السنين ؟! … وخرجت بنتيجة مقنعة : وهي ان الأثريين لا بد ان توصلوا الى معرفة هذه المنطقة وأناروها بالكهرباء ، وربما كانت تنقيباتهم سرية ، فحرصوا على احتجاز كل من يصل الى  تل المهالك .

    

اتكأت بمرفقي على حافة المنصة ووضعت رأسي  بين كفي  مستجمعا شتات أفكاري ، باحثا عن تفسير منطقي لما أراه ، ولكن صوتا انثويا عميقا طرق أذني قائلا :

-قف بأدب أمام تمثال إنليل العظيم .

   

التفتّ فزعا ناحية الصوت . واذا بي أرى مخلوقا يشبه التمثال الذي اتكئ على منصته .. وكان طوله لا يزيد على المتر الواحد وكان يحمل نفس ملامح التمثال لولا بعض الصفات الآنثوية  . وعاود المخلوق نداءه

-قف بأدب أمام تمثال إنليل العظيم .

حاولت أن أهرب ، لكني وجدت ساقي عاجزتين عن الحركة بفعل الفزع المباغت الذي اعتراني . وبدأ باستجوابي :

-ما الذي اتى بك الى هنا ؟

حاولت أن أجيب فخرجت الكلمات من بين شفتي المرتعشتين متناثرة لا تحمل أي معنى :

-ما لك مذعور؟  لا أظن اني مرعبة الى هذه الدرجة .

   

فجأة. احسست فكرة عنيفة تسطع في ذهني فعلا . ما لي مذعور الى هذا الحد ؟! لن أتعرض لأكثر من الموت  . فلأواجه قدري بشجاعة  . أحسست بقامتي تنتصب شامخة .أمام تلك المخلوقة التي لا يزيد طولها على المتر الواحد   .. أجبتها ونظراتي الجريئة تخترق جسدها الضئيل .

- لست مذعورا . لكني فوجئت بوجودك أمامي .

-حسنا تقدم أمامي إلى الغرفة الاخرى .

  

هل أطاوعها ؟ أم أرفض الأمر ؟ … لقد  اقتادتني قبل قليل تلك الآلة الصفراء الى هذا المكان المرعب , فالى أين ستقودني تلك المخلوقة الحية ؟ لو كنت قد تحملت آلام الصعقة الكهربائية وقاومت تلك الآلة العنيدة لكانت السلامة حليفي  . ولكنني ضعفت أمامها حتى تركتها توصلني الى هذا المكان   …. فهل أسلم قيادي الى هذه القزمة  لتوصلني الى عالم أكثر رعبا ؟ أم أقاومها ؟ وتذكرت المدية الحادة التي كنت أتأبطها فمنحتني قوة التحدي وتحفزت لجز رقبتها  . ويبدو أنها شعرت بما أفكر به . فبادرتني الى القول :

-اعطني السكين التي تحت قميصك ؟

تأملتها جيدا كانت يداها خاليتين من أي سلاح . وقد حزمت أصابعها بخواتم ذهبية ذات أحجار متلألئة . ومن خلال قميصها وبنطلونها اللاصقين على جسدها النحيل أدركت انها لم تخبئ أي سلاح  . سمعتها تكرر النداء :

-قلت لك اعطني السكين المخبأة  .

سحبت مديتي وشهرتها أمامها قائلا  :

-احذري الاقتراب. أي حركة سأحز رقبتك .

-بدون تهور ، أعطني السكين ، وسر أمامي هادئا .

 

المسافة التي تفصلني عنها تقارب أربعة الامتار . تقدمت منها حذرا . وقلت بصوت لا يعرف الوجل  :

-ارفعي يديك إلى الأعلى والا سأحز رقبتك  .

-حسنا … كما تريد .

  

رفعت إحدى يديها الى الاعلى، فأبصرت حزمة ضوء أصفر تخرج من أحد خواتمها لتنغرس في كفي التي تحمل السكين    … شعرت بيدي باردة كالثلج والسكين تسقط أرضا … هي تقدمت نحوي والتقطت السكين بهدوء   … ثم أمسكت بيدي الأخرى قائلة  :

-والان تقدم أمامي بكل هدوء  .

انهارت أبراج العنفوان داخلي شعرت بضآلتي أمام تلك المخلوقة التي شلت ذراعي بحركة طفيفة من أصبعها … انقدت معها الى غرفة جانبية  . وواجهنا مخلوق آخر يحمل ملامحها لولا كثرة التجاعيد التي تغطي وجهه واللحية الحمراء النابتة  أسفل فمه   . تراطنا بلغة غريبة كانت أقرب الى المواء ، منها الى الاصوات الآدمية ثم التفت المخلوق الكبير الي  . وسألني باقتضاب عن اسمي وعمري ومهنتي ومحل سكناي  . ثم عاد الى الرطانة مع الآنثى  . لاحظت علامات الآنفعال بادية على وجهها بينما كان كلامه بلهجة باردة    …. وأخيرا حرك كفه نحوي فصدرت اشعة وردية من أحد خواتمه  . فاحسست اثرها بألم لا يوصف ثم سقطت على الأرض  . ووجدت نفسي مشلولا عن الحركة وعاجزا عن الكلام  . واصلت الآنثى احتجاجها بنبرة عالية . وظل الذكر هادئا  . بينما تقدم مخلوقان آخران وحملاني الى مركبة اســطوانية ادخـلاني فيها وغادرا  ، التحقت الانثى بالمركبة واغلقت الباب وراءها  . ضغطت عددا من الازرار فتحركت المركبة الى الامام . 

 

 

-2-

 

بعد ربع ساعة تقريبا توقفت المركبة ، وهبطت منها الآنثى ، ثم دخل اثنان  وحملاني خارجا  . تركاني على الأرض في بهو كبير يتوسطه تمثال أسود يشبه ذاك الذي رأيته قبل قليل  … كان البهو يطفح بالحركة الدائبة لتلك المخلوقات التي تمر من أمامي راشقة إياي بنظرات الازدراء . وبعد برهة عادت مرافقتي وأمرت الاثنين الآخرين بحملي  والاتجاه الى رتل طويل من المخلوقات التي كانت تقف أمام ما يشبه المصعد الكهربائي . كان يدخله عدد من الواقفين فيهبط قليلا ثم تدخله وجبة أخرى   .….حتى اذا وصلنا اليه دخلت مرافقتي .  وأمرت المخلوقين بوضعي على مقعد في مقصورة المصعد ومغادرة المكان . وما هي الا دقائق حتى احسست اني أهبط في هوة عميقة . كان المصعد يهبط بسرعة كبيرة مما جعلني أحس بالدوار والغثيان . اذ ذاك التفتت الي مرافقتي وقالت :

-لولا تهورك ، والسكين التي شهرتها في وجهي لما تعرضت لكل هذه الآلام .

لم يكن أمامي أن أعقب على كلامها لأنني مشلول اللسان والحركة   … أضافت :

-صدقني انك لن تجد من بين جميع الإنليليين من هو أكثر رأفة بك .

-00000000

-أ تعدني بأنك لن تعود الى تهورك  : اذا ما عادت لك الحركة ثانية ؟

لم يكن بمقدوري الرد عليها الا بنظرات الاستنجاد  التي تطفح على عيني … أضافت :

-سأخلصك من آلامك على مسؤوليتي الخاصة 

رفعت كفها باتجاهي مسلطة أحد خواتمها بأشعة بيضاء  . أحسست برشقة باردة تنهمر على جسدي تغسل كل تلك الآلام التي كنت أعانيها . جلست على مقعدي بشكل طبيعي ، وكلمات الشكر والامتنان تنساب من بين شفتي . وعقبت على كلمات الشكر قائلة :

- لم أكن موافقة على فكرة شلك ولعلك لاحظت احتجاجي ضده حينما سلط عليك الأشعة الموجعة . ولولا المكانة المرموقة التي يحتلها أبي لتعرضت الى عقوبة جديدة لاحتجاجي على حارس البوابة ، ومخالفة الأمر ، واعادتك الى وضعك الطبيعي   .

- ………………….

-لكن ماذا أفعل ؟ ذلك هو تكويني انني ارفض اساليب التعذيب ضد أي من المخلوقات .

ظل المصعد الكهربائي يواصل هبوطه السريع .  وساعتي تشير الى السادسة ، اذن قد مرت ساعتان على صعودي تل المهالك . … ولعلها انتبهت الى النظرة التي القيتها على ساعتي . فعقبت :

-أمامنا عشر ساعات للوصول الى العاصمة     .

-أية عاصمة ؟

-نفر ، عاصمة الإنليليين .

-لكنني اشعر ان المركبة تهبط بي الى الأسفل؟

-طبعا فعاصمتنا نفر في جوف الأرض لا على سطحها .

تذكرت سفرة مدرسية قمت بها الى مدينة نفر الاثرية فقلت :

-لكن عهدي بنفر على سطح الأرض لا في جوفها .

-انك تعني مدينة نفر الاثرية . وقد هجرها أجدادنا منذ عشرة آلاف سنة . بعد ان استطاعوا الوصول الى جوف الأرض وانشاء مدينة نفر الحديثة هناك . فلم تعد نفر الأثرية غير بوابة من بوابات العالم الإنليلي .

شجعني تعاملها الرقيق على ان أسألها عما سأتعرض له بعد وصولي الى العاصمة  . فأجابت :

-لاجراء التحقيق معك .

-وماذا فعلت حتى تحققوا معي ؟

-انت متهم بالتعاون مع الكوريين والتجسس على مواقعنا على سطح الأرض  .

-……..

-هل وصلت الى مواقع الكوريين ؟   

-اقسم لك اني لم أر كوريا ولم أغادر بلادي  طيلة حياتي .

-لا تتغاب اني لم أقصد سكان كوريا من البشر . اقصد الجنس الذي ينافسنا في السيطرة على المجموعة الشمسية .

-لا أعرف عن تلك الكائنات شيئا .

-ربما كنت صادقا ، والتحقيق سيكشف كل شئ.

-اذا ثبتت براءتي فهل ستعيدونني الى مدينتي ؟

-لا أظن  … من يدخل عالمنا فلن يغادره .

يبدو ان تلك الخيبة المريرة التي كنت أعيشها كانت مرسومة على وجهي بشكل واضح . فقد احسست بنظرات الشفقة على عينيها وهي تعقب :

-في حالات نادرة قد يسمحون لأسراهم من البشر أن يغادروا الى سطح الأرض اذا أمنوا جانبهم ..

من الواضح انها لم تكن صادقة . ان ما تقوله ليس إلا تخفيفا عن اليأس الذي حل بي … تساءلت مع نفسي هل انها صادقة في تعاملها الرقيق  معي ؟ أم ان ذلك قناع للتلاعب بأعصابي ؟ …. هل ان صلتي باهلي وجميع البشر قد انقطعت فعلا . هل سأتعرض لتعذيب شديد كالذي اعانيه قبل قليل على يد المخلوق العجوز ؟ …. وقطعت سلسلة افكاري بقولها :

-أعدك اني سأساعدك قدر ما استطيع .

كانت شفتاي متيبستين من شدة العطش . فطلبت منها قدح ماء …. مالت قليلا الى جدار المصعد ورطنت أمام مشبك صغير   …. وبعد دقائق انفرجت أمامنا فوهة وخرج منها مكعب ورقي  … بادرت هي الى فتحه فأخرجت زجاجة ماء وشرائح مستطيلة من العجين المطعم باللحم والخضروات  . ناولتني زجاجة الماء فوجدت صعوبة في حملها لثقلها الشديد . تساءلت باستغراب :

-أهذا ماء ؟

-نعم

-لكنه ثقيل جدا .

-طبعا . فنحن نتجه الى جوف الأرض . وكلما أوغلنا في العمق زادت الأشياء ثقلا .

ارتشفت جرعة وناولتني شريحة من الطعام بدأت امضغها على مضض نزولا عند الحاحها.

 

-3-

 

انقضت ساعتان والمصعد ما زال هابطا الى أغوار الأرض.والإنليلية سيليا ( كما عرفتني بنفسها أثناء تناولنا الطعام ) ما زالت تواصل حديثها حتى انستني المستقبل المظلم الذي ينتظرني بعد ساعات . لكن جانبا من حديثها لم استطع أن استوعبه بوضوح الا بعد مرور سنة كاملة . فقد أخبرتني بأنها اعتادت منذ عدة سنوات أن تغادر العاصمة حين يحل العيد الأعظم وتنزوي في بوابة تل المهالك هربا من بشاعة الاحتفالات التي تجري في نفر   …..فتقضي أيام العيد في عزلة وسلام  . وحين سألتها عن سر هروبها من الاحتفالات وقطعها ثلاثة آلاف كيلومترا ، فرارا من مراسيم العيد الأعظم غيرت مجرى الحديث الى موضوع آخر .

 

أقول: لم أفهم سر ذلك التصرف حتى حل العيد الأعظم ثانية ، بعد ان قضيت سنة تقويمية كاملة في سجن نفر ، فعشت بشاعة تلك الاحتفالات بنفسي   … كان السجانون الإنليليون مبتهجين بقدوم العيد . تقدم مني أحدهم وقال :

-ستشاركنا احتفالاتنا بالعيد هذا اليوم .

اجبت بسذاجة :

-سأكون سعيدا بذلك .

-ونحن نريد لك السعادة . تفضل معنا .

 

اقتادني الى غرفة صغيرة ،أمرني بخلع ملابسي . ثم ألصق اقراصا على قدمي وذراعي وسائر أعضاء جسدي ثم أمرني  بارتداء ملابسي . وخرج بي مغادرا السجن الى إحدى الساحات الكبرى في مدينتهم . وجدتها تزدحم بآلاف المخلوقات الإنليلية المحتفلة بالعيد توجهنا الى خشبة مسرح كبير . أوقفني السجان في موضع من المسرح  , وأمرني الا اتحرك من مكاني . وما هي الا  دقائق حتى توافد عدد من الإنليليين اتضح من هيئاتهم انهم سجناء . ثم دخل رجل آدمي يناهز الستين تأملته وتأملني طويلا . وهممت أن أكلمه لولا أن زجرني أحد السجانين فلذت بالصمت  … استغربت كثيرا من حالة إلهلع التي ترتسم على وجه الرجل العجوز والآنليليين الواقفين على خشبة المسرح . ولم يطل الآنتظار… انفرجت الستارة   … وأطللنا على الجماهير المحتشدة . عزفت موسيقى هادئة أول الأمر ثم أخذت تتصاعد تدريجيا . وفجأة دوت صرخة من أحد الإنليليين الواقفين على المسرح . رفع ذراعه الى الاعلى . ثم رفع ذراعه الأخرى . فساقه الاخرى … كان يتحرك حركات عنيفة متناغمة فيما بينها ، ومنسجمة مع ايقاع الموسيقى الصاخب . غير أن وجهه كان يحمل علامات التوجع الشديد .أهو منسجم الى هذا الحد مع اللحن ؟ وما يطفح على وجهه أهو علامات توجع أم دلالة الآنفعال والآنسجام مع ايقاع العزف؟  …… وأخيرا هوى على خشبة المسرح طريحا .  وحل محله إنليلي آخر مواصلا الرقص والزعيق . جاء دور الآدمي الكهل وكان الأبرع في الأداء . ترى أين تعلم هذه الرقصة الغريبة ؟؟ وما ان تهاوى على خشبة المسرح حتى شعرت بصعقة كهربائية  في قدمي ؛ فجأرت رافعا رأسي . تلتها صعقة أخرى على  أسفل ظهري فارتعش الجذع مني . وثالثة على ذراعي ثم قدمي الاخرى …. توالت علي الصعقات الكهربائية وجسدي يتحرك دون إرادتي والصرخات تتفجر من حنجرتي جشاء ممزقة .

لا أدري  كم مر من الوقت حتى توقفت الصدمات الكهربائية . فأتهاوى على جسد أحد الراقدين  على الأرض . وينهض الآدمي الكهل مواصلا الرقص من جديد ليدخل البهجة والسرور على قلوب الإنليليين المحتفلين بعيدهم العظيم . فجأة توقف العزف . وسمعت صخبا غير اعتيادي في الساحة ورأيت وميض أضواء  . واذا بعدد من الإنليليين يقتحمون المسرح والاضواء الحمراء تومض من خواتمهم فيسقط السجانون أرضا   …. ثم رأيت مركبة تقف أمام المسرح . فينهض السجناء الإنليليون الذين كانوا يشاركونني الرقص ويدلفون مسرعين داخل المركبة . يتبعهم الآدمي العجوز . ولم أعرف التصرف المناسب . فبقيت مضطجعا على أرضية المسرح . وحانت من الآدمي الكهل التفاتة نحوي . عاد اثرها إلي . وجذبني من ذراعي قائلا :

-اسرع حانت ساعة الخلاص .

 

دلفنا داخل المركبة  . وتحركت بنا مسرعة . اذ ذاك ذكرت سيليا . وعرفت لماذا كانت تهرب من العاصمة أيام العيد الأعظم ، فتقطع ثلاثة آلاف كيلومترا الى تل المهالك  .هاربة من بشاعة الاحتفالات.

 

-4-

 

غيرت سيليا دفة الحديث هربا من السؤال المحير : لماذا تهرب من احتفالات العيد العظيم ؟ اخذت تستعرض تاريخ الإنليليين الذين هبطوا الى الأرض قادمين من كوكب بعيد تفصله عنا خمسون سنة ضوئية   … كان ذلك قبل اكثر من اثني عشر الف عام . يوم غزت تلك المخلوقات بقيادة إنليل العظيم فضاء مجموعتنا الشمسية . هناك هاجمهم الكوريون فاضطروا الى ترك مركبتهم إلهائلة لألسنة النيران والنجاة بمركبات صغيرة هابطين على سطح القمر الأرضي ومعهم كل اجهزتهم الثمينة . بحكمة إنليل وبسالته استطاعوا إلهبوط على سطح الأرض.ومواجهة الكوريين الذين سبقوهم بألف سنة الى استيطان الكوكب الأرضي  … قالت سيليا :

- هبطت مركباتنا على سطح الأرض في اليوم الأول من آذار  فكان عيدنا الأعظم الذي نحتفل به كل عام . وجدير بالذكر ان أجدادك القدامى كانوا يشاركوننا الاحتفال بهذا العيد . حتى انهم جعلوه على رأس اعيادهم الدينية   …. على البقعة التي حطت عليها مركبتنا الفضائية ، انشأنا أول مدينة على سطح الأرض . تلك هي نفر الأولى التي قلت انك رأيت آثارها . لقد شيدها اجدادنا بمساعدة اجدادكم البشر ، الذين كانوا بدائيين آن ذاك . فقد استطاع إنليل العظيم ان يكسب ولاءهم وحبهم لحد العبادة . فاستخدمهم أيدي عاملة في بناء مدينة نفر … قاطعتها متسائلا :

-كذلك قلت ان الكوريين قد سبقوكم بألف سنة في قدومهم الى الأرض . فلا بد انهم قد شيدوا مدنا مثل مدنكم .

- كلا . الكوريون مخلوقات برمائية لا تحتاج الى المساكن والمدن . ان مساكنهم لا تتعدى الآنفاق والدهاليز المتشعبة في اعماق البحار . وكل ما يحتاجونه من مبان هي المصانع ومخازن السلاح والذخيرة التي كانوا يبنونها تحت سطح الأرض  … لذا فأول مدينة تشيد على سطح الأرض هي مدينتنا نفر.    

-ترى. كيف سمح لكم الكوريون أن تشيدوا مدنكم وقلاعكم على سطح الأرض ؟

-لم يسمحوا لنا … لقد استمرت المعارك الدامية بيننا لمئات السنين .

-ولمن كان النصر في النهاية ؟

-الحرب سجال. في المعركة الأولى كان النصر للكوريين ، اذ ان قواعدهم الفضائية التي كانت تحرس مجموعتنا الشمسية استطاعت احراق المركبة إلهائلة التي يقودها إنليل على مقربة من القمر . كما قلت لك قبل قليل . وبعد هبوط إنليل وجيشه على الأرض دارت سلسلة من المعارك كنا متفوقين عليهم في الكفاءة والتطور العلمي . بينما كانوا متفوقين علينا في تكوينهم البرمائي ، الذي يمكنهم من العيش على اليابسة وفي أعماق البحار معا. كانت أخطر معركة تلك المبارزة الشهيرة التي جرت بين إنليل وكور العاشر ( كبير الكوريين ) على مقربة من نفر . وقد انتهت بمقتل كور. فطار صواب الكوريين وقرروا مواجهتنا بأعظم سلاح في أيديهم وهو القذيفة النووية . ولولا حكمة إنليل لقضت القذيفة النووية على الإنليليين جميعا وكل الاحياء البرية على الأرض . لكن إنليل قد احتاط للأمر فنصب دروعه الوقائية التي ردت القذيفة على اعقابها ، فعادت الى مواقع الكوريين في أعماق الخليج العربي ، مدمرة اياهم تدميرا شاملا …. كان من نتائج ذلك ان ارتفعت حرارة البحر وتبخر ماؤه . فانهمرت الأمطار الملوثة بالغبار الذري على اليابسة . وحدث ذلك الفيضان إلهائل . فماتت المزروعات وجفت الحياة . وتفشت الأمراض والمجاعة بين اجدادكم البشر …. عالج الإنليليون ذلك الموقف بأساليبهم المتطورة ، معتمدين على البشر وما يملكون من كفاءة جسدية . فبادروا الى تعليمهم الزراعة ، واستخدام الآلات البسيطة وفي مقدمتها الفأس وكان ذلك الاجراء خدمة للبشر والآنليليين معا  . فكان البشر يقدمون نسبة من انتاجهم للإنليلين عرفانا بالجميل .

ـ  ما ذا عن صراعكم اللاحق مع الكوريين ؟

-لقد فني اغلب الكوريين على الأرض ، بعد ان ارتدت القذيفة على مواقعهم  … وظلت الاغلبية الضئيلة ، التي كانت بعيدة عن موقع الآنفجار ، مختبئة في اعماق البحر غير قادرة على مواجهتنا بعد ان فقدت اسلحتها المتطورة ، ومصانعها العملاقة ، والكفاءات العالية . لكن المشكلة الكبرى كانت مع ابناء جنسهم خارج الأرض انهم يسيطرون على ربع مجرتنا تقريبا وقد اوقد نار غضبهم ضياع الكوكب الأرضي من قبضتهم .. فتهيأوا للانقضاض علينا … غير ان إنليل العظيم بادر الى حماية نفر بشبكة من الدروع الوقائية . كما طلب الاسناد من وطنه الأم . قاطعتها :

-ما هي وسيلتكم للاتصال بوطنكم ؟

-سؤال ذكي فعلا … تصور ، لو أردنا بث رسالة الى كوكبنا الأم بالموجات الراديوية ( وهي آخر اختراع توصل له البشر ) لتطلب وصولها خمسين سنة . واستغرق وصول الرد عليها خمسين سنة اخرى . لكن وسائلنا كانت اسرع من الموجات الراديوية بكثير ….. اننا نتصل بهم بالتخاطر ،  وهي وسيلة غير مقرونة بزمن ، كما انها لا تحتاج لأي آلة . انه اتصال بين العقل والعقل مهما بعدت المسافة   …. بالتخاطر اتصل إنليل بأبناء جنسه في الكوكب الأم طالبا الإسناد . فأوعزوا الى بعض قواعدهم القريبة من المجموعة الشمسية بمشاغلة الكوريين . بينما استثمر إنليل ذلك الوقت بأن أمر بحفر ثقب في الأرض يصل الى جوفها فكان هذا الممر الذي تقطعه مركبتنا الآن أول طريق يربط بين جوف الأرض وسطحها . وقبل أن يهلك أمر خليفته إنكي أن يشيد مدينة نفر الجديدة على الفوهة الاخرى من الممر لتكون ملجأ للإنليليين    اذا ما داهمهم الكوريون مستقبلا . ….. )).

 

-5-

 

في الوقت الذي تواصل سيليا حديثها عن أمجاد جدها كنت أعاني آلاما عضلية في كتفي وذراعي. توقعت ان ذلك نتيجة الجلوس المستمر . فحاولت أن أحرك احدى ساقي لأضعها على الاخرى . لكنني شعرت ان أكداسا ثقيلة تحط عليها. فقاطعت سيليا سائلا عن سبب هذه الظاهرة فأجابت :

-مسألة طبيعية فنحن نمر الآن في منتصف القشرة الأرضية . حيث تبلغ قوة جذب الأرض ذروتها في هذه المنطقة . فتكون الأشياء أثقل بكثير عما كانت عليه على سطح الأرض . وما هي الا دقائق حتى تعود الأمور الى وضعها الطبيعي . وخلال هذه الفترة أرجو أن تشغل نفسك بمشاهدة هذا الفلم الوثائقي القديم .

مالت سيليا ناحية الجدار ورطنت أمام المشبك وخلال دقيقة واحدة انفرجت أمامنا شاشة متوسطة المساحة وظهرت عليها كتابة مسمارية . قالت سيليا انه فلم وثائقي يصور المبارزة المصيرية بين إنليل وكور .ظهرت على الشاشة صورة لمخلوق يشبه تماما التمثال الذي رأيته أول دخولي عالم الإنليليين . ومن تعليق سيليا عرفت ان ذلك المخلوق هو إنليل بعينه . كان يلبس درعا يغطي كل جسده وقد امتلأ ذلك الدرع بكرات زجاجية مختلفة الأحجام ، متباينة الالوان  . كانت اصابعه ملأى بخواتم ذات فصوص ملونة . تقدم منه أحد اتباعه وسلمه قناعا وضعه على وجهه . ثم خوذة غطى بها رأسه . وبعد قليل تقدمت مركبة معدنية صغيرة . اتجه اليها إنليل وامتطاها . كما يمتطي الآنسان اتانا . حلقت به عاليا . بينما عرضت الشاشة ارتالا من الإنليليين المصطفين بشكل نظامي . كانوا جميعا يتابعون بأنظارهم إنليل ، وهو يطير بالمركبة . دار حولهم ثلاث دورات ثم اتجه نحو الجنوب الشرقي … أطلت من الشاشة غمامة برتقالية متموجة ، هتفت سيليا :

-ذلك هو كور…. بدا إنليل ومركبته ضئيلين أمام تلك الغمامة التي تغطي الجانب الاوسع من الشاشة . كانت تقف في إلهواء . وسلط عليها حزمة ضوئية حمراء ، من أحد خواتمه . فتلاشى الجانب الايمن منها . بينما أومضت الغمامة بضوء أحمر جعل إنليل يضيع في دخان كثيف .. وما هي الا لحظات حتى ظهر إنليل على ارتفاع شاهق . بينما تحولت الغمامة الى خيط برتقالي رفيع يمتد من الأرض . ويغيب في السماء . سلط إنليل اشعته على الخيط الأرجواني . وبرق الخيط في الوقت نفسه ضوءا بنفسجيا متجها  نحو إنليل . تلاشى النصف الأسفل من الخيط وغرق إنليل في موجات الدخان الكثيف . وفجأة بزغ من أحد زوايا الشاشة ليسلط اشعته على الخيط البرتقالي الذي بدأ يتسع بحركة تموجية فيطوق إنليل ثم يلتهمه و لا يظهر غير  وميض متعاقب وأزيز متقطع … 

تستمر المعركة على تلك الحالة قرابة خمس دقائق دون أن يبدو لإنليل أثر على الشاشة …. أخيرا انطلقت صرخة عنيفة جشاء وهتفت سيليا : لقد سقط كور تبددت البقعة البرتقالية تدريجيا . وظهر إنليل محوّما بمركبته فوق مخلوق غريب . يتلوى على الأرض . هتفت سيليا بجذل طفولي :

-انظر  ان كور يلفظ انفاسه الأخيرة .

جمد المخلوق على التراب وحطت قربه المركبة الصغيرة ترجل منها إنليل متوجها نحو جثة كور . مد يده وقلب الجثة على ظهرها . فانكشف وجه كور القبيح . كان ذا عينين حمراوين مدورتين ، ومنخرين صغيرين يقعان على جانبي فمه المقوس العريض . وله ذراعان طويلتان ينتهي كل منهما بثلاثة أصابع مخلبية . أما جذعه فيأخذ شكل ثعبان طويل على جانبيه سلسلتا زعانف حمراء . وينتهي بذيل زعنفي كذيل السمكة .

هممت أن أسألها عن سر التبدل في شكل كور بعد أن قتل لولا ان قرع جرس عنيف فضغطت سيليا على زرين في مسندي الكرسيين . تحركت أحزمة جلدية فشدتنا بقوة الى الكرسيين . ثم اعقب ذلك ان انفلت الكرسيان بحركة بطيئة فصار رأسانا الى أعلى وأرجلنا الى  أسفل. واذا بالكرسيين يصعدان الى فوق حتى يلتصقا   بالسقف . توقعت ان المصعد تعرض الى خلل أو اصطدام لولا ان طمأنتني سيليا :

-لقد اجتزنا نصف المسافة وخلفنا مركز الجذب وراءنا وبعد قليل ستشعر ان جسدك صار أخف مما هو عليه الآن .

اسرعت للتشبث بمسندي الكرسيين خوفا من السقوط . بينما أعادت سيليا ضغط الزرين فتحررنا من الأحزمة . فتملكني شعور بالاستغراب : كيف لم تسقط سيليا وهي لم تتشبث بكرسيها !! ويبدو انها لاحظت دهشتي فأوضحت ضاحكة :  

-لا داعي للتشبث انك الآن تجلس على كرسيك مستقرا . لقد خلفنا مركز الجذب وراءنا وبذلك تتغير الاتجاهات فما كان قبل قليل الاتجاه الأسفل صار الآن الاتجاه الاعلى .

أبعدت ذراعي عن المسندين ووجدت جسدي مستقرا . فعاودني إلهدوء … واصلت سيليا حديثها عن الفلم الوثائقي مدعية ان الصورة قد التقطت قبل أكثر من عشرة آلاف سنة وقفز الى ذهني السؤال المحير :

-لماذا تغير شكل كور بعد مقتله ؟

-لم يتغير .

-كان في البداية بقعة برتقالية غير محددة الملامح . ولا ثابتة الشكل وصار بعد موته بتلك إلهيئة التي رأيناها .

-لم تكن البقعة البرتقالية جسد كور كانت اشعة يبعثها من جهاز في حوزته . لئلا يستطيع الخصم أن يحدد موقعه بدقة . فيصوب نحوه .

-لماذا لم يكن إنليل يملك جهازا مثله ؟

-      لا يحتاج إنليل لذلك الجهاز . ان ثوبه المرصع بالكرات الزجاجية هو درع واق من مختلف الاشعاعات القاتلة . وعلى كل فقد استفاد الإنليليون من ذلك الاختراع الكوري فيما بعد وقد استعملوه كثيرا. وبالمناسبة فقد استعملناه في مواجهة جماعتك أمام تل المهالك عصر هذا اليوم.

-لم ألاحظ ذلك .

-اثناء ارتقائك التل كنا نشاغلهم بجهاز يبعث صورا مرعبة تربكهم .

تذكرت حالة الاضطراب التي أصابت جماعتي وكيف تراجع بعضهم . وكيف اطلق آخرون النار على سفح التل . اشتد بي القلق على أخي والآخرين وسألتها بارتباك :

-هل أسرتم جماعتي أيضا ؟

-لا استطيع الإجابة . هذا ليس من شأني  .

 

 

-6-

 

ساعتي تشير الى الرابعة الا خمس دقائق مرت اثنتا عشر ساعة على دخولي عالم الإنليليين ،   و ما  زالت المركبة صاعدة بي الى جوف الأرض . سألت سيليا :

-أبقي الكثير للوصول الى العاصمة ؟

-دقائق فقط . و الآن علي أن أعيدك الى وضعك الذي تسلمتك به . وأرجو أن تغفر لي قسوتي .

-ماذا تقصدين ؟

-لقد تسلمتك مشلولا . وعليّ أن أسلمك الى الجهات الرسمية مشلولا . والا سأتعرض الى أشد العقوبات . رفعت يدها باتجاهي ، ونفث احد خواتمها ضوءا احمر ، أحالني جثة هامدة . توقفت المركبة وانفتح بابها غادرتها سيليا . وبعد قليل دخل اثنان وحملاني الى بهو كبير . ومنه خرجا بي تتقدمهم سيليا الى شارع واسع. واجهتني سماء شاحبة تتوسطها شمس صفراء باهتة, تملكني حنين مباغت لسمائنا الزرقاء ذات النجوم اللامعة. نسيت أوجاعي الشديدة وامتلأت بإحساس الاختناق تحت وطأة الصفرة الشاحبة التي تغلف الاشياء في عالم الإنليليين.

ادخلاني الى مركبة صغيرة انطلقت بنا عبر الشارع الممتد أمامنا . وقبل ان نتوقف أمام بوابة كبيرة همست سيليا في أذني راجية ألّا أخبر المحققين بتسـاهلها معي أثناء الرحلة .

 

 

-7-

 

صالة كبيرة تزدحم بآلاف الجثث إلهامدة المرصوفة على الأرض رصفا منتظما . جثث تسمع وتبصر وتتألم . لكنها لا تملك القدرة على الشكوى والكلام ، عاجزة عن إصدار صرخات الاستغاثة أو الآنات الواهنة وكنت الجثة الآدمية الوحيدة بين الجثث الإنليلية . كنت انظر الى وجوههم فأحس بآلامهم المكبوتة وأقرأ في عيونهم الخوف المبهم  …. على بعد متر واحد مني يرقد إنيلي شاب . كان يحدق إليّ وأحدق إليه  وأسأل أي قدر ساقك الى هذا السجن الرهيب ؟ قامت بيني وبينه صداقة حميمة ، كل أواصرها النظرة العميقة الصامتة . وسط السكون المخيم على القاعة وجدت نفسي اسأله دون ان تهمس شفتاي. اسأله اسئلة متشعبة عن المستقبل الذي ينتظرني . سألته عن مصير أخي  أوقع في قبضة الإنليليين ؟ أم  أفلت منهم ؟ قرأت على عينيه الفسفوريتين إجابة طافحة . تخيلته يقول لي : ستراه بعد قليل في غرفة التحقيق تخيلته يسألني عن أمّي فأروي له كيف توسلت اليّ صبيحة امس ألا أغادر البيت وكيف سمعتها تودعني وهي تشهق هاتفة : (( يا راد يوسف الى يعقوب اردد الي ولدي . )) سألته عن الذنب الذي اقترفه فقاده الى السجن : اذا كان ذنبي اني وطأت بالخطأ غير المقصود احدى بوابات العالم الإنليلي . فأي ذنب جناه هؤلاء الثاوون في هذه القاعة   … ولكن أنى لي أن أعي ما يريد قوله  ، وشفاهنا عاجزة عن الحركة    …  تذكرت سيليا وما قالته عن وسيلة الاتصال بين إنليل وأبناء جنسه في الكوكب الأم اذا كان إنليل يتصل بالتخاطر عبر ملايين الملايين من الكيلومترات فما أحوجني الى التخاطر الآن لأخاطب هذا المخلوق الذي لا يفصلني عنه أكثر من متر واحد .طال انتظاري لساعات طويلة حتى جاءني أحد السجانين . سحبني من ذراعي على الأرض حتى أوصلني غرفة التحقيق . وهناك ركنني في زاوية من الغرفة وتركني أتابع مواء المحققين . لقد تحاوروا فيما بينهم طويلا ثم أومأ كبيرهم الى جهاز في الزاوية المقابلة لي فانفرج عن شاشة كبيرة . وابصرت عليها نفسي وأنا ارتقي تل المهالك واتجول بين كثبانه . ثم اركض مذعورا حتى أدخل عالم الإنليليين . اختفت الصورة للحظات ثم حلت محلها صورة جهاز صغير في ممر ضيق كان بحجم علبة السجائر . استطعت ان أحدد حجمه قياسا على حجم قنفذ مر من أمامه مغادرا النفق .

تابعت الشاشة عرض صورة الجهاز وهو يغادر النفق الى العراء . فيستطيل فجأة ويأخذ شكل مخلوق بشع ، ذي فم مقوس وأذنين كبيرتين . راح يتحرك بطريقة غريبة . بينما ظهر على الشاشة أخي وجماعته وقد وجّهوا بنادقهم نحو ذلك الجهاز وبادروا بإطلاق النار…… تذكرت صورة كور والغمامة الصفراء وما قالته سيليا ليلة امس عن الجهاز الكوري الذي استعملوه ضد أخي وجماعته . كان المحققون يتابعون مشاهدة الفلم . ويدونون ملاحظاتهم . ثم رطن كبيرهم على السجان . فتقدم نحوي ورشقني بالاشعة البيضاء فاختفت الآلام ووجدتني انهض من رقدتي مستعيدا قدرتي على الحركة … وبدأ التحقيق .

 

-8-

 

كم مضى علي وأنا في العنبر الأول في سجن الإنليليين الرهيب ؟؟ لم يكن لدي أي وسيلة لمعرفة الزمن . فساعتي اليدوية صودرت أول دخولي للسجن . والليل والنهار لا يتعاقبان كما هو الحال على سطح الأرض والفصول لا تتبدل …. الزمن في عالم الإنليليين راكد أبدا . وشمسهم الصفراء لا تتزحزح من مكانها تطل علي بوجهها الشاحب من الكوة المحفورة في أعلى السجن . اتذكر اني تعرضت للتحقيق ثلاثا وتسعين مرة . وأكلت ثلاثا وتسعين وجبة طعام . وقضيت حاجتي ثلاثا وتسعين مرة ربما كانت الفترة الزمنية بين المرة والاخرى يوما أو شهرا أو عاما لست أدري !!!

كان سميري الوحيد في العنبر الأول صديقي الإنليلي المركون الى جانبي . كنت أحس بعينيه تطفحان بأسئلة كثيرة . كلما عدت من التحقيق وركنت الى جانبه أحسه يسألني :

-أين وصلوا معك في التحقيق؟

-هل وجّهوا لك تهما أخرى ؟

-هل استعملوا اساليب جديدة في التعذيب ؟

-هل تكونت لديهم قناعات واضحة ؟

وأجبت على الاسئلة كلها. وما زالوا على الاتهام نفسه . انهم يصرون على اني متعامل مع الكوريين . اقسمت لهم اني لم أر كوريا في حياتي . ولم أسمع عن هذا الجنس من المخلوقات الا من  أفواههم . ولكنهم يرفضون تصديقي ويواصلون استجوابي . في احدى المرات الصقوا على جبهتي قرصا معدنيا . وبدؤوا التحقيق . عرضوا على الشاشة صورة تحمل ملامح كور . وسألوني :

-تذكر جيدا. ألم تقابل مخلوقا كهذا في حياتك ؟

تذكرت الفيلم الوثائقي والمبارزة التأريخية بينه وبين إنليل . وهممت أن أقول (( بلى )) لولا أن تقفز إلى ذهني في اللحظة الاخيرة رجاء سيليا وهي تهمس في أذني قبل ان نفترق (( لا تخبر المحققين عن تساهلي معك أثناء الرحلة )) وجاءت الاجابة مني :

-كلا. لم اره طيلة حياتي .

صعقني القرص المعدني صعقة كهربائية عنيفة فجعلني أتهاوى على الأرض صارخا. ثم أقفز الى أعلى وتتشبث يداي بالقرص لاقتلاعه من جبهتي . بادرني كبير المحققين:

-أ رأيت . انك تكذب . ولو كنت صادقا لما لسعك القرص . والآن أخبرنا الحقيقة متى رأيت هذا المخلوق ؟ وأين ؟

عادت صورة الكوري الى الشاشة . وصرت أمام خيارين بين أن أكذب فأعرض نفسي لنقمة القرص , وبين أن أصدق فأروي لهم قصة الفيلم الوثائقي . وتخيلت للحظة وجه سيليا وهي تتعرض لتعذيبهم . وتهمة التعاون مع البشر ضد الإنليليين التي تلتصق بها . كل ذلك لأنها تساهلت مع أسير آدمي . وأجبت المحقق :

-كلا لم أره طيلة حياتي .

 صعقت ثانية . وعلق المحقق :

-انك غبي أيها الصبي . بعنادك لا تعذب الا نفسك . والآن قل لنا الحقيقة أين رأيت هذا المخلوق ومتى ؟ فكرت مليا بالامر ، ان هذا القرص اللعين لن يبتعد عن جبهتي الا اذا قلت الحقيقة التي تجر سيليا الى السجن …وبزغت في ذهني فكرة مفاجئة ، ماذا لو احتلت على الجهاز ؟

- اقسم لكم اني لم أر هذا المخلوق طيلة حياتي على وجه الأرض .

لم يصعقني الجهاز  … المحققون نظروا الي ذاهلين ، تراطنوا فيما بينهم طويلا . وتوقعت ان احدهم سيكشف اللعبة ، ويسألني (( لم تره على وجه الأرض  …. وفي داخلها ؟ ))

لكن سؤالا مثل هذا لم يرد . انتزع احدهم القرص من جبهتي ، فحصه جيدا . ثم استبدله بقرص آخر . أعادوا السؤال علي وأعدت الاجابة عينها . والجهاز جامد . طفق المحققون يتراطننون . وخلتهم يتساءلون حائرين . اذا كان الفتى صادقا فلماذا صعقه الجهاز في البداية ؟ وان كان كاذبا لماذا لم يصعقه في المرتين اللاحقتين ؟ سلطت نظراتي على عيونهم الفسفورية الحائرة ، انتابتني موجة عارمة من الزهو . واحسست بضآلتهم أمامي . وتصورتني ألتهمهم بنظراتي الجريئة … وأخيرا نطق احدهم بلهجة ذليلة :

-حسنا . تذكر جيدا . ألم تره في أحلامك ؟

-أحلامي ؟

-أعني هل حلمت أثناء نومك . ان مخلوقا كهذا يقابلك أو يحدثك ؟

-وهل المرء مسؤول عن أحلامه ؟

زجرني كبيرهم:

-عليك الاجابة فقط  .

-لا . لم أره في أحلامي .

وظل القرص على جبهتي ساكنا . انه يرصد تغير ذبذبات الدماغ عند الكذب المتعمد . ولما لم أكن في صيغة جوابي الأخيرة كاذبا . فلا بد لهذا القرص أن يظل ساكنا . … أعادوا التجربة مرات ومرات . ولما لم يصلوا الى نتيجة مقنعة سلطوا علي أشعتهم الحمراء وامروا بإعادتي الى العنبر الأول .

تخيلت ابتسامة تطفح على شفة صديقي الإنليلي. وتصورته هنّـأني على ذلك النصر الذي أحرزته على المحققين ….. وفي مرة أخرى عدت من التحقيق لأخبره عما استجد في قضيتي . وجدت عينيه متلهفتين لسماع أخباري . فرويت له الخبر : لقد فوجئت بوجود آدمي في غرفة التحقيق . كان مظهره يدل على انه قروي من جنوب العراق ، وحين أبصرني انفرجت اساريره . ووثب نحوي فاتحا ذراعيه لمعانقتي . لكن اشعة سلطها عليه أحد المحققين قد اعترضت طريقه وجعلته يتلوى على الأرض صارخا … أحسسته يقلّى كما تقلّى السمكة : هممت بأن أضع كفي على عيني لئلا أرى بشاعة المنظر . غير اني لما اتحرر بعد من حالة الشلل .أمره المحقق بالعودة الى محله والتزام الصمت  وبعد ان عاد الى هدوءه بادره المحقق :

-واضح انك تعرف هذا الصبي ؟

-والله ، لم أره الا الآن .

-لماذا توجهت لمعانقته ؟

-لأنه آدمي مثلي .

-كيف تفسر اقتحامكما لمدخلين من مداخلنا في آن واحد ؟ انت من تل الذئاب . وهو من تل المهالك؟

تواصلت عليه الاسئلة حتى ترنح تحت وطأتها . وهتف مستنجدا بي :

-خبرهم يا ولدي . ان كنت تعرف شيئا . وخلصنا من هذا العذاب .

من خلال كلامه تعرفت على شخصيته جيدا . كان منخي الفتّال يرعى أغنامه على مقربة من تل الذئاب الواقع غربي قلعة سكر . وقد اقتحم التل بحثا عن شاة مفقودة ، عصر يوم 1 / 3 فاختطفه الإنليليون . بالطريقة التي اقتنصوني بها نفسها .

من خلال التحقيق تكشفت لي سمة خاصة من صفات الإنليليين . وهي انهم لم يضعوا الصدفة في اعتبارهم . فكل ما يحصل على هذا الكوكب . ومهما كان صغيرا لا بد أن يكون حتمية مرسومة مسبقا من قبلهم أو من قبل الكوريين . ولما كان الإنليلييون لم يوعزوا لي باقتحام تل المهالك. ولم يسرقوا شاة منخي الفتّال . ويستدرجوه نحو تل الذئاب . فلا بد أن تكون القصة مرسومة من قبل اعدائهم الكوريين. ولا بد أن يكون إلهدف احتلال ممر نفر الذي يؤدي  الى عاصمتهم العظمى في جوف الأرض . ولا بد أن تكون مهمتي استطلاع المدخل الغربي للمر المذكور  . ومهمة منخي الفتّال الكشف عن الممر الشرقي  . ووضع المعلومات أمام أنظار الكوريين …

سألت سميري الإنليلي. لماذا تخشون الكوريين كل هذه الخشية ؟ وانتم تدعون انكم أرقى منهم وأكثر تطورا ؟ وأن جدكم الأول استطاع أن يقتل زعيمهم ويمحقهم عن وجه الأرض ؟  وكدت أقرأ على عينيه اجابات واضحة ، لولا أن قطع السجان مسامرتنا الصامتة . فسحب سميري الإنليلي  نحو غرفة التحقيق . وتركني منتظرا .

حلت فترة الطعام الخامسة والسبعين ولم يعد ذلك الإنليلي . وطال انتظاري …. وبعد خمس وجبات حل محله

 

إنليلي آخر. فأيقنت ان صاحبي غير عائد . ربما أفرجوا عنه . وربما قتلوه . وربما نقلوه الى عنبر آخر . وربما ….

 

 

-9-

 

مقياسي الوحيد للزمن - كما قلت لكم - لم يعد غير عد فترات التحقيق ووجبات الطعام وقضاء الحاجة . وبعد ان أكلت ثلاثا وتسعين وجبة من الطعام . وقضيت حاجتي ثلاثا وتسعين مرة في العنبر الأول . اقتادني السجان للمرة الثالثة والتسعين للمثول أمام المحققين . ربطوا جسمي هذه المرة بأسلاك كهربائية . واحاطوا رأسي بشريط معدني . وبدؤوا… باستجوابي … أطلت صورتي على الشاشة المقابلة ثم تلاشت ملامحي الخارجية . ولم يبق على الشاشة الا جهازي العصبي  . رأيت شبكة من الاعصاب المتشعبة . كتلك المرسومة في كتاب ( الصحة ) المدرسي … واذ كنت أجيب على اسئلتهم السريعة كانت الأعصاب المتشابكة تتلون بألوان متباينة  . تتغير كلما أجبت على سؤال جديد . ويمتلئ جانبا الشاشة بكتابة لم أفقه معناها   …. وبعد سلسلة طويلة من الاسئلة المتلاحقة دار بين المحققين حوار طويل : قرأت على ملامحهم علامات الخيبة  .. وفي النهاية أمر المحقق فانتزعت الاسلاك من جسدي . وفوجئت بالسجان يأمرني بمغادرة المكان سيرا على الاقدام دون أن يشلني بأشعة حمراء . اقتادني عبر ممر جديد غير الذي الفته خلال الفترة السابقة حتى أوصلني الى العنبر الثاني . وصفق الباب ورائي .

وقفت برهة أتأمل المكان الجديد . كانت قاعة تتوسطها كوة تطل منها الشمس الصفراء التي لا تفارق وجوهنا أبدا ، وعلى أرضها يجلس مئات الإنليليين على حلقات . وقليل منهم كان يجلس منفردا . بحثت عن التصرف المناسب الذي كان على أن أسلكه . هل أجلس منفردا ؟ أم اقتحم إحدى المجموعات وأشاركها مجلسها ؟ لاحظت إنليليا يتقدم نحوي . ويمسك بذراعي برفق . تأملته جيدا فاذا به سميري الذي كان مركونا معي في العنبر الأول .

اكتشفت ان تلك الصداقة لم تكن وهما اخترعه خيالي . انها حقيقة واقعة فعلا . لكن خيبتي كانت مريرة حين وجدته لا يعرف العربية بل لا يعرف أي لغة بشرية . وازداد احساسي بالغربة حين اكتشفت ان كل من في العنبر  لا يعرف غير المواء الإنليلي لغة .

رغم العناية البالغة التي أحاطني بها هؤلاء السجناء الطيبون . ورغم توقف التحقيق وغياب آلات التعذيب  والاشعة الحمراء وآلامها ، كان شعوري بالعزلة يكبر . وقلقي يزداد يوما بعد يوم . والاسئلة عن المستقبل الذي ينتظرني تجوب تلافيف دماغي   …. هل سيطلقون سراحي فأعود الى سطح الأرض سالما ؟

هل سيحكمون علي بالموت ؟

هل سأبقى مدى الحياة داخل هذا السجن ؟

وتبقى الاسئلة حائرة. ما دامت وسيلة الاتصال بيني وبين السجناء هي الاشارات اليدوية فقط .

…. حتى جاءت اللحظة التي رأيت فيها صاحبي الإنليلي يلتفت نحوي . ويكلمني بلهجتي المحلية . وبصوت واضح النبرات .

- سيليا تخصك بالسلام وتشكر لك موقفك النبيل .

-سيليا ؟

-نعم . سيليا . ألا تتذكرها ؟

-بلى أتذكرها . واستدركت خطئي . قلت متلعثما :

-عفوا لا أتذكرها .

ابتسم بخبث واضاف :

-لا تخش شيئا . لست محققا ولا سجانا . وقد أوصتنا سيليا بك خيرا .

- لكن ماذا تقصد بموقفي النبيل ؟

-نحن نعرف كل شئ ونشكر لك تضحيتك في سبيلها .

-لكنني لا اعرف شيئا .

-كان يمكن أن ينتهي التحقيق معك خلال اسبوع واحد . لكنه دام ثلاثة اشهر وثلاثة ايام لموقف بطولي انت اخترته لنفسك .

-لم أفهم شيئا .

-تذكر القرص المعدني الذي الصقوه على جبهتك وصورة الكوري التي عرضوها أمامك . كان القرص يلسعك كلما انكرت رؤيتك لصورة الكوري من قبل ؛ لأنك تكذب …. وبقيت على تلك الحال حتى اهتديت الى تلك العبارة التي موهت بها على الجهاز .

أمن المعقول أن يكون هذا الكائن قد تعلّم لغة اجـنبية خلال هذه الفترة الوجيزة ، وبادرت الى سؤاله :

- ما دمت تجيد الكلام بلغتنا لم لم تتكلم بها طيلة هذه الفترة ؟   

ابتسم بود وأجاب :

-لأني لم أتعلمها .

-أتعني انك تعلمتها خلال هذه الفترة الوجيزة ؟

-لا، لم اتعلمها حتى الآن .

-…………..؟

فتح فاه. وأخرج كرة فضية مثقبة . ثم أعادها الى فيه . وأضاف :

-هذا الجهاز هو الذي يتكلم العربية . أما أنا وجميع الإنليليين فلسنا قادرين على فهم ونطق لغات البشر . وحين نحتاج الى التعامل مع كائن بشري نحدد لغته أولا . ونبرمج الجهاز وفق تلك اللغة . ثم نعبر عن أفكارنا بلغتنا. ونترك له مهمة النطق بلغة البشر … وقد استطاع انصارنا خارج السجن  من تهريب هذا الجهاز ؛ لنتمكن من التفاهم معك .

 

-10-

 

استطاع جهاز الترجمة ان يخفف من عزلتي ويجعلني اندمج بالسجناء الإنليليين . وأشاركهم أحاديثهم وأتعرف على أمور اجهلها  . وان كان الكثير من تلك الامور لا يدخل السرور الى القلب . فحين سألتهم عن مصيري أجابوا ان أي بشري يدخل عالم الإنليليين لن يفلت أبدا . لقد أفهموني بشكل صريح اني سأقضي بقية عمري في العنبر الثاني من هذا السجن . وقد تقتضي الأمور - اذا استجد جديد  - أن استدعى الى العنبر الأول لاجراء التحقيق …. كان خير سلاح أواجه به واقعي المظلم أن أرفض تصديق ما يقولون ، وبقدر ما كانوا جبريين ، صرت قدريا لحد التطرف . وقررت أن أعيش ليومي : واستحدث لنفسي أساليب تسلية . وافتعل المرح افتعالا بين أسوار العنبر الثاني . و أترك للأيام أن تفتح باب الفرج وتخرجني من هذا الجب العميق . كان البصيص الأول من الامل يأتيني من طيف الكوريين . فرغم ما سمعته عن همجية الكوريين وقسوتهم . وما رأيته من أشكالهم البشعة المخيفة . كنت اذا ما اختليت بنفسي اتخيلهم يفتحون بوابة نفر . ويفتكون بالانليليين - ثم يدخلون العاصمة ظافرين فيعثرون علي ، وعلى منخي الفتّال الذي رأيته يتقلى أمام المحققين ، ويعيدوننا الى أهلنا سالمين ….. كان ذلك الحلم يراودني أول الأمر . لكن حلما اقرب الى الواقع بدأ يبرق أمام ناظري كلما اطلت الحديث مع أحد السجناء . الا وهو انتصار الدموزيين . وأخذهم مقاليد السلطة من أيدي الشيخاليين . متنت علاقتي بالسجناء ( وكلهم من الدموزيين طبعا ) . وسعيت لخدمتهم بكل ما استطيع ، آملا أن يردوا الجميل اذا ما تسلموا دفة الحكم . كنت كلما ازدادت معرفتي بتاريخ الإنليليين وبطبيعة الصراع بين الدموزيين والشيخاليين توهج أمام عيني بريق الأمل . حتى صرت دموزيا أكثر من الدموزيين أنفسهم .

لقد عرفت الكثير عن تاريخهم منذ ان أمر قائدهم إنليل انشاء مدينة نفر الجديدة في جوف الأرض . قبل عشرة آلاف سنة ….. قالوا لي ان إنليل أراد لنفر الجديدة أن تكون مخزنا للاسلحة المدمرة ، ومكانا للصناعات المعقدة . ولم يخترها مسكنا دائما للأنليليين جميعا . كان هدفه الا يتكرر الخطأ الذي ارتكبه الكوريون حين تركوا مصانعهم ومخازن اسلحتهم في دهاليز على مقربة من سطح البحر فحلت عليهم تلك الكارثة المروعة . ووفقا لوصية إنليل ظلت نفر الجديدة مدينة صناعية فقط . بينما كانت العاصمة الرئيسة نفر القديمة الرابضة على  نهر الفرات . وظل الإنليليون يعيشون فيها معتمدين على ما يقدمه البشر لهم من غذاء بعد أن علموهم  كيف يطورون وسائلهم الإنتاجية و كيف يبنون بيوتهم الشاهقة  ……وفي عهد دموزي وقعت أول فتنة  بين الإنليليين . حيث تمردت شيخال حاكمة نفر الجديدة والمدن الواقعة في جوف الأرض ، تمردت على سلطة دموزي . وقد توج الصراع باختطافه وأسره في جوف الأرض . . لكن شيخال اضطرت الى اطلاق سراحه حين هددها انصار دموزي بقطع المواد الغذائية عن العالم  السفلي .

يسهب السجناء الدموزيون في وصف مآثر دموزي بعد عودته من الأسر حيث أمر بإعمار التربة . فازدهرت الأرض بالخصب والنماء . وعم الخير البشر والإنليليين على السواء … غير ان دموزي واتباعه قد وقعوا بين فكي كماشة . الكوريين من الفضاء والشيخاليين من جوف الأرض . وظلوا يقاومون مؤامرات الطرفين أكثر من ألف عام …. وخلال هذه الحقبة استطاع الشيخاليون أن يصنعوا كرة مشتعلة تحمل الكثير من صفات الشمس . وتركوها تتكبد جوف الأرض ( وأشار محدثي الى الشمس الصفراء التي تطل علي منذ وصولي الى نفر الجديدة حتى الآن ) . قال :

- ليست هذه الشمس طبيعية انها كرة متقدة . تتغذى بالوقود كل مئة عام مرة . بفضل هذه الشمس الاصطناعية استطاع الشيخاليون أن ينتجوا نباتات وفطريات جديدة لا وجود لها على سطح الأرض مكنتهم من الاستغناء عن الدموزيين فأعلنوا تمردهم ثانية . وبادر الدموزيون الى سلاحهم القديم ؛ الحصار التام . أغلقوا ممر نفر . وقطعوا الامدادات الغذائية . معتقدين ان الشيخاليين سيرضخون للأمر الواقع . ويستسلمون خلال عدة اشهر ، متناسين سياسة الاكتفاء الذاتي التي انتهجها الشيخاليون . ومتجاهلين الأسلحة المطورة التي هي في حوزة أعدائهم في جوف الأرض . …. دام الحصار ثلاث سنوات دون أن يستسلم الشيخاليون . لم يستطع الدموزيون أن يجدوا تفسيرا مقنعا لصمود أعدائهم كل هذه الفترة في جوف الأرض . والحقيقة ان الحقبة الطويلة التي قضاها الدموزيون على سطح الأرض معتمدين في صناعتهم على الشيخاليين . وفي غذائهم على البشر لأكثر من خمسة آلاف سنة . ان هذه الفترة الطويلة قد بلدت أذهانهم . بينما صقلت من عقول الشيخاليين ….

لم ينتبه الدموزيون الا بعد فوات الاوان . لقد استيقظوا ذات ليلة ليجدوا مركبات الشيخاليين تنقض عليهم من الجو . وتحتل مدينة نفر القديمة وتقتل تيّامة ملكة الإنليليين . ثم يعلن قائدهم  مردوخ عن نفسه سيدا للآنليليين جميعا وملكا على الكوكب الأرضي ….

سألت صاحبي :

-كيف استطاعوا أن ينقضوا عليكم من الجو ، وهم محاصرون في جوف الأرض ؟

-لقد بقي هذا الأمر لغزا محيرا للدموزيين حتى أمرهم مردوخ بالهبوط جميعا الى جوف الأرض ليجدوا الشيخاليين قد فتحوا في الجهة الاخرى للأرض ممرا أوسع بكثير من ممر نفر . انه ممر برمودا الكـبير الذي صار البوابة الرئيسة للأرض .

قاطعت محدثي سائلا :

-أين كان الكوريون من هذه الأحداث ؟

-لا استبعد أن يكون الكوريون وراء ذلك . فبعد أن طال الحصار على الشيخاليين استعانوا تخاطريا بالكوريين على أبناء جلدتهم . والا كيف تفسر هذه إلهدنة التي طالت خمسة آلاف سنة ؟  ان هبوط الإنليليين الى جوف الأرض قد قدم للكوريين خدمة جليلة فجعلهم يمرحون في فضاء مجموعتنا الشمسية دون منافس .

-لكن الشيخاليين يتهمونكم بالتواطؤ مع الكوريين .

استفزه سؤالي فأجاب بنبرة انفعالية :

-كذب … ان من اسباب اختلافنا مع الشيخاليين هو الموقف من الكوريين . منذ خمسة آلاف سنة ونحن محاصرون في داخل هذه العلبة الصغيرة أعني جوف الكرة الأرضية . حتى البشر بدأوا في السنوات الاخيرة بارسال مركباتهم الاستطلاعية الى الكواكب المجاورة بينما تتهشم كل مركبة إنليلية تتخطى حدود الغلاف الجوي للأرض . كل ذلك بفضل سياسة الشيخاليين المنغلقة التي قادتنا الى هذا المصير البائس . لم تنطلق لنا مركبة خارج فضاء الأرض . اننا نتساءل هل قطع جدنا إنليل خمسين سنة ضوئية ليحبس احفاده في هذه العلبة الضيقة !!! … ورغم كل ذلك فما زلنا نطمح بإصرار لاستكمال الرسالة التي بدأها إنليل في نشر سيادتنا على فضاء المجرة ، ولن يتحقق ذلك الا بإسقاط سلطة الشيخاليين وعودتنا الى سطح الأرض . أفزعني تصريح الإنليلي وقلت مستغربا :

-تعودون الى سطح الأرض ؟ وأين يذهب الآدميون ؟

-يبقون معنا ، وتحت رعايتنا . لقد عشنا معا خمسة آلاف سنة . ومنحناهم شيئا من معارفنا . وكانوا لنا أعوانا مطيعين في حروبنا الأولى مع الكوريين .

-لكن الآدميين ليس لهم أي تصور عنكم ؟

-هذا صحيح في الوقت الحاضر . لقد نسيت الأجيال اللاحقة من البشر وجودنا . واعتقدوا ان ما رواه اجدادهم القدامى عنا مجرد تصورات وهمية . لكن ذلــك لا يمنعنا من إعادة علاقتنا بهم ، قد يكون الأمر صعبا أول الأمر لكن الصعوبة تذلل بارسال سفراء الى البشر يمهدون لظهورنا .

-آمل أن أكون واحدا من هؤلاء السفراء .

-اذا بقيت حيا حتى ذلك الحين .

 

 

-11-

 

منذ ساعات طويلة ووجوه الإنليليين يغلفها الرعب . عيونهم الفسفورية تتقد بالقلق والاستعداد لموقف ما لم استطع أن أعرف كنهه . ساءلت بعضهم عن سبب ذلك . لكنهم لم يكلفوا انفسهم عناء الرد . كانوا يموؤن بوجهي مواءا خافتا . وكأنهم يقولون (( اتركنا وشأننا لسنا فارغين لبطرك ))   كنت وقتها استعد للاحتفال بمرور عام كامل على سقوطي في فخ الإنليليين كان السجناء ينتظرون الاحتفال بالعيد الأعظم . واذا كان لقلقي ومخاوفي أكثر من مبرر فلا سبب يدعهم الى ذلك الذعر المرير الذي يخيم عليهم ….. في آخر محادثة مع أحدهم .  قلت :

-في مواسم الأعياد ينتظر السجناء من الناس بشرى سارة كتخفيف الاحكام أو السماح لذويهم بزيارتهم . فهل يحصل مثل هذا في عالمكم ؟

-نقل حامل جهاز الترجمة ما قلته الى الآخرين . وقرأت على وجوههم علامات السخرية . ثم عقب حامل جهاز الترجمة بنغمة متهكمة :

-ستجد هدية ثمينة تنتظرك يوم العيد .

-كنت أتسلى بتلك الاسئلة الكثيرة محاولا إلهروب من حالة القنوط التي هيمنت علي بعد أن عرفت مصيري المحتوم .  فمنذ أن أخبرني أحد السجناء عن نية الدموزيين في اعادة العلاقات مع البشر اذا تسلموا السلطة . وأنا أحلم أن أكون سفيرهم الى الآدميين . وكنت ألح بذلك السؤال . ولا يتغير الرد في كل مرة    ( هذا اذا بقيت على قيد الحياة ) وأمام تكرار هذا السؤال صفعني الإنليليون بالحقيقة المرة . قلت لأحدهم :

 -انكم تكررون الاجابة نفسها . فهل تعرفون موعد موتي ؟

 - طبعا .

 -كيف ؟

-أتعلم ان هذه الشمس تغذى بالوقود كل مائة عام مرة ؟

-أعلم ذلك وما علاقة ذلك بموضوعنا ؟

-أتعرف موعد ذلك ؟

-لا

-بعد عام واحد فقط . عندها ستفقد الشمس لونها الاصفر الباهت . وتتوهج توهجا براقا لم تألفه عينك - وماذا يترتب على ذلك ؟

-- ستبعث باشعاعات جديدة . وأي بشري لم يتجاوز العشرين من عمره لن يقاوم تلك الاشعاعات . وسيخر صريعا خلال ساعات قليلة .

-فتحت فمي بفزع وسألته :

-أ متأكد مما تقول ؟

- بقي من حياتـك ثلاث مائة وثلاثة وسبعون يوما فقط .

منذ ذلك الحين ، وأنا اسقط الايام المتبقية من حسابي . كلما فتحت عيني . ولم يبق أمامي هذا اليوم غير ثلاث مائة وخمسة وستين يوما فقط . هذا هو سر القلق الذي يمزقني ولم يترك لي مستقرا … لكن . ما سر فزع السجناء الآخرين وهم يستقبلون عيدهم الأعظم ؟ تذكرت سيليا وهي تأوي الى تل المهالك هربا من بشاعة العيد . وبقي الأمر لغزا محيرا . حتى حلت الساعة التي جاءني فيها احد السجانين . ودعاني الى حفلة العيد الأعظم في الساحة الكبرى للعاصمة  لأرقص على لسعات الاقراص الكهربائية كما قلت لكم .

 

-12-

 

انطلقت بنا المركبة في شوارع العاصمة . و أويت الى الآدمي الكهل . وأحسست بأمان نسبي الى جواره . وضع كفه على كتفي . وسألني بحنان :

-ما الذي قادك الى عالم الإنليليين ؟

-قصة طويلة …. ولكن ما الذي حصل ؟ والى أين تسير بنا المركبة ؟

- لا أدري بالضبط ولكن يبدو ان الدموزيين قد  دبروا هذه الحيلة لتخليص بعض قادتهم من السجن .

- ونحن ؟ ما مصيرنا ؟

- لن نخسر شيئا .

ماء جهاز داخل مركبة الإنليليين ، فخاطبني الآدمي الكهل :

- اذا توقفت المركبة عليك بالوثوب منها الى المركبة الحمراء دون تردد .

-توقفت المركبة . انفرج بابها . فوثبنا الى المركبة الحمراء جميعا … سارت بنا مسرعة في شوارع جديدة ، وقبل أن تتوقف ماء جهازها فقال الآدمي العجوز :

- افعل كل ما افعله بدقة .

توقفت المركبة . وهبط السجناء ودخلوا بوابة صغيرة . وحذونا حذوهم . غير ان أحد الإنليليين الذي كان يقف أمام البوابة حاول ان يعترضنا فوقف الآدمي الكهل أمامه . ودخلنا الدار وأغلقت الباب وراءنا . في الداخل لاحظنا اضطراب الإنليليين وحوارهم المتواصل . بدت علامات التجهم والقلق على وجه صاحبي . وحين سألته عما استجد أشار الي أن اسكت . وتقدم أحد الإنليليين نحونا .أمرني و صاحبي أن أمتـثـل لما يريد دون معارضة …. انتزع الإنليلي الاقراص المعدنية من جسدي . ثم فتش ملابسي تفتيشا دقيقا . وكذا فعل مع الآدمي الكهل . بعدها ادخلنا الى غرفة صغيرة ,. وصفق الباب وراءنا . سألت صاحبي عما يجري فأجاب :

- انهم لم يحسبوا حسابنا في خطتهم المرسومة . وهم مختلفون في نظرتهم لنا . بعضهم يعتقد بوجود أجهزة تنصت لدينا . وبعضهم يريد التخلص منا بأي شكل . وآخرون يفضلون التريث حتى تأتي تعليمات واضحة من قيادتهم .

-وهل هناك خطر علينا ؟

- دع الامور تحل نفسها بنفسها .

جلس على الأرض مادا ساقيه متكئا على مرفقه قلت :

-من الواضح انك تفهم لغة الإنليليين ؟

- كيف لا أفهمها . ولي عشر سنوات بينهم ثم أردف سائلا :

-لكنك لم تقل لي لماذا اصطادك الإنليليون ؟

-يتهمونني بالتجسس لصالح الكوريين .

ضحك الآدمي من سذاجة اجابتي . وأضاف :

-كل من كانوا في السجن متهمون بالتهمة ذاتها .       

-وانت . لماذا اختطفوك ؟

-لأني اكتشفتهم وكشفت عن سرهم للناس .

-أتعني انك اكتشفتهم وأنت على سطح الأرض ؟

-نعم

-وقبل أن تدخل عالمهم ؟

-بالضبط

-كيف؟!!!

 

 

-13-

 

في مبنى كلية العلوم . وفي جامعة فاس . في غرفته الخاصة تسلم استاذ الجيولوجيا الدكتور اسعد الجبلي طردا بريديا يحتوي نسخة من مجلة الابحاث الجيولوجية . افتضّ الطرد وتصفح بجذل أوراق المجلة ليجد بحثه الموسوم بـ  ( الأرض الجوفاء ) منشورا على صفحاتها . وعليه تعقيبات متباينة الآراء من هيئة تحرير المجلة .

كان البحث المذكور قد أخذ ثلاث سنوات ونصفا من عمر الدكتور اسعد . وقد توصل بموجبه الى رأي جديد يفند كافة النظريات المتحدثة عن جوف الأرض . لقد رفض الدكتور اسعد تصديق الرأي القائل ان البراكين تحصل في داخل الأرض نتيجة تفاعلات كيمياوية بين الفلزات المنصهرة في ظل الحرارة إلهائلة. واعتبرها فضلات ترميها  مصانع عالية التطور موجودة في باطن الأرض . كما انكر وجود الحرارة إلهائلة المضطرمة في جوف الأرض ، معتقدا ان الأرض مجوفة . وقد فسر التغيرات التي تصيب ذبذبات م  وذبذبات ت أثناء مرورها في باطن الأرض بأنها نتيجة مؤثرات اصطناعية . وضعتها قوى عاقلة في جوف الأرض .

بعد ان فرغ من قراءة التعليقات الواردة في المجلة حول بحثه المذكور . غادر مكتبه متجها كعادته الى قريته المطلة على المحيط الاطلسي . وكان يقود سيارته وذهنه مشغول بمناقشة الملاحظات الواردة من قبل هيئة تحرير المجلة . ركز تفكيره فيها مستجمعا عددا من الافكار الجديدة . على آمل أن يثبتها على الورق بعد وصوله الى البيت . عند أول منعطف جبلي خارج المدينة أبصر جرما بنفسجيا يحوم حول الاشجار . لم يعره الدكتور اسعد اهتماما كبيرا ركز نظره في الطريق التي تتلوى أمام سيارته . بعد دقائق لاحظ ان الجرم يحوم فوقه . ويغمر سيارته بضوء بنفسجي . ثم أحس سيارته تتوقف وتنطفئ اضواؤها . وقبل أن يفتح الباب لفحص محركها لاحظ انها عائمة في إلهواء واذ رفع ناظريه الى السماء ابصر الجرم البنفسجي يطبق فوق السيارة تماما . ثم رأى بابها الأيسر تفتح وحبلا مطاطيا يلتف حول جسده ويسحبه من مقعد السيارة صاعدا به الى الجرم البنفسجي . وقبل أن يلتهمه الجرم أبصر سيارته تنقلب في سفح الجبل حتى تغيب في ماء المحيط .

 

-14-

 

كانت التهمة التي واجهها الدكتور اسعد الجبلي في سجن الإنليليين الرهيب . هي تواطؤه مع الكوريين الذين أوصلوا اليه تلك المعلومة الخطيرة . وهي كون الأرض مجوفة  ومسكونة من قبل مخلوقات عاقلة . والهدف من ذلك أن ينبهوا البشر على سطح الأرض الى وجود الإنليليين في باطنها . بغية اشغال الإنليليين في مواجهة البشر.

عبثا حاول الدكتور أسعد أن يقنعهم بأنه توصل الى تلك النظرية بالاستنتاج المنطقي والاجهزة المختبرية . فالانليليون لا يصدقون ان البشر قادرون على الاستنتاج المنطقي بذكائهم . وفوق ذلك فأنهم قد أعدوا للأمر عدته . حيث نصبوا أجهزة خاصة لاستقبال ذبذبات م وذبذبات ت التي يرسلها العلماء البشر . والتلاعب بها بحيث توهم البشر أن الأرض صلبة لا مجوفة .

قطع حديث الدكتور أسعد انفراج باب الغرفة ودخول سيليا علينا , وجدتها كما عرفتها قبل عام كامل لم تتغير . ويبدو أنها لم تتعرف علي من الوهلة الأولى , فقد بدل السجن من ملامحي كثيرا . وبعد أن تفحصتني بعينيها الفسفوريتين تفحصا دقيقا انفرجت أساريرها ووضعت كفيها بحنان على ساعدي . كانت كلمات الشكر والامتنان تنهمر من فمي دافقة الى سيليا الإنليليية . أدركت انها لم تفهم شيئا مما كنت أقول لها . وظلت تعبر عن ترحيبها بالإشارات اليدوية ثم سارت بي وصاحبي الدكتور اسعد الجبلي الى صالة ذات مقاعد مريحة وأشارت لنا بالجلوس هناك . همس صاحبي في أذني :

-لا تخبر أحدا اني أجيد اللغة الإنليليية .

دار حوار طويل بين سيليا والآنليليين الآخرين . وكنت أحاول أن أدرك طبيعة الحوار . خلال تحديقي بوجه الدكتور أسعد الذي كان ينقبض تارة وترتسم علامات البشر على وجهه تارة أخرى . وفي لحظة رأيته يوجه لي نظرة عميقة . ويرسم ابتسامة خبيثة على جانب فمه . نظرت إليه مستطلعا الأمر . فقال :

-هنيئا لك … يا سالب قلوب العذارى ,

لم أفقه معنى لعبارته الا بعد ان انفض اجتماع الإنليليين … وغادرت سيليا البيت . ونقلونا الى غرفة نوم مريحة . فيها سريران وكرسيان : تتوسطهما منضدة صغيرة . و لأول مرة بعد عام كامل أنام على سرير مفروش . وهناك ونحن نضطجع على سريرينا كان الدكتور أسعد الجبلي يخبرني بتفصيلات الحوار الطويل الذي دار بين سيليا وبقية الإنليليين .

تبين من خلال ما نقله الدكتور أسعد أن سيليا واحدة من أبرز قيادي الدموزيين وأن جانبا كبيرا من ذلك الحوار يدور حول مصيري وصاحبي . وكان رأي أغلب المجتمعين هو التخلص منا بأي شكل وبأسرع وقت . لكن سيليا فرضت رأيها عليهم في النهاية . وهو الحفاظ علينا في وكرهم السري هذا ، وتوفير متطلبات الراحة لنا … ولم تكتف بهذا القدر بل طرحت فكرة غريبة عليهم ، واجهوها أول الأمر بالاستخفاف  والتهكم . ولكنهم وضعوها في النهاية موضع الجدية .

قالت لهم سيليا كما أخبرني الدكتور أسعد :

-أتلاحظون أننا أهملنا تجربة هامة منذ دخولنا الى جوف الأرض قبل عشرة آلاف سنة وحتى الآن؟

سأل الجميع :

-ما هي ؟

-خلق جنس جديد على الكوكب الأرضي يجمع بين الصفات الايجابية للإنليليين والبشر معا .

-أ تعنين الزواج من الآدميين ؟

-ولم لا ؟

ضج الجميع :

-أمر غير معقول ! أ نلوث جنسنا السامي بمخلوقات بدائية كالبشر ؟

-لم يعد البشر مخلوقات بدائية انكم تنظرون اليهم بأعين أجدادنا الاوائل الذين هبطوا الى الأرض فوجدوا الآدميين يسكنون الكهوف والمغارات . ويقتاتون بوسائل الصيد البدائي . انظروا لهم كما هم عليه في الوقت الحاضر . أنهم قد قطعوا شوطا كبيرا في ميدان التطور الحضاري . كما تذكروا التخلف الذي أصابنا منذ ان استولى الشيخاليون على السلطة لحد الآن …. لقد أفقدنا انغلاقنا على انفسنا الكثير الكثير مما كان يملكه أجدادنا من العلوم المتطورة ….

أخذ الآخرون ينظرون الى بعضهم مذهولين مما تقول سيليا دون أن ينبسوا بكلمة ، ثم عقبت :

-كل المؤشرات العلمية النظرية المتوفرة لدينا تشير الى ان التزاوج بين الإنليليين والبشر سيعطي ثمارا أكثر نضجا . سأل أحدهم :

-ومن المستعد للتطوع لهذه التجربة ؟

-أنا سأتطوع . ومستعدة للزواج من هذا الفتى بالذات .

وعلق الدكتور أسعد مازحا :

يبدو أن الإنليلية قد وقعت في غرامك أيها اللعين .

 

-15-

 

 

اجتزنا دهليزا طويلا مظلما يقودنا من عاصمة الإنليليين الى سطح الأرض كنا ثلاثة أنا وسيليا وابننا الذي كان أطول مني مرتين . كان يتقدمنا مبددا ظلمة النفق بعينيه المشتعلتين . همست سيليا في أذني وهي تترنح من شدة الإعياء .

-أ مكتوب علينا أن نقطع ثلاثة آلاف كيلومترا مشيا على الاقدام؟

ورغم حالة الارهاق التي أمر بها كنت سعيدا ومتحمسا للرحلة المضنية . وسألت :

-أبقي الكثير من الطريق ؟

-لم يبق الا امتار …. أوشكنا على الوصول .

قالها ولدي ونحن ننعطف نحو اليمين صاعدين . كان ولدي اضافة الى ضخامة جسده يمتلك قوة عقلية جبارة  . فهو الذي رسم لنا طريق الرحلة وخلصنا ببسالة من ملاحقة الشيخاليين الذين كانوا يطاردوننا . حتى أوصلنا الى ذلك النفق المجهول كما انه حدد لنا الخطة التي سنواجه بها البشر على سطح الكرة الأرضية لتحقيق إلهدف الذي نرومه . كنا أنا وأمه سيليا ننفذ ما يريده منا دونما معارضة أو تفكير . وكان الامل يحدوني أن ننجح في الوصول الى أملنا المنشود ، وحيث يتسنم ولدنا دفة القيادة لسكان الأرض . فيكون زعيما لأعمامه الآدميين وأخواله الإنليليين .

أطل علينا بصيص من نور . قال ولدي :

-انظروا هذه اشعة الشمس .

وما هي الا لحظات  حتى أوصلنا النفق الى قاع حفرة عميقة . رفعني ولدي الى الاعلى حتى لامست كفاي فوهة الحفرة . قفزت بصعوبة خارجها لأجد نفسي على تل المهالك . سمعت مواءا عنيفا داخل الحفرة . أطللت برأسي مستطلعا الأمر فلم أجد ولدي وزوجتي سيليا . قبل أن أفكر في البحث عنهما سمعت حفيف عشب ورائي  … ارتميت الى قاع الحفرة . كانت البيضة الذهبية تطل علي بعينين حمراوين لاهثتين .. وسمعت نداء يأتيني من مكان   مجهول :

-انهض .

تكرر النداء لمرات . وامتدت كف تهز كتفي ، التفت فوجدت الدكتور أسعد قبالتي قال  لي :

-انهض حان وقت الغداء .

جلست على حافة السرير معتصرا جمجمتي بين كفي  لتخفيف الصداع الذي يطبق عليها . واكتشفت ان الفراش الوثير صار غير مألوف لجسدي الناحل . ففي الوقت الذي كنت اغط في سبات عميق طيلة الساعات المقررة للنوم وأنا ارقد على الأرض المرمرية في سجن الإنليليين وجدت نفسي أتقلب على هذا الفراش الدافئ بعينين لا يداهمهما الوسن . مفكرا بما قاله الدكتور أسعد عن استعداد سيليا للزواج  مني . فارتسمت أمام عيني أحلام وردية جميلة ، ناسيا ان بيني وبين الموت ثلاث مائة وأربعة وستين يوما فقط   … حتى اذا داهمني النعاس جثم علي ذلك الكابوس فلم أتخلص منه ألا على يد الدكتور أسعد وهو يدعوني لتناول الغداء .

على مائدة الطعام سألت الدكتور أسعد :

-أتظن أن سيليا جادة فيما قالته ؟

-لا استبعد ذلك - فهذه الإنليلية ذات تفكير غير عادي.

- وهل تعتقد ان الزواج سيتحقق؟

-لا اظن ذلك ممكنا الا في حالة استيلاء الدموزيين على الحكم .

-ألم تتوقع ان ذلك سيتحقق قريبا ؟

-حتى الآن لم ألمس مؤشرات تدل على ذلك …. الا اذا حصلت متغيرات جذرية تقلب موازين القوى .

-وما حصل يوم أمس على مسرح المدينة ألا تعتبره مؤشرا الى قوتهم وخططهم الدقيقة ؟

-لا أبدا ان اختطاف عدد من السجناء حدث صغير جدا ، كثيرا ما قامت بمثله منضمات صبيانية صغيرة على سطح الأرض. وجاءت النتائج عكسية.

-ماذا تعني ؟

-لا استبعد أن يثير حدث اختطافنا حفيظة الشيخاليين . ويحفز هممهم في البحث المتواصل وتكون النتيجة القبض على البقية  الباقية من الدموزيين وايداعهم السجن .

 

 

-16-

 

بعد شهر ونصف من اقامتنا في وكر الدموزيين. عقدوا اجتماعهم الاسبوعي على مرأى ومسمع منا كالمعتاد . لكن وجوههم هذه المرة تطفح بالهلع.  ومواؤهم الخافت ذكرني بحالتهم عشية استقبال العيد الأعظم في السجن ، وهم ينتظرون الرقص على صعقات الكهرباء. رأيت إلهلع يتسلل الى وجه صاحبي الدكتور أسعد . سألته عما استجد فقال :

-كارثة ، لقد القي القبض على واحد من أفراد المجموعة التي تتردد على هذا الوكر. وان سلامتنا مرهونة على مدى صموده. ولا أظنه يصمد أكثر من يومين أمام التعذيب إلهمجي.

-وما العمل الآن ؟

-لا أدري ، انهم حائرون . كل أوكارهم الاخرى انكشفت ، لم يبق غير هذا المكان . وهو مهدد بمداهمة الشيخاليين بين لحظة وأخرى .

خيمت على الدكتور اسعد برهة صمت بينما واصل الإنليلييون حوارهم الواهن … وفجأة هتف الدكتور أسعد    (( وجدتها )). نهض متقدما نحو حلقة الإنليليين قال لهم :

-أتسمحون لي بمشاركتكم الحديث ؟

رد حامل جهاز الترجمة.

-لسنا فارغين لك الآن.

-لكن حديثي  لا يخلو من فائدة لكم ، وهو يعالج مشكلتكم التي تناقشونها في هذا الاجتماع .

-وما أدراك بمشكلتنا ؟

-انكم تبحثون عن مأوى ينجيكم من أيدي الشيخاليين        

ترجم حامل الجهاز كلام الدكتور أسعد الى المجتمعين فذهلوا . وسلم حامل الجهاز جهازه الى رئيس الجلسة :

فقال للدكتور أسعد:

-اذا فأنت تعرف لغتنا جيدا ؟

- لا يهم هذا  . لندخل صلب الموضوع .

-تفضل .

-فسحوا له مجالا للجلوس . وبدأ حديثه قائلا :

-أن جانبا من نظريتي التي قادتني الى دخول عالمكم هو اني أعتقد ان البراكين ما هي الا فضلات المصانع الموجودة في جوف الأرض. أليس كذلك ؟

-بالضبط.

-حسنا . اني أعرف على سطح الأرض مناطق بركانية قد انقطعت حممها منذ آلاف السنين وهذا يعني ان المصانع المتصلة بها في جوف الأرض قد تعطلت منذ زمن بعيد . أي انها اليوم مهجورة دارسة , اني استطيع ان أحدد مواقعها لكم بدقة اذا ما احضرتم لي خرائط لسطح الأرض واخرى لجوفها . ان هذه الأماكن ستكون خير ملاذ لنا ولكم .

- لكن الحياة في جوف الأرض تعتمد على التقنية المتطورة وهذه لا تتوفر خارج المدن .

-ان الأماكن التي أتحدث عنها موغلة في القدم أي انها بنيت وهجرت قبل أن يستولي الشيخاليون على السلطة . وقبل أن يخترعوا شمسهم الشاحبة والمنجزات الصناعية الأخرى . ولا شك أن اجدادكم القدامى حين شيدوا تلك المصانع  كانوا يعتمدون على أجهزة ووسائل ربما لا تعرفونها اليوم .

تداول المجتمعون فيما بينهم حتى اقتنعوا برأي الدكتور أسعد . فغادر أحدهم المبنى ليجلب الخرائط المطلوبة . وما هي الا ساعات قلائل حتى قدم الدكتور أسعد تقريرا مفصلا عن تلك الاماكن ومواقعها على الخارطة . وتاريخ اندثارها . فكان ان تشكل فريق استطلاع من ثلاثة اشخاص ، غابوا ساعات قليلة ثم عادوا ليزفوا لنا البشرى . و ليأمرونا بشد الرحال الى الوكر الجديد .

 

-17-

 

ازدادت عزلتي في المقر الجديد ، فالدكتور أسعد الذي كان يلازمني طيلة اقامتنا في الوكر القديم ، قد أصبح شخصا مهما . لا استطيع مقابلته الا خلال وجبات الطعام وفترة النوم . انه اليوم مستشار اللجنة الرئاسية للدموزيين ورئيس لجنة فرعية تهدف الى إعادة الحياة الى المصنع المندثر منذ آلاف السنين . والذي صار مقرنا الجديد . لكن عزلتي تتبدد في اليومين الأخرين من كل اسبوع . حيث تحل علينا سيليا فتلازمني طيلة وجودها . ونتجول معا في أروقة المصنع المتشعبة . كانت تحدثني عن تاريخ المصنع العريق الذي يرجع الى بداية هبوط إنليل الى الأرض . وقد أمر بتشييده لانتاج الاسلحة الفضائية لمقاومة الكوريين . وبعد آلاف السنين أمرت شيخال ملكة العالم السفلي بتعطيله عن العمل . ولعل هذا هو سر الخلاف بينها وبين دموزي ملك الإنليليين على سطح الأرض ، مما يؤكد خيانة شيخال وتواطئها مع الكوريين … وهكذا بدأت صلتي بسيليا تتوطد أكثر فاكثر . وصرت أعد ساعات الاسبوع بفارغ الصبر منتظرا عودتها في اليومين الاخيرين . وقد أزداد تعلقي بها حين قررت أن تعلمني التخاطر فكانت تخصص ساعات طويلة لهذا الغرض . وبعد ان تعلمت هذا الفن صار خير وسيلة لتبديد العزلة حين تغيب عني سيليا . فكنت اقضي الوقت للتخاطر معها .

كان حرصي على بقائها الى جواري  يلجمني عن البوح بمشاعري نحوها .. وذات مرة تجرأت فقلت لها :

-هل يمكن أن يتزوج انسان إنليلية ؟

أجابت مبتهجة :

-يمكن ويعطي ثمارا عظيمة .

-امنيتي أن أتزوج منك

-فعلا ، ان هذا ما أفكر به .

تجرأت أكثر وقلت :

وما الذي يمنعنا من الزواج اذا ؟

-الظروف السياسية ، لا نستطيع الزواج الا اذا سقط الشيخاليون واستولينا على الحكم .

-لكنني سأكون قد شبعت موتا .

-ولماذا ؟

-تذكري ان عمري دون العشرين ، وان شمسكم ستتزود بالوقود بعد سبعة أشهر.

اطبقت فمها وغام الحزن على وجهها ثم اضافت :

-لا بد أن نجد حلا .

بعد أيام من هذا اللقاء ،قال لي الدكتور أسعد ونحن نأوي الى النوم :

-هل تعلم أن سيليا تفكر باخراجك الى سطح الأرض 

-الى سطح الأرض ؟ أمر غير معقول ‍‍‍‍‍‍!!

-امس طرحت المشروع على اللجنة الرأسية .

-وكيف يتحقق ذلك ؟

-انهم يبحثون عن خطة

-وهل ترى ذلك ممكنا ؟

-لا أدري. ولكن فيما يخصني فأنني أسعى لأن أجعل النفق المتصل بالمصنع والذي ينتهي بالفوهة البركانية التي كانت تقذف الحمم قبل آلاف السنيين … اسعى لأن اجعل منه ممرا نظاميا الى سطح الأرض .

-وكم يستغرق ذلك من الوقت ؟

-ليس اقل من خمس سنوات .

-لن أعيش الى ذلك الوقت .

-لعل الإنليليين يعثرون على خطة .

غط في شخيره وبقيت يقظا .ومن فراشي بعثت برسالة تخاطرية الى سيليا أسألها عن صحة الخبر فجاءني ردها :

-لا زلنا نبحث عن خطة .

 

-18-

 

مرت ثلاثة أسابيع وجواب سيليا لا يتغير (( ما زلنا نبحث عن خطة ))  غير ان الدكتور أسعد أخبرني يوما :

-يبدو أن سيليا قد وجدت الخطة المناسبة لإخراجك .

-لكنها لم تخبرني بذلك .

-يبدو أنها تريد أن تفاجئك بالخبر حين يدخل حيز    التنفيذ .

-كيف عرفت ذلك ؟

-ان والد سيليا شخصية من كبار الشيخاليين واليوم أصدرت قيادة الدموزيين  تعليمات الى قواعدها بشن حملة اعلاميّة ضده والتهديد بالانتقام منه وحين سألت عن سبب الحملة الاعلاميّة أجابوا بأنا لأمر يتعلق باخراجك الى سطح الأرض .

-لا اجد علاقة بين الأمرين .

-ولا انا . ولكن للانليليين حساباتهم .

بقي الأمر مبهما علي حتى جاءتني سيليا بعد أيام . وبادرتني الى القول :

أما زلت راغبا بالزواج مني ؟

-ذلك حلمي الجميل . ولكنني سأموت قبل ان تتحقق هذه الامنية .

-اطمئن . انني سأعيدك الى اهلك  وذويك . ولكن أتتعهد الي بالعودة حينما أطلبك ؟

-أتعهد بذلك .

 

أطلعتني على تفصيلات الخطة : كانت سيليا مكلفة بنقل آلات من مصانع العاصمة الى بوابة تل المهالك . والخطة تقضي بوضعي في صندوق حديدي مشابه للصناديق التي تحتوي الآلات . وتنقلني مع بقية الصناديق الى بوابة تل المهالك . وعند لقائهما بحارس البوابة العجوز يبادر اثنان من الدموزيين  الى قتل الحارس . وجرح سيليا جرحا طفيفا . ثم يخرجونني الى سطح الأرض . وعندها سيكون للحملة الاعلامية على والد سيليا أهمية كبيرة . حيث أن الأنظار تتوجه الى سيليا باعتبارها إلهدف المقصود للدموزيين انتقاما من أبيها وليس حارس البوابة العجوز .

 

في اليوم التالي كان الدكتور أسعد يودعني ويهمس في أذني أن أتصل باهله في مدينة فاس المغربية  . اذا ما خرجت سالما الى سطح الأرض . رافقتني سيليا الى غرفة في المصنع المهجور ، الذي بدأت الحياة تدب فيه . وفاجأتني هناك قائلة :

-ان سلامة الإنليليين تقتضي بقاء أمر نزولك الى عالمهم سرا لا يعرفه أحد من البشر . لذلك فالاجراءات الامنية تقضي بأن نمسح من ذاكرتك كل ما يتعلق بحياتك في عالمنا هذا .

-وكيف ذلك ؟

-سنسلط أشعة عليك تمسح ذاكرتك مسحا جزئيا .

-لكنك طلبت مني أن أعود الى عالمكم حين تطلبينني . فكيف يتحقق ذلك وذاكرتي ممسوحة فيما يتعلق بكم ؟

-نعم حين أريد منك العودة . سأجري غسلا لذاكرتك من آثار الاشعة فتعود لك الذاكرة المفقودة . وذلك عن طريق الرسائل التخاطرية

أمرتني أن أجلس على كرسي في زاوية الغرفة . امتثلت لأمرها . وعلى الفور سقطت علي اشعة باردة .

 

 

-19-

 

أهي عبقرية الطبيب وبراعته في التحليل النفسي ؟ أم القدرات الخارقة التي تتمتع بها سيليا ؟ وموهبتها في التخاطر التي ورثتها عن جدها إنليل . تلك التي أعادت الي ذاكرتي المفقودة ؟؟ … فحين استيقظت من نومتي العميقة بعد جلسة التحليل النفسي المرهقة . وجدت ذهني مفعما بالذكريات المنسية بكل دقائقها وتفاصيلها … أمسكت بالقلم وبدأت اسطرها لكم على هذه الوريقات . أثناء مواصلتي الكتابة تسلمت رسالة تخاطرية من سيليا الإنليلية كتلك التي كانت تبعثها لي أثناء وجودي في جوف الأرض لكن الرسالة هذه المرة كانت طويلة وملأى بالكلمات الدافئة والبشائر الوردية .

استهلت سيليا رسالتها معلنة عن شوقها الشديد لرؤيتي وذكرتني بالوعد الذي قطعته لها باستعدادي بالعودة الى جوف الأرض …. قالت : ( ان عودتك الى عالم الإنليليين اصبحت ضرورية أكثر من أي يوم مضى . وذكرتني بالدكتور أسعد الجبلي قائلة :

-ان صاحبك العجوز قد أثبت عبقرية فذة في احياء المصنع المهجور الذي صار مأوانا في الاشهر الاخيرة من حياتك في جوف الأرض . لقد استفدنا كثيرا من ذلك المصنع حيث استطعنا احياء علوم اجدادنا القدماء . فصنعنا بالتعاون مع الدكتور اسعد الجبلي اسلحة جديدة نواجه بها الشيخاليين …. امتدت أصابع الدكتور الى المصانع المهجورة الاخرى . فراح يبعث فيها الحياة الواحد تلو الآخر . خلال السنوات الأربع التي غادرتنا فيها .  هكذا صلب عود الدموزيين وتمرسوا باستعمال الاسلحة الجديدة . حتى كانت أول مواجهة عظيمة لنا مع الشيخاليين حين هجمنا على سجن العاصمة الرهيب الذي ضمك بين اسواره حولا كاملا فحررنا السجناء . انبثقت شرارة انتفاضة جماهيرية عارمة . بدأت حصون الشيخاليين تتساقط . وخلال ايام قلائل كان الدموزيون يقفون على دفة الحكم . وكان الدكتور أسعد مستشارهم الأمّين . ولا أكتمك سرا اذا قلت لك ان الحياة الجديدة لم تكن بالصورة التي نحلم بها … فعند انهيار سلطة الشيخاليين ، بعد  آلاف السنين من الحكم الجائر ، اصابت الجماهير الإنليليية موجة من التمرد الجنوني . بدأت بإحراق السجن المركزي . ثم تدمير مقرات السلطة الشيخالية تدميرا كاملا . لكنها استمرت في رفض كل قديم وكم كانت دهشتنا كبيرة .. ونحن ننظر الى السذج الإنليليين يهشمون تمثال جدهم إنليل العظيم ويحرقون محتويات المكتب الوثائقي باعتباره من بقايا الشيخاليين . وكم كان ذهولنا لا يوصف ونحن نرى آلاف الإنليليين يرومون الصعود الى سطح الأرض دون تقدير للعواقب …. حاولنا اقناعهم بخطورة هذا السلوك . فلم نجد أذنا صاغية . فحاولنا منعهم بالقوة غير انهم تحدوا السلطة الجديدة … وجاءت المبادرة من الدكتور أسعد .  فقد أوعز - بحكم موقعه في السلطة الجديدة - الى حراس البوابات بتدمير جميع المصاعد المؤدية الى سطح الأرض . وهكذا وضع السذج أمام الأمر الواقع وانقذ الكوكب الأرضي من حرب دامية بين الإنليليين والآدميين …. رغم مرور ستة أشهر على وصولنا الى الحكم . لكن قبضتنا على الإنليليين ما زالت ضعيفة وقد حرصنا ان نبقي كافة المصاعد الى سطح الأرض معطلة . حرصا منا على عدم تسرب الإنليليين  وقد قمنا بإصلاح مصعد واحد هو مصعد تل المهالك وأحطناه بحراسة مشددة .

أود ان أخبرك ان دعوتك للهبوط الينا ليســت رغبة شخصية مني فقط . بل هي دعوة من قبل قيادة الدموزيين باقتراح من قبل الدكتور أسعد قرروا ان تكون ا ول وسيط لنا مع البشر . ليسهل مهمة صعودنا بسلام الى سطح الأرض . كما اذكرك بحلمك الذي تتمنى تحقيقه وهو الزواج مني . انه اصبح اليوم ممكن التحقيق . فقيادة الدموزيين ترى في هذا الزواج فاتحة عهد جديد لكوكب الأرض . انهم اليوم مقتنعون بأنّ ثمرة هذا الزواج ستكون مخلوقا جديدا يجمع بين صفات الإنليليين والبشر . وسيكون مؤهلا لقيادة سكان الأرض ( إنليليين وآدميين ) وسيحقق الاهداف البعيدة للدموزيين في إلهيمنة على فضاء مجموعتنا الشمسية ودحر الكوريين الاعداء .

في الختام ، اعدك في حالة عودتك الينا أن غيابك في جوف الأرض لن يطول كثيرا . ففي مطلع كل شهر ستقضي ثلاثة ايام بين اهلك واصدقائك على سطح الأرض . ليس هذا قراري وحدي بل هو قرار القيادة بأكملها . وقد صدرت التعليمات باستقبالك الى حراس بوابة تل المهالك . فأهلا بك أنى جئت .

*   *   *

بعد تسلمي لهذه الرسالة . لم يعد أمامي بد من تنفيذ ما طلبته سيليا مني . فها أنا اخرج امتعتي  وأتهيأ للرحيل . لأكون الى جوار سيليا في جوف الأرض حين تفرغ من قراءة هذه الوريقات . أيها الاخ العزيز وعذرا لكم جميعا .

 

 

الأرض الجوفاء

الفصل الثالث

 

-1-

 

ما الذي علي ان افعله بعد قراءة هذه الصفحات ؟

غادرت المقهى الى القسم الداخلي فكان الجواب أن عباسا قد حزم حقائبه ورحل منذ الصباح الباكر . ترى ؟ ان ما كتبه على هذه الصفحات كان حقيقة أم وهما وهذيانات ؟  وتوجهت الى عيادة الطبيب النفسي وكان جوابه قاطعا :

-كان أخوك قد تعرض الى فقدان جزئي للذاكرة   وقد شفي من هذه الحالة يوم أمس . وأنه بكامل قواه العقلية .

غادرت العاصمة الى مدينتي . فوجدت البيت مزدحما بالأهل والاقارب والاصدقاء وواجهني أبي ثائرا :

-ما الذي يفعله عباس في تل المهالك ؟

سألت مستغربا :

-ما أدراك انه في تل المهالك ؟

-جاءني  سائق لسيارة اجرة . وأخبرني انه رأى عباسا في المدينة . وان عباسا طلب من السائق أن يوصله الى حي من أحياء البدو في الصحراء … غير انه  قد غادر سيارة الاجرة على بعد عشرة أمتار من تل المهالك . قبل غروب الشمس .

عرضت أمامهم الاوراق التي تركها عباس . ورويت لهم قصته . فكان جواب أبي :

-هراء . انه مجنون . لا يعي ما يفعل . وعلينا أن نبحث عنه في ذلك المكان .

مع الفجر كانت السيارات تقل عددا غفيرا من أبناء عمومتنا . وتتجه الى تل المهالك . لتفتشه تفتيشا دقيقا دون أن تعثر على أثر لعباس .

 

-2-

 

عشية اليوم الثاني ، كانت غرفتي تضم سبعة رجال. انهم الفرسان الذين شهدوا مغامرة الأول  من آذار قبل ما يقارب ست سنوات . عقدنا اجتماعا لتداول الحالة التي صار اليها أخي عباس . وبعد مناقشة مذكراته ودراستها طويلا . بادر صاحبي الذي كان يحلو له أن يلقب نفسه بالمثقف الطليعي الى القول :

- لماذا نرفض تصديق عباس ؟ أنسيتم الشبح الذي رأيناه على سفح تل المهالك ؟  كيف عجزنا عن أيجاد تفسير مقنع لظهوره ؟ … ان ما ذكره عباس على هذه الاوراق هو التفسير المنطقي الوحيد لتلك الظاهرة .. لماذا لا نصدق وجود مخلوقات عاقلة في جوف الأرض ؟

رد أحد الجالسين :

-لكن احتمال تعرض عباس الى أوهام تسلطية وارد أيضا .

-كلا الأمرين ممكن . لكن عباسا قد ذكر انسانين في مذكراته . هما منخي الفتّال والدكتور أسعد الجبلي . فاذا كان الأمر أوهاما تسلطية - كما تقول - فلا بد أن يكون الشخصان وهميين . لا وجود لهما في الواقع . أما اذا عرفنا ان هذين الشخصين لهما وجود واقعي . فلا بد أن يكون الأمر حقيقة لا وهما  …. ومن جانبي فأن لي صديقا في المغرب أعرفه من أيام الدراسة الجامعية . وسأبعث له برسالة أسأله عن الدكتور أسعد الجبلي واطلب منه معلومات تفصيلية عنه ، ويبقى منخي الفتّال ، فليتدبر أمره احدكم .

في اليوم التالي توجهت الى مدينة قلعة سكر على ضفاف الغراف . وحللت على مضارب آل الفتّال . وكان جوابهم :

- ان منخي الفتّال كان واحدا من رجالنا الأشداء . وانه قد اختفى قبل ما يقارب ست السنوات . وفي الأول  من آذار على وجه الدقة حين كان يرعى أغنامه على مقربة من تل الذئاب .

عدت بالاجابة الى الأهل وااصحاب . فكان مؤشرا لهم على صدق أقوال عباس . وبعد شهر جاءت الرسالة من المغرب تحمل المعلومات التالية :

الدكتور أسعد الجبلي كان استاذا للجيلوجيا في جامعة فاس . وقد توفي قبل ستة عشر عاما في حادثة سيارة . لقد وجد حطام سيارته على شاطئ المحيط الاطلسي . أما جثته فلم يعثروا لها على أثر الى اليوم . وان له ابن هو اليوم عالم في مركز الابحاث الفضائية .

هكذا تأكد لنا - نحن السبعة - ان ما رواه عباس في مذكراته حقيقة ثابتة . لكن ما الذي علينا أن نفعله ؟ …. أ نخبر الجهات الرسمية ؟ من سيصدقنا ؟ علق أحدنا :

- لننتظر ونرى النتائج . الم تقل - سيليا -  في رسالتها التخاطرية - ان عباسا سيقضي عطلته الشهرية بين الاهل والاصدقاء فلننتظر عودته اذا .

 

 

-3-

 

بعد مرور عام كامل على غياب عباس سألني صاحبي:

-أما من جديد حول عباس ؟

-لا جديد. يبدو ان هيامه بسيليا قد انساه اهله وأصدقائه.

-أتمزح ؟ ان الأمر لم يعد مشكلة عباس وحده أو مشكلة هله . انها مشكلة الإنسانية جمعاء. ماذا لو خرج علينا الإنليليون من جوف الأرض على حين غرة ؟  أيبقى للإنسانية ذكر ؟

-ما الذي استطيع فعله ؟

-لنتسرع . لندق الجدران الصماء .

-كيف ؟

-لنقتحم الصحافة .

-وبعد ما الذي سيحدث ؟ اذا كان الناس العاديون يرفضون تصديقك  فما بالك بالمسؤولين الكبار؟

تدخل ثالث :

-تذكرا الرسالة القادمة من المغرب. ألم تذكر أن للدكتور أسعد ابن . هو اليوم عالم في مركز الابحاث الفضائية . انه قادر ان يفعل شيئا . لو اقتنع بصحة الأمر.

تحمس صاحبي الأول للفكرة وقال:

- فعلا . علينا أن نقابل هذا العالم . ونقدم له ما نعرف من معلومات. ونترك له التصرف المناسب.

قررنا أن نسافر أنا وصاحبي الى المغرب . ونقابل ابن الدكتور اسعد. ونضع بين يديه مذكرات عباس . ونروي له كل ما نعرف . جرت الاستعدادات لذلك .

حصلنا على جوازي سفر . واقتطعنا بطاقتي طائرة . وتهيئنا للرحيل عصر الغد .  

 

 

-4-

 

الثانية بعد منتصف الليل . كنا ننام على سطح الدار . انا وأبي . استيقظت على ازيز خافت . فتحت عيني فأبصرت جرما بنفسجيا . يحوم فوق سطح الدار . حاولت النهوض . فأنهمر علي ضوء بنفسجي جعلني عاجزا عن الحركة والنطق . اقترب الجرم اكثر . هبط منه شخص لم استطع تحديد ملامحه في ظلمة الليل . هبط سلم الدار . حاولت النهوض فوجدت نفسي عاجزا . بعد دقائق صعد الى السطح . وقفز الى المركبة البنفسجية . وبسرعة شديدة غابت المركبة في الافق البعيد . وجدت نفسي أقفز من فراشي واقفا . فوجئت بأبي يقفز مثل قفزتي . قال :

-أرأيت الذي رأيته ؟

-نعم الجسم البنفسجي .

-والرجل الذي هبط منه ؟

-أمتأكد انه رجل ؟

-لا أدري. الظلام كـثيــف . لكن ماذا أخذ من الدار ؟

هبطنا السلم . واجهتنا أمّي التي كانت نائمة في سطح الدار . وسألها أبي :

-أ رأيت الرجل الذي هبط الى الدار ؟

-لم يكن رجلا . لم يكن إنسانا .

ولاذت بصمت مبهم.

دلفت الى غرفتي. وجدت خزانتي مفتوحة . بحثت عن مذكرات عباس. لم أجدها. جوازا السفر. تذكرتا الطائرة. كلها قد اختفت. ووجدت مكانها خنجرا معقوفا.

أهو انذار بالقتل اذا لم ألزم الصمت ؟؟

ألم يقولوا اننا نسعى الى اقامة علاقات ودية مع    البشر ؟

ألم يعدوا عباسا بقضاء عطلته الشهرية بين اهله واصدقائه ؟

ترى هل سقط الدموزيون ؟ هل استعاد الشيخاليون سلطتهم ؟  هل أودعوا عباسا السجن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

لا جواب. الخنجر وحده لامع ومعقوف. وعلي أن الزم الصمت.

تمّت 

هوامش:

-انليل: إله إلهواء وكبير الإله في الديانة السومرية. وهو ابن الإله آنو إله السماء واليه يرجع الفضل في فصل السماء عن الأرض.

-آنكي: إله الأرض والمياه الجوفية عند السومريين.

-تيّامة: عند البابلين الإلهة الأولى، إلهة الماء المالح. وزوجة الإله آبسو إله الماء العذب فهي ام الإلهة. قتلها حفيدها الإله مردوخ. وقطع جسمها الى نصفين. رمى النصف الأول الى فوق. فكانت السماء. ورمى النصف الثاني الى تحت فكانت الأرض. ثم ذبح وزيرها وخلط دمه بلحم تيّامة . وخلق منه الإنسان .

-دموزي: الإله الراعي أو إله الخصب عند  السومريين واسمه عند الجزريين تموز . وتروي الاساطير السومرية ان الإلهة اينانا (عشتار) قد تآمرت عليه فأوصلته الى العالم السفلي . الذي تحكمه اختها الإلهة شيخال . لكن هذا الأمر اثار غضب مجمع الإلهة. فاجتمعوا وقرروا بعثه الى الحياة . وحين عاد الى العالم الأعلى نشر الخصب والنماء على الأرض.

-شيخال: إلهة العالم السفلي عند السومريين وهي أخت الإلهة اينانا ( عشتار) . وهي المسؤولة عن القبض على الإله دموزي.

-كو: وحش خرافي كان مقره في دلمون في الخليج العربي. وتروي الملاحم السومرية. ان معركة عنيفة دارت بين كور والإله إنليل. وانتهت بمقتل كور على يد الإله إنليل .

-مردوخ: إله بابل. وكان إله صغيرا في عهد السومريين. وفي الالف الثاني قبل الميلاد. صار إلها كونيا . واعتبر كبيرا للالهة. وحصل على ألقاب كثيرة. منها الإله العلي القدير، رب السماء والأرض. وهو حفيد آبسو وتيّامة. وتروي الاساطير البابلية انه قاد تمردا ضد الإلهة الكبار بقيادة جديه آبسو و تيّامة . فقتلهما وصار كبير الإلهة بلا منافس.

-نفر: مدينة اثرية بناها السومريون. وصارت العاصمة الدينية للعراقيين. حيث فيها معبد الإله إنليل الذي يحج اليه العراقيون القدامى كل عام. وتقع آثارها في محافظة القادسية قرب عفك.

================================

*الدكتور عبد الهادي أحمد الفرطوسي

ناقد وروائي صدرت له مجموعتان شعريتان: "بوصلات" و"إنجيل أمّ سعد"، وخمس روايات، من بينها رواية "الرجل الأتي"التي فازت بجائزة الشارقة عام 2000، والأرض الجوفاء، والزمن الحديدي، وضوع الكبريت، والكون السالب، كما صدر له ثلاثة كتب نقدية هي: "انشطار الرؤيا"، و"المبنى الحكائي في القصيدة الجاهلية" يتناول الشعر الجاهلي في ضوء المناهج السردية الحديثة، و"سيميائية النص السردي" يتضمن دراسات سيميائية لخمس أعمال قصصية عربية. وله ثلاثة كتب نقدية أخرى تحت الطبع.

أسهم في أغلب مهرجانات المربد والمهرجانات الشعرية الأخرى، والمؤتمرات العلمية، ونشر الكثير من نتاجه في المجلات الأدبية والعلمية المتخصصة، ومارس العمل الصحفي فترة من الزمن، وهو الآن يرأس تحرير مجلة "بانقيا" ويشغل موقع رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في النجف.

 

أضيفت في 01/02/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية