ثلاث قصص
1 ـ قم واكتب
من داخل الزنزانة جاءه الصوت.
ـــ قم وأكتب.
فصاح في نفسه وزنزانته، ما أنا بكاتب.
•استيقظ السجين من نهايات الكابوس الجميل والمرأة
الفاتنة التي تراوده، وصاح
ـــ لا أريد لأحد أن يقطع عليَّ كوابيسي.
وعاد للنوم ثانية ليتمكن من استكمال الحلم الجميل
الذي أفلت منه.
وقبل أن يأخذه النوم بعيداً.. جاءه الصوت ثانيةً:
ـــ قم واكتب.
• فنهض من عتمته وأحلامه الهاربة.
فانفتحت له كوّة من الضوء.
• لم يكن يعرف طبيعة الصوت... غير أنه لم يكن يشكُّ
في عمق الصوت وقوته.
ـــ ما أنا بكاتب... أجاب الرجل... وهو يداري عينيه
من حزمة الضوء المبهر الذي أقلق رؤياه.
ـــ ولكنك تحمل مؤهلاً علمياً.
ـــ ليست الكتابة أن تعرف الإملاء والفواصل
والكلمات.
ـــ ولكنك في زنزانة.. وتحظى بسجانين متفهمين..
وتقدم لك الصحف
ـــ والكتب التي لا تحضُّ على الانتحار.. وأنت من
الرجال المزودين بقدر من الكآبة يدفع صاحبه للإحساس بجدوى الكتابة.
ـــ الكتابة تحتاج لشيء آخر أكبر وأعمق من السجن
الكتابة تحتاج لامرأة محبة وجسد عظيم.
ثم كان الصمت...
• لم يكن صاحب الصوت يتوقع أن يشترط السجين من أجل
تحقيق فعل الكتابة...
إحضار امرأة.
لذلك قال الصوت بلهجة تأنيب:
ـــ ينفق الرجل نصف عمره الأول للحصول على امرأة.
وينفق نصفه الثاني في سبيل التخلص منها.
وأنت بلغت نصفك الثاني.. فما الذي دفعك.. والكتابة
فعل لا يتحقق إلا بالعزلة.
وتذكر النصف الأول من المشكلة.
…ثم كانت لحظة صمت…
تحير فيها الضوء وتغير… وتشكل في هيئة امرأة باهرة.
• بعد أن أنهى الرجل فترة التأمل العميق… أحس بالخوف
على المرأة من برد الزنزانة.
فخلع بعض ثيابه ليغطي بريق المرأة العارية.
ففزعت المرأة ورجعت إلى الجدار وقالت:
ـــ هل الضوء يُغطى.
ـــ قال الرجل: لا أغطيكِ لأحجب ضوءكِ... ولكن خوفاً
على عيني من أن تعشش.
• عند ذلك انحازت المرأة إليه، وتداخلا معاً في عناق
عميق امتلأت له الحياة والزنزانات بالنشوة والبريق.
وحين أدركهما الليل اعتنقا وما افترقا.
وفي الهزيع من الليل نهض الرجل وغطى المرأة وغفا.
وفي الصباح استيقظ الرجل.. فوجد إلى جواره كومة من
الثياب لا ضوء فيها ولا حياة ولا امرأة.
فنهض عن الثياب
دون أن ينتبه إلى رطوبة أكمام القميص وصدره الذي
ملأته المرأة الهاربة بالدموع. عندما لم يجد المرأة، تكوم السجين على نفسه
مثل جنين.
وحين نام، جاءه الصوت...
قم واكتب.
2 ـ فراغ
• كنت تحب الفراغ والصمت العميق
عندما توغلت عميقاً في الصحراء.
أوقعك الفراغ والظمأ في بقعة لم تستطع وعكازك أن
تبارحها.
هل كانت للرمل رائحة
هل كان للهواء طعم.
وكيف شعرت بالغواية....
وليس في هذا الفراغ ظل لسواك.
• عندما قررت عبور الصحراء قلت:
ـــ أنا ذاهب للبحث عن خطوات سبقتني.
وعندما لم تلمح في الصحراء شيئاً قلت:
ـــ إذا لم تكن للرمل ذاكرة.... كيف للخطوات أن
تكون.
وحين لمحت جندباً فزعاً
يهيل الرمل على خطواته السابقة ليتابع ويعيش.
أحسست بالحكمة الهائلة.
فعندما يكون الله موجوداً.
كيف للفراغ الهائل أن يكون.
3 ـ نفق
ـــ في النفق المظلم مضى الفتى مفتشاً عن الفتاة
التي تنتظره.
ـــ وفي النفق المظلم.. اختبأت الأنثى من الرجل الذي
يطاردها.
كانا يعرفان أن الأنفاق موحشة، ولا تسمح بالإلفة.
ولكنها توصل للهدف بسرعة.
• وعندما سمعت الفتاة الفزعة صوت خطوات.
ـــ قالت في سرها: إنه هو.
ـــ وعندما سمع الرجل صوت لهاث.. قال: إنها هي.
الفتاة بحثت بعصبية عن شيء داخل محفظتها لتدافع به
عن نفسها
ـــ والفتى خلع معطفه السميك ليكون لحظة العناق أقرب
إلى جسد الفتاة التي يحب من نفسها
ـــ الفتاة لم تجد في المحفظة ما يعينها على الدفاع
عن نفسها سوى القليل من العتمة والمساحيق.
• وبسبب ذلك ارتطما ببعضهما... فكان عناق عظيم حال
بين الفتاة وبين أن تمتلك فسحة من الهواء لتطلق صراخها.
وعندما حيل بينها وبين السقوط... تحسست لون العناق
وتشممت طبيعته.
وانهمكت به واستسلمت له.
وحين خرجا من النفق ليتبينا بعضهما....
ارتطمت أقدامهما بجثتين مضرجتين.
الصرخة
فجأة.. تشكلت جمهرة من الناس. وتعالت من قلب الجمهرة
الهمهمات والأكف وتتالت الصرخات والشتائم، وكان على حافة الجمهرة رجل يتأمل
ما يجري وهو واقف وواجم.
خلال الضرب والشد والجذب نهض الرجل المضروب من قبل
الجمهرة وصاح:
-أنا حر.. أنا حر.
وبسبب قوة الصرخة وغرابتها شعر الرجل الغريب الواقف
قرب الحشود الغاضبة بالاضطراب وزاغت عنه كتلته وأطرافه، فاندفع بهياج إلى
قلب الجمهرة. وعندما وصل إلى الرجل المضروب الذي يعتبر نفسه حراً رفع كفه
وأهوى به على وجهه.. وثنى عليه حتى أوقعه وأدماه.
كانت الصفعات من العمق والقوة والإحاطة. بحيث أغضبت
خصوم المضروب وأصدقاءه معاً. فالتفتوا إلى الرجل الغريب وانهالوا عليه
ضرباً في الصميم حتى ترنح ووقع فوق ضحيته. وهكذا تكوّم الرجلان المضروبان
على بعضهما مثل توأمين، ولدا سفاحاً وتركا في برية من التجاهل. دون أن
يُصانُ لهما حدّ ولا وجد.
كل هذا جرى وصار يا مولاي ولم تكن الشرطة منتبهة،
لذلك ذهب أهل البرِّ والإحسان لإبلاغها بعد أن قام الصالحون منهم بتحضير
الاتهامات والحبال. وعندما أحضروا. بحثوا عن عمود قريب ليربطوا به الرجل
الغريب، فلم يجدوا عموداً خالياً، لذلك اضطروا لربطه بصاحب الصرخة حتى لا
يضيع حقه. وقد بالغ الصالحون بالربط وأخلصوا له.. حتى أضاع صاحب الصرخة
حريته فاختلطت بالحبال مواجعه وكدماته.. وأصبح موثوقاً إلى جلاده. أحسن
الوثق وأصدقه.
وكانت حجة القائمين على الربط دامغه وقد عبر عنها
أحد المتشددين فقال بعد أن أشار إلى الحبل:
-عندما يُربط المتهم بضحيته ودليل اتهامه.. تصبح
الحقيقة أقرب إلى الناس من حبل الوريد. وتأكيداً على ذلك وضع المخلصون
الوريد على الوريد وأحكموا الشدّ.
*عندما اقتربت سيارة الشرطة. انشطر الحشد ونزل
الخفير من الخلف، وتأمل الجسدين المربوطين، وعندما تأكد من متانة الربط،
وصعوبة الحل دفع المربوطين إلى مؤخرة السيارة.
وبعد زوبعة من الروائح والدخان الكثيف تحركت السيارة
وغابت في الأفق الشفيف.
وهناك يا مولاي، في البعيد.. وفي نقطة لا يجرؤ فيها
الأفق على الجمع بين السماء والأرض، كان المخفر جاثماً وعلى شكل هندسي
فريد. ثم دُفع الموقوفان إلى الحافة، فتدحرجا من السيارة وقد أعانهما الربط
الحكيم على التكور والدحرجة.. فظلا في حالة دوران عميق.. حتى وصلا إلى غرفة
الرئيس..
وكان رئيس المخفر يا مولاي، يتمتع بالحكمة والبدانة
والسعال العميق. وعندما شاهد هذا المنظر، نهض من مكانته واقترب من كومة
اللحم المربوط، وسأل:
-أيهما الرجل القاتل.. وأيهما القتيل.
فأجاب المعاون: لا علم لي يا سيدي، إلا بما علمتني،
فهل نفك وثاقهما لنعرف الحي من الميت. أم نتركهما هكذا لينالا ما ارتضته
لهما الحبال من مصير ومواثيق.
فقال رئيس المخفر: فكّوا وتعرّفوا.
فانحنى المعاون إلى الكومة ودحرجها ذات اليمين وذات
الشمال، لعله يرى طرف الحبل الذي أُوثق به الرجلان، فلم يقدر على الحبل ولم
يكتشف آثاره.
كان اتحاد الجسدين عميقاً، ودماؤهما مختلطة ومتوارية
كأنما أعاد الحبل صياغتهما، وتحويلهما من كيانين منفصلين إلى كيان واحد.
(الفم) الذي أعيا الهواء بالصراخ وهو يردد (أنا
حر).
(والكف) الذي أوهن الزمان بالصفعات كلاهما.. ذابا من
شدّة الربط ولم تعد لهما هيئة ولا حدّ، مما دفع بقية الأطراف والعناصر
للتداخل والارتهان.
عندما شعر رئيس المخفر باضطراب معاونه، وضياع أمره
وطرف حبله، طلب إحضار لجنة من الحكماء وخبراء المتفجرات، وبعد زوبعة من
الحركات والأوامر.. تدخل أصحاب الاختصاص ولو لم يقم أحد الحكماء بتحديد طرف
الحبل، لتمكن خبراء المتفجرات من تنفيذ خطتهما وتحويل الجسدين الملتحمين
إلى حشود من الأمم الممزقة والصرخات.
بعد شدٍّ وفكٍ، تحللت الأواصر، وانفرط العقد، وافترق
الجسدان. وبدأت تظهر ملامحهما وصرخاتهما وأصبح ممكناً تحديد جهة الجدار
الذي استند عليه كل واحد منهما، وبعد فحص وتحديد للبصمات والأمنيات، تمكن
رئيس المخفر من معرفة التهمة المنسوبة لكلِّ منهما، فقبض على الأول متلبساً
بالصرخة الهائلة.. (أنا حر).
وقبضْ على الثاني متلبساً بالصفعة الهائلة التي تفقد
الكائن.. خصوبته وحريته، وتلقي به بين أقدام الجمهرة والحشد.
بعد تعقيم وتضميد.. استعاد الأول وعيه دون أن يستعيد
حريته وبدأ يهمس بالهواء والكلام الضئيل، فوجدها رئيس المخفر فرصة سانحة،
فاقترب من الموقوف، وأطلق عليه وابلاً من الأسئلة والسعال الكثيف. ومن أوقع
الأسئلة وأبرزها السؤال عن السبب الَّذي دفع المضروب ليصرخ.. أنا حر.. أنا
حر.
فاضطرب الموقوف وارتعد وكاد أن يتهاوى.. فعاجله
المعاونون بسطل ماء، فاستعاد يقظته وبلاغة آبائه وأجاب على الأسئلة بارتواء
فقال:
-إنني وعندما صرخت صرختي المعروفة (أنا حر) لم أكن
أحاول النيل من جماعة أو نظام، وكان قصدي أن أوضح لخصومي بأنني حر، ولكن في
حالة واحدة فقط.
فارتعد رئيس المخفر الذي لم يكن قد رأى طوال حياته
رجلاً حرَّاً.. وسأل عن هذه الحالة ومقاصدها، فقال الرجل الحر بحرقة
واستعجال: قصدت بأنني حر في سداد المبلغ الذي اقترضته من تجار السوق عندما
كنت في محنة، وحين حال عليَّ الحول يا سيدي دون أن أدفع وأسدد تجمهروا علي.
وبدؤوا الشدَّ والضرب والركل لترويعي فما ارتعت.. ثم وجدتُ الفرصة سانحة
فصرخت فيهم أنا حر.. وظللت أرددها.. حتى تدخل هذا الرجل.. وكان ما كان
وامتلأ الزمان بالصفعات والحبال.
فقال رئيس المخفر: ألم تكن بصرختك تلك تطالب بزوال
الدول واضطراب الجماعات والأحوال؟..
فقال الرجل الحر: كنت أطالب، بزوال الديون، وانقضاء
الأقساط لأستعيد البيت والزوجة والأولاد، فامتلأت عينا رئيس المخفر بالدموع
بسبب السعال واقترب من الرجل الحر.. وأعطاه مبلغاً من المال، وطلب منه أن
يستعين به على تسديد بعض الأقساط، ثم ودع الرجل وداعاً حاراً، كاد فيه أن
يزهق روحه بسبب قوة العناق. في نهاية الوداع.. تفرغ رئيس المخفر للمتهم
الثاني.
والمتهم الثاني يا مولاي، شيء لم يرد في حكاية ولم
يخطر على بال.. وقد ظلّ رغم الحبال والركلات منتصب القامة مثل شيء آيل إلى
زوال.. وكان عندما تخذله قواه. ورؤياه يحاولْ قبل أن يقع أن يستند على
شجرة، ولأن الأشجار ولأسباب غير مفهومة لم تكن موجودة في المخافر، لذلك كان
المتهم يا مولاي. يستجمع انتباهه وقواه وينحاز بجسده إلى الجدار ليتجنب
السقوط والاضمحلال.
عندما وجده رئيس المخفر على هذه الحال، دنا منه،
وسأله: ما الذي فعلته بزمانك ودنياك. حتى وصلت إليَّ؟..
فقال المتهم: كل الدروب تؤدي إليك. وأسرعها..
وأكثرها فتنة. الصفعات.
فقال له رئيس المخفر وهو يتأمل لهاثه ونهايات
أصابعه: أخبرني عما جرى لأفهم الدوافع والأسباب.
فقال المتهم: إذا لم تعطني الإذن بالجلوس، فلن تقدر
على الفهم ولن أقدر على الكلام.
فارتبك رئيس المخفر.. وأعاد مسدسه إلى قرابه واقترب
من المتهم وأعانه على الجلوس.. وعندما استقر المتهم على الكرسي سأله رئيس
المخفر:
-لماذا صفعت الرجل الحر؟..
فقال المتهم: لم أفكر في حياتي كلها أن أصفع وردة،
وكنت خلال عمري الطويل. أميل للصمت والخضروات، غير أن الأمور خرجت عن نطاق
السيطرة، عندما شاهدت الضحية وهي تصرخ في السوق (أنا حر.. أنا حر) فاضطربت
وتقدمت وصفعت.
فقال رئيس المخفر بعد تجلّد واحتدام: كيف تجرأت
وصفعت.. وبلدنا آمن ومستقر الأحوال.. والذئاب تعيش عندنا بأمان بين
الأغنام؟..
فقال المتهم وقد امتلأت ملامحه بالرذاذ والإعياء:
بعد ثلاثة أيام من الانقطاع عن الطعام.. لا أستطيع أن أجيبكم إلا إذا
أحضرتم لي كأس ماء، ولم أكن لأتجرأ على مثل هذا الطلب، لو لم أكن أعرف بأن
السجن حق، والماء حق، وهو يعين الواحد على الفهم وتقديم الاعترافات.
فقال رئيس المخفر: معك حق، أحضروا له الماء.
وفجأة يا مولاي انشق الجدار، وخرجت منه حسناء فرعاء،
مكحول نواظرها، وفي يدها كأس شفيف من الماء والكأس الشفيف يا مولاي، يتلون
بلون سائله، لذلك يخاله الناظر من شدّة اللمعان فارغاً وهو ملآن ويحسبه
الظامئ مملوءاً وهو فارغ.
ثم تقدمت الحسناء ومعها الماء.. فأخذ المتهم الكأس
من يدها وتأملها.. ثم قضم الكأس ليعين نفسه على تذكر الأيام التي كان
يستطيع فيها القضم والالتهام. وبسبب الزجاج النقي وحدَّةِ أطرافه ومعناه.
تدهورت حالة المتهم.. فتدخلت لجنة من الأطباء.. وأخرجت الشظايا من الفم
الذي قضم الكأس ونسي الماء والحسناء. وحين تم الأمر دون نزيف وجراح، أعيد
المتهم إلى كرسيه كامل اليقظة والولاء، فقال له رئيس المخفر:
-وماذا بعد؟..
فقال المتهم: لم أكن حراً منذ ولادتي. وعندما كبرت
لم يكن غياب الحرية يقلق أيامي.. وقد حاولت أن أعلن ذلك على رؤوس الأشهاد،
في الأسواق والخانات. (لست حراً.. لست حراً) جملة رددتها كثيراً حتّى
نَمَتْ على الأبواب والنوافذ الَّتي تجاورني الرهبة والقضبان.. وقد دفعني
ذلك لتكرار صرختي.. وعندما لم يبادر أحد إليَّ ليصفعني كما فعلت مع سواي..
غضبت وشعرت بأن العالم يتجاهلني.. لذلك قررت أن أصبح حراً حتّى ولو اضطررت
للتسرب من بين الشرائع والألغام. وكان بيني وبين النجاح مسافة.. فلكي يتعود
الإنسان على إطلاق صرخته الجديدة (أنا حر..) لا بد وأن يقوم بأفعال تشيب
لهولها الحيتان. لم أكن أعلم أن إعلان الحرية يقلق الروح والجسد.. ويرجف
الصوت ويوقع صاحبه في الذبذبة وأقسى الأعمال.
فقال رئيس المخفر: كيف تمكنت وتجرأت وهل اكتفيت بما
أطلقته من صرخات.
-لم أكتف طبعاً فتحقيق الحرية يتطلب القيام بأشياء
كثيرة غير الصرخات ومن هذه الأشياء.
-ترك الوظيفة.. فالوظيفة تتناقض مع الحرية وهي تقيد
صاحبها خلف الطاولة.. كما يقيد الثور المغمض العينين إلى دولاب الماء.
وعندما أتممت الأوراق والمعاملات، وصدر قرار تنحيتي
عن العمل.. ذهبت إلى التأمينات وقبضت تعويض نهاية الخدمة واتجهت إلى البيت
وأنا أتنفس بعمق وامتنان.. وعندما صرت في البيت أصبت بالكآبة والإعياء،
وشعرت بأنني أتنفس بعمق أيضاً، ولكن من تحت الماء، وقد حصل ذلك بعد أن
تأملت زوجتي وحركاتها، وإيقاع صوتها، وترتيب التجاعيد على أيامها..
فأخرجتها من تحت الماء وطلقتها ثلاث مرات.. ثم أعطيتها تعويض نهاية
الخدمة.. فالزواج مثل الوظيفة وهو يربط الكائن إليه كما يُربط الثور المغمض
العينين إلى دولاب الماء، فلا تؤاخذني يا سيدي على الإكثار من ذكر الدواليب
والثيران. فأنا أعرف أن التكرار يقتل الحب ويخرج الحي من الميت ويوقعه في
العزلة والنسيان.
فقال رئيس المخفر: لا تبالغ.. وأخبرني ما الذي حصل
بعد الطلاق؟..
-بعد أن أتممت فروض الطلاق، نظرت إليَّ زوجتي نظرة
فيها الكثير من الحنان.. وقالت: ليتك طلٌّقتني من زمان.. ثمّ جرتني من
قَبُلٍ إلى خزانة الثياب وأحضرت محفظة متهالكة وملأتها بالألبسة ثم جرتني
إلى الباب وقالت لي: ما الذي دفعك إلى هذا؟. فقلت لها: كنت مضطراً للطلاق..
لأسباب تتعلق بالحرية والثيران. فقالت لي: الحرية هي الفراق، ثمّ تأملتني
كما يتأمل السجين عمراً ضاع.. وخبطت خلفي الباب فتدحرجت على الدرج وتابعت
التدحرج حتّى وصلت إلى هذا الزمان.
بعد تحرري من الزوجة والوظيفة، تنفست بعمق كأنما عدت
بلمحة إلى الطفولة والشباب، وفي الطرقات وبعد سير طويل تجاوز ثلاثة أيام،
انتبهت إلى شيء ثقيل بتشبث بيدي ويقلق أصابعي وخطواتي، فتأملته بارتياب..
وبعد أخذ ورد عرفته، كان هذا الشيء هو المحفظة التي وضعتها زوجتي في يدي
بعد أن ملأتها بالثياب.. فأمسكت المحفظة وألقيتها في الهواء لأحررها مني..
فمحافظ الثياب يا سيدي كيانات لها أرواح وأقفال.. وعلينا أن نطلقها إذا
تغيرت الأحوال.. وهكذا اجتزت برزخ الوظيفة، والزوجة، والمحفظة، لأصل إلى ما
أنا فيه من حرية وكدمات. خلال فرحي باجتياز المرحلة الثالثة، اعتصرني ألم
جارف شعرت بعده بجوع شديد واستعداد عظيم للانهيار، وقبل أن أقع في شر
أعمالي صرخت. السقوط بسبب الحرية أكثر خفة من السقوط بسبب الاستبداد. بعد
أن حصل السقوط التام شعرت بغيبوبة حرّة.. تفرح قلب الإنسان.
*وقد نبهت غيبوبتي الطويلة بعض العابرين الذين لم
يبلغوا قصدي ولم يفرحوا بحريتهم مثلي. فتكوموا حولي.. وقد بذل بعضهم عدّة
محاولات لإيقاظي.. ثم حملوني إلى أحد المستشفيات، وفي غرفة الإنعاش قام
الطبيب المناوب بفحصي على كافة الجبهات، ثم خلع سماعتيه وزفر وقال:
-مريضكم هذا مصاب بالجوع المزمن.. فخذوه من أمامي
وأطعموه ما هبَّ وما دب من طعام.. قبل أن أفقد اتزاني وأرسلكم جميعاً إلى
قسم العناية المشددة دون إبطاء.
فرد أحد المتطوعين على الطبيب بغضب وقال: أنا لا أحب
العناية المشدّدة ولا التشدّد.. حتّى ولو كان يهدف لخلاص الإنسان، فما دامت
عناية الله موجودة.. فلا حاجة للعناية المشدّدة والمستشفيات، ولم يكن
الطبيب يتوقع هذا النمط من الرد، غير أنه وقد سمعه ووعاه.. فقد تراجع إلى
الخلف.. ووقع على الكرسي وغاب.
فتركه الجميع لما ارتضاه.. وحملوني إلى القارعة
وألقوا بي على التخوم ووضعوا إلى جواري خبزاً ساخناً وخمراً، وعلبة منقوصة
من الدخان.. ومضوا إلى ما نذورا إليه أيامهم من عبودية وأعمال.
عندما تنسمت رائحة الخبز الساخن يا سيدي خيِّل لي
وكأنني في الجنة، فتلفتّ إلى جهة الخبز، وبدأت القضم والبلع حتى استعدت
هيئتي ونبضي وما أمتلكه من قدرة على الحركة. وبرودة مزمنة في العظام،
وعندما شبعت نهضت باحثاً عن الطريق والماء. فداهمني نهر السيارات، وقبل أن
أطير.. قفزت إلى الرصيف المجاور وأخرجت سيكارة وأشعلتها لأحتجب خلفها
بالدخان.. وما هي إلا ساعات ضئيلة وأيام، حتى شعرت بالجوع الجارف مرّة
أخرى، وشعرت مقابل ذلك.. أن الطعام عبودية (وأن الحرية لا تكون مع تناول
الطعام) فقررت بيني وبين قفصي الصدري أن أبذل أقصى الجهد لأصل إلى الحرية
الكاملة، ولم يكن لهذا أن يتحقق إلا بالامتناع التام عن الطعام. وللوصول
إلى ذلك أطلقت شعاري الفتان (الهواء والماء والدخان يكفونني) ولا بأس بكأس
من الخمر بين زمان وزمان وقد أخلصت لهذا الخيار وأمعنت فيه.
ولم أكن أعرف أنّ الجوع ظالم. وهو أعتى من الزحام
والحكام والمخافر.. لذلك بدأت أحن للعبودية وأيامها، وعندما شعرت بأنني
خسرت الرهان حاولت العودة إلى الزمان الذي فات. فذهبت إلى بيتي وزوجتي وبعد
قرع شديد وشتائم عميقة.. لم يفتح أحد لي الباب.
فقررت العودة للوظيفة، فبعض العبودية أهون من بعض،
وعندما شرحت للمدير الإداري ظروفي وأسبابي، أعتذر عن إعادتي بسبب ضغط
النفقات، ثم ضغط على يدي مودعاً.. ودفعني بمودة فارتطمت بالباب.
وهكذا يا سيدي بدأت أكره الحرية وأيامها، وعندما
تذكرت محفظة ثيابي الضائعة.. أنفقت زماناً برمته في البحث عنها لأتذكر
رائحة زوجتي وصرخاتها المتوارية بين طيات الثياب.
وعندما لم أجد المحفظة: قعدت على أحد الأرصفة وبدأت
أتذكر الأيام التي كان فيها إلى جواري زوجة وأولاد وجدران وبعد أخذ ورد
قررت أن أقوم بعمل طائش أتمكن فيه من خسارة حريتي والدخول إلى السجن لأنعم
فيه بالهدوء والدفء والنسيان.
وقد حاولت القيام بهذا العمل الطائش عدّة مرات، غير
أنني فشلت.. بسبب ترددي وإشفاقي على الناس، غير أن المناسبة الأخيرة دفعتني
دفعاً لاستخدام الصفعات.. تصور يا سيدي.. وفي حالة مثل حالتي أن تسمع رجلاً
يصرخ في السوق (أنا حر) بجيوب فارغة وفم ملآن، دون أن تتدخل لتكسب المعركة
واحترام الناس. كأنَّ الحرية لا تكتمل إلا بالصفعات، كأن الصفعات لا تكتمل
إلا بالمخافر.. كأن المخافر لا تكتمل إلا بي.
وها أنا يا سيدي أمامك، ودونك.. أعلن بأنني مللت من
الحرية الزائدة فاعتقلني، وزجني في مكان لا تطاله العيون والأفهام.
فقال رئيس المخفر للمتهم يا مولاي:
-أنت لست من الأشرار، ولا تستحق السجن على عدد محدود
من الصفعات.. غير أنني سأسجنك لسبب آخر.. وهو أن أعيد للحرية الاعتبار..
وفي السجن سأخضعك للصدأ والرطوبة، وأدفعك لتقدم ما لا يخصك من الاعترافات،
حتى تعتبر وتنصاع، وتحس بأن الجحيم خارج السجن، هو الجنة التي لا تطالها
الأحلام فادخل واحتمل.
وكان عالياً يا مولاي.. صوت ارتطام الباب.
عند مفترق الزّجاج
وكنا نفتح صدورنا للهواء البارد. ونحب في اليوم
الواحد مرتين... صباحاً ومساء، وعندما نلتقي بالصبية نقسم لها أننا لا ننام
من شدة الهيام، وفي المساء نضطر أن نعيد الكلام ذاته لفتاة أخرى... ولكن
الفتاة التي نحبها حقاً... ما كنا نجرؤ على الكلام معها أبداً... لذلك وفي
الليالي الموحشة... والوحدة التي تعصف بالقلاع والأسوار والمدن القديمة كنا
نخرج متوحدين. ونفكر أين هي الغايات والمضادات، والزجاجات، والكؤوس، فالرأس
شديد الهيام... شديد التعلق بالجسد والهواء البارد مثلما هي الجيوب
الفارغة. والخسارات شديدة التعلق بنا.
ولكننا كبرنا... وتطاولت جباهنا إلى آخر الأرض...
وازددنا سمنة وتعقلاً وما عادت أحذيتنا تحمل أرواحنا.. وتبدلت المدن،
وتبدلت المقاهي، وتبدلت الدماء، وكان في المدينة مقهيان، متقابلان... مقهى
(القصر) ومقهى (السلطان).. غير أن صاحب مقهى السلطان اضطر.. إلى تغيير اسم
المقهى من باب الحيطة، وقد قرر ذلك بعد أن انتبه إلى ملامح الرواد
السياسيين الذين تكاثروا ولم يعد بمقدورهم دفع (البقشيش)، لذلك قرر أن
يستجيب للضرورات والمتغيرات. ويغير اسم المقهى فصار ما بين طرفة عين
وانتباهتها (مقهى الجماهير) على اسم الجريدة الحكومية المجاورة، أما الاسم
الغابر مقهى السلطان، فلم يعد من أقانيم هذا الزمان.
وكنا نتردد على المقهى... ونقعد أمام الواجهة
الزجاجية العريضة بتحد واضح... فالمقهيان المذكوران... يقعان على مفترق حاد
يشطر طرفي المدينة، طرفها الراقي باتجاه العزيزية، والأسر (الفرانكوفونية).
وطرفها الجافي باتجاه حارة المشارقة والجلوم والكلاسة، وكنا نحمل مفارق
وأصولاً فاضحة تتوضح أعمق ما يمكن تحت أظفار أصابعنا وأحذيتنا التي رممت
بنعال إضافية فصارت تضاهي بسماكتها القباقيب المنتشرة في المساجد
المجاورة.
ولكننا كبرنا... ولم نعد نستطيع أن نفتح صدورنا
لأخلص الأصدقاء، ولا لأرق أمزجة الهواء البارد.
كان مقهى القصر المقابل لمقهانا.. مقهى للنخبة أرضه
مغطاة بالموكيت، وعلى طرفه الشمالي (ايركوندشن) وهو مخصص للعائلات،
والأصدقاء وصديقاتهم، وكانت لنا صديقات، يذهبن معنا إلى جهنم الحمراء، ولا
يجرؤون ولا تجرؤ مناديلهن السميكة على الذهاب معنا إلى المقهى... لذلك كنا
نقعد أمام الواجهة الزجاجية السميكة ونراقب الواجهة الأخرى، حركة الدخول
والخروج مثل حرس الحدود لدولة مجاورة.
-صديقنا قمر الدين قرر أن يغامر، بعد أن ركبته حماسة
شكسبيرية بسبب قراءته لمسرحية (روميو وجولييت).
-وماذا ستفعل يا قمر الدين سأله فيصل اللبني.
-سأحب فتاة من رواد المقهى المعادي الآخر... مقهى
(القصر)، ألم يحب روميو فتاة من أسرة معادية.
عند زاوية المقهى الآخر، ووراء الواجهة الزجاجية
السميكة كانا يقعدان... فتاة وفتى... حركة رأس الفتاة البيضاء اللامعة ظهر
على بعد... وقد بالغ صديقنا قمر الدين عندما قال: بأنه يلمح من وراء
الزجاج.. آثار الرطوبة والدموع على أطراف عينيها الخضراوين، لذلك قرر قمر
الدين أن يقع في حب الفتاة. وقد أكد بأنه متخصص في الحب من طرف واحد،
فالفتاة التي يحبها في الجامعة لا يجرؤ على الحديث معها، بسبب من ارتفاع في
تنورتها، وبروز في صدرها وعراقة في محتدها، كثيراً ما ردته على أحزانه...
كما تفعل القلاع الحصينة، بالجيوش الهزيلة.
-مرة أقعد صديقنا قمر الدين نادل المقهى العجوز (أبو
عادل أمامه). وأفهمه أن قبول (البقشيش) من الزبائن عيب، وهو خطأ ايديولوجي
فاضح.
-ولماذا، تساءل النادل بدهشة:
-إن قبول البقشيش يعني أن تتحول من بروليتاريا
عظيمة.. إلى بروليتاريا رثة... وأنا أستغرب قبولك اللعنة. واضطر من أجل ذلك
أن يتوسع له في الشرح...
فدمعت عينا الرجل وبدأ بالتنهد والتحسر على ماضيه
الرث... ثم نهض وشكره بكلمة (ميرسي) فانفجر الأصدقاء بالضحكات.
بعدها نهض قمر الدين وقرر أمام الأصدقاء سأقع في
الحب، وقد أموت بسبب التطرف والمبالغة، وإذا حدث.. فأنتم المسؤولون.
لذلك، وفي الليالي الجارحة، كان يفتح عينيه للماء
الغزير، وصدره للهواء البارد... وفمه للشراب الكثير.
بالحب يجب أن نقهر الحب.. هكذا قال قمر الدين لنفسه،
بعد أن قرر أن يتفرغ لفتاة الواجهة الزجاجية التي تشبه تماثيل فتيات
(المانيكان) في واجهات بيع الألبسة النسائية. وأن ينسى مؤقتاً فتاة الجامعة
التي هزمته. الفتاة التي لا تصيب الرطوبة عينيها، ولا تظهر خفقات الحب
والحنين على التفاتات ساقيها المكشوفتين للعيون والهواء النبيل.
وعلى ذلك فقد وضع الخطة.
عندما جاءت الفتاة مبكرة إلى المقهى وجلست في ركنها
مستنفرة تتلفت بعصبية إلى ساعتها والشارع المقابل.. دون أن يحضر صديقها
النحيل. كان قمر الدين في المتابعة والتأمل، وعندما خرجت وقد بللها الأسى
والانفعال، قفز قمر الدين من زجاج واجهته ومضى خلفها بخطوات مبتهلة حتى لا
يجرح مسام الأرض المحتفية بخطواتها... وعندما وصلت إلى بوابة عمارتها
العالية.. عرف المكان والزمان ولون السيارات العابرة وتفاصيل البوابات
والشرفات، وكثافة الهواء، ومعتقدات المارة، عرف كل ذلك دون أن يلتفت إلى
غرابة عينيه ولهاثه. وزوغان روحه وركبتيه. ودماء مخيلته لم يكن يعرف السبب،
ولماذا يفعل ما يفعل.. هل كان يحب الفتاة، أم يحب المقهى ويحب الدخول إليه
ليقهر أصدقاءه الشامتين.. الذين طالما سخروا من أحلامه وسماكة حذائه. ألم
يكن يحاول أن يفعلها بأبطاله وعصره أيضاً.
في فترة التحضير لإقامة الأمسية الشعرية في الجامعة،
تقدمت فتاة من قمر الدين وأعطته قصيدة للمشاركة، قرأ قمر الدين القصيدة
وانتبه إلى الفتاة ووجهها المتورد، وقال متأسفاً:
-غير مسموح المشاركة بقصائد عمودية في المهرجان.
-إنني.. إنني أستطيع أن أكتب قصيدة حديثة...
انتبه قمر الدين إلى الفتاة الشاعرة، وألبستها
الكتيمة، وغطاء رأسها الجليل...
-عندما تنتهين من الكتابة... سأرى.
ولم يكن قمر الدين ينتبه، ولم يكن يرى سوى زجاج
الواجهة الواسعة للمقهى البعيد.. وظلال جسد الفتاة المعادية... وبوابة
عمارتها، لذلك ذهب قمر الدين إلى الشيخ.
-يا شيخنا، في مسرحية شكسبير (روميو وجولييت) يوجد
رجل دين..
ورجل الدين الموجود في المسرحية يا شيخنا يقرب بين
القلوب، والمحبين، فيذهبون إلى غرف النوم ترف حولهم الملائكة والمشاعر
الطيبة فيكملون بالحب نصف دينهم... ويتركون النصف الآخر للاحتمالات والهواء
البارد. وأنا يا شيخنا أكاد أن أهلك نصفي من شدة الحب والممارسات العنيفة.
-ليس للعبد سوى حب واحد يعصمه، وهو حبه لمولاه، حيث
يذوب نصفه وكله... فلا يرى من المخلوق سوى ظله والتماعة عينيه. وإجهاشة
صدره.
ألا يوجد عندك يا شيخنا دواء، أو رائحة أرشها حول
عمارة الحبيبة، لتنام نوماً عميقاً هو أقرب إلى الموت... أو احتمالاته،
وعندما تغادرها اليقظة.. يتحلق حولها الأهل والمقربون، ويتباكون ويجهشون..
ثم يحملونها إلى المقبرة.. فأذهب في الليل لأخلص جسدها من التراب والرطوبة
وتجاهل الأهل، وأرش أمام أنفها رحيقاً يعيد الأرواح إلى يقظتها وحجارة
المقابر والبيوت إلى مقالعها، فأركض مع الحبيبة في عراء الله والأرض
الشاسعة، وحولنا وخلفنا العشائر والطبقات المتصارعة وهم يسنون أسلحتهم
ويشحذون أعضاءهم وخطاياهم للمداهمة والانقضاض.. عند ذلك أفعلها وتفعلها
الحبيبة معي.. ونتخاصر ونذهب إلى المقهى.. إلى الواجهة الزجاجية العريضة...
وعيون الأصدقاء المناجيس.
مرات كثيرة فعلها ولحق بالفتاة... ولم تنتبه الفتاة
الذاهبة إلى البيت والمقهى ولم ينتبه صديقها النحيل.. عرف تقاطيع الحجارة..
وانحناءات الأشجار، وانكسارات الظلال، وعاين بحفاوة روحه تقاطيع ظهرها وهو
يمضي بعيداً عن موداته وضراوته... لذلك كان يغيم بالأسى والوحدة، ويفتح
صدره للهواء الجارح، بعد أن تغادره بجسدها إلى الأبواب والأدراج
والمنعطفات...
الفتاة لم تنتبه لكن رفيقها النحيل انتبه إلى فتى
الظلال ومثابرته... وعندما تأكد لديه أن قمر الدين لا ينتمي لرجال الحكومة
والتقارير بسبب حذائه وثيابه، استدار إليه وهاجمه بغتة ليؤكد لحبيبته
رجولته وقوة مشاعره ثم انقض بقبضتيه على صدر قمر الدين العريض، فذعرت
الفتاة وركضت إليهما معاً.
حذاء الفتى اللامع الرقيق... وبقايا الفزع والرطوبة
في عيني الفتاة استوقفا معاً قمر الدين ومنعاه من متابعة الضغط بكفه
السميكة على عنق الفتى النحيل الذي حولته الضغطة الأولى إلى صوص فزع، يرتدي
بنطالاً وأنفاً سميكاً عالياً، غير أن البلاغة التي داهمت قمر الدين أوقفته
عن متابعة مقاصده وغضبه، فهو الذي نذر نفسه للموت في سبيل فتاة يحبها...
مطلوب منه الآن.. أن يميت فتى واقعاً في الحب بضغطة إضافية من كفه.. ليصوغ
بذلك تراجيديا مقلوبة.. حيث يميت العاشق المنذور للموت عاشقاً آخر. هكذا
أوحت لقمر الدين التماعة الفزع على أطراف عيني الفتاة، ولأنك تحب هذه
الفتاة، ولأنك لا تساوي الحذاء الذي تلبسه، ولأن الطريق إلى بيتها وروحها
مرير وطويل، سأتركك هكذا قال قمر الدين للفتى المغدور، رغم أنه كان يحس أن
الكلام يخص الفتاة، يخصها وحدها في وقت كانت أصابع كفه الضاغطة تخص الفتى،
تخصه وحده، غير أن الذي جرى وصار شيء يشبه الانقلابات المباغتة... في
البلدان النائية. انقلاب يغير المعادلات والعقائد والاستجابات، انقلاب أصاب
الفتاة الفزعة، فكبر قمر الدين في عينيها وسرتها وساقيها... وبدأت تلهب
بالحب والغرابة نحو الفتى الغليظ وطبقات حذائه التي تنز بالرطوبة والبلاغة،
وقد شعر الفتى النحيل بكهرباء التحولات التي عصفت بالمكان، فمضى يجر طوله
ولهاثه... ودون أن ينتبه قمر الدين إلى المتغيرات التي أصابت الفتاة
اللامعة.. مضى خلف الفتى الطويل بعد أن أحس بمحنته، مضى في جهته كأنما
ليعتذر إليه.. وكادت الفتاة أن تصيح به ليعود إليها، غير أن شيئاً يشبه
أصابع عاتية ضغطت على عنقها ومنعتها من الصراخ.
بعد أيام وعلى الطاولة التي ورد ذكرها.. وفي مقصف
كلية الآداب بحلب وحوله أصدقاء ومناهج وحوارات لا طاقة له بها، أحس قمر
الدين أنه خسر الواجهة الزجاجية لمقهى النخبة ولم يعد بوسعه أن يذهب إلى
شكسبير ليساره بالمتغيرات التي حالت بينه وبين مشروعه وبأنه اضطر لمتابعة
الحياة السميكة، دون أن تكون له سجايا أبطال الملاحم وخصالهم... في تلك
البرهة، برهة العواء والمصارحة.. اقتربت الفتاة الملفحة، بوجهها المتورد من
قمر الدين..
-تذكرني.
-طبعاً.
-كتبت قصيدة حديثة تفضل.
-تفضلي...
قرأ قمر الدين القصيدة باهتمام بالغ.. القصيدة
معقولة... ويمكن المشاركة بها في المهرجان.. انتبهي توجد في القصيدة كلمة
منديل.. ويجب خلعها.
-كلمة منديل غير موجودة في القصيدة. قالت الفتاة
مؤكدة.
-ما دامت غير موجودة في القصيدة فيجب خلعها عندما
تكون موجودة في مكان آخر وأشار إلى رأس الفتاة.
-هذا غريب... ما علاقة القصيدة والمهرجان بالمنديل.
-العلاقة كبيرة.. قال قمر الدين مؤكداً... بينما كان
الجميع على الطاولة ينتبهون للحوار.. الحداثة ليست كتابة فحسب.. الحداثة
موقف.
-وأين تقف أمك وأخواتك... سأل فيصل اللبني ساخراً.
-قرب الأبقار في القرية.
بعد أيام من الحوارات الطويلة.. ذهبت الفتاة الملفحة
إلى غرفة قمر الدين المؤجرة لمتابعة الحوار، وفي الغرفة المعتمة لمحت الصحف
الكثيرة.. والأرض المكشوفة الغامقة بسبب تراكم طبقات الأوساخ والرطوبة، فرش
قمر الدين الصحف على الأرض في حالة من الترحيب والحفاوة.
-في الليالي الباردة أتغطى بالصحف، وعندما أقع في
الحب، أفرش الصحف على الأرض وقد قررت المتابعة والعمل في الصحافة بعد
التخرج...
-هل تعتبر الصحف أكثر نظافة من الأرض.
-الأرض عظيمة ولكن.
-أقصد أرض الغرفة. تابعت الفتاة الكلام.
بعد أن افترشا معاً الأرض... وتدافعا إلى اللهاث
والمشاركة... واصطكت عظامهما بالصحف المحلية والكدمات.. أحست الفتاة بقسوة
الحب ورطوبته، وأحس قمر الدين بأهمية العنوان البارز المكتوب على الصحيفة
قرب رأس الفتاة، وعندما نهضا معاً.. شعرت الفتاة بفضيلة الوقوف، وشعر قمر
الدين بفضيلة المصارحة لذلك سرها بمشروعه، وبعد الكثير من التفاصيل ووجهات
النظر المتباينة، وافقت الفتاة على الذهاب مع قمر الدين إلى المقهى المعادي
لشرب القهوة، لكنها رفضت بإصرار أن تقعد خلف الواجهة الزجاجية خوفاً من
الفضائح.
-ولكن أبطال شكسبير لا يخافون... والزجاج السميك
يشبه المناديل إذا أسيء فهمه وبولغ بالخوف منه.
-ولكنني أخاف.
-من أي شيء تخافين.
-من الأبقار أن تداهم المقهى.
-الأبقار حيوانات وديعة ولبونة، وأنا أعرفها،
ويعبدونها في الهند.
-ولكنها لا تفهم الحداثة... ردت الفتاة بغيظ.
بعد أيام من الجلوس في المقهى العائلي، في ركن قصي
منزو، لا يعين الواحد على متابعة الواجهة الأخرى لمقهى الأصدقاء المناجيس
ولا يحقق الهدف في الكيد لهم واحتقارهم.. أصابت التحولات صاحب المقهى
المعادي، وبدأت شعرات ذقنه تخرج عليه بعد أن شاهد الأحذية السميكة للرواد
الجدد المتكاثرين.. الذين ينزون رطوبة وتتلامح على ألبستهم طراوة الحبر
الأسود للصحيفة المحلية الوحيدة... ويصطحبون فتيات فزعات.. وغامضات وفي
محافظهن وعلى أرواحهن أغطية سميكة عاتمة، لذلك أحس صاحب مقهى القصر
بالخطورة، ودخل في التدين وأعلن أن الاختلاط لعنة، لذلك سحب بساط الموكيت
من تحت أقدام الزبائن وأطفأ (الكوندشن) وأعلن تحويل المقهى العائلي إلى
مقهى للرجال..
بعدها توقف قمر الدين عن المتابعة، بعد أن أعلن
لصديقته الشاعرة، أنه سيسافر. وأن كتابتها محاولة للالتفاف على الحداثة،
رغم تشابه الأحذية التي يرتديانها، وأن الموقف لا يسمح بالدموع، ثم مضى إلى
بلاد الانكليز، لمتابعة العمل في الصحافة دون أن تتوافر لديه القدرة على
فتح صدره لأي هواء..
بعد مدة طويلة من الاغتراب، عاد قمر الدين إلى أرض
مراهقته وشبابه، وتوقف بين المقهيين متأملاً، مقهى الجماهير حولته
المتغيرات إلى مكان شاسع لبيع الأحذية والألبسة... ومقهى القصر (مقهى
النخبة السالفة) لم يجد فيه سوى المقاولين والتجار، باعة الأرض والأرواح...
وقد دفعه الحنين إلى الأصدقاء إلى الدخول إلى مقهى الجماهير الذي كان...
فنهض ومضى إليه.. عبر زجاج الواجهة، وتفقد المكان ولامس السراويل اللامعة
والأحذية.. وتذكر الزمن السالف والأصدقاء والصديقات... وعندما خرج إلى
الهواء البارد، لم يلمح أحداً، تفقد روحه وجسده لم يجدهما، وانتبه كانت
السراويل والأحذية تسير وحدها في الشارع الطويل...
أحلام الشفة العليا
ـ إنّه يحلم كثيراً...
غير أن آخر الأحلام التي شاهدها أفزعته، رغم أنه
استعاده بلذة، واسترخاء. غير أن الريبة داخلته في أقرب الأشياء إليه،
الريبة في نفسه، لقد اعتبر أن مخيلته في الحلم قد شطت به بعيداً، والشطط في
مسألة كهذه شطط غير معقول، ولا يمكن اغتفاره، وبخاصة لرجل في موقعه
ومكانته. صحيح أنه في مراهقته البعيدة، مراهقته المضنية، كثيراً ما حلم
أحلاماً مماثلة، حلم مرات كثيرة أنه أصبح شرطياً، وأحياناً حلم بأنه أصبح
بائعاً للفلافل، كثيراً ما راوده حلم بأن يكون وزيراً أو زعيماً ـ وكلها
كانت في مراهقته البعيدة مناصب هامة، يندهش معها ويتمناها، ليعيد بناء
العالم على هواه، لكن منصب بائع الفلافل كان الأقرب إلى قلبه وروحه.
وهاهي ذي مخيلته ثانية، تغامر به وتقفز على ضروراته
ـ لتزجه في رهانات المناصب السياسية المختلفة، وبخاصة منصب الزعيم كانت له
أحلامه وكان من حق نفسه عليه أن يكون صاحب أحلام، وحسابات الأحلام، لا
تتطابق وحسابات الواقع، في حسابات الأحلام، الجميع يغامرون، ويحلمون
بالمناصب، غير أن الغالبية تكتفي بالتهام الفلافل عندما تواجهها الضرورات
ويعاندها المستقبل.
لماذا إذاً تداهمه الأحلام مرة ثانية، وهو يشغل
منصباً حساساً يتجاوز بكثير المناصب التي حلم بها في مراهقته، فهو يشغل
مهمة (محقق أول) في القضايا السياسية الجليلة، ومن موقعه ذاك، كان صاحب
نفوذ حقيقي وسلطة مثيرة للانتباه، وكان عبر هذا المنصب، يفعل الأعاجيب
بالأفراد الذين يتجرؤون ويحلمون بأن يكونوا بشراً، فكيف إذا غدرت بهم
أحلامهم ورغباتهم ورغبوا في مهمة سياسية جليلة، كأن يكونوا رؤساء للمخافر
أو مدراء لمؤسسات، أو قادة مرموقين، كيف يعطي لنفسه الحق في محاسبة الآخرين
على أحلامهم، وهو من موقعه تغدر به مخيلته مثلهم وتحلم على طريقتها.
لقد اعتبر حلمه الفاضح الأخير خروجاً على أخلاق
مهنته، إنه لا ينكر، أن مخيلته ذاتها، مخيلته التي ينكر أفعالها، كانت لمدة
طويلة تسخر منه، وكان يحتمل ذلك كله بثبات وصبر كبيرين.
كانت مخيلته تتقمص أشكال وأوجاع المتهمين الذين
يقعون تحت رحمته، لتصرخ في وجهه على طريقتها الخاصة. وكان يبرر لمخيلته
أفعالها ويكتشف لها المعاذير، فالمخيلة، اللا وعي المترسب في الأعماق،
غرائز العدل والقصاص، كلها تستنفر استجاباتها وحموضاتها لتتمرد عليه وتقذف
بهوائها الفاسد في وجهه واضعة إياه في مكان المتهم ملقية في وجهه شتائم
ومفردات سوقية تذكره بأصوله وطفولته.
كيف تسنى لمخيلته أن تفعل ذلك، وكيف استطاعت ذاكرته
أن تستعيد طوفان العبارات السوقية لتلقيها في هدأة أحلامه، وهو في حالة
الاسترخاء المحايد، ولكنه ورغم المبالغات المفزعة، يحتمل، ويضع الظاهرة في
إطارها المشروع، على الرغم من أنه يعتبرها عملاً غير مشروع يجسّد حالة من
حالات الفصام الغريب، الذي لا تظهر عليه أي من بوادره، وهو في حالة يقظته،
وهو في حالة الاكتمال والانضباط والتوازن التي توحي بالقوة والثقة والرهبة
أمام الآخرين، من المرؤوسين والأتباع، من الأقرباء والموالين والمندهشين،
لكن أن تفعلها مخيلته ذاتها وتقفز قفزتها المحيّرة في الاتجاه الآخر لتعيد
الأحلام المراهقة حضورها الكاسح، متناسية بائع الفلافل الجليل، ومنصب
الوزير منتشية بمنصب الزعيم فقط، هذا الأمر وحده كاف لإدخاله في الذهول.
في الذهول والاستنكار.
أحلامه تلك ممكنة ومعقولة في بلد آخر، وفي سلطة أخرى
لا يعتبر هو ذاته جزءاً من بنائها المتين ومؤسساتها القوية، وقيادتها
المتماسكة.
أحلامه ممكنة في بلد آخر، تهزه المتغيرات وفيه أحزاب
كثيرة، والفلافل فيه متاح للجميع، والعواصف السياسية تسمح للكثيرين أن
يحلموا على هواهم.
أما في بلد مستقر، مستقر جداً، لا عواصف ولا متغيرات
ولا فلافل ولا بطيخ، في هذا البلد تعتبر الأحلام الفاحشة التي من هذا النوع
خروجاً على الاتفاق.
لذلك وقف أمام مرآة الصباح، مرآة الحلاقة اليومية،
وبدأ قبل أن يفتح الصنبور ليتدفق منه الماء الناصع، بدأ قبل ذلك وبعينين
منهكتين من فرط الأحلام الجريئة، بدأ يكيل لنفسه وأحلامه وروحه الشتائم في
محاولة محسوبة منه للقصاص.
أيتها التافهة يا نفسي، أيتها الخائنة يا روحي،
لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..
ثم كوّر قبضته وانهال بها على وجهه في المرآة...
زوجته، أفزعها صوته وهو يصرح لماذا؟...عدة مرات
ولكنها وقد سمعت صوت سقوط المرآة، على الأرض نهضت بكامل جسدها، وتقدمت نحوه
في حالة اندهاش وهي تستطلع ظاهر قبضته وأسفلها لتتبين مبلغ الإصابة فيها،
ثم أقعت على الأرض، وثوب نومها يكشف مقدمة فخذيها اللامعين وبدأت بلم شمل
المرآة المجزأة التي أطاحت بها قبضة الزوج المستثار.
ـ هل حلمت ثانية، سألت الزوجة.
ـ نعم... أجابها وهو يتأمل أسفل قبضته.
ـ حلم أم كابوس..
ـ ليته كان كابوساً، كنت أعرف كيف أتعامل معه.
ـ حلم جميل إذاً.
ـ أجمل حلم على الأرض.
ـ فيه امرأة جميلة..
ـ امرأة جميلة.... من أين؟!..
ـ أخت لأحد الموقوفين مثلاً.
ـ ما زلت تتذكرين،
ـ كيف أنسى وأنا واحدة منهن.
ـ انتبهي إلى الزجاج
ـ الأفضل أن تشرب فنجان قهوة.
ـ معك حق.
ـ معي مرآة مكسورة، ردت الزوجة الشابة وهي تلملم
نثار الزجاج على الأرض، من أجل أن يفتتح يومه، وصباحه، لملم نفسه من شظايا
الحلم العنيف، ذهب إلى المطبخ، مرَّ قريباً من ظهر الشابة المشغولة بصنع
فنجان القهوة. فتح خزانة وأخذ منها صحناً عميقاً ثم عاد إلى المغسلة، ملأ
الصحن بالماء الساخن، وحمل أدوات الحلاقة، وذهب إلى غرفة النوم ليبدأ حلاقة
ذقنه، حتى يتمكن من شرب فنجان القهوة، وقد حرص بعد أن بلل رأس الفرشاة
بالماء الساخن وضغط أنبوبة المعجون ثم أعمل الفرشاة على ذقنه بهدوء وعمق،
في محاولة لاختراق جذور الشعرات وإنهاكها حتى لا تبدي مقاومة أمام آلة
الحلاقة، وقد تم له ما أراد وأتم حلاقة ذقنه دون منغصات، ودون جروح، ولكنه
وبعد أن بدأ بحلاقة شفته العليا الواسعة خانته أصابعه، ونزلت مقدمة الشفرة
على مقدمة أنفه فجرحته جرحاً خفيفاً تشكلت على حوافه قطرات صغيرة من الدم
مالبثت أن اتصلت ببعضها لتشكل خطاً دقيقاً، حاول أن يمسحه بنزق، فتشكل خط
آخر، مسحه ثالثة ورابعة، بعدها قرر تركه، فتوقف الخط على حاله كأنما
يعانده، لذلك تابع حلاقة شفته العليا، شفته الشاسعة، التي تمتد من أسفل
أنفه امتداداً هائلاً يكاد يصل إلى سرواله، هكذا كان يحس وهكذا كان يتوهم.
عندما أنجز حلاقة شفته العليا الشاسعة، حمل أدواته
عائداً إلى المغسلة ليغسل وجهه وشفته وخط الدم على مقدمة أنفه، ثم ليذهب
منتصب القامة إلى الصالة، ليقعد في مكانه الأثير على كرسيه الخاص الملفوف
الذي يحتضنه احتضاناً كما تفعل المؤسسات المختلفة في بلده، وقربه فنجان
القهوة، وعلبة الدخان والولاعة.
حمل فنجان القهوة وقرّبه إلى شفتيه فوجده فاتراً،
فأعاده بنزق وصاح، انتصار، انتصار...
هرولت زوجته الشابة إليه، ودون كلام، حملت الفنجان
الفاتر وعادت به إلى المطبخ لتعيد تسخينه من جديد، وقد اضطر وعلى غير عادته
أن يبدأ صباحه بإشعال السيكارة، قبل أن يبلل شفتيه بماء القهوة الساخن،
فيالها من ضريبة يدفعها الواحد ثمناً لأحلامه.
عندما عادت زوجته ومعها فنجان القهوة واللهب يتصاعد
من ركبتيها، انحنت على الطاولة الواطئة وانتبهت إلى خط الدم الدقيق، الذي
تشكل على مقدمة أنفه.
وضعت الفنجان ونهضت، ثم عادت، وقبل أن تنعطف إلى
غرفة نومها، قالت: لقد جرحت نفسك، وعندما انتبه إلى الكلام، لمح نهاية
ثوبها الشفاف وهو يغيب في الغرفة، ثم تابع شرب القهوة بارتباك ملحوظ، وأشعل
من أجل ذلك عدة لفافات حتى أغرق الصالة التي اجتاحتها أشعة الشمس بسحب
الدخان التي تقاطعت مع حزم الضوء المنسابة لتنكسر عليها بسبب تدفق أنفاسه
المنفعلة.
ابنته الشابة، خرجت من غرفتها، وعبرت الصالة
مستعجلة.... وهي تسأل:
ـ هل تريد فنجاناً ثانياً..
ـ أريد..
ـ لقد جرحت نفسك، قالت الابنة: وقد وصلت إلى باب
المطبخ.
للمرة الثانية يسمع كلمة (لقد جرحت نفسك) تساءل عن
معنى ذلك، لماذا لا يقولون جرحت أنفك، أو وجهك، هل يسخرون منه، هل عرفوا
خباياه، وأدركوا العلاقة المتوترة بينه وبين نفسه التي تخونه وتربكه، نفسه
التي تحاول الخروج عليه على انضباطه الشديد وشخصه المهيمن. وتدفعه ليحلم
أحلاماً لا طاقة له بها.
رفع الفنجان إلى فمه بعصبية وأماله بقوة، ثم أعاده،
كان الفنجان فارغاً. وقد رفعه دون أن ينتبه، كانت تجتاحه رغبة شديدة في أن
يجرح نفسه، والنفس عندما تُجرح، تتكتم على جراحاتها وتخفي دماءها في أماكن
غامضة وعميقة لا يلمحها أحد حتى صاحبها، جراح يمكن الالتفاف عليها بالكلام
والابتسام ويمكن تأجيل تضميدها إلى أوقات مناسبة، ويمكن تجاهلها ونسيانها
مثل أشياء تالفة.
لكنه لم يجرح نفسه، والدليل أنه لم يستطع التكتم على
جرحه ولا الالتفاف عليه، كانت نفسه تمارس عدوانها عليه ـ لتربكه، وهو
وعوضاً عن أن يكيل لها الصاع صاعين، بجسده الفاره وشفته العريضة العليا،
هاهو ينهك جسده بجرح صغير مفاجئ، يلفت انتباه زوجته الشابة وابنته الشابة،
هذا الجسد الذي يعتبره عدته في حربه، يتعرض للإذلال، بسبب نفسه التي ادخلت
هذا الجسد القوي الفاره في الارتباك، وأرعشت أصابعه فانهالت آلة الحلاقة
بصورة صاعقة على مقدمة أنفه لتجرحها.
عندما خرجت الابنة من غرفتها منفلتة إلى الصالة،
وجدت والدها في وضعية الغارق في دخان وحدته ولمحت فضاء الصالة وقد تكاثف
فيه الضوء والدخان.
ـ لو كنت أعرف الرسم لكنت رسمت لك صورة (قالت
متخابثة).
حطت على وجه الوالد ذبابة، فأزاحها بيده فانفلتت
طائرة ودخلت في حزم الضوء المتسرب من النافذة فالتمع جناحاها وجسدها بضوء
أثار انتباه الفتاة.
ـ وهل سترسمين الذبابة، تساءل الأب.
ـ أفضّل رسم لوحة بدون ذباب، لوحة تظهر فيها في مكان
عال وحولك الضوء والدخان، مثل آلهة اليونانيين.
ـ بالبيجاما والروب.
ـ بدون ألبسة، أقصد نصفك عار من الأعلى وبدون علبة
دخان وقداحة، ثم انقضت على علبة الدخان والقداحة ووضعتهما في محفظتها.
ـ أصبحت تحتاجين للدخان مثل آلهة اليونان.
ـ أنا مثل آلهة اليونان؟!... ونصفي عار من أعلى،
ياللعار... أعطني مصروفاً.
ـ هل تحتاج الآلهة للنقود.
ـ حتى تستر نفسها.
ـ أنت فتاة متعبة.
ـ أنا ابنة مُتعبة.
قالت الابنة جملتها الأخيرة وهرولت إلى الباب.
في غرفته بالمكتب، حيث يأتيه المتهمون في مراحلهم
الأخيرة، ليصوغ التقرير النهائي بنفسه، ويصبح هذا التقرير معتمداً لدى
دائرة الأمن التي يعمل مسؤولاً فيها، بعد أن يستكمل بنفسه مرحلة التحقيق
الأخيرة، وبسبب من أهمية منصبه وموقعه، فإن المتهم الذي يأتيه يكون متهماً
هاماً، فالتحقيق في إدارته يمر بمراحل مختلفة يتم خلالها إطلاق سراح أغلب
المتهمين بعد أن تتأكد إدارته أن المخبرين الذين يعملون سراً لديها، قد
بالغوا كثيراً في توصيف حالة المتهم، ولفقوا وأضافوا، وأحياناً تكون غالبية
التقارير تستهدف مواطنين لا علاقة لهم بالسياسة، وإنما يحاول المخبرون أن
يلفقوا من أجلهم تهماً سياسية بغية الابتزاز أو تصفية حسابات شخصية.
في غرفته تلك، استرخى بطوله على الكرسي الذي تحيط
جوانبه به حتى تكاد أن تلتهمه، وبعد أن شرب فنجان القهوة الثالث، ضغط زر
الجرس، وعندما دخل الحاجب إلى غرفته ووقف باستعداد مبالغ به، طلب المقدم
عبد العزيز السيوفي من الحاجب أن يدخل الموقوف الذي تم تأجيل دخوله عليه
عدة مرات، ثم استرخى بطوله المنهك على الكرسي ووضع طرفي قدميه على وجه
الطاولة المكتظ بالتقارير، ثم امتدت يده وأمسكت بالتقرير الذي أثار ضحكه
وانتباهه، ثم استعاد جلسته في انتظار دخول الموقوف إليه.
التقارير الأولية للمخبرين والمحققين تحدثت عن رجل
يخطب في الساحات مدّعياً أنه ملك العالم، وفي أحيان أخرى، ملك ما، وسوى ذلك
من الألقاب، وقد وردت في التقارير تفاصيل مضحكة، ثم طُرق الباب وأدخل
الرجل، وكان الملفت للانتباه في مظهره رغم حرارة الصيف أنه يرتدي بدلة
شتوية مجعلكة وربطة عنق عريضة مشوشة، وفي جيوب الرجل أوراق كثيرة ولنظارته
عين زجاجية سوداء، وعين أخرى بدون زجاج، وعندما سأله السيوفي عن أسباب كسر
عين النظارة وهل استعمل معه عناصر التحقيق العنف، أجاب:
ـ أبداً... قد كسرتها بنفسي.
ـ ولماذا كسرتها..
ـ حتى أرى جيداً..
ـ لماذا لم تكسر الثانية.
ـ الثانية لها عمل آخر..
ـ كيف؟!.
ـ العين المكسورة لأشاهدك، والعين السوداء لرؤية
الحقيقة.
ـ ماهو اسمك.
ـ أنا الملك.
ـ ملك أي شيء..
ـ أنا ملك الأمن... وملك التقارير.
ـ لم أفهم قصدك... أقصد ما رأيك بفنجان القهوة،
استدرك السيوفي متسائلاً.
ـ إذاً كانت قهوة ملوكية لا أمانع، قال الموقوف:
ـ قهوتنا ملوكية دائماً، وقد استدعى ذلك كما يحصل في
كل مكان أن يضغط السيوفي الجرس ويطلب القهوة من الحاجب، وقد أكد له بعد
دخوله، يجب أن تكون قهوة ملوكية لضيفنا العزيز.
هذه الحفاوة التي لم يتعودها الرجل الموقوف، أطلقت
لسانه على سجاياه فتدفق بالكلام الغزير.
ـ الذين يجلسون في المقاهي يطلبون قهوة ملوكية مثلي،
لا يفهمون ضرورات الأمن، لذلك يأخذون راحتهم في الحديث عن زوجاتهم،
والزوجات الغاضبات ونكاية بأزواجهن يأخذن راحتهن في الحديث عن الحكومة،
والمخبرون، نعم المخبرون، لماذا أنا أتحدث عن المقاهي؟..
ـ ربما لأنني طلبت لك فنجان قهوة.
ـ هذا تطاول مني وقلة حياء، ما ذنب المخبرين يا
أخي... أقصد يا سيدي ومولاي..
ـ أبداً، خذ راحتك، ألست ملكَ الأمن وملكَ التقارير،
لذلك من حقك أن تتحدث عن المخبرين.
ـ المخبرون مساكين والله، في ضجيج المقهى يجلسون
وعيونهم تغزل غزلاً، والذي تغزل عيونه غزلاً يصاب بالصداع، وتجف المياه على
البؤبؤ، وتصبح العروق والشرايين الناعمة مثل الساحة الحمراء وقد امتلأت
بالبندورة، ولكنهم رغم ذلك ينتبهون إلى الكلام، وكلام الناس يتداخل في
بعضه، ويتعفس ويصطدم، هل تعلمونهم أن ينتهبوا للكلام عن بعد، ويفهموا حركة
الشفاه، والأصوات، فيعزلون الأشياء عن بعضها، البندورة السليمة في طرف،
والمعفسة في طرف آخر.
أغلب الظن أنهم لا يتعبون أنفسهم في مثل هذا العزل
مادامت الزوجات أكثر معرفة من الأزواج بمقتضيات الحكومة وسياساتها.
أعتقد أن المخبرين الذين يعملون عندكم يطلبون من
زوجاتهم أن يكتبوا لهم التقارير، حتى ولو كانت الزوجة لا تجيد القراءة ولا
الكتابة فإنهم يطلبون منها ذلك.
ـ كيف ذلك؟... لم أفهم؟..
ـ اسأل المخبرين، المخبر لديه خبرة في هذا المجال،
يسأل زوجته ما رأيك بالقرار كذا الذي اتخذته الحكومة، فتبدأ الزوجة بشتم
الحكومة وشتم القرار، وشتم الجيران، وشتم أهل الزوج، عندها يخرج المخبر
ورقة وقلماً ويكتب كلام زوجته، وينسبه إلى الرجل المطلوب متابعته ومتابعة
أفكاره.
لذلك تصبح الزوجات عوناً لأزواجهن، ويزداد الاحترام
بين المخبر وزوجته فتتماسك الأسرة وتستمر بالتماسك حتى يتدخل الجيران لفك
الارتباط بين المخبرين وزوجاتهم، ويرفرف الحب على الرؤوس مثل تقرير كبير
وتصاب الحكومة بالبهجة والفرح الشديد.
الأزواج الذين لا يعملون مخبرين عندكم يهربون إلى
المقهى لأنهم يعتقدون أن كلام الزوجات ليست له فائدة، وفي المقهى بالإضافة
إلى القهوة والكراسي والطاولات، في المقهى كلام كثير، اسألني، أنا كنت من
رواد المقاهي في أيام الشباب، لكن بعد أن انتابتني الرغبة في أن أكون ملكاً
ورئيساً بدأت أحتقر المقهى والذين يسكنون فيه.
رغم دخول الحاجب ووضعه لفنجان القهوة الذي طغى عليه
الزبد مثل عيون صغيرة مندهشة، رغم ذلك أحب السيوفي المحقق أن لا يقاطع
متهمه في استرساله الجميل، وكان الرجل المتهم بدوره منهمكاً في الكلام
وكأنه وحده، لا أمن ولا سيوفي ولا من يحزنون.
ـ كنت أحب المقاهي، ولكن بعد أن، بعد أن، بعد أن
ماذا، هل تعرف،...
ـ بعد أن أردت أن تكون رئيساً.
ـ نعم بعد ذلك مباشرة، تغيّر الحال معي، صرت أدخل
إلى المقهى لسبب آخر غير شرب القهوة، لسبب لا أحب أن أقوله لأحد.
ـ لو أنك تخبرني عن السبب قبل أن تبرد القهوة.
ـ من عادتي أنني أمشي في الشوارع كثيراً، أمشي أكثر
مما يمشي النادل في المقهى، ولأنني لم أعد أدخل إلى المقاهي لأنه لم يعد
معي ثمن فنجان القهوة. لذلك تحولت إلى الرئاسة وغيرت علاقتي بالمقهى، صرت
أدخل إلى المقهى لسبب واحد، بل لسببين، السبب الأول، وقد يكون الثاني،
أيضاً، أدخل إلى المقهى لأتبولْ.
ـ والسبب الثاني، (تابع السيوفي التساؤل لكي لا
تنقطع أفكار الرجل).
ـ وهل تحدثت عن سبب ثان؟...
سأل الرجل مستنكراً؟...
ـ نعم، السبب الأول لكي تتبول، بعد أن تتعب من
المشي، فما هو السبب الثاني.
ـ السبب الثاني سبب...........ألا تعرفه.
ـ أبداً...
ـ وهل تجد من الضروري أن أخبرك به.
ـ طبعاً.
ـ السبب الثاني لأغسل يدي ووجهي بعد أن أتبول، هل
يعجبك السبب الثاني.
ـ ظننته سبباً مهماً.
ـ وهو في الواقع سبب مهم، لكنني لا أستطيع أن أخبرك
به إلا على انفراد.
ـ نحن في الغرفة وحدنا.
ـ أنا وحدي، لكن هل أنت وحدك...؟!..
ـ طبعاً وحدي.
ـ ولا يوجد من يفهم الأمور بشكل مغلوط... أنا مثلاً
قد أفهم الأمور بشكل مغلوط ويمكن أن أجعلك تدفع ثمناً باهظاً.
ـ من هذه الناحية لا تخف، أنا مطمئن من ناحيتك.
ـ ولكنني غير مطمئن... غير مطمئن أبداً... لكنني رغم
ذلك سأخبرك.
فأنت مخبر جيد، وأحب أن اسأل مادامت عندك فناجين
قهوة ونار، ولماذا لا تفتح مقهى، الأرباح ستأتيك مثل السيل، كل فنجان يذهب
تأخذ ثمنه، بالمناسبة لا يوجد معي ثمن هذا الفنجان.
ـ هذا الفنجان لك ضيافة.
ـ أصحاب المقاهي لا يضيفون أحداً.
ـ هل تعتقد أننا في مقهى حتى آخذ منك ثمن الفنجان.
ـ تريد معرفة السبب الثاني ثمناً للفنجان لقد فهمتك
تماماً.
ـ بدأنا نفهم بعضنا.... تقريباً...
ـ زوجتي أيضا تفهمني، رغم أنها لا تعمل في المخابرات
مثلك.
ـ متزوج أنت..
ـ أبدً، لكن لي بعض الأصدقاء تزوجوا وفهمتهم
زوجاتهم، وأصبحوا يتبولون في المقاهي مثلي، لذلك اعتبرت نفسي من المتزوجين،
لكن مع وجود فارق أنت تفهمه، إنهم يتبولون ويشربون القهوة ويجلسون في
المقهى، أما أنا فأتبول فقط ولا أستطيع الجلوس، لأن النادل يحتقرني...
ـ كنت تتحدث عن السبب الثاني.
ـ السبب الثاني أذهب إلى المقهى لألقي خطاباً.
ـ عن أي شيء تتحدث في الخطاب.
ـ عن قضايا رئاسية تشغل بالي وبال الناس، لذلك أطلب
منهم الانتباه.
ـ إلى أي شيء، سأل السيوفي المحقق.
ـ إلى الحفر والمجارير المكشوفة، وأحياناً أطالبهم
بالتضامن ليمدوا أجسادهم جسراً لتعبر من تحته بقية المخلوقات من الدواب
والبهائم والتماسيح وباعة اليانصيب وماسحوا الأحذية الذين يقلقون زبائن
المقهى بالصراخ، وأحياناً أحياناً كثيرة أتمنى أن ألقي بنفسي تحت عجلات
سيارة مسرعة لأنني أشتهي أن أشرب مثل خلق الله فنجان قهوة، ولكن... ولكنني
لا أستطيع، أنت تفهمني، القهوة وفنجان القهوة، واللهب يتصاعد، أحس نفسي
لحظتها في الحمام، وقد احمر جلدي من الخجل لأنني لا أستطيع أن أحوّل الماء
الساخن في الحمام إلى قهوة سا خنة ولأعب من القهوة وأعب وأظل أعب حتى أتذكر
الأيام التي كنت أقعد فيها على كرسي وأمامي طاولة وفنجان وصديق منتبه إلى
النافذة وبين أصابعه لفافة تبغ لها رأس مثل.. مثل ماذا، مثل ماذا، مثل أي
شيء لا أعرفه، وعندما لا أستطيع أن ألقي بنفسي تحت عجلات سيارة مسرعة ،
وعندما لا أستطيع أن أشرب القهوة، عند ذلك تكون نفسي جاهزة لإلقاء الخطاب.
هل تعتقد أن إلقاء الخطاب أمر سهل، أبداً، خاصة أمام
جمهور من الناس جالسين في المقهى ورؤوسهم مملوءة بخطابات الزعماء التي لا
يفهمونها، لذلك عندما أخطب فيهم يتأملون الكلام، ولا يفهمونه، وأنا أتأمل
الفناجين ولا أفهمهم، ويأخذ الخطاب الواحد معي مدة شرب فنجان من القهوة
وتدخين سيكارتين لها رؤوس حمراء لا أعرف مثل أي شيء، هل تعتقد بأن إلقاء
الخطاب أمر سهل، و الناس ينظرون إليك، ويضحكون مثل لا أدري مثل ماذا، وأنا
ألقي الخطاب، بكلام جميل مصفى، أستعرض فيه حوادث الزمان والمكان، الشرق
والغرب، وحركة الجمع والضرب، وحركة الناس والبورصة، وأسعار العملات وأحزان
النسوة الوحيدات، والفتيات المجعدات الشعر.
أبدأ الصباح بالانتباه للأخبار، من إذاعة لندن
ومونتي كارلو وأنتبه كثيراً إلى المرحوم حكمت وهبي الذي يقدم برنامجاً اسمه
فنجان قهوة سكر زيادة، وأنا أحب القهوة على الرائحة، لذلك أقترب وأتشمم
الراديو لأعرف رائحة القهوة فلا أعرف شيئاً، فأسب وألعن وأفتتح اليوم
بشتائم ساده، لا رائحة ولا من يحزنون، يا أخي إلقاء الخطاب أمر غير سهل ولا
يشبه شرب فنجان قهوة بارد مثل هذا الفنجان. (ورفع المتهم الفنجان ودلقه في
فمه دفعة واحدة وتابع الكلام)، لذلك أ خطب في الناس، وأنا أستغرب برودتهم،
وانشغالهم بأنفسهم، دون أن يعطوا للقهوة معناها وللطاولات حقها. أما هذه
المرغريت تاتشر يا سيدي فهي سيدة من طراز نادر، يعني لو كانت في بلادنا
لاشتغلت في فرقة دبكة، ولما تجعد صوتها، ورقبتها، من كثرة التصريحات، لذلك
أخطب في الناس، دون أن أبدأ الكلام بالصراخ، يا ناس يا هو، الحاضر يعلم
الغائب، كما تفعل زوجة جارنا الذي يعمل في شرطة السير، أنا أجمع الخطاب من
وكالات الأنباء العالمية، وأنسب الأخبار إلى مصادرها، وعندما أنتهي من
الأخبار أقدّم فاصلاً قصيراً للتعليق على الأنباء قد يستمر أسبوعاً، لذلك
أحس بالجميع لا يفهمونني. مرة واحدة فهمني أحد الزبائن في المقهى ودعاني
لشرب فنجان قهوة مثل هذا الفنجان الذي شربته على الصافي فاحترمت الرجل وكبر
في عيني، وبعد أن أحضر لي الفنجان، طلب مني أن أعيد له التعليق على
الأنباء، فأعدته له بالتفصيل، وبروح طيبة، وقد اضطر من أجل متابعة التعليق
حتى نهايته أن يضحي بنصف راتبه ثمناً لفناجين القهوة التي تطلبها التعليق،
وبعد أن انتهيت شكرني الرجل بمودة، فأكبرت فعلته وقهوته في عيني ودعوته
للاستماع إلى التعليق الثاني، لكنه اعتذر وطلب مني أن أذهب معه فذهبت وقد
فوجئت عندما أخبرني أنه يعمل في الأمن. وأن تعليقاتي المتواصلة على الأنباء
كادت أن تخرب له بيته، وطلب مني والدموع تبلل وجهه، أن أسلم نفسي لجهاز
الأمن الذي يعمل فيه من أجل مستقبل أولاده، فشعرت معه بالتضامن رغم أن
احترامي له بدأ يتناقص. وعندما تدخل رفاقه في المهنة وجروني إلى السيارة.
عند ذلك، ذلك وحده، طار احترامي له كما طارت القهوة من الفناجين التي دفع
ثمنها وهو ينصت لي، وقد خمنت أنه من حزب المحافظين وبأنه استاء كثيراً من
التحامل الشديد الذي وجهته لمارغريت تاتشر عندما تحدثت عن أخلاقها
وتجاعيدها، وقد طلبت منه من أجل حلحلة الموضوع أن يرتب لي لقاء مع مارغريت
تاتشر لأعتذر لها عن التجاوزات التي بدرت مني بحقها، لكنه تجاهل الموضوع،
أقول لك بعد الذي حصل بدأت الشكوك تراودني، هاهو ذا حكمت وهبة يتحدث عن
القهوة ولا يقدمها لأحد، وهاهي ذي مارغريت تاتشر ترسل رجلاً من جماعتها
للقبض علي، لذلك قررت بيني وبين نفسي أن أتوقف عن التعليق على الأنباء،
وإذا اضطررت إلى التعليق اضطراراً أنسبه إلى وكالة أنباء عالمية، حتى إذا
شك أحد المتحمسين في أمري، أحوّله إلى وكالة الأنباء ليقبض عليها ويحل عن
سمائي، هذا عند الضرورة، أما عندما لا أجد خبراً مهماً يستاهل التعليق،
فأنا أكتفي بنشرة الأخبار اليومية، ولكنني بدأت أحرص على إذاعتها في
المقاهي قبل ساعة الإقفال، أدخل إلى المقهى، إلى الكراسي الفارغة و
الطاولات، ومكنسة الجرسون الذي بقي وحيداً وأتقدم لتلاوة النشرة بروح
متضامنة وعيون دامعة، فالكراسي تعرفني، كلها تعرفني، والكراسي تسمعني، كلها
تسمعني، فيها رائحة الناس، فيها رائحة انتظارهم، ورائحة زمانهم الذي يهرب
من عيونهم ومؤخراتهم دون انتباه، ورغم ذلك فالكراسي تنتبه وتسمعني، الكراسي
لا تستطيع أن ترفع يدها لتكتب تقريراً، لأنها إذا رفعت تقع على الأرض
فأنتبه، والطاولات كذلك، ونادل المقهى لا يستطيع أن يرفع يده لأنه يخاف أن
يندلق فنجان القهوة على رأسه وثيابه، ولا يستطيع أن يرفع يده الثانية حتى
لا تقع المكنسة ويطير الغبار إلى ثيابه فيسقط وتتناثر قطع العملة المعدنية
على الأرض فيقضي ليله كله في لمها، في هذه اللحظة، وفي منتصف الخطاب، وفي
منتصف نشرة الأخبار أحس بالتضامن مع النادل، ومع ظهره المحني على الأرض.
فأتقدم منه وآخذ المكنسة منه، وأتابع تكنيس الأرض،
وعندما أنتهي، يحضر الرجل، فنجانين كثيفين من القهوة، واحداً له وواحداً لي
فنقعد معاً على الطاولة مثل زبونين محترمين ونشرب القهوة معاً دون أن
يطالبني النادل، بقراءة التعليق على الأنباء.
ـ هل تعرف مارغريت تاتشر؟!...
ـ أسمع عنها في الأخبار، لقد سقطت في الانتخابات.
ـ هل تعتقد بأنني تحاملت عليها.
ـ أبداً، أحد الكتاب في بلادها أطلق عليها مثل هذا
الوصف، وقال بأنها عاهرة.
ـ يبدو أنه يحب القهوة مثلي.
ـ عموماً في بلادها يفضلون الشاي.
ـ هل هي من أصل هندي.
ـ من؟...
ـ أنديرا غاندي.
ـ طبعاً، ظننتك تقصد مارغريت تاتشر...
ـ وسمحت للكاتب أن يظل حياً.
ـ طبعاً..
ـ ليتنا نتعلم شرب الشاي مثل الهنود الحمر.
ـ ولماذا مثل الهنود الحمر...
ـ حتى نتعلم الرقص، أحياناً أشعر بأنني من الهنود
الحمر.
ـ بدأت تشعر بالحزن.
ـ هل قرأت التقارير.
ـ قرأتها..
ـ فيها هنود حمر.
ـ فيها كلام عن ملك، عن ملك العالم، هل قلت هذا
الكلام في خطابك.
ـ أحياناً أحتمل الحياة دون قهوة، وأحياناً أحتملها
دون طعام. ولكنني أحياناً أجوع كثيراً، كثيراً، فأتصور نفسي ملكاً، من شدة
الجوع فأذهب إلى بائع الفروج، لأرى الدجاجات وهي تدور وقد اخترقها السفود
فأصبحت حمراء مثل الهنود الحمر. وبسبب الجوع الشديد تقدمت إلى واجهة
الدكان،ونظرت إلى الأعلى. وانتبهت للكتابة. وقرأت (ملك الفروج)، وقلت للفسي
ياللمصادفة الجميلة، سنتفاهم معاً، ملكاً لملك، ودخلت إلى صاحب العمل، وقلت
له يا جلالة الملك، أريد نصفاً، قال تفضل، قلت ولكنني لا أملك ثمن نصف
الفروج، قال تفضل وأشار إلى خارج الدكان، قلت أعطني ربعاً، فخذاً، رأساً،
قال بعصبية لا أفهمها قلت لك تفضل، قلت يا أخ يا ملك الفروج أريد جناحاً،
أريد ريشاً، لأصنع منه تاجاً، أنت ملك الفروج، وأنا ملك العالم، وصعدت إلى
إحدى طاولات المحل، وبدأت أصرخ مطالباً بذيل، أو جناح أو بكومة ريش حتى
أصبح ملكاً حقيقياً وأطير.
هل تصدق؟ شعرت بأن الفراريج الحمر، قد دخلت في الخجل
العميق وبدأت ترف بأجنحتها حولي ثم طارت، طارت من الحفاوة بي، لذلك وبمعدة
فارغة ليس فيها سوى فنجان قهوة بارد، يستطيع الناس جميعاً أن يكونوا ملوكاً
وقادة ورؤساء ومرغريت تاتشر وهنوداً حمراً، لذلك التمعت في رأسي الأفكار
مثل تاج من الريش فوقعت من شدة الزهو، والجوع على الأرض، وكان ضرورياً في
تلك اللحظة أن أشعر بألم الجوع العظيم، الجوع الملوكي الهائل حتى أنسى ألم
ارتطام رأسي بالأرض، رأس ملوكي وأرض، بقليل من الريش كان بوسعي تحت الطاولة
أن أتكوم مثل دجاجة مذبوحة، في كل مكان يعطي الناس لأنفسهم الحق في أن
يكونوا ملوكاً، ملك الفروح، ملك الفلافل، ملك الطبخ، وبمعدة فارغة إلا من
فنجان قهوة باردا، وبثلاثة أيام من الأسئلة والجوع، ألا يحق للواحد أن يكون
ملكاً ورئيساً، وحاملاً للأختام، ومحققاً، ومرغريتاً تاتشراً، وبطيخاً.
في أخر خطاب لي ألقيته على الكراسي الفارغة، تمنيت
أن أكون كرسياً لأمشي على أربع، وأقف على أربع، هل شاهدت ملكاً يقف طوال
مدة حكمه بدون كرسي، بدون عرش، العرش قبل الرجل، وهو من فصيلة الأربع، رجل
للعدل، ورجل للطامعين، ورجل للمعرفة، ورجل للجائعين، أربعة أرجل، رجل مقابل
رجل، لكن الملوك والرؤساء تركوا هذه الأمور للكراسي، لذلك أحب الناس
المقاهي وعاشوا فيها، في آخر خطاب لي تحدثت فيه إلى الكراسي الفارغة،
وأرجلها الحكيمة العادلة، قلت فيه لقد خانتنا الكراسي، وباعة الفروج، لم
تعد للعروش أرجل، ورجليَّ تعبتا من الوقوف والكلام.
لماذاعندما ذهب السيوفي إلى البيت استعاد بذاكرته
العجيبة تفاصيل الكلام وكأنه مدوّن على أسطوانة، لقد أوقعه الرجل (المتهم)
في الحيرة، فهو كائن من نوع خاص، ليس لديه ما يملكه، لذلك لا يمكنه أن يخسر
شيئاً، ورغم علاقات الكلام المفككة، إلا أن الروح الداخلية للكلام مجدولة
بتضافر غريب، محير وجذاب، لذلك أجل البت في الأمر، بعد أن عقد مقارنات
هائلة بين الأحلام التي أصابته، وكلام الرجل، بين شفته العريضة المستغربة
وقهوة الرجل الباردة، وقد وجد مناسباً أن يحكي الحالة بتفاصيلها الجارحة
لابنته الشابة وعد، وزوجته الشابة انتصار، وقد أدهشته عندما دخل عميقاً في
وصف الحالة، سلطة المشاعر التي اجتاحت ملامح الاثنتين الابنة والزوجة.
عند نهاية الحديث نهضت الزوجة مستثارة كأنها هكذا
خمّن، كأنها ذهبت إلى نفسها لتبكي، بعيداً عنه، أما الابنة، فقد ظلت صامتة.
وقد بقيت على هذه الحالة أكثر من اللازم، وعندما سألها عن جواب، ليخرج نفسه
من الانفعال الذي وجد نفسه فيه، عندما سألها عن، نظرت في وجه والدها
باندهاش غريب، وقالت:
ـ أتمنى أن يكون هذا المتهم أبي، ثم ذهبت إلى غرفتها
وأغلقت الباب بقوة، وظل السيوفي وحيداً وبعيداً مثل كرسي وحيد واقف في
الصحراء.
لذلك نهض في اليوم الثاني وذهب إلى عمله وقد اتخذ
قراراً على مسؤوليته بإخلاء سبيل المتهم، وفي توصيفه لحالة الرجل، كتب حالة
من العصاب وجنون العظمة، والحالة من اختصاص الطب النفسي، وهي حالة غير خطرة
أمنياً، وليس لها علاقة بالمعارضة السياسية المعروفة في أيامنا، وقد رسم في
خاتمة التقرير اسمه وتوقيعه.
وهاهو ذا في استرخائه الطويل يتذكر التفاصيل، ويعيد
ربط الأمور ببعضها، وهاهي ذي حالته تستجيب لحالات متهميه، فتزجه مخيلته في
أحلام لا طاقة له بها أحلام تتوضع على مقدمة أنفه، مثل خيط من الدم شاسع
وطويل.
كان السيوفي يعتقد (وهذا بعض من الشطط الذي تورطه به
مخيلته) كان يعتقد أن شفته العليا الواسعة هي المكان الوحيد الذي يمكن
للديمقراطية أن تتحقق فيه،لذلك كان يداهم شفته تلك بآلة الحلاقة حتى يمنع
الشعر الأسود الكثيف من اجتياحها، ولتبقى في وضعية الانتظار، فالشعر الأسود
الكثيف يدخل وجهه كله في الكآبة والعتمة فتغيب التماعة عينيه ويتحول
بتفاصيله إلى كائن جبلي وعر، لذلك كان يجزها جزاً من محيط الأنف، إلى خليج
الفم، تاركاً للاحتمالات المتباينة أن تغزو وجهه وتقاطيعه، وكان يضع نفسه
وجسده وعموده الفقري في وضعيات الانتظار والترقب، وكانت شفته تنظر إليه،
وتتهدل بعيداً عنه.
الفصل الأخير
كنا نعمل في المسرح.. فرقة من الشبان والفتيات.
ويشرف على تدريبنا وتلويعنا مخرج شاب.. تخرج حديثاً من المعهد العالي
للمسرح في العاصمة، وله أنف واسع يعينه على التأمل.. وعينان ضيقّتان تسمحان
له برؤية العالم من كل الجهات، وفم متطور يساعده على إطلاق الشتائم
واللعنات.
والمسرح مكان واسع يسمح بالصراخ والتلعثم.. والحركات
الزائدة والاضطراب، وعلى طرفي المسرح فتحات مواربة وخلفها سراديب وممرات.
وفي المسرح مستخدم شاب أيضاً.. مولع بالتنظيف
ومراقبة التدريبات، ولكنه في الأيام الأخيرة بدا لنا شديد الاضطراب، وصارت
المكنسة تقع من بين يديه ولهاثه. فتراكم الغبار على الخشبة وفي أنوف
الممثلين وأصبحت خبطة واحدة من قدم ممثل منفعل.. تثير زوبعة من الأتربة
تحول بيننا نحن الممثلين وبين رؤية المخرج العنيف، وفهم التعليمات، وقد
أسعدنا الغبار من هذه الناحية، لكنه من ناحية أخرى أفقدنا القدرة على حفظ
الأدوار وتذكر الحركات، لذلك غضب المخرج.. فترك الغبار وذهب منفعلاً إلى
مدير المسرح، وحدثه عن فلسفته في الإخراج، وبأن نظافة خشبة المسرح أكثر
أهمية من نظافة النص والمؤلف، وبأن الغبار هو السبب الرئيس في تأخر المسرح
في بلادنا.. وله دور بارز في بلادة الممثلين والممثلات.
-والحل؟.. (سأل مدير المسرح مستوضحاً).
-الحل أن تحضر المستخدم وتنذره بالفصل والعقوبة إن
هو أخل بالنظافة وترك الغبار يسرح ويمرح بين المشاهد والفصول.
وكان المستخدم الشاب وسيماً. له فم صغير يقنع
بالقليل من الهواء، وله عينان ملونتان.. ويستخدم المكنسة، وينسى استخدام
الكلمات.
وعندما أحضره مدير المسرح وحذره، وبالغ في توبيخه،
خرج المستخدم من المكتب.. وكاد يقع من وطأة اللهاث. وعاد إلى التنظيف
والحيرة والهزال.
وصارت خبطاتنا على المسرح أكثر دوّياً، وعدنا لنسيان
الأدوار وتذكر العثرات.. مما دفع المخرج الشاب إلى الجنون، فطلب منا أن
نخلع الثياب ونقعد بسراويلنا الداخلية على خشبة المسرح.
أما الممثلات المستغربات فقد اكتفى منهن بخلع
الأحذية، حتى لايثير الغرائز والشبهات، وحين استقرت مؤخرات الجميع وأقدامهم
الحافية على الخشبة، وقف المخرج أمامنا.. وبدأ بإلقاء بيانه البليغ..
فقال:
-إن الممثل الذي يقوم بدور الملك غير جدير بالقيام
بدور البواب.. أما بقية الممثلين فيستحقون الصلب على خشبة المسرح وليس
القيام بتمثيل الأدوار عليها.
ثم بدأ المخرج بشرح النص للمرة الألف ونحن نتابع
الكلام بهمة وارتجاف. وكان المستخدم الشاب قاعداً في آخر الصالة، وقد
استقرت بين ذراعيه مكنسة وحول رؤياه غبار وذكريات.
ثم تابع المخرج الشرح فقال: مسرحيتنا كما تعرفون
مأخوذة عن نص يوناني.. وتتحدث عن أوديب، ابن للملك لا يوس ملك مدينة طيبة..
وقد فرح والده بولادته، ولكن العراف تيريسياس دخل على الملك وحذره قائلاً:
ابنك هذا الذي ولد من صلبك.. سيكبر ويقتل أباه ثم
سيستولي على العرش.. ويتزوج أمه.. وتحصل معه أحداث تشيب لهولها الممالك
والمصائر والأقدام الثقيلة والأيام.
وعندما سمع الملك النبوءة خاف على حياته وملكه، وقرر
أن يقتل ولده لتظل مملكته نظيفة من الطامعين والمتآمرين. لذلك أريد منكم
المزيد من الانفعال، لتجسيد مخاوف الملك وحيرته وإصراره على قتل ولده,
والقتل على المسرح عمل عظيم له سطوة وتأثير، لذلك ينبغي أن تتحركوا كما
يتحرك الممثلون العظام، وليس كما تتحرك النساء في الحمّام.
ثم سمعنا جميعاً صوت سقوط المكنسة من آخر الصالة..
وتبع ذلك صرخة عميقة وشهقات.. كأنما كان الملك قاعداً في آخر الصالة وليس
جالساً بيننا بمؤخرته المرتجفة على الخشبة، لذلك التفتنا إلى جهة الصوت
ونهضنا مستغربين، وقد خلّصتنا الصرخة من التيبس والبرد الذي لاقيناه بسبب
القعود الطويل، ذلك القعود الذي دفعنا للاعتقاد بأن المخرج سيفتك بنا بصورة
أعنف من فتك الملك لايوس بولده أوديب الصغير.
في آخر الصالة كان المستخدم واقعاً في البكاء..
كأنما أحزنه أن يقوم الملك (لايوس) بقتل ابنه الوحيد.
عندما رفع المستخدم الشاب رأسه، كنا متحلقين حوله،
ونحن عراة من الثياب والإلفة ومملوئين بالبرد وعدم الاحتمال، وكان المخرج
أكثر منا تساؤلاً واضطراباً، لذلك رغب في معرفة الأسباب.. فحمل المكنسة
وقمنا نحن بحمل المستخدم إلى مقدمة الصالة، وبدأنا بترميم روحه وإخضاعه
للأسئلة، لنفهم دوافعه، ولا نقع في الاضطراب، وقد أنستنا الحالة ارتداء
ملابسنا، وأنستنا البرد المقيم الذي يفتك بنا.
وكان المخرج في غاية الحيرة.. ثم طلب من المستخدم أن
يصعد الخشبة ويشرح أسبابه ويحكي لنا قصته.
فاضطرب المستخدم وصعد ومسح عن أطرافه التنهد والماء
وقال:
-لست ملكاً، ولي مكنسة ولي صولجان، وقد فقدت ولداً
ولم أشرع في القتل ولا الإصغاء لنبوءة العرافين والعرافات.
-وكيف فقدت ولدك؟!... (تساءلنا مستغربين..).
-بسبب النظافة. (قال المستخدم، وهو يعاين عُرينا
وخشبة المسرح الواسعة والمخرج الذي يلوعنا) قال المخرج وهو يحرك المكنسة
بانفعال: أخبرنا كيف فقدت ولدك، لنفهم ونستفيد.
-من مدّة لا تزيد عن شهر استأجرت غرفة ليس لها
حمّام، وكانت زوجتي مولعة بالنظافة، وكنت مولعاً مثلها.. وبسبب الماء
الضئيل رغبت زوجتي الذهاب إلى حمام السوق لتغتسل ويغتسل معها ولدي الصغير..
والنظافة حق وواجب.. في عرف الناس والمستخدمين، فهل أمنعها عن تحقيق
رغبتها، أم أدفعها إلى الحمّام.
صاح الجميع: ادفعها.
وفي الحمام عبرت زوجتي البراني.. والوسطاني..
واجتازت الجوّاني حتى وصلت إلى بيت النار.. فقعدت إلى جواره وبدأت بملامسة
جلدها والتهجد والاستغفار، وكانت قربها على جرن الماء امرأة أخرى وعندما
لمحت ولدي الصغير، قرأت وبسملت، ونفخت في وجهه لتحميه من عيون الحاسدين، ثم
حملته لتعين أمه على متابعة الاغتسال والفرك العنيف كأنما كانت تعرض جلدها
للتعذيب. ثم قعدت المرأتان.. وقالت المرأة الأخرى لزوجتي:
-ولدك هذا يشبه أولاد الملوك.. فتمسكي به ولا تسلميه
لامرأة سواك حتى لا يضيع بريقه ويضل طريقه.
ثم خلعت المرأة أساورها ووضعتها على طرف الجرن
وتابعت الكلام والاغتسال.. وعندما جاء دور الصغير أقسمت المرأة الأخرى على
تغسيله، وقالت لزوجتي، أنا أكبر منك وأكثر خبرة في الغسل والتنظيف، وهكذا
أقعدت المرأة ولدي في حجرها بعد أن اطمأنت زوجتي لكلامها ثم بدأت المرأة
تفرك بطنها ونهديها وتتلوى وتتغضن كأنما هي في مخاض أليم وزوجتي تتابع
وتتحير والمرأة تصرخ وتستغيث وقد حاولت زوجتي انتزاع الولد منها، غير أنها
بكت وطلبت إمهالها حتى تنتهي.. وعندما تم لها ذلك.. أعطت الصغير لأمه
ونهضتا معاً، وعندما عبرتا المراحل.... وخرجتا إلى البراني وقعدتا وألبستنا
الصغير وارتدتا الألبسة، صرخت المرأة ملتاعة بأنها نسيت الأساور الذهبية
على طرف الجرن.. ورجت زوجتي أن تركض لإحضارها.. لأنها أسرع منها في
الحركة.. وطلبت منها أن تسرع حتى لا يسرق الأساور شخص غريب. وقد استجابت
زوجتي للطلب وركضت مسرعة لإحضار الذهب اللعين.
وعندما أحضرته وعادت.. لم تجد المرأة.. ولا ابنها
الصغير. ولم يكن حمّام في الأرض يتسع للأحزان والولاويل التي أطلقتها
زوجتي... وعاضدتها في ذلك النسوة. دون أن يفلح الصراخ في استعادة ولدي
الصغير.
بعد ذلك رجعت زوجتي نظيفة ووحيدة إلى البيت، وأصبحت
النظافة مصدر حزني وغضبي وضياع ولدي.الذي صرت أتمنى أن يظل حيّاً ليقتلني
ويقتل أمه ويرسلنا معاً إلى الجحيم... ثم يستولي على الأساور التي تركتها
المرأة الغريبة...... إن قتل ولد صغير أكثر قسوة من ضياع مُلك ومملكة، وقد
أخبرني أحدهم بأنهم ربما سرقوا ولدي لينتزعوا أعضاءه ويمنحوها لطفل آخر
مريض.
لذلك ذهبت إلى الشرطة، وصرت أتردد يومياً على
الحمامات والمخافر لأسأل عن ولدي.. فإن كان عراف المسرحية ما زال حيّاً،
فاسألوه عن ولدي واسألوه عن المصير.
ثم وقع الرجل على الخشبة، وتناثر حوله حزن كثير..
عندما انتهى المستخدم من سرد حكايته مع النظافة
والتنظيف غادر الخشبة واقترب من المخرج وأخذ منه المكنسة ومضى إلى آخر
الصالة.. فتبعه المخرج وتبعناه جميعاً.. ثم قال المخرج للمستخدم:
-سوف أعطيك دور الملك في المسرحية. فلقد مثلت الدور
بشكل عظيم.
فقال المستخدم: الملوك الذين يقتلون أولادهم غير
جديرين بحمل المكنسة، فكيف يسمحون لهم بحمل التاج والصولجان؟...
ثم وقع على الكرسي، وكوّر ذراعيه وبدأ الغناء وكأن
على ذراعيه طفل صغير.
بعد مدّة من التدريبات.. طلب المخرج إحضار المكانس
للممثلين والممثلات وصرنا نحمل المكانس بدلاً من السيوف والصولجانات،
وتابعنا التدريب وتقديم العرض... وحولنا جمهور متحمس وغبار كثير..
الأيام الستة ـــ قصة: محمّد أبو معتوق
قبل أن أتزوج… كنت قد عقدت مع زوجي اتفاقاً… وهو أن
نؤخر الإنجاب لمدة عامين.. حتى نتمكن من التعايش.. ولنحس أن حياتنا
المشتركة ستكون طويلة… وهي جديرة بأن نبذل فيها جهداً لننجب ولداً، دون أن
نتوجه بعد ذلك إلى المحكمة لنبدأ معاملة الطلاق. كما يفعل الكثيرون في هذه
الأيام.
وقد قررت لتنفيذ الاتفاق أن أتناول (الحبوب) حتى لا
يقع الحمل خلال المدة المقررة.
في بداية تعارفنا التقليدية.. سألني ماذا تعرفين عن
المؤتمر الدولي، فتساءلت بمرح.. أي مؤتمر.. عندها ابتسم وقرر أنني دون سواي
الجديرة بأن أكون الزوجة المطلوبة.
ـ فاستغربت..
كان يقول لي أنت تحملين غرائز عظيمة.. حساً فطرياً
بالأشياء وكأنك من منجزات الغابة. وكنت أطلب منه قليلاً من التوضيح وكان
يحزن ويستدير إلى الطرف الآخر من الغرفة…
بعد الأيام الأولى من الزواج أحسست بأنني أحبه أكثر
مما يحتمل وبدأت الرغبة في الخروج على الاتفاق وإنجاب ولد بشكل مبكر تدق
على روحي وصدري وتعصف بأنوثتي وسرتي وساقي.
مثلما تفعل النار العظيمة بالغابة الخائفة. ولكنه
ذكرني بالاتفاق وكأنني واحدة من المشاركين بالمؤتمر الدولي، فبدأت أحزن…
كان يعمل بالسياسة ولا يشغل أي منصب بسبب غرابة
روحه.
… لذلك لا يحتمل أن تدمر أنثى مثلي فطرتها وغرائزها
بالحديث عن السياسة، لذلك بدأت أحن للغابة وأكره حبوب منع الحمل.. وأشعر
بفداحتها… وكنت أتأمل وجهه كثيراً.. وأحس بالضيق لأنني لا أستطيع أن أمسك
روحه.. لذلك قلت في نفسي… ربما بوجود طفل صغير، أستطيع أن أنشغل عنه، فيعود
إلى طلاقته وسخريته وضحكاته العالية. كنت أتمنى أن أذهب معه إلى الحمام،
وإلى ورق الكتابة، أن ألتف بذراعي على جسده الضخم وأحلامه وصوت شخيره،
لأدخله في نحولتي وخلجات وحدتي، ولم يكن ينتبه.
عندما أنهي بطاقة الحبوب.. وأدخل في العادة والدم…
كنت أنظر إلى غرائزي وطبيعتي المهدورة، وأحاول أن أبحث عن أشلاء طفلي
المغدور، الذي أودت به (الحبوب).
العالم مقدم على الجوع، والعالم الثالث الذي منا
ونحن منه، مهدد بمستقبله وأطفاله… هكذا كان يقول. وكنت أصرخ: إنه طفلي..
ليقتله العالم الثالث والجوع العاشر. لكنني غير مستعدة لقتله بإرادتي..,
ورشاقة أصابعي، وكنت في المساء ألمح أحزانه، فأهرع إلى (بطاقة الحبوب)
لأضغط مقدمة الحبة المقررة بإصبعي وأظفرها الملون بالطلاء لتخرج إلي الحبة
من الطرف الآخر في هيئة شيء غريب، يشبه كثيراً واحداً من أبطال الأفلام
المرعبة… وفي يده مدفع أو ساطور. وهو يلهث بحثاً عن الأطفال.
في اليوم الأول على انقضاء العادة والدم.. أشعر
بالغبطة وأنا أعود إليه، مدعمة بالغرائز والحبوب… والحب الذي لا أستطيع
احتماله… أقدم حنين هاوبتي إلى قلق ذرواته…لهاثي إلى تعسف صدره، غيوم عينيه
إلى دهشة ذراعي… وأعطيه ما ينهض بالأرض واحتمالات الشمس، وعندما ينهض… يذهب
إلى الخزانة ليتفقد الحبوب.
وكنت أنتبه إليه.. إلى استدارته الجارحة… وصلابة
قبضته وهي تلعن الخزانة التي تحمل هذا الموت، ثم يلقي ببطاقة الحبوب بغضب
بعد أن يطمئن إلى صلابتي في الحفاظ على الاتفاق…
كانت الأوبئة والحروب، والمداهمات الغريبة، وقسوة
الأنظمة ورعب المخيلات كل ذلك يقتل الناس ويقلل أعدادهم، الآن استطاع الناس
النهمون.. كلاب المختبرات والتقدم، أن يضعوا كل الأوبئة والحروب في بطاقة
للحبوب، بعدها استطاعوا أن يصوغوا عقائد الناس وجوعهم على طريقتهم… لتعلن
كل أم حربها ضد أطفالها.. وكل أب معتقداته وغرائزه.
ـ الرضاعة تهدل النهدين.
ـ الإنجاب يهدل الأرض.. فتضيق كثيراً.. كثيراً حتى
تعوي الأرواح من كثافة الناس والسيارات وقوة المؤسسات.
صباح هذا اليوم ضحك... قلت له بعد أن استيقظ مبكراً
وأحضر الفول الساخن.
ـ أنا لا أحب الفول كثيراً.
ـ قال لي: هل تعرفين..؟ الأمهات في البلاد أخرى
يصنعن من الفول (صندويشاً) ويأخذه الأطفال إلى المدارس، والموظفون إلى
العمل، فاستغربت، وقلت له.
ـ يأخذون الفول إلى المدارس؟. ألا يوسخون ألبستهم،
عندها ضحك.. فتلون بالحزن وجهي.. ولكنه تابع الكلام.
ـ أنا لا أسخر منك.. ولكني أضحك على التباين.
ـ أي تباين.. سألت منزعجة.
ـ بين وجهة نظري، ووجهة نظرك.. لقد تحدثت عن الفول…
لأحببه إليك وأنت نظرت إلى الموضوع بأمومة مفرطة..
لذلك أحسست بالخوف من اتساخ ألبسة الأطفال.. ذلك هو
التباين... وهو ما ضحكت من أجله.
أنه دائماً يتحدث عن التباين... وأحياناً يستخدم
بعفوية بالغة مفردات لها علاقة بالأمومة.. هذا ما يربكني ويجعلني أشهق من
شدة الانفعال…
عندما قمت بترتيب الطعام… وسكبت لنفسي قليلاً من
حبات الفول للمشاركة.. انتبهت.. كانت حبات الفول تشبه الأجنة الصغيرة التي
تسبح في غير مياهها.. أجنه حرمها التخصص وتقسيم العمل والوظائف، والتعقيم
من استكمال دورة حياتها..
وعوضاً عن الغوص في رحم الأرض، وقعت في جرة بائع
الفول… وتابعت طريقها إلى الصحون لتذكر الزوج بطفولته… وتذكر الزوجة
بأولادها الضائعين. لذلك أعدت الملعقة إلى طرف الصحن وانصرفت للتأمل…وقد
غامت روحي.
ـ وكان ينتبه إِلي وكنت انتبه إليه، دون أن يترك
أحدنا للآخر فرصة اكتشاف مقاصده وخبايا عينيه.
لكن من يمتلك أن يصمت عن أيام الجنون التي تصيبني..
أيام لا أفهم طبائعها، ولا تعسف الحياة فيها… أيام من الشهقات والانفلات في
البكاء وكأنني أتقلب على الدم… كل ما أعرفه أنني أتناول الحبوب.. وأن حالة
الجنون تلك تصيبني بعد انقضاء العادة بأيام. وتستمر معي قرابة أسبوع.
عندما تصيبني الحالة الغريبة، انتبه رغم شهقاتي
ورطوبة عيني إلى الفزع المتصالب. على وجه زوجي، فأتقدم منه لأخبره بأنني لا
أفهم.. وأطالبه أن لا ينتبه للأمر… الموضوع عارض.. وسيزول عندما يبدأ
المسلسل التلفزيوني بعد ربع ساعة. عندها سأنشغل بالمتابعة وتأمل فواصل
الدعايات… المهم متابعة الأشياء الأخرى.. المحيطة والمجاورة حتى ينسى
الواحد داخله الذي يربكه… يبدو أن المرأة وهذا طبع فيها معتادة على
الانتفاخ..
أعني بطنها.. ربما بشكل غريزي، أو ميكانيكي…لذلك
عندما أتأمل الدعايات في التلفزيون أن أتمنى تنتفخ بطني.. لمدة وجيزة…
وبعدها أتخلص من الانتفاخ بعملية ولادة سريعة… لأنجب أشياء لامعة مثل
إعلانات التلفزيون..مثل أن أنجب مجموعة من علب (البيبسي كولا) أو صندوقاً
صغيراً للمنظفات.. حتى يخرج الدم المرافق لعملية الولادة نظيفاً ومعقماً
ويلبي حاجة الغريزة للانتفاخ، بطن الكف والذراع يريدان الانتفاخ أيضاً،
فعندما يلامس بطن الكف الأملس سطح البطن المنتفخ تتوالد خلال الملامسة
أمواج ورعشات وذكريات…
ويتوالد بكاء بعيد تستطيع أن تتذكره وتحسه أنثى
مثلي… لكنني شديدة الاستغراب من حالي وعالمي.. لماذا تداهمني نوبة البكاء
العالية بحضور زوجي وليس في غيابه.. ويلح علي الإحساس بالوحدة والبرد ووطأة
حبوب منع الحمل خلال نشرات الأخبار وتصريحات السياسيين… يبدو أن الازدحام
يورث الكآبة… زوجي لاحظ كثيراً ذلك.. توقيت نوبة البكاء العالي.. التي
تنتابني لها مبررات وقد اكتشفها زوجي قبلي وذلك عندما أوضحت له مرات عدة
بأنني لا أعرف ولا أفهم السبب لدموعي وشهقاتي… ولكنه عرف وعلم.. دون أن
تصدر عنه شهقة واحدة…
ـ لم يكن زوجي يزعجني في شيء… كل الفظائع التي
أرتكبها في البيت يكتشف المبرر لها، وعندما أكسر شيئاً ذا قيمة عالية.. أو
أحرق طعاماً بذلت الكثير من الجهد حتى صنعته.. سرعان ما يتناول الأمر
بابتسامة ليجد سريعاً بدائل جاهزة تخفف عن روحي ضغط الأسئلة والارتباكات
التي تنتابني… لذلك عرف قبلي…ولذلك أوضح لي سر الأيام الستة.
بعد انتهاء العادة… تتشكل البويضة خلال ستة أيام..
وهي فترة التحضير والاكتمال، بعد ذلك تأتي أيام القتل.
ـ أيام القتل تساءلت مندهشة.
ـ بعد أيام اكتمال البويضة واستعدادها لتقبل الحياة
أوضح لي، يأتي دور الرجل.. دور الإخصاب... غير أن حبوب منع الحمل تتدخل
لتفكيك المعادلة.. وتخريب المقدمات والنتائج… لذلك تبدأ مرحلة القتل..
وتستغرق ستة أيام أخرى.. هي الأيام ذاتها التي تصابين بالبكاء ولا تحبين
الاستماع لنشرات الأخبار.. الأيام التي تحسين وكأنك فيها تفقدين شيئاً
عزيزاً..
ـ لماذا ستة أيام تساءلت
ـ لا أدري.. ربما لأن الله.. خلق العالم في ستة
أيام.. ربما لأن حرب حزيران (يوليو) عام 1967. التي قامت بين العرب
وأعدائهم استغرقت ستة أيام، وأصيبت الأرض بالدم والبكاء.
لذلك تتحول المعادلة.. وتتغير القوانين.. وتتحول
أيام الحياة إلى أيام للقتل والجريمة، بسبب الحبوب والكلاب.. عندها تشعرين
بالفداحة وبقسوة الانتقال.. ثم صمت.. وتابعت من طرفي الدهشة والتفكير.
في اليوم التالي استيقظ مبكراً.. أحضر من الفرن
المجاور الخبز الساخن والفول، عندما انتبهت إلى حضوره… والأشياء التي
يحملها.. صرخت بصوت لم آلفه.. صرخت بقوة نهدي وجدب بطني وحرارة مفارقي..
ألف مرة قلت لك لا أحب الفول، وشهقت من الانفعال.. لأنه .. لأنه يوسخ ألبسة
الأطفال.
ـ أجابني أعرف.. ثم اتجه إلى بطاقة حبوب منع الحمل
في درج الخزانة وأخرجها ومزقها بصعوبة.. فتناثرت حبات الشهر القادم على
الأرض…
قال: يجب أن نعطي للأيام الستة فرصتها…
قلت: أنا ذاهبة لتحضير الفول…
|