خالي، وأنا، والحمار
لا أردي، لِمَ كان يعتور خالي هذا التمهّل؟ طولة
باله كادت تشقّني نصفين. الأمر واضح، كعين الشمس، أنا قرأت ((الإشعار))
بنفسي. عيناي التهمتا حروفه، وشفتاي تمتمتا كلماته: ((حضرة السيد محمود
الصالح... بعد التحية، الحوالة في طريقها إليك. ومقدارها عشرون مليون (ريال
أرجنتيني قديم)... ((تركة)) شقيقكَ فهد الصالح، الذي توفي في أواخر شهر
أيلول، وقد أوصى بما يملكه إليك. لأنه ـ رحمه الله ـ لا ولد له، ولا زوجة
شرعية. وعملنا بموجب وصيته. فبعنا الأموال غير المنقولة، وأضفنا قيمتها إلى
الأموال المنقولة، وكانت الحصيلة العامة المبلغ المشار إليه. وإنا لله،
وإنا إليه لراجعون..)). القنصل العامة في السفارة /إمضاء/.
ومُهر هذا ((الإشعار))، بخاتم قنصل سفارتنا، في دولة
الأرجنتين، تأكيدٌ على صدق نظريتي، فلماذا الخوف، يا خالي محمود؟ وهذا
الدقّ، من جهة قلبك، مثل ضرب المطرقة! يجب أن تقتنع بكلامي، وتقلع عن حجج
حمارك غبيران، و...
وعلى الرغم مما كنت أكرز به. ظل خالي محمود هذا يشك
في نظريتي. ويميل إلى نظرية رفيق الدرب والعمل غبيران، فلم يصدّق نفسه أنه
سيصبح بين يوم وليلة أكثر من مليونير؛ وهو العامل البسيط، الذي سلخ عمره في
الشقاء. ينقل على كتفيه قفف الحجارة والحصى. لرصف طرق المواصلات، فلم يركن
إلى نفسه أنه سيحوز هذا المبلغ والحصى. لرصف طرق المواصلات، فلم يركن إلى
نفسه أنه سيحوز هذا المبلغ العظيم، ((يا سليم، يابن أختي. أنا قلبي دليلي.
خيالي لا يقبل مني أنني سأمتلك هذه الثروة. فضلاً عن عقلي. لهذا اتركني، في
حال سبيلي. أمتطي ظهر حماري، كل صباح، هو يرعى في مكان العمل، وأنا
أشتغل...)).
كان الحمار غبيران، قد قطع مع خالي عشرة، لا تقلّ عن
خمس عشرة سنة. أمضاها معه، رجلاً برجل. ورأساً برأس. اشتراه خالي جحشاً
صغيراً. ثم كبر عنده، وروّضه، حتى صار يتقن مهمته. ينفّذ، بدقّة، الأعمال
والحركات، التي يعتقد أنها مطلوبة منه، مثلاً ينهق بعد فلقة الفجر. فيستفيق
خالي، ويرتدي ملابسه. ويعتلي صهوة رفيقه. ويتّجه به إلى ورشة المواصلات،
خارج القرية، ولكن إذا ما تلكأ في نهوضه، يوماً، عن وقت غدوته المحدد هذا.
وليكن بسبب سهرة متأخرة، فيملأ غبيران الدنيا نهيقاً. ثم يهجم من زريبته
إلى باب غرفة خالي المجاورة. ويطرقه بحافر يده، ولا يهدأ إلا بنهوض خالي.
ثم كان، أحياناً، يمسك زوّادته بأسنانه، ويقدّمها له، كأنه مدرّب في
(سيرك).
في الطريق كان غبيران، يسارع خطاه، خلال شعاب القرية
الخارجية، التي تخترق بساتينها وكرومها، فيستنشق بمنخاريه المفتوحين أفاويح
النسائم الندية، وهي تحرك ذؤابات الأشجار حوله، فيرفع رأسه تحت صاحبه
الحبيب، ليتملّى معه شذى الخمائل المنسكب، من كل صوب. وليغازل، أيضاً،
بعينيه الواسعتين سهام تلك الأشعة المذهبة، التي تتناوشه، من خلال ثلمات
الأغصان المتشابكة...
حيوان فطر على حب الطبيعة، وعشق البريّة، بل عشق
الشمس، والريح، والفضاء. فلا غرو أن يندمج مع خالي، في هذه الحياة. أو
بالأحرى، أن يندمج خالي معه فيها. فراحا، معاً، يمارسان طقوسها، ومواعيدها،
وأعمالها. كل يوم، حتى صارت كعادة قديمة لديهما.
لذا كان أمراً طبيعياً أن يعترض على ظهوري الجديد
هذا، في حياته مع خالي. وأن يعترض، بالتالي، على كل هذه الثروة المرتقبة.
ولو دري بـ((الإشعار)) لمزّقه شرّ ممزّق. عذوبة حياته مع صاحبه المخلص، في
تلك التلاع والهضاب، التي تشقّها الطرقات المستحدثة، واستنشاق الهواء
الطلق. وانسراح العينين إلى أبعد رؤية في الأمداء اللامنتهية، وقضم عشب
الأرض، بدلاً من تبن المعلف الجاهز، لا تعادلها عنده أموال دولة الأرجنتين
بالكامل، ولكن، أنا، حياتي عند خالي، غير حياة هذا الحمار، وعلاقتي به غير
علاقته. أريد إقناعه؛ ((يا خالي... يا خالي...)).
والمثابرة تفلّ الفولاذ لا الحديد فحسب! رأيت خالي،
بعد التكرار، قد انصاع لي بعض الشيء. حين تسلّم رسالة مضمونة أخرى من ساعي
البريد. فقرر أن يعزف عن شغله، في ورشة المواصلات. وليعمل مليونير آخر
زمان!
ولكن استياء هذا الحمار، وما يمارسه من حركات صباحية
مغرية ومحزنة في آنٍ واحد. و((القلب الدليل)). كل ذلك غيّر من رأي خالي.
فعدل فيما بعد عما كنت قد توصلت إليه معه، من تقدّم. ((كأنني لا أصدق أنني
سأصبح غنيّاً يابن أختي. وغبيران المسكين، لشدّ ما يؤسيني منظره الكئيب.
وضعه البائس هذا يؤلمني، لقد اعتاد السُّرى. ينهق كل صباح. ويضرب الباب
بحافره. ويتمحّس بي كقط كبير وديع، لأذهب به إلى حيث كنت أعمل...)).
وهكذا صرعني هذا الحمار، لدى خالي، إذ لم يعد يبالي
ـ أي خالي ـ بكلام الناس عنه. وسفّه نصحي له. وضرب عرض الحائط بما أبديته
له من ذرائع. وما تحاملت به على نفسي من عطف على سمعته، ومكانته الاجتماعية
التي تدنت إلى درجة الصفر. يا خالي محمود، يجب أن ترتاح وتقلع عن العمل. لم
تعد، الآن، بحاجة إلى أجرك الزهيد، الذي تتقاضاه، بعد وصول هذه الأخبار
السارة. أخوك ـ خالي فهد رحمه الله ـ قد زاد في وفائه لك. هذا الخال الذي
لا أعرفه. وحتى أنت لا تتذكر صورة وجهه. إذ فارقك عندما كنت صغيراً. ويمّم
شطر جنوب (العالم الجديد). ليلقي عصا اغترابه، في بلاد الأرجنتين. بعد أن
عزّت عليه لقمة العيش في وطنه، أيام ((سفربرلك)). عزَّ عليكم رغيف الشعير،
وعجين الذرة. فرحل ليرفع الحيف، ويكفّ عنك مخالب الجوع، التي كانت تنهش
معدتك. ولكن لم نجر، معه، الرياح، كما تشتهي سفنه. فطالت غيبته، وانقطعت
أخباره. فالتجأت إلى أن تعمل ((مرابعاً)) لدى ملاّك الأطيان، في قريتنا.
وتحصل على قوت بطنك من ريع عيني ضئيل. ثم ترفّعت إلى مستوى عامل مواصلات،
وصرت تتسلّم أجرك دراهم. واشتريت غبيران بالتوفير والتقتير على نفسك،
ليساعدك في الوصول إلى عملك، ينقلك ذهاباً وإياباً، بعد أن كبرت، وأكل
الشقاء، من كبدك، أكثر من شقفة، واليوم، خالي فهد قد أوفى بعهده، في مماته.
بعد أن عجز أن يفي به، في حياته. فهاهو ذا، قد أفاض الخير عليك وطمرك
بالنقود من قبة رأسك، حتى أخمص قدميك فأوصى لك بأموال لا تأكلها النيران.
عشرون مليوناً، يستغرق عدّها عاماً كاملاً، وكم ((شوالاً)) ستملأ، فاهنأ،
يا خالي محمود، بهذه التركة النقدية النظيفة. التي جاءتك، على البارد
والسلام.
إذن يجب أن تعتزل العمل. وتخلد إلى الراحة، وليقس
قلبك، أيضاً، على غبيران. هذا الحيوان، خلقه الله حماراً لا غير...
ثم رحت، في الوقت ذاته أمنّي نفسي، في حصة المرحومة
والدتي صالحة. شكراً لك، يا خالي فهد، على هذه الثروة الطائلة، التي تركتها
بعد مماتك حتماً ستكون هذه الحصة مبلغاً محترماً. وبناء عليها، أنا صرت، مع
خالي، بحكم المليونير.. وماذا سيكون نوع السيارة التي سأشتريها؟ (مازدا)؟
أم (مرسيدس)؟ والشقة السكنية. في أي حي من أحياء العاصمة ستكون؟ وأمّا ابنة
الحلال، فسأنتقيها، من بين بنات العائلات الراقية. و.... على أية حال، تلك
الحصة، هي التي تحدّد كل هذه الأمور.
ثم لا أدري، كيف ضرب رأسي هاجس تجاه هذا المبلغ
بالذات؟ هل سيكون ثلث التركة؟ طالما والدتي هي شقيقة وحيدة لخالي محمود.
وللذكر مثل حظ الأنثيين. كما يحكم ((الشرع))! غير أنه توجد، في هذه القضية،
نقطة ضعف خطيرة، وهي أن والدتي، قد توفيت، قبل وفاة خالي فهد بمدة
طويلة...
على كلٍّ. سأتراخص مع خالي محمود. هذا الرجل المعدم،
قد أمضى عمره، وهو يشتغل، في الفلاحة، ثم في جمع الحجارة، ورصف الطرق.
وأجره اليومي لا يزيد عن ليرتين فقط، وعنده حمار، ومصاريف أخرى. لهذا
سأطبّق عليه حكم ((القناعة هي الغنى))، لا حكم ((الشرع))، وسأرضى بالمبلغ
الذي سيجبر خاطري به، مثلاً، بدلاً من قرابة سبعة ملايين، سأقبل خمسة
ملايين، وأجزم أنه سوف لا يتكرّم عليّ بأقلّ منها، فهو ماذا سيصنع بكل
ملايينه؟ ولنقل إن عينيه في قفا رأسه، لا في وجهه، فلا يحرم منها من له به
علاقة قربى مثلي. وهاأنذا قد حسّنت رابطتي به، وأضحت الصلة جيدة، في الآونة
الأخيرة. بل طيبة للغاية أزوره يومياً: نحن أقرباء يا خالي، يجب أن نقف
معاً في الملمّات. ولا يتخلى أحدنا عن الآخر. ومن يقل إن ((ابن الأخت عدو
الخال)) فهو كاذب وابن كاذب... نعم، كان في بادئ الأمر يأخذه حذر مني.
ويتساءل عن هذه العاطفة الجديدة؟ ثم ترك، بعد ذلك، حبله، على الغارب، أصبح
عادياً، يستمع إليّ، ويتطامن برأسه: يا خالي: أهل القرية، عرفوا الخبر.
وأخذت ألسنتهم تتحرك في حلوقهم، هذا الرجل شحيح، بخيل، ستصله ثروة تكفي
مدينة، وما زال يركب حماراً، ويشتغل عاملاً في طرق المواصلات، ... يكفي ما
بذلته من جهد. وما نزفته من عرق. وأنا من جهتي، فأرى أن الحقّ معهم، فأنت
أصبحت بينهم المليونير الوحيد، ويجب أن تضع على وجهك نظارة بعينٍ واحدة.
كما كان يفعل أبطال الأفلام المصرية سابقاً...
رفع رأسه خالي. ثم شقّ شفتيه مبتسماً، لهذه النكتة.
وعاد يتنهّد: لا تدعْ غبيران أذكى منك يابن أختي سليم، هذا الحمار ما يزال
يرفض طرحك. وقلبي يحدثني أن الحق معه، لا معك، ولا مع أهل القرية...
ـ بهذه البساطة؟ قاطعته.
فتجهّم وجهه، وكأنه أراد أن ينبش الماضي معي، ولكن ـ
والحمد لله ـ سرعان ما عاد وأفرد وجهه، هؤلاء الكبار في العمر يظلون، في
الحقيقة، كباراً في القلوب؟ داري شعوري. ونطق بتمهّل: يا سليم أعتقد أن
إحساسي صادق فيما وطّنت نفسي عليه، فسأبقى كما أنا. لذا دعني وغبيران، حتى
لا أخسر تعويضاتي في الخدمة. فأخشى، إذا ما انقطعت عن عملي مدة نشطب هذه
التعويضات، في مديرية التأمينات.
بلعت ريقي. وقلت، بلهجة جادة: يا عمي، بل يا خالي،
الحكومة لا تكذب على المواطن، والسفارة دائرة حكومية، مبلغ عشرين مليوناً،
من وحدة العملة الأرجنتينية، ستقبضها قريباً، محوّلة إليك بالطرق
القانونية، من المصرف المركزي الأرجنتيني، والمراجعة، بعد أيام، أو أسابيع،
فاخلع عن جسمك بذلة ((الخاكي)) هذه. وارتد بذلة من نوع ((الطقم المدني)) ذي
الجوخ العال! وصمّ أذنيك عن نهيق غبيران الصباحي، بل زدْ له، علف الشعير،
يسكت عنك ـ أظن ـ أجابني ـ لا يستبدل حياته تلك، بكل شعير العالم.
عجيبة سلطة هذا الحمار على خالي! إذن من الأفضل أن
أعالج معه قضية حصة المرحومة والدتي. وأترك قضية غبيران هذه. فقلت له:
المبلغ المرسل مسجل باسمك، يا خالي، وهو، من تركة خالي فهد شقيقك وشقيق أمي
صال...
قاطعني: أمك صالحة رحمها الله.
شعرت أن قلبي قفز إلى أمامي، هل يعرف خالي محمود
بالقانون؟ ولكنه تابع، بعد أن نظر إليّ بطرف عينه، وكأن قلبه قد رقّ: لماذا
تغيّر لون وجهك، سليم؟
أجبت، كالذاهل: أبداً. لا.
استأنف: إذا ما صدق ظنك يابن أختي صالحة، بهذه
الثروة، فستحصل على مبلغ يسر خاطرك.
ـ ابق غداً في البيت، يا خالي حرصاً على....
ـ اتكل على الله.
وفي اليوم التالي، قصدت بيت خالي لأؤكّد التزامه
بكلامه، ولكنني لم أجده، انحمقت في داخلي، حتماً أيقظه غبيران وغدوا، معاً،
إلى ورشة المواصلات، فذهبت إلى موقع العمل، ومن بعيد، رأيت غبيران يرعى
محرراً من شركاله ـ هذه عادة خالي معه ـ وبعد أن وقفت بجانبه وتشمّم رائحتي
بخياشيمه. نخر، كأنه يقول لي لِمَ أتيت؟ لم أبالِ به نظرت إلى العمال،
فشاهدت خالي بينهم، يحمل بيديه قفة الحصى، ركضت نحوه: يا خالي أراك عدت إلى
قفتك!!
ـ نهق غبيران في موعد السُّرى، ولم أرد أن أكسفه
و...
وقبل أن يعني أمراً آخر. قاطعته:
ـ نهيق هذا الحمار خير من كلامي؟
اكتفى بابتسامة مبتسرة، من تحت شاربه المخلوط
بالأبيض، حتى لا يخرج حميّتي، عدت وتساءلت، في نفسي عن حظوة غبيران عند
خالي. هل أفرغ هذا دماغه، حتى سيطر ذاك على عقله، بهذا الشكل؟ أم يتشاركان
معاً في استشعار ما يسمى بالحاسة السادسة وهاهما ذان كأنهما يحملان
اختصاصاً في مادة (الباراسيكولوجيا)1. وهنا أخذتني الغيرة بجدية. لا يمكن
أن أسمح لحمار أن يكون أكثر فهماً مني عند خالي. فرميت القفّة من بين يديه.
وجئت بالحمار نفسه، وقدّمته إليه، ليعود إلى البيت. وليخسر أجره اليومي.
غداً سيصبح أحد أثرياء البلد. ولكن غبيران نتر يدي، وحرر رسنه، وعاد إلى
حيث كان يرعى. عرف أن هذا الوقت ليس موعد العودة.
ـ يا خالي أنا أريد راحتك وسمعتك.
ربّت على كتفي، وقد أخذه إشفاق عليّ: من أجل خاطرك
سأنصرف معك اليوم.
ويا لفرحتي، وحسن حظّي؛ بل وسداد رأيي وفهمي. فما أن
وصلنا حتى أقبل علينا ساعي البريد، وتسلّم خالي منه، هذه المرة، إشعاراً من
المصرف المركزي، في العاصمة، لاستلام قيمة حوالة مالية مرسلة من المصرف
المركزي الأرجنتيني...
وبعد أن قبض خالي قيمة هذه الحوالة ـ طبعاً كنت
ملازمه.
ـ خاطبني: ألم اقل لك الحقّ مع غبيران، يابن أختي؟
المبلغ المرسل، لا يساوي سوى ألفي ليرة. طاش رأسي. أف! مبلغ عشرين مليون
وحدة أرجنتينية لا يساوي سوى ألفي ليرة؟ هذا غير صحيح، انتقلت إلى كوّة
الصرّاف: يا أخي مبلغ ضخم لا...
قاطعني الموظف: يا سيد، اعلم أن كل مئة ريالٍ
أرجنتيني قديم تساوي قرشاً واحداً، فاحسب القيمة لعشرين مليوناً. وأعتقد
كنت ((شاطراً)) في حل المسائل الحسابية.
السويداء/ وهيب سراي
الدين
1 المصطلح العلمي
للحاسة السادسة وظواهرها.
شيء من الطفولة
-1-
حتى الآن، لا أدري، لماذا هذه المرحلة من حياتي،
كانت ذات أثر في نفسي، أكثر من أية مرحلة أخرى –مرحلة طفولتي- نعم كانت لنا
قرية. بل كنا نسكن بقريتنا، في بيت متواضع مؤلف من غرفتين، وسور يحيط بهما.
ويطلق عليه اسم "حوش" الحجر من البازلت. لونه أسود مزرق، قاس، أصم، يفل
الفولاذ. هذا بعض مما أذكر. ولكن الأهم من كل ذلك، هو، ذكرياتي، عن تلك
المرحلة، ذكريات طفولتي. فضاؤها اللا محدود أجواؤها المشبعة بزخ الخيال،
ورشق الأساطير، واجتراح المعجزات.
أعتى الخوارق يتم كجرعة ماء. كان يحدث كل هذا، في
وسط مناخ مشحون بالتهويل والتخويف. الأشخاص: غيلان، مردة، جان...
العلاقات: طلاسم "رصد"، "سحر"..
أواه... أيها الخوف اللذيذ! كم كنا نعشقك، ونحن
أطفال؟.
ونستمتع برجفانك، ونذوب برهبة أهوالك؟ نصغي. نلتهم
الكلمات. الأبدان تقشعر. الشعر يشيب. القيامة تقوم.. غير أننا نبقى
متعلقين، في أرجوحة تينك الشفتين العجفاوين الرخوتين. هاتي أيتها الجدة..
كيف حول العفريت الأميرة "ست الحسن" إلى حورية، و "رصدها" بأفعى... و...
-2-
أجل. نحن ثلاثة أطفال، في بيتنا. أكبرنا في السابعة.
كنا نلتف حول جدتي "أم سلمان"، لتقص علينا حكاياتها المخيفة والشائقة
معاً.
وكان معظم تلك الحكايات يدور حول "الخربة" الواقعة،
في جنوب قريتنا. كانت خربة نشطة في عالم الخوف. تغزل الأذهان منها خرافات
"تطير العقل...".
كان، يا أحفادي، يوجد في قديم الزمان، وسالف العصر
والأوان، مملكة مستقلة، في تلك الخربة. ملكها اسمه "آشور باشور". وكان عنده
جيش عرمرم. عاش مع شعبه في "لذة ونعيم"، مدة من الزمن. ولكن لما شعر
بازدياد قوته استولى على القرى المجاورة. ومنها قرية غريبة بأطوارها.
سكانها مخاليق عمالقة، والعياذ بالله. يعودون بأنسابهم إلى فصائل من الجن.
مليكهم اسمه "أهرمان". وهو مارد له عشرون يداً، وخمس
عشرة رجلاً، وعشر عيون. وطوله تسعة أمتار.
وقال: نحن بني الجن، لم نعتد عليكم. لماذا اعتديتم
علينا، أنتم، يا بني الأنس. إذن سندمر مملكتكم، ونحولكم إلى سراب هيا....
وهبت رياح عاصفة في الحال دمرت القصور والبيوت،
وحولتها إلى هذه الخربة الواقعة في جنوب القرية.
ولكن الملك "آشور باشور" تمكن أن يخطف خرزة زرقاء،
من رجل المارد "أهرمان"، قبل أن يقضي عليه. فتحول إلى نسر أبيض. صعد إلى
الجبل. وصار يندب مملكته المهدمة. ويحوم حول خرائبها. ويقولون إنه ما زال
عائشاً حتى الآن.
يستعرض جنده، مرة كل سنة. يظهرون أشباحاً من خلال
فيافي السراب المهيمن على الخربة. الرماح على أكتافهم، والسيوف على جنوبهم.
وهم يسيرون بأنساق متراصة، مترادفة. وصوت لجبهم يخترق الآذان.
-" متى نشاهد هؤلاء الجنود، يا جدتي، أم سلمان"؟
-"في عز الظهيرة، في منتصف شهر آب، من كل سنة، يا
أولادي... إياكم الذهاب إلى الخربة، فهي "مرصودة"، من قبل ملك الجن
أهرمان...".
***
وأكد أشخاص عديدون، من أهالي قريتنا ظهور هؤلاء
الجند السرابيين، في الوقت المحدد من شهر آب.
-"شاهدنا جنوداً، في الخربة، شاكي السلاح. لباسهم
خوذ. ودروع. وفي أيديهم تروس ورماح وسيوف. يسيرون صفوفاً صفوفاً. ورهيج
غبارهم يتراقص في عنان السماء...".
***
وكنا لا نشبع، ونحن نسترق السمع بشغف ولهفة لقص جدتي
الماتع، ونجري معها عمليات التخييل، لهذه المملكة البائدة. التي حرستها
الجن بالسحر و "الرصد". فبقيت كالأرض الحرام، لا أحد يقتحمها، أو يدوس
حجارتها المطحلبة. ونرانا نجنح مع الكلمات الهامسة. ونخترق حمى القصر
الفاخر، ومبيت الحراس المسربلين بالأسلحة، للدفاع عن مليكهم، وثكنات الجند
المحصنة، وجماهير الناس المحتشدة، في الساحة العامة لمشاهدة الملك. ولتلقي
تبريكاته. و...
ونستزيد في البحث والسؤال، لمعرفة مصير هذا الملك
البائس:
-"وماذا حدث، بعد أن ترك الملك مملكته..."؟
-"يقولون إنه ظل يتوسل إلى "أهرمان"، ويحوم حوله،
حتى حوله من نسر أبيض، إلى رجل أبيض. نفخ في عود قصب. فأصبح الجناحان يدين.
والمنقار أنفاً. والرئش الناعم جلداً ناعماً. و...
-3-
ماتت جدتي "أم سلمان". وصرنا صبية كباراً. ولكن ما
زالت حكاياتها عالقة في أذهاننا. وفي ذات يوم –والوقت عصر- كنا نحن صبية
القرية مجتمعين في الساحة العامة، لنقوم بممارسة ألعابنا المعتادة:
"الحاجوج"، "الحورا"، "القلعة"....
فاجأنا وجوده بيننا، لا ندري من أين حل؟ ولا ندري
كيف حل؟ رجل سامق، طويل. ذو بشرة بيضاء. تكاد تكون شفيفة، يرى من خلالها.
ومما زاده في نظرنا رشاقة وطولاً، نحافة جسمه، وضيق خصره وكتفيه. أنفه ذو
مارن مستدقٍّ معقوف. وجهه مسطور كالمثلث. رداؤه قباء فضفاض، أبيض كبشرته.
يحمل بيده عود قصب مثقوباً عدة ثقوب. جلس على حجر أملس، في فيء جدار. واتخذ
من عود القصب ناياً وراح يعزف عليه. عزف وعزف. صرعنا إليه. نشط أكثر. فزم
شفتيه على فتحة نايه. وأخذ يحرك أصابعه. وينفخ حبال رقبته المعروقة. كأنه
يريد أن يخرج أعماقه أمامنا دفعة واحدة. انسابت الألحان الشجية تدغدغ
آذاننا، يا للروعة! يا للعذوبة! التففنا حوله حلقات متراصة لا حركة، "الطير
على رؤوسنا".
بل سحر الموسيقى كم أفواهنا، وأبطل كل نأمة فينا. لا
نعلم كم مضى من الوقت. إنما غشينا المساء. ماذا يريد زائرنا الجديد بعد كل
هذا الجهد الذي قدمه، حتماً كما يفعل الغجر. دراهم. ونقدناه شيئاً منها،
قبل أن ينصرف. قبلها على قلتها. من كان يحمل منا دراهم، نحن أولاد القرى،
في ذياك الزمن؟ على كلٍّ أعددنا له العدة في اليوم الثاني- وإن كان ما
جمعناه مبلغاً متواضعاً –لعله يأتي. وأتى.
صرنا نرقب مجيئه عصر كل يوم. نعقد الحلقات حوله
ليشنف أسماعنا. ونستجلي معه أسمى المشاعر وأرق الأحاسيس اصطلحنا على تسميته
بالغجري. لأن الموسيقى، عندنا، مهنة الغجر. إذ لم يقم بحفلات موسيقى، في
قريتنا، سوى هؤلاء القوم، الذين نطلق عليهم تسمية "النَّور". ولكن منذ
سنوات لم يقدموا إلينا ليحييوا حفلاتهم تلك. وكاد الناس ينسونهم. هل شعروا
بذنبهم تجاهنا وأوفدوا إلينا هذا الموسيقي الفذ. بيد أنه يختلف عنهم
كثيراً.
في "الشكل" هيئته غير: طول فارع، جسم نحيل. شدة بياض
بشرة. في "المضمون"، فجبلته غير: ليس طماعاً مثلهم. يقنع بما يقدم له.
كما أن "نايه" المصنوع من عود القصب، يختلف عن
آلاتهم الموسيقية "البزق، والطنبور، والطبل...". أواه أيها الناي الرائع!
كم أدهشتنا وأمتعتنا بصوتك العذب الجميل؟ وكم ملكت فينا النفوس، وسيطرت على
الأفئدة؟ ننصت. ننصت، بخشوع كأننا في معبد. لم يبق فينا سوى أرواحنا ترفرف
على أهداب اللحن القدسي. تعرج وتتعالى لتخترق عتبات السحر والجمال.
ويمحي الزمن. كما كان يمحي سابقاً على شفاه الجدات،
وهن يسردن علينا من حكاياتهن ما لا يخطر على بال. ولا تقع عليه عين!
وإذا ما صحونا، فصوت الناي، قد توقف، والظلام قد حل.
والرجل قد اختفى...
-4-
ثابر الرجل الأبيض، أو الغجري، على زيارة قريتنا.
وظللنا نلتف حوله مفتونين بعزف نايه المؤثر. هل يستذكر به ماضياً تليداً؟
أم يسطر بهذا العزف أشجى ملحمة للحزن؟ وأخذنا نتساءل، لماذا أختار الناي له
آلة من آلات الموسيقى المعروفة؟ ألأن صوت القصب حنون يخترق أعماق النفس
الإنسانية؟ أم لسبب آخر؟ لا بأس. ولكن لماذا صار يتجه بنا، نحن أتباعه، نحو
الجنوب نراه كل يوم ينتقل من مكان إلى مكان آخر. لا شك هذا الرجل مغلف
بالأسرار. وفي ذات مساء لم نجد أنفسنا إلا ونحن في وسط باحة واسعة، تحيط
بها جدران مهدمة، وأكوام حجارة. أين الغجري؟ لم نعد نراه. ولكن بعد قليل
انبلج نور في عيوننا، وإذا به يحوم في الهواء. فوق رؤوسنا.
في تراجيديا الأرض ـــ وهيب سراي الدين
أيتها الأرض الكئيبة، لا غرو أن تتثاءبي هموداً، وأن
تتمطّي سباتاً، في هذه الأيام الخائبة.
بل لم تكوني حزينة هكذا، في سحيق الأزمان. عندما كنت
مشفوعة بحمى الرحمن. كنت آنذاك جنة ريحان، وجمة من شقائق النعمان. والآن
يحق لك في "دولة الإنسان" أن تذهبي في حزنك مذاهب. وأن تزخي الدمع دماً،
على رزيم البلايا. وهي تتذاءب مسعورة على سطحك بقانون الغاب؛ الفوز للقوة.
وليعم الخراب.... سراب.... سراب.... كل ما يقال في العدل والحياد سراب!..
هأراني أهمد فوق ظهرك المكسور، يا ربيبتي، كمن
اجتاحته روح يائسة. بل صلبتُ كتمثال من بازلت..... نعم سأسكب على أديمك
المخضّب بلون الأرجوان ما يحاكي ميازيب دموعك. ولتتسابق الأنهار، لتجرف ما
انفثأ من بطنك الأحبل من دمار.....
أمّا أنتَ أيها المرمى خارج القوسين، كجلمود من صخر.
أما آن لك أن ترعوني؟ أليس لك عينان. أذنان؟
السحق يسحق، والهدم يرعد. أهوال؛ وأجلاف تسود وتميد!
من يحصي الغنائم؟ وينعم بمباءة المواسم؟ حين تحلّ الهزائم....
إييه...! يا (أنتَ)! أيها الغبي، والطاغي الشقي
العتي. وحدك الذي فاتته القوافل. ألا تدري أن للأرض المشغولة بآلاتك الآن
وجهاً آخر؟ وسوف تظهر مخبوءها المخزون في الداخل، وتجبرك على نشق النوافل.
وتعم الأنفاس نفحات عبير. ويتسرب العطر ماءً سلسبيلاً.
حقاً لقد حرمت الشميم، الذي كان يضوع كمسكبة من فلٍّ
وأقحوان. هذا جزاء من عصى، وغيّب عنه العطايا، وما أحسّ يوماً بالشموس، حين
تساكن النفس، وتهب حاملها كنزاً من الدفء والحرارة.
أجل لا تنكر، أيها المشمّع بصمخ الغراء، على كرسي
الخواء، لا تنكر. فجوف الحلق قد حوى غير اللسان. وفي القلب أكثر من جنان!
وليس هذا قدراً بل عليك أن تعصر ذاتك اليائسة، لتسبل على الجسد اليدين،
رمسك سيبتلعك كليل دامس. فلِمَ الطغيان؟.. و"كل من عليها فان"!
فيا أيها الرجيم الأثيم سوف تسافر منك العينان خلف
بحور وشطآن. وسوف تواقفان رسماً مشنوقاً في مخدع أثيل. ولتبهرك اللحظة
الخاطفة، حين تسقط كل الأوسمة و(الشناشيل).
نعم يحق أن يضج التراب بما يجري فوقه من عقاب، فتدفق
أيها الواهن وقوفاً أيام حضرة الرهبة. المسامات تسمع. والجوارح تهمس.
واللهفة تتقافز بالندم مدراراً في القلب المنكسر الهلوع.
ولكن تبقى المدرارات دوائر مسدودة. والأقواس خطوطاً
مردودة. والقصر الخرافي يندب ما احتوى، والذي ابتنى..... والصوت الآتي من
صريف الأفلاك واندماه.....!.
متى يقبل القادمون؟ متى تعود الروح لتغشى أهلك أيتها
الأرض الحنون؟ وتفيض النفوس ندى وعشباً. إييه.....!..يالذياك العصر! كم
استحالت الحياة فيه إلى جداول من غبطة وشآبيب من رحمة....
فهنيئاً لمن كان قد لبّى وحاز النعيم وفاز. أجل يحق
للذي استوطنه اليأس، منذ (كرات) السنين، أن تأكله الحسرات وتنوء به
الزفرات. ويقول: "ليت تعود (الكرة) مرة". ليتحف ببهير "اللقيا".
واه.....!.. كم شاقه ذاك الحنان، ومشاهدة تلك
الجنان. فلتفتح الذاكرة دهاليزها المعبأة. وتهبط القبة الكبرى على الكرة
الصغرى، وتحدب عليها بالملاءة الزرقاء. فافرحي يا أرض الرخاء، بما ستغمرين
من وداعة وروعة. فعذوبة السماء نور ونقاء، عندئذٍ لا يجدر بالواقف على
ظهرك، بضعفه وقزامته، إلا أن يصمت بغمامات "قلبه" ولا يحير.
هكذا يعود الذهول، وأفراح القبول، واللمعان، وموران
الألوان، نوراً أخضر، في كل مكان....
تلك النافذة
(1)
في الساعة الواحدة، بعد الظهر، فرغت من عملي، في
عيادتي السنّية. جلست على كرسيي الخاص. لا كرسي المرضى ـ طبعاً، استرخيت،
بكامل ألياف جسدي عليه.ومددت ذراعي اليمنى، بخاصّة المتعبة من قلع ضرس رجل،
من الريف. كانت هذه الضرس طاحنة يسرى، في الفك الأسفل. زهاء الساعتين
استغرقت، وأنا أُقاوب، وأحفر، وأمسك تاجها بالكلاّبة، ويفلت. ثم أكرّر،
وأشدّ، بكل قوتي.
وكم مرة، هويت بقامتي، نحو الأرض ـ ياللخجل!، ـ
عملية نادرة تحدث في عيادتي اليوم. ضرس تريد أن تتمسّك بصاحبها، حتى نهاية
العمر. ولكن صاحبها هذا، لم يحافظ على صحتها، في فمه، حتماً، طوال حياته،
لم يستعمل معجوناً، أو فرشاة، فنخرها السوس، وأخذت أعصابها تصيح ولا
تستريح.
بعد أن تمكنّت من انتزاعها. حشوت حفرتها اللثوية
بالقطن. وارتميتُ على ذلك الكرسي، كالقتيل.
وانصرف الرجل، واضعاً يده على خدّه الأيسر، المسكين
ابتلى بضرس ضخمة، كضرس الجمل! لها أربعة جذور بارزة نافرة. كأنها أنياب
أفعوان سامّة. ولكن ما إن تمالكت نفسي، حتى دخلت عليّ (أمينة) ـ كاتبة
العيادة ـ وقدّمت لي ورقة مكتوباً عليها اسم.
قفزت عن الكرسي كالنابض. ذهلت أمينة مني. هذه هي
المرة الأولى، التي تراني، بها، في مثل هذه الحال، "هل أصاب الدكتور مسٌّ؟
أم قدّمت له ورقةً مسحورةً"؟.. /حتماً فكّرت أمينة في نفسها.
دارت شعوري. وأغلقت الباب. ناديتها في داخلي: "بل
قدِّمتِ، لي، ورقةً ساحرةً، يا أمينة. تأكدّي أنها ساحرة…".
لم أتمكّن التخلّص، من آثار جفلتي. شقّت أمينة الباب
ثانية:
ـ أنت مرهق، يادكتور، سأدعها تنصرف".
ـ لا، لا، أمينة. إياكِ. دعيها تدخل، بعد خمس دقائق،
على الأقل، اغلقي الباب. وابقي بجانبها، من فضلك".
وأخذتُ استقرئ المرآة، أمامي، عن لون وجهي، وماحلّ
بي. أفّ! ألهذه الدرجة ترتقص فرائصي؟ ثم عدت إلى الورقة الباهرة.
تحملق عيناي فيها. إنه اسمها! إنها هي قادمة إلى
عيادتي بكل جلالها وجمالها. ياه….! ـ اسم "درّة السليم"، اسم جميل. لوحة
تشكيلية خالصة. وأمينة ـ البزيقة ـ التي خطّت حروفه. هي أبدع فنانة أعرفها،
في حياتي، يالكِ من إنسانة مبدعة، يا أمينة! كيف صغت الألوان؟ وصوّرت
الحروف؟ الـ(د). والـ(ر) والـ…. وكيف رسمتْ ريشة قلمك الثنايا والحنايا
والنقاط…..؟
شقّت أمينة الباب ثالثة: "أتدخل يادكتو….."؟
ـ "أرجوكِ. خمس دقائق آخر. يا أمينة".
(2)
ورحت أذرع الغرفة جيئة وذهاباً. استعداداً للمقابلة
العجيبة. وظلّ، أكثر من لحظة، شهب أبيض يغشى عيني. الغرفة كانت فضاء، من
أثير، لا حدود له. وقفتُ حائراً. أريد أن أرى الأشياء حولي….
ثم لحسن حظي، تكثّفت هالات النور. فتماسكتُ أكثر،
متحاملاً على نفسي. وأعتقد أنني سمعتُ صوتاً. بل سمعت نغماً، لحناً….:"ضرسي
تؤلمني، يا دكتور….".
الحمد لله. يجوز آلام ضرسها شغلتها عن آثار ارتباكي.
عال! لم تلحظ شيئاً مما حلّ بي. وإلا، لما كرّرت: "أراك واقفاً، ضرسي.
ضرسي. تقدّم، يادكتور. في غرفة الانتظار حجزتني عشر دقائق وهنا…."!..
تمكنّت من أن أفكّ عقال لساني المتيبّس، في حلقي،
وأردّ عليها:
ـ سيزول عنك كل ألم، بعد قليل".
زرعت بي عينين واسعتين ولطيفتين. ولم تطرف
بأهدابهما الطويلة لبرهة. كأنها تتساءل في نفسها: صوت من هذا الذي أسمع؟ لم
يكن غريباً عن ذاكرتي. متى كنت أسمعه؟ والملامح…. ياترى؟
وأنا، في أثناء ذلك، تمتمت في ذاتي أيضاً: درّة
السليم، بعينها، بين يديك الآن، يا منصور الشاهين، فاهنأ برؤيتها.
ويالسعادتك! هي نفسها تجلس على كرسي عيادتك. بقامتها الوضّاءة، وهيئتها
البهيّة، و……..
وهممتُ بأن أجرّب صوتي المخشوش ثانية:
ـ "أهلاً بك، يادرّ….".
لم أكمل. سكتُّ. رأيت ابتسامة برّاقة تشعّ على الثغر
المجمّر كزهرة جلنار. وإخاله، قد عاد، ورنّ في أذني النغم نفسه:
ـ "أهلاً، بك يادكتور منصور".
بلى، كظمت آلامها، ونطقت إنابةً عني.
وساد بيننا صمت.
يا إلهي! كرسي العيادة، صار يمور، بنور يخطف
العينين. لا، يامنصور الشاهين. اصمد وتماسك. حتى لا تخسر جولتك. هذه فرصة
قدّمتها لك السماء. فلا تفوّتها.
ولكن. عجيب! ماهذا الاهتزاز، الذي مازال يعتريني؟
حتى أسناني تصطكّ في فكي. لذتُ بوجهي عنها. وتناولتُ إبرة (البنج)، لأعود
طبيب أسنان، مئة بالمئة، وأتخلصّ من ماكينة جسمي. ماهذه الليونة؟ بل ماهذه
الميعةُ؟ أوقل الرخاوة؟ منصور، كن رجلاً. كن طبيباً صلباً قاسياً أمامها./
شجعت نفسي، وكرّبت عضلاتي، ولاسيما عضلات أطرافي العلوية.
ـ "افتحي فاك، يا آنسة درة".
وتناهى إلي شميم عطر فمها الفاغم. يارب. استر موقفي،
هذا اليوم. أف! ما أصعب المرأة! وما أقوى
تأثير سحرها! أهكذا تفعل بي "درّة السليم". وأنا
في عزّ شبابي؟..
تكلّمت في داخلي…
وكان قد انشطر، أمامي، جمام ورد، وبانت لآلئ
الأسنان الناصعة. حرام! حرام!.. عليك أيها "السوس" المجرم أن تعيث نخراً في
قطع مسكوبة مرجاناً. وياقوتاً. وزمرّداً. و….
ولم أصدق نفسي.كيف راحت أصابعي تفتّش عن الضرس
المصابة، بين الثنايا والضواحك. حبست أنفاسي. يالابتهاجي! حقّاً إن درّة
السليم تجلس بين يدي مستسلمة مطواعة. أمسك أسنانها، ورقائق وجهها… ولكن
فكّرت، كيف سأغرز هذه الإبرة الظالمة، في تلك اللثة العاجية؟ وتردّدت غير
أنني فطنت بوضعي. أنا صمّمت على أن أعود طبيب أسنان. ودرّة السليم زائرة في
عيادتي. إذن هيّا باشر، يامنصور.
ولشدّ ما تألّمت! وكادت تصرخ من (السيرنك). لابأس.
تصرخ. اصرخي، يادرّة السليم. صراخك موسيقى عذبة، تأتي من صوب الملائكة.
وبعد التخدير. رحت أداعب ضرسها. جسستها بالمقوب.
وأمسكتها بالكلاّبة. صاحت: آخْ، آخْ، خْ… دكتور منصور…
يالسعادتك، يامنصور! ماذا تسمع؟
ثم علمت بنفسي أنني عجّلت، المخدّر لم يصل بعد، إلى
مركز الألم.
جلستُ على كرسي الخاص، أنتظر وأنظر.ولا أدري لِمَ
تولدّت لدي أفكار غريبة؟ بل شيطانية. هل أنتقم؟ آه… ! منك يادرّة السليم.كم
عذبتني في حياتك؟ وكم تعلقت عيناي، وجوارحي بك، وأنت في نافذتك؟ ييْيهْ…….!
يازمن! حقاً إنك لعادل. أعدت إلي من كنت، قد حرمت منها، حتى انعدمت، البتة،
من وجودي.
(3)
كانت الحياة نقيّة صافية، كماء السلسبيل. تفيض
رقراقة، من نافذة واحدة فقط.تفتح في قصر منيف. يشرف على ساحة قرية (كوم
الحصى) الصاخبة، بضجيج أولادها. وكان الحسن والجمال، آنذاك، مجسّدين في
كائن آدمي. لا، بل ـ على الأخص ـ في كائنة حوائية..
كانت هذه الفتاة، لا تتجاوز العاشرة، على ما أظنّ،
يطلّ وجهها، من تلك النافذة، كبدر نيسان، في يومه الرابع عشر. أو قلْ، كان
يشعّ علينا، كقرص الشمس، وأمّا اليدان، فبياض الثلج!، ماهذه المخلوقة، التي
زادت في نعومتها، وسطوع بشرتها، طراوة الفيء، ورغادة العيش، كابنة وحيدة
لسيد قرية (كوم الحصى)!.
كنت لا أتجاوز الثانية عشرة. وأنا أخوض غمار مسابقات
الألعاب الريفية، مع أترابي، حينما تسنح لنا عطل المدرسة، وكنت، في الوقت
نفسه، أشعر أنني أُحَرَّضُ، من عينين برّاقتين ترقبانني، بحماسة. وتحيطانني
بهالة من شعاعهما الحميم. وهكذا أخذتْ تجنّ الخلايا، والعضلات، في جسدي،
وصرت أحصل على القدح المعلّى، في المباريات. دوماً منصور الشاهين الأول في
لعبة (الحاجوج). وفي لعبة (السبركة)، وفي سباق الركض، من مختلف المسافات.
فتربح صاحبة النافذة رهانها مع نفسها.
لم أكن، قد بلغت سنّ النضج بعد. فلماذا هذا الميل
الجارف تجاه النافذة المشرعة. والمتلألئة بالسحر والجمال؟ ولماذا تجاهد
قدماي، لأسبق أقراني، وأنال نظرة الإعجاب. أو طرفة الهدب؟
كان حين يهتف، باسمي: فاز منصور الشاهين… أشعر أنني
، حقيقةً، أصبحت في ذروة المجد!.
ولكن، ماذا يقبع وراء المجد نفسه؟
ياناس، ياعالم. أنا نلتُ من النافذة تلويحة يد،
اليوم.
إنها، هي، تحييني، على فوزي.
بل في يوم أغرٍّ آخر. أسقطت، عليّ قطعة من (شوكولا).
واه….! ماهذه الـ(شوكولا)، وما أطيبها! أنا طوال عمري، لم أذق طعم
(الشوكولا). والدي ((المرابع))، عند ((أبي درّة)). لم يشتر لي. في حياتي
حبّة "ملبّس".
كنت ابكي حفنة من الدموع، حتى أحصل على بيضة. من
بيضات دجاجاتنا. التي تصادرها أمي، دائماً لابتياع الصابون، وملتزمات أخرى.
واليوم أمضغ، بلعابي أحلى طعم. هو طعم (الشوكولا)!
غير أنني، في اليوم الثالث ـ إضافة إلى غبطتي، التي
لا تُحدّ. ـ زدتُ حيرة. فعندما كنتُ مشرئباً بقامتي، نحو العلاء، لألتقط
قطعة(الشوكولا) الثانية، من النافذة، على إثر فوزي بسباق (الحاجوج). لم أجد
في يدي سوى نصف قطعة. رأيت (درة) ذاتها. تلوّح لي بالنصف الآخر، من علِّ،
ثم تأكله.
من المؤكد، أن هذا الأمر، لم تقم به اعتباطاً. بل له
في نفسها أكثر من معنىً.
ياترى؟ هل أصبحت تعرف الـ….؟
(4).
وصرت أمكث تحت النافذة، في الصباح والمساء والظهر.
كدت انقطع عن الذهاب إلى البيت. لولا الجوع، وتناول الطعام. بل سجلت أيام
غياب عدة، في المدرسة. قلبي تعلّق بالنافذة. نعم، لم أستطع التخلّص منها،
ومن هذه الحالة، التي تلبّستني، في سن مبكِّرة.
ثم انطلقت ـ كالعادة ـ الإشاعات والاتهامات. فهدد
والدي بالطرد من عمله. وحلت على رجلي سياط الجلد، من هذا الوالد البطّاش،
الذي كانت ذراعه، مثل ذراع الجمل. يهوي عليَّ بخيزرانة ليّانة، ويصرخ
بي:"إياك تفعلها ثانية. إياك تقف تحت النافذة. أو تلعب في الساحة. ستدمر
حياتي يالعين. من أين سنعيش؟ ومن أين سنأكل؟".
والخلاّصة، أنَّ ماحلّ بي، من عذاب، أعادتي إلى
رشدي، بل إلى مدرستي. فانصرفت إليها كليةً. بعد أن حرمت من النافذة والساحة
معاً. لا أدري. هل كنتُ أدرك، باللاشعور، أن طريق الاجتهاد، سوف تصلني، في
يوم من الأيام، بدرّة السليم؟
فانغمست بين كتبي، وعزفت عن العالم.وصرت، وكأنني
عابد، في صومعة، فنلت شهادتي الابتدائية، بدرجة ممتازة. وقدمت لي، على
أثرها، مساعدة لأتابع دراستي، في كلية طب الأسنان. بعد تفوّقي في شهادة
الدراسة الثانوية، فنسيت حياتي في القرية، وغاب عن نفسي كل ذلك الماضي
الأول.
(5)
ـ "أعتقد أنني لم أعد أشعر، بألم، يادكتور منصور".
نغم صوتها العذب الرهيم رنَّ في أذني. التفت إلى
الكرسي المتوهّج.
ابتسمت: "لقد أخذ المخدّر مفعوله، الآن".
بادلتني نظرة مشرقة، من عينيها الوطفاوين، ورمشت
بأهدابها، فأقبلت عليها، ولكن الذي شغل فكري أكثر مشكلة أصابع يديها. ليس
بماسها الكهربائي، وما يولّده من ارتعاشات. و….. بل، هل طرأت على هذه
الأصابع إضافات أخرى؟..
الحمد لله، بانت لي أصابعها عارية. حين دقّقت النظر،
فأَلحْت أمامها، بأصابعي، التي ما زالت عارية أيضاً. ونطقت، هذه المرة دون
كلفة: "درّة… سأزور بيتكم مع والدتي".
بادرتني بابتسامة، وأطرقت نحو الأرض…
|