أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: يوسف دعيس

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

سورية - الرقة - 1960

ـ قاص وصحفي

 

الأعمال المطبوعة

ـ إمرأة الماء - وزارة الثقافة السورية 2001

ـ نشر في الدوريات العربية والمحلية.

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الفزاعة

النخلة

مارغو

الزائر الأخير 

 

"سلام حزين ، كما الضباب في غروب خريفي هبط على المدن الثقيلة ، دثرها بأكفانـــــــه الرمادية ، وقال للجثث التي ردمـــت فـــــــي المدافن الجماعية ، نامي أيتها الرمم المغدورة  بهدوء."

حـيدر حـيدر                  

الزائـــر الأخيـــر . 

 

شيء ما يحتضر أو لعله يحترق فيتحول إلى رماد، كانت الشمس تعكس ظلالاً للأشياء ، ظلالاً خالية من الألوان ، مضغوطة أحياناً ومتطاولة أحياناً أخرى .

أحسست أنني أتقيأ نفسي وأنا أقف إلى جوار النافذة ، شعرت أن هناك من يدفعني لكي ألفظ روحي خارجاً ، التصقت بالنافذة ورحت أحاول استقراء العالم من خلال هذه الفتحة الصغيرة التي أطل بها على شارع يعج بتناقضاته الكثيرة .

عزفت الريح لحناً جنائزياً ، تسارع جري الناس باتجاهات مختلفة، اشتكت الأشجار لشجى هذا اللحن فتثنت سكرى ، تصاعد اللحن ليزيد من تمايل الأشجار، وراحت أعداد الناس تتناقص وتناثرت أوراق الشجر متبعثرة لتظهر الأغصان  عريها ، وتنطلق الطيور من وكناتها ضجرة ،تتقافز  متشاقية في كل الأرجاء .

بدأت الشمس تعري الأشياء ، وراحت الأنفس تعول لإدراك الحقيقة ،ثمة مخلوقات تحتضر ونبض الحياة يتسارع باتجاه الهاوية حيث لا قرار .

أحسست كما لو أن العالم يختنق ، شيء ما في داخلي يُحتضر فهل في ذوات الآخرين ما يتقد ؟ .

تناغم عزف الريح مع احتضار ما في نفسي ، أخذت الريح تعمل عملها ، ترفعني لعلو شاهق وترديني إلى أسفل ، لوعتني الحقيقة فأعيتني حيلتي ، انقطعت بي السبل فلا بدأن أتوج أحزاني بشيء ما يجعل معنىً لاحتضاري أو احتراقي ، فلا أظل كما القابض على الجمر .

هل أعيتكم الوسيلة في إدراك أن ثمة شيء ما يحتضر أو يحترق في ذواتنا ؟ .

أغلقت النافذة بعد أن نما لدي إحساس غريب أنني عازم دون شك على لفظ روحي ، لم تكن لدي الرغبة بذلك ولكن هذا الإحساس بدأ يتعاظم ويتضخم  ، بدأت أحس على أثره أنني أتداعى لكنني تثبت محاولاً أن أقي نفسي السقوط ، تناهى إلى سمعي صوت غريب من الخارج ، تسلل إلي فجأة دون استئذان ، اعترتني رعشة ، همس قائلاً :

ـ كل شيء أصبح جاهزاً

ازداد ارتعاشي عندما سحبني خارجاً، ورحت أجر أذيال الخيبة عندها أحسست أن آخر خيط يربطني بالحياة قد بدأ يتهاوى ليتطاول ممتداً إلى لجة الجحيم .

عندما تحلق حولي الأصدقاء ضاع بين الزحمة ، بحثت عنه في كل اتجاه فلم أجده ،انتظمت صفوف الحشد فتكشفت الصورة أمامي . كنا نمشي مجموعات على شكل أنساق شبه مرتبة خلف نعش مسجى على عربة غريبة الهيئة ، وعلى غير عادة أشكال التشييع المتبعة ، كان خلف النعش مباشرة رجال دين مسيحيون ومسلمون في مسوحهم التقليدية ، وكنا وراء الشيوخ  تماماً أنا وأصدقائي المقربين ، يتأبط أحدهم ذراعي ويمسك  الآخر بالذراع الأخرى ويربت آخر على كتفي وكأن الميت قريبي أو ما شابه ذلك ، هذا ما أكاد أعتقده من نظرات وتصرفات الآخرين .

كان ينتابني غم شديد ، أحسست أن عيني ستطفران من الدموع إثر ذلك .

لاح لي من بعيد ، كان يعتلي العربة ممسكاً بالنعش وحوله أطواق الورد التي حملت أسماء أصحابها وعلى وجهه ابتسامة صفراء .

ازداد أثر الشد على يدي وانهال الأصدقاء علي يواسونني بفجيع مصابي ، جعلني ذلك أركن الى الهدوء والسكينة ، بعد أن تأكدت  أنه اختفى من مكانه.

ـ من يكون ؟؟ .

قلت في سري : إنه أقرب مني إلى نفسي . وتساءلت: ما من ميت عزيز علي يستدعي دفنه وجود مثل هذه الحشود الغفيرة بما فيهم رجالات الدين بأشكالهم المتعددة إلاّ ويفترض أن يكون هذا العزيز مهماً في حياته .

استدعيت في مخيلتي كل أسماء أقاربي وأهلي…  

وقلت : لا يوجد أي منهم أو حتى معارفي ما يجعل دفنه يستوجب كل هذه الحشود المتألقة والشكل الجنائزي المصحوب بالتكبيرات وأصوات الموسيقى الجنائزية المنبعثة من عربة الدفن غريبة الشكل . تابعت مسيري منقاداً بين ذراعي أقرب أصدقائي إلى نفسي .

.. وصلنا المقبرة ، إني أراه . . إنه يجلس على سور المقبرة واضعاً ساقاً فوق ساق .

انتابني رعب وفزع ، تابعني بنظراته أثناء دخولنا من باب المقبرة ، كان يبتسم وهو يلاحقني بنظراته الرهيبة .

قلت وأنا أغض الطرف عنه : من أين انبثق هذا الشؤم بوجهي ثانية ؟ ؟ .

إن منظر دفن الموتى يثير في نفسي الخوف والهلع حتى يكاد قلبي ينفطر من هول وشدة الكارثة التي أراها .

وصلنا إلى جانب قبر حفر حديثاً، تمت مراسم الدفن بكافة الأشكال تبعاً لرجل الدين الذي يمثل طريقته بذلك.

وبغتة لفت انتباهي أن شاهدة القبر الأمامية مكتوب عليها بعد الفاتحة  . . . . هذا قبر المرحوم . . . . 

توفي في اليوم الخامس والعشرين من حزيران لعام 1994 ميلادية ، وعلى الشاهدة الخلفية .. . . هنا يرقد بسلام …

شعرت برعدة أصابت أطرافي ، أنستني ذلك الرجل الذي يعتلي سور المقبرة ، تنبهت أن يدي صديقي اللتين كانتا تلفان ذراعي قد ابتعدتا عني وإنني أصبحت حراً طليقاً .

بدأ الموكب بالعودة مغادراً المقبرة ، استدرت محاولاً الرجوع مع الموكب لكن أحد أصدقائي دفعني برفق إلى الخلف قائلاً : إلى أين ؟ .

" أنت الوحيد الذي لا يستطيع الانصراف من هنا  " …هذا مكانك وأشار إلى القبر ، ارتعبت بشدة وتذكرت رجل السور بابتسامته المقززة .

غادر الموكب ولم يبق سواي في المقبرة ، علقت عيناي عليه مجدداً فلقد كان يقرفص بجانب القبر ، أشار بيده إلى القبر يدعوني إليه وفي اليد الأخرى أشار إلى سيارة شرطة تقف بالقرب من باب المقبرة ، كان في إشارته إلى السيارة يتميز حنقاً وغضباً أدركت أنه يحذرني منها ، لقد تنبهت لوجود سيارة الشرطة أثناء دخولنا المقبرة ، كان ما يميز عناصرها أنهم بلباسهم التقليدي لكنهم يعتمرون قبعات زرقاء مما أثار حفيظتي اتجاه وجودهم في هذا المكان .

دعاني مرةً ثانية وهو يشير إلى القبر الذي بدأ رويداً رويداً يفتح ذراعيه لاستقبالي.

كان التراب يهيل إلى الجوانب فينفتح القبر شيئاً   فشيئاً . توجهت إلى القبر ، دخلته بهدوء وبدون أن أحدث أي ضجيج ، كنت مأخوذاً ومنقاداً من قبله ، كنت بكامل حلتي وكأنني إزاء عروس تفتح ذراعيها لاستقبالي ، دخلت إلى جوف القبر ، تمددت كما الأموات واضعاً كفاً فوق كف الى فوق صدري ، علقت عيناي عليه مرة أخرى ، تابعني بنظراته المخيفة بشغف ، حلق باتجاه السماء إلى أن افتقدته عيناي نهائياً .

انتظرت في اليوم الأول أن يأتي أحد ما ليخلصني من هذا الوضع المريب .

في اليوم الثاني جحظت عيناي وبدأت أشعر بالارتخاء.

في اليوم الثالث بدأت أحس أن قوتي تفارقني وأن الخور قد أصابني .

في اليوم الرابع بدأ ينتابني إحساس بأنني أزداد ارتخاءً وترهلاً وبدأت أحس بالانتفاخ قليلاً .

في اليوم الخامس بدأت أحس بالانتفاخ أكثر وزاد شعوري أن رائحة العفونة والنتانة بدت تطغى على رائحة العطر الذي كنت أضمخ نفسي به .

في اليوم السادس خرجت دودة من أنفي  .

وأخيراً في السابع آنست بموتي ، وأيقنت أنني إلى زوال . فاستراحت الريح من عصفها واستراحت نفسي .

                                                                          

 

          

مارغو

 

ماغي .. ماغي .. مارغو، نادى أخي الصغير بلثغة عذبة، وهو يخطو متعثراً نحو المرأة التي هوت من السماء مثل نجمة.

احتضنته بحنان.. قبلته. تلوّيت وأنا أنظر مبتلعاً ريقي، استبشرت خيراً بأنني التالي في احتضانها، تخيلت نفسي وأنا أهصرها بين ذراعي القويتين، أقترب منها أكثر لأعب من شذا عطرها الممزوج بعرق جسدها الساحر، أتفجر من الداخل، أتلوى. أحس بلواعج الهوى تسيطر على نفسي المتطيرة.

كانت شقراء بعينين خضراوين آسرتين ينبعث منهما لمعان يضفي عليها مسحة نادرة من الجمال، كان وجهها أبيض مشرباً بحمرة خفيفة، متوسطة القامة على قليل من الاكتناز.

كان أكثر ما يميزها رائحتها، كانت مثل برتقالة آن تقشيرها تفوح منها رائحة عذبة.

رددّت بصوت دافئ: حبيبي .. حبيب ماغي.

حملت الصغير على ذراعها، وراحت تهيل عليه القبلات، ازداد انفعالي وأنا أرمقها بنظرات حرَّة، طرت بين ذراعيها وأنا أراني طفلاً تحملني على كتفها بودٍ وحنان.

كانت تتملكني، تزاحمني في يقظتي، وأعبث معها بأحلامي الدافئة، لا يشاركني حبها أحد.

قلت لأمي: من أين أتت مارغو …؟؟!.

أطلقت أمي آهة حزينة وقالت: من بعيد .. من لبنان؟.. أو ربما من الأردن؟؟.

قلت: أريد أن أتزوجها!!.

ضحكت أمي مقهقهة ثم أعقبتها بزغرودة عالية .

قلت: "فضحتينا"..

قالت: أنت صغير على هذا الكلام، وصغير عليها.

قلت أريدها وكفى "وداريت خجلي باستدارة عن وجه أمي الباسم".

قالت: مارغو.. مارغو .. تعالي اسمعي.. المجنون ابن السابعة عشرة يريد الزواج منك!!.

اندفعت مارغو نحوي ضاحكة، وهي تقول: حبيبي.. تريد الزواج .. يا روحي .. يا حبيبي؟؟.

وراحت تتعالى ضحكاتها.

آنئذٍ عزمت على الهروب، فهيأت نفسي للعدو، أعادت مارغو كلامها بشيء من الغنج والدلال: تعال.. تعال يا حبيبي أنا لك.. والله لك… فوليت هارباً، ركضت ورائي محاولة التعلق بي بابتسامتها الآسرة وتلويحها، ونظرتها التي تكاد تأسر النفس. صفقت الباب خلفي وأنا أسمع بقايا ضحكتها تلاحقني، ونداءها المتعالي يأتيني من خلف الباب: أنا لك.. ماغي كلها لك.

تنفست هواء الشارع وأنا أكاد أسقط.. آه من عذابي .. إنها تقيدني إليها بسلاسل. قلت في نفسي انعطفت في شارع جانبي يؤدي إلى الحديقة العامة.

قلت في سري: أكثر رجال الحي رغبوا في الزواج من مارغو، فأثارت غيظ الزوجات بذلك، وهمس الناس جميعاً بالخير مرة، وبالشر مرات كثيرة.

قلت: هل هم على حق فيما يرغبون وأنا على باطل؟؟!. أنا الوحيد المعذب الذي يحبها ويرغب فيها.. ألست رجلاً؟!.

أمي دائماً تقول بأنني أصبحت رجلاً.

إسماعيل موظف الصحة رغب في مارغو مثل ذئب جائع وقع على فريسة ضعيفة، وسعيد الكاتب البسيط في مديرية المياه، والذي وراءه زوجة وأولاد ذبح نفسه لينال منها التفاتة، لكنها أبت، وهي تقاوم بكل جوارحها كل الإغراءات المقدمة بسخاء، هي المقطوعة التي ليس لها أحد، المقطوعة التي لجأت إلى بيت الأرملة التي تعيل قطيعاً من الأولاد، فلا بأس إن انضمت إليه مارغو، فالرغيف الذي تقسمه على اثنين يكفي ثلاثة.

دخلت الحديقة أتنفس رائحة الأشجار في ربيع دافئ، جلست على أحد المقاعد، كان خيالها يلاحقني، ضحكتها، رائحتها، شعرها الأشقر الذي يصل إلى كفلها، عيناها تناديني، كل شيء فيها يصرخ، يدغدغ مشاعري ويبعث العذاب في نفسي.

استيقظت على صوت مألوف يلقي علي التحية.

ـ مرحباً يا شاب..

رفعت رأسي نحو مصدر الصوت، كان صوت أبي جميل الشرطي، وأبو جميل شرطي بلباس مدني يعمل في الخفاء مختبئاً وراء ابتسامة صفراء، وتجاعيد وجه قاسية خلفتها السنين والتي تشي بمقدار ما غيب من ناس، يزورنا باستمرار متذرعاً بصداقة قديمة، وحميمة تربطه بأبي الراحل.

جلس جانبي دون أن أوجه له دعوة للجلوس..

قال: كيف هي أحوالك وأحوال الدراسة، وأعقب.. وأحوال أهلك ؟؟. إن شاء الله بخير؟؟.

قلت : بخير.

أحسست أنه يقرأ أفكاري، وأنه يقرأ كرهاً حقيقياً في عيني نحوه، ما لبث أن رمقني بنظرة فاحصة، تمنيت أن يبتعد عني، كان يغيظني قدومه إلينا، فكيف به الآن يجلس بالقرب مني وعلى مرأى من الناس، وبوضح النهار.

قال: كيف ضيفتكم.. صحيح من لبنان. أم..؟

قلت: لا أعرف. وقلت في نفسي: لعلها موجودة في داخلي منذ سنين.

قال بأبوية زائدة: وضع هذه المرأة في بيتكم خطأ، وفيه خطر سيجر عليكم البلاء، ورحل مسرعاً مثلما حضر، لكنّني سمعته وهو على بعد خطوات قليلة يقول: إذا لزمكم أي شيء.. فأنا جاهز.

قلت: ما يلزمك إلا القبر.. وكتمت عبارتي بصدري متشفياً بموته الذي بدا وشيكاً، كان مثل غمامة ثقيلة انزاحت عن كاهلي، فخرجت من هذه الكربة بكره شديد على أبي جميل وتقولاته، وعلى اليوم الذي رأت عيناي مثل هذا الشخص الباعث على التقزز.

غادرت الحديقة بعد حين، وطفقت أدور في الشوارع خجلاً من الحضور إلى البيت، تعبت لكنني عزمت على المواجهة والتحدي، فعطفت إلى البيت قاصداً الرجوع متلقياً سهام اللوم والسخرية والتقريع.

كان الليل قد أطبق وعيوني الوسنة بدأ يداعبها النعاس بقوة، كان القمر هلالاً ينسل منه ضوء واهن يزيد ضياعي، ويدفعني دفعاً إلى النوم.

تسلقت جدار المنزل دون أن أصدر أية نأمة متحاشياً الوقوع بين يدي أمي أو مارغو، وبعد أن تأكدت من نومهما، دخلت الغرفة، ثم دلفت إلى فراشي بهدوء مصطنع، أحسست أن الوالدة استيقظت فاختلست النظر إليها، رأيتها تعود إلى نومها بابتسامة، وهي ترفع اللحاف فوق رأسها.

في الصباح .. رأيت فراشها خالياً … فمارغو على عادتها لا تصبّح على أحد إلا بعد أن تغسل وجهها، وتطلق شعرها مسرّحاً فوق كتفيها لتظهر في أبهى صورة.

كأني بها تفعل ذلك لتطرد الحزن والخيبة من نفوسنا، تردد مناجية وهي تقول: صباح الخير أيها الفرح الغافي بين الناس.. صباح المحبة والجمال.. صباح..

ابتسمت وهي تراني أراقبها. نكست رأسي خجلاً، أدركت أنها تكبرني بكثير، وأدركت أن وجودها عبث بيننا، وتذكرت كلام أبي جميل عنها، وعن البلاء الذي ستلحقه بنا، ورأيت عيون الناس سهاماً تتقاطر على البيت والذي فيه، وفجأة ذاب كل شيء في نفسي عنها، وكأن حبي لها لوح جليد تعرض لأشعة الشمس وذاب، ومن ثم تبخر. وانقلب كل الحب الذي بداخلي إلى كره عجيب، وعافت نفسي النظر إليها، وأصبحت لا أولي قلبي أية أهمية تذكر، تأكدت أن قلبي تحجر مثل عقلي، فزاد الكره وحلت الضغينة مكان المحبة.

بعد أيام.. وبعد أن تأكدت من خروج مارغو إلى السوق، قلت لأمي وأنا أكزّ على أسناني: ما .. مارغو يجب أن ترحل.. مثلما أتت من بعيد يجب أن تعود إلى هذا البعيد..

عبست أمي بوجهي، ثم قالت: منذ أيام تريد أن تتزوجها.. الآن تريد لها الرحيل؟؟.

قلت: ألا ترين عيون الناس..، ألا يهمك كلامهم؟؟!.

قالت: هذا هراء فأنا عشت نظيفة، وأموت نظيفة.. ومارغو يا بني طيبة ومقطوعة من شجرة، وأنت رجل البيت..

قلت: عليها أن تعد نفسها للرحيل..

قالت: لن تذهب..

تركتني وهي تردد: لم يبقَ إلا أنت على هذه المسكينة، سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، وكان الوقت يقارب الظهيرة، ومارغو لمّا تعد، فتحت الباب متوقعاً حضورها، كان أبو جميل يركن دراجته على الجدار، ويهيئ نفسه للدخول.

ـ مرحباً يا شاب!!.

قلت على استحياء: أهلاً بالعم أبي جميل، ودخل دون استئذان .

قال: سمعت صراخك من الخارج، أنت الآن رجل البيت.

حضرت أمي وهي ترحب بالضيف قائلة: أهلاً أبا جميل.. اسمع.. المجنون يريد لمارغو أن تغادر البيت.. أعجبك يا أبا جميل، وذهبت لقضاء حاجات البيت تاركة أبا جميل يلهبني بنظراته، لكنه أكدّ لها كلامي وهو يلاحقها بنظراته: معه حق يا أختي.

قالت أمي: حتى أنت يا أبا جميل..

قال: اسمع.. أنا أخلصك منها، هات ورقة وقلم.. اكتب..

.. أشك بأن المدعوة مارغو عميلة لجهة أجنبية معادية.. نظرت إليه مستغرباً، لكنه تابع يملي علي.. لا تخف اكتب.. اكتب وكتبت..، ثم قال: وقعّ على اسمك الكامل في نهاية الورقة!!.

أخذ الورقة ثم طواها وأودعها جيبه، لا تخف.. سأخلصك من مارغو .. ومن عبث جوارك، فالبلاد بحالة حرب، والدولة تصدق أي شيء.. أي شيء..

قلت في سري: مسكينة.. ماذا فعلت؟؟!.

في اليوم التالي كانت تقف على الباب سيارة عسكرية، تحمل رجالاً بملامح صارمة، أخذوا مارغو ورحلوا، ومن يومها لم أنسَ ما حييت منظر أمي وهي تحمل أخي الصغير تودع مارغو، ودموعها تنهمر من عينيها الذابلتين، وأنا أقف على الباب أرى تلويحة اليد من وراء بللور السيارة، وابتسامة وشعراً أشقر يسترسل على الكتفين، وعينين خضراوين دامعتين.

 

 

 

النخلـــــة

  

لفظ الليل أنفاسه الأخيرة فبان الفجر المستطير منتشراً في الأفق وبدا اللون الأحمر يطغى على الجهة الشرقية حيث يشهد هذا المكان تفجر نهار جديد ، لون لا ترى مثيلاً له إلا في هذه الهنيهات القليلة ، يذكرك هذا اللون ببعض لوحات فناني عصر النهضة التي استلهموا مواضيعها من روح الشرق المفعمة بالحرارة والدفء.

كانت شجرة النخيل الوحيدة في باحة الدار مع هذا التشكيل الرائع توحي بمنظر سينطبع بالذاكرة لفترة طويلة ، النخلة الوحيدة المتبقية من مجموعة كانت تنتشر في صحن الدار قلعت جميعها إلاّ هذه التي قاومت عتي الرياح وغزو الأسمنت .

كان يفضل احتساء قهوته أمام النخلة أو تحت ظلها، ومنظر شروق الشمس يمثل له ولادة جديدة في خضم حياته اللاهبة.

فكر بالنخلة وتساءل لو أنها لم تكن موجودة ، وتذكر تأكيد والده على عدم اقتطاعها وكم من الحوارات جرت بينهما ، هو يطالب بقطعها لعقمها وبقائـها وحيدة ، إصرار من أبيه وعناد منه ، أبوه يؤكد أن الشجرة مباركة وبظلالها وخضرتها الدائمة تنتفي مسألة العقم التي يلّوح بها في كل مناسبة ، وهو يرى قطعها أمراً محتوماً كنوع من التجديد في استنبات شجيرات ورد أو أشجار مثمرة وهي العقيمة التي باتت غير قادرة على العطاء .

في صباحات كثيرة مثل هذا الصباح المتجدد ، يستحضر غزوان أشياء من الذاكرة ، أمام شجرة النخيل والفجر يلوح في الأفق يذكره بفرسان على صهوات خيلهم رافعين راياتهم السوداء ونداء مروان المتداعي … .

ـ انج بنفسك يا عبد الحميد ، فإن قتلوني خسرني أهلي وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً .

قال غزوان في سره : لا يمكن لي أن أخرج عن جلدي فأنا ابن خيبات هذه الآمة وانكساراتها وانتصاراتها على مرِّ العصور ، ابن هذه الأمة التي تنكرت لصانعي أمجادها وفخر انتصاراتها  ، وتساءل بمرارة : هل سأموت على فراشي كما يموت البعير ؟. وردّد وهو يكظم غيظه : حتى أكون غيره يجب أن أكون مثل طائر الشوك أغرز الشوك في صدري وأدميه ، وأغرد مثل تغريدته ، تغريدة العمر التي يعجز أي طائر عن إطلاق مثلها

وتراءت له دول وممالك ، ممالك تختار ملوكها بإطلاق طير ليحلق وما أن يحط على رأس أحدهم ولو كان أحقرهم حتى يختاروه ملكاً عليهم ، وتخيل نفسه بين جموع الناس وشيوخ المملكة وعرافيها ما أن يطلقوا الطير حتى يحط على رأسه ويرى نفسه ملكاً متوجاً على مملكة الشمس ينشر العدل والسلام في ربوع الأرض .

تمر الأحداث من أمامه سحائب غيم لا تلبث أن تركض مسرعة مثل الأيام في عمر الإنسان ، وليعود كل شيء لأصله السابق حيث الرتابة تقتل الزمن وتقصر العمر .

تدور الحكايات والسيّر في حرّ الهاجرة وتحت ظل النخلة الوارفة الظلال ، يروي أبوه بتلذذ شديد ،عادة ورثها عن الأجداد وأخلص لها بحب عظيم ، كم مرة استمع لحكايات أبيه وجده من قبل ، كان لا يجد في نفسه مقاومة مثل هذه الاغراءات فيتيه مدفوعاً للتحلق بالحلقة الضاربة حول أبيه وهو يحدث الأقارب والجيران عن أحداث موغلة في القدم ، ويتساءل في سره عن السبب الذي يدفعه للانصات . أهي رغبة أو تشفي ، أم رتابة الحياة المملة أوصلته إلى هذه المقاديـر .

    كان الأب يملك قدرة سحرية على جذب انتباه الناس بحديث سلس لا يخلو من الغرابة والإدهاش ، سحر غريب  يدفعه للانجذاب إلى هذه الحلقة التي يتحكم أبوه بمقدراتها ، فيتربع بجانب أحدهم  ويأخذ بالإصغاء إلى أبيه فاغراً فاه مشدوداً للحديث بقوة عجيبة .

كان الحديث عن جوانب من حياة الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي . قال والده : كان ابن عربي يلاعب أحد المجوس الشطرنج

قال المجوسي : أريد أن أفهم هذه العلاقة المستحيلة . كيف تسنى لنبيكم الإسراء والمعراج في ليلة واحدة والعودة إلى فراشه والحرارة عليه لم تفارقه  .

ما هذه السرعة الجهنمية ؟ .

تمتم الحضور بالاستغفار وصب اللعنة على المجوس قصيري النظر .

وتداعت في فكره نظريات الفيزياء وانشتاين ، والكتلة المادية التي تحقق سرعة الضوء مآلها التلاشي . وتابع الأب ..

ردَّ ابن عربي : كش ملك !

ودار في خلده أن الملوك باقون كالجبال ، وفي لحظة تهديد الملك بالكش رأى المجوسي فيما يرى النائم نفسه في صحراء قفر إلاّ من واحة صغيرة وبركة ماء حولها أشجار  ونخيل يحفّها في هذه الصحراء المترامية ، وتخيّل نخلة الدار التي يتفيؤون ظلها بجانب تلك الشجيرات ، وتبادر إلى ذهن المجوسي الولوج في الماء فخلع عنه ملابسه ونزل البركة ملتمساً البرودة في هذا الحر القائظ ، فنظر إلى نفسه بخيلاء فرأى جسده يتحول تدريجياً إلى جسد امرأة فتملّكه الجزع ، فتيقّن من اختفاء ذكورته ، وشاهد فارساً مقبلاً من بعيد ، فانتابه الرعب والخوف على هذا المآل ، فالتقطه الفارس من الماء وهو على هذه الشاكلة ينضح أنوثة وجمالاً .

قال الفارس : زوجاً . . أخاً  .. أباً تريدين ، فتزوجها أو تزوجه   فالحكايات التي من هذا النوع لا بدّ أن تؤول لمثل هذه النتيجة وبعد أن تزوج الفارس من المرأة التي التقطها من مياه الواحة أنجب منها أربعة صبيان ، وحدث أن رحلا مرةً إلى بلد آخر فمرّا بطريقهما على نفس المكان وبعد مضيّ كل هذه السنيـن ، رفت نفس المرأة وطلبت من زوجها أن تتبرّد بالماء فنزلا معاً إلى البركة وبقدرة قادر عادت المرأة إلى أصلها وتحول الفارس الذي انتشلها في يوم ما إلى امرأة ، فخرجا من الماء وتزوجا من جديد فأنجبت الزوجة الجديدة أربعة صبية .

ربت ابن عربي على كتف المجوسي قائلاً : كش ملك فمن يصدقنا إن قلنا إنك أنجبت من بطنك أربعة ومن ظهرك أربعة فأسلم المجوسي لتوه بحضرة الشيخ الجليل .

صاح أحدهم الله أكبر  ! ردّ آخر انتصر الحق . وأخيراً انفضت الجلسة عن دهشة ارتسمت على وجوه الحاضرين وفرح غامر حلّ على أسارير الرجل الذي تعوّد رواية مثل هذه الحكايات .

تمدد غزوان تحت ظل النخلة وتردد في ذهنه .. . وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا  . وتذكر عقم النخلة التي يتفيأ ظلها ، وتخيل نفسه يهم باستعمال المنشار الكهربائي في قطع أوصالها وحرق جذعها ، وفرحة غامرة تنتابه وهو يتمم عمله ونظرة غيظ وأسى على محيا والده ، انتفض مرعوباً وهو يتفصد عرقاً ، مسح جبينه بظاهر كفه وتوجه إلى غرفته ، غاص فيها متلقفاً أحد الكتب من المكتبة ، قلب صفحاته ، مرت الكلمات أمام عينيه … الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم . قرأ التفسير وأغلق الكتاب ووضعه جانباً ، أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها محلقاً بتفكيره  ، رأى الرايات السود من جديد ، ما برحت هذه الرؤية تؤرق ليله ونهاره ، رأى فيما رأى خالداً يموت على فراشه كما يموت البعير قائلاً : فلا نامت أعين الجبناء ، رأى فيما رأى أيضاً حلم المأمون وهو يوحد الأمة من خلاله ، ورأى أيضاً انطفاء جذوة الحضارة العربية وهي في أوج تألقها وعز قطافها ، أطفأ السيجارة واستلقى على فراشه متوسداً يديه وما لبث أن استسلم للنوم ، حلم أن الشجرة أثمرت وأينعت ودنا جني رطبها وأباه يوزع الغلال على الناس المتحلقين حولـه .

رأى الابتسامة على وجه أبيه سافرة ونظرة تحدٍ بادية في عينيه . وقف والده قبالته وابتسامة الظفر على وجهه الذي ينضح بالبشر والتفوق ، وأثار الخيبة ومرارة الهزيمة في نظرة عينيه المنكسرتين والتي كانت قبل حين تواقة لكسب مثل هذه الجولة التي استعرت نيرانها  .

تقلب على الفراش ثم اندفع إلى باحة الدار صارخاً كالمجنون ليرى شجرة النخيل بمكانها ، لا تزال واقفة بتحدٍ معلن لم يتغير بها شيء ، وتأكد بأنها لم تكن سوى أضغاث أحلام انتابته ساعة نومه واستلقى على فراشه ثانية ، ودار في خلده كيف سيخطط لاقناع والده بقطع النخلة ، وظل يفكر إلى أن راح في سبات من جديد ، وما هي إلاّ لحظات خالها دهراً استيقظ مذعوراً على أصوات فيها بعض من الجلبة فاعتراه خوف شديد ، وتوجه إلى باحة الدار ، واجه النخلة بتحدٍ فلم تحرك له ساكناً.

قال في نفسه : يجب أن نصل إلى طريقة للتفاهم بشأن هذه النخلة ، وتساءل بأسى : لعل هناك وسيلة تكون فيها هذه النخلة مفيدة ، وتمتم بصوت شبه مسموع : اللعنة على هذه الشجرة وعلى اليوم الذي أصبحت فيه هاجسي .

طالعه وجه أبيه من بعيد ، دنا منه ، حدثه بكل روية :

ـ يا بني الواجب علينا أن نزرع بعضاً من شجر النخيل جوار هذه النخلة ، فالنخلة لا تعيش إلاّ مع مثيلاتها وسترى كيف ستعود للإخصاب قريباً مثلما كانت تعطي وتمنح الثمار . هزّ غزوان رأسه معلناً بأسه أمام اقتراح والده الذي حسم كل شيء ففرّ مذعوراً إلى غرفته ينكر على نفسه الهزيمة والانكـسار .  

 

 

الفـزّاعـة

 

الليل يهيم على القرية الرابضة بجوار تلة عالية كشبح ثقيل ، وشوارع القرية الموحلة خالية من السابلة ، والليل في القرى طويل ، ومستودع أسرار ، وموال لعشاق لا ينال منهم تعب ولا وسن ، والشتاء في القرى الشمالية برد وريح شرقية صرصر تقص المسمار .

هذا اليوم هو استمرار لأيام طويلة في شتاء ثقيل حل بكل جوارحه وأطبق بنواجذه على الناس ، هو غول يحاول افتراس الأشياء من أمامه ، طوفان لا يوقفه جبل ولا يمنعه سد .

اعتدت في هذا البرد كما في الحر كما في كل الأجواء أن أقف منتصباً وسط الحقول وفوق أسطحة منازل القرويين أو جوارها رافعاً يدي جانباً ، شاخصاً ببصري في كل الاتجاهات .

أنا لست شاهدة قبر ولا شاهداً لتاريخ أنا موجودة في كل زمان وكل تاريخ . موجودة في أخيلة الفلاحين والقرويين .

هذا المساء أحسست دفئاً غريباً سرى في داخلي بعد أن توقف سرب من الطيور بالقرب مني وتمادى أحدهم وحط فوق كتفي ، أظنه اكتشف عجزي وقبل قليل مر أحد عجائز القرية وأظن أن الأمور قد اختلطت عليه فألقى علي تحية المساء فأفرحني ذلك وأثلج صدري .

كنت منذ وقت قريب شاهداً لجرائم قتل وشهدت لقاءات أحبة ولقاءات غرامية تجري في السر ، وشهدت اجتماعات تحاك بها مؤامرات وتكاد بها دسائس ، وفي كل مرة أعلن عجزي في صمتي المطبق ، وتظل الدائرة تدور ، ويظل أمامي هذا المسرح للفرجة فقط . وعجزي يمنعني حتى من التصفيق للمشاهد الشاخصة أمامي ، ولكن هذا المساء لم يكن مثل كل مساء فبعد أن ألقى العجوز تحيته علي ودنت الطيور إلى جواري وذلك الطائر الصغير الذي حط على كتفي فجر عاصفة في داخلي وأعلن الرفض لعجزي وصمتي .

كم حلمت أن يدي الممتدين لجانبي أن تتحركا رداً على تحية المسافرين بجانب الطريق ، للأطفال الذين يلعبون جواري ، وحلمت أكثر أن ذراعي تمتد مثل ذراع أخطبوط لتخنق كل قذارات الناس ، ولكن ظل عجزي وصمتي يعبران عن شخصي ، ولكن كيف تحول صمتي إلى ضجيج وعجزي إلى قوة فإليكم الحكاية :

صحيح أنا فزاعة تخيف مخاليق الله الضعيفة ولكنني في نفس الوقت أم الغيث فبعض الناس يرى بي صرحاً جليلاً يبشر بقدوم الخير والعطاء والخصب ، وصحيح أن الجدات يخفن الأطفال الصغار بالخوافة ولكنني أيضاً أحمي زاد الفلاح ومحصوله من الطيور النهمة .

ظل مآتة لا يرتجى مني شيء وبين ثنايا لباسي ـ وغالباً ما يكون من أسمال الفلاحين ـ تخبأ رقى وأحجبة الفلاحات اللواتي يرغبن بأشياء لا يجود بها الله عليهن، أعيش كل هذه النقائض دفعة واحدة وأعود لهذا اليوم فبعد تحية العجوز ودفء الطائر الصغير أحسست بأن الدفء يمتد لكل جسدي حتى كأن دماً يجري في عروق موجودة في داخلي ـ وتماديت أكثر ـ وأن عقلاً لا بد موجوداً تحت هذه الجرة القابعة مكان الرأس في جسدي .

لطالما لي خيال .  . .  . إذاً  لي عقل .  . ودم يغذي جسدي وعقلي ، ولطالما لي عقل إذاً لي رأس ، لكن لا بأس أن يكون جرة عتيقة تسلى أحد أطفال القرية في رسم عينين وأنف وفم فاغر عليها ، وتمادى أحد الصبيـــــــة بأن ألبسني قبعة عسكرية  

" بيريه " شعرت في نهاية الأمر أنني أحمل عقلاً  كبيراً فلا غرو في ذلك فالجرة تعود إلى ما قبل الميلاد ، هذا ما أكده أمامي سابقاً  أحد المارة الذي سلبني هذا الحق الرائع وتلك " البيريه "

التي تمثل الشرف العسكري . لم يبق إلا أن أقول أن لي شرف كما الناس ! .

ولم لا يكون لي شرف فالقوادون لهم شرف والأفاقون واللصوص كذلك عندما حمل رأسي ذلك الرجل بعيداً عن جسدي شعرت بأن حملاً  ثقيلاً  قد انزاح عن كاهلي ، لكن الفلاح الذي صنعني

ـ عظم الله أجره ـ عفوا" قبل أن أتمادى يجب أن أوضح مسألة مهمة فيمكن أن تتساءلوا كيف لي أن أتذكر ولم لا أتذكر ؟ . ألم يصبح عندي عقل … ودم يغذي العقل والجسد ، ودم أظنه يمر بدورة صغرى وكبرى ـ على ما أعتقد ـ هذا إن جاز لي القول بأنه قد أصبح لي اعتقاد …

وأعود .. فالفلاح الذي صنعني أتى بحجر أصم ووضعه مكان الجرة

ـ نسيت أن أقول لكم حتى لا تستغربوا ـ

كيف يوضع حجر مكان رأس فزاعة ؟ .

فجسمي على غير عادة كل الفزاعات لم يكن إلا عبارة عن صفيحة كبيرة كانت يوماً مليئة بالسمن أو الزيت  ( تنكة ) أظنها ماركة الثلاث بقرات ، بل الثلاث زهرات ، فرحلة هذه الصفيحة مرت بمشاق كثيرة أخرها في إحدى المزابل إلى أن أتى بها ذلك الفلاح الشهم ووضعها مكان الجسد مني فانتقلت بذلك من منزلة الذل والمهانة إلى منزلة الرفعة والدلال وأصبحت بذلك الحال في مكان مرموق ومثير للجدل والتساؤل  .

أنا قلت إن مكاني مرموق ـ لا أعلم ـ ويمكن أن يكون مناسباً وحساساً مع طموحاتي الصغيرة ، لا أريد الكلام عن الطموح فأنا بعد هذا المنصب وبعد سلبي رأسي العتيق لم يبق إلا أن أعبر عن طموحاتي التي باتت كبيرة وكثيرة الآن ، فلقد تعلمت الكثير وشاهدت ما يشيب له شعر الصبية .

هل يمكن أن أقول لكم أنني أصبحت من أشباه المثقفين أو أنصافهم ولم لا أكون من المثقفين أظنني أصبحت مثقفاً ! .

وأصبحت ربع أو نصف سياسي ، لا بل سياسي وناضج وعسكري لا بل وعسكري فذ ! .

اسمحوا لي أن أعبر عن طموحاتي وأمالي كما أشاء ، تعلمت السكوت ونشر الرعب والخوف في قلوب المستضعفين ، لكن من يجبرني الآن على السكوت أو إخافة أحد، سأتكلم ، سأثير الزوابع وسأفشي أسرار الأحبة ، وأثير الفضائح وأكشف المؤامرات والخيانات ، وأتكلم عن ضعفي وعجزي واحباطاتي أمام الضعفاء والأقوياء .

شطحت بي الأفكار لهذه الطموحات الجديدة ، تخيلت من يسترضيني ويعشمني بأعلى المناصب . لكني صممت على موقفي الذي شعرت بحدته وأصالته التي اكتسبتها من موقفي كشاهد عيان .

كانت الصفيحة تأن تحتي ، تهتز من الثقل الذي تنوء به ومن قوة الأفكار التي تحمل ومن الشرف الرفيع الذي ترفل به ، من هذا الموقع  الذي انتهت إليه بعد الذل والمهانة إلى هذا المكان الذي أنزلها موقع الإكبار والإجلال .

لم تكد هذه الأفكار تزداد اشتعالاً برأسي المتحجر حتى كانت تباشير الصباح تعلن قدومها مع وقع خطوات أعرفها جيداً  إنها خطوات الفلاح . دنا مني وهمُ بوضع زاده قريباً  ،  ثم أشعل ناراً بجواري وراح يقلبها ، فزعت رغم أني فزاعة .

تناثرت شرارات النار يمنةً  ويسرةً ، أحسست بأن عرقي يتصبب فأنا أخاف النار ، ازداد اللهيب وازداد تناثر الشرر ، وازدادت حرارتي بالارتفاع حتى اشتعلت أسمالي الممزقة ، فتمادى الفلاح وسحبني إلى قلب النار فسقط الرأس إلى جانب  ، وتداعى ، وأنُتِ الصفيحة واشتعلت الأسمال أكثر ، فرك الفلاح يديه ، ابتسم، ضحك بقهقهة ، وتطاير الشرر أكثر وتطايرت  الأفكار وتداعت معه كل الأحلام . .

 

أضيفت في 25/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية