الطاهرة.... بلا روح
إلى من أسميتها... كاجين.
كوثر فتاة جزائرية رائعة وطيبة ما بعده طيب لقبت نفسها ب( روح طاهرة
) وهي فعلا روحا طاهرة بكل ما للكلمة من معنى, تعرفت عليها صدفة وأنا ادخل
إحدى مواقع الدردشة ( تشات ).
عندما اكتب لها أحس بأنني أتحدث مع ملاك طاهر كلها عفة وأدب وأخلاق
, ليست مثل مثيلاتها واوكد دخولي لهكذا مواقع قد يكون نوع من الفضول ليس
إلا ؟ وبرغم دخولي إلى النت قليلا إلا أنها كانت تنتظرني بشوق . تراسلني
وتعتبرني الأخ والصديق الوفي الذي يرشدها ويدلها على الطريق الصحيح كونها
من عائلة محافظة وتريد أن تذلل الطرق أمام مستقبلها بالحكمة والعقل , كنت
محل ثقة لهذه الإنسانة التي تبعدني عنها مسافات وتقول فخورة أنا بصداقة
رجل صالح وطيب وذو أخلاق حميدة , وهي لاتعلم عني سوى أن جنسيتي السورية
وتحمد الله الذي أرسل لها وعرفها بشخص قد لا تراه طيلة حياتها , و فرحتها
لاتسع حين ترى الإشارة الخضراء لامعة حينها تحس بانشراح حيث ينتابها إحساس
بان روحها الطاهرة عادت إليها وتقول عندما لا أرى تلك الشارة أحس بأنني
فقدت جزءا من روحي وتنتابني صداع وألم في أطرافي, واسأل نفسي أترى حصل له
حاجة لاسمح الله , أين هو وماذا يعمل , بالله عليك أعطني موعدا ثابتا لدى
جلستك على النت .
ذات يوم أرادت أن تصارحني بموضوع يخصها . ارتبكت و تخيلت بأنها وقعت
في غرامي أو أنني أوهمتها بشي من هذا القبيل وبتردد كتبت لها , تفضلي عسى
أن يكون خيراً .
وبدأت بسرد حكايتها:
-ولايتنا يا سيدي بعيدة عن العاصمة فاضطررت بالسفر جوا , حينها جلس
بجانبي شاب وأثناء التحليق تعرفنا على بعضنا و حدثني بأسلوب راق وبكل
أدب واحترام : هل أنت من العاصمة
-لا , أنا.... من هذه الولاية وسأذهب للعاصمة لتقديم أوراقي
الجامعية .
-عظيم , الله يوفقك , بالمناسبة _ ووضع يده على صدره وثنى رأسه
قليلا _ أنا مسلم .
-وأنا أيضا مسلمة ؟!.
أيتسم حيث رسم على وجهه هلالين متعاكسين وقال :
-العفو , اسمي مسلم , من سوريا .
استدرت وجهي حياءا وكأنني ارتكبت خطئا , ثم لاشعوريا اتجهت عيناي
صوبه وقلت : أهلا بك يا أخ مسلم , آسف لعدم فهمي حسبتك تقول عن دينك .
-لا ...لا تأسفي , عادي جدا , يحصل مع كل الناس .
-وماذا تعمل هنا , هل تعمل بالسفارة أم تاجر أو زيارة .
-ابتسم ثانية وقال : متعهد , أنا متعهد ولدي آلة حفر للآبار وقد
حفرت معظم آبار الجزائر أنا هنا منذ ثلاث سنوات , حتى لهجتي تغيرت وعليكم
أن تمنحوني الجنسية .
-ابتسمت وقلت والله الحق معك , فحديثك وكأنك ولدت هنا .
((.......بفضول كتبت بأصابع كأنها تعزف على الكيبورد , حسنا
وبعدين ...؟ ومن ثم ضغطت على الانتر ....)) .
قالت :أعطاني رقم هاتفه في حال إذا احتجت لشيء .فقط , ماذا يخطر
ببالك , أنا لست لقمة سهلة , شكرته على تقديم مساعدته لي وقلت بصراحة سأقدم
أوراقي ثم أرجع إلى البيت فورا .
((........عظيم لحد الآن مافي شي , عادي جدا ويحصل مع معظم
المسافرين )).
-دعني أكمل , الصدمة بعد عودتي للبيت بأسبوع تقريبا .حيث زارنا
ضيف لم نعرف من هو حتى اخبرني والدي بان الضيف هو من كان مسافرا معك وقد
جاءني خاطبا إياك لنفسه وكان علامات القبول والرضا مرسومة على ثغر والدي
وقال لقد أمهلته بعض الوقت حسب العادة والعرف .
((...........هيك بهذه السهولة ......))
-انتابني شعور لايوصف كله غبطة وسرور , والله حسيت كأنني حمامة لها
جناحين و بدها تطير .
((مازحتها ........... تطير , لوين إلى سوريا ؟...)).
-أي والله تذكرت , صحيح مش أنت كمان من سوريا , أليس كذلك ..؟
-شو نسيتي أني من سوريا , وقلتها مازحا إذا الشاب عامل مشكلة فهو مش
من سوريا .
-ليش هيك واثق من نفسك , ومن شبابكم لا يعملوا مشاكل ,ثم استأنفت ,
بس بصراحة شاب محترم يطير العقل وأنا فرحانة كثير .
-الله يوفقكم ....
-كان شابا ذكيا استطاع أن يقنع والدي وأهلي بسرعة لامعقولة , حيث
شرح لهم وضعه وعمله وكل ما كان يخطر ببال والدي سؤاله .
-عفوا تقولين كان وهذا يعني أصبح ماضي أليس كذلك , هل عمل مشكلة
ما ؟ .
-لا.. لم يعمل أية مشكلة , بس خلقت لنا مشكلة لم تكن عالبال ولا
عالخاطر , أنا قلقة جدا ويائسة وأصبحت أعاني من مشكلة نفسية .
-تفضلي !...
-كان محترما , طاهرا .
-لهذا سميت نفسك بالروح الطاهرة ...؟
-نعم هذا صحيح , كونه احترم البيت الذي دخل بكل أدب وأخلاق , حتى
أننا كتبنا عقد القران , لم يلمسني , كنت أحس به وبمشاعره اتجاهي, وقد
اجلنا الزواج عندما تلقينا نبأ وفاة والدته فاضطررنا حتى تنتهي الأربعينية
.
((.............كنت بشوق لمعرفة نهاية القصة أو مشكلة التي تحكيها
لي صديقتي ........وكتبت لها بحروف كبيرة .....وبعدين شو صار ........ثم
انتر ....)).
في صباح يوم العيد جاء لمعايدتنا , و حينها كانت القنوات الفضائية
تنقل نبأ إعدام صدام وكان والدي رجل مؤمن ويحب صدام ويعتبره المنقذ للإسلام
والعروبة .حينها تأفف والدي وكأن حبل صدام التف حول عنقه , ورفع يده إلى
السماء , داعيا لله سبحانه وتعالى الانتقام من الذين أعدموه ......!
التفت خطيبي لناحية والدي وكاد الدم ينبجس من وجهه وتغيرت سحنته
وقال : يا عمي , جميعنا مسلمين وإيماننا بالله قوي , وان الله سبحانه
وتعالى يمهل ولا يهمل ...أليس كذلك ؟.
هز والدي رأسه ونظر إلى خطيبي نظرة غريبة لم يستقبله ألبته وفي صدره
غصة خانقة
- يا عمي هذا الرجل مجرم , سفاح قتل الكثير من أبناء شعبه , لا
يعدون ولا يحصون , ألا تشاهد التلفاز كيف يخرجون أمواتهم من القبور
الجماعية ..............
ولم يتمم حديثه حتى توسعت حدقتا والدي ورد عليه بغضب:
-أنت لست مسلما , أنت كافر مثلهم , كيف تقول هذا على بطل من أبطال
المسلمين , تؤيد الناس الذين جلبوهم الأمريكان. عندما كنت شابا أتذكر زيارة
صدام لنا .
-نعم يا عماه وأنا أيضا أتذكر تلك الاتفاقية المشئومة التي حلت
علينا وكانت نكبة مثلما حصل في فلسطين , كارثة لشعب مسلم مؤمن يقوده رجل
دين , ملا , محب لدينه وشعبه , مثل عمر المختار.
-آه ...صحيح , نسيت أن الأخ كردي ؟ .
-نعم , أنا كردي وقد أخبرتكم بذلك عندما طلبت يد ابنتكم , وقتها
ذكرت اسم منطقتي التي غيروا اسمها من ( كوباني ) إلى عين العرب , حتى أنني
رويت لكم قصة سينما عامودا وحريقها , حينها كانوا يعرضون فيلم جميلة بو
حيرد لجمع التبرعات لكم .
((....تأخرت عن الكتابة قليلا ثم أرسلت صورة فلاشيه لعين تدمع و
تذرف, أحسست إن صديقتي قد أجهشت بالبكاء ....))
-لم تبكين ماذا حصل لخطيبك ؟,
-رحل عني - أرفقتها بتلك الصورة الفلاشية للعين الدامعة - رفض
والدي تزويجي منه, ولا أعلم هل ترك الولاية أم عاد إلى وطنه .
-والله قصة مؤسفة وحزينة , هل المطلوب مني البحث عنه في منطقته ؟.
-لا .. لا ...يا أخي , موضوع الزواج منه محال , والدي واعرفه ,
لكن هل بإمكانك إعطائي فكرة عن القومية الكردية وعن حياتهم ولغتهم .
-كتبت لها بالخط العريض :
ok .وحتى بإمكاني تعليمك اللغة الكردية .
-هل تعرف الكردية ؟.
-نعم ...أنا كردي .
-آوه ...عن جد , يا الله شو هالصدف العجيبة إذا اعتبرني تلميذة
عندك من الآن وصاعدا , ولو سمحت , سم لي اسما كرديا بلغتكم , ممكن.
-حسنا , أول حرف من اسمك ( كاف ) كوثر , ما رأيك ب ..كا جين
........- وكتبت لها بالعربية والكردية _
-معناه إيه ؟.
-معناه , أين الحياة ؟.
.......بعد لحظات رأيت شاشتها الاسمية كتبت عليها : كاجين ...kajîn .
20-5-2008
أضيفت
في30/05/2008/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
الرائحة ....
بالرغم من التخدير الكلي لجسدي إلا أنني كنت أسمع أصواتهم المبهمة
الآتية من بعيد أو من العالم الآخر وهم يتحدثون ويتناقشون حول هذه الحالة
الفريدة من نوعها ، بدا عليهم علامات العجز والتعب ، هؤلاء أشباه الرؤوس
الخضراء الملثمة والمكممة والذين شكلوا لجاناً ومتخصصين لدراسة المشكلة ،
تجمعوا فوق رأسي المليء بالمتناقضات والمرفق بطنين مزعج ، حيث تتخللهم
أشعة ساطعة كأنها الشمس ، تبهر عيناي ، لم اعد أميز شيئا ؟. ولا أعرف أين
أنا ؟؟؟؟؟ ولماذا جاؤوا ليقبضوا على روحي ؟.. أتابعهم بالنظر واستنشق تلك
الرائحة المقيتة ، التي تثير أعصابي وتخرجني عن طوعي دون أرادة مني .
سمعت أحدهم يقول : لدى إجراء العملية الجراحية للقلب ، تبين لنا
آثار صورة فتاة ضمن أطار ألماسي محطم ومتناثر حيث تأثر شغاف قلبه بجروح
بالغة لم تلتئم بعد .
-رد آخر: أي قلب يا دكتور ؟ . قل بيضة مفرغة من محتواها، لم
نرى سوى أطلال قلب والتي تربعت على عرشه دودة متوحشة فسدت كل شيء من خلال
تحركها .
-يا الهي ؟...إذن هؤلاء الذين حولي دكاترة وممرضين ...؟ .
ثم سألت ذاتي : دودة متوحشة ، وبقايا قلب فارغ ، كبيضة فرغت من محتواها ،
قشور فقط .
في تلك اللحظة زارتني سحابة سوداء ، وقفت حاجزا بيني وبينهم لترجع
بذاكرتي إلى تلك الليلة المأساوية.
حاولت جاهدا أن أتخلص من أرقي وارقد للنوم ولو لبضع دقائق لأن
تباشير الصبح قد لاح ، لكن المسائل المتعلقة والمتراكمة في ذهني كانت تدفع ببعضها تحاصرني من كل جانب لتفرش أمورها المستعصية حولي . آملاً في حلها أو
تصفيتها. كنت أتقلب يمنة ويسرة والسهد هجرني والكآبة هاجمتني , أحسست بضيق
في نفسي ، كأن جو الغرفة قد شابه التغيير وقد رافقتها رائحة غريبة للغاية
. ألقيت بنظرة إلى أولادي النائمين كأشلاء متناثرة ، قد يكون الرائحة
خارجة من أحدهم ولكن هذه الرائحة غريبة لا تقارن بروائحهم ، كانت الرائحة
تقترب مني بازدياد ، فأضررت إلى فتح النافذة والباب على مصراعيه ، وتوجهت
إلى المطبخ لأروي ظمأي وأخمد حرارة جسمي ، فمددت يدي إلى كأس الماء لأدلقها
مرة واحدة . أحسست بنفس الجو ونفس الرائحة ، يا الهي ...! من أين تأتي هذه
الرائحة القذرة وكأنها رائحة جيفة ميتة ؟
اقتربت من اسطوانة الغاز لعلها هي التي تسرب الرائحة ، لكنها
كانت مغلقة بإحكام . أحس إن هذه الرائحة تملأ البيت ، تلاحقني بل تكاد
تخنقني . فلم يبق أمامي سوى غرفة الضيوف والتي تحتوي على مكتبتي و جهاز
التلفاز . أشغلت الجهاز ودنوت إلى المكتبة لأتصفح بعض الكتب أو المجلات .
انتابني شعور وكأن الكتب تهرب مني ، لم استنشق رائحة الكتب القديمة ولم
اشعر بحنوها لي . يبدوا أن الكتب فقدوني منذ فترة غير قصيرة ولعلهم نسوا
أناملي ، على أية حال لا ألومهم فالمصائب والمشاكل أتتني على دفعة واحدة ،
كادت تقضي علي بل كانت على قدر كاف لنسيان الكثير . جلست و تصفحت لبعض
الوقت إلا أن الرائحة لاحقتني الى هناك أيضا ،كانت الغرفة حارة والجو
الملبد بتلك الرائحة خانقاً . انتصبت وخطيت خطوتين باتجاه المكيف لأشغله
عله يطرد الرائحة ، الاان محاولاتي أحبطت ولم أنوب منها سوى البرودة
والارتعاش .
راودتني فكرة الاستحمام وتلاوة بضع صفحات من القرآن الكريم
، وهذا ما حصل بالفعل لغاية آذان الصبح . عمت أرجاء الغرفة بتلك الرائحة
واشتد غيظي وقهري ، لكن النعاس غلبني , فاستغفرت ربي وتوجهت إلى فراشي لأغط
في نوم عميق .
رأيت زوجتي تتحدث مع جارتها حول الرائحة وتصر على أن هذه
الرائحة هي رائحة الطبخ بالسمن البلدي ، ثم لفت انتباهي إلى قنوات
التلفزيون حيث معظم البرامج السياسية وحتى الغنائية منها تقدم أغان وأشعار
عن الرائحة أما في إحدى القنوات كانت ندوة بهذا الخصوص حيث اجتمع لفيف من
المحللين السياسيين حول طاولة مستديرة قال احدهم: إن هذه الرائحة من فعل
أمريكا ، نعم أمريكا هي السبب الأول والأخير في مشاكلنا وتقف حجرة عثرة في
طريق تقدمنا، لاشك إن هذه أيضا بدعة منها كسابقاتها كالجمرة الخبيثة مثلاً
، لترهب المجتمعات . تدخل آخر والحماس باد على وجهه قال : لنسم الأشياء
بمسمياتها يا أخوان ما هذه الترهات ولماذا نحمل غيرنا ونجعل من أمريكا
شماعة نعلق أخطاءنا عليها ، بالعكس أن رياح التغيير آتية لامحال ، إلا أنني
أرى أن هذه الرائحة هي من عمل الحكام ليشغلون الناس بأشياء تافهة كي ننسى
مشاكلنا وهمومنا ، من المفترض أن لا تنجر النخبة وراء ذلك ولا ترعبنا هذه
الأفعال، تدخل الثالث ذو اللحية البيضاء وقال : مع الأسف يا أخوان انتم
تناقشون موضوعا ليس لنا حول ولا قوة إنها أرادة الخالق إذ قال : كن فيكن ،
وهذه الرائحة هي من علامات دنو الآخرة ، أن الساعة آتية لا ريب فيها( صدق
الله العظيم ).
استيقظت باكرا لأتأكد هل تخلصت من تلك الرائحة ،
يبدوا أن لا جدوى من الخلاص، الرائحة كما هي وأحيانا اشعر بزيادتها، انزويت
في الغرفة وأنا اختلس النظر إلى الأولاد لأتأكد هل يشعرون مثلي بشيء ، إلا
أنهم كانوا طبيعيين وكأنهم بلا أنوف ، أتصورهم بلا أنوف ، لا اعلم هل هذا
مشهد كوميدي أم مشهد تراجيدي ، انوي الضحك من داخلي لتلك الوجوه المسطحة ،
فأتذكر بحركاتهم وهم على هذه الصورة الفنان الأسباني ( سلفادور دالي )
ولوحاته السريالية . ثم يحجمني العادات والتقاليد كحصان جامح . إذ كيف
لبني آدم الخروج من دون انف ؟. وهذا الأنف فيه كل القيم والشرف ؟.
-لا أدري لماذا كررت هذه الجملة : ( القيم والشرف ) ، العملة
النادرة في زمن المال والطمع . كان عليَ أن أبدو طبيعيا مثلما بدا الأولاد
بعد أن تأكدت بأنهم لم يشعروا أو يلاحظوا شيء .
هذه الرائحة سببت لي قلقا وإزعاجا لا يحتمل في حياتي ،
أحس بان فئة من الناس يسخرون مني بل ويتهربون من لقاءي وأن بعضهم ينحرفون
عن مسارهم لدى رؤيتي في طريقهم والمارين بجانبي واضعين أياديهم على أنوفهم
, والكل يشترك في مقولة يتهامسون بمرورهم جانبي ، سيمفونية اعتادت عليها
أذني : المفلس رائحته مقرفة وان اغتسل بمياه الغانج أحس بأن هذه الهيئة
الإنسانية النظيفة التي تنتهج الخلق والطهارة ، أصبحت مليئة بالقذارة .
لكنني لست مفلسا والحمد لله ، توجهت إلى بائع العطور وحاولت التقرب منه
ومحادثته وأنا انظر إلى وجهه لأبحث عن شيء في عينيه ، في وجهه ، في حديثه ،
كان عاديا جدا . لم يمط بشفته ؟. اشتريت علبة عطر من إحدى الماركات
المعروفة ، فتحتها وتعطرت برائحتها ، وأخذت طريقي إلى محل عملي . وأنا في
منتصف الطريق تبادر إلى ذهني مشاورة طبيب وعرض حالتي عليه .
-تبين علامات الدهشة على وجهه، لدى وضع السماعة على صدري ،
كرر العملية لعدة مرات ، ثم همس في أذن الممرض الذي بدا عليه بدوره حالة
الطبيب ، ونطقوا معا عبارة : غير معقول 0000مستحيل !!!
-خارت قواي لدى سماعي قوليهما، تلعثمت وقلت بصوت متحشرج : هل
أنا بخير يا دكتور ؟.
-بخير، أطمئن ، طالما أنت لحد الآن على قيد الحياة ، لكن عليك
إجراء بعض الفحوصات ، لذا سأرسلك إلى المستشفى ؟. قد تحتاج إلى عملية في
القلب .
-تقصد القثطلة ؟ .
-........
-عملية في القلب ؟.
-لاعليك ، فقط أنصحك الذهاب بأقصى سرعة .
-لا شعوريا نطقت ( والرائحة )؟...
على ضفاف الخابور
المقطع الأول:
شاب يافع كغيره من شباب جيله ، يحلم بمستقبل وفتاة جميلة تزين
له حياته ، وتشاركه العمر – هذه هي سنة الحياة - ويشاء القدر ان يلتقي بذاك
الجمال الحالم وذاك الشعر الذهبي وتلك العينين الزرقاوين من بنات قومه...
وكم كانت فرحته وسعادته حين استجابت له العيون
بالموافقة...لغة لايفهمهاإلاهو وكما يقال:نظرة
،فابتسامة،فكلمة،فموعد،فلقاء...وتم اللقاء.
واجتمعت الأحاسيس التواقة لتشكل روحاً في جسدين.
المقطع الثاني:
أصبحت سيرتـهما ((على كل لسان)) وذاع صيت حبهما في المنطقة
كلها …إنها أجمل و أروع قصـة حب عذري سمعها جيلنا الحالي...
عند اللقاء ، يخرج قلبه من صدره ليستقبلها شوقاً وهياماً ،
يرغب بضمها بين ذراعيه ليرشف من رحيق شفتيها ... ولكن إحساسه المرهف
وشفافيته يمنعانه من القيام أو حتى التلميح بذلك حرصـاً على مشـاعرها
ولمكانتها السامية في قلبه.
المقطع الثالث:
يحلمان مثل غيرهما ببناء مستقبلهما وتكوين بيت أسري جميل،هادئ
مبني على أساس متين تسوره هالة من الحب والتفاهم ويرسمان على ورق أبيض مثل
قلبيهما مخطط البيت،غرفة الاستقبال الصالون...المطبخ...الخ
وبدأ الحساد والعذال بزرع الأشواك في طريقهما ، فتن ..أخبار
ملفقة..كذب..حاولوا التفرقة بشتى الوسائل ، إلا ان محاولاتهم ذهبت سـدى ولم
تلق النجاح حيث تغلب العاشقان على المكايد والافتراءات بحكمة.
المقطع الرابع:
دنا موعد امتحان..البكالوريا الفرع العلمي- لكليهمـا- … وذهب
الاثنان إلى المحافظة لتقديم الامتحان لعـدم وجود مركز امتحان في
بلدتهما.......، حيث استأجر الحبيب غرفة متواضعة صاحبتها امرأة عجوز ،
تجاوزت السبعين وتعيش على إيجار هذه الغرفة.
ام هي ،فاستأجرت مع رفيقتها،غرفة قريبة من المدرسة.
المقطع الخامس:
لدى خروجهما من قاعة الامتحان ، كانا ينتظران بعضهما ويتأكدان
من تقديم فحوصهما ويحثـان على تقديم المواد بشكل افضل وعلامات احسن،
لقبولهما في احسن الكليات. يذهبان في مشاوير خاصة سيراً على الأقدام لساعات
طويلة ، وبعدها يتجهان نحو النهر ليجلسا تحت شجرة وارفة على الضفة اليمنى
من النهر،ذات يوم كان جالساً يتأمل الدوائر المتشكلة حيث كانت ترمي
بالحجارة لتشكل اهتزازات دائرية تتسع شيئاً فشيئا حتى تخف وتزول . انتبهتْ
... وهو صـامت ، يحدق في النهر .
-ما بك...؟ بماذا تفكر…؟ في النتائج…انا واثقة تماماً من
نجاحنا في الامتحان التفت إليها وقال:
-والامتحان الثاني ؟! امتحان قلبك.ما هو نتيجته ؟ هل سيكون مثل
هذه الدوائر كلما ابتعدت عن المركز تزول؟
-ماذا تقصد…؟
-حبنـا عنيف وقوي ، تحدينا الجميع ومع ذلك أخاف ..أخاف ان
يزول مثل نهاية هذه الدائرة.
-وقتها ،سيكون زوا لي وفنائي أيضا.
-لا سمح الله يا حبيبتي...(وامسك بيدها) فأحست بدفء يسـري
في عروقها ليتوزع على جسمها...وهمست في إذنه .
-الى الدراسة يا أستاذ...
المقطع السادس:
ذات يوم دخلت العجوز إليه وقالت:
يا ولدي من خـلال معر فتي القصـيرة بك ومن خلال هواتفها التي
لا تنقطع، تسألك لحظة لحظة هذه الفتاة جعلتني أحبها دون رؤيتها ، يبدو أنها
تحبـك بكل جوارحها ، …تعشـقك..لم أر في حياتي قط مثل هذا الهيام والحب،
صحيح انني سمعت بـ((مم وزين )) و بـ ((ليلى والمجنون)) و لكنكما أضفتما
اسمين آخرين إلى قائمة العشاق، أتمنى لكما من أعماق قلبي بل أتضرع إلى الله
ان يوفقكما وأن احضر حفلة زفافكما فيما لو كتب لي ذلك.
المقطع السابع:
يا خابور...انطقْ بما شاهدته..يا شوارع الحسكة ..يا
حدائقهـا…يا جذوع الشـجر التي كتب عليها اسميهما ، أو حرفين منهما ورسم
قلبٌ أصابه سهم… يا مفكرة الجيب التي مازال يحتفظ بها اقلبي صفحات تلك
الأيام ، أيام الامتحان يوماً وراء يوم واقرأي كتابة همساتهما والمكالمات
الهاتفية...ابتهالاتهما الى الله سبحانه وتعالى للتوفيق والنجاح لهما.
المقطع الثامن:
توالت الأيام... اقترب يوم إعلان النتائج ، تسارع خفقان قلوب
الطلاب ومن بينهما الحبيبان ولسوء حظه لم يكن في البلد حينها ، فتسرع مع
زوج أختها لمعرفة النتيجة ، حيث تندفع وسط حشد كبير من الناس متلهفة
لقراءة الأسماء.
تلحظها إحدى الطالبات ، فتتجه إليهـا ، تبشـرها بالنجاح ومجموع
علاماتهـا ، لكنها لا تبالي بنتيجتها
وتقول : ابحث عن اسم آخر...
فردت الطالبة : مبروك مرة ثانية ، واقتربت من إذنها وهمست :
حبيب القـلب نـاجح ماذا تريدين بعد ؟؟
يا الله… قدماها ترقصـان فرحاً... أهداهـا الله سبحانه تعالى
جناحين لتطير بهما ، سعادة ما بعدها سعادة...لقد حقق لها ما أرادت واستجاب
لدعائها.
المقطع التاسع:
تركت قريبها في وسـط الزحمة وهرعت باتجاه بيت لأول مرة في
حياتها سـتطرق بابه ، دون خجل أو وجل ... وتطرق الباب:
-يخرج الأب منادياً :من بالباب...تسمع صوته فيذكرها بصوت
حبيبها..بنبراته ويفتح الباب.،.يفاجئ الأب بوجودها،.يعرفها ويعلم بحكايتها
مع ولده..
-نعم يا بنتي ، ما بك تفضلي...عسى ان يكون خيراً ؟
-خير عمي خير…فقد جئت ؟
-تكلمي يا بنتي،لم أعد احتمل أكثر من ذلك؟!
-جئت أبشركم..لقد نجحنا نجحنا نحن الاثنين.
فتطرق كلماتها تلا فيف مخه ، يخرس اللسـان من شدة المفاجأة ،
يتوقف العقل ويبدأ العاطفة و اللاشعور للتعبير عن فرحته...
يخرج المسدس الذي كان يحمله،يقدم الطلقة إلى الأمام، ولم يعد
يسمع سوى صوت الطلقات ووميضها من حين إلى آخر...وبعد لحظات ساد الصمت على
الجو المظلم..
المقطع العاشر:
يهرول الجيران والناس ، يحتشدون أمام الدار لدى سماع الطلقات
و إذا بهم يرون الفتاة ملقاة على الأرض على مقربة من الباب...غارقة في
الدم...
يذهل الجميع ، لدى مشاهد تهم ذاك المنظر الفظيع ،كانت يدها
مغموسة بالـدم وجملة مكتوبة إلى جوارهـا ( أحبـك يـا...) وفي الحرف الخامس
والأخـير من اسمه كانت السبابة متيبسة ومستقيمة.
التنهيدة الأخيرة مع
الفجر
قام ذات صباح كعادته دون منبه لاداء فريضة صلاة الصبح ،
استغفر ربه ثم تشهد وهو يتثاءب، لا يرغب بمغادرة الفراش،جسمه ثقيل وكأن
عظامه متكسرة لقد أمضى يوماً شاقاً في عمله وهو رجل كبير، مسن ، رجليه غير
قادرتين على حمل جسده ، قسمات وجهه وتجاعيدها تدل على تعب وشقاء هذا الرجل
طوال حياته.
- فرك عينيه ،...تثاءب ثانية ولكن هذه المرة لفترة طويلة حيث خرجت
معها تنهيدة مرهقة في نهايتها ..آخ..آخ .
استغفر بالله ...نظر إلى زوجته وقد تكورت باللحاف..نهض يفتش
عن ثيابه المكومة على الأرض ، وفي إحدى زوايا الغرفةارتدى ملابسه تحت ضوء
خافت من النواصة كي لا يزعج أولاده .
اغلق الباب وراءه بهدوء واتجه نحو الجامع القريب من بيته
ليلتحق بصلاة الجماعة ( فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من
فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) صدق الله العظيم.
كان في المراحل الأخيرة من الصلاة ...التحيات...المباركات...الـ…فجأة
تذكر عربـته التي يعمل عليها…استعاذ بالله…اكمل الآية والتفت يمينه ويسرة
أنهى الصلاة…أسرع نحو الباب ليصل الى حذائه .
انتبه المصلون الى حالته غير الطبيعية،لانه بالعـادة يبقى آخر
من يخرج...لماذا هذه المرة...؟ الله يعلم ما في الصدور .
انتعل حذاءه ، حاول الاسـراع ، رغم مشيـته البطيئة ، طالت
المسافة امامه، تكلم مع نفسه … اترى كانت موجودةأم لا…! اني لم انتبه…عندما
اصل الى الشارع سيتبين لي كل شيء…..و اخيراً ها..قد وصلت
اقترب الشارع ،بضعة أمتار...خطوتان ..وليتأكد من العربـة صدق
حدسه حين وصل . وضع يده على جبينه ليمنع انعكاس ضوء الكهرباء الباهر على
عينيه... نظر الى مكانها...
يا الهي...! إنها غير موجودة...أسرع بما فيه من عزم ،وقف في
مكانها تماماً ، وضع يده على خاصرته... وقف للحظات ... ثم اتجه نحو الشارع
الثاني.
-ر بما أحد الأولاد أخذها وتركها قريبة من هنا - تمتم مع
ذاته -... ليست هنا لانتقل الى الشارع….وهكذا انتقل من شارع الى آ خر ولم
يجد لها أثرا حتى أرهق من التعب .
رجع الى البيت خائباً...
فتح الباب بغضب،استيقظت زوجته مذعورة .مندهشة لتصرفه اشعل
الضوء، بدأ بالسباب والشائم.
- ماذا حصل...لم هذا السباب ؟(قالت زوجته).
-اختفت ..اختفت العربة ...مصدر رزقنا ورزق هذه الأشلاء ( مشيراً
بيده الى أولاده النائمين الصغار ) ... انهضي من مكانك يا لبرودة أعصابك
هه...كأن عربة الجيران قد اختفت.
-ردًت (بعد ان عرفت سبب غضبه):لعل من احتاجها لعمل ضروري أخذ ها
دون ان يوقظنـا من النوم …نم وارتح.
-نم وارتح( قالهـا بسخرية وهو يقلد صوتهـا وحركة فمها ).
-كيف سيأتيني النوم يا خانم وأنا اشعر بفقدها ...آه لو أرى الذي
أخذ ها...
-سألعن أباه ...سأخذ منه أجرة مضاعفة...لا.. لا دون أجرة المهم
ان يرجعها هذا يكفي.
-ابدأ سأسلمه للشرطة ...انه سارق وليس بذي حاجة ...المحترمون
يستأذنون ، لا يأخذونها دون علمنا
-كان يغفل حيناً ثم يستيقظ. ، ينهض وينظر من خلال النافذة ،
يتخيلها واقفة أمام الباب .. يتجه نحو الباب ، يفتحه بلهفة ولكن ...حتى
الخيال اختفى ،.. لا يرى شيئاً امام الباب...يعود الى غرفته متألمـاً
متحسراً وكأن حفنة من ملح قد نثرت على جرحه، بقى على هذه الحالةحتى وضح
النهار وأشرقت الشمس ، أحضرت زوجته سفرة الفطور ووضعتها امامه،لكنه احس
بمعدته تكاد تخرج من فمه وقال بصوت كئيب والحزن باد على سحنته : العربة لم
ترجع يا امرأة ...أنها سرقت بالتأكيد خذيها من أمامي لا اشتهي.
تثاقل بنهوضه،حمل نفسه وخرج الى السوق،يفتش عنها بين
العربات..في الازقة في الساحات في الزوايا الميتة ...في الخرائب لعله
يجدها، يسأل من يرى في طريقه...ولكن دون جدوى..شعر بنار جهنم تصعد إلى
نافوخه ألجم لسانه خارت قواه...رجع الى البيت محموماً... انها قطعة
منه..عكاز ته التي يمشي بها...لقد رافقته طوال الست والثلاثين سنة منذ أن
تزوج وهي شريكة حياته،لايفارقها لحظة..من البيت الى السوق.الى العمل ثم
العودة بها في فترة الليل.. دونها يفقد توازنه...اشتد هذيانه لاختفائها
ووقع طريح الفراش...
زاره الناس، أصدقاء و أقرباء ، فلم يفلحوا في إقناعه،كان
دائماً يفكر بها شارد الذهن كرجل عاشق تلظى بنار الفراق،يحن إليها لا يبالي
بالزوار...انه فقد قلبه وعقله منذ فقده العربة .
أجل لقد كانت كل شيء بالنسبة له ودونها فهو لاشيء شحب وجهه وهزل
جسده.استدعوا الأطباء ، شكلوا لجاناً لدراسة حالته وصفوا له أدوية ولكن دون
فائدة.
جلس مع طبيب نفساني، جلسات عديدة وبعدها اقترح بجلب عربة تشبه
عربته.
-بشروه برجوعها...
-قفز من فراشه واتجه صوبها ( ليضمها ويقبل أوتادها ليشم رائحة عرقه
وتعبه ... وحين رآها تمحصها . دار حولها ..لمس دوالبيها..ثم ابتعد وصاح:
اريد عربتي.. شريكتي..هذه ليست لي يا أوغاد..خذوها من
هنا..سأحرقها أكسر ها...
قال احد الحاضرين: ارحموا هذا المسكين ،ارأفوا بحاله،إنه مريض
يكاد يفقد صوابه اجلبوا له عربته...فهل ابتلعتها الارض... فتشوا في كل
الأماكن اقترح شخص ثان ، بان ينادى من خلال مكبر الصوت في الجامع...
واتفقوا على الاقتراح فنادى المنادي :
يا اهالي البلدة المحترمون
يا أصحاب النخوة والشهامة...لقد فقدت عربة منذ مدة.فمن رأها
أو لديه معلومات عنها فله مكافأة ثمينة.أن صاحبها يكاد يموت من
اجلها..ارحموا هذا المسكين 0وأجركم على الله والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.
مرت أيام..وأسابيع ،ولم ترجع العربة،نسي الناس حكاية العربة
وصاحبها...لكنه لم ينسها إذ ظل يفكر بها على الدوام،يحلم برجوعها ويقول:
لابد إنك في يوم من الأيام ستلتقي بعزيزتك ، بشريكة
حياتك،بحاملة همومك وأحمالك التي تنقلها من مكان الى آخر ...سترجع
إليك...ستدفعها وتدور بها من شارع الى شارع ومن حارة الى حارة وتمزح مع
الاطفال ،تحرف اسماءهم بقصد أو دون قصد..فتنادي..ها آنديراغاندي ماذا
تفعلين .اصعدي العربة ..واحذري ان تجرحي يديكِ..امري لله لقد اعتدتم على
ذلك وانت يا أسمر يا نلسن ما نديلا أيها الشقي اركب مع اختك ولاتخف، غداً
عندما تكبر ستصبح (بيشمه ركه).
ذات صباح وعلى إيقاع صوت المؤذن نهضت زوجته ونهرته في
خاصرته،قم الى الصلاة..لقد تأخرت عنها..ماذا بك..صلاة الجماعة و تركتها
0فهل في نيتك هجر الصلاة نهائياً.؟00
نهرته ثانية…لم يرد رفعت اللحاف عن وجهه...
صرخت وبصرختها استيقظ الاولاد مرعوبين، هرعوا باتجاه فراش والدهم
المستلقي بلا حراك.
انكبت على صدره أرادت ان تسمع دقات قلبه رفعت يده الباردة مسحت بها
وجهها حتى تبللت بالدموع، فلم تصدق إنه قد مات ،ذلك لأن عينيه كانتا
مفتوحتين و كأنهما تنظران لصورة عربة في البعيد.
محترم قبل الحصاد
دخلت عليهما الخادمة،ذات الستة عشر ربيعا،بثياب قصيرة و مريلة مشجرة
،توحي بألوان زاهية قزحية وصدر مندفع ، بارز ، تكاد تخرج من القميص عنوة حيث فُقِد زرّان من العروة ،وببشاشة وجه
و صوت عذب قالت لمعلمتها:
-رجل آخر على الباب000؟
بتثاقل و ترنح قامت السيدة مازال في كأسها ثمالة، وضعته
على صينية زجاجية تلمع كالألماس واستأذنت من جليسها بعض الوقت0
كانت تعتبر هذا الجليس ضيفا ، لذا كانت له معزة و اهتمام خاص،ولدى
مغادرتها طلبت له كأساً آخر من النبيذ المعتق
أما هو ، فقد مد يده الى طاولة قريبة لجلب مجلة فنية ، بدت
له من الغلاف ان معظم صورها مشوهة بقلم -البيك- حيث رسم شوارب لفتاة جميلة
من عارضات الأزياء،وزوالف و نظارات لممثلة معروفة ،وكتابات مبعثرة على فخذ
ممثلة،ورسالة عشق وهيام موقعة بحرف سين0
* * *
تحركت أكرة الباب،رفع بصره باتجاه الخادمة و الكؤوس المليئة
بالشراب،حيث وضعت أمامه على طربيزة خشبية،كأسه المخصوص 0وقالت بغنج:
-هذان الكأسان للمدام وعريس الغفلة0 وخرجت دون أن توصدالباب0
كان الجو صيفا،حيث نسمات الهواء تلفح ستائر النوافذ وتهزها
بلطف كرقصة سلوهادئة،وكأنها تستأذن بالدخول لتطارد ذاك الدخان الخارج من فم
الجليس وسيكارته0
وهو يقلب صفحات المجلة،سمع صوتا،أحس من الوهلة الأولى بأن هذا الصوت
مألوف لديه 000 سمعه بلا شك 000ولكن أين؟0000أين يا(000)0؟
-(نادى الخادمة وسألها بفضول) :تأخرت سيدتك0 فمن ضيفها العزيز يا
ترى ؟!000
-ابتسمت بخبث0000؟
-غني اذا ؟000لهذا أطالت الجلوس-القعدة- معه 0ونستني تماما0 هل
أصبحت خرقة بالية0000أم جيفة؟
-أبدا،سيدي0 أنت الكل0
-اذا ما تسويغك لتأخيرها0ألا يدل ذلك على أنني أصبحت في عداد000 -
ولم يكمل- فردّت الخادمة:
-سلني أنا؟ فهي تعترف لي عن مكنونات قلبها0
-بالطبع أنت أمينة سرها(قالها بسخرية)0
-نعم سيدي،أمينة سرها،أما سؤالك عن الشخص الموجود،فهو قادم من
منطقة الجزيرة0 أسمه 0000أسمه000(رفعت عينها باتجاه السقف و وضعت سبابتها
في فمها)0إسمه يبدأ بحرف الفاء على ماأظن0 فراس00فارس00فادي00أيوه تذكرت0-
وقبل أن تنطق باسمه - ازداد خفقان قلبه0
اسمه فؤاد0نعم فؤاد0000نعم 0نعم0
-وبعفوية تامة صاح : غير معقول،0000مستحيل أن يكون000-وتمتم
مع ذاته - قد يكون هناك شخص آخر يدعى بهذا الاسم 0 تهدل صوته وانخفض وقال
: الصوت 000النبرة000الحرف المدغوم لديه، ثم أردف قائلا :
لا000 لا 000لا أصدق 000انه رجل محترم0 أولاده أصغرهم أكبر مني
سنا 0
-ردّت الخادمة :أنت أيضا محترم، لم لا تسأل ذاتك ؟0أمثالكم
كثر0 أليس الداخل رجل كباقي الرجال، له مشاعر وغريزة000 ألم يهبنا الله
نعمة الشهوة ؟0وعلى ما اعتقد فقد وهبها للبشرية جميعا؟!000لم يفرق بين
محترم و غير محترم، أم أنت الذي تملكها و غيرك لا 000مثلما تبغي السعادة و
اللذة، بالتأكيد هو أيضا يطمح لذلك0000
-بالرغم من صغر سنك ،ألا انك تبدين لعينة0
-ابتسمت000
-ولكن لن أصدقك؟0بالتأكيد هذا الرجل ليس المقصود، قد يكون الصوت و
النبرة والإدغام تتشابه لحد ما 00حتى الاسم 000نعم الاسم 000أما العم فؤاد
الذي اعنيه فذاك مستحيل؟0
- لماذا مستحيل ؟0 ثم لم أنت قلق بشأنه ، أتعرفه ؟ أهو قريبك؟
أتخاف أن يراك هنا ؟0
-لا أبدا000 لقد ذهبت بعيدا000 بعيدا جدا 0 مهما حصل فأنا
شاب ، أما هو متزوج000وله أولاد ومثلما ذكرت لك فصغيرهم
أكبر مني000الا أنني أقولها ثانية لن أصدقك،مهما كان فالذي
أقصده فوق الشبهات ،هيهات أن يكون العم فؤاد ؟ انك تفترين؟
- ولم الافتراء 0 تفضل معي الى الغرفة المجاورة لترى بأم
عينك،و تتأكد بنفسك 0
-كيف ؟00أقابله !!00
- من خلف الستارة0 وتكون قد تخلصت من هذا القلق و التوتر 0000أوكي
!!00
* * *
اه 000ياأم ايفون!00ماذا فعلت بالرجل ؟000 وماذا حل به ؟
انه هو 0000هو بذاته 0فسماعه لكاسيتك المسمى بالليبيدو كاف بدخوله
لعالمك المخملي الغريب ، فكيف و أنت جالسة على فخذيه، وهو يلف خصرك بيد
ووضع يده الأخرى على أردافك المحشوة بالإثم و العهر 000انه في حالة نشوة و
سكر تامين0ابتعدت عنه الهيبة و الوقار،و ابتعد عنك قميصك الشفاف وصدرك الذي
يبرز فيه النهدان كإجاصتين ممتلئتين،مستويتين،
يمرغ فمه من ذقنك الى رقبتك بحركة انسيابية، و من ثم الى
حلمتك اللامبالية –لأنه قد مرّ عليها الكثير الكثير - ويترك
سائلا رطبا من البصاق الممزوج بالخمر على جيدك المحمر من القبلات و
العضات 000
* * *
آه000 يا جاري المحترم0000 يا ذا الهيبة و الوقار 000أين
الوقار ؟0
لقد نسيتك الملعونة كل شيء ،و لم تعد تتذكر بأنك تجاوزت الخمسين ،
وانك لم تتعر أمام زوجتك يوماً من الأيام بهذاالوضع0000 أين الوقار ؟00
أنسيت أشهر ما قبل الحصاد؟00أشهر الشؤم و الفقر المدقع ،أشهر
الحرمان ،حيث لا يملك معظم الناس المال في تلك الفترة - وأنت منهم - ويبقون تحت رحمة مصاصي الدماء (درا كولا المواسم )0 تتعرض أنت وغيرك
لاستغلالهم وجشعهم ولكي لاتذل لأي مخلوق فتُمضي - توقع -على السند حسب ما
يملي عليهم ضميرهم الغائب - القرش بالقرش - أنسيت ؟00معك الحق 0فأفخاذ أم
أيفون و خادمتها تنسي الهموم و المشاكل و السلف و العالم والوقار وكل
الأشياء0
يا لسوء طالعك،قطعت المسافات ،بعد انتظار طويل00
حصدت0000 وزعت 000و الباقي جلبتها معك لتنثرها بين (000) و تمسح
لعابك ،لأجل لحظة سعادة أو لذة وهمية0
آه 000لو تعرف بأنني وراء الستارة 000أشاهد فيلما سينمائيا أنت
بطله أو ربما ضحيته0000ولكن من سيصدقني 000من؟0
أأقول لأهالي القرية، بـأن صديقا أخبرني بذلك؟ لاأحديصدق0
أأقول أنني رأيته بعيني هاتين اللتين سيأكلهما الدود؟
سيقولون لي بالتأكيد،ماذا كنت تفعل في ذاك المكان0 و سأفضح ذاتي؟
يا لسوء طالعك وطالعي 000لأنني لم أستطع حتى البوح 0
أضيفت
في23/04/2008/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتب
اسمها والعيون
حفلة افتتاح المعرض لفنان تشكيلي مغترب، المدعوين من
الشخصيات السياسية و الأدبية والاجتماعية معظمهم من المغتربين ،باستثناء
بعض الرؤوس التي كانت تؤكد انتماءها إلى القارة الاوروبية0امتلأت الصالة
بالمدعوين ،وفي مثل هكذا مناسبة ، تبدو فرصة طيبة للتعارف ، حيث تسمع
القهقهات واللغط ،الضحك والابتسامات و في بعض الزوايا الهمسات 0 يؤكدون
للمشاهد على انهم قد انهوا جولتهم في المعرض0وهناك البعض ما زال يقف أمام
اللوحات بخشوع و تأمل0
كانت تنتقل بين الكتل الآدمية،تشاهد اللوحات بإعجاب و سرور
،لأنها المرة الأولى التي تزور مناسبة كهذه وفجأة تسمرت بمكانها وسرت رعشة
باردة في جسدها ،كأنها رشقت بسطلٍ من الماء المثلج ،بدأت بأطرافها حتى عمت
كامل الجسد ،انشل حركتها و خارت قواها، الأطراف لم تعد تتحمل الوقوف 0
العيون جامدة ،ثابتة باتجاه واحد فقط ، باتجاه لوحة تحاكيها بعيون جد
حزينة،كئيبة ،تسرد لها قصص و حكايات عمرها أربع سنوات خلت،مّرت خلال هذه
اللحظات،أوقات كانت مدفونة .000منسية000كامنة0لحين هذه اللحظة0
دارت عقارب الساعة إلى الوراء وهي مازالت جامدة- تتمتم -
والعيون مستقرة في اللوحة انه هو؟000هوبالذات ؟0
-سألت ذاتها - مع أن قلبي لا يخونني إلا أنني سأتأكد من
الفنان أيضا؟0
بتثاقل و بطئ شديدين خطت بضع خطوات نحو اللوحة وكأنها حاملة جبل من
الحزن
-أيعقل أن يكون 000؟
-وما علاقته بالفنان00؟
تشتت أفكارها في تلك اللحظات المريرة ،أسئلة عدة تريد أجوبة
صريحة،صادقة،انتبهت حولها وكأن عيون الحضور ثاقبة باتجاهها فقط 0
بالرغم من آلامها وأوجاعها إلا أنها تمالكت و حاولت أن تتظاهر وتبدو
طبيعية0 بادرت تلملم بعض من قواها المنهارة،تنفست الصعداء،رفعت جسدها
قليلاً ، تجولت بعيونها تبحث عن الفنان0تقدم نحوها شاب ذو هيئة مقلدة لشبان
الأوروبيين وابتدرها قائلاً:
-هالو
-هالو000انت00
-قاطعها - عفواً اعتذر نيابة عن الفنان،و أتمنى أن تكون قد
أعجبتك المعرض
-جداً!! لهذا طلبته0
-خدمة أخرى ؟
-ردّت بعصبية:أود رؤيته0
-يقول المثل : (الغائب حجته معه )، وقد لا يأتي هذا المساء0
-حسناً000حسناً0هل لي بمعرفة اسم
الفنان؟
-ألم تنتبهي إلى اسمه على اللوحة ،اعتقد أن الرسامين ينسون كل
شيء،حتى أمهاتهم ولكن لاينسون اسمهم وتوقيعهم على اللوحة؟0
-لا000أقصد اسمه الحقيقي0هناأغلب الأسماء فنية أو حركية مثلما
يسمونها السياسيون0
-كل ما أعلم أن اسمه آرشفين؟0
-كم كنت ارغب برؤيته؟ ألم يترك لكم عنوان000رقم
التليفون000او أي شيء للاتصال به 0
-لدينا عنوانه وإذا كنت راغبة لشراء 00000 - أثناء ذلك- سمعا
صوتاً يعتذر للجميع بسبب ظروف قاهرة اضطره للتأخير0كان الصوت الآتي هو صوت
الفنان
-ابتسم الشاب- وقال:
-أنت محظوظة يا أختاه ،ها قد جاء،وبإمكانك التحدث
إليه،والاتفاق على سعر اللوحة0
ازدهرت أسارير وجهها لقدومه،وتقدمت نحوه وهي ترنو إليه بشوق وحنية،كأنها
على معرفة به منذ أمد بعيد واقتربت حتى لاصقته0
-كان شاب متوسط القامة و المواصفات0 يكسوه شعر خفيف ذو جبهة
عريضة، حليق الوجه والشارب.يملك قدراً من الحنكة والذكاء 00لفت انتباهه
إلى تصرفاتها والى أسارير وجهها،ولمح في عيونها الذابلة شيئاً - قال في
سره - يبدو أنها تخفي سراً في ذاتها ،هذه التصرفات ليست إعجاب ،كما
انهاليست00000(0000)
وبحركة لا شعورية مدّت عنقها إلى الأمام قليلاً و وضعت يدها على
صدرها ،مقدمة نفسها إليه
-شاهي ؟000 أنا شاهي000أسمي الحقيقي
- آرشفين000أسمي الفني والحقيقي أيضاً0 (ابتسما بان معاً)0
-دعاني أحد الأصدقاء إلى الحفل0
-لي الشرف 0
-إنها المرة الأولى التي ازور معرضاً؟
-أتمنى أن يكون قد نال اعجابك0
-جداً00! ولهذا كنت أود رؤيتك؟
-بخصوص 0
-تلك اللوحة00! - و أشرت بإصبعها إلى اللوحة المقصودة .
-تقصدين لوحة (زمبيل فروش ) ما بها ؟!0
-لديّ بعض الاستفسار، لو سمحت ؟0
-تفضلي0!
تقدم الاثنان باتجاه اللوحة ،وازداد سرعة دقات قلبها ، اضطربت في
خطواتها قليلاً 0حاولت جاهدة أن تتمالك نفسها وهي أمام اللوحة 0أردفت قائلة
:
- في البدء أشكرك على هذا الفن الجميل الرائع،وعلى هذه الألوان
المنسجمة مع مواضيع لوحاتك وبصراحة لديك دقة حتى في الجزئيات، وبالأخص هذه
العيون التي تبحرك بعيداً بعيد ،هذه العيون الحزينة التي تكمن في قراراتها
أسراراً وحكايات 0والملامح التي تدلك مباشرة على كردية هذا
الوجه،000الشارب 00اللون الحنطي00سؤالي هو ، هل هذا الوجه حقيقي أم من وحي
خيالك ؟0
-بدت ابتسامة الرضى على الفنان- وقال:
-شكراً لملاحظاتك،كل ما ذكرته صحيحاً،بالرغم من أن هذه زيارتك
الأولى كما تقولين ولكن لديك قوة في الملاحظة ولا أبالغ أن قلت لك أن هذه
اللوحة بالذات غالية جداً لدي0وسأسر لك بان هذه العيون الحزينة وهذا الوجه
ليس من وحي خيالي ، بل هو وجه شاب غال اعتبره أخي وصديقي وأستاذي في الرسم
وهو الخيط الذي يربطني بالوطن0
- لدى سماعها بالوطن - انتابتها الرعشة ثانية وكادت تهوى على
الأرض،شعرت بدوار في رأسها 0بألم وحزن عميقين اعتصرت قلبها الموجوع،احتبست
البكاء في حنجرتها ،حجزت الدمع في مقلتيها فأصبحت تهذي و تتمتم:
-إحساسي كان في محله،عيناي لم يكذبانني،إذاً
هو؟
-نعم يا آنسة لم افهم ؟
-لاعليك ، إنها لقصة طويلة0
-أية قصة ؟
-قصة استاذك0
انتبه إلى هذه الكلمة ،تبادر إلى ذهنه شيئاً،فبادرها قائلا:قلت لي
إن اسمك شاهي ؟!
-نعم !
-يالله000يا للمصادفة000هل هذا معقول؟ كان يحكي لي في رسائله
عن حبيبته والغربة0وضرب يده على جبينه، يا لغبائي ،كيف لم استطع معرفتك منذ
البداية تفضلي معي إلى بار قريب من هنا لتحدثينني عنك وكيف وصلت إلى هنا؟
-حسناً00؟ سأتحدث لك ، ولكن اخبرني أنت عنه في الأول0
-تفضلي ؟
دخلا البار 000جلسا صامتين000اخرج علبة الدخان 0نظرت إليه وهو
يشعل السيجارة وقالت بلهفة ولوعة المشتاق :
-اخبرني عنه أرجوك؟
-وماذا أخبرك ؟
-عن كل شيء،أين هو الآن؟ ما هو ظروفه؟ هل تتصل به ؟
نعم اتصل به و أراسله بشكل دائم،انه إنسان عظيم -هز برأسه - نعم
عظيم وتقول الحكمة عن العظماء0 أن العظيم له قلبان،قلب يتألم و قلب يتأمل0
ارتسمت على شفتيها ابتسامة صفراء حزينة وقالت :
-لا اعتقد بان يكون للأمل بقية، بالتأكيد إنه يتألم، لأنني عشت معه
أحلى أيام حياتي ، كان في منتهى الرقة والأخلاق وعلى قدر من العلم
والمعرفة0كان جميع أفراد عائلتي يثنون له وموافقون على ارتباطنا0باستثناء
أحمق أميّ لا يفقه في الدنيا شيئاً هو ابن عم لي (خرجت من أعماقها تنهيدة
قوية – واستأنفت - ) فقد وقف في طريقي وحيرني،وتعلم ما معنى الحيارفي
مجتمعنا، أنها اوسخ مصطلح وعادة بالية يرفضها التمدن و الحضارة 0وبعقله
السقيم فرقنا عن بعضنا،وللأسف أيده العشيرة بذلك ووقفوا بجانبه ، عندما
طلبوا والدي للإنصاف - وكررت كلمة الإنصاف وهزت رأسها - ذرفت دمعة على
خدها 0واستأنفت ثانية - اتفقوا جميعا على تزويجي من شخص ثالث ، كوني رفضت
ابن عمي بشدة وهددتهم بالانتحار 0وكي لا ألطخ سمعة أبي بين العشيرة،انتزعت
قلبي من صدري0
- وتزوجت من الشخص الثالث ؟/ قالها الفنان بألم/
-نعم
-وأين زو000؟ - وقبل أن يكمل – ردَت قائلة :
لم نكن متفاهمين ،كان يعيرني بالماضي وكانت النتيجة ابغض الحلال
وضياعي هنا.
ملاحظة: التنهيدة الأخيرة مع الفجر , نشرت في ملحق جريدة
الثورة بعنوان العربة . لذا اقتضى التنويه.
الشبح ... والطريدة
في وسط السوق المكتظة بالناس تجمد عروقه, وقف
بمكانه وعيناه جاحظتان باتجاه شخص يبعد عنه بمسافة بضع أمتار , كان الواقف
يرتدي هنداماً أنيقاً , واضعا نظارة سوداء وكأنه بانتظار شخص ما .
حاول تغيير مساره وبسرعة البرق ولج إحدى المحلات
القريبة بحجة التبضع واشترى أشياء تكاد تكون غير ضرورية لبيته ودقات قلبه
الوجل في ازدياد مضطرد , انسل من المتجر دون إن يلاحظ عليه أحد ذاك الرعب
القابع في ذاته , استأجر سيارة بمبلغ كان سيكفيه لمدة أسبوع , بددت حركاته
غير طبيعية وهو داخل السيارة , ينظر خلفه تارة وتارة أخرى يسترق النظر من
خلال مرآة السيارة والعرق يتدفق من جبينه المليء بالتجاعيد بالرغم من سنين
عمره التي لم تتجاوز الخمسين , ومن حين لآخر ينظر إلى ساعته . كأن ميعاده
مع العزرائيل قد حان . وبحركاته المريبة تلك جعل السائق بسؤاله :
-ما بك يا أخ , هل تشكو من شيْ ؟ أرح من جلوسك
فالمكان واسع ...
-لا...لا..المكان واسع ولكن صدري ...؟
- ما به صدرك....!
-كاد يذبحني...
رفع السائق رجله عن مرجل البنزين ووضعها على الكابح
, فاندفع الاثنان إلى الإمام بحركة لاإرادية , التفت إليه السائق وقال
باستغراب:
-أتعني ... لاسمح الله أتتك نوبة جلطة !.
-لا .. لا.. رجاءا لا تتوقف , أسرع , أسرع
وبكلمات تمتم لم يتلقفها أذن السائق : باريت تكون جلطة لأخلص من هذا
العذاب والخوف .
-من ينظر إليك سيظن بأنك مطارد من أحد ؟.
-لا ... لا...فقط أشعر بضيق شديد . قد يكون الدخان
هو السبب .
-هل متأكد أنك بخير , إذا لم يكن معك نقود
بإمكاني إيصالك إلى الدكتور الذي تريده ؟.
-لا ... شكراً , فقط أريد أن تزيد من سرعة السيارة
- قال ذلك وهو بتصبب عرقاً – والتزم الصمت .
بعد حين صمتت هدير السيارة و توقفت إمام هنكار
تحيطها خضرة مكسوة بلآلئ بيضاء , تسو رها أشجار دوار الشمس الزاهية , حيث
يبدو للمرء وكأنه أمام لوحة جميلة تذكرنا بلوحة الفنان فان كوخ .
لاحظ السائق علامات الخوف والوجل مازالت مسيطر ة على
حالته بالرغم من وصوله بالسلامة إلى كوخه وعيونه الذاهلة من حين إلى آخر
ينظر إلى تلك الشرايين الترابية المؤدية إلى بيته , قدم ثانية خدماته
ومساعدته , إلا انه لم يرد ببنت شفة حيث أخرج من جيوبه النقود ووضعها بيد
السائق واتجه إلى الباب بدون أن يشكره أو يستقبله بكأس شاي , مثلما يفعل
القرويين الكرام .
تلمس السائق مقبض علبة السرعة وشفط السيارة بحركة
جنونية غاضبا من تصرفه الغير لائق .
خرج أولاده فرحين بعودته من المدينة وهم يتلقفون
تلك الأكياس المرمية على الأرض ولكنهم لاحظوا عليه تلك العلامات المحبطة
والميؤسة و التي ذكرتهم بأيامهم المريرة عندما كانوا في قريتهم .
أسرع أحدهم إلى والدته لأخبارها بحالة والدهم , رمت
ما بيدها وخرجت مسرعة الخطى وهي تردد ( عندما ذهب إلى المدينة لم يشكو من
شيء , أترى قد تشاجر مع صاحب الأرض , أعرف المزارعين الملاكين لايشبعون ,
أنهم كالجراد , يأكلون الأخضر واليابس , يستلفون النقود من كل الناس وعند
الحساب يقولون إنتاجنا كان خاسرا أو أن المصرف حجز على الأموال ) . دنت
منه متسائلة :
-ما بك يا رجل ...؟ ماذا حصل لك ...؟
-وبصوت خافت رد :لا شيء ...لاشيء .
-كيف لا شيء ووجهك أصفر كالليمون .
-كل ما هنالك تعبت من السفر .
-أي سفر يا رجل ؟! وهل تحسب مدة ربع ساعة سفر , لولا
الخجل من الناس بإمكانك الذهاب سيرا على الأقدام , المدينة قريبة , إنها
رمية حجر , ثم أنك تعمل في الأرض ليلا نهارا ولم يصيبك مما أصابك ألآن ,
أنت منهار تماما , انظر إلى نفسك في المرآة , أكيد تشاجرت مع المالك , أليس
كذلك ؟
-(هز رأسه ) ... نعم ..نعم ..تشاجرت معه , ارتحت
ألان ...؟ اذهبي وافرشي أن رأسي يؤلمني سآخذ قسطاً من الراحة وإذا غفوت لا
أحد يستيقظني , والتفت إلى أولاده قائلاً : هل فهمتم ...؟
ما أن أغمض عينيه , حتى رآه منتصبا أمامه بلباس أسود
فاحم وبلهجته المعتادة حيث فتح قاموسه المليء بالشتائم ومصطلحا ته التي
يجعل من المرء أن يندم طيلة حياته بأنه جاء على وجه الخليقة . وفي قبضته
الحديدية كبلا رباعيا لايعرف مذاقه إلا من كتب عليه الشقاء .
- لماذا هربت مني ولا..؟ هل تعتقد بأنك
ستنفذ بجلدك إذا هاجرت إلى محافظة ثانية ولا , لا.. يا (.......) أمثالك
لو تخبوا تحت سابع أرض , لو بدنا ... نجرك مثل (الك........)
-بس يا سيدي ...
-قاطعه – لا تبسبس ولا , شو نسيت أصول ألحكي ,
بهالسرعة .
-ياسيدي صار لي أربع سنوات بعيد عن أهلي , نسيت كل
شيء . وأنت لاحقتني إلى هنا ؟ تركت أرضي وقريتي وصرت فلاح عند العالم ولسه
عم تحاسبونني على شيء ما بفهم منه , أنا غير الأرض والزراعة ما بعرف شي ,
صدقني يا سيدي أنا بخاف من ظلي . هات يدك أبوسها. يا ناس اتركوني بحالي
والله العظيم نسيت .
-بس نحنا مابننسى شيء , كلو في اللوح المحفوظ ,
الارشبف جاهز وما نكذب .
-قال في سره : صحيح ما تكذبوا بس التلفيق على أبو
جنب .
-شو قلت ولا .
-لا ياسيدي ما قلت شي .
-شو ولا , عم تكذب كمان , شو قلت في سرك , نحن عم
نلفق على أبو جنب ولا , ورفع سوطه . دوى صريخه عاليا وهو يتوسل طالباً
الرحمة والسماح و بحرقة يقول : أنا كذاب , ياسيدي كذاب ابن كذاب .
ارتعبت زوجته وأولاده من ذاك الصريخ وتوجهوا إليه
وانتشلوه من الفراش مذعورين من حالة معينهم وهو مبلول بالعرق.
11-9-2007
عندما تصدع الجدار
تبدد أمواله هباء منثورا , وأصبح يعمل الآن وبعد أن ودع ربيع العمر
وشارف تخوم الخريف , بقوت يومي لا تكاد تكفيه مصروفه الشخصي , , لم يكن
يوما مبذرا ولا مقامرا , ولم يصرف قرشا في الحرام . وهذا واضح للعيان من
دخانه الذي هو أردئ الأصناف من التبغ . ومن ألبسته العتيقة التي مرت عقدا
من الزمن, حيث أغلبها من البالة .
كل ما في الأمر , أن ديونه لم تعد إليه , والسبب في ذلك طيبته وتعامله مع
الناس وتقديره لظروفهم الصعبة , و حسب رأي والده لو كان بإمكانهم الدفع
لما تهربوا حيث لا يوجد إنسان يريد أن يذل نفسه للآخر .
كانت أيامه , حلوة وسعيدة مع أسرته , ووضعه المادي لأبأس , ولم يكن بحاجة
لأي شخص , حتى أن بعض رفاقه كانوا يتمنون أن تكون حالتهم المادية والاسرية
, ميسورة كحالته الأسرية المتفاهمة والحالة المادية المستقرة . لكن يبدو أن
الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن . فكان زورقه الصغير يحمله مع أربعة أطفال
وأمهم , أحيانا , كانت تهب عليهم ريح خفيف من سوء تفاهم أو بعض الملاحظات
ولكن يتغلب عليها بالحكمة والتفاهم بينه وبين زوجته .
إلى أن جاءت يوما وسردت له حكاية أهلها وأهله , حيث باتوا يضايقونها
ويسألونها عن أموالهما وعن كيفية إنفاقها , و يقولون لابد إنكم تملكون
الكثير وقد تدخرون أموالكم في البنوك .
كان يستمع إليها وهي تتكلم , مبتسما , لما يدور برأس هؤلاء , من أفكار .
-قالت : وتبتسم , غريب أمرك يا أخي , أصبحت بينهم أضحوكة وأنت تبتسم ولا
يهمك شعوري وأحاسيسي .
- بالله عليك ماذا قلت لهم , نملك أموالا وندخرها في البنوك الوطنية أم
البنوك السويسرية ؟ أم لنا اسهم في الشركات وتجارة العقارات ؟.
-دعني اكمل الحديث , انك دائماً تقاطع حديثي ولا تسمعني - واستأنفت -
يقولون أن بيتنا غير مرتب وفيه الكثير من النواقص , ولاتصرفون عليه شيئاً ,
وأنتما الاثنان تعملان , زوجك في المحل , وأنت تقبضين راتبك , أين تذهبان
بمالكما , ثم أردفت - صحيح والله أنا أيضا أفكر مثلهم أحيانا - أين نذهب
بالمال , لا أكل مثل الناس , ولامطاعم , ولا ألبسة ولا مشاوير ؟. ودائما
نرى أنفسنا في آخر الشهر خالي الوفاض , صفر اليدين ؟.
-حبيبتي لو وضعت في يدك آلة حاسبة , كنت وقتها ستعرفين أين يذهب الأموال .
المصاريف باتت صعبة يا غاليتي , وبما انك تساهمين معي في هذا ولا تستطيعين
الدفاع عني , بل أصبحت مثلهم تشكين في ذلك ؟. فالأفضل أن تدخري راتبك أن
كنت شاطرة وذكية ؟ وأنا سأتكفل بمصروف البيت من الآن وصاعداً. لا تتضايقي
أبداً . لأحب الزعل بعيونك .
-لا تفهمني غلط , أقصد ............
-قاطعها : لاغلط ولاهم يحزنون , أنت لك راتبك ودخري كيفما تشائين , وهذا
حقك الطبيعي والشرعي وتصرفي به مثلما يحلو لك , وأنا سأتدبر أمري .
-وكيف تدبر أمرك , والشغل في تراجع هذه السنوات .
-لا عليك , سأبيع الشقة التي هي مازالت على العظم , وسأشتري عقاراً آخر
والفائض سنضعه بين أيدينا .
-لا يا حبيبي , الشقة باسمي ولن أتخلى عنها وأتنازل لك ؟.
-ولكن الدفعات كانت من حسابي !.
-إطلاقا .
كانت هذه أول عاصفة هوجاء تلاطمت زورقه الصغير , وبدأ أهلهما والوسط
الخارجي , يتهامسون بأنها لا تساعده , وتدخل الطفيليون في حياتهما وأصبحوا
يلقنوهما دروسا في الواجبات الزوجية والحياتية .
ويوم بعد يوم اتسعت الهوة بينهما , وتلذذت هي بالامتلاك وأصبحت شيئا فشيئا
تبتعد عنه ولم تعد تشركه أو تشاوره في كثير من الأمور وأصبحت تهمل تربية
أولادها كإهمالها لوالدهم .
25-6-2009
|