أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتبة: بيانكا ماضيّة

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 -مواليد حلب 1970

-إجازة في الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية، جامعة حلب،  1991

-دبلوم الدراسات العليا، قسم الأدبيات، جامعة حلب عام 1995.

-أعد رسالة الماجستير بعنوان (شعرية الفضاء في الرواية النسوية السورية) في جامعة حلب.

-كاتبة وصحفية وقاصة.

-عضو اتحاد الصحفيين في سورية .

-رئيسة القسم الثقافي في صحيفة الجماهير بحلب.

-عضو أسرة تحرير مجلة ديوان العرب الإلكترونية.

-عضو هيئة تحرير مجلة الضاد الحلبية لمؤسسها عبد الله يوركي حلاق.

-عضو اللجنة الثقافية والإعلامية لنادي شباب العروبة للآداب والفنون بحلب.

-أكتب المقال والدراسة الأدبية والزاوية الصحفية وقصيدة النثر والقصة.

-أنشر في الدوريات المحلية والعربية منذ العام 1994.

حائزة على  جائزة الدكتورة سعاد الصباح للإبداع الفكري في مجال النقد للعام 1995

عن النتاج الموسوم (المدينة في شعر نزار قباني)

الصادرة عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع (دولة الكويت).

 

طبع لها:

- سليمان الحلبي .. أول منتقم للعرب من العدوان الغربي الحديث،

دار الشرق الجديد ، دمشق 2007

 

قيد الطبع:

- رجل في الذاكرة (مجموعة قصصية) .

- ثمّة شيءٌ حارٌّ ودافق (مجموعة قصصية) .

- المدينة في شعر نزار قباني (دراسة نقدية).

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

قطار الزمن العابر

صورتان وشمس واحدة

 رجل الضباب

 

رجل الضّباب

  

هاهي شجرةُ الفردوسِ التي أحبُّ تفرعاتِها ...

إنها في أبعدِ نقطةٍ ضمنَ المشهدِ المؤطرِ الذي يرتمي أمامي الآن...

أحبُّ هذه السكينةَ التي تعطيها وقاراً ... كأنها ارتفعتْ ليكونَ إلى جانبِها رجلٌ قادمٌ إليها من المجهولِ ، يسيرُ إليها كمنْ يمشي إلى حتفه !

إلى أيِّ مصيرٍ تأخذُك قدماكَ أيُّها الرجلُ ؟

 

الطريقُ طويلةٌ ومازلتَ تحبو كطفلٍ نحو تلك الشجرةِ ولن تصل إليها، سأدعُك تتوقف في هذا المكان ...

بينَك وبينها أميالٌ من الاشتياق، وجبالٌ من الهدى، هيهات أن تصلَ إليها، ولن تصل، سأجعلُك ترى المكانَ ضبابياً ...

أنتَ الآنَ تنظرُ إلى البعيدِ، يأخذُك الشوقُ إليها، ويدبُّ الحنينُ في أوصالِكَ لتمسكَ بفرعٍ من فروعها ... لكنكَ لاتستطيعُ بلوغَ مأربِك؛ لأنَّكَ لم تدركْ بعدُ أسرارَ حقيقتها ...

 

كمْ همستْ لك بإيقاعاتِ جسدِها، بإيماءاتِ أصابعِها كي تدخلَ نسغَها، فتعرف من أيِّ جذورٍ تتشربُ، من أيةِ تربةٍ تسري الحياةُ إلى جذعِها؟؟!!

 

أنتَ سائرٌ وجسدُك مفعمٌ بالتيه، تبحثُ عن أقصر طريقٍ لتصلَ إليها، ولكن هاهي الطريقُ ...

سأجعلُها طويلةً وطويلةً جداً، وذاتَ منعرجاتٍ والتواءاتٍ كثيرة، ستشعرُ بالتعبِ وأنتَ سائرٌ في حدودِها الضيقة، فوقَ حصاها التي ستتعثرُ بها، ولكنك لن تملَّ فهي هدفُك وأنتَ من ترنو إليه بعينيها، بخضرتها، بتفتحِ أزرارِ صباها ...

هي كشجرةِ الزيتونِ، لايعريها شتاءٌ، ولايصيبها قحطٌ أو جدبٌ، ستبقى تومئُ إليكَ من ذاك الأفقِ البعيدِ، ولن تألو جهداً لتدلَّك إليها، لترمي إليكَ بثمارٍ ناضجةٍ يهفو قلبُك إليها لتلتقطَها مكللةً بالندى ...

تميلُ إليكَ بقدِّها فتخال أنَّ الضبابَ انقشعَ من طريقك، وأنكَ تراها الآن مثلما لم يرَها أحدٌ من قبلِك ...

ولكنك لم تدركْ بعدُ أيَّ الطرقِ أقصرُها إليها ...

 

سأجعلُكَ متعثّرَ الخطا، هائماً على وجهِك بحثاً عن رفيفِ خيالها ...

تظنُّ أنها هناك في البعيدِ جسداً مزروعاً في أديمِ بستانك، وأنَّ طريقَك إليها محفوفةٌ بالريحان ...

سأجعلُ سبيلَكَ مملوءةً بالأشواق، مترعةً بوهجِ الانطفاءِ، ينزعُ إلى أن تستظلَّ في واحتِها ملقياً عنك تعبَ الحياة، ولكنْ أنى لقدميكَ أن تصلَ إلى ضفافِها ؟!...

 

مازلتَ أيها الرجلُ الذي بعثرَ ذاكرتَه للوصولِ إليها بعيداً عن ظلالها المرميةِ أمامكَ ...

قدماكَ لاتزالان في خطواتهما الأولى، في حبوك الطفولي نحوَها، تَوَدّ أن تفترشَ أعشابها، أن تتوسدَ حضنَها لتأتيكَ الأحلامُ في غفلةٍ منك، وهي تَود أن تصنعَ لكَ أساطيرَ من عشقٍ وولهٍ واخضرار...

 انظر إليها؟

هل تدري أنها خبأتْ لك عناقيدَ السكر في رضابها، كي ترتشفَ رحيقَ روحها؟

تصنعكَ في خيالها إلهاً لمملكتها، إلهاً لايَود استعبادَها، تجعلك نبعاً يفيض زلالاً يسقي وجدَها، نبعاً تدفُّقُه أنهارٌ وبحارٌ وأكوان ....

 

هي مرآتُك ...

هل ترى في نورِ صفحتِها بهاءَك؟

غُص في أعماقها لتدركَ ذاتَك ...

أطلقْ لها تباريحَ الهوى وانظر كيف ستغفو على ساعديك هديلاً عزَّ عليه اليمام ...

مصلوبٌ أنت على جلجلةِ جسدِها، وتودّك أن تكونَ حلماً صاعداً إلى السماء بجناحيها ...

مابالُك لاتنسجُ من صباحاتها حكاياتٍ لأزمنةٍ لم تأت؟!

 

ستبقى في هذه الرقعةِ من المكان، ثمارُ لوزِها وجلنارِها والعقيقُ المخبأُ في لحائِها تنضحُ الآن ضياءً، وأنتَ بقامتِكَ البعيدة ترسلُ أشواقَكَ للحنايا، للزوايا، للندى على الأوراق، وتتزاحمُ الكواكبُ في مداراتك، وتبقى هي القمرُ المغتسلُ بماء روحِكَ ...

 

الطريقُ طويلةٌ يارجلُ الضَّباب، يا أيها المستحمُّ بنورِ وجهها، تخالها واقعاً، مسافةً من مدِّ الذراع، ولكنها حلمٌ يأتيكَ ليوقظَ الحنينَ في ذاكرتِكَ ...

 

تجترحُ لكَ المعجزاتِ وتلوِّن حنينَها إليكَ فتصنع لوحاتٍ من روحِها لم تخطر على بالكَ قطّ، وتخالُ أنك تدري جوهرَها، لكنكَ لم تبلغْ مداها لتدرِكَ سطوحَ ماسِها ...

ألم تأتِكَ في أحلامِكَ لتصنعَ عوالِمَكَ؟!.

لن تملَّ المسيرَ إليها ...

هاهي أمامَكَ في المدى البعيد، والطريقُ طويلةٌ إليها ...

سأفرشُها لكَ الآن ورداً وأقحواناً كي تقطفَ لها ألواناً من ربيعِكَ، فتخال الطريقَ قصيرةً، وأنت تلهو على ضفافِها!!!

سأجعلُ تلكَ الشجرةَ تفتحُ ذراعيها لك أكثر، كي تلمسَ مدى عشقِها لك، ومدى اشتياقِها لإطلالةِ وجهِكَ، وسأجعلُ هنا وميضَ قمرٍ ينيرُ دربَكَ!!

كم جميلٌ هذا المشهد الذي أمامي الآن، لم يبقَ شيءٌ لم أضعْه نصبَ عينيّ، كلُّ ملمحٍ فيه كائنٌ كما هو في مخيلتي !!

الآنَ بإمكاني أن أزيِّنَ الحوافَ بالألوانِ التي تناسبُ رجلاً وامرأة وقمراً يرنو إليهما من البعيد، يلقي بهمساتِه في دربِ ذاك الرجلِ؛ كي يلتقطَ هسيسَ حروفٍ يهديها نغمةَ قصيدةٍ لعينيها...

*      *      *

رجعتْ خطواتٍ قليلةٍ إلى الوراء لترى اكتمالَ اللوحةِ التي بدأتْها بجذعِ تلك الشجرة، بأغصانها وتفرعاتها، وكانت النشوةُ قد بلغتْ مداها في روحِها، ثم جلستْ على كرسيٍّ لايبعد كثيراً عن حاملِ لوحتها، بعد أن تركتْ ريشتَها وألوانَها جانباً، وراحتْ تتأملُ اللوحةَ وفي ذاكرتها رجلٌ خطواتُه تومئُ إلى أنه مثقلٌ بالحكمة !!!!

 

 

صورتان وشمس واحدة 

  

متوترُ الأعصاب، منفعلٌ، ذهنُه مشتتٌ ضائعٌ....

شيءٌ ما يغلي في عروقِ جسدِه، يجعله غيرَ مستكينٍ لحالةٍ واحدة، يذرعُ أرضَ غرفته ذهاباً وإياباً...

يضع يديه في جيبي بنطالِه كأنه ينتظرُ أمراً ما، ثم يخرجهما ليمسحَ بإحداهما جبهتَه التي تتصبب غلياناً ...

يحضّر فنجانَ قهوةٍ، ثم يجلسُ ليرتشفَه ....

 

يتخيَّلُ الآن مايجري في تلك البقعةِ من الأرضِ الفلسطينية، في ساحةٍ من ساحاتِ مدينة حيفا ... ساحةٍ امتلأتْ عن آخرها بسلالةِ شعبٍ تغلغل في سطورِ روايته الجديدة التي يتحدثون عنها الآن في حفلِ تكريمه...

 

ينهضُ إلى حاسوبه؛ ليرى إن كان أحدُ منظمي الحفل قد أرسلَ إليه تلك الكلماتِ التي تبحر في ثنايا روايته ...

لاشيءَ في بريده الإلكتروني ينمُّ عن حروفٍ وصلته من مكانِ أحداثِ الرواية ...

 

تضطربُ أفكارُه وتتصارعُ ويصمتُ المكانُ الذي يقبع فيه، تتجمدُ حروفُه في حالةٍ من الدهشة، ويئن قلمُه من فرطِ انفعالِ صاحبه ...

 

كلُّ شيء في منزلِه الكائنِ في مدينةٍ رُحِّل إليها قسراً يُصغي إلى دقاتِ قلبِه المتسارعة ...حتى الخيولُ التي كانتْ بطلةَ روايتِه تصهلُ الآن في الصفحات ...

 

لم يكنْ باستطاعتِه إلقاءُ كلمتِه في ذاكَ الحفلِ إلا عبرَ شريطٍ مرئيٍّ مسجل؛ لتطلَّ صورتُه عبر شاشةٍ كبيرةٍ نصبتْ على جدارِ الساحة ...

وما إن أطلَّ على الآلافِ التي احتشدتْ حتى راح الجميعُ يُصفِّق محيياً هذا الكاتبَ الروائيَّ الذي نأتْ به المأساةُ عن مدينته...

 ثم سادت حالةٌ من السكونِ والإصغاءِ لكلماتٍ تعبِّر عن فرحٍ وحزنٍ ... لكلماتٍ عبرتْ بحاراً ميتة لتصلَ إلى الأسماعِ ...

 

كان جالساً يتخيَّلُ هذه اللحظةَ التي يطل من خلالها على أبناءِ شعبِه الذي بيّض آلافَ الصفحاتِ عنه ....

ستون سنةً من تاريخِ هذا الشعب حتى احتلالِ أرضه، موزعةٌ على فصولِ الرواية ... وستون قطعةً استحال جسدُه إليها ..

 

لم تكن حالةُ الانقسامِ الجسديِّ وانكسارِ الروحِ التي يمرُّ بها الآن قد دهمتْه للمرة الأولى ...

كان في كلِّ فصلٍ من فصولِ الرواية مبعثرَ الأجزاءِ والذاكرةِ والروح ...

كان جثَّةً هامدةً مع آلافِ الجثثِ التي اصطبغتْ صفحاتُ الروايةِ بدمائِها.

 

عبْرَ الشاشةِ البيضاء التي ترنو إليها العيونُ، راح يُلقي كلمتَه مبتسماً للتقديرِ الذي يلقاه وهو بعيدٌ عن أرضه ...

وفي تلك الغرفةِ التي تحتضنه كان ثمَّةَ تجهمٌ على الوجه، وثمَّةَ دموعٌ تنفر من العينين ....

 

كان يشكر القائمين على الحفلِ لاحتفائِهم بروايتِه الجديدة في الذكرى الستين لاحتلالِ أرضه...

وبينَه وبينَ جدرانِ غرفتِه يلعن الساعةَ التي غابتْ فيها بلادُه عن عينيه .

 

لم يكن ليختصرَ روايتَه ببضعِ كلماتٍ يقولُها للحشود، ولا ليبرزَ معاناتَه وهو يكتبُ فصولَ الرواية ...

بل كان يحاورُ الموتَ بطريقتِه، يعلن انتصارَه عليه بفرحِ زمنٍ قد يأتي أو لا يأتي...

وبينَه وبينَ نفسه يكاد الموتُ يمزِّقه تمزيقاً، تكاد الحسراتُ والعبراتُ تعلن انتصارَها عليه ...

الجسدُ ملقى على الأريكةِ، والذاكرةُ تغوصُ في البعيد، والخيالُ متسمّرٌ في تلك الساحة ....

*      *      *

عندَ الجدارِ الذي يعلّقون عليه مصدرَ عذابي في هذه الساحةِ، تعرفْتُ إلى صديقةِ طفولتي، ولأول مرةٍ يدهمني عطرُ طفولةٍ عبقَ به أحدُ البيوتِ المجاورة لبيتنا ...

 

كانت تفكُّ ضفائرَها لتربطَ خصلاتِ الشعرِ المسافرِ مع النسائمِ بشريطٍ ملوّنٍ ...

يومَها أمسكتُ بذاك الشريطِ لأربطَه لها بيديّ، فسرتْ في نفسي ليونةُ الشعرِ المنسدلِ ....

سألتني : هل رأيتَ البحرَ؟

 فأمسكتُ بيدها واتجهتُ بها صوبَ الشاطئ ...

كنا نركضُ ونلتفتُ إلى آثارِ أقدامِنا على الرملِ المذهّبِ ...

 

في الأفقِ البعيدِ لاح لنا قاربٌ صغيرٌ يتهادى مع الأمواجِ، وَددنا لو كنا في ذاك القاربِ وسطَ البحر نمعنُ النظرَ في زُرقةٍ مخضّبٍة باللون الأخضر ... ننظرُ إلى الأسماك التي تحيطُ بالقارب، نمد أيدينا إلى سطورٍ تنفلتُ من مياهِ البحرِ، نرشُّ بعضَنا برذاذٍ يبقى أثرُه على وجهينا.

جلسنا على رملِ الشاطئ نبني بيوتاً وأحلاماً، نرسلُ تفاصيلَها لموجةٍ تعبرنا، نصنعُ زوارقَ من صفحاتِ دفاتر كانتْ بجعبتنا ...

 

اعتاد الشاطئُ أن يرانا كلَّ يومٍ قبل أن تودعَه الشمسُ لتغوصَ ملوّحةً بلونها البرتقالي ...

واعتدنا أن نرسلَ كلَّ يومٍ زورقاً نكتبُ فيه عنواني أغنيتين، واحدٌ بخطها، والآخرُ بخطي ...

كانت آخرُ جملتين وشمناهما على سطحِ الزورقِ : (راجعين ياهوى راجعين .. و... نحن والقمر جيران) ...

ومذاك اليوم لم أعدْ أرى قمرَ جيرانِنا.  

*      *      *

نظر إلى قلمِه، أصاخَ السمعَ جيداً إلى أنينه ... كانتْ قطراتُ الحبرِ تموج تأوهاً، والصفحاتُ البيضاءُ تغويه لملئِها بحكاياتٍ بعيدة...

وانتفضَ القلمُ من حزنِه، رافضاً لونَه الأسود ...

وراح يدوِّنُ بلونِ روحه فصولَ روايةٍ جديدةٍ يمسكُ في بدايتها بأطرافِ شمسٍ كانت تغيبُ في الأفقِ وفي عينيها زورقٌ وأغنيتان .

في بدايتها بأطرافِ شمسٍ كانت تغيبُ في الأفقِ وفي عينيها زورقٌ وأغنيتان .

 

 

 

قطارُ الزمنِ العابر

 

  

كانَ يسيرُ مسرعاً نحو سيارتِه التي ركنَها إلى جانبِ الرصيفِ، يَودُّ اللحاقَ بالقطارِ قبلَ أن يُطلقَ صفيراً معلناً رحيله...

أمسكَ بمقودِ السيارة بعد أن أدارَ مفتاحَها، واستعدَّ للانطلاق، نظر إلى يسارِه فوجدَ امرأةً أطلَّت عليه في هذا الصباحِ الدافئِ دفءَ شمسِ آذار ...

نظر إليها نظرةَ من يرى امرأةً جميلةً للوهلةِ الأولى ...

هالَه شكلُها وجمالُها، لكنَّ النظارةَ الشمسيّةَ التي تضعُها على عينيها أبعدتْ عنه بعضاً من تفاصيلِ وجهِها ...

 

رأتْه في ذاك الصباح الباكر من خلالِ زجاجِ نافذةِ سيارةِ الأجرة التي كانت تقلّها إلى المحطة ...

لم تعرف كيفَ طلبتْ من السائقِ أن يتوقفَ لتعطيه أجرتَه فتترجلَ مسرعةً نحوَه، قبل أن يسيرَ بسيارته فلاتستطيعُ اللحاقَ به.

 

لم يبقَ غيرُ خطوتين وتصبحُ إلى يسارِه ...

وفكَّرتْ في أن تسرعَ قليلاً فتمرَّ من أمامِ سيارته لتفاجئَه بكاملِ حضورِها ...

ولكنه التفت إلى يسارِه فرآها ماثلةً أمامه ... وجهاً لوجهٍ وزجاجُ النافذةِ بينهما.

*      *      *

في اللقاءِ الأخيرِ الذي بقي مترسخاً في ذاكرتِها أعلمها بأن إحدى الجامعات الخليجية قد عرضتْ عليه العملَ ليكونَ من بين أساتذتها، وبأنه كثيراً ما كان يحلمُ بهذا العرض حتى أتاه في وقتٍ عصيبٍ جعله محتاراً بين قبولِه أو رفضِه، بين البقاء في دائرةِ حياتِها أو الاستسلامِ لحلمٍ مازال معششاً في الذاكرة ...

 

كان وقعُ الخبرِ على أسماعها ثقيلاً جداً، كان صاعقةً نزلت على رأسها فأبقتْها من دونِ حراك...

راحت تنظر إليه وهي تراقبُ حركةَ شفتيه من دون أن يصلَ إلى أسماعها صوتُه ...

كان ذهنُها شارداً في قاعةٍ من قاعاتِ تلك الجامعة، تتخيله كيفَ يُلقي على الطلاب محاضراتِه ... وهي هنا تعد الساعاتِ والأيامَ إلى حين عودتِه ...

طلب منها أن تساعدَه في حلِّ هذه المعضلة ... لكنها لم تقوَ على التفكيرِ، كانت جسداً هامداً من دون حياة .

 

كانتِ الأيامُ التي فرقتْ بينهما تسير بخطا وئيدة، ولكنه لم يكنْ ليغيبَ عن ذهنِها لحظةً واحدة...

مرّت السنةُ الأولى من رحيله وهما على تواصلٍ وتراسلٍ دائمين، إلى أن جاءَ يومٌ انقطعَ فيه اتصالُه، ورسائلُه الإلكترونية ...

ومرّت الأيامُ من دونِ أن تعرفَ سبباً لهذا الانقطاع، حاولت الاتصالَ به غيرَ مرَّةٍ ... لكنَّ أحداً لم يكن ليردَّ على صوتِ الرنينِ المتواصلِ لهاتفِه النقّال، أو يقطعَ صوتاً يعبرُ الهاتفَ الثابتَ في بيته بكلمةٍ واحدة، أو يردَّ على الرسائلِ التي امتلأ بريدُه بها .

 

بدأت الهواجسُ تتسربُ إلى ذهنِها، وبدأت الظنونُ تنهش تفكيرَها ...

تُرى هل أصابه شيءٌ ما؟

هل هو مستلقٍ على سريرٍ في أحد المشافي بعد أن حدث له مكروهٌ؟

هل رأى فتاةً أخرى فوقعَ في حبِّها؟

هل نُقل إلى مدينةٍ أخرى ولم يستطعْ بعدُ الاتصالَ بها؟

 

كانتْ حين يرنُّ هاتفُها النقال تخال أنها ستسمع صوتُه آتياً من البعيد، معتذراً عن غيابٍ طالَ وطال ...

ولكنها لم تعد تسمعُ صوتاً أصبحت نبرتُه صدىً يتردد في أسماعِها...

 

كانتْ حين تعودُ إلى بيتها تركضُ مسرعةً إلى حاسوبها، لترى إن حملتْ إليها إحدى الرسائلِ اسمَه وعنواناً للاعتذار ...

 لكنها في كل مرةٍ تجدُ البريدَ خاوياً من الحبِّ والشوق ...

 

ومضتْ سنواتٌ من دون أن تجدَ أجوبةً لتساؤلاتِها، مضتْ ولم يبقَ غيرُ ذكرياتِ الحبِّ التي تأكلُ جسدَها لتجعلَه واهناً ضعيفاً...

*      *      *

لم تكنْ تَودُّ في ذاكَ الصباحِ الباكرِ أن تستقلَّ القطارَ، لتسافرَ إلى تلك المدينة التي ستلقي فيها قصائدَ من عشقٍ وولهٍ ...

كانت ترغبُ في أن تستقلَّ إحدى الحافلات كعادتِها ...

ولكنها في اللحظة الأخيرة غيَّرتْ رأيَها، فودت أن تستمتعَ بالمناظرِ المتناثرةِ على جانبي الرحلةِ السريعة، بعد أن لم تكن ترى في الحياة طريقاً نحو نهايةٍ ...كانت تراها عبثاً يجعلها تعيش بلاجدوى، أياماً تمر يشبه أحدُها الآخر، لاشيءَ يجلب السعادةَ إليها سوى صوتٍ عابرٍ من فضاءٍ بعيدٍ يعيد إليها سرَّ وجودِها.

*      *      *

حينَ رأتْه انتفضَ شيءٌ ما في داخلِها ...وانطلقتْ كالبرقِ لتفاجئَه بوجودِها أمامَه ...والتقى الوجهانِ وما بينهما نافذةٌ زجاجية وزمنٌ مضى ...

وقفت قبالته لتنظرَ في عينيه، لترى لونَ وجهه، لتحلَّ لغزاً، فتزيحَ عن كاهلها كابوساً أرّقها طوالَ سنواتٍ ...

*      *      *

في زمنٍ ما كان ثمَّةَ ذاكرتان أفقدهما البعادُ وهجَ عشقِهِما ...

وفي مكانٍ ما من المدينة كانَ ثمَّةَ محطةٌ تنتظرُ أقدامَ مسافِرَين تاها عن بعضهما ...

وفي قطارٍ سريعٍ كان ثمَّةَ مقعدانِ متجاورانِ لرجلٍ وامرأةٍ، ونفقٌ طويلٌ يعبُران من خلالِه أزمنةً وأمكنةً وحكايةَ حبٍّ لامرأةٍ أخرى لم يُحكَ عنها فيما مضى. 

 

أضيفت في 01/06/2008/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية