رائحة دمشق
اللحظات الأولى للوصول إلى العاصمة أفرزت أسئلة متوحشة قياساً
لاحتمالي الذي صار أكثر هشاشة الآن. بدأت أعيد ترتيب الأولويات.. الكتابة؟
أنت؟ المدينة؟ أم هذا العمل الذي يأكل كل الفرح، وينتهك استرخائي صوب
الكتابة، وصوبك؟
* * *
الكتابة لغز مربك تحله الصدف الغبية والمحيرة. فنجان قهوة مع عيني
من أحب. ارتحال معاكس من موانئ مسالمة وميتة إلى بحار مرهقة ومثيرة للصراخ
والأرق. (لم يختلف تعريف الكتابة كثيراً عن الحب).
أن أكتب كان استسلاماً رسمياً للجنون. هروباً من إيقاع الرتابة
والقلق. تلويناً على شحوب هذه المدينة.
هذه المدينة تدفع ثمناً باهظاً لمزاجي. لم يتبق لها مساحة لا للفهم
ولا للحب. لم أعد أر فيها إلا انزلاقاً سهلاً لكل خصوصية أملكها. سقوطاً
فجائعياً لذكريات كانت هوية أتنفسها ووطناً آمنُ ليله.
كانت دمشق ذريعة للكتابة. (الكتابة هي الرجل الوحيد الذي سأحبه
للأبد).
دمشق طريق باتجاهين، وأنا أمشي على الخط الفاصل. يلطمني الوقت من كل
اتجاه، وأنا سارحة عن الوقت، ببلاهة أبحث عنه.
* * *
ـ أية خسارات يا رجل..؟ تعودت على خسارة كل شيء بينما الكل يصفق لوصولي.
ـ ...
أصل موانئهم. أفتحها بعلم أبيض، وأشرب نخب الاستحالة. استحالة
العودة لميناء يخص الروح.
أية خسارات، وأنا لا أملك سوى أرقام تدهشهم. بينما يرسخ إيماني
بأني مفلسة.
ـ روحي مفلسة يا رجل. روحي لا شيء.
ربما لو لم تكن بالبال لصار الوضع أفضل. رهانات الفشل بغيابك أقل،
والوعي أكثر تحرراً وأقدر على التفرغ للعمل ومواجهة هذه المدينة القبيحة
التي رمتني التجربة دون رحمة في حضنها.
* * *
أنا متعبة من الحلم.. متعبة منك.
لو أنك فقط قصيدة أو ضوء أو وردة بيضاء. لكنك حلم راقص ومشوش. حقيقة
رهيبة لا أحتمل قربها. هل عليّ أن أركض سريعاً لألاحق توترك؟ أن أنضج حالاً
قبل أن تغيب شمسك، وأبقى العمر أتحسر على سكّر كان سينضج في روحي؟
دمشق لن تمسك بي، ولن تمسك بك.
دمشق أبطأ من حزني، وأقصر من قامتك.
إنها لن تكون قصيدتي، ولن تمسك بقبلتك. دمشق امرأة باردة تغويكم
جميعاً بالبقاء. لتفجر فيكم قناعة أبدية بالعجز، وأسئلة يابسة عما حدث؟ ما
الذي حدث؟ وأين؟.. أين..؟
دمشق قلبكم.. قلب قلبي الذي يموت. تفاحة أشتهيها دون عقاب. دون إله.
ـ يا رجل ينساك الإله هنا.
* * *
ـ عاجزة أنا..؟ أجل..؟ باردة..؟ هل تمهلني عمرك؟ نعم كل عمرك. لأكون كأساً
تستحقه عيناك. أنت الجميل كقطرة ماء منسية على طاولتي. كحبة سكّر هربت من
شاي أحمر. أنت قصيدة لن أفهمها. أغنية ستمل غداً الهبوط في أذني.
* * *
أسوأ ما حدث في المؤتمر الطبي أني لم أجد شخصاً يكلمني سوى موظف
الأمن السياسي.
عندما اقترب مني اعتقدته أحد المدعوين، لكن لسانه غدر بسره. ثم أخذ
يهذي ويثرثر بلسان ثقيل، وحواس شاردة. كانت دمشق الآن عارية، دون لمسة عهر
واحدة تواجه بها العالم.. عارية دون أن يلتفت إليها حتى المشفقون.
* * *
لم أكن أفعل شيئا سوى الهرب من أضوائهم. أختبئ في عتمة تغطي تعبي
واشتياقي لرائحتك. كانت دموعي التي امتصها الليل حكاية لتبرير الفشل. حكاية
لن يسمع بها أحد سواي. وسيصدقها الجميع إلا.. أنا.
* * *
أنت آخر ما تبقى. وأنا سأتجرع هذا الوهم. لأني دائماً أذكرك غواية
حارة.. وأشياء لن تحكى.
حين اجتمعنا لم أكن شاردة عنك. كنت أحصي الخسائر الفادحة التي ستحل
عليّ في أقل من سنة. أخسر اللغة، ثم أخسرك، ثم أخسر عملي، وأبقى وحدي هنا
وسط الأنقاض.
العمل في المستشفى أكثر ما يرهقني، والمدينة ليست أقل قسوة. إنها
لحن صاخب أعزفه وأنا أتمزق. إني أضيق.. لن يسعني سوى بحر اللاذقية الآن.
* * *
كان مسؤول الأمن يراقب حركاتي. ارتاب من شرودي وانزوائي. يحفظ حتى
عنوان الكتاب الذي انتشلته عن طاولة العرض. حدثني مجدداً. إنه يواسي
اشتياقي لمدينة صغيرة تثير بكائي. هو الآخر تمزقه مسافة منسية في البال.
هاهي دمشق تلتهمه في دقائق. وأنا أحتفي بوليمة الخسارة، وأبحث عن صوتك.
إنهم يريدونني هنا. يدفعون في البداية ثمناً ضئيلاً. وأنا لا أريد
منهم سوى وطني لأنام ليلة معه دون عيونهم، دون نقودهم والخوف.
* * *
وقعت كل أنابيب الدم من يدي اليوم. لم يكن ينقصني مبرر جديد لكره ما
أنا عليه.
متعبة ولا أعي ما يحدث.
لو كنت في اللاذقية، لأسرع كل المخبريين لالتقاط الزجاج والدم
بالتأكيد..!
دم على البلاط.. على المريول الأبيض.. على حذائي.. دم آخر ينزل من
وجهي. من رأسي. من حلم نازف.
أجمع البقايا وحدي. ألتقطها وحدي. أصابعي يجرحها
الزجاج.
لم يكن مهماً أن تنزف أصابعي، لأني لم أنتبه إلا عندما جلست معك.
كنت تساعدني على اكتشاف ألم لم أستطع تشخيصه، حين وجدنا ألف جرح في يدي.
ـ يربككَ الدم؟ أما أنا فيخنقني. إنني أعبث به يومياً. هل تعلم ما الذي
يقف بين الدم والحبر؟ ـ ..أنت! مفترق ضبابي أقف عنده ريثما يذوب ملح هذا
الحضور الطارئ.
أسوأ علة في الحواس أنها تتبلد مع التكرار..تنطفئ. غيابك المنتظر
موت لم يعد يخدشني، صار وجبة يومية للخيبة.
أنت لك منحدر أكيد نحو سعادتي المصلوبة فوق الدم والحبر.
الزمن ليس أكثر من تظاهرة رقمية، فيه الدم حقيبة تحوي ملايين
الأرقام.
الحبر... رائحتك الممزوجة بشمس لا أعرفها.
...
ـ هذا جرح جديد في الإصبع الصغيرة.
ـ إنه ينزف بك. جروح أصابعي أطفال لعينيك.
ـ ..
ـ ربما يجف كل شيء.. حتى مللك.. لكن أصابعي ستظل تنزف أبداً
ـ ..
ـ وعد.. هذا وعد.
أضيفت في
03/06/2008/ خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
كل هذا الغبار
عندما عبر الساحة خُيل له أنه حجر شطرنج وحيد، بلا رفاق، بلا أعداء، وبلا
حدود.. لا شيء سوى ملايين المربعات الملونة التي تمتد وتمتد. هناك انقباض
مزعج في داخله. حلم حبيس وجسد رخوي. لا يملك شيئاً سوى يدين يضعهما في جيبي
بنطلونه الجينز وعينين تصلانه بهذا العالم. يُخيل له أنه لا يرى سوى
العجزة. وجوه سبعينية. ثمانينية. يبدو أنهم لا يموتون هنا. يستمرون إلى
الأبد.
* * *
عبْر الدرابزون الأسود لمحها تنتظره على طاولة مطلة على الشارع
شاردة تعبث بمنفضة السجائر. جلس قربها. تبتسم له، تعيد تفحص ملامحه. لحيته
اليوم طويلة، ثيابه أقدم من أن تصلح للقاء. شعرت بالخيبة.
نظر إليها. أنثى تعج بالنحل. رائحة ناعمة ووجه توقف أمام المرآة قبل
مجيئه. أطرق رأسه وغاب. غاب كجسد يغوص في البحر ويبتعد.
ـ سالم..!!
يرفع رأسه ببطء. يهذي.
ـ الصيف حار وجاف.
* * *
أحضر صبي الكافيتيريا فنجاني قهوة. أخرجت من حقيبتها علبة سجائر.
ناولتها لسالم..
ـ لا تكن أحمق. في المرات القادمة سترد لي كل علب السجائر.
أخذت تشرب القهوة بتلذذ.
ـ فناجين القهوة كالوقت.. فنجان الصباح شمس. فنجان الوظيفة ماء فاتر. ومعكَ
الفناجين الأشهى.
ـ سحر، استمري في الكلام علك تعيدين الهواء.
ـ وعندما أنتهي..؟
ـ نعود إلى بيوتنا.
* * *
أخرجت من الحقيبة أوراقاً قليلة. كان في عينيها يرقص النحل مجدداً:
ـ كتبت سيناريو فيلم جديد.
ـ لتضعيه على الرف.
ـ لأصلي بهِ.
ـ الرب يكره السينما.
ـ وأنا أكرهك.
لم ينكسر كأس الكريستال. لم يلمح دمعاً في عينيها. تبدو نزقة اليوم.
لم تعد تتحمل استفزازًا شارداً وغير مقصود. أمسك يدها.
ـ هل ستحكي لي حكاية هذا الفيلم..؟
شعرت بأنه من العبث رواية فيلم سيتوه بأحسن حال في أذنين شاردتين.
لكنها تجاوزت رغبتها بالصمت وأكملت..
ـ إنه فيلم قصير، لو يتبناه نبيل المالح مثلاً سيخرج منه تحفة ساحرة..
ـ نبيل المالح؟ (يضحك سالم) هاتِ إذاً.
بدأت تحكي. كان يدخن ويسمع دون انفعالات.
* * *
طفل في العاشرة. أشقر نحيل. يلبس بنطلونا قصيراً ويضع حقيبة على
ظهره. المشهد مأخوذ في شارع من أطراف المدينة. قليل من الناس يعبرون. يمشي
الطفل بهدوء وينقل بصره بين السماء والبنايات الصغيرة. يقف فجأة أمام بضع
درجات.. لكن نحو الأسفل.
ستنزل الكاميرا لتكشف لنا حائطاً زجاجياً غطاه الغبار والطين والوسخ. غبار
عشرات السنين حوَّل الزجاج لحائط أعمى.
* * *
ـ هل الطفل يتيم؟
ـ لا أعرف..
ـ تابعي..
تبتسم. تقرب وجهها من وجهه وتتابع بإيقاع أبطأ..
* * *
ينزل الطفل أربع درجات. يقف أمام الحائط. يبلل إصبعه بلعابه، ويمسح
دائرة فوق الزجاج. الكاميرا تقترب من البقعة لتأخذ مكان عين الصبي.
خلف الزجاج غرفة صغيرة مزدحمة بأثاث عتيق وأغطية مهترئة. سقفها واطئ
بشكل ملفت. على الجدران صور بالأسود والأبيض، والدهان متقشر أصفر. ستبدأ
الكاميرا رحلة اكتشاف هذه التفاصيل الصغيرة، ثم تستقر فوق سرير نحاسي ترقد
فوقه عجوز ذهب لون جلدها مع شمس لم ترها منذ سنين.
ـ سأقترح أن تؤدي دور العجوز ممثلة بدينة.
ـ العجائز ينحلون مع العمر.
ـ عجوزي هذه ستكون بدينة.
* * *
العجوز تدير وجهها نحو شاشة تلفزيون صغير، فُرش فوقه غطاء صوفي
أبيض، وتخرج منه صور بالأبيض والأسود. الآن تعود بنا الكاميرا للصبي
الصغير. سيكون هناك تركيز على الاختلاف بين إضاءة الغرفة وإضاءة الشارع.
الصغير يمد ثلاثة أصابع ويمسح الغبار، ليصنع عدسة لعينه الأخرى.
الكاميرا تعود للغرفة. تصور طاولة خشبية تعلوها أرغفة يابسة وإبريق
ماء وفوضى من علب الأدوية. ثم تنتقل إلى العجوز لتصور اكتشافها بقعتين
ضوئيتين على حائطها المعتم، وتركز على ملامح العجوز كيف تشحب وتزداد
بروداً.
* * *
عتمة خفيفة تغطي المدينة. تململت سحر قليلا.
ـ ستذهبين؟
ـ نعم. قبل أن يحل الليل.
افترقا عند بداية الشارع المؤدي إلى منزلها، خشية أن تراهم عيون
الجيران الفضولية.
ـ سحر. سأراك غداً وتكملين بقية الفيلم.
* * *
أتت سحر بثوب جديد. التقت بسالم عند بوابة الكافيتيريا. دخلا معاً
وجلسا إلى طاولة جديدة. كان يشعر بأن شِباك عنكبوت تقيد أصابعه. حرك يديه
وقطب حاجبيه. سحر تذكرت (بلاد أضيق من الحب). نظرت بنفاد صبر إلى طاولات
الكافتريا والناس. تكلمت بصوت عال:
ـ يبدو حقاً أن بلادنا أضيق من الحب.
ـ... ...
ـ ونحن نضيق و نضيق.. فلا نتسع حتى لأنفسنا.
سالم نظر للناس من حوله، شعر بأنهم جميعا محاصرون، ضيقون عاجزون حتى
عن الحلم. حبس عن سحر رغبته الملحة بالبكاء وأخذ يدخن. شعر بأن الطاولة
التي تفصلهما هي الشيء الوحيد الذي يجمعها بديلا عن بيت أو شقة يمكن لها أن
تأوي عاشقين بكل ما يحملان من رغبات وأحلام وهموم.
ـ أنت صامتة اليوم. ألن تكملي حكاية الفيلم؟
ـ ..
ـ ..
ـ كم أرغب بسماع أغنية لأميمة الخليل. لصوتها القادم من غابة سنديان من
أعلى جبل..
أخذت تغني بصوت منخفض. أشعلت سيجارة وسألته.. هل أكمل قصة الفيلم؟
* * *
يوم جديد.
الصبي عائد من مدرسته يترك رفاقه الصاخبين ويقترب من الحائط. تطل
عيناه من الفتحتين ـ العجوز في سريرها تشاهد التلفزيون ـ ينقر لها على
الزجاج. تراقبه، ولكن بانفعالات جديدة. ومن عينيه يسيل فضول طفولي أزرق.
* * *
يوم جديد.
يبدو أنه الجمعة. ستصور الكاميرا عيني العجوز معلقتين بشهوة وصمت
على البقعتين المتروكتين على الحائط الزجاجي. لن يأتي الصغير.
* * *
يوم جديد.
الصبي يأتي للثقوب. تطل عيناه منها. تبدأ الكاميرا جولة أخيرة على
أغراض الغرفة. التلفزيون مطفأ. عدد الأرغفة ناقص. العجوز تحاول النهوض.
منهكة و بطيئة وهي تُخرج جسدها و تنزلق عن السرير. تبدو حطام امرأة وهي
تتجه نحو الماء لتشرب الحبوب من علب الأدوية.
الكاميرا تقترب من الصغير أكثر. تزداد حركاته سرعة. يبصق على كفه
اليمنى ويمسح غبار الزجاج و يطل وجهه كرغيف خبز شهي.
المشهد الأخير.
العجوز تنظر إليه بثبات ثم تتجه نحوه خطوة خطوة. تهوي بجسدها على
أرض الغرفة، وهي تتلمس الزجاج بكفيها، محاولةً أن تمسك وجه الصغير.
يبتسم لها. يبصق على كفيه و يمسح الغبار بلهفة. يمسح و يمسح. ثم
تظهر صورته واضحة يفصلها عن العجوز لوح أخرس. وهنا تظهر إضاءة جديدة. تمد
العجوز يديها المرتجفتين نحو الزجاج. يمد الصغير يديه. تفرش أصابعها. يفرش
أصابعه. يقترب وجهها من الزجاج. يلتصق وجهه بوجهها. تتحسس دفئاً. يلمس
بؤساً. تنزل دموعها. يتبلل وجه الصغير.
* * *
كانت الكافيتيريا تعج بالأصوات المتداخلة. وحدهما صامتان.
ـ سنذهب قبل أن تظلم.
يمشيان معاً. تشعر سحر بتعب. يتوقف النحل عن الدوران. تولد رغبة
بالصمت إلى الأبد.
على أحد رفوف مكتبتها رتبت أوراق الفيلم الجديد. كانت تسأل نفسها..
ماذا بعد؟
* * *
على سريره يمدد سالم جسده ويثبت عينيه في سقف الغرفة. يعرف أن
أحدهما لن يأتي غداً. وأنّ الغيم أمطر كل أشيائه. يتذكّر أن الفيلم بقي دون
عنوان، دون اسم. وأن أزمنة الحكايا المدهشة لم تكن أكثر من كذبة أخرى.
شهريار، غبي ظل يناضل ألف ليلة ليلمس نكهة الخديعة. شهرزاد ظلت ألف ليلة
تكلم ملكا ضجرا ينتظر صرخة محمومة عله ينام.
أغمض عينيه. تذكر صورة الحائط الزجاجي، طاولة الكافيتيريا الفقيرة،
أرض غرفته، الشوارع الشاحبة، الوقت، سعال الأطفال، العجزة.
همس لأذن لن تسمعه:
ـ كل هذا الغبار ؟!..
علي رطل
في حارة "علي رطل" لا يقيسون المسافات بالأمتار، إنما بالبعد عن
بيته. ولا يوجد شك بأن أي شخص في الحارة يعرف بالضبط أين يقع بيت "علي
إبراهيم رطل" العجوز الذي ظل يزرع السبانخ حتى التسعين من عمره.
وأول ما يتذكر المرء عن علي، أنه النجم الذي أظهره التلفزيون المحلي
في معرض تقديمه لإنجازات "سعيد حلبي" طبيب القلبية الذي وصلت شهرته كبريات
المؤسسات الطبية والبحث العلمي في كل أنحاء العالم. وكان "علي رطل" أحد
مرضاه المدللين، والذي لم يقبل الطبيب منه قرشا واحدا رغم عديد من العمليات
الجراحية التي أنقذت حياته وظل بعدها يمشي كل صباح إلى أرضه ليزرع السبانخ
والخس والملفوف.
"علي رطل" في الاستديو المركزي للتلفزيون وبينما كانت الكاميرا تركز
على وجهه المتجعد، تذكر كل ماضيه دفعة واحدة، وشعر بالحرج أمام الكاميرا
بشكل حقيقي رغم أنه كان مشاهدا مداوما للتلفزيون ولم يخطر بباله يوما أنه
سيشعر بهذه الهيبة وهذا الخوف أثناء التصوير. قال لنفسه إنه الآن وجها لوجه
أمام عدسة الكاميرا، الحلم الذي طالما راوده وطالما وجد نفسه يستحقه. تكلم
الطبيب مطولا عن حساسية وضع علي وندرة مرضه وخطورة عملية كهذه في هذا العمر
وبينما يشرح كل هذا باستفاضة كان هناك شريط فيديو يعرض للمشاهدين مشرط
الطبيب وقلبا أحمر من المفروض أنه يخص علي.
أثناء التصوير لم ير علي فيديو العملية، لكنه كان قادرا على تصور
المشهد. فأطرق برأسه وشرد في سلسلة أمراضه التي رافقته أكثر من ثلاثين سنة.
كان مرتبكا على الرغم من أن مقدمة البرنامج لم تطرح عليه أي سؤال بعد. فكر
بأهل حارته ورغم أنه طالما حسد الذين يظهرون في التلفزيون إلا أنه وجد نفسه
في وضع لا يحسد عليه.
حين سألته مقدمة البرنامج عن شعوره قبل العملية وبعدها، شعر بحنجرته
تتقلص وبأنه بالفعل لا يجيد الكلام كما لم يتوقع أبدا. وخرجت من فمه
عبارتان اثنتان:
ـ قبل العملية لم أكن أستطيع أن أجر قدميّ حتى للذهاب إلى أرضي.
الآن أذهب يوميا إلى هناك.
وبانتظار مزيد من الأسئلة، أخذ يحضر بضع عبارات عن سبانخه، وأراد أن
يوجه للمذيعة دعوة من باب الإحراج وخفة الدم لمساعدته هناك. إلا أن مقدمة
البرنامج تمنت له دوام الصحة والعمر المديد.
بينما كان يفكر بخيبة أنه ربما قدم لها جوابا رديئا جعلها تنهي
حوارها بهذه السرعة، كان أهل حارة علي رطل يشاهدونه في التلفزيون وهربت من
عيون النساء خاصة دمعات تعاطف ومودة. وليلة عاد إلى منزله بعد تصوير تلك
الحلقة اتصل به كثير من المعارف ليقولوا له كم كان رائعا ذلك اليوم في
التلفزيون، وكم هم فخورون به.
أوسع من نافذتي
ألمس أوراق النبتة الصغيرة التي تقف قبالة الزجاج. بينما سطحها من
الأعلى أملس وناعم ورطب، تبدي أسفل أوراقها ملمسا جافا وخشنا قليلا.
عبر زجاج النافذة لا أرى سوى ظهرك العاري وأنت تديره لي، بينما أدخل
الغرفة بفناجين القهوة. سمرة خفيفة تشبه هذا الصباح الباكر المختلط ببقايا
الليل، مندى بأول الرطوبة، تماما تماما مثل هذا الصباح هنا.. بدا لي.
.. أفكر الآن بعد مرور أيام طويلة وأحداث وانتقالات مجانية محمومة
من مكان إلى مكان. أن ما يبقى من جسدك في البال هذه الصورة. ظهر مشدود
وقامة منحوتة، محفورة على مهل وبمزاج يكاد يفوق مزاجك بينما تقرأ في الليل
قربي، وبينما دخان سيجارتك يخرج ببطء من فتحة النافذة، وأنت تهلس بالصفحات
الأخيرة من الكتاب الذي اخترته لتلك الليلة.
تخرج المرأة التي تسكن في البيت المقابل لغرفة نومي. تقوم ببعض
الحركات الرياضية. المسافة التي تفصلنا ليست قصيرة، ولا أستطيع تقدير
عمرها. لكن يبدو من مزاجها أنها فوق الخمسين. تمسح الطاولات والكراسي
بقماشة. الوقت مبكر ويبدو أن أحدا سوانا لم يستيقظ بعد.
الشمس تصبح أكثر دفئا قليلا قليلا. ضوء الخارج يعتم، ثم يشرق ثم
يعتم مرة أخرى. ما يزال الربيع في أوله.
تدخل جارتي بيتها بعد أن انتهت من تمرين جذعها وأعلى جسدها، وبعد أن
نظفت مقاعد الشرفة المطلة على الحديقة.
أسأل نفسي منذ البارحة لماذا أدرت ظهرك لي حين دخلتُ الغرفة،
وتظاهرت بأنك هادئ، وأنك تنتهي الآن وبسرعة من تزرير القميص، ثم تواجهني
مرة أخرى وأنت تقول.. يسلموا هالايدين.
على الصوفا البنية التي بهتت ألوانها نستمع معا لأغنيات قديمة.
أصوات السيارات ماتزال تشارك في كل مشهد بقي لنا معا. كنت أشعر أن الهواء
في الخارج رمادي وأثقل بقليل من الهواء. ما تزال اللوحة حتى اليوم مرسومة
في ذاكرتي.. غرفة غير مرتبة، ونافذة تمرر هواء شاحبا وأثقل قليلا من
الهواء.
لا أشعر اليوم أن الزمن بطيء. بل بأنه محنط ومتجمد. إنها عطلة نهاية
الأسبوع. وأريد بالفعل أن يبقى الزمن هكذا، يتمدد لكن لا يمشي. مساحة هائلة
بدل أن يكون خطا أفقيا نحيلا وحادا. هذا يشبه لدرجة كبيرة النزول على درج
يتحرك للأعلى. أو الصعود فوقه وهو يدور نحو الأسفل.. لا أفعل شيئا يوم
العطلة سوى الاستذكار.. وأشعر بأن الزمن مثبت ولا يتقدم خطوة واحدة. أعرف
أيضا ماذا سيحدث في المساء، حين أنظر عبر نافذتي وألمح العتمة.. سأصاب
بصدمة أعرف مذاقها مسبقا، وسأصمت، طبيعي، فانا وحدي في الغرفة منذ أشهر.
وسأشعر بالخوف لان الأمور تسير بشكل غير منطقي... منذ ثانية واحدة كان
الصباح في أوله... والآن إنه الليل.
الرجل السمين استيقظ الآن. يخرج إلى الشرفة التي تركتها زوجته للتو.
يسند جذعه إلى الحائط المطل على الأشجار والحشائش. أحيانا ينظر نحو نافذتي
وأنا أدخن خلفها. لا يطيل الوقوف ثم يدخل.
لم نكن نبقى وحدنا لفترة طويلة دون أن أصبح تحت جسدك. الغرفة مفتوحة
والأصدقاء سيأتون في أية لحظة. وبينما أتحسس جفاف شفتيك (كانتا جافتين
دائما) يخطر لي أن يدخل محمود أو ريتا أو أخي الذي بدأ أيضا ينضم إلى
المجموعة ويسهر معنا.
لا أعرف لماذا لم تتطابق الصورتان. جذعك المنتصب وقامتك الفائرة
بالشباب وأنت تدير ظهرك لي يوم دخلت بالقهوة.. وجسدك الثقيل الآن وهو يصعد
وينزلق فوقي.
أشعر بخشونة السجادة وهي تحك ظهري الذي انكشفت عنه الكنزة القطنية.
أتذكر بوضوح خشونتها وصلابة الأرض تحتنا وكأنها تهرش ظهري للتو. لماذا لم
نفعل هذا على الصوفا البنية باهتة الألوان؟؟
الآن لا يوجد سوى الكراسي والطاولة على شرفة جيراني. شاشة التلفزيون
تتوهج خلف زجاج نافذتهم. أكره التلفزيون في الصباح. حتى في العطلة.
ربما المرأة تحضر شيئا للفطور. والرجل يرتب غرفة النوم.. هذا
التلفزيون البائس.. لماذا تركوه وحيدا؟؟
في السهرة كنت تضحك بصوت عال. إنه الكحول ربما. واقعيتك المفرطة
ممكن. أستغرب كيف انقلبت تعاستك إلى هذا الفرح. كنت تعيسا نادما وأنت تنسحب
من حضني. تنظر إلى الأرض، وأنا أداري عن نفسي وعنك فوران شهوة لم تبرد.
كان صدري رطبا، وتحت إبطيّ متعرقان. تغيب في الكوريدور الموصل
للحمام. يرن جرس البيت. أتى الأصدقاء.
الغرفة تصبح مزدحمة. والسجادة تتسخ أكثر ويعلق بها وسخ أحذية
أصدقائك وأصدقائي. حذاؤك أيضا لم يكن نظيفا. لا أعرف لماذا كنت تلبسه. أنا
بقيت حتى منتصف الليل بدون جوارب حتى.. محمود قال لي في السهرة إن عيني
محمرتان، ونظر إليك. أنت عبست ونظرت في عيني ثم شردت في وجه محمود وأنت
تسحب نفسا من السيجارة.
هذا الصباح فقد صوته. الأرانب التي تعيش في الحديقة لا صوت لها،
والعصافير لم تأت اليوم.
لا رغبة لي بسماع أية موسيقى. ولا قراءة أي كتاب. ولا الرد على
الاتصالات الهاتفية. لي رغبة بان أتذكرك.. هكذا دون أية ردود فعل درامية،
دون أية مشاعر ووجدانيات متطرفة، دون أي زعيق عاطفي..
في منتصف الحفلة، بينما يقبل محمود ريتا في شفتيها ويذوبان دون خجل
أمام الجميع.. أشعر أن السجادة قذرة وأن جلد قدميّ صار أوسخ من الشارع في
الخارج. أرتدي حذاء الخروج وأنا أشعر بنفور غريب.
حين رآني محمود سألني بخوف إن كنت أود الخروج..
صمتّ قليلا..
ـ لا، أبدا.
المقاعد في الشرفة المواجهة للنافذة على حالها. كل يوم تنظفهم
السيدة الخمسينية بالقماشة، وتمسح عنهم رطوبة الليل وغبار النهار.
كان يجب لكثير من الأسباب رمي المقاعد بعيدا لأن أحدا لا يستخدمهم،
وهم لا ينفعون حتى للزينة. ولسبب ما، كان يجب أن يتوقف توهج التلفزيون،
خاصة أن أحدا من الزوجين لا يجلس أمامه.
حين سألني محمود إن كنت أود الخروج، لماذا لم أعترف، أنه بالفعل كنت
أود الخروج..
|