أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتبة: كلاديس مطر

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

كاتبة وباحثة ومترجمة 

عضو في اتحاد الكتاب العرب منذ عام 2002

عضو في جمعية الرواية والقصة

عضو في المنتدى العربي الأمريكي في مدينة لوس أنجلس

 

المؤلفات:

- حتى يزهر الصوان: مجموعة قصصية

- فرح عابر: مجموعة قصصية

- رغبة غافية: مجموعة قصصية

- ثورة المخمل:  رواية

- الحب على الطريقة السورية (بولس الرسول)  – مخطوطة رواية تاريخية

- خلف حجاب الأنوثة:  بحث سوسيولوجي –سيكولوجي عن الأنوثة الوجدانية للمرأة العربية المعاصرة

- حب على قياس العالم: مجموعة قصصية مخصصة للمطالعة في مدارس لبنان العامة والخاصة لطلاب المرحلة الإعدادية والثانوية .

-الماضي المقدس: بحث في الصوفية

-الصراع حين تحركه التعاويذ:  بحث سياسي في أصول الصراع العربي الإسرائيلي

-أبحاث شعرية ونقدية أخرى وأكثر من عشرين كتاب مترجم من الإنكليزية إلى العربية .

 

الأنشطة:

حاصلة على العديد من الجوائز المحلية والعربية في القصة والمقالة (جائزة المرأة العربية والشرق الأوسط واتحاد الكتاب العرب) ومتفرغة للبحث والتأليف الأدبي والأمسيات والمحاضرات الدورية في سوريا والبلدان العربية كما تنشر مقالاتها في العديد من المطبوعات التخصصية السورية والعربية وكذلك في الصحف العربية التي تصدر في أميركا.

 

شاركت في:

1-تأبين الشاعر محمد الماغوط بدعوة من جامعة الجنان في طرابلس – لبنان (معرض رشيد كرامي)

2-محاضرة عن الأنوثة الوجدانية للمرأة العربية بدعوة من اتحاد الكتاب في أبو ظبي .

3-مداخلة عن "الأمن في حوض المتوسط" في الملتقى الدولي لدول حوض البحر البيض المتوسط في الجزائر العاصمة بدعوة من وزارة الثقافة والمكتبة الوطنية الجزائرية.

 

مقالاتها في موقع القصة السورية:

نساء يشبهن الماء

النعامة الرقابية العربية

النساء قادمات

أدب نسائي جريء

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

أربعون

اعترافات صغيرة

بازار 

 

بازار

 

في هدأة صباح يطل على التيه فتحا عينيهما ، كل منهما  في سرير عزلته المزخرفة، عزلة بدايات هذا القرن. وحين كانت هي تتمطى مغمضة العينين ، كان هو يفتتح يومه بنشرة اخبار الفجر الاولى. وحين كانت في غرفتها  ترتدي بذة العمل الحيادية التي تشبه ازياء الجنس الموحد ، كان هو يسرح شعره الخفيف و يلمح جبهته ، جبهة منتصف العمرفي مرآة الحمام. وامام بابيهما كانا نصف مغمضي العينين ، فليست الشمس في ذاك النهار عادية و ربما استطاعا ان يشتما رائحة احتراق حتمية في الهواء. 

 

وفي الطريق الى لقاء لم يهيأ نفسيهما له، اعاد هو الاستماع الى نشرة الاخبار الثانية من مذياع سيارته ممتلىء من جديد بنكهة يوميات حياته المتشابهة القاتلة بينما كانت تسترق النظر هي من مرآة سيارتها الى زحام الزيف حولها بينما الشمس تتصاعد اكثر فاكثر في افق كثباني ، ممتد على وشك الاشتعال.

 

وشبه لهما وكأن الدينا حولهما تشبه البازار العتيق بصورته العصرية المحسنة، ولم يكن واردا في عقليهما المصنعين المنهكين ان يلمحا بهدوء المتامل الزهور الاصطناعية التي رصفت على جانبي طرقات الوطن و لا المباني الكريستالية ولا حتى الجسور المعلقة التي تشبه اقواس قزح صلبة تلك التي نلمحها  في المطبوعات الملونة حين تريد ان تتحدث عن الطريق الى السعادة بمجرد شراء زجاجة عطر، او تناول توليفة جديدة من الوجبات تفتق عنها خيال عابر سبيل اميركي.

كل شيىء في طريقيهما اليومي يؤدي الى نفس المكان ويحدث في نفس الزمان وينتهي الى نقطة صفر مكررة . كل شيىء رتيب ، ثقيل ، زئبقي ، لا يمكن هزه او مزجه او تفكيكه او حلَه او اعادة صياغته، كل شيىء موجود هناك و كأنه كان قبل الخليقة و سيستمر بعدها .

 

انهما في منتصف العمر ، بهيي الطلعة فلقد مرت عليهما آثار التحسين ايضا  و جعلتهما يبدوان كجزء من حضارة الدخان و المجاملات ، مراكمين في خزائنهما المقفلة شهادات عناوينها اكثر تعقيدا من فسيسفاء المعابد بينما تقض مضجعهما هذه الاسئلة الصغيرة ولكن الحقيقية التي تضع روحيهما على طرف هاوية و هما في اكثر لحظات حياتهما يقينا.

 

مجهولان هما ، او ربما  رقمين في سباق التحسين المموه  بالخرائط والملفات  والمزين بالاجتماعات وجلسات العمل، هذه الجلسات التي اخذت تملىء رئتي الوطن و تحيل براري الروح العتيقة الخضراء الى صحارى عشوائية مهملة.

 

يختار هو كل صباح من بين ربطات عنقه تلك التي تشد و تلتف اكثر على رقبته خوفا من كلمة قد تحيل حياته الى كابوس مستديم ، و تختار هي الثوب الاكثر شفافية فما تعلنه انوثة اليوم المركبة لا يعرف العقل ان يصيغه و ما يشي الثوب به لا تقدر الكلمات الاكثر معنى ان توصله . وهناك في نقطة الصفر المكررة ، نقطة وصولهما اليومية يكتمل الوجود بلقاء ربطات العتق الاكثر ضيقا بالاثواب الاكثر ايحائا ويتم تصنيع الحياة على مهل في بازار الجنون اليومي .

 

ومع ذلك لم يلتيقيا مرة واحدة في حياتيهما المتطابقة ، ولم تلتقي نظراتهما في زحمة العمر للحظة فيضيئان بالمعرفة وهما في غفلة عن اي شيىء ، ولا سمح الحب لنسيم الروح ان يهب فيدفع الحياء بهما للاختباء من فتنة كانت محال فيما مضى ، ولا لامست اطراف اصابعه بشرتها المعتنى بها بتؤدة فخرجت كل خيوله من مخبئها و هربت باتجاه السهول ، ولا توقف الزمن و رمى سلاح المحارب عند قدميهما وهما يلهثان من فعل حب بتول نقي . لم يحدث اي شيىء من هذا ولا مر بخاطريهما انه في يوم مشمس جميل سوف يكشف المستور بغته و تهدأ الانفاس التي قطعها الهروب المتواصل !

واستمرت السيارتان بالهرولة فوق اسفلت اقتصاد السوق الحرة الاكثر ارباكا  من معلقات الشعر العربي ، والاكثر مثاليه من نظريات افلاطون البائته وهما لا يزالان يتطلعان بعيون الغافل الى المشهد المنفصل عنهما في الخارج بينما يكرران بصوتيهما الصامتين ما كتب على لوحات الطريق.

 

وحين وصلا اخذا نفسا عميقا مهدودا كل منهما على حدا في صمت ذاته وبسملا كلا حسب دينه  ثم ركضا باتجاه هدف ظناه معلوما !

ولم يكن القدر على شيىء من الدعة و طول البال والهدوء فيما مضى فسمح لهما بلقاء غير مشروط  ، ولم يكن كذلك في ذاك النهار البازاري الباهت ، لكنهما التقيا صدفة وربما بقوة الروح السرية . وبين زحمة الوجود حولهما وقفا يتطلعان في وجه بعضهما البعض وابتسامة خجولة على شفتيهما . ولم يكترثا للدقائق المدفوعة الثمن التي امضياها متاملين ولا حتى بالراكضين حولهما ولا تطلعا الى ساعتيهما ولا رف جفنيهما من صوت هنا او بوق هناك !!!! واستمرا في التطلع الى بعضهما البعض شبه مبتسمين ...وكأن اسئلة الروح عادت كلها دفعة واحدة وفرشت عباءتها فوق ذهولهما . وبدأ كلامه ككل العارفين الجهلة في هذه الدنيا :

-مرحبا ...

واجابت هي الاخرى ككل الجهلة العارفين

- مرحبا ...

وصمتا ثانية ككل نصف الحكماء أو نصف الموهوبين ، فما يوحي به الصمت اقوى احيانا من بأس الكلمة ولان الموقف كله مباغت ومربك فقد  آثرا الصمت . وبقيا صامتين الى ان افلتت نباهته عن كلمة أخرى مكررة :

-اعتقد انني رايتك في مكان ما ...اقصد

-وانا ايضا .. لا بد اننا التقينا ...

وسكتا ثانية .. واخذ يمر الوقت المدفوع الاجر عليهما بطيئات سريعا أو كليهما معا واخيرا افلتت منه عبارة غبية اخرى :

-اعتقد ان الطقس حار اليوم

-انه كذلك بالفعل !

 

وزعق بوق حولهما فاجفلهما وهما لا يزالان في بحر الارتباك الطفولي ...وككل اغبياء العالم .. اعتذرا من بعضهما عن امر لم يرتكباه وربما لم يبتدأ به وغادرا المكان مهرولين ... ناظرين الى ساعتيهما ..!

وهناك في مكتبيهما .. كانا تائهين   .. خجولين .. شبه مبتسمين .. متفكرين ..منكفئين !

ومن وقت لاخر كانا يسرحان في مشاهد لانهائية للقاء عشق عنيف ، رومانسي ، ذروي  متالق ...تعبر روحيهما فيه عن اقصى طاقتها .. مشاهد  يمارسان فيه كل ديمقراطية  خيالهما المكبوته و يفجران فيه  كل وجهات نظرهما وأفكارهما الوجدانية ويتواصلان بلغة الفهم القصوى المشفرة ....الامر الذي لم يحصل لاحقا ابدا ...فلقاءهما الصباحي غير المخطط له كان دائما على صورة وطنهما ومثاله .. يغلي في مرجله .. ويغلي في مرجله ... ويغلي في مرجله .... حتى الجفاف !

 

 

اعترافات صغيرة

 

كلمة

جرني من سريري منتصف الليل خفافيش الظلام، قالوا من اجل كلمة كتبتها مرة، ترى ماذا كان يدور في خلدي عندما كتبتها ولاية جهة يتطلع حقل عباد الشمس في عقلي !هكذا كانوا يتساءلون و نحن نرحل مبتعدين في هدأة الظلام. حين بدأ التحقيق اخذو يرددونها على هواهم امامي وانا استمع ….. !

 

حب

 

احببت رئيس بلادي ليس لانه جميل او انيق او ذو سحنة سمراء، وانما لانه تركني اغني موالا قديما بصوتي العالي المتمرن على الصمت. سالت عن صندوق بريده لاشكره، عن عنوان منزله، عن رقم هاتفه. ظننت لوهلة انه لا يقيم في البلد ! كل هذا الحب جعلهم يرتابون بي وهكذا قضيت الليل في سين و جيم تحت الاضواء المتأرجحة.

 

مبادرة

 

قالت له احبك. ففتح عينيه على سعتهما. قالت: اريد ان تكون زوجي وان نرزق اطفالا يشبهونك وان نشيخ معا. رفع حاجبيه مدهوشا، بالرغم من الحب في عينيه، الا انه قال: لم اعرف امراءة تبادر في الحب ! ثم ادار ظهره ورحل. فكرت: رجل آخر من بلادي يكره حريتي.

 

شوق

 

في اوج الشوق، وضعت يدها على خده. وضعتها بلطف وهدوء وحب. ارتبك وقال لها، ايضا بالرغم من الحب في عينيه: كم مرة فعلتها من قبل مع غيري ؟ فكرت ان قالت له لم افعلها ابدا فلن يصدق وان قالت له فعلتها اكثر من مرة وكلما شعرت بعاطفة حقيقية، فسينعتها بصفة اخرى ابشع. تطلعت اليه وقالت: كم فرصة خسرت انت لتغيير حياتك نحو الافضل ! ثم رحلت.

 

كتاب

 

اعطته كتاب ليقرأه. قال: لمن. قالت: لي. بعد يومين عاد متلهفا معبأ بموقف. نظرت الى انفعالات وجهه، فراته يحصي اخطاءها النحوية والمطبعية والتشكيلية والوان الكتاب وشكل الغلاف ونوعية الورق. سالته، مع ذلك، هل قرات كتابي !

رد مدهوشا: عم كنت اتحدث اذن !

 

سهرة

 

في سهرة لطيفة سالها عن عمرها، ايضا و ايضا، مع كل الحب والشوق في عينيه اجابت: اربعون.

ابتسم بفتور وارتباك واكتأب لثوان، ثم عاد لشرابه، لضحكه، لنكاته مع امراءة اخرى.

فكرت: ترى، الم يناسب عمري عمر الحب !

 

طريق

 

رايته يمشي بالقرب مني على طريقنا الطويل. قالت: الى اين ؟ اجاب الى المكان نفسه. واكملنا الطريق معا، وصادفنا الكثير من حملة الاولوية، من الثوار الصغار من الكتاب والمهرجين / من اصحاب الدكاكين، و طلاب المدارس، من الجنود، من النساء المنقبات، ومن السافرات. وحينما وصلنا كنت قد اضعته في الزحام، زحام طريقنا الطويل المشترك.

 

 

تاريخ

 

وٌلدت في النصف الثاني من القرن الماضي. بعد عشر سنوات انهت كتاب الله، وفي الثامنة عشر كانت تقرأ لنزار قباني، ثم في الخامسة والعشرين لم يك في غرفتها سوى اشعار ناظم حكمت. اما في الثلاثين فقد اولعت بقراءة الصحف و اخبار الحروب والاغتيالات والتحليلات والمشاورات والقمم العربية. اليوم، هي لا تقرأ لاحد جل ما تفعله هو اخراج راسها من تحت الماء لتصرخ كالباقين: يعيش يعيش او يسقط يسقط.

 

خبز

 

وجدته واقفا في طابور طويل لشراء الخبز، وبالرغم من الزحام وقلة النظام والعراك والصراخ والتحايل على الدور، كان واقفا وفي يده قطعة النقود، لا يتحرك من مكانه، لا يعارك و لا يصرخ ولا يتحايل ولا ياخذ مكان غيره. اشفقت عليه وربما احببته بعمق، فمن يعي اليوم درسا في الحضارة ويداه فارغتان من كيس الخبز !

 

موت

 

قرات مرة حوارا عصريا مزينا بالصور لعمرو دياب وهو يعترف منفعلا ان عبد الحليم مات، مات … مات. وان هذا الزمان زمانه هو، وهذا المكان مكانه هو، وان موسيقاه اجمل، وان كلماته اعمق، وان اداءه على المسرح اقوى، وان افكاره مبدعة ولا نهاية لها ….. غير انه لما كلما استبد بي أي شوق او حب او حتى رفض او مشقة، ادندن، من غير قصد لذاك الذي اعلن عمرو دياب موته ذات مرة !

 

 

 

نقاب

 

تطلعت امراءة منقبة في عيني واطالت النظر. ان شعري طويلا جميلا وبصحة جيدة. اما هي فكان نقابها جميلا، طويلا ومطرزا برسوم الطيور, حين اشاحت بوجهها ورحلت، عدت الى منزلي، ووقفت امام مرآتي، اخذت نقابا ثم وضعته على راسي، اما هي، امام مراتها، فقد كانت تنزع نقابها وتتلمس شعرها الطويل، الجميل والمعافى.

 

شجاعة

 

قال لي: فقدت شجاعتي قليلا قليلا مع الايام. كنت اشاهد شريطا سينمائيا ليوسف شاهين حينما ادركت ذلك. ولم يدعني احساسي المباغت هذا اكمل الشريط، فاخذت افكر بقلق كبير، وقررت، نعم قررت بيني وبين نفسي ان اعيد شحذ شهامتي وكرامتي وضميري وان اعيد لها الالق الضائع، وان اسن سيف الحق الذي صدىء في داخلي. يالها من يقظة اتت قبل فوات الاوان ! ولكن قرعا على الباب بعثر شرودي فقمت لافتح، وفتحت ورايت رجلا امامي اعرفه:

-سيدي هل تريد إبطاء عمل ساعة الكهرباء من جديد ؟

فكرت لبرهة ثم اجبت: نعم، ثم دخلت لاجلب له كرسيا.

 

 

أربعون

 

أكملت بهية عامها الأربعين، وانتهى عمرها الافتراضي. صحيح أنها جميلة الملامح، مدججة بأنوثة هادئة، وفوق هذا وذاك، وقورة ومتعلِّمة. إلا أن لا شفاعة لمن تجاوزت الأربعين في مجتمعها. قريباً جداً سوف يغدو خطيراً على صحتها أن تنجب طفلاً إذا ما تزوجت. وإن لم تفعل، فخطير على سمعتها إن تبنَّته من دون زواج. وحين تصنَّف اجتماعياً فمُربِك أن توضع في خانة الشباب، ومُربِك أكثر إنْ وُضِعَتْ في عداد المتزوِّجين الكبار. وحين يريد أرمل كهل في الستين أو الخامسة والستين، أو مطلَّق مع أولاد، أو حتى عجوز، الزواجَ فهي النموذج المثالي الذي يشار إليه. وحين تهز رأسها استنكاراً فإنها تلقَّب بالغبية التي تضيِّع الفرص الأخيرة.

في مجتمعنا تشعر بهية بثقل السن. كل عام يمر، بل كل دقيقة، تدفعها إلى حدود هاوية الأربعين. أما بعد هذا الحد فتبدأ الأحلام الصغيرة الفردية بالسقوط كورق الخريف. وما كان صعباً قبولُه يبدو الآن معقولاً، وما كانت تظنه ليس لها أصبح يبدو اليوم على مقاسها تماماً. حتى ألوان الثياب أخذت تختارها أقل وهجاً، والفساتين أطول، والزينة أهدأ.

وإن كانت بهية اليوم تشعر بحدة أقل تجاه ذلك، فإن والدتها كانت تعقص شعرها إلى الوراء في مثل سنها، وقد تركت خصلاتها البيضاء تظهر من دون وجل.

وفي المساء تجلس بهية إلى مرآتها بعد أن تتخلص من عملها المكتبي المضني، فتتأمل الخطوط التي أخذت بالظهور حول العينين، والبقع البنية الخفيفة التي أسرعت تكافحها بقلق. أما الشعر الأبيض الزاحف بتؤدة حول الجبهة والصدغين فلم يكن يُربِكها. إنها اختارت لوناً جميلاً تصبغه به كل شهر. والحق أن الناظر إليها لا يمكن أن يميز عمرها. فما زالت تتقن العناية بنفسها كفتاة في الخامسة والعشرين. ومع ذلك، مَن مِن الجيران والأهل والأصحاب لا يعرف عمرها الحقيقي؟ ومَن مِن الغرباء غير قادر على معرفته، بل وبتحديد الشهر واليوم والساعة، حتى لو لزم الأمر السؤال هنا وهناك. إذاً لا مفر!

لقد تسنى لبهية في السنوات الثلاثة الأخيرة أن تتعرف على الكثير من الرجال الذين التقتهم لدى بعض الأصدقاء والأقارب والذين أتوا خصيصاً للتعرف عليها وسبر أغوارها كزوجة محتملة لهم.

في إحدى المرات، دعتها صديقة إلى منزلها. وهناك وجدتْه جالساً في ثيابه الأنيقة وشعره المصبوغ، وقد ترك يده تداعب حبات مسبحة ثمينة. شعرت بالاشمئزاز. ذلك أن نظراته كانت أوقح من قدرتها على الاحتمال. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أخذ يعدُّ ويستفيض في شرح ما يملك، وما لديه من عقارات وأرصدة في البنوك، غير آبهٍ إلى أن إصبعه كان ينتقل بانتظام من أنفه إلى أذنه محاولاً تنظيفها.

وحين خرج لم تستطع أن تمسك نفسها عن التأفف، صارخة في وجه الصديقة "الخدومة":

-هذا الرجل مقرف، وقليل الحس، و...

-أيتها المتبطرة! ماذا تقولين؟! هل ترفضينه لهذه الأسباب السخيفة؟!

-أسباب سخيفة! انظري إلى ماذا يدفعني كي أتزوج رجلاً مثل هذا... هيه؟

أجابت صديقتها بلؤم:

-لن يلحَّ عليك يا عزيزتي في الإنجاب. فأولاده ما شاء الله تجاوزوا الخمسة... وهو...

وخرجت بهية مدهوشة، من دون أن تدع الصديقة تنهي حديثها.

لقد انتهى عمرها الافتراضي، عمر الحمل والإنجاب وتربية الأولاد، سمة المرأة الشابة الخصبة. إذاً – هكذا يقول مجتمعُها – فلتنكسر مهزومة ولتقبل "ظل راجل ولا ظل حيطة". ولكن أي رجل؟ المهم "ظل" موجود يؤمِّن هذا الوجود الشرعي.

وكانت بهية تلبِّي دعوات المحبين من أجل "الفرجة" على العرسان. وفي كل مرة كانت تشعر بالانكفاء والوحدة. وبدأت تحس أن العلة ربما فيها، وأنها لا بدَّ تصعِّب من شروطها، أو هي غير قادرة على تغيير نمط حياة اعتادته منذ زمن.

إنها أكثر أناقة من صديقاتها المتزوجات، وأكثر فراغاً واهتماماً بالشأن الثقافي، وربما أطول نَفَساً على المماحكة والأخذ والرد. ذلك أن الحياة الأسرية الزوجية لم تُبقِ وقتاً لهنَّ لمثل تلك الأمور.

*

مرة لبَّتْ بهية، بعد تردد، دعوة لحضور أحد معارض الرسم التي تنظِّمها "رابطة المدينة الثقافية". وهناك لفت نظرها الفنانُ نفسه أكثر من اللوحات، وبهرتْها طريقة شرحه وحركة يديه المعروقتين فوق سطح القماش المؤطَّر، وهو يبدي وجهة نظره في اختيار اللون ومدلولاته وبقع الضوء والفكرة الكامنة وراءها. وحين كانت تتطلَّع منسجمة، عرفت أنه أعجبها منذ اللحظة الأولى. حب يتيم متأخر، ربما ولد ميتاً.

وعادت بهية لحضور المعرض ثانية في اليوم التالي، وأخذتْ تسأل عن كل لوحة بالتفصيل ودقة، الأمر الذي استرعى انتباهه هو الآخر. وأخيراً طلب إليها اللقاء منفردين على فنجان قهوة.

-هل أنت متزوجة؟

-آ... حتماً لا. وإلا لما أتيت.

-عفواً... إن أغلب صديقاتي متزوجات... ونحن نتصرف على سجيَّتنا، ومن دون أفكار مسبقة... تعرفين أن ما يجعلنا أهم من كل هذه التصنيفات.

-هل أعتبر نفسي أول من خَرَقَ طابع صداقاتك؟

-ليس ضرورياً... فكل طالباتي غير متزوجات... إنك في عمرهن على ما أظن؟

أجابت بارتباك:

-ربما! على كل حال لستَ على هذه الدرجة من الكهولة.

-لا... لا يغشك مظهري. أنا في الخمسين.

-أوه... ولكن لا يبدو عليك السن!

تكررت لقاءات بهية مع فنانها المثير. وفي كل مرة كانت تشعر بالانسجام يكبر والتفاهم يزداد. أخيراً، أمكن لها أن تكسر طوق الأربعين، وتعيش حياة حقيقية نابضة، مليئة بالأحاسيس المختلفة.

-أريد أن أريك مرسمي!

أجابت بسعادة ظاهرة:

-فكرة رائعة!

هناك عثرت بهية على حريم الفنان الكبير... نساء عاريات ممددات في حمامات تركية، وأخريات في وضعيات تثير التساؤل، ولوحات جدارية أكبر تمثل الحرملك، بكل ما فيه من أقمشة بروكار، وعمامات قصبية، وعي، وخصيان، وعيون متلصصة.

-هذا هو موضوع معرضي القادم... ما رأيك؟

-لكن لماذا اخترت هذا الموضوع بالذات... أقصد ما علاقة هذا المعرض بالمعرض السابق؟

-المعرض السابق هو أنا. وهذا المعرض أيضاً هو أنا!

-ولماذا نساء الحرملك التركي!

-لا أعرف... أراه عالماً غامضاً جميلاً مليئاً بالاستيهام...

-هل أنت معجب به؟!

-نعم... أقصد... لا أدري... أليس هناك حرملك مأهول في داخل كل رجل؟

-حتى رجل هذا الزمن!

-وما الفرق... هل تغير الرجل حتى يتغير الزمن... أقصد هل تغير الإنسان كله حتى يتغير هذا الزمن؟

-أظن ذلك!

-وأنا لا أظن ذلك.

بين ظنِّها وظنه فرق كبير... فرق قادر على أن يدمِّر الحب في مهده، وأن يحيل الإعجاب والفتنة إلى نفور أخرس.

*

حين أكملت بهية عامها الأربعين. أطفأت شمعة واحدة، ليس بسبب عدم جرأتها على مواجهة سنها، وإنما لأنها أصبحت أكثر واقعية.

لقد ارتبطت بعد عدة أشهر برجل وقور له مواصفات كهل يريد الزواج. وأخذت تلبِّي معه الدعوات الرسمية والزيارات العائلية، متأبِّطة ذراعه المرتجفة، بينما كان الحديث دائماً يدور حول تقارير الأطباء، ومعدل ارتفاع السكر والكوليسترول. أما هي فقد بدا عليها سيماء الزوجة الرصينة، مداعبة رؤوس أطفال العائلة المضيفة، سائلة إياهم عن تقدمهم الدراسي... ثم مودِّعة إيَّاهم بقبلة رقيقة من "تانت" بهية.

 

أضيفت في 20/11/2007/ خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية