أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: محسن غانم

       
       
       
       
       

 

زمن الشام-قصص

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

ولد عام 1938 في بلدة الفاخورة- محافظة اللاذقية

تلقّى دراسته الإعدادية والثانوية في ثانوية جول جمال في اللاذقية من عام 1950 حتى 1975.

وعمل موظفاً في السجل العقاري.

نال درجة الإجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1992

حصل على إجازة في اللغة العربية وآدابها من قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق عام 1970.

كتب القصة القصيرة والمقالة النقدية والزوايا والتحقيقات الصحفية في صحف ومجلات القطر العربي السوري وخارجه، منذ أواخر ستينات القرن العشرين.

 

مؤلفاته:

نشر مجموعته القصصية الأولى "حدث في تشرين" عام 1980 بالتعاون مع اتحاد الكتاب العرب. في دمشق.

صدرت لـه مجموعة قصصية ثانية "مغامرات رجل مشتاق" عن وزارة الثقافة في دمشق عام 1982.

عضو اتحاد الكتاب العرب- فرع اللاذقية- منذ عام 1982.

عضو جمعية القصة والرواية.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

ضد التيار

الإهانة

 ثورة الأشياء

 

ثورة الأشياء

1-الغرفة:‏

الغرفة مربعة، تغمرها أشعة شمس شتائية، خزانتان بنيتان تتعانقان في الزاوية، امتلأ جوفاهما أوراقاً ومجلدات. مشجب مشدود إلى الجدار الداكن بواسطة مسمارين فولاذيين، يمد أذرعاً تنتهي بقبضات حمراء مشرعة إلى الأعلى كأنما تحتج. باب الغرفة عريض مغلق به مقبض كروي أبيض. المقبض الكروي يبتسم بلا معنى، يلقي نظرة بلهاء إلى المدفأة والمنضدة والكراسي. وراء المنضدة يجلس رجل صامت ساه. أمام الرجل على سطح المنضدة، انتشرت كتب وأوراق وأقلام. الرجل يعتمد بكوعه على طرف المنضدة. يسند ذقنه إلى كفه، في حين استغرقت عيناه تحدقان إلى البحر المستلقي وراء النافذة. فوق رأس الرجل علقت إلى الجدار صورة كبيرة لإنسان. الصورة تنظر إلى الباب نظرة ترقب.‏

 

2-الباب:‏

باب الغرفة مصراع واحد عريض مدهون بلون رمادي قاتم، ينغلق حابساً خلف ظهره أشياء الغرفة ضمن فراغ مكعب، مستقبلاً بوجهه ممراً طويلاً محشواً عتمة ورطوبة. ينظر الباب إلى الداخل.‏

يجد صورة الفتاة السمراء في ثناياها، الفتاة التي أحبها الرجل، عشقتها الكراسي، تغنت بجمالها المنضدة والمدفأة، حفظت مزاياها الخزانتان، ضم رائحتها وشالها المشجب. سكنت عيون الباب في قلوب الأشياء، لمس حنيناً وشوقاً لا حدود لهما.‏

في الخارج تمتلئ عيون الباب ظلاماً وسكوناً، فجأة تظهر امرأة في أول الممر، تتقدم متلفتة ذات اليمين وذات الشمال، تقترب من وجه الباب الخارجي، تملأ صورتها عيونه، تمحو العتمة والسكون من أحداقه. يدها البيضاء البضة المطلية الأظافر تمتد إلى أكرة الباب، تئن الأكرة، تضحك عيناها، يبتسم ثغرها، تحتضن قسماتها نظرة دهشة رشقها بها الرجل، تدفع الباب، ينغلق محدثاً صوتاً مخرشاً، تصرخ المدفأة:‏

-ليست هي.‏

يقول المشجب مستنكراً:‏

-إنها شقراء.‏

يعقب الكرسي:‏

-هذه الفتاة غريبة.‏

تردد الخزانتان:‏

-هاهو يبتسم لها، ينهض لاستقبالها، يصافحها بحرارة.‏

 

3-المشجب:‏

المشجب مغيظ، عيونه فاترة معلقة إلى النافذة التي تحتضن نور الشمس، إلى الطلاء السماوي الذي يقنع وجه الجدران، إلى الكراسي الموزعة بلا نظام، إلى المدفأة القديمة المحشوة رماداً بارداً.‏

يقلب طرفه في الفراغ آسفاً، يسمع صوت تنفسه المتلاحق، يكبت تنهيدة في صدره. يحدث نفسه:‏

-كنت أتناول الشمال من يدها كل يوم، فيلون دنياي بالخضرة...‏

 

4-الكرسي:‏

الكرسي أصفر البشرة، باهت النظرة، يحني رأسه أمام أشعة الشمس المندفعة من النافذة، ينكمش على نفسه في زاويته، تمر عليه الساعة تلو الساعة وهو بلا حراك، كأنه قد لفظ أنفاسه ومات.‏

يهمس بين حين وآخر:‏

-كيف أنسى؟ آثارها بين يدي، طعمها في فمي، عطرها يملأ أنفي، بعض من شعرها عالق بثيابي، فوق صدري وذراعي.‏

فتاتي، تركتني لهؤلاء الغرباء، يغتصبونني، تتقاذفني أيديهم، تخنقني روائحهم، تضغطني أجسادهم.‏

بكى الكرسي بمرارة، نظر الرجل إليه مؤنباً، أخفى الكرسي وجهه بين كفيه واستمر في النشيج...‏

 

5-النافذة:‏

للنافذة عينان، إحداهما ترمق ما في داخل الغرفة، الثانية تحتضن الألوان في الخارج. عين تنظر إلى الرجل وراء منضدته، ترى الأشياء من حوله مكسوة بطبقة من الألم، وعين غارقة في زرقة البحر وخضرة البستان، سابحة في ضوء النهار.‏

لو كان للنافذة عقل يفكر لأصيبت بضرب من الجنون غريب، لكن الصور والأشكال والألوان تنعكس في زجاجها تعبرها من الداخل إلى الخارج، ومن الخارج إلى الداخل، بنفس الطريقة والسهولة، دون أن تعني لها شيئاً.....‏

 

6-المنضدة:‏

المنضدة تحمل أشياء متعددة، الرجل يستند بكوعه إلى حافتها، على صدرها تتراكم مشاكل لا تعرفها بقية أشياء الغرفة، تنظر إلى الكراسي المتناثرة من حولها، إلى النافذة والباب، ينتقل إليها شيء من الإحساس بالوحشة والحزن، ترمق الرجل، تدخل عيناها في أفكاره، ترى صورة الفتاة السمراء، ذات العينين العسليتين والشعر الكستنائي، تلك التي عشقها، ابتسمت المنضدة، فوق وجهها تلاقت الهمسات والأنفاس، وحدها سمعت كلمات الغزل تنسكب مباشرة في أذني الفتاة حارة رطبة، وأحست بخفقات القلبين يدقان أبواب سجنيهما.‏

 

7-البحر:‏

نشر البحر لونه فوق وجه النافذة، عبرت الزرقة الزجاج، تغلغلت في عيني الرجل، قبلت سحابة شفقة البحر، ارتدت أشعة الشمس، امتد خط داكن أفقي من الجنوب إلى الشمال يفصل بين الزرقة والخضرة، اتسع الخط، شكل قطاعاً فاصلاً عريضاً، ظلت عينا الرجل مشدودتين عبر النافذة تحدقان إلى القطاع الداكن..‏

 

8-الصورة:‏

الصورة المعلقة إلى الجدار فوق رأس الرجل الجالس لا تزال بقلق ظاهر إلى باب الغرفة، وراء الصورة بين الغلاف والجدار، تقبع حشرات صغيرة في حالة سكون وخدر، عنكبوت في بيتها المرتكز إلى المسمار الذي يمسك الصورة، يتسرب شعاع شمس من شق في أعلى النافذة، يخترق جو الغرفة في خط مستقيم، يسقط الشعاع فوق جبين الصورة، ترفع الصورة يدها، تحك جبينها، تعود إلى جمودها، يمتد كف غيمة يمحو الشعاع الشمس..‏

 

9-المدفأة:‏

المدفأة قديمة هرمة، تتربع في الزاوية الجنوبية من الغرفة، ترى الأشياء بعين كليلة، تمد ذراعها عالياً، يدخل كفها في ثقب الجدار، لا تجد لنفسها كفاً ثانية لتنفض الغبار المتراكم على كاهلها، جوفها محشو رماداً بارداً من عام منصرم، قلبها متوقف عن الخفقان منذ أشهر، وجهها المقابل للكرسي تظهر عليه علائم الحياة، تمسحه يد النضارة، يبدو لامعاً نظيفاً من الغبار والرماد، بعيني هذا الوجه تنعكس صورة الرجل والمنضدة والكرسي والباب...‏

10-الرجل:‏

التقت عينا الرجل بعيني البحر، غمرت الزرقة الأشياء. سمع تلاحق أنفاس الصورة خلفه، خرجت همسات الأوراق والملفات من داخل الخزانتين، انسكبت في أذنيه، رفع رأسه، أسند ظهره، أشهر قبضته ضرب بها المنضدة أمامه.‏

انفلتت مناظر متعددة كان يحبسها الرجل في رأسه، تراقصت الصور حوله، طيف الفتاة السمراء فوق كرسيها المفضل، شعرها منسدل بعفوية فوق الكتفين، خصلات بنية متمردة فوق الجبين عيناها غارقتان في بركتي عسل مصفى، وجهها بستان مزروع بكل أنواع الأشجار، مزينة أرضه بشقائق نعمان، ينهض طيف الفتاة، يدور في الغرفة، ينظر من النافذة إلى البحر، يلتفت إلى الرجل، يدعوه، ينهض ملبياً، يصطدم بالعينين الزرقاوين، بالوجه الأشقر، يسقط فوق كرسيه..‏

 

11-الثورة:‏

يظهر الحزن والقلق في قسمات وجوه الأشياء. كل العضلات تأبى الاسترخاء، تصر على التوتر والتحفز، شيء في داخلها يفور، يمتلئ جو الغرفة بعبارات احتجاج صادرة عن كل الأشياء، الكرسي تنتحب بصمت، تنحدر دموعها فوق وجنتيها الشاحبتين، في حين تهمس المنضدة في أذن الرجل:‏

-انظر إلى البحر، لقد اختلطت ألوانه، وعمت الدكنة سطحه.‏

-انظر إلى الشمس، لقد حجبها عنا ستار كثيف من السحب السوداء.‏

الصورة المعلقة إلى الجدار فوق رأس الرجل وحدها تبتسم، تحتضن المرأة بعين معجبة مشتهية، نظرات الرجل لا تحيد عن وجه المرأة يقترب منها تدريجياً، يمط صلبه وعنقه، تدنو هي أكثر فأكثر، تتجاور الرأسان تمتد يمين الرجل، تطوق الجيد المرمري، يسكران بالانفعال.‏

الباب يغطي وجهه بيديه، تتهدل اذرع المشجب، تنفلش الأوراق المحفوظة داخل الخزانتين، تنقلب الكرسي متأوهة بصوت عال، تنفث المدفأة ما في جوفها من رماد فيملأ العيون ويكسو الوجوه، تتراقص مفاصل المنضدة، ينغلق خشب النافذة، تعم الظلمة الغرفة، وتلتقي شفاه الرجل والمرأة..‏

 

 

 

الإهَانة

 

1 ـ السيارة:‏

السيارة أنيقة, طرازها حديث, تندفع في الشارع الملتوي العريض المستلقي بين يدي البحر, الطريق والرصيف لا يخلوان من المارة والمتنزهين, لكن سكينة منتصف الليل تسيطر, أشجار الأزدرخت مصفوفة وراء بعضها في انساق متعرجة وكأنها تحرس الشاطئ, اللاذقية المقيمة نامت باكراً, أمّا اللاذقية الزائرة السائحة فلا تغمض أجفانها إلا مع الفجر. همس الساهرين المتناثرين في المقاهي وعلى الرصيف البحري يصل إلى آذان الأشجار والبحر, الريح رطبة خفيفة, تداعب أمواج الماء تدغدغ أصابع الصخور والسيارة الحديثة جداً تنساب متمهلة متسكعة, تغمر عيناها الأشياء بأنوار فضية وصفراء وبيضاء, تذهب السيارة وتجيء, تدور, تنعطف, فيعكر صوت مكابحها هداءة منتصف الليل.‏

 

2 ـ الرجلان:‏

وراء مقود السيارة رجل, في فمه لفافة تبغ مشتعلة, يرتدي قميصاً مفتوحاً إلى ما فوق السرة, شعر صدره كث يشكل بقعة داكنة في صفحة الليل القاتم, فوق جبينه قطرات عرق, جسده ملقى باسترخاء على المقعد, كفاه تعانقان المقود, تتحركان يميناً ويساراً ببطء وملل, فيما عيناه تنظران باستمرار إلى الرصيف وتفرعاته, تجوبان مداخل الشوارع, تنتقلان بين أبواب المقاهي المتناثرة على هامش الرصيف.‏

 

إلى جانب الرجل السائق يجلس رجل ثانٍ, يعتمد بكوعه على حافة نافذة السيارة يحدث زميله دون أن يلتفت إليه, يسحب عينيه فوق أبواب المباني وشرفاتها, ثمّ يعود بهما إلى أرض الشارع وبلاط الرصيف.‏

 

ـ ارجع بنا, ثمّة امرأة تلفت انتباهي.‏

ـ أية واحدة؟‏

ـ تلك التي تسير إلى جانب الرجل الطويل.‏

 

صدر صوت حاد, رجعت السيارة الأنيقة في الاتجاه المضاد, خفت سرعتها, سارت مواكبة لمشية الرجل والمرأة, امتدت رأس من نافذة السيارة, انفتح فم الرأس خرجت منه كلمات ذات رائحة كريهة, اندلقت الألفاظ في سمع الرجل وفي سمع المرأة, شده الرجل, بهتت المرأة وخافت, ازداد عناق ذراعيها شداً فالتحما, ابتعدت بهما أقدامهما إلى أقصى الرصيف, وأسرعت السيارة منصرفة.‏

 

3 ـ البحر:‏

تلوى البحر, خبط بأطرافه رمال الشاطئ, زفر ونظر في عيني المرفأ, حدق في عيني الرجل, التفت المقل, لم تكن عينا البحر زرقاوين كالعادة, فأنوار الشاطئ خافتة, وأضواء السفن صفراء, والأشعة المنعكسة لم تفلح في تحويل الدكنة المنتشرة على سطح الماء إلى لون الزرقة, أشعة الشمس وحدها تصبغ صفحته بألوان الخضرة والزرقة الصافية, الأسماك في القعر لا تنام, ممالكها لا تعرف الليل, الزمن كله عندها نهار, الغلاف السطحي فحسب يتلون بالعتمة والدكنة, فوقه تتكسر أصوات الناس المنتشرين على أطرافه, يغسلون عيونهم وجلودهم بمائه طلب للطهارة, لكن قطراته المالحة لا تعدو القشرة, فتبقى القلوب مغلقة على ما فيها من عواطف متضاربة ورغبات دنيا.‏

 

حجبت جدران المباني العالية عن عيني البحر السيارة ومن فيها, الرجل والمرأة يقتربان رويداً من صدر البحر, يمدان إليه نظراتهما, تتغلغل النظرات في العمق رغم العتمة, فيبصر أن صورتيهما مرسومة على الصخور, فوق الأمواج, في الأنوار, اطمأنت نفساهما, عادا يسيران بخطوات مترافقة متناغمة جنباً إلى جنب, فوق بلاط الرصيف.‏

 

4 ـ المدينة:‏

أغلقت المدينة على نفسها وأطفأت الأنوار باستثناء الأضواء الصفراء الخافتة الوانية, فوق المدينة, في الطرف الشرقي من السماء بدأ القمر بدراً. رأى البدر بعينيه وقوف السيارة, سمع كلام الرجلين, فحجب وجهه بغيمة رقيقة ونظر من خلف الحجاب إلى المدينة النائمة, رأى السيارة والرجلين في كومة المباني, وشاهد آلاف النيام يحلمون بالسعادة.‏

 

سمعت المدينة أصوات مكابح السيارة مراراً, وانقلب النائمون من جانب إلى آخر, ثمّ عادوا إلى الاستغراق في أحلامهم, أمّا الحراس فقد قالوا لبعضهم بعضاً:‏

 

ـ الأمن مستتب.‏

ـ الهدوء سيطر على كل الشوارع والأزقة.‏

ـ هلموا نجلس معاً, ونتناول بعض الشراب.‏

عندئذ كانت الديكة تصيح في أقفاصها عند أطراف المدينة.‏

 

5 ـ المرأة:‏

ألقت أشعة عينيها فوق السيارة المسرعة, رنت كلمات رجل السيارة في أذنيها كقرع آلاف الطبول, تشبثت أصابعها بعضلات يد رفيقها, دقَّ قلبها دقاً عنيفاً, تعثر لسانها بألفاظ استنكار, خرجت الكلمات من بين شفتيها العنابيتين ضخمة متقطعة, اتجهت قدماها إلى الطرف الأقصى للرصيف, رفأ البحر إليها من تحت الحاجز الإسمنتي, أحست بنظراته رطبة هادئة وادعة, فاستكان روعها قليلاً, التفتت إلى رجلها, انسكبت نظراتها لاهثة حارة في قلبه, سمعته يعقب على ما حدث بعبارات لم تفهمها, ازدادت التصاقاً به, همست تطالبه بالإسراع في العودة.‏

 

6 ـ البدر:‏

كشف البدر عن وجهه الأبيض, تقدم خطوة في دربه, رأى الرجل والمران يتهامسان, والسيارة تنتقل من طريق إلى طريق بين المباني ترجع إلى الشارع الرئيسي تسير متهادية بطيئة, تواكب من جديد مسير الرفيقين, تمتد رأس رجل السيارة, يرمي الرجل كلاماً باتجاه الرصيف, يشير بيده, يتوقف السائران مذهولين مرتبكين, ثمّ ينطلقان بخطى أسرع, وتندفع السيارة مبتعدة شأنها في المرة الأولى.‏

 

شاهد البدر شجيرات الشاطئ ترتجف أطرافها, ولاحظ قططاً وكلاباً تتوقف عن البحث في أوعية القمامة لتلاحق العربة الأنيقة المسرعة بنظراتها, ورأى النائمين فوق أسرتهم ينقلبون من جانب إلى جانب ثمّ يعودون إلى جنات أحلامهم, بينما السيارة تعيد فعلتها مثنى وثلاث.‏

 

7 ـ الرجل:‏

اخترقت نظراتها فؤاده, اختلط العالم في عينيه بألوان الحمرة والخضرة والزرقة والعتمة, حدقتاها المنسكبتان في عينيه أعادتاه طفلاً خائفاً, حمل فوق رأسه سجل إهانات ضخم, ليتها تعرف كم هو مقهور ومهان, لو تعلم أنَّ الإهانة الأولى قد رضعها مع أول دفقة لبن من ثدي أمه, عندما ولدته كانت عائدة من الحقل, فوق رأسها حمل من أغمار القمح, وقت الظهيرة, في الأول من تموز, فهل تستطيع حبيبته أن تتصور حرّ الظهيرة في مطلع تموز بالنسبة لامرأة توشك على وضع مولودها الأول؟ وعلى رأسها ذلك الحمل تسير به من الحقل إلى البيدر؟ يظن أن مجرد إدراكها للموقف أمر محال فكيف بها لو أخبرها بأن أمه قد شعرت بآلام المخاض وهي في منتصف الطريق؟ لن تصدق هاتان العينان الجميلتان أن تلك المرأة الفلاحة قد أنزلت ما على رأسها بهدوء, وانزلقت في جوف خندق ترابي حفرته مياه أمطار الشتاء, وهناك ولدته بسرعة مع كومة من الآلام لا تطاق, فكانت الأم والقابلة والطبيب والمرضع والممرضة في آن واحد, يتخيل عيني حبيبته تختلجان استغراباً وشفقة, وربما تخضلان بقطرات من الدمع النقي الدافئ, غير أنه يشك في أن قلبها سيستوعب مدى شعوره بالإهانة.‏

 

8 ـ خمس الليل:‏

توالت الإهانات من أبيه وأمه, من أهله وأبناء قريته ومجتمعه, في الطريق والحقل والمدرسة والعمل, فماذا يقول لك اليوم؟ ماذا تطلبين منه أن يفعل؟ نظراتك اللائمة تثقب سويداء فؤاده, لكن يداه ما اعتادتا أن ترتفعا لردّ الإهانة, أنه مدمن على القبول والموافقة والطاعة والمسالمة, لا قدرة له على الشجار أو العراك, أمضى عمره محني الرأس أمام العاصفة, اختبأ من المواجهة, تهرب من لقاء من أهانه, فارفعي هذه النار المنسكبة من حدقتيك الحوراوين في قلبه, سيري إلى جانبه محنية الرأس مثله, أن العراك والشجار لا يجديان, فلتقبلا بما هو كائن, هلما, أسرعا وانسيا هذا الموقف المحرج المؤسف.‏

 

9 ـ دفاع مقدم منه إليها:‏

عيناك مملكة لبست تاجها, تسنمت عرشها, ولا أستطيع أن أتخلى عن الأمن الذي توفرانه لي, لكن ماذا أفعل؟ إن يكن هذا الرجل قد أساء لك ولي, فقد سمعت إيذاء من كلامه كل يوم, وطيلة عمري, قال مالك الأرض مثل هذا الكلام لأمي الصبية, وعندما أخبرتها ذات ليلة بأنني سأحدث والدي بما أراه وأسمعه, زجرتني وقلبها يحترق.‏

 

لا يا ولدي, لا تفعل, أتريد أن تفقد أباك إلى الأبد؟ هذا الرجل أهانني وأهانك, امتدت عيناه الذئبيتان إلى قدس جمالك, ألقى لسانه القذر كلمات نابية في مسمعك ومسمعي, وهاهو يصر على الاستمرار في الإهانة, يكاد يختطفك من بين يدي ويطير بك إلى مكان ناء, أتصوره يلتهمك لحماً وعظماً ودماً في مغارة ضائعة عند قمة جبل, أنا متأكد من مقدرتي على صرعه ورميه أرضاً والجلوس فوق صدره المنتفخة, وقد فعلتها ذات مرة عندما كنت صبياً, يوم تحداني ابن مالك الأرض, وكنا تربين نلعب معاً, ركبت رأسي, أردت أن أكون إنساناً مثله, ولما أصبحت ركبتاي الصغيرتان فوق بطنه, ويداي تأخذان بخناقه وتشلان حركته, وجسمي النحيل الرقيق يجثم فوقه قال لي: يا مرابع, يا ابن المرابعين, سأهجرك من هذه القرية, سأطردك من المنطقة بأسرها. وفي اليوم نفسه وضع والدي أسماله وأسمال أسرته وحشايا من قش فوق ظهر حمارة جرباء, واتجه غرباً صوب البحر, ثمّ شمالاً وجنوباً, بتنا ليلتين في العراء, حتّى التقطنا مالك جديد, فأسكننا زاوية من زريبة أبقار.‏

 

10 ـ حدث بعد منتصف الليل:‏

توقفت سيارة حديثة أنيقة بجانب الرصيف المستلقي على شاطئ البحر, هدأت حركتها, انطفأت أنوارها, انفتح بابها, نزل منها رجل, سار فوق الرصيف متمهلاً, يداه في جيبي بنطاله, عيناه تلاحقان حركات وسكنات الرجل والمرأة المتشابكي الذراعين, تقدم منهما, توقف قليلاً, تابع سيره, تجاوزهما, سبقهما مسافة, استدار, واجههما, ابتسم لهما, حياهما برقة بالغة, مد يده يريد مصافحة المرأة وهو يقول ـ لنكن أصدقاء... و.... و...‏

 

مادت الأرض من تحت قدمي رفيق المرأة, اختلط في ذهنه الماضي والحاضر والمستقبل, استوى في ناظريه الليل والنهار, أحس بكومة الإهانات التي عانى منها أو سمع بها تندلق دفعة واحدة فوق رأسه, رأى أمامه أمه وأباه, مالك الأرض, ابن المالك, وامتلأ الرصيف بوجوه كل من عرفهم خلال عمره.‏

 

 

ضدّ التيّار‍‍!!

1 ـ أزرق‏

قال الواشي للواشي:‏

ـ ما عدنا نعرف موالينا من أعدائنا، كلّهم تلّون بالأزرق!!..‏

قال الوالي:‏

ـ لا معارضة في ولايتي. الشّعب موالٍ للسلطان!!!!‏

ردَّ الواشي:‏

ـ الرعية تتلون، تتقنّع، لا تُخلص.‏

ـ أتظن الأزرق ملغوماً؟ بين جوانحه أعداء؟‏

ـ اللون الواحد يخدع. في الأزرق ألوان أخرى.‏

ـ فليكن الأصغر لون جماعتنا.‏

2 ـ فوق النّار‏

جمع الوالي اللون الأزرق من كلّ منابته ومصادره كدّسه في بوتقة فوق النَّار. أضاف إليها العظام الزرق، الدّماء الزرقاء، العيون الزرق، الخرز الأزرق، الشياطين الزرق!! وبعد ساعة كاملة من تحريك الخليط في البوتقة، على النار، وتقليب المزيج جيداً. تشقِّقت جدران البوتقة من شدّة الحرارة. وابتدأت محتوياتها تتسرّب منها، فتسيل الألوان، لوناً في إثر لون، الأخضر... الأصفر... الزيتيّ... الفستقيِّ... الرماديّ.... الخ....‏

3 ـ أصفر‏

الأصفر يزحف سريعاً. يرتقي الموجودات، يلوّن لأشياء كلّها. يعلوها. يتغلغل الأصفر في نسيج الموادّ جميعها. يخالط الأفكار، يضع بصمات أصابعه على جبين الحياة، وفي عيون الرّغبات. يغمس قبضة كفّه في قلب الأخضر!!‏

ثم يرفعها، ملوَّحاً بها، مهددّاً. ويرسم بإصبعه الصفراوين، السبّابة والوسطى، إشارة النّصر الأصفر.‏

4 ـ أخضر‏

لحق الأذى باللون الأخضر، حاصره الأصفر، حبسه، طغى عليه!! شكا الأخضر. تزعّم المعارضة، حمل شكواه إلى الجهات الأربع، فوجدها قد تلوّنت بالأصفر.‏

اتَّجه الأخضر بشكواه إلى مجلس المدينة، شرح له بإسهاب وإطالة، ما قد ألحق به الأصفر من ظلم وعسف.‏

وقبل أن ينطق المجلس بالقرار. لاحظ الأخضر أن عيون جميع أعضاء المجلس، قد تلوّنت بالأصفر، ففرّ الأخضر، ناجياً بنفسه.‏

 

5 ـ طلب‏

رأى الأخضر أن لابدَّ له من مقابلة محافظ المدينة. فهو رأس السلطة، ومنفِّذ القانون والنظام، سينصفه من طغيان الأصفر.‏

وعندما تقدَّم الأخضر بطلبه، فوجئ بأنَّ المحافظ يرتدي قميصاً أصفر!! فتراجع الأخضر خطوة، وفرَّ هارباً.‏

 

6 ـ شكوى‏

قال الأخضر لنفسه:‏

ـ المحاكم وحدها تنظر في الخلافات القانونيّة. والقضاء فحسب جدير به أن يرفع عنه ظلامته.‏

ذهب الأخضر إلى القاضي، وبيده ورقة الادّعاء. فلاحظ الأخضر، أنَّ القاضي يدسُّ في جيب سترته ديناراً أصفر!!...‏

 

أضيفت في 14/12/2008/ خاص القصة السورية /

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية