الانتظار
الحاجة فاطمة تحدق نحو سهل كوكبا، بعينيها الصغيرتين، المطفأتين من
البكاء..
ضوء الشمس تراه أبهى..
الصمت.. غير الصمت..
تتساءل.. ما الذي حدث؟!..
لماذا هذا الضوء وهذا الصمت يا حاجة فاطمة؟!
أيمكن أن يكون رائق قد أتى، عبر سهل الأقحوان. خطاه الواسعة تنم عن
عجلة ليراها..
-رائق!.
تمزق الصمت، مرة وثانية، وثالثة..
***
يزداد تحديقها في السهل، تراه هناك، وهناك.. وهناك.. مع الأجساد
التي نبتت من عمق السهل..
***
إنه آتٍ لا ريب، يصل إليها، تسمع صوته، وهو يقول لها:
-أريد كأساً من الشاي يا حاجة فاطمة!!.
-لماذا أنت مستعجل؟!
-أمي.. عندي عملية منتصف الليل!
-كيف ترى في الظلام الدامس؟!
-أنسيت أن الأرض جزء مني؟!.. ألا يعرف الواحد أجزاء جسمه يا حاجة
فاطمة؟!
-بلى!.
ويشرب الشاي، لون الشاي عند الغروب، يبدو كدم صافٍ.
يحمل سلاحه، تحت ثيابه، ينظر إليها، تنظر إليه، تغرب الشمس، تشرق
شمس أخرى، يبتسم، تبتسم..
-دعواتك يا حاجة فاطمة!
-اذهب.. الله وقلبي معك يا رائق!
يستدير..
تنظر إلى ظهره، لا يلتفت..
-انتبه لنفسك.. ليس لي سواك!
خطواته تدق في قلبها..
حين يختفي، تشعر أن قلبها توقف عن الخفقان..
***
يأتيها رائق ليلاً..
يحمل مشعلاً، ووجهاً مضيئاً..
يلبس البياض، يأتيها على عجل مبتسماً، ويذهب على عجل مبتسماً
أيضاً..
تنهض من النوم، تصرخ:
-رائق!.
صمت الليل ينام في جنبيها، تتمدد مرة أخرى، تسمع دقات قلبها، مع صوت
خطواته..
-الأرض تناديني يا أمي!.
-أبوك قتلوه هناك.. وهو يمنعهم من الدخول إلى البيت!.
-رأيته!. بيديه القويتين كجسري البيت.. جابه رصاصهم، سقط أمام
الباب، حتى جثته الضخمة منعتهم من الدخول!.
-رائق.. أما زلت تتذكر أباك؟!.
-في كل عملية يا أمي.. أستمد منه القوة!
تمددت الحاجة فاطمة، وخطوات رائق ودقات قلبها كأنها شيء واحد..
***
عند قهوة الصباح..
أمام السهل..
ثلاثة رجال نبتوا مع زهور الأقحوان التي تفتحت على الندى، وقفوا
أمام الحاجة فاطمة صامتين..
كانوا يشبهون رائق..
نهضت، انسكبت قهوة الصباح..
صرخت:
-استشهد رائق!.
لم يتفوهوا بكلمة واحدة، ذهبوا كما جاؤوا..
بقيت الحاجة فاطمة جالسة هكذا، حتى غابت شمس ذلك اليوم، وحين سقطت
الشمس خلف الأفق، انفجرت دموعها كينبوع!.
وبقيت الحاجة فاطمة، هكذا، في قرية كوكبا، صامتة، تنتظر مجيء رائق،
من السهل الملآن بالأقحوان..
كانت تجلس صباحاً.. وتنهض مساء..
صارت الحاجة فاطمة عنواناً للانتظار في قرية كوكبا، والقرى المحيطة
بها..
***
ذات يوم زارتها نسوة الحي، ليهونوا عليها، نظرت إليهن، وقالت بثقة:
-أتحسبونني مجنونة؟!.. لا.. رائق سيأتي.. من هذا السهل سيأتي.. أنا
على ثقة أنه سيأتي!.
عندئذ، بكت النسوة، لكن الحاجة فاطمة لم تبك!.
***
يبدأ ليل الحاجة فاطمة، من غروب الشمس إلى شروقها..
يأتيها رائق، تتحدث إليه، تشرب الشاي معه، وتمسح على شعره..
وتكرر دائماً جملتها المعهودة بينها وبين نفسها:
- سيأتي رائق سيأتي !
وحين تتعب تنام وهي مبتسمة، وكأنها رأت رائق..
***
بيت الحاجة فاطمة بوابة سهل الأقحوان..
ذلك الصباح الصامت، البهي، كأنه صباح استثنائي..
جلست الحاجة فاطمة، مع قهوتها الصباحية، نظرت نحو السهل، تنتظر
رائق..
رأت النسوة، يتجهن نحوها، وعلى وجوههن تساؤلات:
-ما الذي حدث؟!.
-لا أدري!.
-سمعنا حركة في عمق الليل.. يقولون إن الجنود هربوا!.
-إذن سيأتي رئق!.
تمتد الأبصار نحو سهل الأقحوان..
تنبت الأجساد الضاحكة، الراقصة، من السهل، تتكاثر.. ينكسر الصمت..
ويصبح ضوء الشمس أبهى وأبهى..
وتسمع الحاجة فاطمة خطوات رائق..
ما زال بيننا..
صباح ضبابي..
حين غاب هاني أبو صالح للمرة الأولى عن مدرسة (عقبة جبر)
الابتدائية، من الصف الخامس الشعبة (آ)..
وقفت المدرسة كلها دقيقة صمت على روحه الطاهرة الصغيرة، وبدا معلموه
وكأنهم فقدوا أولادهم جميعاً..
ثم دخل الجميع الصفوف..
وجدوا صورة هاني أبو صالح على مقعده.. وطاقة من الورد إلى جانب
الصورة..
بدأ الدرس الأول هذا الصباح، حزيناً، رمادياً، لم يستطع المعلم أن
يتحدث عن شيء آخر سوى هاني أبو صالح، الطالب الشهيد..
قال والدموع تكاد تطفر من عينيه:
-لأول مرة يغيب هاني أبو صالح عن المدرسة..
كان شعلة ذكاء وحيوية..
هتف الصف بأكمله:
-وما زال هاني أبو صالح هنا يا أستاذ1.
كان هاني أبو صالح ينظر إلى المعلم من خلال الصورة.
بادله المعلم النظرة، ثم قال بصوت واضح:
-نعم.. ما زال هاني أبو صالح هنا!.
***
نهض هاني أبو صالح من النوم، لبس ثيابه، نظر إلى صورة أبيه الشهيد،
ابتسم له قائلاً:
-صباح الخير يا بابا!.
-صباح النور!.
ردت عليه أمه، وهي تحمل صينية الإفطار..
قال لها هاني وهو يتناول طعام الإفطار:
- أمّي !.
-ماذا يا هاني؟!.
-لا شيء.. يا أمي.. لا شيء!.
-قل يا هاني.. ما بك؟!.
نظر إليها بحب..
-أريد فقط أن أضمّك!.
وضمته أمه إلى صدرها، ودمعت عيناها..
-يا حبيبي!.
وقف هاني عند الباب، ثم التفت إلى أمه قائلاً:
-انتظريني عند الغداء!.
***
في الشارع العريض المؤدي إلى المدرسة، سمع هاني أبو صالح أصوات
الحجارة والرصاص، كان الشارع فارغاً، إلا من عجوز يتكئ على عصاه، يريد أن يقطع
الشارع..
وضع هاني حقيبته على ظهره، اقترب من
العجوز:
-أتريد أن تقطع الشارع يا عم؟!.
-نعم.. يا ولدي!.
وتذكر موضوع التعبير الذي كتبه عن مساعدة المسنين والمحتاجين..
قال هاني:
-هات يدك يا عم!.
اتكأ العجوز على هاني بيد، وعلى عصاه باليد الأخرى..
قال العجوز:
-أتسمع رصاصهم؟!.
-وأسمع الحجارة أيضاً!.
-أين حجارتك؟!.
-في حقيبتي مع كتبي!.
وصل العجوز وهاني إلى منتصف الشارع، فجأة، استقرت رصاصة طائشة في
رأس هاني أبو صالح، وسقط الجسد الصغير، دون حراك، حركت العجوز قوة جبارة، حمل
هاني، وركض نحو بداية الشارع، وهو يصيح:
-أنقذوه!.
وحين سلم جثة هاني إلى سيارة إسعاف المقاصد الخيرية، سقط العجوز
برصاصة طائشة أخرى، ومددوه إلى جانب هاني في السيارة نفسها..
***
فتح هاني أبو صالح حقيبته المدرسية، أخرج الحجارة، رشق بها الجنود
الذين يقطعون الشارع بسياراتهم المجنزرة..
صوَّب أحد الجنود إليه، كبس على الزناد، فاخترقت الرصاصة رأس
التلميذ هاني أبو صالح من مدرسة الأمعري الابتدائية قرب القدس..
***
اجتمعت في سيارة إسعاف المقاصد الخيرية، ثلاث جثث، طفلان، ورجل طاعن
في السن..
احتار أطباء المشفى، أمامهما جثتان لطفلين، باسم واحد، وإصابة
متقاربة..
***
انتظرت أم هاني ابنها على طعام الغداء، أطلَّت من النافذة مرات
عديدة، سمعت إطلاق الرصاص، وسقوط الحجارة، رأت حمامة، تقف خلف النافذة، نظرت
إليها طويلاً، ثم طارت وطار معها قلب أم هاني.
برد الطعام، أعادته أم هاني إلى مكانه في البراد، ولبست على عجل،
وقلبها يشتعل ناراً..
***
هدرت أصوات المجنزرات في قرية حوارة قرب نابلس..
تراكضت الأقدام، وركض هاني أبو صالح الطالب في الصف الخامس، في قرية
حوارة الابتدائية، ليخبر أباه وأمه أن المجنزرات تتجه صوب حقل الزيتون..
ركض الجميع تجاه الحقل، كانوا يلهثون، أوقفتهم البنادق، رأى أبو
هاني بعينيه أشجار الزيتون التي زرعها أبوه، وهي تموت واحدة بعد واحدة..
صرخ بالجنود، قاومهم، نشبت بينه وبينهم معركة بالأيدي..
تكاثرت البنادق فوق رأسه وجسده، وسقط مكسَّر الأضلاع..
في اليوم التالي..
هدمت المجنزرات بيته، وألقته هو وأولاده وزوجته، على قارعة الطريق
تجاه طريق القدس..
***
اجتمعت الأمان في المستشفى..
-مَنْ أم الشهيدين هاني أبو صالح؟!.
صرخت الأمّان بلوعة واحدة:
-أنا!.
ونظرتا إلى بعضهما.. وصمتتا..
اقتربت الأمان من بعضهما.. وكأنهما على معرفة منذ سنوات عديدة على
الأقل، وتعانقتا بصمت، وذرفت كلتاهما دموعها على كتف الأخرى بصمت..
وحين استلمتا الجثتين.. أخذت كل منهما ابن الأخرى..
وقبل مظاهرة الدفن، بكت الأم الأولى وليدها الوحيد هاني أبو صالح،
بينما بكت الأخرى ولدها الثاني هاني أبو صالح..
وقبل أن يأخذوا الأول من أمام أمه التي شمت رائحته الأخيرة، بينما
كانت الثانية تشم ابن الأولى.. ثم همست وهي تقبله:
-إنها رائحته نفسها.. كأنه حي!.
ثم خرجت مدينة القدس كلها، تشيّع طفلين وشيخاً، وبعد مراسم الدفن،
تحولت الحجارة إلى نفوس غاضبة، تصرخ في وجه ظلم الفوهات..
***
تسلق الشاب المفتول العضلات، السور الشمالي للمسجد الأقصى، وأنزل
العلم الإسرائيلي، صفّق له حاملو الحجارة بحماس.
ابتسم لهم، وكأنه يحيي شعباً بأكمله، ومن بعيد، وجه جندي منظار
بندقيته الجديدة إلى رأس الشاب هاني أبو صالح، سقط الشاب المفتول العضلات، بين
المصفقين جثة هامدة، ثم أخرج الروح وهو يبتسم لرفرفة العلم الجديد..
وتحولت الأكف الفرحة إلى أيادي غاضبة، وحناجر قوية، هدرت في شوارع
القدس، وهي تحمل الشهيد هاني أبو صالح نحو سيارة الإسعاف..
***
بهت المدير وهو يقرأ اسم هاني أبو صالح على الإضبارة التي تقدَّم
بها الطالب لدخول المدرسة:
-ما اسمك؟!.
-هاني أبو صالح!.
-من أين جئت؟!.
-من قرية حوّارة!
-لماذا؟!.
-هدموا بيتنا واقتلعوا أشجار زيتوننا!.
-هل لك أقارب هنا في عقبة جبر؟!.
-لا.. يا أستاذ!.
-تعال يا بني!..
وأمسك المدير بيد الطالب الجديد، هاني أبو صالح. القادم من قرية
حواره، وقاده نحو الصف الخامس(أ)..
* * *
جلس الطالب هاني أبو صالح من قرية حوارة إلى جانب صورة الطالب
الشهيد هاني أبو صالح من مخيم عقبة جبر، نظر إلى الصورة ودمعت عيناه..
صفق طلاب الصف الخامس (أ) للطالب الجديد.
بدا لهم هاني أبو صالح من مخيم عقبة جبر، وقد عادت إليه الحياة من
جديد.
* * *
اشتاقت الأم الأولى لملامح ابنها..
وتذكرت أن صورة ابنها لابدّ أن تكون في حقيبته المدرسية..
فتحت الحقيبة، وجدت كتاب تاريخ، وحجارة، وأقلاماً من الرصاص مكسورة.
بكت لأنها لم تجد صورة ابنها..
ثم نهضت ولبست ثيابها.. وخرجت..
* * *
في الجهة الشمالية من القدس، وفي مخيم الأمعري، نبشت الأم الثانية
حقيبة ابنها وهي تبكي…
وجدت أقلام الرصاص وكأنها بريت الآن..
سقطت صورة هاني أبو صالح الذي يسكن عقبة جبر في الجهة الشرقية من
القدس، في حضنها، حملتها بحنان بين يديها، وصاحت بقهر:
-يا ولدي!..
ومن بين غبش الدمع، تأملت الصور، مسحت دموعها، حدقت في الصورة، لم
يكن ابنها..
قلبت الصورة وقرأت، هاني أبو صالح، مدرسة عقبة جبر الابتدائية، الصف
الخامس(أ)..
وبخطىً سريعة اتجهت صوب المدرسة..
***
التقت الأمّان أمام باب المدرسة، تعانقتا، بصمت، كما في المشفى،
وذرفتا دموعاً ساخنة، كل على كتف الأخرى بصمت..
فتحت الأم الثانية كفها، عن صورة ابن الأم ، الأولى
حين رأت الأم الأولى الصورة، ابتسمت، وكأن ابنها عاد إلى الحياة من
جديد..
تحدثت الأمّان بصوت واحد:
-أنا… دفنت… ابـ..
وصمتتا…
-خرج ابنك من بيتي!.
-وابنك أيضاً خرج من بيتي!..
ولم يعد للكلام مجال، أعادت الأم الأولى صورة ابنها، إلى الأم
الثانية قائلة:
-أنت أمه الآن..
وفتحت الأم الأولى يدها، كانت تحمل حجراً كتب عليه هاني أبو صالح من
مخيم الأمعري.. اسم (فلسطين)..
-سأحتفظ بهذا تذكاراً من ابني!..
* * *
زارت الأم الأولى الأم الثانية في بيتها في مخيم الأمعري، وبادلتها
الثانية الزيارة في مخيم عقبة جبر..
أصبحتا صديقتين حميمتين..
وذات يوم قالت الأولى للثانية:
-لماذا ذهبت إلى المدرسة ؟!…
-افتقدت صورة ابني.. فذهبت لأخذها!..
* * *
نظر المعلم إلى هاني أبو صالح، القادم من قرية حوارة، وإلى صورة
هاني أبو صالح، الذي استشهد قبل أيام..
كان هناك شبه كبير بينهما..
فهم الطلاب طبيعة نظرة معلمهم، قالوا بصوت واحد:
-ألم نقل لك يا أستاذ؟؟.. لم يمت هاني أبو صالح.. ما زال هنا يا
أستاذ!!.
قال المعلم والدموع في عينيه:
-نعم.. مازال هاني أبو صالح هنا!..
* * *
بعد منتصف الليل، في قرية عصيرة قرب حيفا، شق صراخ وليد جديد صمت
الليل..
دخل الأب غرفة الأم، ابتسمت له قائلة:
-مبروك.. إنه ولد!. ماذا ستسميه؟!.
-سأسميه هاني.. وسيصبح اسمه.. هاني أبو صالح.. سيحمل اسم جدي أبو
صالح..
وبدأ صراخ الوليد الجديد يخفت ويخفت..
وحين انشق الفجر أخذ صراخ الحجارة يعلو ويعلو..
وكان من بين مَنْ يحملون الحجارة، في وجه الفوهات، الطالب هاني أبو
صالح، من قرية حوارة، قرب نابلس، في الصف الخامس (أ)، في مدرسة عقبة جبر
الابتدائية.
أسطورة الملك شارون..
والحجارة
في زمن الغفلة الدنيوية، استولى الملك شارون على السلطة، ونصّب نفسه
ملكاً..
كان الملك شارون ظالماً، ضحاياه، لا تعد ولا تحصى، وكان يدعي أنه
يملك نظرية الأرض، التي تقول كلما هرب الناس أو ماتوا أصبحت الأرض بلا أصحاب..
ولم يجد أصحاب الأرض بداً من المقاومة..
كان عندهم أسلحة بسيطة، طاردوا بها جنود الملك شارون الظالم، مما
دعاه إلى إصدار أمر بمصادرتها.. وهذا ما حدا الناس إلى البحث عن سلاح عتيق، حتى
لو كان انكشارياً، وكانوا يدفعون ثمناً للقطعة الواحدة، مبلغاً محترماً، إلى أن
بلغ ثمن إحدى القطع ثمن مهر عروس من حمولة كبيرة.
بيد أن رجال الملك شارون كانوا بالمرصاد لذلك الذي يملك قطعة سلاح
واحدة، عملت فيها يد التصليح مائة ألف مرة.
علقوا المشانق في الساحات، وقطعوا أطراف الجثث، وسحبوا الناس في
الشوارع خلف العربات، وصنعوا من عيون الجثث كرات صغيرة، نظموها في أسلاك،
وعلقوها أمام أبواب البيوت..
وتجوّل جنود الملك شارون في شوارع القرى والمدن، بأسلحتهم الثقيلة
والخفيفة، عندئذ، تجوّل الحزن في كلمات الناس، وتعابير وجوههم، وبات في عيونهم
هم دائم..
ومع الأيام، أخذ الناس يفكرون في شكل آخر من مقاومة جنود الملك
شارون، فكروا في استخدام سكاكين المطابخ، لكن السكاكين قليلة، لأنها صودرت،
بينما أسلحة جنود الملك النارية أسرع في الإصابة والمدى.
وفجأة، جاءت الفكرة مثل إشراقة شمس؛ حين لاحق صبي جريء بحجارته
كلباً مسعوراً، فأصابه في رأسه، فهرب الكلب إلى الحقول البعيدة، ولم يعد..
انتشر خبر السلاح الجديد في هواء القرى والمدن، تناقلته الألسن
والعيون مثل تباشير فرح، طار الحمام الأبيض نحو السماء الزرقاء، وضحكت الشفاه
عن قلوب عازمة على مقاومة ظلم الملك شارون..
حين سطعت الشمس. من بين غيمة تشبه وجه طفل، طاردت الحجارة، جنود
الملك شارون، ولم تستطع أسلحة جنود الملك شارون المتطورة إيقاف ثورة الحجارة..
فُرض حظر التجول..
سقطت الحجارة، من أسطح المنازل. ومن مآذن المساجد، ومن قباب
الكنائس..
عندئذ، عقد الملك شارون اجتماعاً عاجلاً مع مستشاريه، وصرخ فيهم
قائلاً:
-الحجارة تهزم رصاصنا!.
قال مستشاره الأول الذي شاب ما بقي من شعر في رأسه الأصلع:
-أقترح أن نترك سلاحنا جانباً، سيدي الملك، ونحاربهم بأسلحتهم..
الحجارة!.
تصايح المستشارون الآخرون، مستنكرين ما يقوله المقرب من الملك
شارون..
صمت الملك ولم ينطق حرفاً، أشار بإصبعه انتهاء الاجتماع الطارئ،
فخرج المستشارون، بعضهم يهز برأسه، وآخرون ينفضون أيديهم..
سهر الملك شارون الليل كله، ومضت نجوم واختفت، بزغ القمر في منتصف
السماء، وانتهى في آخرها..
وفي الصباح الباكر.. أصدر الملك قراراً بنقل الحجارة من المقالع
الحجرية إلى معسكرات جنوده، وتجريدهم من أسلحتهم، وتسليحهم بالحجارة بدل
أسلحتهم النارية.
تلقى الجنود والضباط، في ثكناتهم الأمر بدهشة بالغة، لكن ثمة مشكلة
ظهرت. وهي كيفية نقل الحجارة من مكان إلى آخر. وقد حلّ المشكلة جنرال متقاعد،
متّقد العينين، وذلك بأن تستبدل السيارات العسكرية، بسيارات نقل الحجارة.
حين تسللت الشمس من بين الغيوم بخجل، أخذ الناس يرجمون جنود الملك
شارون بالحجارة، وحين بادلهم الجنود حجراً بحجر، اندهش الناس، وانقلبت دهشتهم
إلى سخرية، فلم يُحسن الجنود قذف الحجارة، فاستولى الناس على سيارات الحجارة،
وعندئذ، هرب الجنود إلى معسكراتهم الحصينة، بينما حجارتهم تطاردهم.
كانوا يرتجفون، ويشتمون الناس وقرار ملكهم بتجريدهم من سلاحهم.
حين سمع الملك بذلك. عضّ على شفته فأدماها، واستدعى مستشاره الأول،
وصرخ في وجهه:
-أرأيت نتيجة مشورتك؟!..
فكّر المستشار الأصلع ثم قال:
-لابد من تدريب الجنود على كيفية قذف الحجارة!.
دهش الملك وصاح بسخرية:
-تدريب على قذف الحجارة!.
ثم تساءل:
-مَنْ درّبَ الناس على قذف الحجارة؟!..
ردّ المستشار على الفور:
-الناس يملكون الحجارة منذ قرون.. إنها من أرضهم.. أما جنودك، يا
سيدي الملك، فلا يعرفون سوى استخدام السلاح الناري!.
لأول مرة، تخلو الشوارع والساحات من جنود الملك شارون، فيعانق الناس
الفرح، ويقطفون الورود، ويتصافحون، يخرجون إلى الشمس، ويبنون من الأحجار التي
استولوا عليها بيوتاً جميلة، بيضاء مثل حمامة ناصعة..
ودارت الحوارات التالية في شوارع البلاد ومدنها وقراها..
-ضفادع الملك شارون اختفت!..
-الجنود يقذفون بعضهم بحجارة مزيفة!..
-الملك شارون يرتجف تحت لحافه!..
-يحتاج إلى حجر ساخن في قفاه!..
-حلمت أن الملك شارون يحمل حجراً ضخماً ويصعد به إلى جبل من دخان!.
-الملك شارون ليس له عضلات!.
-عضلاته من لبن الخفاش!.
-جنوده يركضون خلفه مثل صراصير!..
-لماذا؟!.
-كي لا يبقيهم خارج جحره!.
ووقف الشباب في ساحات القرى والمدن، وصرخوا، وهم يحملون الحجارة
بأيديهم:
-حجارتنا أيها الملك شارون أقوى من سلاحك الذري في ديمونا!.
-حجارة أرضنا تتحداك أيها الملك شارون!..
وفي المعسكرات، كان الخبراء يدربون الجنود على قذف الحجارة، وقد
استخدموا لذلك نظريات علمية، عن شكل الحجر، وطريقة امساكه، وهيئة الجسم حين
قذفه، ووضعية الأرجل، آنذاك، إلى آخر ما هناك من أمور فنية.
وحين تأكد الخبراء من تدريب الجنود تدريباً كاملاً، قدموا تقريرهم
إلى حكومة الملك شارون، بينوا فيه أنهم قد أدوا مهمتهم، فنالوا مكافأة مالية
مجزية، وطاروا إلى بلادهم.
لبس الجنود دروعاً فضية، لمعت في عيون الناس، وحين تبادل الطرفان
الحجارة، طبّق الجنود تعليمات الخبراء، لكن حجارة الناس أقوى، فالحجر يطير في
السماء، مع الطيور والنسور والسحاب، ويسقط على الجنود مثل كتلة ثلجية أو بَرَد
صاعق..
صمد الجنود، يوماً، يومين، ثلاثة، خمسة، لكن قادتهم، قرروا أخيراً
سحب جنودهم والعودة بهم إلى معسكراتهم، بسبب معدل إصابتهم، وتبين بعد
التحليلات، أن حجارة الناس أقوى، أوجع، أطول مدى…
بحثوا عن السبب، كان مثل قشة في بيدر، وبالمصادفة، وجد أحد الجنود
على مقربة من معسكره، قطعة صوف بحجم الكف، في طرفيها حبلان، يصل طول الواحد
منهما متراً.
بحث الخبراء العسكريون في السلاح الجديد، لكنهم لم يتوصلوا إلى سره
أو طريقة استعماله، وحين جاؤوا بسجين كان يستعمل مثل هذا السلاح، وطلبوا منه
إخبارهم عن اسمه، رفض طلبهم، وحين أجلسوه فوق قطعة صفيح ساخن، صرخ قائلاً من
الألم:
-إنه المقلاع!..
صرخ المحقق المحتقن الوجه في وجه السجين سائلاً إياه عن طريقة
استعماله، لكن الإجابة لم تأته، لأن السجين كان قد فارق الحياة.
جمع الملك شارون مستشاريه. وهؤلاء بدورهم جمعوا خبراء الأسلحة
اليدوية البدائية، وبصعوبة، وبعد مشاورات ومداولات، شرحوا للملك أن الحجر يوضع
في قطعة الصوف، ويلوّح به القاذف، ممسكاً طرف الحبلين؛ وبعد عدة تلويحات، يترك
أحد الحبلين فينطلق الحجر مثل الصاروخ، في الفضاء إلى أبعد مدى، ثم يرتطم
بالوجه أو الجسم مثل لعنة.
صرخ الملك على الفور:
-زودوا جنودي بالمقاليع!.
قال المستشار الأصلع بصوت هادئ:
-أيها الملك المبجل.. يكفي ما حدث لجنودنا.. لنترك الحجارة ونرجع
إلى سلاحنا الناري!.
-هل بدأت تخرف أيها المستشار العاقل؟!.. ألم تكن مشورتك منذ
البداية؟!.
-نعم.. ولكن!.
-ولكن.. سنستمر إلى النهاية.. حتى نهزمهم بسلاحهم!.
أراد المستشار أن يقول.. أشك في ذلك،..".
إلا أنه صمت، فقد كان في عيني الملك فوران بركان مجنون…
أصدر الملك قراراً بإنشاء مصانع لصنع المقاليع، من صوف أكباشه
الخاصة.
إلا أن خبراء الاقتصاد أشاروا عليه، وهم يزحفون كالسحالي أمامه، إن
استيراد المقاليع من أمريكا أقل كلفة من صناعتها محلياً..
وعندئذ، وبعد أن قضوا ساعات طويلة على البلاط البارد، على بطونهم،
نطق الملك كلمتين:
-استوردوا المقاليع!..
حملت البواخر المقاليع، في كرتون أنيق، وورق صقيل، إلى موانئ بلاد
السمن والعسل..
وجاء رجل من الميناء راكضاً، لاهثاً إلى ملكه. وأخبره أن المقاليع
الأمريكية وصلت الميناء، فصرخ بمن حوله كالمجنون:
-وزعوها على المعسكرات.. وليستخدمها جيشي!.
حينئذ، دخل مستشاره الأول من الباب، ذي الاطار
المذهّب، وقال بأدب:
-إذا كان قذف الحجارة يحتاج إلى تدريب.. فاستخدام المقاليع أولى
بالتدريب!.
تأفف الملك من مستشاره قائلاً:
-أنت تعقّد الأمور يا مستشاري العزيز!.
-أنا أبيّن لك طريق الصواب يا سيدي!.
استقدم الملك شارون خبراء جدداً لتدريب جيشه على المقاليع، وحين
انتهت مهمتهم، ملؤوا جيوبهم ذهباً، ثم طاروا إلى بلادهم..
حين ارتجفت العصافير، وطارت من مكان إلى آخر، أخذ الناس وجنود الملك
يتبادلون الحجارة بالمقاليع.
بيد أن ثمة فرقاً واضحاً ظهر بين مقاليع الناس والمقاليع المستوردة؛
فمقاليع الناس متينة، يستجيب لها الحجر، وتلوّح من قبل أصحابها، على شكل معين،
أما مقاليع الجنود فتتقطع، وبالتالي لا تدفع بالحجر إلى مدىً بعيد..
ركض المستشار الأصلع، وأيقظ ملكه من نومه، وقال له لاهثاً:
-جنودنا يهربون!.
-والمقاليع المستوردة!.
-لم تعد تنفع!.
صرخ الملك شارون بجنون:
-لماذا؟!
-لا أدري يا سيدي.. هناك شيء لا نفهمه.. الناس يقولون إن المقاليع
المستوردة لا تنفع معهم. مقاليعهم من صوف أكباشهم، يا سيدي، لقد أصبحنا سخرية
على ألسنتهم، وأخذ الجنود يتمردون.. و..
قاطع الملك مستشاره صارخاً بغضب:
-اغرب عن وجهي أيها المنحوس الأبله.. وإلا سأرجمك حتى الموت!.
ركض المستشار خارجاً من القصر، ناظراً خلفه، كان يتعثر فيرتمي على
البلاط، فيزحف نحو الخارج مثل دودة تحتضر..
ركضت الشوارع فرحاً.. وابتسمت الشمس للأطفال..
وعرض الناس على الأرصفة مقاليعهم وحجارتهم، التي أعادت لهم ثقتهم
بأنفسهم، بفخر واعتزاز، وصنعوا منها قلائد، كي يهديها مَنْ يريد الزواج إلى
عروسه..
ثم جمعوا الحجارة المبعثرة أمام بيوتهم، وكوموها في باحاتها، ونظروا
إليها باعتزاز، ورشوها بالماء صباح مساء، حتى تبقى نظيفة لامعة تحت أشعة
الشمس..
لم ينم الملك شارون أياماً طويلة، طالت لحيته، ولم يعد مستشاره يجرؤ
على المثول أمامه لإحساسه أنه سيقطع رأسه بسيفه المرصع بالجواهر والمعلّق على
جدار غرفة نومه، أو يدقه بحجر مدبب الرأس من عينات الحجارة التي جلبوها إلى
دهاليز قصره، ووضعوها على طاولات زجاجية أنيقة، ولامعة…
وحين يختطف الملك نوماً قليلاً، لم يعد يرى في نومه سوى حجارة، على
شكل وجوه تلطم وجهه، تلاحقه من الأرض والسماء، وأخيراً، وجد حجراً، يستريح في
زاوية ما من الشارع، وعندئذ، اقترب منه الملك بوجهه الشاحب ولحيته الشعثاء،
وقال له:
-أيها الحجر!.
انتفض الحجر، أراد أن ينهض ويلطم وجه محدثه، إلا أنه وجده بائساً،
فهدأ وأصغى إليه:
-ألا تتعب؟!…
-المتعب يستريح!.
-ألا تخشى التفتت؟!..
-مياه الأرض تعيدني إلى صلابتي!..
-من أين تستمد صلابتك؟!..
-من أرضي!.
-هل صحيح أن الحجر لا قلب له؟!.
-لولا الحجر لما كانت الدنيا!.
-لماذا تحب الناس في القرى والمدن؟!..
-لأنهم مني وأنا منهم!..
-والجنود!..
-الأرض لا تحب الظلم!..
-والملك شارون!..
ضحك الحجر، ثم ظهر الغضب عليه، قفز، طار في السماء، صار أحمر بلون
الأرض، ثم أخرج لسانه أمام الملك:
-الملك.. ذلك الشيطان!..
-لو رأيته ماذا ستفعل؟!..
استمر الحجر يقفز، ثم قال:
-ارجع إلى آخر الدنيا وألطمه في رأسه!..
-سيلوثك دمه!..
-سيغسلني المطر!..
-مَنْ قال إن المطر سيسقط؟!..
-ومَنْ قال لك إنه لن يسقط؟!..
نهض الملك شارون، من نومه مبللاً بالعرق، حلقه قطعة حجر جافة، وفي
نفسه ضيق لا تقوى الجبال على حمله..
بلغ صراخه أروقة القصر الممتدة:
-أحضروا لي مستشاري الأصلع!..
وبلحظات، مثل أمامه مستشاره الأصلع، نظر إليه الملك بعينين قاسيتين،
نظرة عتاب وغضب، وتشنج:
-سلامتك.. يا ملكي العزيز!..
-أين أنت؟!..
-أنت الذي طردتني يا ملك الزمان!..
-كنت غاضباً!..
-وما زلت!..
-أتشمت بي؟!..
-ليكسر رأسي بحجر لو شمت بك!..
هدأ الملك قليلاً، نهض من فراشه. تمشّى في الغرفة، بملابسه
الحريرية، ثم قال فجأة لمستشاره:
-أريد حلاًّ لورطة الحجارة!.
-الحجارة ليست ورطة يا سيدي!..
- لكل مسألة حل!..
-لجأنا إلى أكثر من حل.. وما زالوا يهزموننا بحجارتهم!..
-لنجرّب أكثر!..
-إلى متى؟!..
قال الملك ذلك. ورفع إصبعه في وجه مستشاره الأثير إلى قلبه..
-سيدي.. أليست المشكلة هي الحجارة؟!..
-أنت تعرف ذلك!..
-لنصادر الحجارة!..
رفع الملك يديه، وضمَّ قبضتيه، وكأنه أمسك الحقيقة، لمعت عيناه،
اقترب وجهه من مستشاره. وفي عينيه ابتسامة انتصار:
-لنصادر الحجارة.. نعم.. لنصادر الحجارة!..
-متى؟
-الآن.. قبل الغد..!. نفذوا أوامري!..
وارتجف كل مَنْ كان في أروقة القصر والملك يردد:
-نفذوا أوامري.. بمصادرة الحجارة!…
أغلقت المقالع بالشمع الأحمر، وصودرت السيارات التي تنقل الحجارة،
ودوهمت البيوت وصودرت أكوام الحجارة النظيفة من باحات البيوت، وقبض على كل مَنْ
كان يحمل حجراً في يده..
أما البناؤون فقد صودرت حجارة البناء من أيديهم، فعادوا إلى بيوتهم
وقد فقدوا أعمالهم..
ضحك الملك شارون ضحكة انتصار، ولمعت عيناه وهو يرى الشوارع، وأيدي
الناس فارغة من الحجارة، حين لفَّ بعربته المقاوم زجاجها للحجارة ساحة مدينة
كبيرة.
وحين عاد إلى قصره، استقبله مستشاره الأصلع، بوجه ضاحك قائلاً له:
-هل أنت مسرور الآن يا سيدي؟!.. لقد انتهت ورطة الحجارة!..
-نعم.. ولو أن مشورتك جاءت متأخرة قليلاً!…
-الإنسان يتعلم من التجربة يا ملكي العزيز!..
-سأنام الآن مرتاحاً!..
-نوم الهناء يا سيدي!..
دخل الملك غرفته الواسعة، وغط في نوم عميق، وابتسامة طفل ترتسم على
شفتيه.
وفي الأيام التالية، لم يكن ثمة ما يدعو للاهتمام بالحجارة مرة
أخرى، فعاد الجنود إلى حمل السلاح، وساروا دوريات في عرباتهم، في شوارع المدن
والقرى الهادئة..
وبهذه المناسبة، دعا الملك إلى احتفال كبير، فجمع قادته العسكريين
ومستشاريه، وأخبرهم أنه سيطعمهم لحماً مشوياً على الحجارة الساخنة، في حديقة
قصره، حين يصبح القمر بدراً..
وكان الملك قد أمر خبراء الأفران باختراع فرن خاص لتسجين الحجارة،
بالأشعة تحت الحمراء، بهذه المناسبة العظيمة.. على أن ينقلوا من الحجارة
المصادرة أقساها وأملسها..
عند صعود القمر كبد السماء، بدأت الحفلة، وأخذت الحجارة تُسخّن عند
تلألؤ أول نجمة في السماء..
لبس الملك أبهى حلة لديه، وتبعه مستشاره الأصلع مثل ظله، ونزلا
الدرج الرخامي.
نظر الملك إلى أكوام الحجارة المنتقاة، فارتعش جسده، بينما كانت
أكوام اللحم من الأغنام الطرية الصغيرة الرضيعة تتكدس إلى جانبها مثل جبل من
لحم..
وقف الملك شارون قائلاً، بينما مستشاره الأصلع يبتسم من خلفه:
-سيداتي.. سادتي.. كلوا واشربوا حتى الصباح.. اسهروا.. وكلوا اللحم
المشوي على الحجارة.. فالحجارة لن تصبح بعد اليوم إلا للشواء..
ورفع الملك كأس النبيذ الأحمر، ثم عبه دفعة واحدة، فعبت الأفواه
خلفه ما في الكؤوس النمساوية من السائل الأحمر..
وحين قدَّم له طبق اللحم المشوي الأول، قرب القطعة الأولى من فمه،
وعندئذ، تناثر اللحم المشوي والنَّيِّئ، وتناثرت أزهار القرنفل والنرجس وأوراق
أشجار الصنوبر، وارتجفت الحديقة والقصر، وكأن بركاناً ثار غاضباً…
لقد انفجرت الحجارة.. في اللحظة التي ضحك فيها القمر..
بعد تلك الحادثة، أمر الملك شارون أن تبعد الحجارة من قصره، أن
تنفى، أن تودع السجون المظلمة..
في غضون أيام، وضعت الحجارة في غرف السجون الفارغة، وحين لم تكفِ
بنيت سجون جديدة من حديد، وزجت الحجارة الباقية فيها..
زاد ظلم الملك شارون، فقام بمذابح واغتيالات جماعية، لكل مَنْ كان
له صلة بالأرض والحجارة..
وكلما زاد ظلمه زادت كوابيسه، فكان يرى الحجارة في منامه بأشكال
مختلفة، فمرة يراها على شكل غول، وأخرى يراها على شكل تنين له عدة رؤوس، وثالثة
يراها على شكل طوفان يغرق مملكته..
وذات مرة أمسك الجنود شاباً يحمل حجراً، أخرجه من بيته حين حفر
بئراً، فزج بالسجن دون محاكمة، وقد رأى الملك ذلك الحجر على طبق من فضة، وهو
يرتجف، وحينئذٍ صرخ:
-اهدموا بيته.. وشردوا أهله!..
توجهت الجرافات إلى بيت الشاب، وجرفته من أساسه، ثم حملت حجارته إلى
السجون، أما جثث ساكنيه فقد لفت بأوراق الزيتون ودفنت..
في نهاية القرية، سمع أحدهم بما حدث، وليلاً، فرَّغ إحدى غرف بيته
من محتوياتها، وهدمها، حجراً حجراً، والناس نيام، وحين أفاق الصباح، وجدها
الناس كومة حجارة، فرشقوا الجنود، مما اضطر هؤلاء إلى الاحتماء بمعسكراتهم..
انتشر خبر ما حدث بسرعة كبيرة..
في البداية هدم الناس الغرف التي ليسوا بحاجة إليها، ورجموا
بحجارتها الجنود، ومن ثم استغنوا عن جميع غرف منازلهم، إلا من غرفة واحدة،
لإيواء أطفالهم والعجزة منهم.
بدأ الملك شارون يركض في غرف قصره وأروقته، ويصيح كالمجنون:
-الحجارة.. الحجارة.. تخلصوا من الحجارة!..
اجتمع أطباؤه، وقرروا زرقه بحقن مهدئة كل عدة ساعات، من أجل
الاستماع إلى أوامره بأعصاب هادئة..
وبعد أيام، استدعى على الفور، مستشاره الأصلع، وصرخ فيه قائلاً:
-لماذا لم تفكر بالبيوت؟!..
-سيدي الملك.. لأول مرة في التاريخ.. يستغني شعب عن بيته من أجل
أرضه!..
نتف الملك شارون لحيته، وصرخ:
-على المستشار الأول أن يتوقع الأسوأ!.. خلصني.. ماذا تفعل الآن؟!..
الناس يهدمون بيوتهم ويرجموننا بحجارتها!.
تحدث المستشار بهدوء:
-شرّد الناس.. وأقفل البيوت بالشمع الأحمر!..
قال الملك شارون لمَنْ فقد صبره:
-الناس كثيرون.. والبيوت أكثر!..
-ليس هناك حل آخر!..
انفتحت أفواه السجون للناس والحجارة معاً، وشمّعت البيوت بالشمع
الأحمر.. وشرد الناس الذين هدموا بيوتهم ليقاتلوا الجنود بحجارتها، إلى وادي
الزهور، أما الآخرون فقد لجأوا إلى حقول الزيتون والحمضيات، ولجأت فئة ثالثة
إلى حفر سقفوها بسعف النخيل.
فاضت السجون، وتعب الجنود، وحينئذ، جاء قواد الملك إليه، وهم يلعنون
مشورة مستشاره صائحين:
-هدمنا الكثير من البيوت، وسجنا سكانها وحجارتها.. لكن هناك أناساً
كثيرين.. وحجارة كثيرة.. إن بين الناس والحجارة صداقة حميمة… يا مليكنا.. لهثنا
أمام الحجارة كالكلاب…
أمر الملك أن يؤتى بمستشاره الأصلع مقيداً، وحين مثل أمامه، هدده
الملك بوجه غاضب:
-هيا.. أعطني مشورتك الأخيرة!.. وإلا سأقطع رأسك وأقطّع لحمك..
وأرميه لكلابي المسعورة!..
-ارحمني يا سيدي!..
-المشورة الأخيرة.. وإلا!..
قال المستشار الأصلع وهو يرتجف على الرخام البارد:
-امنح البيوت لجنودك.. وأفرج عن الحجارة المسجونة، حتى لا تصلها
الأيدي.. وضعها في الساحة الكبيرة للمدينة، وابنِ قصرك فوقها.. عندئذ، تضمن، يا
سيدي موت الحجارة إلى الأبد!..
صرخ الملك بصوت جنوني:
-افعلوا ما قال!..
ثم سحب المستشار على بطنه إلى سجن انفرادي..
استنفر الجنود العربات والقطارات والبهائم لنقل الحجارة، إلى ساحة
المدينة.
انطمرت الساحة في المدينة بالحجارة، ووصلت الحجارة إلى علو عدة
طوابق، أما الجنود فقد سكنوا البيوت الخالية.
وحين بلغت الحجارة عنان السماء، سيجت بأسلاك كهربائية، وعيون أشعة
تحت الحمراء، وحينئذٍ، ضحك الملك صارخاً:
-ابنوا قصري فوق حجارة الناس!..
حضر البناؤون، وحين اكتمل القصر، صعد الملك شارون إليه بطائرة
مروحية خاصة، وحين نظر إلى أسفل، لم يرَ جنوده، ولا أولاده، ولا نساءه..
في القصر الجديد، أحسَّ الملك شارون بالوحدة، صرخ، فسمع صدى صوته
مشروخاً آلاف الأصوات، وأمر باللاسلكي أن يؤتى إليه بأولاده وزوجاته، ومستشاريه
وعلى رأسهم مستشاره الأصلع، وسئل إن كان يريد جنوده أيضاً، لكنه صرخ قائلاً:
-لا.. ليحرسوا السياج المكهرب!..
من الشمال الشرقي، لمح الملك شارون غيمة سوداء على شكل حجر، ارتجف
قلبه، كبرت الغيمة، كبر الحجم، سقط المطر، سقط الحجر، اهتزت الحجارة تحت قصر
الملك شارون، ارتجف القصر وكأنه يحتضر قبل أن يسقط، سقط الملك شارون، وجرفته
الحجارة التي اندفعت نحو الجنود كالسيل..
عاد الناس، عادت البيوت، بنيت بالحجارة بيوت جديدة، نحت الناس حجراً
من حجر، ووضعوه نصباً لجندي من حجر، في الساحة التي بنى فيها الملك شارون قصره
فوق الحجارة التي لن تموت..
الزهرات الثلاث..
أغلق الشيخ إسماعيل القرآن الكريم، بعد أن انتهى من درسه اليومي،
ونظر إلى محدثيه بعينيه الصغيرتين الذكيتين وقال:
-هه.. ما هي الأخبار؟!..
قال أحدهم:
-قتل الجنود اليوم طفلاً في الخامسة كان يلعب أمام بيته!.
اعتصر الشيخ إسماعيل وجهه بيديه، ونظر من خلال النافذة إلى السماء
المرشومة بالنجوم، بعينين دامعتين…
.. كان طفله علي وطفلته أسماء هناك، وكانت زوجته تخبز بالفرنية، حين
سقط السقف فوق رؤوسهم، في قرية (لفتا)… كان، حينئذٍ، في يافا، حيث اشترك بإضراب
هناك، أخبروه حين عاد أن زوجته رفضت الخروج من الدار، فهدموها فوق رأسها مع
طفليه…
همس بعد أن انتهى من ذكرياته:
-لا إله إلا الله…
ثم نظر إلى محدثيه نظرة ذات معنى، فقال له أحدهم:
-النشرة تحت السجادة الخضراء!..
حين خرج الجميع، فرغ المسجد المطل على بوابة المهدي، في القدس
الشرقية، نظر الشيخ إسماعيل حولـه، اتجه مسرعاً، قلب السجادة الخضراء، دس
النشرات في جبته الواسعة، واتجه بخطوات واسعة، بعد أن أغلق باب المسجد، بعد
العشاء، نحو شارع علاء الدين..
***
بعد ساعة واحدة، عاد إلى غرفته الواقعة خلف المسجد، لمح سيارة
الجنود تقف عند رأس الحارة، كان بابه مفتوحاً، وكان رئيس الدورية، يجلس على
سريره، بينما وقف جنديان قرب الباب..
صرخ به رئيس الدورية حانقاً:
-أين النشرة التي توزعها؟!..
نظر إليه الشيخ إسماعيل نظرة هازئة:
-أنا الذي يجب أن أسألك.. كيف تدخل بيوت الآخرين دون إذن منهم؟!..
شدد رئيس الدورية على كلماته مهدداً:
-قلت لك أين النشرة؟!..
قال الشيخ بهدوء:
-يبدو أنك لم تجد شيئاً!..
كاد الدم ينفر من عيني رئيس الدورية حين قال:
-سنجدها.. لا تفرح!..
وأمر الجنديين بالخروج قبل أن يخرج...
***
وضع الشيخ إسماعيل رأسه على المخدة، جالت الأفكار به بعيداً، رأى
عمر بن الخطاب، وهو يرى المرأة تطبخ الحجارة لأطفالها الجائعين، هناك جوع معدة،
وهنا جوع إلى الحرية..
أين ذلك الذي ملأ معدة الجائعين، ليروي بصدقه وشجاعته النفوس
الظامئة إلى الحرية.
ودمعت عيناه قبل أن يغفو..
***
اتخذ الشيخ إسماعيل الطريق الترابي الذي يسير فيه منذ ثلاثين عاماً،
بعد صلاة الضحى، ذلك الطريق الذي حفرته أقدام الناس من القدس إلى قريته (لفتا)،
منذ القديم…
صحيح أنهم مسحوا القرية، وبنوا مستعمرة فوقها، لكن (لفتا) لم تمت في
نظر الشيخ إسماعيل..
جلس الشيخ على طرف قريته المنكوبة، جلسته المعتادة، نظر إلى الحجارة
القديمة الذي يؤكد للجميع أنها حجارة بيته، حيث دفنت تحتها زوجته وولداه..
من بين الأحجار أطلت زهرات حمراء ثلاث، ندية، حين أزاح عنها حجراً،
شعت الزهرات الثلاث تحت الشمس مثل ثلاث ياقوتات ثمينة..
قرب الزهرات الثلاث لفت نظره حجر أبيض مشوب بحمرة، خرجت منه ثلاثة
قلوب بيضاء، ملساء،
ناصعة، وكأنها قلوب زوجته وولديه، تأمل الشيخ الحجر الأبيض، قال في
نفسه:
-سبحان الله!..
ثم دسه في جيبه..
وعندئذ، سمع أصوات.. الله أكبر.. ونعم.. للحجر..
واختلطت الأصوات بهدير السيارات، وطلقات قنابل الغاز..
نهض الشيخ، ولمح مئذنة مسجده..
***
قبل صلاة الفجر، نهض الشيخ إسماعيل، ليستعد للآذان، توضأ، نظر إلى
القمر الصافي، والنجوم المرتعشة كالجواهر.
همس خاشعاً:
-سبحان خالق الأكوان!..
حين لبس جبته، تحسس الحجر ذا الرؤوس الثلاثة.
وكأنه تحسس وجهي ولديه..
حين اقترب من المسجد، شعر أن حركة ما خلفه، فتح الباب، اندفع الجنود
مع رئيس الدورية داخل المسجد بأحذيتهم الثقيلة السوداء..
-اخرجوا.. الكلاب وحدها هي التي لا تميّز بين مكان وآخر!..
خرطش جندي رشاشة، أوقفه رئيس الدورية بإشارة من يده..
قال رئيس الدورية:
-البارحة، في شارع علاء الدين وزعت نشرة تسمى (النفير)..
-اخرجوا من المسجد!..
تابع رئيس الدورية:
-انتبه يا شيخ إسماعيل، تحركاتك صارت مريبة!..
وخرجوا..
صار الدم يغلي في رأس الشيخ، بينما كانت يده تشد على الحجر الأبيض
المشوب بحمرة..
***
بقي الشيخ إسماعيل طوال النهار منقبض الصدر، وبعد أن أنهى درسه بعد
صلاة العشاء، طلب من مستمعيه أن يحضر كل واحد منهم حجراً أو اثنين، في جيوبهم.
وحين استغربوا طلبه قال لهم:
-ستعرفون في الوقت المناسبة، إن شاء الله!..
***
وبقي الشيخ في غرفته طوال الليل يقرأ القرآن، وحين رأى فجراً كومة
الحجارة، فرح وكأنه عثر على كنز، وطلب من المصلين أن يحملوا الحجارة إلى أعلى
درج في المئذنة.
فهموا قصده، وحين حاولوا ثنيه عن عزمه بسبب كبر سنه، حسم الأمر:
-النشرة يمكن أن يوزعها أي شخص.. أما الجهاد فهو الآن فرض عين!..
بعد أن صلى الضحى، راقب الشيخ إسماعيل سيارات جنود الاحتلال، من
أعلى درج في المئذنة..
حين توقفت السيارات، ونزل الجنود، سمعت القدس كلها الشيخ إسماعيل
يصيح.. "الله أكبر"..
ويرمي حجره الأول ثم الثاني، ثم أمطرت سماء القدس حجارة من سجيل..
لم يستطع الجنود مجابهة حجارة الشيخ برصاصهم، وقد أفادوا أن الشيخ
إسماعيل بدا على المئذنة مثل مارد له جناحان، يلبس ملابس بيضاء، ويضع عمامة
خضراء، زرعت السماء الزرقاء خضرة، بينما تساقطت حجارته كأنها من أعالي السماء،
خرقت سيارات الجنود، وحفرت الأرض، وأزّت أزيزاً غريباً..
على الأثر، أغلقت الحارات المؤدية إلى المسجد، ولكن الناس طردوا
الجنود، بفضل حجارة الشيخ إسماعيل..
وقد قيل، إن الحوامات لم تستطع الاقتراب من الشيخ إسماعيل طوال
ساعتين، إذ إنها كانت تهرب من حجارته، كما تهرب من القذائف..
ويقال أيضاً، إن تكبيرات الشيخ إسماعيل كانت تسمع في أحياء القدس
كلها..
حين انتهت حجارة الشيخ إسماعيل، استطاعت إحدى الحوامات إصابة الشيخ
في صدره..
عندئذ، أخرج الشيخ إسماعيل الحجر الأبيض المشوب بحمرة، ذي القلوب
الثلاثة البيضاء، انغسل الحجر بدمه، قبل أن يرشقه نحو الحوامة..
تهالك جسد الشيخ إسماعيل فوق درابزين المئذنة، تعلقت عيناه في
السماوات العلا، نفح روحه وابتسامة رضا على شفتيه..
في تلك اللحظة، انطلقت مآذن قبة الصخرة وبقية مآذن القدس.. معلنة
آذان الظهر..
وردة في معتقل الخيام
تفتحت الورود في مشتل عباس، على مرمى حجر من معتقل الخيام كانت
الشمس قد انتصفت السماء، واختلط صراخ المعتقلين عند عمود التعذيب برائحة شذى
الورود..
نظر الشاب عباس نحو المعتقل، سمع الصراخ، أمسك شتلة ورد وضمها
بيديه، فأدماه شوكها.
نظر عباس إلى الألوان، لم يعد يشم الرائحة الزكية، كان أخذها
بعيداً، لم يعد يسمع سوى الصراخ، صراخ أحمد وعلي وأنطون وآخرين لم يعرفهم..
نام تحت الشمس. رأى عمود التعذيب، يطول حتى السماء، والكيس الذي
يوضع فيه رأس المعتقل، يطير كالمنطاد، والحبل الذي تربط به يدا المعتقل كمرساة
شاعرية على شاطئ صيدا..
ينهض، الصراخ صمت، والرائحة الشذية أصبحت بلا رائحة..
***
لم يتناول عباس طعام الغداء، قالت له أمه:
-ما بك يا عباس؟!
-دائماً أسمع صراخهم!
-لو لم تكن..
وصمتت..
-أكملي يا أمي.. لو لم تكن يدي مقطوعة. لدخلت المعتقل منذ زمن!
-لا أقصد يا عباس!
-أنا عباس.. سيرون..
***
كان يجلس وحيداً في المشتل ليلاً، حين جاء إليه ثلاثة رجال من
المقاومة. أدخلهم خلف المشتل الشرقي، قال له أحدهم"
-هل تساعدنا يا عباس!
-هذه بلدنا جميعاً!
-سنقوم بعملية في المطلة.. نريدك فقط أن تخزن لنا الأسلحة في المشتل
لفترة من الوقت!
-ازرعوا المشتل أسلحة!
***
بدأ تخزين الأسلحة عدة أيام وبأوقات متفاوتة، كان عباس خلالها ينام
في المشتل، ويأكل فيه.
وحين جاء الرجال لحملها، نظر إليهم عباس قائلاً،
-لو كنت أملك يدين لذهبت معكم!
قال له أحدهم:
-لقد قمت بدورك يا عباس!
ثم اختفوا في جنح الظلام
***
كانت الشمس في كبد السماء
نثر عباس بذور الورد في الأصص الصغيرة المصفوفة والمعدة لذلك..
سمع دوي انفجارات، تأتي من المطلة، راقب السماء والشمس، ابتسم، هبّت
رائحة عطر زكية.
وبحركة بطيئة، نثر بذور الورد في عين الشمس، كان يريد زرعها وروداً.
فتح المذياع
صرخ بفرح..
-لقد نجحوا!
***
قبل أن يغلق المشتل ليلاً، حاصروه بسياراتهم، انغرزت الأضواء في
عينيه كسكاكين.
شدوه من يده اليسرى، وأمام طاولة المحقق قال بقوة:
-نعم.. أنا خزنت أسلحتهم في مشتلي.. لم يخلق الإنسان ليشم الورود
فقط.. بل خلق ليحيمها..
***
وقف عباس نائماً في الزنزانة الانفرادية الضيقة عدة أيام..
وفي الأيام التالية، وقف إلى جانب العمود، رآه يعلو في السماء ورأى
نفسه يطير بالمنطاد، ورأى حبلة مرساة رومانسية على شاطئ صيدا..
ورغم التعذيب لم يقل أسماء الرجال. قال لهم فقط:
-من يحب الوطن لا اسم له!
لم يعد يشعر بجسده. أو يده اليسرى، كان يبتسم وهم يضربونه بكل
قوتهم.
-قل لنا اسماً واحداً!
-لاأسماء لهم..
وصفه المحقق في المعتقل بالعنيد:
-لماذا أنت عنيد وأنت تزرع الورد!!
-في الورد أشواك أيضاً
-وقح
-أرأيت لقد وخزتك شوكة ورده!
***
كتب عباس على الزنزانة الانفرادية أسماء الورود في المشتل وفي كل
يوم كان يشم وردة من تلك الورود، لكن الرائحة كانت مختلطة برائحة الدم الجامد
على الجدران.
***
خطرت له الفكرة، بعد أن صحا من التعذيب
"مشتل داخل زنزانة".
وأخذ يحلم بعد أن تملكته الفكرة
-من أين الأصص؟
خلع قميصه، صنع منه كيساً صغيراً، وحفر أرض الزنزانة، وملأه تراباً
أحمر..
أصابه احباط.
-من أين لي بالبذور؟!
فتش جيوبه، قلبها مراراً وتكرارا، وأخيراً وجد بذرة صغيرة في جيبه
الخلفي
نظر إلى البذرة، وكأنه ينظر إلى جوهرة
طار من الفرح، ارتفع بالمنطاد، ورسا بمرساته على شاطئ حالم، يشبه
شاطئ صيدا
نظر إلى الشمس، كانت مزروعة وروداً، سمع صراخ المعتقلين، وكأنها
ضحكات نابعة من الأعماق.
وضع البذرة برفق في التراب.
كان التراب جافاً
انتظر حتى غابت الشمس، حين أحضروا له كأس الماء اليومي الوحيد..
كان حلقه جافاً كتربة عطشى..
لم يشرب نقطة ماء من الكأس، بل سكبه فوق التراب الذي ضم البذرة.
في اليوم التالي، شرب نصف كوب، وسقى البذرة النصف الآخر وانتظر..
لم يعد يفكر سوى بالبذرة، وكأنها أمله الوحيد في هذا الكون.. وفكر..
-ماذا لو رفسها أحدهم بحذائه الثقيل..
وضعها في زاوية الزنزانة، وخبأها بجسده، وسمع صوت تنفس التراب، تنفس
البذرة، تنفسه هو..
ذات ضحى مشرق، رأى خيطاً أخضر كنصل السيف يشق التراب.. كان يريد أن
يصرخ..
-لقد نجحت.. الزنزانة تنبت وروداً أيضاً..
***
ومع مرور الأيام، في معتقل الخيام، رعى عباس الشتلة، الصغيرة
الضعيفة، كما ترعى الأم وليدها.
وكانما تضع الأم أملها في وليدها، وضع عباس أمله في شتلة الوردة
الضعيفة، كان يشعر شعوراً غريباً، باقتراب خلاصه كلما كبرت الشتلة.
في الأيام الرطبة، كان يقاسم الشتلة الماء، وفي الأيام الحارة
والجافة، كان يسقيها الكوب حتى أخر قطرة فيه..
***
ذات ليلة، كان بين اليقظة والنوم، رأى شتلة الوردة تخرج من كيسها
القماشي، تنبت لها أشواك كالخناجر، كان غصن الوردة يعلو ويعلو، حتى يصل سقف
الزنزانة، كانت وردة بيضاء، في منتصفها وجه شيخ مضيء..
أخذت الوردة تضغط على سطح الزنزانة، إلى أن تطاير شظايا في الهواء،
بينما أشواك الوردة تدفع بالجدران في الاتجاهات كافة.
دخل هواء الحرية الزنزانة، ونزل مطر خفيف، غسل شعر الشاب عباس.
***
كانت الشمس قليلة في زنزانة عباس الانفرادية
كان يصحو باكراً. ويترك الشتلة في البقعة الضيقة، التي تدخل منها
أشعة الشمس للزنزانة، وكان يجلس ناظراً إليها وكأنها حبيبته أو خطيبته..
وحين تبدأ بقعة الشمس في التحرك. يحمل الشتلة برفق ويسير مع البقعة
الصغيرة، حتى تختفي تماماً، وعندئذ يحمل الشتلة برفق أيضاً، ويضعها في زاوية
الزنزانة، ويبتسم لها قائلاً:
-تفتحي أيتها الوردة تفتحي.. أريد أن أرى لوتك!
***
في حلم آخر.. يرى عباس يوم قطعوا يده، كان في الحقل مع أبيه. حوّمت
طائرة سوداء كالغراب راحت وجاءت كانت حبات القمح في السنابل ما زالت خضراء
وطرية، فجأة اقتربت الطائرة، ثم ابتعدت ألقت على الحقل قنابلها واختفت كلص
خائف..
***
عندئذ، لم يرَ عباس نفسه إلا في المشفى، سأل عن أبيه، قبل يده،
صمتوا جميعاً، فعرف أنه مات..
تحسس ذراعه اليمنى، لم يجدها، حين نظر إلى كفه اليسرى، كان جرحه ما
يزال ينزف، كان اللون أرجوانيا قاتماً وضع يده المدماة على وجهه وبكى..
***
قاس عباس شتلة الوردة بنظره تارة، وبظلها تارة أخرى، كان يرعاها
بعاطفة قوية، وكأنه أم ترعى وليدها ليكبر "كل شبر بنذر"..
تنفس عباس الصعداء حين رأى الشتلة تتفرع وحين كان الصراخ أمام
العمود يتعالى في الفضاء، كان عباس يستمد قوته من تلك الشعلة الخضراء الضعيفة..
***
ذات يوم شديد البرودة، ذبلت الشتلة، لم تطلع الشمس في ذلك اليوم..
لم يدر عباس ما يفعل.. أحس أنه ضائع..
ضمّ الشتلة بين جوانحه ليدفئها، نفخ عليها من أنفاسه الحارة
المقهورة، وأخذ ينظر إليها، لم يرمش له جفن، ولم ينم تلك الليلة. وهو يضم
الشتلة بين يديه. ينفخ عليهاتارة ويضمها تارة أخرى..
في الصباح أشرقت الشمس، عرّض الشتلة لأشعتها الصباحية، انتعشت
الشتلة، وبدت أوراقها الصغيرة الرقيقة لماعة كالزمرد..
**
كان صباحاً غير عادي..
شعر عباس أنه خارج المعتقل
كان يتنفس هواء جديداً..
بدت الزنزانة الانفرادية الضيقة غرفة متسعة أنيقة..
هبت روائح من ورد المشتل، استقبلها عباس بنشوة لا متناهية..
في هذا الصباح، انشق زر الورد عن لون كالأرجوان..
لم يكن أحمر قانياً أو فاتحاً، كان لوناً بين اللونين..
ابتسم عباس للوردة فرحاً كما تفرح الأم حين يكبر وليدها..
لم يسمع هذا اليوم صراخ المعذبين..
ولم يرَ العمود وهو يهتز تحت الشمس المحرقة..
كأن معتقل الخيام تجدد هواؤه..
فجأة صراخ من بعيد غير ذلك الصراخ..
نظر إلى الوردة، أحسّها تتفتح كلما اقترب الصراخ..
سمع صوت أنطون من الزنزانة الانفرادية الأخيرة
-يا الله.. لقد فروا.. نحن أحرار!
تمسك عباس بالوردة..
احتضنها كحبيبة غابت عنه طويلاً
تقاطرت الأجساد، تحمل رائحة الوطن والأرض، وصرخوا صراخ الحب للوطن
والأرض..
شمت الوردة تلك الروائح، فشعت كالأرجوان، كسرت الأيدي الطرية أبواب
المعتقل الحديدية، فرح عباس للشمس، وهو يرفع الوردة بين يديه..
كان عباس يصرخ:
-هذه وردة الحرية.. هذه وردة معتقل الخيام!
كانت الأيدي الفرحة تحيط بالوردة الطرية. وبرقت عينا أمه من بعيد،
بين الجموع، ترقب المنظر، وتطفر بدموع الفرح.
إسلاميات الانتفاضة
1-خطبة الجمعة
صباح يوم الجمعة، نهض أطفال مخيم الأمعري قرب رام الله، فوجدوا
بسكويتاً مغلفاً بأغلفة فضية ولامعة، يملأ الشوارع والأزقة.
سقط طفل وراء آخر بسبب البسكويت المسموم، نظروا إلى مشارف المخيم،
كان المستوطنون يقفون هناك، وينتظرون موت الأطفال بسياراتهم..
تنادى الناس إلى صلاة الجمعة، وهم غاضبين، وفي مسجد المخيم، صعد
الشيخ سلمان المنبر، وبعد أن كبّر أمر الناس بطرد المستوطنين من المخيم..
خرج الناس بعد الصلاة يحملون الحجارة، طردوا المستوطنين خارج
المخيم، ركب المستوطنون سياراتهم، ولم يبق منهم سوى غبارهم..
***
2-عباءة الشيخ
هدوء المسجد طمأنينة للنفس، وصوت الشيخ حسين، وهو يتابع درسه لنفر
من حوله. يمنح الهدوء جواً روحانياً عابقاً بالإيمان..
في معركة بدر كان المسلمون قلة، والمشركون كثر ورغم ذلك انتصر
المسلمون، بسبب قوة عقيدتهم .
وتوقف الشيخ عن الكلام إثر جلبة في بهو المسجد، نظر الجميع نحو
الباب.
دخل شاب ملثم، وهو يتلفت خلفه، وقف الشاب أمام حلقة الدرس قائلاً:
-السلام عليكم.. الجنود يلاحقونني.. أنقذوني..
ياأخوة الإيمان!
خلع الشيخ حسين عباءته، ورماها فوق كتفي الشاب. وخلع آخر طاقية
مخرمة اشتراها من مكة في حجه الأخير، ووضعها فوق رأس الشاب، وخلع ثالث غطاء
رأسه… قال الشيخ حسين، وهو يمسك برفق بيد الشاب:
-تعال يا بني.. إلى وسط الحلقة.. واستمع للدرس! لا تخف!
جلس الشاب الذي كان من القوات الضاربة، وسط حلقة الدرس، وأحاط به
الناس كما تحيط الأم طفلها بيديها
دخل الجنود المسجد، داسوا بأحذيتهم المغبرة، سجاد المسجد، توقفوا
أمام حلقة الدرس شاهرين رشاشاتهم الأميركية..
-هنالك شاب دخل المسجد.. أين هو؟
-كلنا دخلنا المسجد!
قال لهم الشيخ حسين..
تأمل الجنود وجوه الحاضرين، نظر الشاب الذي يرتدي عباءة الشيخ في
وجوههم.. ران صمت قصير، ثم عاد الجنود خائبين من حيث أتوا؟
***
3-إصرار شيخ..
حين عاد الشيخ منصور، خطيب حي البريدي في القدس. إلى بيته بعد صلاة
العشاء، كان الجنود ينتظرونه، في إحدى زوايا الشارع، خرجوا إليه مثل شياطين
الليل، ودون سابق إنذار نزلت هراواتهم الثقيلة فوق رأسه دفعة واحدة وحين فقد
الوعي، انهالت الهراوات على رجليه، حتى أصيب بعدة كسور..
حين زار الشيخ منصور أقرباؤه وأصدقاؤه في مستشفى المقاصد الخيرية،
قال لهم:
-ما اليوم؟!
-اليوم هو الخميس!
قال لهم:
-أريد كرسياً متحركاً مساء هذا اليوم
وحين جلس على الكرسي، قال قبل صلاة الجمعة
-خذوني إلى المسجد!
دخل الشيخ منصور المسجد على كرسي متحرك، ملفوفاً بالشاش، تحركت
الوجوه الجالسة للصلاة، تهللت واستبشرت بقدوم الشيخ.
بدأ الشيخ منصور خطبته بصوت قوي يدعو إلى التمسك بالأرض، ومقاومة
الاحتلال..
4-أحد.. أحد
حين دخل الشاب مجد، النحيل، الطويل، من القوات الضاربة معتقل أنصار
في النقب، نظر إليه الجنود والمحققون نظرة إشفاق وازدراء.
أدخلوه إلى غرفة خالية من الأثاث، كان الشاب مجد يعرف عناصر كثيرة
من القوة الضاربة، في مخيم الأمعري، نظر إليه المحقق، استهان بقوة احتماله
قال له بصوت لا مبال:
-هيا.. أعطنا أسماء رفاقك!
صمت مجد، صرخ به المحقق، لكن مجد بقي صامتاً.. بدأ المحقق يكيل
الضربات الموجعة للشاب النحيل، الذي لم يكن يغيب عن دروس الشيخ علي المنصور في
مخيم الأمعري.. خارت قوى المحقق ومجد صامت صامد، جاء آخر وثالث ورابع، وبدؤوا
يكيلون الضربات لمجد، وحين أخذت الضربات تؤلمه، أخذ يردد بصوت مصمم:
-أحد.. أحد..
كان صوت الشيخ علي المنصور، يتردد في أعماقه.. ((كلما زادت صخور
قريش الحارة فوق صدر عمار بن ياسر، ليثنوه عن إيمانه.. كان يردد.. أحد..
أحد..))
أخرجوه من غرفة التعذيب..
رشوا عليه الماء الحار والبارد، وهو يردّد
"أحد.. أحد"
جروه في العراء، على الحصى والحجارة، وهو يردد "أحد.. أحد؟!
لهث السجانون. وتعبوا.. تركوا الشاب مجد الطويل النحيل، دون أن
يأخذوا منه اسماً واحداً، ومن وراء القضبان كانت تلتمع عيون المعتقلين فخراً
بما فعله مجد..
***
5-السبحه
حين نظر عدنان الداعوق- المعتقل دون مقاومة، إلى البطاقات الملونة،
بعد أن صلى العشاء، فوق أجساد رفاقه رأى أعلام فلسطين ترفرف فوق أيدي النساء
والأطفال، فوق أعمدة الكهرباء- فوق المآذن والكنائس.. فوق السماء والأرض.. صاح
بهم:
-ما رأيكم؟!،
نظرت إليه العيون متسائلة، صاح بهم:
-الله أكبر!..
نظروا إليه باندهاش أكثر!.
قال:
-سبحان الله!..
قالوا له بصوت هامس:
-قل لنا!..
جلس بينهم، كان حراس المعتقل يذهبون ويجيئون خلف القضبان..
-نحن نأكل الزيتون!..
هزوا رؤوسهم..
-البطانيات بلون العلم!.
فتحت عيونهم دهشة وإعجاباً..
-سنصنع من عجم الزيتون سبحات، ومن خيوط البطانيات أعلاماً نعلقها في
رأس السبحة!..
-نعم.. نعم!..
-وسنرسل السبحات إلى أهلنا..
أطفئت أضواء المعتقل، ولم تغمض عيون المعتقلين، وهم يصنعون السبحات..
مياسه
في المقهى…
خلف الزجاج، كنت أتسلى بالرسم على منديل من مناديلي البيضاء الورقية.
حانت مني التفاتة.. كانت هي.. قفز قلبي، قفزت السماء المتوارية خلف
الزجاج، قفزت السنوات العشر الماضية..
وقفزت خلفها..
بعد اضطراب، أمام المقهى، حددت الاتجاه، يميناً، يساراً.. ودون وعي،
سرت مع الناس.
وعنقي يشرئب بحثاً عنها..
توقفت لأتذكر اسمها..
وحين لفحني هواء الشارع الرطب.. تذكرت اسمها..
إنها مياسة..
ركضت في الاتجاه الذي حددته، نظرت إلى الوجوه، وجهاً وجهاً، كان
بعضها ينظر إليَّ باستنكار، وبعضها ببرود، وبعضها بدلال..
توقفت بين الذاهب والقادم، حددت ملامحها.
اتجهت صوب واحدة كانت على وشك أن تقطع الشارع.
ركضت خلفها غير آبه بأبواق السيارات..
إنها هي..
دق قلبي فرحاً.
سنستعيد معاً أيام الجامعة.. سأصارحها الآن، ببوح مكتوم، فيما مضى
كنت خائفاً من المصارحة.. أما الآن فلن يثنيني عن عزمي شيء..
-ميّاسه!.
لم تلتفت..
اقتربت منها..
لمست كتفها..
-مياسه.. أنا جميل!.
نظرت إلي باستنكار ودهشة..
إنها هي..
الملامح نفسها.. العينان الكبيرتان الحزينتان، لكنني شعرت أن شيئاً
من ملامحها قد غاب عن ذهني..
-أنت مياسه!.
-مَنْ أنت؟!..
-أنا زميلك جميل في الجامعة.. منذ عشر سنوات!.
قالت بإصرار:
-أنا لست مياسه.. ولم أدخل الجامعة في حياتي..
طريقتك مكشوفة في التعرف على الفتيات!.
جمدت في مكاني دون أن أنبس بكلمة..
تركتها تسير، وتختفي خلف الأمواج البشرية..
* * *
في مرسمي..
اعتصرت ذاكرتي، حددت ملامحها بدقة..
وبدأت أرسم..
كنت أعيد خلق ملامحها بدقة متناهية..
أسرعت بالرسم.. خشية أن تضيع ملامحها.. وحين اكتمل الرسم.. حدقت في
الوجه.. لم يكن هو.. كأن شيئاً ما غاب عن ذاكرتي..
أمسكت الفرشاة.. وخلطت ألوان الوجه.. فبدا رسماً سوريالياً..
* * *
تساءلت وأنا أسير في شارع مظلم وبارد..
-كيف ينمو الحب بعد فراق طويل؟!..
سرت طويلاً، معظم الليل، لم أشعر بالبرد، كانت ملامح مياسه
المترائية لي تبعث الدفء في أوصالي..
أتكون هي التي فقدتها في زحمة المدينة.. أم تلك التي أنكرت
معرفتي؟!..
* * *
بدا الاضطراب يدب في مسيرة حياتي وإبداعي.. لم أعد أستيقظ صباحاً
لأرسم..
ولم أعد أُعد العدة للاشتراكِ في المعرض القادم..
لم أعد أرى سوى ملامحها.. تدنو من ذاكرتي.. ثم تبْتعد في مجاهل
النسيان..
* * *
بحثت عنها في كل مكان..
في داخلي دافع قوي لرؤيتها..
المدينة ملأى بالوجوه..
استعرضتها جميعاً.. لكنني لم أهتد للملامح الأصلية لمياسة.. كأن
وجهها سافر عبر مسافة الكون..
* * *
في أماكن مختلفة من المدينة رأيْتَ أكثر من مياسه.. في كل واحدة
ينقصها شيء من ملامحها… حبذا لو أجمعهن جميعاً معاً… ولكن هيهات..
إنها في كل مَنْ رأيت.. لكنها ليست في كل مَنْ رأيت!.
* * *
أمام فراشي جاءت مياسه..
بملامحها ، دخلت دون استئذان، امرأة تشبه عشتروت أو ديانا..
ابتسمت لي، حاولت التحديق فيها.. لأعثر على الملمح الضائع من
وجهها.. لكنها غابت تماماً في تلك اللحظة..
* * *
نظمت حملتي بعد تخبط دام أكثر من شهر..
ذهبت إلى الجامعة، ودسست ورقة نقدية من فئة الخمسين، في يد موظف
الأضابير..
ابتسم في وجهي، وقال لي:
-الحق بي!.
سرت خلفه في دهاليز معتمة ملأى بالأوراق المغبرة، وعلى ضوء مصباح
يدوي، عثر على إضبارتها..
قبل أن يفتح الإضبارة المغبرة في ذاكرتي، دق قلبي لأنني سأرى صورتها
أخيراً..
فتح الإضبارة، بحث عن صورة لها، لكنه لم يجدها..
قال ببرود وأنا أشتعل:
-حظك سيِّئ.. حاولت خدمتك!.
-ابحث جيداً!.
لم يكن في الإضبارة سوى اسمها وعنوانها..
كتبت العنوان بأصابع مرتجفة..
وخرجت..
* * *
في عمق حارة شعبية، في بيت تهالك نصف بابه الخارجي..
خرجت امرأة عجوز، تجاوزت التسعين، كانت تتكئ على عصا طويلة.. فبدت
كجنية أو ساحرة..
-أتعرفين مياسه التي سكنت عندك منذ عشر سنوات؟!
-ماذا… تقول؟!… ارفع.. صوتك!.
ملأ صراخي الحارة الشعبية، لكنها لم تسمع.. كانت تنظر إليَّ بعينين
مخيفتين كأنها جثة خرجت للتو من القبر..
خرج الجيران على صراخي..
كانوا صامتين..
تقدموا مني بوجوه صامتة جامدة..
تراجعت إلى الخلف..
ثم ركضت هارباً لا ألوي على شيء..
* * *
ذات صباح ملبّد بالغيوم، نقرت أصابع ناعمة ورقيقة باب مرسمي، كنت
بين اليقظة والحلم..
فتحت الباب فإذا أنا وجهاً لوجه أمام مياسه..
قالت لي:
-أتبحث عني؟!..
تأملتها ملياً، إنها هي التي احتلت ذاكرتي طويلاً..
حاولت تذكر المَلْمح الوحيد الذي نسيته ذاكرتي.. لكنها. في تلك
اللحظة، دخلت دون استئذان..
جلست على مقعدي الخاص.. وتأملت اللوحات التي رسمتها لها..
-أتحاول رسمي من جديد؟!.
-حاولت وفشلت!.
-لماذا أنا؟!.
-لا أدري!.
-هل تزوجت؟!.
-ليس في مرسمي امرأة سوى لوحاتك!.
ضحكت كالشمس..
-كيف عرفت أنني أبحث عنك؟!.
-الأرواح تلتقي!..
قربت وجهها مني، حتى تلاشى الوجهان في وجه واحد..
عندئذ، نهضت من النوم فزعاً..
* * *
انقلبت خيبتي من لقاء مياسه إلى نوع من عدم التركيز.. كنت كلما
التقيت بفتاة في الشارع أو على باب مرسمي أقول لها:
-هل أنت مياسه؟!..
كنَّ جميعاً ينظرن إليَّ نظرة واحدة.. تعقبها كلمة واحدة..
-مجنون!.
* * *
كانت لوحات مياسة قد ملأت جدران معرضي الأخير..
اندهش الحضور من رؤية صورة واحدة، ينقصها شيء واحد، لم أتوصل إلى
معرفته..
انهالت التساؤلات علي:
-مَنْ هي؟!..
-فتاة أحببتها.. منذ سنوات.. منذ قرون..
لا أدري..
حانت مني التفاتة نحو الباب..
كانت مياسة، بقامتها الطويلة، تقف عند الباب.. وتنظر إليَّ خلسة..
ركضت نحوها، أمام دهشة الحضور، وأنا على يقين أنها ستختفي من جديد..
البحث عن أنثى
هاهو الحظ يبتسم لي....
يبدو لي كالقمر، كشربة ماء في صحراء، كابتسامة في بحر الدموع..
حظي هذه الليلة قمر بدر مكتمل، مسح ليالي الحرمان الطويلة المظلمة في حياتي.
ليلة معجونة بسحر ابتسامة تلك الفتاة التي تقف في زاوية الملهى.
يلفني الحياء والخجل..
أنظر حولي، حتى لاتكون تلك الابتسامة لغيري، أشير إلى نفسي،
فتبتسم أكثر.
لحظة في مساحة العمر كله، تضعها تلك الأنثى الفالتة دائماً
وأبداً صحراء حياتي..
في الشركة التي أعمل فيه كاتباً في الديوان، أسجل الصادر
والوارد، لم أسجل نظرة إعجاب من فتاة واحدة، رغم أنني أراهُن بالمئات. بل
بالآلاف..
أعود إلى البيت.. وأنظر في المرآة.. ما العيب فيَّ؟!.. بشرتي
الخشنة من أثر الجدري، أم أنفي الكبير قليلاً،
أم عيناي الغائرتان...
أدير وجهي عن المرآة، ويقف التساؤل جافاً في حلقي..
أبادل فتاة الملهى ابتسامة، أصوغها غاية في الرقة والنعومة
والوله حتى لا تنفر مني مثل الأخريات. في العمل. أو في ملاهي المدينة، التي
أدخلها بداية كل فصل بعد أن أجمع مبلغاً محترماً يؤهلني دخول بوابات علب
الليل...
نعم يا حسن..
ها هي تبتسم لك..
اقتنص هذه الفرصة، وإلا ستبقى شهوراً بل وسنوات، قبل أن تحظى
بمثل هذا الاهتمام من فتاة على ظهر الأرض..
لا أعرف مَن الذي اقترب من الآخر.. أنا أم هي!..
نظرت إليها، نظرت إليَّ..
للمرة الأولى في حياتي يقترب وجهي من وجه فتاة..
صحيح أنها ليست الفتاة، التي كونها خيالي، لكن ابتسامتها ناعمة،
وأسنانها بيضاء..
-أنا حسن الحلو!.
-وأنا سميرة.. يكفي اسمي الأول!.
-تفضلي!.
جلست قبالي على الطاولة..
-نريد أن نخرج أنا.. وأنت!.
قالت بدلال:
-بقي على دوامي ساعة أو أقل قليلاً!..
حين تحدثت إليها طرت فوق السحاب بجناحين من السعادة...
أخيراً ابتسم الحظ يا حسن..
ها هي أنثى حية، تنتظرها غرفتي..
نسيت شكل وجهي وأنفي وعينيَّ..
لست بشعاً، أنا شاب جميل، ولو لم أكن كذلك لما جلست معي..
بدأت الحياة تدب في نفسي بعد أن تراكم عليها غبار الإهمال..
كنت أشعر أنني ميت من الداخل، بارد وعقيم، مجرد حشرة تدب على
الأرض...
الآن..
انتفض المارد داخلي، أنا رجل له كيانه، أطاول السحاب، وأرى
الأشياء بمنظار جديد.
لم تفارق عيناي ساعة يدي.. الساعة التي تفصلني عن مرافقة المرأة
هي الدهر بأكمله..
نصف ساعة..
نصف ساعة إلا خمس دقائق..
ثلث ساعة..
عشر دقائق..
لم أشعر بما حولي..
توقفت أمامي، انتشلتني من بئر عميقة.
-هيا بنا!..
لم أدر كيف أمسكت يدها في ظلام الليل..
جفف هواء الليل عرقي..
حاولت أن أشير لسيارة أجرة..
قالت:
-دعنا نمشِ!.
-المشوار بعيد!.
-ليكن!.
ذات مرة، واعدت إحدى المراجعات التي استجابت لضحكاتي، وبعد أن
أنهيت لها معاملتها، صاعداً هابطاً عدة مرات خمسة طوابق، وهي تلف رجلاً على رجل
في غرفتي. كان مكان الموعد آخر خط المهاجرين، ظللت هناك طوال الليل، يلسعني
زمهرير يقص المسمار، ولم تأتِ، وحين عدت إلى غرفتي. نمت في الفراش أسبوعاً
كاملاً، أعاني من نزلة برد شديدة.
انتشلتني من أفكاري بسؤالها:
-هل تسكن مع أهلك؟!.
-أسكن وحدي.. غرفتي وحيدة مثلي!.
لم أتصور أنني أتحدث إلى امرأة، أسير معها، تكون لي، تشعر
برجولتي، حارقة في لحظات سنين الحرمان الطويلة. بنظرة، أولمسة يد، أو همسة
تداعب سكون الليل.
كانت فتاة سمراء، ذات فم كبير تقريباً، وأنف يميل إلى التفلطح،
لكن جسدها شجرة نخيل عذراء.. كنت أريد سؤالها، عن سبب عملها، لكنني فرملت
سؤالي، لأنها لو لم تكن كذلك لما التقيتها، ولأن البيت ذي الباب المنخفض أطلَّ
عليَّ بوجهه الرمادي.
سبقتها، فتحت باب غرفتي بهدوء. نظرت إلى الغرف المسكونة حول
باحة الدار. كانت الأضواء مطفأة، فغمرتني سعادة سرت في أعصابي.. قلت لها بصوت
خفيض:
-ادخلي!.
حين دخلت سمعت وجيب قلبي يعلو في سكون الليل..
قبل ساعات خرجت وأنا على يقين أنن سأعود وحيداً. أرتمي على
سريري غير المرتّب، وأنام حتى ينهق حمار جاري العربجي،
بينما الآن..
تقف أنثى أمامي بلحمها وشحمها، قرب السرير. وأنا على بُعد خطوات
منها..أقترب منها، تمد يديها، وجهها أميرة أحلامي.
وجسدها ينبوع حرماني، قبل أن تمس يداي يديها، أسمع طرقاً خفيفاً
على بابي، تزداد قوة الطرقات، لابدَّ أن القادم يعرف وجودي من الضوء، فتحت
الباب، أطل وجه جاري، دخل دون أن أدعوه..
ودون أن أسأله. قال:
-تقلبت في الفراش.. عبثاً.. جئت أتسّلى معك!.
حين جلس رآها، نظر إليَّ بوجه متسائل، غمزتها..
-هذه، أختي، جاءت من القرية تسجّل في الجامعة!..
ابتسم ببلهٍ قائلاً:
-أين (الشدَّه)؟!.
أردت أن أصرخ في وجهه:
-انهض.. عِفّ عني بقى!..
لكن تعبيرات وجهي تؤيد أعماقي..
-الشِلّة ستأتي بعد قليل.. قلت لهم.. تعال..
اجلس إلى جانبي.. أختك ستصنع لنا الشاي!..
توالوا واحداً إثر الآخر، اصطفوا في صدر الغرفة، نظرت إليهم
كالضائع، ثم أخذ الدم يصعد إلى رأسي وهو يفور، أشارت إليَّ، خرجت، قالت:
-سأذهب!.
-بل هم الذين سيذهبون..
-أرجوك!..
تركتهم ينتظرون الشاي والورق. قلت لها:
-هيا بنا !.
-أين؟!.
-إلى أي مكان!.
أخذ الهواء البارد يلفح وجهي المصاب بالحمى... ثم بدأت قطرات
المطر تلفُّ نفسي فتصنع جدولاً من مياه آسنة، نظرت إليها، كان وجهها متعباً..
تائهاً..
-سأحملك!.
فخذاها الطريان، أو قدا شعلة الحياة من جديد.
وجرت مياه الجدول داخلي نقية صافية...
الشوارع ممطرة وفارغة..
وبداخلي تعجُّ آلاف الكلمات الغاضبة. بئر عميقة تحفر أخاديدها،
تلتهمني الكلمات والأخاديد. فأصحوا على قواي تخور.
أمام عينيَّ شخص يحدق في وجهي في الظلام، استمددت قوة لم أعرف
مصدرها، ركضت بها،، وفي ركن بعيد، أنزلتها، ووقفت، وقلت:
-أليس لك بيت؟!.
-أسكن مع أمي المريضة وأخوتي.. في غرفة واحدة!..
اختلط المطر بهواء صقيعي، أحسست أن المرأة عبء علي، بعد أن كنت
أتصيد السبل كافة من أجل نظرة، ضحكة. لقاء...
مر شريط في ذاكرتي...
إلى أين أذهب؟!...
لا يمكن أن أضيع الفرصة الأولى، وقد تكون الأخيرة في حياتي، مع
امرأة.
عشت في هذه المدينة، سنوات طويلة دون أصدقاء، الأصدقاء يحتاجون
إلى المال، وأنا ليس لي غير راتبي الضئيل، وما أوفره فصلياً. من أجل ساعات،
تنقضي سريعاً في إحدى علب الليل.
هذا الليل الذي لا أعرفه سوى أربع مرات، في العام، ثلاثمائة
وواحد وستون يوماً أنام بعد أن تغطس الشمس في الأفق بساعة أو ساعتين. وأحياناً
ألعب الورق مع جيراني، دون أن أرى قطعة سماء صغيرة أو نجمة، أو إن كان القمر
بدراً أو هلالاً.. ما أبشع الليل!..
اللعنة على مطر المدينة..
في قريتنا كان الناس ينتظرون المطر، يقيمون له صلاة الاستسقاء،
أما هنا فالمطر مياه سوداء في الشوارع والأرصفة، وفي حفائر البلدية.
استندت على جدار حديقة..
خطرت لي فكرة..
شددت سميرة من يدها الباردة.. لم يكن من صوت في الحديقة إلا
الليل والأشجار وصوت المطر..
دخلنا غرفة الحارس..
هدأ وجيب قلبي..
جسدان مبللان..
أنفاسها الحارة القريبة أوقدت الدفء في أوصالي..
مددت يديَّ لأضمها..
كانت غرفة الحارس دافئة. حسبت أنه تركها وذهب لينام في بيته، في
هذه الليلة المطيرة.
حين اقتربت العينان.. انفتح الباب..
فوجئ الحارس بنا، بهت صامتاً..
ملصنا من تحت جسده، حين ابتعدنا عن الحديقة، انهالت لعناته بعد
أن انحلت عقدة لسانه من هول الصدمة..
وقفنا نلهث أمام بناية مهجورة..
قالت سميرة:
-خذ نقودك.. دعني أعد إلى بيتي!.
-هذه البناية مهجورة.. تعالي!..
-والبرد!..
شددتها من يدها..
حين هممنا بالدخول، برز لنا كلب، كأن الأرض انشقت عنه، نبح وهمر
بعد أن تفاجأ، واستعد للوثوب، ولم ندر كيف قطعنا الشارع وأختبأنا خلف إحدى
الجدران...
للحقيقة...
لم أعد أشعر بشيء تجاه المرأة التي كنت أمني النفس بها وكأنها
نهر من عسل..
أمسكتها من يدها..
-تعالي!..
قالت بمرارة وتعب:
-إلى أين؟!..
-سأوصلك إلى بيتك!..
حين غيَّبها باب بيتها، غابت أحلام الفصول الأربعة، ازداد المطر
انهماراً..
ركضت مبللاً بالعرق والماء البارد..
لا لأبحث عن أنثى هذه المرة، بل لأبحث عن نفسي من جديد..
|