خيط أبيض دقيق
أرفعُ سماعة الهاتف. أضغطُ بأصابعي أزرارَ قلبك البعيد. يلفُّ الرنين
التوجّس ويخفي أنفاسي.
ـ آلو!
هو صوتك أخيراً، فينفلش صوتي بالشّوق، ويزهر صوت الحكايا: "اظهر وبان عليك
الأمان"
تُرفع السماعة حيث أنتَ. يرتفع صوتها حرّاً طليقاً:
ـ آلو... آلو!.... آلو؟
رصاصات ثلاث تدكّ القلب، وأغور في اللاّ أمان. يلوك خطوي التائه طول
الرصيف. يصفعني الضّجيج، أبواق السيارات، الدخان، الغبار. تمضغني الأسماء
مرة تلو أخرى: باسمة، ميسون، ليلى، منى. أو لربما دعيت باسم أحدهم، فأصير
ذكراً! وتنذبح أنوثتي بيدي! يدي ذاتها التي رسمت ذات تكوين مختلفٍ، خيطاً
دقيقاً أبيض!.
تشقّ أمي ذاكرتَها الرطبة، يرشني الرذاذُ، يلفّني الغمامُ، يعيد تشكيلي
دائماً؛ أنثى تعشق الليل والمطر. وأنهمر في تفاصيل السّرد، تهيم أذناي
وكأنما أسمعها تحكي:
ـ "كانت العتمة. وكان المطر. العالم سماء وماء ينصت لوقع خطوك القادم،
هائماً فوق الماء.
وقف أبوك في الباب لاختراق المطر والديجور. كان لوقع خطوك إيقاع يمزقني.
يتشلع صوتي على ظهر أبيك يدفعه للأمام، والبرق والرعد يفجران عتبة البيت،
وينأى الأمام والمسافة بينه وبين الدّاية.
كان ظهورك يخلخل عظامي، يتكسّر ظهري ويتشظّى، تتمزق أحشائي، والمطر كان
يزمجر عاصفاً بالألم داخلي، ويؤرجحني ما بين نفَسٍ يدنو وآخر ينأى.
ويشقُّ أبوك المطرَ والليلَ، وتشقّينني. كنت وحدي، وجئت دون جوقة. ما فعلته
الدّاية أنها قطعتك عنّي وربطت سرّتك، واستسلمت لأرجوحة الحياة والموت".
بين هذيان أذنيّ وذاكرة أمي الرطبة، أمدّ يدي لسرّتي، ولا أزال أخفي سرّي،
أكتمه حتى عنها! كيف لي أن أقول لها: قُطعتُ عنك، لكن سرّتي لم تُربط!
فالدّاية كانت مبلّلة بالمطر والنّعاس، وبولادات كثيرة حقنت أصابعها
بالروتين... الروتين! أجفل لصوت شاحنة ضخمة تعبرني، يمخر فيّ عباب دخانها.
كانت شاحنة قمامة. في عزّ الظهيرة، ترسل البلديات شاحناتها للملمة القمامة
ولملمة نقاء جلودنا! أفٍّ... من البلديات والروتين!
* * *
وأنتظرك دائماً. وكي لا يصير انتظاري روتيناً، أعبث به ثم ألوّنه، فانحدر
في الشوارع، بين البيوتات. أبدو نافرة على صدر المدينة.
أتسلّى برؤية المحلاّت التجارية والمكاتب العقارية المتكاثرة مثل سفاد
القطط! و أتسلّى بعدِّ السيارات، وبين كل عابرة وأخرى، أقول: سيأتي... لن
يأتي... سيأتي.. لن يأتي... وأخلّي الرّجاء معلقاً على آخر سيارة تعبر قبل
سطوع الشارة الحمراء، وأجهد في أن أنهي بـ: سيأتي!
فأمرّ على البقاليات وأشتري مستلزمات الطعام. كنا نحب التفاح. كما أحب أن
ألمع التفاحات، أدخل إصبعي عند العنق لألمس أنها مربوطة وأشعر بالأمان.
وإلاَّ فكيف تعرف الدودة مكمنها الدائم وتوغل في أشهى التفاحات حجماً
ولوناً ورائحة!
وبدوْرك أيضاً، كنت تدخل إصبعك في سرتك. عميقاً كانت تبحث عن حدٍّ أو
انتهاء، عبثاً! تبتسم لغرابتها، دون أن تعلّق أو تسأل. وبدوْري أكتم السِّر
بالمزاح، ثم نضحك أكثر، نتعبّأ بالصّخب والحب، ونكتظُّ بالأحلام، فتتابع
أنوثتي رسم الخيط الدقيق الأبيض.
* * *
مرة أخرى تمطر ذاكرة أمي. فينداح الحب منها عابقاً بتلك الليلة:
ـ "قال أبوك: نسمّيها عشتار. فضحكتُ. ما هذا الاسم؟! وسرعان ما تخيّلتُ
الأولاد ساخرين وهازئين وهم يعيّرونك: عشٌّ وتار... عشٌّ وتار..."
ولا تزال أمي تضحك. أبحث في خطوط عينيها عن طرفِ خيط أفلت منذ ضياع بعيد..
كان هناك مجرد شرخٍ!
وكان باستطاعتي التخمين، أنه لو لا وهنُها تلك الليلة لسخر أبي منها
كعادته، وقد ظلّ بخيلاً عليها بالشرح كعادته أيضاً! أبي الذي لا يزال يزداد
عشقاً لعشتار، كلما ازداد ندماً على زواجه من أمي!
وكأنما أراه، وقد راح من جديد، يقلِّب الأسماء والذاكرة والتاريخ، يرنو
إليَّ كتلة لحمية.
(بنت، كما أكدت الدّاية، وبعد أسبوع ربما كما حدثني مرة، أعلن اسمي الذي لم
اسمعه آنذاك، فقد كنت لا أزال مغلّفة بروتين الدّاية!
* * *
ما بين الحب والسخرية خيط دقيق كنت تمرره بشعري وتعبث به، همست لي:
ـ كان على أبيك أن يسمّيك ماجدولين الهائمة بين ظلال الزيزفون، أو جولييت
مثلاً، لا.. لا.. إيمّا بوفاري، آنّا كارنينا، إلى أخر الأسماء التي تغلف
رومانسيتك التافهة. وتؤكد ضاحكاً: والآفلة!
كدت أسألك: أحقاً هي آفلة؟ لكنني خبّأت السؤال. كم أحتاج واقعيتك!
وأحبك وتحبني... ندحرج ثرثرتنا في شوارع المدينة، وفي مساءاتها التي تخنقها
أعمدة الكهرباء. أتشهى قمراً أشفق عليه معلقاً في السماء، مكتوماً نوره،
خلف فضية أشبه بإطار معدني صغير!
لو تنقطع الكهرباء، الأسلاك، الهواتف، لو تنقطع أحلامُ أصابعي بفتح أزرار
أمان صدرك، لو أرفع طاقية التخفي، (فأظهر وأبان)، ويزهر اسمي على شفتيك، أو
ينعقد زرّ وردة في قلبك، وينعقد شوقي لمرة واحدة بالأمان!
لماذا تبدو كل الأشياء مفككة، غير مربوطة مثل سرّتي؟!
تتفكك ذاكرتي وأسئلتي، بينما تعبث أصابعي بسرّتي التي نسيها نعاس الدّاية
وروتين أصابعها! لماذا لم تنس الدّاية أن تسكب الطِّشت المليء بمزيج جسدينا
الأخير، أمي وأنا، ويروح مع المطر!
كدت أشرح لأمي سبب عشقي الحقيقي للمطر. لكني خشيت أن يكون لذلك طعم مرٌّ
أضيفه إلى مراراتها التي كانت تصبها دعاء وصلوات فوق رأسي، تسكبها مع الماء
الممزوج بتعاويذ المغربي، الذي كان يمر بضيعتنا بين هلّة وأخرى، كاشفاً
الأسرار، ضارباً بالأقدار السّود، بأوراقه المثلثية المربوطة على السر
العظيم، وعلى زوج تتمناه أمي ليكون لي طفلٌ! أشفق عليها، وأحني رأسي للماء
والدعاء والخوف، ويروح رفضي مع الماء ولا يروح، وأنا أسمع
صراخ جنيني وهو يتقلّب بين أصابع روتين الدّاية وروتين البلديات!
* * *
كانت عمتي، تترك بيتها الخاوي وزوجها العقيم، وتأتينا كي تلملم طفولتنا بين
أصابعها وتخبئها بين القلب والخاصرة، فبطنها كان لابد مشغولاً بحلم أصابع
صغيرة ستخرمش لها وجههاً وثدييها وتنكش لها شعرها، ذات أذن ورحمة من الله،
كما كانت تردّد دائماً.
وحين كانت تحمّمني، كانت تزيد من رغوة الصابون بين فخذيّ، ومعها كانت تزداد
رغوة دهشتي الطفولية
وتظل تضحك لوحدها، وهي تصبّ الماء، ثم تلفّني بالمنشفة والقبل و(النّعيمان).
ولم أكن أفهم أو أنظر بين ساقيّ لأرى! لكن رأسي الصغير كان يحلو لـه أن
يرسم عشاً مليئاً بالعصافير.
ومنذ ذلك الحين، وأنا أعشق العصافير، وهي تغرّد في الأعالي، وتملأ بأعشاشها
الأشجار وزوايا السطوح.
كنت أحنو على أعشاشها التي لها وجه عمتي، وأتحمّل الصّفعات والتّهديدات
إزاء تطييرها من أقفاصها. وأظل أفتح لها الأبواب خفية.
* * *
ـ آلو.. آلو! صمت.
ويعربد اختفائي في فضاء الروتين. (أخربطه) ثم أعيد ترتيبه. لذلك اشتريت
ألبوماً. ورحت أصنّف الصور:
صورة التخفي الأولى: أنا أطيِّر العصافير من أقفاصها.
الثانية: أراني أخبئ الكتب غير المدرسية تحت الوسادة، ومن ثمّ الكتب
المخرّبة والحرام، كما ذكر والدي وجدي الشيخ! صورة أخرى أضعها مقابلها،
وأنا أخبئ أول رسالة حب أرسلها لي زميلي في المدرسة، ورغم ذلك نكشتها أمي،
طار صوابها، وطارت أصابعها تجرني من روحي.
أقلب صفحة أخرى وأضع صورة لي وأنا أخبئ أناشيد لفظها شعراء مع آخر أنفاسهم
وراء أبواب موصدة! في المقابل، أضع صورتي وأنا أخفي بعض المنشورات التي
أشاروا إليها إنها محظورة. وأتعجب الآن لماذا! فهي لم تكن أكثر من وطن
للحلم! تحتها، أضع الصورة التي أوجعت والديّ حدّ البكاء، ودفعتني للتخفّي
زمناً بعد افتضاح أمري!
تفاجئني صورة أخرى، لا أذكر متى وأين وكيف صورتها، بعضها كان لأقفاص مغلقة،
وتغريد ذبيح وأعشاش موغلة في الخواء.
الصورة تزداد، أؤجل الأمر لحين آخر، وأخبّئ الألبوم بين جنبات الروح وفي
دهليز سرّتي المفتوحة.
* * *
ومرة أخرى، أضغط بكل ثقل الشوق، تترقّم الروح بأزرار صدرك. أردت أن أسكب لك
صوت فيروز، لتسكب سخريتك التي أحتاج. لكنّ الصوت ظلّ حبيس فضاء البيت، أدعه
يلوّن الخواء: "طلّ وسألني إذ نيسان دق الباب، خبّيت وشّي وطار البيت فيّ
وغاب".
أضع السمّاعة، أخبئ وجهي، رأسي، جسدي، ويوغل البيت في عناده ولا يطير. وحدي
أتخفّى! لو يحدث أيّ شيء! لو تختفي الهواتف، لو يختفي سمعي، وأنت ترطن
بالأسماء كلّها عدا اسمي، أغبطها وهي تصخب على شفتيك تحلّق حولك، وحولها،
وحول أطفالك، ملفّعة بالأمان وهي (تظهر وتبان). وأجدني مكتومة! أجل
مكتومة!
تمدُّ أصابعي وجعها، تقطع أسلاك الهاتف. أحمل حقيبتي، وأهرع إلى الشوارع.
أمرّ على كلّ الذين أعرفهم سليم بائع الفطائر، جميل المكوجي، وعلى عصرونية
باسمة، وصيدلية انطونيت، سلمى صاحبة المكتبة، جميعهم يعرفونني ويردّون على
تحيتي بأخرى مكلّلة باسمي. وقبل أن يستقبلني الشارع الثاني، أفتح حقيبتي،
أمسك بطاقة هويتي، أقرأ اسمي، اسميْ والدي، مكان وتاريخ ولادتي، علاماتي
الفارقة، وبصمتي.
تنفلش ابتسامتي بالأمان، فرح عينيّ يعوم تجاه الأمهات غزيرات الأطفال، وعلى
زغب رؤوس الأطفال مثل عصافير، أبتسم. تطول ابتسامتي، تجتاز طول الأرصفة،
تخترق الصخب والغبار. ولا تزال تطول وترق كرقة الخيط الأبيض الدّقيق
المتصاعد من سرّتي المفتوحة إلى الأمداء اللاّ متناهية....
حصر!
فوضى الغرفة تثيره. أفلت القلم، سكنت القصيدة. وضع نقطتين وفتح قوسين ثم
شحطة صغيرة، شعر أن القول لا يريد أن يأتي، رغم أنه ترك الباب مشرعاً
والنافذة الوحيدة التي كره النظر إلى قضبانها الحديدية الصدئة، حيث يطل
القمر مقسّماً ثم يغيب تارة وراء غيوم المساء الربيعية.
نهض. رائحة الأزهار المروية تواً في حوض الجيران في الطابق الأرضي، تهل
عليه. ميز من بينها رائحة الكاردينيا. غصّ قلبه من جديد، وأبى القول أن
يأتي.
هي تعشق الكاردينيا، والساعة تشير إلى الثامنة. موعد نشرة الأخبار. يفكر
أنه لن يتابِعها، فأقوالها تثير أعصابه، وتفتت الكلام، وتبدّد القول الذي
عساه يأتي!
هرش رأسه، راح يرتب الكتب المنثورة على الطاولة، رفع ثيابه عن الصوفا،
علقها في الخزانة الجدارية.
أدار مروحة السقف لتطيير سحائب دخان سجائره. مسح غبار الطاولة، حمل فنجان
القهوة الفارغ، وصحن السجائر الطافح بالأعقاب، نظف المكان والأشياء. نظر
إلى المكان المرتب، ودّ لو أنه يمتلئ بالفوضى ثانية.
نظر إلى الهاتف. لن يتردّد، سيتصل بها، ولينفلق فضاء النّفاق.
فكّرَ.
وقبل أن يمدّ يده إلى السماعة. رمق القصيدة وفمها المفتوح، وبدا سنّان
صغيران، واحد من فوق وآخر من تحت، واللسان (شحطة) صغيرة، أخرس، ولعله يحدق
في وجهه متحدياً، فيتحداه هو الآخر بنظرات حالم عليه أن يصير شاعراً في يوم
ما.
فكر بصوتٍ عالٍ: "-عليّ أن أسمع صوتها لتكتمل القصيدة".
حك رأسه، وفكر أنه يحتاج ماء، وصابوناً.
دقائق مضت، خرج من الحمام، جفف جسده الساخن، رمق وجهه بالمرآة المغبشّة،
راح يعرِّج عليها بأصابعه. لكن القول لمّا يأتي بعد!
شيء وحيد لف دماغه مردّداً: "-أجل، هيا اتصل بها".
هيأ الطاولة. وضع لنفسه كأس عرق، ولها كأس عصير، هي تفضّل البرتقال. ليكن
برتقالاً إذن. وسيكون بوسعه رؤية السائل البرتقالي ينزلق من فمها إلى
حنجرتها فصدرها، ياه! أية شفافية رسمت تلك الأنثى وخلقتها!
وسيعتذر لها لأن المكان يغصّ بدخان سجائره. ولربما أيضاً سيُخلّي التدخين
في حضورها، وسيكون بمقدوره رؤية ابتسامتها وأسنانها الناصعة تماماً كما
رآها حين أخبرها أنه يدخن خفية عن والده!
يتجه إلى الخزانة، يأخذ شرشفاً زهرياً، بلون وجنتيها وقلبها، يغطي به
الصوفا التي غبرتها السنين. أجل يجب أن تغوص في الورد. فكّر.
تنهد بعمق، يصطخب دمه بحدة، يرتعش جسده، ونسائم المساء تصير أكثر برودة.
يرمق الساعة. إنها التاسعة.. لا بأس. يمدّ يده إلى السماعة.
يصلي من أعماقه أن تردّ هي على الهاتف، ليتكثف البوح، والقول، وسيكون
بمقدوره أيضاً جذبها، لتكون أمامه هنا غاطسة في الشرشف الزهري..
يشعر بضغط على أنفاسه، وضغط في أسفل بطنه. عليه إفراغ مثانته أولاً. يروح
قليلاً ثم يعود. يتدفق قلبه أمامه. يمسك بالسماعة. يضغط أزراراً تناديها.
لن يفكر بالذي سيقوله لها. لن يعانده القول، كما يعانده على الورق. يباغته
الصوت في الطرف الآخر، صوت أمها. خيبة أولى، فكر أيضاً، أن الأمر يبدو أقل
ارتباكاً فيما لو كان الصوت لأبيها. يحاول استجداء مرحه المعتاد معهم،
محاولاً إخفاء ارتباكه:
-"... وأنا والله يا خالة مشتاق إليكم. لابد أنك سعيدة وسط أبنائك جميعهم.
نعم.. بخير... شكراً –ينقطع صوتها عنه، لن يجرؤ على السؤال عنها –ثم ينتبه
إلى أن الصوت تغير... إنه سعيد أخوها- يتواصل معه. وأنا والله يا رجل...
تمام.. لا لوحدي، نعم يا عم هنيئاً لك وأنت تنعم بالدفء بين أفراد عائلتك..
مع من تسهر.... كأني أسمع صوتاً موجهاً لي، من ذا الذي يستفزني، ... وغير
سمر... فؤاد... أمل... كمال... –يخفق قلبه بشدة، يفكر لماذا لم يذكر أخوها
اسمها. لعلها غير موجودة! –يتابع أنه يريد التحدث إلى فؤاد..
يأتيه صوت فؤاد.. يبدأ معه بالتحيات وأسئلة عادية ثم يسأله.. مع من تسهر،
ويأتيه صوت فؤاد: سمر، أمل، كمال، وسعيد، -يا الله ما الذي يحدث، أين هي،
لِمَ لم يذكر فؤاد اسمها.. يقرر أن يطلب أمل للتحدث معها، فأمل شقيقتها
التوأم ولابد أن تذكرها.. أجل لابد، وبسرعة البرق خطر له حالة هذين
التوأمين غير الحقيقيين، ليترسخ يقينه أن ما من نسخة تماثلها، وما من أنثى
غيرها بإمكانها أن تكون ثانية. وتدفق صوت أمل في.. أذنيه، تحدث قليلاً في
أمور لا تهمه في هذه اللحظة.. خطر له أن يسألها عنها، لم يتجرأ.. ذكر أنها
ضبطتهما ذات نهار عاصف كان يرقبان الشتاء عبر النافذة الموصدة.. ويختلسان
النظر إلى بعضهما، هي لم تربكه، ما أربكه هو حضور أمها المباغت والعصبي،
إذن، لن يكون بمقدوره السؤال عنها صراحة.. تابع حديثه مع أمل.. ليجد نفسه
يعيد السؤال ذاته: -إي، مع من تسهرين؟.. سمر.. كمال... سعيد... الأم....
–يا رب القدرة، أين هي؟ -تباغته أمل قائلة: احْذَر منْ دخل الآن وسيتحدث
إليك؟
يشعر دمه يفور، يغلي، لا يريد أن يحزر.. أتكون هي. ياه، لابد أنها هي. وكان
آخر ما ردده صقيعُ دمه: "-أجل يا عم أبا سعيد،... شكراً... شكراً... مع
السلامة". وضع السماعة، والغصة تكاد تخنقه. والسؤال يوجعه، أين هي؟ أين
اسمها؟... بوده لو يبكي. أشعل سيجارة، وبعصبية راح ينفث دخانها، يرمق
أوراقه المستكينة بحياد فظيع. تفغر القصيدة فمها، تصير السنتان الصغيرتان
نابين طويلتين، يمتد اللسان (الشحطة) نحوه بلؤم وشماتة!
أية غصة سينام متلفعاً بها هذا المساء. أي جبان هو؟ يفكر لو أنه طلبها؟!
ياه، أية مسافة تفصلهما، وأي دين تشظى جدراناً هائلة بينهما!!
لا، لا، من الأفضل أنه لم يتحدث إليها، إذ كيف كان للبوح أن يشتعل وسط ذاك
الجمع المصغي حولها.. أجل، هكذا أحسن، وإلاّ بدا الأمر أكثر تعقيداً...
أجل، عليه أن يرتاح قليلاً، أجل، ما حدث حسنٌ، وإلاّ كان سيربكها... ثم...
لا... لا... هو بحاجة ماسة لسماع صوتها، كان بالإمكان أن يحدثها في أي شيء
بعيداً عن البوح، كان سماع صوتها فقط كفيلاً بلملمة الشتات المتزاحم، كان
بحاجة أن يهمس لها بأنه...... رمق كأس العصير، البرتقال لا يزال كما هو،
زجاج الكأس لا يحمل أية بصمة من أصابعها، الشرشف الزهري لم (يتجعلك)،
النقطتان والقوسان لا يزالان مفتوحين، و(الشحطة) التي كان يجب أن تصير درجة
صغير لقدميها كي تنزل عليها ثم تتمدّد على بياض الورق، وإن أرادت نامت، أو
لعبت، أو..... ولكان القول قد أتى، ويكون رداءً تلبسه هي، أو تلبسها
القصيدة!"
يعود الضغط يتمدد على كامل الروح والجسد. شَعَر أن مثانته تكاد تنفجر، نهض،
راح قليلاً.. ثم عاد. كل شيء أفرغ منه، كما الورق، وكما كأس العرق.
ها هوذا.. يتلاشى، يتطاير هناك في الداخل، عميقاً، ويتشظى، يتشلّع مع
المساء الموغل في تدفقه ونسائمه وبياض الورق أمامه.
ويظل القوسان مفتوحين على.... ويطل نابان حادّان ولسان ممطوطٌ أخرس مصوّبٌ
نحوه يومئ له بالعَجْز، بالحصْر، وبالخواء!
الحلم
وكأنني أرى نفسي في حانوت قديم، غرفة طينية، باب عريض من خشب وتوتياء،
سرعان ما قلت بأنه هو حانوت الضيعة القديم والذي أغلق منذ زمن.
وأرى طاولة خشبية بائسة يجلس خلفها البائع الغريب عني، يحار رأسه ما بين
الصلع والشيب. رائحة تملأ المكان، هي خليط من رائحة العتق ورائحة صابون
وقهوة وشاي.
أراني أجلس على كرسي بجانب الطاولة، وكأنما أتيت لشراء علب حليب لأطفال
ثلاثة، لا تتعدى أعمارهم الأشهر، لكني لا أتذكر من هم، أو لعلي لا أعرفهم.
أمسك بعلب الحليب علبة علبة، أحار في البحث عن المطلوب، فأحياناً تكون
العلبة بلا اسم، أو بلا نشرة معلومات، وأخرى بلا تاريخ إصدار أو انتهاء
وثالثة دون أي شيء من هذا أو ذاك. أشعر بالضيق، وبرائحة تشبه الضياع.
ثم، وفجأة، أجدني واقفة أمام رف من علب حليب أخرى، وأضيع مرة أخرى، أنتبه
إلى أن رجلاً قد جلس على الكرسي ذاته الذي كنت أجلس عليه، كان شاباً
ومبتسماً، أبدى أنه يريد المساعدة، (نسيت أن أذكر أن صاحب الحانوت يظل
صامتاً دائماً) ابتسمت له ممتنة وناولته علبة حليب لعله يستطيع قراءة ما
عليها، اعتقدت أنه لامس أصابعي خطأً، جل ما كان يشغلني إيجاد الحليب
للأطفال الثلاثة.
راح الشاب ينقل بصره بين العلبة وجسدي، بدت نظراته خبيثة وذات رائحة بشعة،
حاولت كتم أنفاسي كي لا أشمّها.
نظرت إلى البائع الصامت دائماً، كان هو الآخر يقرأ جسدي. أحسست بحرج
الموقف، وسرعان ما تذكرت ما قيل لي ذات يوم، لعلها أمي، أوجدي بأنني أتعامل
مع الآخر بعفوية بالغة الخطورة وعليّ الحذر.
قررت أن أنسحب وأنسى علب الحليب، جاءني صوت الشاب المبتسم دائماً "جميل
ثوبك، ووجهك، لن تجدي الحليب".
جمدت ملامح وجهي، وحاولت الانسحاب، بغتة، أحير بين عدة شبان آخرين يحيطون
بي، تمتد أذرعهم إلى شعري وصدري وحقيبة يدي كانت سحناتهم غريبة كما لغتهم
التي لم أفهم منها حرفاً واحداً!
كان بينهم أيضاً، صاحب الحانوت الصامت دائماً، والشاب المبتسم دائماً.
وأراني أنتزع نفسي منهم، أي خوف لم يعترني، أي رعب أو كارثة لم تلح في
الأفق. وكل ما رددته ذاتي: "شيء مؤسف، مؤسف حقاً". واندلقت ذاكرتي بصبيان
بلدتي وشبابها، كانوا شديدي الطيبة والأمانة، تذكرت ملامح عمري معهم، من
اللعب في الساحات والأزقة إلى ساحة المدرسة إلى الصفوف المشتركة.
فجأة أحسني أحبهم جميعهم وأمتن لهم كثيراً. جعلني شريط الذاكرة أردّد من
جديد وبصمت أيضاً: "مؤسف حقاً، مؤسف" وشعرت أن معالم عفويتي القروية تروح.
وفكرت بالعودة إلى البيت، وقد نسيت البحث عن علب الحليب للأطفال الذين لا
أتذكر من هم.
كأنما الحانوت هو في واد بعيد عن بيتنا، وفي مكان أوطأ بكثير من ضيعتنا
الجبلية.
وأراني أنسى الحدث تماماً، وأبدأ بالصعود إلى البيت من الجهة الشرقية حيث
المقبرة أحسست بحنين إليها، لسنديانها العالي ورياحينها. كان الأمان
يلبسني.
اجتزتها ووقفت في طرفها العلوي، كانت الأشجار كأنما مغسولة" بمطر كان قد
سبقني بالمرور من هنا.
كان الاخضرار رائعاً ومتفاوتاً ولامعاً يتناسب مع لون الكون من حولي. كل
شيء بدا شديد الصفاء. وكانت القبور المبعثرة هناك وهنا ساكنة باطمئنان هائل
ومشبعة بطين ومطر. كما لفت انتباهي أن السماء كانت شديدة الزرقة والدفء، ثم
أرى أصص نباتات زينة يانعة، كأنما هي للبيع، أبحث عن البائع، لا أحد في
المكان، بينما النباتات تزداد نمواً واخضراراً. أتابع سيري. أنتبه لعائلة
صغيرة: أمٍ وأب وأطفال يفترشون يباس الأوراق الصفراء. ثم أراهم يلعبون.
تلوح لي كرة من قماش ملتف فوق بعضه.
في البداية بدوا غرباء عني. ثم سرعان ما تذكرت أنهم العائلة التي تقطن
غرفتين من إسمنت كان أهل القرية قد تبرعوا لها بالنفقات حين انهدت غرفتهم
الطينية أثناء نومهم ذات ليل عاصف وشتاء أسود.
ابتسمت لأنهم سعداء. مشهد آخر لفت انتباهي: عدة تلاميذ بلباس المدرسة
الموَحّد، يمشون رتلين، وكل يحمل علبة معدنية كأنما هي علب حليب فارغة،
مزروع فيها حبق، كانوا صامتين، كأنما آتين لجنازة ما، لكني لم أر أي جنازة
أوميت أو أسمع أي خبر مماثل.
تابعت طريقي، وقبل أن أدلف إلى حاكورة بيتنا المسوّرة بجدار من حجارة
مرصوفة بعلو متر تقريباً، استوقفني منظر القبور الإسمنتية، وفكرت أن ما
يحدث خطرٌ، فإن أضحت القبور كلها إسمنتية فمن أين للتراب اتساع لأجساد
الضيعة القادمة منها أو من البعيد؟!
بعد ذلك، أراني أدخل الحاكورة ( هنا أيضاً نسيت كل ما كان ورائي)كانت طريق
موحلة بعض الشيء فهي قديمة مرصوصة بقساوة بفعل مرور الأقدام المزمن عليها!
ولأول مرة منذ بدء الحلم أنتبه إلى ملابسي كنت ألبس فستاناً بلون واحد يميل
إلى الزرقة تارة ثم إلى الاخضرار تارة أخرى.
كان حذائي الأسود شديد اللمعان، خشيت أن يلطخه الطين، مشيت بحذر شديد خوف
الانزلاق أيضاً، لكني كنت أمشي بأمان، وكل حين أنظر إلى حذائي، ظل لمعانه
شديداً، وينعكس عليه شعاع الشمس التي لم تظهر في اتساع زرقة السماء.
قادتني الطريق القصيرة في نهايتها إلى شجرة تين، توقفت ورحت أبحث عن
الثمار، كانت الشجرة مورفة الاخضرار وكثيفة، لكنها بلا ثمار. فجأة أتذكر
أني حلمت ذات يوم أني آكل تيناً، فاستيقظت في اليوم التالي ولم أغادر
الفراش خلال يومين. تركت الشجرة وأنا أحمد الله لأني لم أجد ثماراً. بعدها
أرى شجرة الزيتون التي، في الواقع، تقبع أسفل الحاكورة، غير أنها الآن في
الحلم قد بدّلت مكان إقامتها إلى مكان أعلى، كانت بلا ثمار أيضاً. وفكرت
أنه حين تثمر سأجني زيتونها بيدي.
وبغتة، أجدني وسط البيت، كان البيت العتيق، الغرف مجاورة بمداخل منفصلة سوى
غرفتين مفتوحتين على بعضهما بباب لم أر درفتيه.
يهلّ إلي طفل صغير، أعرف أنه أخي، الذي في الواقع، هو الأخ الكبير. أحمله
بين ذراعي، فيستكين باطمئنان.
على الجدار كان ثوب عرس أبيض طويل معلق على مشجب بائس، قطعة خشبية ومسامير
صدئة، لم يشغلني الثوب وكأنما هو مكانه الطبيعي، كأنما أنا في الحلم غير
متزوجة أو بدقة لست أدري. فلم يخطر لي زوجي طوال الحلم ولم أر أي أثر له،
ولست أدري إن كان علي أن أذكر أنه، في الواقع، ما يربطنا هو صك الزواج فقط،
لا أطفال ولا اتفاق. لكن العيب والأعراف تمنعنا من الانفصال، رغم أن كلينا
خريج الجامعة. ولن أقول هنا ما تردده النسوة المشابهات لحالي الجملة التي
تضحكني: "أنني عجزت عن إصلاحه!"
المهم الآن، الحلم: ولا أزال أقف وسط الغرفة فجأة يعلو صوت أبي، يصرخ لأمي
التي لا تريد الذهاب معه لواجب اجتماعي، أعلم أن أمي موجودة في البيت لكنها
تغيب طوال الحلم.
أرى أخي البكر واقفاً أمام أبي، بينما لا أزال أحمل بين ذراعي أخي ذاته
أسأله عن السبب، فيرد متعجباً ولائماً، وهذه عادته أبداً، "-تعرفين أباك!
الآن هو متضايق على جارنا الذي أقالوه من وظيفته، وتعرفين سمعته وعدم نظافة
يده، كما أنه أساء لنا حين استطاعته..".
قاطعه أبي مهدداً ونظر إلي: "لا تكونوا ممن يحملون سكاكين ساعة وقوع
البقرة. كلنا خطاؤون، وكلنا مليئون بالمعصية.".
أنظر إلى أبي بشعره الأشيب وسنينه التعبة تعرّش على تجاعيد وجهه وتكتب
حكمته الدائمة: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".
أشفق على أبي، وأصمت دون إبداء أي رأي، بل يظل صوتي مختفياً طوال الحلم، كل
ما فعلته أني وجهت نظرة عتب إلى أخي الكبير الساخر، بينما أحضن بقوة أخي
ذاته الطفل الساكن بين ذراعي.
ثم أجدني في الغرفة المجاورة فور سماعي صرخات حادة وأصوات أشبه بالصفعات.
أجفل إذ أرى إخوتي السبعة الذكور واقفين في صف واحد وواجمين من الصغير حتى
الكبير مشكلين سلّماً تصاعدياً مع أنهم في الواقع مختلفو الأطوال والأحجام.
وأراني أقرأ مواصفاتهم بسرعة غريبة، ظل شعوري حيادياً نحوهم، كأنما استسلام
لأنهم هم هكذا مخلوقون ولا فائدة! لكن أخي الصغير الذي، في الواقع، تحدث
شجارات دائمة بسببه بين أمي وأبي. فأبي يتهم أمي بفساد تربيته وأمي لا
تتوانى عن إبداء إعجابها به وبشطارته على حد تعبيرها. أخي هذا يلفت نظراتي
بشدة فأحيانا كانت ملامحه تتغير وتذكرني بملامح أحد الشبان الغرباء الذين
حاصروني في الحانوت!
حتى اللحظة لم أدرك سبب الصراخ الذي اشتد ودنا أكثر، لأرى أبي يجلس على (الصوفا)
القديمة أيضاً يصفع أبي الجالس على ركبتيه. بالملامح ذاتها والملابس أيضاً
والغضب ذاته، تتالى الصفعات، هذا يصفع ذاك وذاك يرد بالمثل.
لكني أعرف أن أبي الحقيقي هو الجالس على (الصوفا)، بينما الآخر تعرفه
عيوننا أنا وإخوتي السبعة وتقول نظراتنا هو: الموت.
وبضراوة كانت الصفعات تحط وتتطاير على الخدود. أحاول الصراخ والتحرك عبثاً،
الوجوه السبعة أمامي يرتسم عليها لا حول ولا قوة، وجوم وصمت سريع. أشعر
بفظاعة مريرة، أتذكر أمي، لكني أنا أو أي من إخوتي لم ننادها. مرارة راحت
تلفّ نظرات إخوتي الحزينة.
أحاول استحضار صوتي، أحسّ أن في حنجرتي صحراء من الرمال والملح. وتتبعثر
نظراتي ما بين الوجهين، ما بين الصفعات المنهمرة والصراخ والتحدي. غضب أبي
الجالس على (الصوفا) أراه لأول مرة، ربما رأيته ذات يوم قديم وهو يصفع أمي
بغضب لكنه لم يبلغ هذه الحدّة. بسرعة، أمحت الصورة من مخيلتي، وأنا لا أزال
أحضن أخي الطفل (البكر). فجأة أرى أبي الجالس على ركبتي أبي الحقيقي، يتقزم
ويتقزم ثم..
-(نسيت أن أذكر شيئاً قبل البدء بسرد الحلم، ربما كان علي توضيحه وهو أنني
لم أبدأ الكلام على عادة رواة الحلم، ليس تضليلاً لأمي التي تمنعنا من قص
أحلامنا المزعجة أو (المشربكة)، وليس أيضاً تهرباً من أسلوب جدي الذي يبدأ
سرد حلمه بمقدمة طويلة من البسملة حتى الصلاة على آخر سلالات سيد الأنام،
وإنما القضية كلها أنني لم أستيقظ بَعْد).
كان ثقيلاً!
تقدّم حاملوا التابوت، الموكب الكئيب أولاً، بعد أن انتهى الشباب الآخرون
من فتح ذراعي القبر وصدره، تبرعاً وحسنة، وأن يتبرع الجميع للخدمة في
جنازة، عادة قديمة لم تندثر مثل كثير من العادات في هذه القرية الساحلية
التي لامست أصابعها الحضارة الآتية عبر الطرقات الإسفلتية، وأيضاً عبر
الهوائيات القابعة على السطوح كلها!...
سار الرجال خلف التابوت المسجى على الأكتاف، وقد تقدمهم الشيخ بطوله العجيب
والذي زاده غرابة طربوشه الأحمر. كان قد ارتدى أيضاً قمبازاً وسترة مناسبة.
ومن بين أصابعه كانت تتراخى خرزات سبحة طويلة يرفقها بتراتيل قرآنية.
وخلفهم سار موكب النساء، تتقدمهم الأم، والأخوات، يجرجرن الخطو في الطريق
إلى المقبرة.
كانت الأخت الغارقة بالسواد والتجاعيد والنحيب، تصرخ كل حين، تلطم خديها
كأنها لا تريد أن تصدّق...
لم تكن امرأة، وإنما كانت قد لبست ثوب العنوسة، منذ وقت طويل، منذ بدء
الأيام الحزينة، والتفاصيل المتعبة!...
كان البكاء قد أنهكها طوال الليلة الماضية وبعض النهار، بانتظار الأخ الذي
وصل نبأ وفاته عبر الهاتف من إحدى مشافي "العاصمة"، مات، بعد إصابته بالشلل
لعدة اشهر.
وبين سيل دمع وآخر، كانت تحار فيما تقول! لكنها سرعان ما انتهزت فرصة مرور
الموكب بمحاذاة المدرسة القديمة والكبيرة، لتجد ضالتها في قول أي شيء. أي
شيء! اتجهت بناظريها إلى النوافذ العالية وصرخت:
"ـ أيها الغالي، كم كان يليق بك هذا المكان، صحيح أنك لم تكن معلماً فيه
لكنك فتحت البيت كمدرسة صيفية ومجانية لتعليم صبيان وبنات الضّيعة. هاهم
تلاميذك يبكونك ويودعونك".
مسحت دمعها، ثم تطلعت إلى الصبية التي تمسك بذراعها، لتقول:
"ـ آه، لو تعرفين كم كان يحبك لأنك متعلمة. وكم فرح حين تخرجك من الجامعة.
كان فخوراً لأنك تحملين الجريدة بيدك وأنت عائدة من عملك"..
وخطر للصبية أن الأخت الحزينة تطلب منها الترحم عليه، واستبعاد تلك الحادثة
القديمة والأليمة التي طالما رددتاها بجدّية حيناً وبضحك حيناً آخر. كان
ذلك ذات صيف عتيق وطفولة. حينذاك كانت تلميذة في مدرسته الصيفية، يومها لم
تكن تحفظ واجبها. وبما أنها من النجيبات، كما كان يردد أمام بقية التلاميذ،
فيجب أن تكون عقوبتها مضاعفة! وانهالت العصا، على رأسها وكتفيها، على
ذراعيها، أصابعها وقدميها، إلى أن انقلبت الطفلة عن الكرسي الصغيرة وارتطم
رأسها بقوة على الخزانة وراءها، ولم ينقذها سوى ذراعي أخته هذه وصراخها في
وجهه. هي أيضاً نالت العصا بعضاً منها، لكنها لم تتوانَ عن حمل الصغيرة
والركض بها إلى أهلها في أعلى التلة، بين البكاء والغضب والخجل الشديد،
وظلت الفتاة طريحة الفراش يومين كاملين!..
وتتساءل الصبية الآن: "ـ يا إلهي، ما الذي كان يضربه حينها؟"...
قطع عليها شرودها، وافترش الوجه الذهول حين سمعت الأخت تتابع نادبة:
"ـ أي انتظار مرّ، وأي فراغ بشع سأعيشه بدونك، ماذا سأفعل عند الساعة
الثانية ظهراً بعد الآن. كان موعد عودتك من الوظيفة، وكنت ألملم نفسي من
بيوت الجيران ومن أعمالي وأشغالي لأهرع وأسارع في تحضير المائدة لك ـ
آخ!وكيف سأمضي الليل دون أن أسمع نداءك وصراخك...".
صمتت فجأة، كأنما أحست بخطر ما تقوله في هذه اللحظة الحرجة؟... ورمقت من
جديد بعينيها الحمراوين وجه المتعلمة والمثقفة، كما كانت تعلن لها مراراً.
ولتتهرب من حرج الموقف حاولت البكاء من جديد، وسرعان ما تحول إلى بكاء مرّ
حين تذكرت صراخه الليلي.
فقد كان الأخ يمضي الليل وهو يشرب، كان يغلق عليه باب الغرفة بالمفتاح بعد
أن تنفِّذ جميع طلباته، وبحذافيرها من طعام وكؤوس، ماء........
ثم يحذر الأم والأخت من الدخول أو محاولة طرق الباب إن لم يدعُهما. وإن فعل
فيكون الأمر مرفقاً بالشتائم والضرب أيضاً، إن رأى ضرورة لذلك! وبعد وقت
يطول أو يقصر، يبدأ بتكسير الصحون، الزجاجات، والكؤوس، وتكسير النفس
الهائجة، وتنطلق اللعنات والسباب البذيء لأولئك الذين خدعوه في الحزب
وخارجه، ثم على العالم كله مروراً بأمه وأخوته وأبيه المتوفى ثم على نفسه
أخيراً، وكثيراً ما كان ينتحب ضارباً رأسه بأي شيء أمامه، بالجدار، بالكتب،
بالملعقة، وبأي شيء تطاله يده. وكثيراً ماكان يوجه ضرباته بالكؤوس إلى
التلفزيون الذي لا يتوقف عن الهذر والكذب و النفاق! كما يردد دائماً، ورغم
ذلك كان يتابع برامجه باستمرار!
وتظل المرأتان القابعتان مثل قطعتين هلعتين بانتظار السكينة وانطفائه
تماماً. دون أن تجرأ إحداهما على النوم.
وفي اليوم التالي، وبعد خروجه إلى عمله، تدخل الأخت غرفته الطافحة والملوثة
برائحة العرق والقيء والدمع والبول.
تلملم الحطام والقذارات المتناثرة على الجدران، والنافذة وعلى الباب
أيضاً.
تبكي، وإحساس فظيع بالقهر يدفعها في كثير من المرات إلى تمني الموت له ثم
تلعن نفسها، وحظها وتاريخها كله. وتحمِّل أخاها مسؤولية ضياعه، كما تلعن
الحزب والسياسة كلها!...
وذات مرة سألت الصبية الممسكة بها الآن: "ـ ما الذي فعله بهذا الحزب؟ ما
ذنبنا نحن؟ لماذا لم يدخل في حزب الدولة ليرتاح ويريحنا؟.. أليست كلها
سياسة؟ إنه يدمّر نفسه ويدمرنا معه".
ثم توقفت لتتذكر ماكانت تسمعه في وسائل الإعلام أو من أحاديث أخيها مع
ضيوفه: "ـ إن كانت الدول الكبيرة ـ قالت ـ تلعن حزبها وتخربه فما بالنا نحن
البسطاء؟...
وتتساءل بحيرة إن كانت فعلاً قد قدّمت فكرتها بطريقة مقبولة مثل المتعلمين!
وتسرب إلى ذاكرتها خيط عقد شجاراتها المتواصلة مع أمها لأسباب أو دونها
وربما بسببه أغلب الأحيان! ثم يتدخل هو آمراً، ناهياً، ومهدداً...
تنتبه إلى أن الموكب يشارف على الوصول إلى المقبرة، كان شريط من المصابيح
الكهربائية يصلها من أقرب بيت لإنارة ذاك الغروب العاتم.
بينما المساء يهلّ مع أنّسام ربيعية باردة، وغيومٍ متفرقة، تحاول التجمع
والمطر.
وكانت أشجار السنديان العالية الخضرة والعتق تحار في اهتزازاتها مابين
الفرح لاستقبال المقيم الجديد والحزن للموكب الذي يتهيأ للصمت والخشوع..
وصل الموكب. واختلط الجمع في بعض أطرافه، رجالاً، ونساءً، وصغاراً شدّهم
الفضول للمجيء.
خشعت آذان الجميع، لصوت الشيخ الذي راح يتلو آيات قرآنية، ثم راح يذكر
الوصايا الخاصة بالميت، بعدها وصايا للأحياء، ويردد الجمع كل حين "آمين".
في البداية حاولت الأخت الانسجام مع صوت المقرئ، فكثيرة هي اللحظات التي
تمنت فيها قراءة القرآن الكريم. كان طلاسم من كلمات وسطور، كانت أميّة،
فتكتفي بضمه وتقبيله، ووضعه تحت الوسادة حين تنام!
ولم تتجرأ يوماً أن تطلب منه قراءة بعض الآيات والسَّور! هو الذي كان يسخر
من أسئلتها وخاصة أمام ضيوفه! كان يتكلم كثيراً، ويقاطع الحاضرين وربما
امتلك ناصية الحديث طوال الجلسة... للحق، كانت تراه مثقفاً ويعرف الكثير،
كما يغلب الكثيرين من المتعلمين حين النقاش! كان يعشق العِلْم، يدعو الشباب
إليه، وخاصة البنات، وهذا ماكان يحزّ بنفسها كثيراً، فلماذا عليهاهي وأمها
الصمت، وعلى الأخريات الحديث والتعلم؟!.
بل إنه لم يكف عن اتهامها بالجهل، والغباء، ولعن حظه العاثر الذي جعله
معذباً ومظلوماً بالعيش مع عانس أمية طوال حياته!...
كم كان يبالغ بفرحه حين تتابع أية فتاة تعليمها! وكانت تشعر بتلك المبالغة
التي تحمل في طياتها سكين سخرية يغرزها في صدرها!...
مما دفعها سراً إلى أن تمحو أميتها. وحين نالت شهادتها، كان فرحها أكبر من
أن تخفيها عنه، لكن الاستحياء منعها. بالرغم من أنها تجاوزت الأربعين
بسنوات! فما كان منها إلاَّ أن خلّت الشهادة في مكان تعرف جيداً أن عينيه
ستمران عليه حتماً...
وتساءلت إن كان عليها أن تشكر تلك السخرية المريرة التي دفعتها لمعرفة
القراءة والكتابة؟
أمسك بالشهادة، ثم ألقاها بلا مبالاة وسخرية نسفت كل فرحها، وقال: "ـ يا
سلام، أصبحت تفكين الحرف، هل تعتقدين أنك أصبحت فهمانة ومتعلمة حقاً، إن
صرت تعرفينَ قراءة: "أبي فلاح ـ أنا ابنة الفلاح". في كتابك السخيف. كيف لك
قراءة الكتب العظيمة التي قرأتُها؟". عندئذٍ تكسرت أعماقها، تشفق على
الشهادة، وترمق المكتبة بكثير من الكراهية والتهديد!...
كان الشيخ قد أنهى الصلاة الأخيرة و المواعظ، ولم تكن قد سمعت كلمة مما
قاله، لعنت الشيطان في سرها، شبكت يديها على صدرها متأهبة، للانتباه..
كان الخشوع قد لملم أطرافه واندس في فضاء السنديان العالي. ثم انفجرت عاصفة
من الدموع والنحيب كوداع أخير، ممن يهمه الأمر مباشرة، وغير مباشرة. وأنزلت
الجثّة المكّفنة والمعطرة في قاع القبر البارد والطين.
انقبضت الأخت أكثر، إحساس بالذنب والفجيعة يمزقان روحها، تتوه مابين الحزن
والإحساس بالخفة!..
ولم تعد تدري ما الذي يقال. ثم تصاعدت كلماتها الأخيرة: "ـ مع السلامة أيها
الغالي. مع السلامة يا حبيبي"... وانفجرت بالبكاء..
ثم صار القبر المغطى بالبخور والزهور والسنديان العالي.
انتهت مراسم الدفن، استدار الموكب، وتفرق الجمع.
وظلت الأخت تقبض على لسانها وإحساسها الغريب، تستسلم لذراع الصبية، وبخفة
المطر الذي بدأ يتساقط وابلاً!
قبلة
1-
"كِشْ، كِشْ.. الله يلعن أبو الدجاج وأصحابه، وكل من يقتنيه، ولكْ.. ويلعن
أبو البحص، كش" هي ذي العبارة المنبه التي توقظني أغلب الصباحات، فأعرف أن
أمي تلوب بحثاً عن حصىً، أو أي شيء بإمكانه طرد الدجاجات التي تلتهم الأخضر
واليابس، على حدّ تعبيرها، وأيضاً بعد نفادِ الحصى من العلبة المعدنية التي
تملؤها كل يوم من أطراف البستان.
وكثيراً ما تفتق العبارة تلك شهوة اللعبة الأثيرة لدي، وهي إيجاد مرادفات
للغّة المكدّسة في دماغي وأذني.
أرشق وجهي بالماء البارد، أرمق خدي وأسجل مرادف كلمة "حصى"، أضع هذه الكلمة
على خد، والمرادف: "قبلة" على الخد الآخر.
2
وكنا صغاراً، نلهو مع العاملات اللواتي كن ينقلن الحجارة بسلال جلدية
سميكة، من تحت قلاب الشاحنة المائل إلى الكسّارات التي تولّد كومات من
الحصى البيضاء والغبراء، حيث كنا نستمتع باللعب على قممها ثم التدحرج إلى
الأسفل. ولم أكن آبه لحظتها لتلك (العلقة) التي سأنالها، فيما بعد، من أمي
لأني وسخت ملابسي وجسدي بالغبار وغيره.
كنت مولعة بالنظر إلى تلك الوجوه المغبّرة للفتيات السمراوات، وشعورهن
المخفية تحت مناديل مربوطة من الخلف على الرقبة تماماً.
كما أني لم أكن آبه لإنذار العائلة للعب مع الولد (المعتّر) كما تذكره
ألسنتها. كان اسمه (حسن)، سمّاه أبوه تيمناً باسم أخي الأكبر.
وقد جن جنون العائلة، حينها، لتلك الجرأة الوقحة! فلجؤوا إلى مناداته بـ (حسّون)
(فَحَسَنْ) بفتح السين هو خاصة سلالتنا في هذه القرية والقرى المجاورة أو
البعيدة نسبياً، أمّا (حَسِنْ) بكسر السين فيعني العامة. وإن أرادوا إنزال
أحدهم إلى أسفل القاع نادوه بـ (حسّون).
أمّا أنا فكنت أناديه (حسَن) بفتح السين، ولم أكن أعرف لماذا كانت الحمرة
تطفو على وجهه حين أتلفظ باسمه على هذا النحو!
كانت عائلته تسكن جوار بيتنا، وتعيش من النذر اليسير الذي تدرّه مواسم
الزراعة الضئيلة، ومن بعض ما تكسبه لقاء خدماتها لعائلتنا الكبيرة، أعماماً
وعمات، جداً وجدة، سلالةِ المجد والعظمة! سلالة الإقطاع الذي كان يلفظ
أنفاسه الأخيرة حينذاك، كما لفظ جداي أنفاسهما الأخيرة المميزة، وقد تركا
تواترها في صدور العائلة، ما عدا صدري الذي كان يسكنه إبليس، وعشق الخراب
كما تصفه عائلتي وخاصة أمي وعماتي! وعماتي أدلاء تأخرن في الزواج كثيراً،
كي لا يتدنس الدم المقدس! إلى أن جاء النصيب من الدم ذاته، وأنجبن أطفالاً
فيهم الأبكم والأصم، والأبله، أو بوجوه صفراء وعيون مريضة!
أمّا أمي فكانت سليلة (المشايخ)، فلا يمكن أن يُذكر أيّ من أجدادها، على
لسان أحد في المنطقة كلها، دون إرفاقه بعبارة (قدّس الله روحه). كما أن
أباها سيرث العبارة هذه فيما بعد. وجدي هذا، كثيراً ما كان يتفاخر سراً
وعلانية بمصاهرة سلالة الدم المقدس! وخصوصاً أمام خالي ابنه الوحيد الذي
جاء الرقم اثني عشر بعد الخالة الأخيرة. وبقدر سعادة جدي واعتزازه بمطابقة
الرقم اثني عشر بذكر، ولياً للعهد، كان إحساسه بالخيبة بل بالمصيبة التي
خلخت موازين تبصره المقدس، للمستقبل الآتي!
فخالي هذا كان مولعاً بقراءة الكتب الفاسدة والمدمّرة والتي لا بد أن يدخل
كتابها وقراؤها وشارحوها وناقلوها نار جهنم خالدين فيها! كما يزعم جدي،
وينذر خالي هذا كان مثيراً لإعجابي، كما كنت محط الكثير من أحلامه، كما
الوطن، هكذا كان يردّد لي دائماً، وكان عقلي الصغير آنذاك لا يستوعب الكثير
من كلامه الآسر. كما كنت مولعة بسخريته الدائمة من العائلة، وجرأته التي
كان يخشاها الآخرون. وكثيراً ما كان يدفعني حبي له لقول: "حين أكبر سأتزوج
خالي". وكنت أفسر قهقهاتهم لقولي ذاك، بنوع من السخرية من خالي ومني أيضاً،
فوحدنا كنا مختلفين عنهم، ووحدنا كنا متفقين دون اتفاق سري أو علني على
مناداة (حسَن) بفتح السين وهذا أيضاً ما كان يجعلني أوغل في عنادي، وفي
اللعب مع (حسن).
3
ذات ظهيرة، أمسك حسن) بيدي، وقادني على بُعدٍ قليل من العاملات اللواتي
فردن الزوّادات) لتناول طعام الغداء، كان الفضاء مغبراً وموشى بمرح
العائلات وحديثهن الدائم بعد فترة العمل الشاقة.
استسلمت لقيادة (حسن)، وأنا أمنيّ نفسي مثل كل مرة بمفاجأة غريبة يباغتني
بها كعادته، كرؤية حشرات غريبة، أو عش عصافير، أفخاخ، أو استنفار أكوار
النمل الآمن.
وعند جذع شجرة سنديان ضخم، توقف (حسن) واضعاً سبابته على شفتيه يأمرني
بالسكوت، فأطعته.
مددنا رأسينا بهدوء وحذر لاكتشاف الكنز، كما ظننت، وهالني ما رأيت، فلأول
مرة أرى جسدين شبه متلاصقين. كان سائق الشاحنة يقبّل خدّ إحدى العاملات،
كانت مستكينة وقد غصّت سمرتها باحمرار وصمت كثيفين.
لم أفهم ما يحدث. لكنني أحسست أنه شيء يشبه العيب، وإلاّ فلماذا اختبأا!
نظر (حسن) إليّ، وكان يكبرني بسنوات قليلة، آمراً باستمرار سكوني، لكنني
باغته بضحكة أجفلت الشابين. ركضاً هلعاً، ولم نبح لأحد بما رأيناه.
بعد ذلك اليوم، وطوال مدّة وجود الكسّارات في الساحة، شبعنا أنا وحسن سكاكر
أغدقها علينا سائق الشاحنة والفتاة السمراء، التي خلّت رسمها بدقة في
مخيلتي. كانت طويلة جداً جداً، وذاك الطول الهائل كما حلّلت فيما بعد كان
بسبب صغر حجمي وقصر قامتي حينها.
وكانت شامة سوداء تزين خدّها الأيسر. وصرت أحب تلك الشامة التي لا بد أن
القبلة قد حطت عليها، وربما، لعلها القبلة هي التي أنبتتها، كما فكرت. كما
أني كنت أحب هذه العاملة قبل السكاكر وبعدها، وكنت قد عرفتها في تلك الفترة
القصيرة التي قضيتها في تكسير الحجارة. كنا نأمل ونصلي أنا وحسن، ألا تنقضي
تلك المدّة، كي تبقى أيضاً كومات الحصى البيضاء التي تغويني بأن يكون مظهري
مغبراً مثل العاملات. كما كانت تلك الكومات تثير في نفسي الحسرة، لأنها
ستزال حتماً بسبب بناء بيت جديد لنا، كما أراد أبي، وذلك يعادل تماماً زوال
الفرح واللعب، ويعني أيضاً أن جسدي لن يكون له لون جسد العاملات، ووجوههن
المبيضة الغبراء!
4
وجاء اليوم الذي فرغت به الساحة من الكسّارات والعاملات
والسكاكر واللهو الممتع. ولأيام قليلة ظلّت كومات الحجارة بانتظار اقتلاعها
هي الأخرى. لذا كنت وحسن نستنزف الوقت قبل موت فترة الفرح الصيفية تلك.
وذات ظهيرة قائظة، أنامت أجساد العائلة، وأعطتني الأمان. أمسكني حسن من
يدي، وانجذبت وراءه لرؤية مفاجأة جديدة، ارتعش داخلي وأنا أرنو إلى جذع
السنديان الضخم، حيث لن أباغت الشابين وقبلتهما لكن حسن اختار أكبر كومة من
الحصى، كان الجو بلا غبار أو ضجيج، وكاد الصمت يطبق على المكان لولا أصوات
صراصير العنب والتين التي تزعق في الفضاء. وخلف الكومة العالية أجلسني
(حسن)، ليصير العالم كله وراءنا، ومن أمامنا كانت تندلق الأشجار من أعلى
الهضبة حتى أسفلها.
نظر (حسن) في وجهي طويلاً، وكنت بدوري أتفرسُ وفي وجهه ويديه لأحزر
المفاجأة التي سيباغتني بها، وقبل أن أتبيّن سبب احمراره المفاجئ، وصمته
الذي طال، أحاط عنقي بذراعه السمراء القوية، وطبع قبلة على خدي.
نظرت في عينيه ووجهه ، ولم أفهم أكثر من أنه يقلّد سائق الشاحنة! ببطء،
تصاعدت أناملي إلى خدّي لتتلمس الشامة السوداء التي ستنبثق عليه، وأنا أشعر
بشيء يشبه العيب، ثم لأنال (علقة) مختلفة هذه المرة من أمي.
لكن سبب (العلقة) لم يكن ظهور أية شامة على خدي، وإنما ظهور ابن عمي (أحمد)
بفتح الميم طبعاً)، والذي لست أدري كيف انشقّت الأرض عنه، ورفعته إلى كومة
الحصى، ليتدحرج من أعلاها ويصير بيننا، هددني بوالديّ، ثم صرخ في وجه حسن
المرتبك وطرده قائلاً: "رحْ، انقلع من هنا يا ابن الخدم". وددت لو أني
أستطيع شتم ابن عمي، لو أني أهيل عليه بالحصى، لكني لم أفعل أكثر من الركض،
والخوف، والاختباء في سريري، حيث بقيت حتى اليوم التالي
وفوجئ والدي بارتفاع درجة حرارتي بشكل أخافهم.
ورغم حمّى جسدي، كان باستطاعتي أن أنصت لكل نأمة تحدث في البيت، لمعرفة إن
كان أحدهم قد عرف بما حدث بالأمس، لكني لم أسمع أو أر أي شيء حولي، أو على
وجهي والدي وهما يجولان حولي مترقبين بقلق وضعي الصحي. إلى أن باغتتني
ضحكاتهم الصاخبة ومزاحهم الذي لم يكن عادياً بالنسبة لهم أو لي. وددت لو
أعرف السبب، ولم أكن لأجرؤ على سؤال أبي الذي كان يمعن النظر إلى درجة
حرارتي في (ميزان الحرارة) بعد أن أخذها من مكان ما في جسدي. بدا على أمي
الاطمئنان وهي تسمع صوت أبي، لكنها لم تتوان عن توبيخي للعب، تحت حريق
الشمس، حتى بات جلدي أسود مثل جلود الآخرين (المعترين)! وتهز رأسها مدبرة،
تحيرها لا مبالاتي: "-لست أدري أيّ إبليس يسكنك؟ كان عليك أن تكوني صبياً!
بل إن إخوتك الصبية يترفّعون عن اللعب معك أو مثلكِ".
وقبل أن يختفي صوتها في أعماقي، ارتعدت وغصت تحت اللحاف حتى قمة رأسي، حين
سمعت صوت ابن عمي (يلعلع) في البيت.
وكثيراً ما كنت أنعته (بالغليظ) خفية وجهاراً. ولكن ما حدث بالأمس جعلني
أخرس فيما بعد، وطويلاً، ولن يكون بوسعي التحدث معه في أي أمر آخر.
وانفجر الضحك من جديد، وصوت ابن عمي يعلو أكثر ، قصد إسماعي، وعلمت أنه
وأخي قد أقدما على مباغتة (حسن) وهو نصف عارٍ في بيتهم، وحملاه من قدميه
ويديه إلى أطراف البستان وألقيا به داخل مساحة كبيرة من نبات القرّيص وصار
الحدث نكتة في العائلة.
ولم أجرؤ على الاستنكار أو الحزن أمامهم كعادتي، فارتحت لاعتلال صحتي التي
جنبتني حرج الموقف، وربما انكشاف الأمر الآخر -دفنت رأسي في الوسادة
وبكيت.
وانقضى أسبوع بعد ذلك، ولم أنل أيةَ (علقة) أو أدنى توبيخ، مما أكد لي أن
ابن عمي قد كتم الأمرَ، وتساءلت عن كرم أخلاقه المفاجئ هذا ! ولم تنفك
عقدةُ حيرتي إلى أن جاء صباحُ يوم الجمعة من ذلك الإسبوع.
ففي هذا الوقت يحضر "الشيخ" مثل العادة، لتلقين أبناء العائلة الذكور،
الدروس الدينية، دوننا نحن الإناث، الكبيرات والصغيرات.
ويتحلق الذكور حول الشيخ في غرفة محايدة من دارنا، باعتبارها دار العم
الأكبر كان الأمر يثير في نفسي السخط، وخصوصاً أني كنت متفوقة على الكثير
من ذكور العائلة، باعتراف الأهل والمعلمين ونتائج الامتحانات!
كان هذا الأمر يدفعني لأن أنسل مثل لصة، لأقف تحت نافذة الغرفة، أو جانب
الباب الموصد حين تكون عيون من في البيت وخاصة أمي بعيدة عنه. وإلاّ ضبطت
بجرم سيعاقبني عليه الله بأن يعمي عينيّ أو يصم أذني، كما يهددّون! في ذلك
الصباح، عجبت كيف أن الباب ظل موارباً، ارتحت للفراغ الذي يمكّن الصوت
والكلام من المرور إلى أذني دون عناء.
وحده ابن عمي (الغليظ) عرف بوجودي، وراح يرمقني بطرف عينيه، وأنا أمعن في
الاختباء وراء الجدار.
وتناهى إليّ صوت الشيخ وهو يحددُ لهم جهة القبلة للصلاة، ارتعشت وأنا أوازن
بين (القِبلة) و(القُبلة) التي حطها (حسن) على خدي.
تراجعت عن الباب الموارب، هرباً من نظرات ابن عمي، وراحت أصابعي تتلمس
بتوجس خدي الذي لم تنبت عليه الشامة بعد!
وكاد النهار يمضي بسلام، لولا غمز ابن عمي لي، قائلاً: "هل تعرفين جهة
القبلة؟" أجبتُ بجفاء وتحدّ، وأنا أحاول الانصراف لإخفاء ارتباكي
ومواجهته:
"-ولا أريد أن تعلّمني أين هي؟" وبحركة خاطفة أرعبتني، أمسك بيدي، أدارني
لمواجهته، وأشار بسبابته إلى خدي: "-القِبلةُ، هنا" حاول إحاطة رقبتي
بذراعه، لكني تخلصت منه، هربت إلى سريري، مخبأي وأنا أشعر بالحصار.
وتكررت محاولاته لأيام، وأنا أتهرب منه، مجرّدة من أي سلاح أهدّدُه به وكان
علي إيقافه بأية حيلة أخترعها.
وفكرت في استدراجه إلى الشرفة الخلفية للبيت، حضرت عصا طويلة، ركنتها في
الزاوية التي يَعلوها عش للزّنابير.. ولم تطل مدّة انتظاري حتى أتى، ليحاول
مثل كل مرة، فما كان مني إلاّ أن هيجت الزنابير بالعصا الطويلة، وضحكت
ساخرة لرؤيته ينط ويحط ثم يفر هارباً.
وبعد وقت قليل كنت أنال (العلقة) المتوقعة والمختلفة جداً هذه المرّة
للكارثة وللعار الذي جلبته لعائلتي. صفعني أبي عدة مرات، ونظرت أمي إليّ
بعينين تطيران الرعب وتحطانه في قلبي، ضربت خديها وصرخت بما لم أفهمه
حينها: ".. ومع من مع "المعترّ، مع "الوسخْ" يا ويلك ويا سوادُ ليلك"
بعد ذلك عرفت سواد الليل، حين أمرت العائلة، أهل (حسن) بالاندحار إلى أطراف
القرية بعد أن صارت جيرتهم عاراً علينا! ولم أر (حسن) في ذلك الصيف كله.
5
ثم جاءت أيام لا تقل سواداً، عانت خلالها العائلة ما عانت وهي ترى أملاكها
تتوزع هنا وهناك وتهتز الموازين، ويصير (المعترون) والبشر العاديون وسلالات
الدم المقدس سواسية.
لم تكن تعنيني كارثة العائلة، وكل ما كنت آمَله لقاء صديقي الذي غاب فجأة
عن عالمنا، وطويلاً غاب.
كما كنت مشغوفة بالاستماع إلى خالي. حينها كنت أراه لأول مرة مغموراً بكل
ذاك الفرح. كان يغيب هو الآخر، لكنه يعود كل حين. أخرجَ كتبه المخبأة
ووضعها صفوفاً مكشوفة على الرفوف الجدارية من بيت جدي.
وجدي هذا لم أستطع ملامسة رأيه الصريح بما يحدث، وهو ينقّل حديثه ما بين
عائلتي المفجوعة، وبين وجوه أهالي المنطقة الآتية للتبرك والمساءلة وإيفاء
النذور، والفرح لما طرأ من تغيرات!
في تلك الآونة عرفت مرادفات مختلفة للخجل، والعيب، والحرام مقابل خوف، جهل،
وسذاجة، ثم ألغيت مرادفيْ: الخوف والسذاجة.
كما قارنت الشبه ما بين قباب قبور أجدادي لأمي، وبين قناطر الشرفات العريضة
لبيوت سلالتنا، فهم وحدهم الذين كانوا يبنون قناطر دون الآخرين، ثم قارنت
ما بين القبة والقنطرة ونون النسوة في قواعد اللغة العربية، ونون بدء
المعرفة والتكوين.
وتنجدل مرادفات المتعة والأسى فيّ، وتفور اللغة والمعاني، وتتناسل بثقل في
مسامي، وقاموسي.
تغلغل الزمن فينا وأطال القدّ والهم. وفجأة، عاد الغائب ملفوفاً بالعلم
الوطني، وسط طلقاتِ البواريد والتكبير والزغاريد والنحيب.
بحرقة وبصوت عالٍ، بكيت . كان لدموعي مرادفات مختلفة: فخرٌ، حزن، معرفة،
قهر وصراخ في وجه عائلتي.
كثير من الوجوه والملامح، والتفاصيل والخطوط العريضة تغيرت. وظل عنادي يلفع
حنيني إلى حسن، وإلى غبار الحصى والمفاجآت المختلفة الروعة، كل هذا، يجعلني
أمعن في إثارة غبار الطباشير حولي في المدرسة حيث أعلم تلاميذي الصغار،
وحيث أيضاً أثناء دخولي وخروجي، أتطلع إلى أعلى باب المدرسة العريض الذي
يحمل اسم "الشهيد حسن" صديق طفولتي وحنيني وأسئلتي، عالياً أرفع رأسي،
أبتسم وأرسلُ له قبلة.
دعوة
غاب الصوت، ليشتعل المكان.
وبكل قواها حاولت سحب صوتها الممعن في اختفائه. وكأنما كانت قد طلبت مزيداً
من الصمت أو مزيداً من الحريق.
نهض الطيف الغباري، اتجْه نحو كومة مغطاة في الزاوية، ظنتها ملاحف وشراشف
كتلك التي كانت في زاوية ما من بيت جدها. تقرر: لن تشبه أي شيء بأي شيء، لن
تتذكر، لن تتنبأ. ستبقى هكذا مسترخية للسيل الضبابي.
امتدت أصابعه تكشف الكومة من كتب وأوراق وذاكرة. أخذ علبة بخور وأشعل بعض
الزمن وبعض البلاد وبعض الليالي الغائرة في الكتب الصفراء العتيقة.
وقيل أسطورة في أولِ الزمن، طاف البخور يدب حولها، يحاصرها، يدنو ويدنو
برفق يلامسها، يتغلغل فيها، وبنعُومة بالغة يغزوها. وينهمر السيل وتنهمر
معه في الأعالي.
تنظر إلى الأعلى أكثر، أتراه سقف هو ما فوقها؟ أتراها جدران ما حولها؟
تفكر: ستلغي كلمة "جدران"، هي التي لم تتردد لحظة واحدة في تلبية الدعوة.
كان قد انقضى زمن جداري طويل تحفر عليه، وليست تدري، الأسئلة ذاتها لعالم
لا يريدها ولا تريده!
أدارت ظهرها لفحيح الجدران التي لم تكن لتشبع أبداً من التهام أظافرها ولحم
أصابعها. لن تأبه للدم الأسود المتخثر بلا رائحة ولا زنخ ولا قرف.
لا ماضٍ ولا آتٍ، لا قرى، لا مدائن، لا بلاد، لا أجداد أو سلالات! وولت
وجهها شطر الحريق.
من جديد، تعيد النظر إلى ما حولها. أشياء تقف باصفرار باهت، يغلفها دخان
السجائر، دخان الأحلام والتشظي. رسومات معلقة: وجوه لنساء جميلات، رجال
سادوا ثم بادوا، كلمات وأشعار، وبعض من نتف ذاكرة تحاول الاحتفاظ بقضية ما،
لشعب ما، لثوار بلا بنادق، ثم وبخط واضح كتبت حكمة رجل يحاول استقبال الموت
بابتسامة!
تستنشق البخور أو يستنشقها، ثم توغل في الأشياء حولها: ماء قليل يعارك
اليباس في كوب يضم ثلاث زهرات بلون أحمر وردي وأبيض، ملفعة بسادية من يرفض
الموت والموات!
وبين فوضى الأشياء وفوضى الوقت: كتب، مجلات، قهوة ساخنة، وهاتف يرن كل حين
يمزق الصمت والخواء، حاملاً أصواتاً تلاحقها، وتدمي الوجع. بينما الطيف
الغباري يرد كل حين أيضاً.
بودها امتلاك سكين لتمزق أسلاك الهاتف والأصوات، أسلاك الحدود، وتلك
الممعنة في حرق الغناء والحناجر!
كل السكاكين مثلومة، وكل السيوف. فأي صهيل وأية طواحين هواء وماء ودماء
لعالم من خرائط وبنادق، من جثث وبشر موغلين في العتق، موغلين في النوم وفي
الصلاة وتفتيت الإله؟!
بغتة، تشعر كأنما شيء يهيج داخلها، أكثر من الغليان هو، أكثر من فقاعات
القير المغلي لمحاكم التفتيش الأبدية!
لن تأبه، تريد الانهمار أكثر مع السيل في الأعالي، لكن الفقاعات ألحت في
بروزها، بدت بلورية في البداية فارغة تطفو على مساحة جلدها.
ثم تفسخت رؤوس أصابعها، طالت أظافرها أكثر، جارحةً كما السيوف كانت. تترنح،
شيء ما تتشبث به بقوة، لن تفكر ما هو، لا تريد تمزيقه، بل كما هو لتتكئ
عليه! بينما اليد الأخرى راحت تحوم ما بين الفقاعات التي بدت مغبشّة مثقلة،
موجعة كان أشبهَ بوجع التاريخ، والجغرافيا، ووجع تفتت الإله!
وراحت أظافرها الحادة تحزّ جلدها طولاً وعرضاً، ثم تسلخه قطعة قطعة لترميها
للكلاب النابحة أبداً وراء ظهرها.
بدا جسدها أكثر نصاعة وسخونة، لا ألم لا نزيف، لكن الغليان لا يفتأ عن
التأجج داخلها. استسلمت له، ومدّت أظافرها إلى الجهة المقابلة تنقب في
الفراش الذي (يُجعَلِك) القصص والحكايا التي كانت وستكون مشغولة بأنفاس رجل
واحد ونساء كثيرات، ووسادةٌ تنتظر أبداً استراحة أنفاس لاهثة هاربة من رغوة
العالم وزبد الحياة، كما كل مرة، وكما كان وسيكون.
تتسمر عيناها على الشاشة الفضية التي تقطع الأنفاس وتجرها خلف امرأة تحاول
أن تكون، امرأة بلا عشق، بلا أوار، أنثى من حنين وحطام ومطر. تستجدي أطياف
الغبار للاستكانة، لخنق الأصوات المخيفة، لإبعاد الأشباح المزمنة. لإشعال
الحريق في الآن.
تحاول المرأة تمزيق جدران المدائن والحدود والخرائط والصقيع. تحيك حكاياتها
بأبر وخيطان من محاولة للاكتشاف عبر وجوه الرجال والنساء والأطفال في شوارع
تكتظ بالهرولة والضياع، بالتآكل والدمار، بالخيانة والحروب بالجثث المقتولة
أو المنتحرة!
وأيضاً عبر عري الأجساد والأرواح المخدّرة التي تحاول اصطياد الأبدية أو
اصطياد موت سعيد، لكنها وفي كل مرة يفاجئها الاستيقاظ ويعلن لها، متشفياً،
عدم موتها، فتجتّر المحاولات مرات ومرات.
المرأة اللاهثة، تخترق المعارض، تنهمر نظراتها بدهشة أو حيرة أو حزن لا
يشبه الأحزان، ترنو إلى الفنان الصّريع تحت أقدام الغزاة أو الخونة، تتأمل
جثته المدمّاة الجميلة، فوق صقيع البلاط، الشاهد الوحيد، وبين لوحاته
الذبيحة المتباعدة معلنة أن لا شيء يغطي هذا الموت أو يستره.
وتلك حاملة الإبر والخيطان تعبئ فيها الخرز المبقع بعالم من ذهول.
توغل عيناها لرؤية ما لا يرى، لجمع ما لا يجمع، لحب بلا رغبات، ورغبات بلا
حب. يؤسفها أنها كانت لا ترى سوى الأجزاء والجوانب! أَمْ أنّ العالم كلَّه
أجزاء وجوانب فقط؟!
ستغوص في الأعماق أكثر، الضبابُ يتكاثف، البخور يتكوم في شعرها في أنفاسها
على الفقاعات التي لا تتوانى عن الظهور مرات ومرات.
كأنما تشتم رائحة قيح أو عفن أو أنها رائحة الوقت المتسرب عبر النوافذ
المفتوحة والستائر المسدلة؟
ينزّ الاصفرار الباهت، تغيب المعلقات والرسوم والأشعار وفتات قضية ما لشعب
ما، لثوار بلا بنادق يرتلون بكلمات مبهمة، يطوفون بظلالهم ما بين الروح
المتأججة والقهر واغتيال القصائد والعصافير.
وحده الحلم يبدد الزحام والموات!
تمعن المرأة في اختراقاتها ورعب الاكتشاف، ومحاولاتها المضنية تصرُّ على
تقشير جلدها مرات أخرى.
عليها أن تبقي جسدها أكثر نصاعة وسخونة، وبأظافرها الجارحة ستمزق وجه
المدينة، وفوضى الأشياء والبلاد، ستمزق الحجب ودخان التراتيل المشبوهة
لقداسة مزعومة! ستخلع الأبواب والنوافذ الموصدة، فوضى الوقت وفوضى الموت.
هي، لا تريد أي موت، لأنها والموت توأمان مشوهان ملتصقان برأس واحد،
يتصارعان ولا ينفصلان!
فأي اختراقات تستطيعها أظافرها للعالم المشغول بأعين العسس، وأوراقِ لا حكم
عليها أو علي، وسطورٍ مسطرة من قداسة ومن عدم، ومواعظَ للمشبوهين
والمشبوهات، للخطوط الحمر أو السود، لمدافن الأجساد الحيّة وقبور لأحلام
تحاول الحب والحياة؟!
تمتد خيوط الوقت والأنفاس المتعبة عبر بؤس عالمها فأية فسحة لبعثرة الضباب
والكلام الغباري والأزهار، حبيسة موتها الآتي!
تنتبه إلى أنها لا تزال تتكئ بيدها الأخرى على ذاك الشيء المجهول.
لن ترتعد، تقرر، لن تأبه لدبق الوقت وبلادته تحت أقدامها، لن تأبه بجمود
عالمها الثلجي.
ها هي وقد انتهت من سلخ جلدها تماماً.
أتراه صار جسدها ناصعاً وساخناً حقاً!؟ خيط من الريبة يتسلل إلى ذهنها.
أتراه الاشتعال يزداد أواراً؟ أيبعد عنها الكلاب التي تتناهش لالتهام ما
رمته لها وراء ظهرها؟ لن تفكر في الأمر طويلاً.
تشعر بلفحات حارة تغزوها لكنها ليست حارقة، شيء ما ينوس وينوس، ثم يشتعل
ويخبو.
فجأة، انتبها إلى أن الشموع المشتعلة منذ أول المساء قد ذابت، ولا تزال
تعاند الكهرباء المقطوعة منذ الصباح!
تركيب
طرقٌ خفيفٌ فيه رائحة الوجل يتسرب عبر الباب المفتوح إلى آذاننا ونحن نخطو
بثقل عشائنا الذي تناولناه تواً.
كان بإمكاني، وأنا أدير ظهري، أن أعرف أن جدي يوقف أصابعه التي تعبث بإبرة
المذياع كي يستمع إلى أخبار لندن المسائية. فالساعة تقارب الثامنة. ثم ينهض
صوب الباب تسبقه عبارة (أهلا، تفضل) والتي سيكرّرها إلى أن يصل إلى القادم،
الطارق.
وأعرف أيضاً أن جدتي التي تفرغ الطناجر من بقايا طعام اليوم، قد تركت الصحن
مكشوفاً على الطاولة، ولا تزال واقفة تدير ظهرها بينما وجهها يستطلع الضيف
الواقف بالباب.
وحدي، لم تتوقف أصابعي عن الحركة وأنا أرتب الأواني النظيفة، حسب تعليمات
جدتي الصارمة، أرمق أشياءها المزمنة وهواجسها المقبلة على الرفوف المكشوفة
وقد غطت خشبها غير المطلي بقماش أبيض مشغولة أطرافه بالدانتيلا وبعروق
أصابعها وليالي انتظارها المتعبة.
لم أتحرك لرؤية القادم من مكاني في القسم الداخلي لبيت جدي الوسيع، وأرضيته
الإسمنتية اللامعة، والتي كانت جدتي تأمرني بمسحها وتلميعها إلى أن تبدو
صورتي فيها.
مع أني كنت أعجز عن رؤية ملامحي وكل ما أراه ظلي المتماهي بالضوء الذي
يحاصرني مندلقاً عبر البابين الغربي والشرقي، ليخفي اللمعان أي ظل لي!
تناهى إلى سمعي خطوات القادم الوئيدة، وصوت جدي الذي تكسّر تهليله، ثم
خطوات جدتي السريعة المريبة، فشدّ الفضولُ رأسي من وراء الحاجز القصبي الذي
يفصل ما يُفترض أنه مطبخ عن مكان الجلوس والنوم.
داهمتني جدتي وهي تغمز لي بعينها أن أسرع. ثم همست لي أن أحضر الطشت، وقد
حملتْ منشفة نظيفة وسارعت لتسخين الماء، تاركة في حلقي سؤالاً مرتعشاً.
صوت جدي يناديني، اقترب بخفرٍ، فيشجعني قائلاً:
((-هيا سلّمي على ابن خال أبيكِ؟))
وقبل أن يرتفع نظري إلى وجه قريبنا المباغتِ، جمدت نظراتي على إحدى ذراعيه،
وكان قد خلع قميصه الخارجي، يمسك بأصابعه يد جدي، وذراعه الممدودة ملوثة
بالدم المتخثر، وقد نزل جرح من أعلاها حتى المرفق.
كدت أصرخ أو أبكي، لكني لم أفعل، وحِرْتُ في أن أمدَّ يدي للسلام، وقد
تبيتُ أن الذراع المدماة هي اليمنى، كان جدي يشتم ويهدد ويلعن الحرب
والعالم والخونة والأغبياء! ولأول مرة أرى شفتيه ترتجفان، ويلوح شيء في
عينيه كالبريق. كانت جدتي قد أحضرت الماء الفاتر وصبّته في الطشت، وأنا
أرقبُ المشهد، وأتابع نظراتها كي أسارع في تنفيذ طلباتها.
هالني وجهها، بتجاعيده السمر، والذي يحمل جمالاً قد كان، وهو يعاند الآن
دموعاً في جفْنيها. وكعهدي بها تظل جدتي قوية، مثل جسدها، صوتها، ووقع
قدميها.
وراحت تمسح الدماء المتخثرة بالخروق المبللة، قبل أن تمتد يدها إلى الجرح،
وكنت أغسل الدماء، وأعصر الخرق، لأناولها لجدتي بالتناوب، وهي تثابر على
التنظيف بأناة شديدة. كانت صامتة، لكنها لا تني أحياناً عن توجيه نظراتها
الثابتة إلى جدي وهو يعطي تعليماته! فجدتي كانت تكره سماع أي صوت وهي
منهمكة في أي عمل تجيده دون غيرها. لكن جدي هذه المرة لم يأبه لنظراتها،
وهو لا يزال ممسكاً بأصابع الشاب، الذي أغْمض عينيه بشدة، صرّ على أسنانه،
وأرخى رأسه على كتف جدي، و(آخ) هادئة ممطوطة تصاعدت منه لتحط هلعاً ووجعاً
في قلوبنا.
كانت جدتي قد بدأت العبث بالجرح. وجدي يصرخ: (-الكلاب، الأغبياء، فسَدَ
الكون، ألطف يا لطيف، متى كان يقتل الأخ أخاه؟!) ثم مسح دمعتين ثقيلتين،
واحتضن الشاب في صدره الكبير، بكت جدتي، ولم أبك. كنت أركض، أدخل، وأخرج،
وأبدّل الماء كل حين، وأعصر الخرق بسرعة بالغة، وأنا أصاعد نظراتي لتقف
بجرأة على وجه قريبنا الذي أراه وأتعرفه لأول مرة. كان أسمر، وشعره الأجعد
يلتمع بالعرق والضوء، وكانت ذقنه تعلن أنه منذ أيام لم تمر عليها شفرة
حلاقة. وبدت عيناه المغمضتان كخطين طويلين كثيفي الأهداب، تمنيت لو أرى
لونهما وسط هذا السواد والاحمرار والهالتين الزرقاوين المحيطتين بهما.
ربما انقضت ساعة، حتى كان الشاب يسترخي باطمئنان، وقد لفَّتْ جدتي ذراعه
بشاش أبيض وأعشاب مدقوقة بعناية. فجدتي القروية لم تكن فلاحة أو مزارعة،
وإنما كانت ربة بيت من الطراز الأول، لكن ذلك لم يمنعها من الاهتمام وجدي
بحاكورة البيت الواسعة، وزراعتها بالأشجار المثمرة والورود والنعناع
والزعتر وغيرها من الأعشاب التي كانت تبحث عنها في الوادي القريب بعد أن
تكون قد لملمت عنها معلومات طبية أكيدة من جميع من تثق بكلامهم حتى لو كان
غريباً.
كنت أحياناً أعجب لثقتها بالغرباء، ثم أيقنت بعد حين أن لجدتي فراسة وذكاء
قل نظيرهما.
استرخى الشاب بعد أن تناول كوباً من اللبن ثم كأساً ساخناً من مغلي الأعشاب
المفيدة
للجروح، ثم سارعتْ جدتي، بعدما طلبتْ إليَّ التواري وراء الحاجز القصبي،
إلى خلع ملابسه، وتنظيف باقي جسده بخرق نظيفة مبلولة بماء معطر بسائل
الكولونيا، التي تسربت رائحته عبر القصب العتيق إلى أنفي وعشعشت في ذاكرته،
ثم ساعدته في ارتداء ملابس أحد أعمامي. واسترعى انتباهي أن الشاب يسأل عني
ومن أكون، شيء ما ارتعش أكثر من أذني، وأنا أسمع صوته الرجولي وبحته
الناعمة، كنت أصغي إلى إجابة جدتي، وأنا أصلي من أعماقي ألا تشتُم وتتأفف
كعادتها، قالت: ((-قلنا نزوجهم فنرتاح، لكنهم سرعان ما يخلّفون قلوبنا
ويرحلون تاركين مسؤولياتهم الكبيرة على صدورنا الضيقة)). وارتحتُ إلى أن
جدتي لم تزِدْ. لأنها في كل مرة تذكر فيها أبويَّ أشعر بثقلي وعبئي الكبير
عليهما، وأيضاً كرهي لوالديَّ في المهجر، اللذين يلملمان المستقبل في
صناديق من أمان لنا نحن الأولاد، كما يردّدان في رسائلهما لي!
سنين عديدة مدّت قامتي، وتغلغلت في رأسي وشراييني، ونهدي الصغيرين اللذين
بدأا بإعلان أمرٍ قادم إليّ لم أكن أعرف ما هو، أو أجرؤ على سؤال جدتي حين
أراها تغمز للقرويات أو الجارات أن: ((ليس بعد!) ثم تُلحِقها بتنهيدة خائفة
وتقول (والحمد لله)! بينما تتطاول العيون بشراسة لتنغرز في صدري! فأسارع
إلى الاختباء والبكاء وارتداء أي شيء فضفاض يخفي صدري.
وكثيراً ما دفعني ذلك أيضاً لأن أسوّي من ملابسي وأنا أنطوي أو أركع لألمع
الأرضية، أبحث عن ظلي، وأرقب من قبة القميص نهدي البارزين ببشاعة فظيفة
مرفقة بألم كريه، وأتمنى أن يبلتعهما الضوء المشاكس الآتي من البابين أمامي
وورائي كما يبتلع ظلي!
نادتني جدتي للاغتسال والتهيؤ للنوم، لم تكن لدينا تمديدات صحية أو مغاسل،
فخرجت خلف البيت حيث الصنبور الوحيد.
فتحت الصنبور وارتعشت لبرودة الماء، كان الوقت أول الصيف، وأيار يلملم آخر
ساعاته للرحيل. وكانت الدالية المرفوعة على أعمدة وأسلاك فوق رأسي تُسقطُ
على جسدي ظلالاً وبقعاً قمرية تتنزّل من سماء في غاية الصفاء والفِضّة.
وراحت المياه المسكوبة على قدمي وذراعي تنثر رذاذها المتطاير، فأتشتت معه.
وأرى في الرذاذ وجهيْ أبي وأمي، ثم إخوتي الذين لم أعرفهم سوى في الصور
والرسائل. ثم أرى نهدي الشرسين يلتصقان بصدري ولا يتطايران. برغم صلاتي
الحارة التي أرسلها إلى الرب عالياً عبر أوراق الدالية!
أغمض عيني وتنسكب المياه على وجهي، ينهمر وجه القريب أمامي، وينداح صوته
وبحته الآسرة في شراييني. لم أكن أعرف كنه شعوري نحوه. كان إحساساً غريباً
لم أشعره حيال آخر إطلاقاً. تمنيت وأنا أجفف بللي أن أدخل من الباب الغربي
ويكون الصبح قد هلّ من الباب الشرقي، لأسمع صوته وهو يخصّني ببحته بصباح
الخير!
لكني سرعان ما تكومت في دفء حضن جدتي. وقبالتنا كان جدي يخلع طاقيته
القماشية البيضاء يعلقها على إحدى أعمدة السرير الحديدي تحت اللحاف.
وبجانبه على الأرضية كانت جدتي قد مدّت فرشة سميكة من الصوف، للشاب، الذي
لم أكن أتمكن من رؤيته، لكني كنت أسمع بانتظام أنفاسه وهو يغط في نوم
عميق.
لم أستطع النوم وقلبي يتابع بخفقان شديد أنفاس القريب الغريب، أتصور من
جديد أصابعه التي تشد على كفّ جدّي، أرى جرحه الأسود اللون، أسمع (آخه)
الهادئة تنسكب بلا انقطاع في داخلي، أسخن، وأنا أسترجع صوته يسأل عني ومن
أكون. ألملم أطراف حديثه المتقطع، وأنا ألوب في الدخول والخروج لتنفيذ
أوامر جدتي، وما فهمته أنه قادم من لبنان، وكان يعمل في طرابلس، بعد أن هجر
والداه بيروت تحت القصف، وأنه تعرض لهجوم وأسئلة مخزية، وقبل أن يمعنوا
النظر في هويته الشخصية كانت طعنة قد أصابته في ذراعه من حربة بندقية، وأنه
بقدرة قادر استطاع الهرب، وتجاوز الحدود، في طرق ترابية بعيدة عن الحواجز،
ثم وصل إلينا، بما يسّرتْ له الطريق من وسائل نقل، وراح جدي يلعن من جديد
ويردد: (الأغبياء، الحمير، هي مجرد لعبة قذرة، متى سيفهمون؟) وعندما عدت من
الخارج بعد أن نشرت بعض المناشف على الحبل تحت الدالية، كانت جدتي تولول،
تضرب كفاً بكف، وهي تلوم أخاها طيب القلب الذي ركض وراء ساقي زوجته
(العديمة) هكذا كانت في بيت أهلها! وما إن شبعت اللقمة حتى رفعت أنفها
عالياً، تكبرت على قريتها وأهلها، وأنها صارت من (الأفندية) وصدقت نفسها،
وراحت تعيش في بيروت، وقد شحطت وراءها أولاداً صغاراً رمتهم في الضياع
والحرب! ثم نهضت بعصبيةٍ ودخلت وراء الحاجز القصبي، وهي تقول لي بهمس
متشنج: ((إن شاء الله تأتيها قذيفة وتقصف عمرها، قبل أن يُجرح أحد من
أبنائها!)) أسخن من جديد وأنا في السرير، أتشتت ما بيني وبين الأنفاس
المختلطة النائمة، ولست أدري كم نمت، وكم همت، وكم طال انبلاج الصباح، إلى
أن نهضنا أولاً، جدي وجدتي وأنا، وسارعنا لترتيب الأشياء، ونحن نتهامس،
وللضرورة وحسب، نمشي على رؤوس أصابعنا، لكن ذلك لم يمنع الشاب من
الاستيقاظ. سارع جدي لمساعدته وسارعت جدتي لفتح النافذة الوحيدة والبابين،
كان الصباح بالكاد يحشر نفسه في الآفاق الشرقية، ويطل عبر الدالية
العالية.
وانهمكنا في تحضير الفطور الذي سرعان ما تحلّقنا حوله، ومصادفة، كان جلوسي
قبالته تماماً، استطعت رؤية وجهه وذقنه التي نعّمها له جدي، كان وجهه أقل
كمداً، وعيناه تشعان بسواد أجفلني وهو يتدفق على وجهي، ثم يبتسم. ولم يكن
بمقدوري أن أبتسم بالمقابل. ولفت نظري كثافة حاجبيه، ورموش عينيه الطويلة،
والهالتان الزرقاوان العنيدتان. لكنه كان باستطاعتي أن ألمح أيضاً طيبة
ما!
تناولنا طعامنا بصمت يكاد يطبق على المكان، لولا تدخل جدي وجدتي كل حين
والقَسم على قريبنا أن يأكل قدْر ما يستطيع، لتقوية جسده الضعيف.
كانت ابتسامته الهادئة والشاكرة تتناغم في صدري مع إعلان جدي أنه لن
يغادرنا حتى يتماثل للشفاء تماماً، وتقبع في صدري كومة من الهدوء والفرح
السريين. حاولت جاهدة أن ألبي طلبات جدتي بسرعة كبيرة كي يتسنى لي الاقتراب
وسماع حديثهما. أنتبه إلى جدي وهو يشير إلى عمود البيت في المنتصف: ((نسميه
(الساموك).)) يشرح جدي متابعاً: ((هو عمود البيت الرئيسي الذي يسند
السقف)). وكأنني لم أر هذا (الساموك) قبلاً! وراحت نظراتي تتسلق عليه وهو
يرتفع ثم يغلظ حتى يصير مثلث الرأس عريضاً وسميكاً في الأعلى، حيث فجوة ربط
إليها (النيون) الكهربائي، ونواصة صغيرة خضراء اللون ليحلا محل ضوء الكاز
الصغير و(اللوكس)، قبل قدوم الكهرباء إلى قريتنا، وكان جدي قد علق على طرفي
الساموك في الأعلى، حيث يسند السقف وعوارضه الخشبية المتينة، أطر صور
عديدة. وفي الأسفل قليلاً عُلقت (رزنامة) ومنشفة، وسبحة جدي الطويلة، ومن
الخلف علّقت جدتي عدة خياطتها، وكيساً مطرزاً يحمل كتاب ((القرآن
الكريم)).
أشار جدي إلى إحدى الصور قائلاً: هو ((غيفارا)) لا بد أنك سمعت عنه، الله
يرحمه. تدخلت جدتي، وهي تقطع قرون الفاصولياء الخضراء: ((ويرحم شبيهه)) وقد
تغرغرت عيناها بدموع لم تسقط، فهي تعشق صورة (غيفارا) لأنه يشبه عمي الذي
استشهد في حرب فلسطين. بينما جدي علقها حباً به وقد سمع عنه الكثير من شباب
القرية رفاق أعمامي، وأيضاً من الأخبار اللندنية، التي يثق بها جدي إلى حد
كبير! ثم أشار بسبابته إلى صورة أخرى مستطيلة الشكل قائلاً: ((هؤلاء شهداء
السادس من أيار، وأسماؤهم)). قاطعه القريب قائلاً أن ببيتهم في بيروت صورة
مماثلة. ثم يشير جدي إلى صورة شخصية كاملة لشيخ ((صالح العلي)) وهو بلباسه
الشعبي يحمل في يده بندقية.
كاد قلبي يطير من أضلاعي إذ باغتني الشاب بقوله: ((لا بد أنك تعرفين الكثير
عنه، ولعلك قرأت ذلك، ستحدثينني في ذلك فيما بعد!)).
سخونة وجهي جعلتني أخمن أن الاحمرار أشعل وجنتي. فما الذي يشدّني إلى هذا
القريب؟ وما هذا الذي أشعر به ولأول مرة في حياتي؟! أتساءل سراً، ولم أجبه،
فقد التهم الخجل صوتي، وأتابع حيث تروح نظراته لتتسلق عليها نظراتي.
أكّد جدي حديثه عن ((الشيخ صالح العلي)) قائلاً: ((نعم، قدّس الله روحه،
إنه المناضل البطل، ابن منطقتنا، هومن قرية الشيخ بدر قرب طرطوس..)).
قاطعه الشاب: ((أجل، أعرف عنه القليل، ويهمني أن أعرف عنه أكثر.)) ثم توجه
إليّ: ((هذه مهمتك، اتفقنا))، وأشاح عينه عني دون ملاحظة دُواري! همست جدتي
بصوت مسموع: ((يا حسرتي عليكم يا أولاد أخي، لقد أبعدتكم أمكم عن دياركم
وأهلكم وقراكم، نعم تريد أن تعيش مثل الخواجات في بيروت! إيه يا زمن!))
ابتسم الشاب بهدوء وهو يطالع وجه عمته، وبدا عليها مأسوراً بشخصيتها
القوية، وقال ببحته التي لا تني تنحشر في أذني وبين أضلاعي: ((إيه، يا
عمة،
نحن بخير، بيروت الآن في حالة طارئة، وستخرج منها معافاة بإذن الله، بيروت
ستظل قوية.))
أجابت جدتي بحنق: ((حتى تطوف الدماء إلى الركب؟ نعم ربما.. أي والله)). هزت
رأسها وراحت تتابع عملها في تقطيع قرون الفاصولياء.
وعلّق جدي بأسى مؤكداً حديث زوجته: ((لكن الجرح هذه المرة كبير وفظيع،
فظيع، أستر يا رب)).
وأنا أتوه بين التعليقات وأمر الحصول على معلومات أكثر عن الشيخ صالح
العلي! ينقطع شرودي وألحق بالشاب الذي توجه نحو الحاجز القصبي الذي يفصل
المطبخ عن بقية الدار. وأبدى إعجابه الشديد حين عرف أن جدتي هي التي صنعت
أطباق القش الملونة وزينت أطرافها، ثم عُلّق عليها الكثير من الصور: وجوه
العائلة من الراحلين والأحياء، كباراً وصغاراً، وبعض صور المعارف والجيران.
استطاع الشاب أن يميز صورة أبيه وهو في بداية شبابه، وعلى الطبق الآخر كانت
صور تحمل رسماً لمدينة طرطوس، جزيرة أرواد، قلعة المرقب، البحر، برج
صافيتا. وكثيراً أيضاً من الصور، بطاقات المعايدة التي أرسلها والدي إلينا
خلال السنين الماضيات، كلها صور من الأرجنتين، مدائن، قرى، آثار، بحر،
شوارع وغيرها. وفي بعضها صور لعائلتي وإخوتي خلال رحلاتهم هناك.
همس لي الشاب بتأسٍ: ((لا بد أنك مشتاقة إليهم؟))
وكأنني تيبّست، ولم أجب، أحسست أن كلمة ((الاشتياق)) هذه لا معنى لها، وأن
السنين تغير المشاعر، وتغيّم أشياء كثيرة، هذا ما اكتشفته فيما بعد، وأنا
أفسر صمتي وعدم قناعتي بأي جواب، وبعد ذلك عرفت أيضاً بأننا نحن والسنين
والغياب الذين نعطي للمفردات والأجوبة معانيها وتغيراتها، قيمتها أو
زوالها!
بعد غداء ذلك اليوم، أخرج الشاب علبة متوسطة الحجم من حقيبته الصغيرة. مد
يده لي قائلاً: ((هي لك، تعالي لأريك إياها)). جلست بفرح سري وارتباك واضح.
فتح العلبة، ثم أخرج قطعاً صغيرة الحجم كثيرة، فهمت أنها لعبة تركيبية، إذ
أن ألوانها تشابه تماماً ألوان الصورة على غلاف العلبة.
قال: ((هيا ركبي القطع وشكلي اللوحة لأرى شطارتك.)) علقت جدتي الجالسة
بجانبي ترفو بعض جواربنا المثقوبة: ((نعم، هي (شاطرة) كثيراً، كما أنها
الأولى في صفها، وتسبق جميع البنات والصبيان)) سربلني فرح هائل وأنا أسمع
رأي جدتي بي ولأول مرة أيضاً.
حاولت التركيز، وقد ارتعش داخلي وفار حين لامست أصابع الشاب كفي ودون قصد
منه. ورحت ألملم شتاتي على القطع المحيرة، كان يساعدني، قائلاً: ((.. هكذا
تماماً، تعلمي أن تبدئي بالقطع ذات الألوان الموحدة، كوِّني الفضاء أولاً
والإطار ثم ستجدين الأمر سهلاً هنا في الداخل، هل فهمت؟ بل إن ذلك سيُفيدك
في أشياء كثيرة فيما بعد، لعلك لن تفهمي قصدي الآن، لكنك ستذكرينه
حتماً.))
وخز أحس به، إذ يتهمني بعدم الفهم! ابتلعت الإهانة وأنا أفكر أنه باستطاعتي
فهم أي شيء، فلماذا يظن نفسه العارف فقط؟!
كانت القطع المركبة تعلن شيئاً فشيئاً عن الرسم المشابه على الغلاف، خضرة
وزرقة أزهار، حيوانات أليفة، نهر، فراشات، بيت منعزل جميل، وعلى الضفة كان
شاب وفتاة يجلسان على صخرة وقد تشابكت أصابعهما. حدقت بهما، أسخن، وأنا
أراه وأراني، ويتدفق النهر وتطير الفراشات إلى الغيوم البيضاء في أعلى
اللوحة. وتمتد ذراعة دون أي جرح أو دماء لتكون مطرحاً آمناً لي.
قال: ((سأرسل لك الكثير من هذه اللوحات إن أعجبتك، فأنا مغرم بتركيبها،
ولعلني أعوض عجزي أما ما يحدث لإعادة تركيب ما تمزق وما تدمر، ليتني أفعل
ذلك لاحقاً!)) نظرت إليه إذ أحسست أنه يحدث نفسه، ولأعترف أني لم أفهم ما
عناه، لكني استطعت أن أتلمس إحساساً بالقهر في عينيه ووجهه وحركة أصابعه.
وفكرت في عدد السنوات التي يزيدني بها، أحسسته كبيراً، وشارباه الكثيفان
يوحيان بالرجولة.
قلت بأنني أحببتها، وقبل أن أسمع رده، لم أجدني إلا والسؤال يندلق مني:
((متى ستنتهي الحرب في لبنان؟)) لم يجب، وظل شارداً، بينما أصابعه تلامس
الذراع والشاش.
نظر إلى الصور المعلقة تارة إلى (غيفارا) وأخرى إلى الشهداء وحطت على
(الشيخ صالح العلي) قلت بارتباك: ((لقد كان مجاهداً، قاتل الفرنسيين في
جبالنا، وليساعد بقية الثوار في باقي مناطق الوطن)). ثم توقفت وابتسمت!
قال: ((أعرف ذلك، ولكن أريد أن تحكي لي كيف عاش، وكيف ناضل، وكيف مات؟))
قلت: ((لم ندرس ذلك في كتاب التاريخ)). وكنت بذلك أداري خيبة ابتسامتي!
أجاب بهدوء وثقة: ((ما زالت صغيرة، ولكن تعلّمي أن تقرأي الكتب خارج
البرامج المدرسية هي ليست كافية لتركيب حكاية مقنعة وسليمة، ربما ستفهمين
هذا أكثر حين تكبرين!))
هي ذي إهانة للمرة الثانية! كأنما غضبٌ مرق فيّ، فأجبت بحدة: ((أنا
كبيرة!)) ضحك وقال: ((طبعاً، طبعاً، لكن حين تكبرين أكثر)).
لم أستطع النظر في سواد عينيه المتدفقتين تتأملان وجهي. أشحت بنظري وابتعدت
وأنا أشعر بالحنق لا أزال، ولم أصغ لجدتي التي طلبت إلي الجلوس لشرب الشاي،
عادتنا اليومية بعد استيقاظ جدي من قيلولته القصيرة.
خرجت وأنا أتابع ظلي على الأرض الإسمنتية التي لمعتها جدتي بشدة هذا
الصباح، كنت أرى ظلي مبهم الملامح، يتطاول حيناً ويتقزم حيناً آخر. ولم يكن
الضوء يمارس لعبته بالمشاكسة حينها، إذ أن جدتي ردت الباب الغربي قليلاً
لتحجب حرارة الشمس التي بدت تنحدر في طريقها نحو البحر البعيد.
دخلت، وخرجت، آلاف المرات مررت وأنا أتابع ظلي وآلاف المرات حاولت تحديد
ملامحي، وأيضاً ظل الذي وقف أمام (الساموك)، وأمام الأطباق والصور، مشيراً
بيساره ويمناه مربوطة بالشاش. آلاف المرات عاد كلامه، وأنا أقبع مع الكتب
التي كنت أستعيرها من الأقارب والمعارف، والقليل الذي استطعت شراءه خلسة عن
جدتي الحريصة على مصروفنا وأموال أبي: ((الأمانة)) كما تردد دائماً!
آلاف المرات فككت اللوحة العتيقة ذاتها، بعثرت النهر والغيوم، طيرت
الفراشات أبعدت الخراف عن العشب، نسفت البيت، فككت تشابك أصابع الفتاة
والشاب، أزحت الصخرة من تحتهما أغوص بهما في الماء، غضبت أنه لم ينتبه إلي،
وأنه لم يرسل لي غير تلك اللوحة، تأججت الصورة المشتتة، اضطرب الحنق، وأعدت
تجميعها، ثم ألجأ إلى قص بعض صور أهلي وإخوتي، أباعد بين الوجوه، أضيّعها
وأحياناً أعيد إلصاقها، وأخرى أتركها مفككة تائهة، أمزق المدن والشوارع،
رحلاتهم والتصاقهم، أمزق دموعي وألمي، وأتلفع بدفء حضن جدتي، بل إني صرت
أحضنها أنا، ألملم ضعفها، وجسدها الهزيل، كآباتها، وأحزانها بعد رحيل جدي
المباغت المفجع، وحده (الساموك) كان يسند ظهري في ليالي وحدتي وانتظاري،
وأقلب صفحات الكتب التي أضعها على ركبتي، يحضرون جميعهم: الشيخ صالح العلي،
غيفارا، شهداء أيار، شهداء الشهور والسنين كلهم! وجراح الأوطان، والأحلام،
نزف بيروت الذي لا يزال، نزف المجازر التي لم تنته بعد، نزف ليالي جدتي،
ونزف حنيني إلى عائلة!
ويعود في جرحه المتخثر الأسود، قهر عينيه وهو يحلم بتركيب الشمل الممزق،
أفهم أجل، وأفهم أكثر، لم تكفني لوحة تركيبية واحدة، فاقتنيت الكثير منها،
لم تهدئ من نزفي، فأروح أدلقه على دفاتر الرسم المخبأة وعلى أصابعي الملطخة
بالألوان والأيام والانتظار، بالخوف والحلم الذي يظل قطعة هاربة في لوحتي
التركيبية، خواء يوشي زوايا الأطر والفضاءات التي أمعن في ترتيبها أولاً،
كما نصحني في ذلك اليوم العتيق، لكني كثيراً ما كنت أضيع بين التركيز على
الداخل في الوسط أو على الأطراف، يتناثر توهاني، يتعتق في كل المساءات، إلى
أن كان ذلك المساء: وكانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء، موعد نشرة الأخبار
التي أشاهدها يومياً في التلفاز الصغير الملون الذي دخل منذ زمن قريب إلى
قريتنا. كان الباب الغربي مشرعاً، يحمل قطعة من السماء الصافية، وهلالاً
صغيراً ينساب ببطء شديد نحو البحر بعيداً وراء السهول والجبال، وكانت جدتي
تلملم الصحون، ترتبها على الرفوف المكدسة أوانٍ ونظافة، وأوجاع زمن عتيق لا
يروح أو يتفكك أو يتبدد!
أجفل إذا يباغتني صوتها، فتطير الألوان والرسم، تنفلت الريشة من يدي، أبعد
أوراقي، لأتجه صوب الباب المفتوح، وأرى الضيف القادم، صامتاً كان، واقفاً
يغيّب وجه الهلال! كان ابن عمي الذي تربطني به سنون وأخوّة. كدت أرحب به
وأدعوه للدخول، سمّرني وجهه المسود، وجموده الفظيع، ظل واقفاً بالباب وهو
يمدّ لي يده برسالة مفتوحة، بأصابع مرتجفة أحملها، وأدخل، فيدخل
ورائي. أفتح الورقة المطوية بعد أن تأكدت من العنوان أن الرسالة ليست لي
ولا من أهلي، وإنما لابن عمي هذا. وتنط عيناي ما بين عينيه الضبابيتي
المعاني، وما بين السطور، أقرأ، وأشهق، وجدتي التي انهارت بجذعها تقتعد
الأرض العارية، تحثني أن أقرأ ببطء أكثر، وكان صوتي المرتجف يعلن:
((أنه انفجر في بيروت، وبالكاد تعرفوا على جثته أو بقية الجثة، وما وجدوه
جزءاً من صدره، وجيب قميصه الذي يحمل بطاقته الشخصية، وكيف أنه كان يسير
آمناً، وفجأة تقصقص أشلاء طارت في الفضاء، تناثرت، وقرأت أيضاً: أن الحرب
تجيد تمزيق اللوحة، ودون تسلية أو أي مزاح أبيض أو أسود، تشتت القطع
وتضيّعها!))
حكاية عن الحب
كان ياما كان في حديث الزمان والصلاة والسلام على سيد الأنام، سأحكي ومن ثم
لا أنام! فالنوم معتق في خوابٍ مخبأة في ذاكرة اتسعت أيضاً لسرير صغير،
وجدة، وأجساد صغيرة، وموقد يخبئ بين الجمر ثمار بلوط أو فستق، بأحلام
تركّبها الحكايا على أجنحة من زغب أحاسيس أو ردود أفعال أو أشباه أفعال
قادمات لـ...
و:
"-اخرسي! متى سننتهي من حكايا ذاكرتك العفنة؟!"
"-حتى أكتب حكاية عن الحب!"
و:
"-كان ياما كان، في قديم الزمان، الصلاة والسلام على سيد الأنام، أحكي ثم
ننام!"
وكنا نصرخ بملء أشداق الرغبة للحكاية: (احكي يا جدتي... احكي...)
"-وتنامون!"
"-ننام" نعدها مترقبين طائعين!
وتأخذنا الحكاية ولا تعيدنا، لأننا نكون قد استسلمنا لنوم دافئ متكومين على
بعضنا وعلى بعض أطراف جدتي، ويئن السرير الصغير طلباً لأبي أو أحد أعمامي،
فيأتون ليحملونا واحداً إثر الآخر وواحدة إثر الأخرى إلى أسرتنا في بيوتنا
المجاورة!
و:
"-قلت لك حكاياتك تقتل سعادتنا، كم مرة أعيد ذلك حبيبتي؟ متى ستصدقين أن
هؤلاء الأولاد قد كبروا وكبرت معهم نواياهم السيئة، لا.. لا... فأنت طيبة
القلب زيادة عن اللزوم... انسي!"
و:
كنا أربعة، ثم ستة، ثم أربعة عشرة ربما، صبياناً وبناتاً، أولاد عمومة
وعمات. وكان نمو العدد والأجساد قد حرمنا من دفء السرير وأطراف حضن جدتنا،
لكنه لم يستطع حرماننا من الحكاية.. فانحدرنا جميعنا وجدتنا إلى الأرض على
حصيرة من القش.
و:
جدتي كانت شهرزاد أخرى، كانت تقتل العتمة والوحدة والزمن الأجعد بالحكاية!
لقد كانت عمياء. ولا سند لها سوى عكاز، وبيت طيني أبت أن تفارقه برغم ضغط
أبنائها المتكرر للسكن في بيوتهم المجاورة! فبيتها كان معجوناً بالذاكرة
المديدة والأولاد والزوج المتوفى من سنين. جدتي لا تنسى!
و:
في جميع مساءات الفصول، كنا نصير كومة وصوتاً واحداً، نريد حكاية. وفي كثير
من الأحيان كان يتشتت الصوت شجاراً للاتفاق على حكاية اليوم. وحده تهديد
جدتي بحرماننا من الحكاية كان كفيلاً بتوحيد الصوت مرة أخرى ثم نصير أذناً
مشغوفة سائحة!
و:
"-قلت لك اخرسي، حكاياتك تفلق الصخر وتفلق حياتنا! وهؤلاء الأولاد لا
يزالون أولاداً! وذاك الخنزير، الويل له إن رأيته ثانية في بيتنا وخاصة عند
غيابي.. للبيت حرمته! أم أنكم لا تعرفون حرمة البيوت؟!"
و:
وذاك الولد كبرت معه في حضن الجدة والحكاية وحضن الأعياد والمناسبات وغير
المناسبات. وذاكرتنا مطرزة بليالي قمر، وليالي دفء كانون، ودفء أخوّتنا
الظاهرة والباطنة.
و:
"-جدتي، لماذا لا تحكي لنا قصة عن... مثلاً... يعني مثلاً عن الحب؟!"
وكنت قد انتهزت غياب الجميع، كان حضنها الذي أتكئ عليه لي وحدي وقت الغروب
ذاك. وقدّي الصغير قد شبّ قليلاً، ولم أكن أعي تماماً لماذا سألتها
بارتباك، ولماذا خجلت من السؤال أمام الآخرين!
"-كيف عن الحب؟" سألتني.
فأجيب بخبث وتودد:
"-إيه جدتي، ألم تحبي أحداً حين كنت شابة؟ احكي لي كيف تزوجتما أنت وجدي
المرحوم؟"
جالت جدتي بعينيها المفتوحتين على اتساع العتمة، وهمهمت كأنما لتتلمس ذاكرة
غير مرغوبة:
"-كان الأمر مقايضة، ولكن الفرق في ذلك أن أخي وأخته كانا متحابين، أما أنا
وجدك، فلم أحبه ولم يحبني طوال حياتنا أيضاً، ليغفر الله له، لا يجوز أن
نذكر الموتى إلا بالخير! والله مات ولم أحبه في يوم من الأيام، وهو أيضاً
لم يحبني أبداً! هكذا كان حظي ونصيبي!"
ولم أشأ تضييع فرصة تدفق ذاكرة جدتي، ودون أن أنتبه إلى انفعالاتها
سألتها:
"-إيه، ستي، هل كنت تحبين أحداً، آخر؟"
وتنتفض جدتي مستنكرة:
"-عيب يا بنت! والله أعلم أني طاهرة وشريفة وعفيفة، ولم أعرف في يوم من
الأيام عن هذا الذي تقولينه!"
قلت:
"-اسمه الحب يا ستي."
فتمسك جدتي بعكازها وتقول لي مهددة:
"-لا تقولي ذلك مرة أخرى، عيب يا ستي، وخاصة أنت بنت لا يجوز، حرام!"
أضحك وأقبلها معتذرة. فتبتسم سماحاً ماسحة على شعري كانت تراه بأصابعها،
وتروح عيناها المفتوحتان إلى عتمة أبعد!
و:
يا رب السماء، قلت سأكتب حكاية عن الحب، أجل، يجب ألا أموت مثل جدتي قبل أن
أفعل ذلك. وقالت أيضاً إن الحب عيب وحرام! أبتسم الآن، وأحاول الحكاية مرة
أخرى...
و:
كان يا ما كان في حديث الزمان، في بيت فيه رجل وامرأة. لا بد أنهما متزوجان
كي لا يكون في حكايتي أي عيب أو حرام!
ولأنهما تزوجا، كان لا بد من الحب، أجل الحب الذي ربما طلّ من الشباك أو من
القمر في أول ليلة لهما، وحدث أن.... وحدث أن....
و:
"-قلت لك مئة مرة كفي عن هذه المساخر! جدتين عائلتي، ابن عمي، ابن عمتي،
ابن الشيطان، فما الذي جاء بهذا الخنزير إلى هنا؟ ما الذي جاء يفعله هذا
القذر أيضاً؟ لولا لطف الله، لكان دخل البيت، وقد ضبطه على العتبة، وتقولين
له: تفضل بالدخول! لا... لا هذا كثير، ما رأيك لو دعوته إلى الدخول وأغلقت
الباب وخرجت أنا؟! صوني شرف هذا البيت يا امرأة!"
وأصرخ:
"-ابن عمي هذا يا شريف مكة! لقد جاء للاطمئنان علي والسؤال عني، لا أكثر
ولا أقل."
"-للاطمئنان عليك، انفجر صوته، لماذا؟ هل تعيشين بلا رجل، أم أني (خرقة!)
وهل أنت جائعة؟ تائهة؟ يتيمة؟ لماذا جاء؟ وعلام يطمئن...؟
وأصرخ:
"-أيها الحزبي، قانا من جلبته إلى هنا..."
ويضحك باستهزاء مرير:
"-قانا!؟ هل يريد أن يصبح شهيداً كي يزيد من فخر عائلتكم؟ أم أنه وطني إلى
درجة أن تكونوا شهداء وجاء يدعوك؟ هذه السخافات لن تمر علي.. هل فهمت..
والله سأكسر رجله إن رأيته هنا مرة أخرى!"
وأدير ظهري، أتجه صوب التلفزيون الذي قلّما أطفئه، وأنصلب أمامه، وأجهش
بقهر ورعب مريرين، وأتساءل علام أبكي، على الجثث المكومة، على الأطفال
المذبوحين أم على المشردين؟ أجل، عيب أن أبكي إلا على قانا الآن، وفيما بعد
سأبكي عليّ!
و:
قلت سأكتب حكاية عن الحب! أجل، لا بد من ذلك، لماذا تضيع الحكاية كل مرة
حسناً، سأحاول مرة أخرى!
و:
ذات حكاية التففنا حولها كومة طفولة. أخبرتنا جدتي أن الحكاية هذه لا
يعرفها أحد، كما لم يسمع بها أحد من قبل... جدتي اخترعت حكاية!
ولأنها كانت تدرك مدى عشقي للحكاية، فقد جعلتني بطلة الحكاية، دون أن تقف
طويلاً أمام تذمر الأولاد الآخرين واستنكارهم!
وبدأت الحكاية بأن (النّوَر) سرقوني. وطويلاً ضيّعتني حكاية جدتي، ونقلتني،
بقدرة الحكاية، بين ليلة وضحاها، من الضيعة إلى حمص ثم إلى دمشق وبسرعة
غريبة كنت في فلسطين، وجعلتني جدتي ذكية لدرجة أنني استطعت الانفلات
والهروب من (النّور)، لتحمّلني عبء البحث عن عمي الذي ذهب إلى هناك في حرب
(48) ولم يعد بعد، وكلنا كنا ندرك أنه لا بد قد استشهد أو أسر على الأقل.
وكنا لا نعرفه! إلا من الصورة الصغيرة المؤطرة ببؤس صدئ على الجدار الطيني.
وكان علي إيجاد عمي لنعود سوية!
لم تكن جدتي تعرف كفر قاسم أو دير ياسين، وطبعاً ماتت قبل قانا بزمن، كانت
تؤمن بشيء واحد فقط هو أن عمي لا يزال يحارب الصهاينة الأشرار ولا بد
سينتصر مع رفاقه الفلسطينيين وبالطبع كانت خاتمة الحكاية هو أن عدنا أنا
وعمي الذي دحر آخر صهيوني!
وهلّلنا فرحاً، وإعجاباً بعبقرية جدتي! لكننا سرعان ما استكنّا مع بدء
نشيجها الذي كان يقطّع دعاءها وصلاتها للإله كي يعيد عمي سالماً غانماً،
ونروح نردد عباراتها بصوت واحد ثم نختم بآمين.
و:
ياه... كيف لي أن أكتب حكاية عن الحب، حكاية واحدة فقط! لا بد أن أذكر فيها
ذاك البيت الذي تزوج فيه رجل وامرأة، يحاولان حباً ما!
المرأة لم تعرف الحب قبل ذلك. لأنه عيب وحرام! والرجل أيضاً لم يحب قبل
ذلك، لأن الحب عيب وحرام! ولكن لا بد من الحب كي تصير الحكاية، إذن،
لأحاول:
و:
الحب لا بد أنه يجلب الفرح، وكان الفرح الأكبر يأتي مع العيد، لتزيد كومتنا
بتدفق أولاد عمنا القادمين من المدينة للفرجة على العيد في الضيعة!
وكانت جدتي تفرح أيضاً بلمتنا، ولأننا كنا ننشغل عنها بالعيد، كانت تهددنا
مداعبة:
"-حسناً، اتركوني لوحدي، وسأقول للعيد ألا يأتي في المرة القادمة!"
وكنا لا نصدق ادعاء جدتي، لأننا كنا مؤمنين بحبها الشديد لنا!
وفي آخر المساء، كنا نجتمع في بيت أحدنا، لنمضي الليل متجاورين على فرشات
تُفرش لنا على الأرض لتسعنا جميعاً، وكنا لا نستسلم للنوم إلا بعد تهديد
أهالينا في الغرفة المجاورة، وبعد أن نكون قد عجّنا الوسائد والشراشف قفزاً
ولعباً، ثم نخبئ تحتها فرحنا وصخبنا بالعيد الذي سيقيم بيننا أيضاً غداً
وبعده..
و:
لماذا خطر لي العيد، العيد للأطفال فقط وليس من أجل حكاية حب.. لا بد من
حكاية، أجل سأحاول أخرى:
و:
"-ألا تلاحظين حبيبتي أننا سعداء جداً، وأن حياتنا باتت أجمل بعيداً عن
البشر؟ وأن لا مشكلة تحدث بيننا، أرأيت كم يجلب الآخرون مشاكل، أي هدوء
نعيشه وأية سعادة، أنا مسرور منك، أجل حبنا سيكبر، تأكدتِ الآن أن الناس
سيئون؟ أجل لا بد أنك متأكدة من ذلك! لاحظي الفرق، تأكدت أليس كذلك؟"
"-الناس؟ كلهم؟ أم عائلتي فقط؟!" أجيب.
"-أوه حبيبتي، لا تقولي (عائلتي) هذه الكلمة المضجرة والمقيتة. فأنا
وأولادنا القادمون عائلتك، ثم لماذا تسيئين الظن بي، أنا قصدت الناس
عموماً، تعاملي مع إخوتك فقط، هذا يكفيك. لنكن لوحدنا وسأجعل لك الأرض حباً
والسماء حباً!"
"-لماذا لا تحكي لي عن طفولتك؟ عن أقربائك؟ دائماً يكون كلامك مبتوراً،
ونادراً ما تذكر أحدهم؟" أسأله.
"-لقد حكيت لك، أنت تهتمين كثيراً بالتفاصيل، وأنا لا يهمني ذلك، حسناً،
ذكرت لك أن أبي كافح كي نتعلم وننال الشهادات العالية، والحمد لله وصلنا
إلى ما أراده كما ترين، ومن ثم كنا نمضي أوقاتنا بالمطالعة أجل... والحمد
لله..."
أقاطعه:
"-أقصد..."
"-أعرف، أعرف، دائماً الآخرون، والأولاد، والأعمام، والأخوال، أنا لا أحب
كل هذه التفاصيل لا تعنيني في شيء.. أوف، لن أحكي.. كيف أقنعك حبيبتي أن
الناس سيئون، ليس الجميع بالضرورة، بالتأكيد هناك أناس طيبون أجل،
ولكن..."
أقاطعه بهدوء حذر ولعلي كنت أشعر بفضاء من السخافة وقد أثّر بي، ولم أشعر
إلا أتحدث مثله:
"-ولكن ليسوا أقربائي بالتأكيد؟!"
"-لا، لا أريد أن أسمع مثل تلك الأسئلة.. أرجوك... قال بهدوء مصطنع، أرجوك
لنكن لوحدنا فقط أنا وأنت فقط أنا و..."
و:
تفرغ العتبة من أقدامهم، وتفرغ العتبة من الذاكرة، وتغتال حججي زياراتهم!
يرن الهاتف، أرفع السماعة بعينين دامعتين ومسمرتين على الشاشة. يأتيني صوت
أحدهم كئيباً:
"-كيف حالك، إننا جالسون هنا، بالتأكيد تتابعين التلفزيون، كلنا نرى ما
يحدث في قانا، تذكرناك الآن، متى تنتهي أشغالك وتتكرمين علينا بزيارة؟!
إنك... تبكين؟ ها؟
وأنشج بحرقة، عين على قانا، وعين عليه متوجساً يتهيأ للسخط، ينهض، يأخذ
السماعة، ينصت، لا بد أنه سمع الصوت فعرف أنه أحدهم، ثم بعصبية أغلق الخط.
وكانت قانا تفور بالدم، وكأنما صرت وسط المشهد، وسال الدم من أنفي وفمي.
"-حتى على الهاتف أولاد الكلب، ألا يتركوننا نعيش بسلام، أم أنهم يريدون
فضيحة؟ نعم، هم يريدون فضيحتي، أنا الناجح! اللئام، لا يريدون لأحد غيرهم
أن ينجح أو أن يصير رجلاً مهماً! نعم، وأنت أيتها المُحبة! والغيورة مني
وليس علي.. أجل إن صرت رجلاً مهماً ومسؤولاً، فهذا سيغطي على نجومية
عائلتك، أم لعلك لا تعرفين أني أدرك الأمر تماماً، أيتها الشريفة! وأي شرف
تعرفون؟ أنا من يعرفكم ويعرف قصصكم وعيوبكم، والله سأفضحك وأفضحكم جميعاً،
قال عائلة علم، قال! أطباء ومهندسون ومحامون، جميعكم منافقون!
ويفور فيّ الألم، ويمتلأ الفضاء برائحة ممزوجة بسخف وخجل! ويختلط صراخي مع
صراخ قانا.
و:
ياه، لماذا أتوه؟ لماذا لا تأتي الحكاية، وعَدْت بحكاية عن الحب، أيتها
الذاكرة المغتالة ماذا عن الحب؟ سأبدأ من جديد:
و:
حدث أن... سأُبعدُ البيتَ والرجل والمرأة... سأُبعد قليلاً أو كثيراً
الذاكرة أيضاً، وسأفكر بموضوع الحب، لا بد... من ناس... نعم ناس ليكون حب
وحكاية! وأنا... ولم يحدث... و...
و: .............................................................
|