قصص قصيرة جداً
ابنُ
الطين
صباح يوم الجمعة ذهب مع أبيه إلى المزرعة ، وعندما كان هناك أخرجَ كيسا ً
من جيب بنطاله الصغير، أخذ َ حفنة ً من الطين ودسها خفية ًفي جيبه، وفي
البيت حورها إلى تمثال ٍ حاكى فيه جسد إنسان ٍ، فإذا جاء الصباح ُ أصيب َ
بالهلع ِعندما تفقّدَ التمثال َفلم يجد لهُ أثرا ًهرول إلى أمه قائلا ً :
-هل رأيتِ ابن الطين ؟ !
قالت:
-ومَن ابن الطين ؟
قال:
-لقد أخبرتنا المعلمة في حصة التربية الإسلامية أنَّ الله َخلق ابن أدم
مِن الطين ٍ ثم نفخ َفيه فكان إنسانا ً.
رهان
ساخر
سألت المنفضة ُ السيجارة َ في امتعاض ٍ شديد ٍ :
-لم َتصرين على حرقي مرارا ً وتكرارا ً؟!
ردتِ السيجارة ُ بسخرية ٍ :
-أما خلقت ِ لي ّ ؟!!!.
ودستْ رأسها فيها مرة ًأخرى .
أنامل
وقعَّ بحذائة ِ اللامع ِعلى الأرض فسحق َ نملة ً، ووقَّع بأنامله ِعلى
الملف ِّ فسحق َإنسانا .
خيبة
انتظرتْ بفارغ ِالصبر أخاها الصغير ليتحصلَ على الشهادة الجامعية ،
ليرافقها في سفرها للخارج لغرض الدراسة العليا ، وبعد أربع سنوات أُعطيت
تأشيرة السفر بدون مرافق ، فقد تجاوزت سن الأربعين ، فسافرت وحيدة .
لا يسعُ
لاثنين ...
لأنه صغيرٌ لا يسعني وذلك الطارق الجديد، دعيني أؤثثُ غرفتي الصغيرةَ في
قلبي اليتيم ،لأعودَ لها ،سأضعُ في الحقيبة شيئاً من خيبةٍ وكثيراً من شجنٍ
،وبقايا ثيابٍ بدون رائحتكِ سأجتهدُ في أنْ أترككِ بسلامٍ لأرحلَ كما دخلتُ
.
خربشة
إلتقى شاعرٌ بزميلٍ له ، فأهداه ديوانه الجديد ،وقد كُتِب على أحد زوايا
الغلاف كلمة (شعر) ، فالتفت إليه ،وقد بدت عليه علامات الدهشة :
- أهو شعرٌ حقاً ؟!!
قطَّبَ جبينه وردَّ عليه قائلاً :
- ألا تظن ذلك ؟
- أجل لا أظن .. لأني عندما أتناول الفاكهة أعرف بأنها كذلك ، ولا أحتاج
إلى لافتة تعرفني بها .
يباب
أرقع سمائي بسحابك ،وأعلم يقيناً بأن المطر لا يزور الصحراء في الصيف .
أعتقال
تحت عنوان:
(أعتقال لحظات هاربه) .
أقام المصور المشهور "عمر مهدور " معرضاً لحياته أعتقل فيها لحظات هاربة
من عمره.
فراغ
مرَّ على أولادٍ يقفون على ناصية الشارع ،يتأملون المارة ،ويتبادلون
الأحاديث التافهة ،سألهم بهدوئه المعتاد :
-ماذا تفعلون ؟
ردَّ أحدهم :
-لا شيء .
رمقهم بنظرةِ شفقةٍ :
-إذا أنتم لا شيء .
تركهم يتبادلون نظرات الحسرة فيما بينهم ،ورحل .
28-1-2009 م
الخيال الذيذ
(تخيلتُ فضاءَ الصفحةِ أمامي كإناءٍ مملوء بالحليب ،وكلماتي تترنح في
بياضها الناصع كخيوطِ الشكولاته السوداء ،كان الخيالُ لذيداً). قرأتْ
صديقتي هذه الكلمات ،وكانت تعشقُ الحليبَ ،قالتْ بعذوبةٍ ،وهي تُغمض عينيها
،وتستنشق ببراعةٍ رائحة الحليب بالشكولاتة ،أخرجت لسانها وبحركةٍ ماهرةٍ
لعقت شفتها العليا ،ثم مررت لسانها باستمتاعٍ فوق شفتها السفلى ،فتحت
عينيها ،قالت : كنتُ أقودُ خيالي لتلك اللحظات ،أحسستُ بأني أحتسي رشفات
الحليب المحلى بالشكولا ...أتعلميتْ ..؟! كنتُ أتذوق أرقى أنواعها ،رائحتها
،دخلتْ شغافي ،سحرتني ،أنتعشتُ ،حين أندلقتْ أولُ الرشفات الساخنة
،أسترخيتُ ،وعاوتُ الارتشاف ،كررتُ ثانية وثالثة ...أه ه ه نفدتْ .
كنتُ مستسلمةً لخيالها ،فجأةً زعقتْ بقوةٍ :ألم تجدي شيئاً أخر تكتبيتَ عنه
سوى الحليب والشكولاته ؟!!!
30-1-2009م
ضمير
أخذتُ القلم الأحمر ،الجاثم فوق سجل الحظور والغياب ،وما أن هممت بالتوقيع
حتى فجأني صوتٌ أجش ،إنه صوت المدير قلت في نفسي وأنا أدير ظهري
-ألم تلاحظي أمس ما دونته في السجل من ملاحظات ؟!
كانت الساعة تشير بدقةٍ إلى العاشرة وخمس دقائق .
-نعم ،لقد قرأتها .تركتُ القلم ،وأستدرتُ راجعه .
ليسجلني غائبه ،ربما يطفئ ذلك غضبه ...
دخلت الفصل ،بادلت الطالبات التحية ،وبدأتُ بشرح الدرس ،كنتُ أشعر بالملل
والرتابة وأنا ألقن الطالبات ،كانت الحصة تسير على وتيرةٍ واحدةٍ ،حتى أني
رأيت على بعضهنَّ علامات الغثيان ،وعدم المبالاة ،وفي لحظةٍ قررتُ تغيير كل
ذلك ،نهضتُ من الكرسي ،أعدتُ إلقاء القصيدة بروحٍ متجددة ،ثم أخذتُ أشرحُ
أبياتها ،وأحلل صورها ،وتفاصيلها الفنية الدقيقة ،وكنتُ ألاحظ تبدل ملامح
الطالبات ،وشوقهنَّ العارم لمعرفة المزيد ،بل ودخلنَ معي في سجالٍ حول بعض
المعاني ،وتفسير بعض الصور ،كانت الدقائق تمرُّ بسرعةٍ لم أعهدها ،تمنيتُ
لو توقفت الساعة لثوانٍ ،نروي فيها ضمأنا من هذه القصيدة الرائعة ،لم يكن
الوقت ليمنحنا هذه الفرصة ،وفجأة رأيت غادة تطلب الأذن مني للحديث ،أجبتها
:
-نعم غادة هل لديك ما تقولينه ؟
-نعم أبلة ،لقد أطلعت أمس على الشرح الموجود في الكتاب المقرر ،ولكني لم
أجد ما قلته لنا الآن من تحليل رائع للقصيدة ،كيف تستطيعين شرح هذه القصيدة
بمثل هذه الروعة ؟!
لقد شعرت بدهشتها من نبرات صوتها ،ومن بريق نظراتها الحالمة التي أختتمت
بها السؤال .
قلتُ وأنا أربت على كتفها :
-سنتحدث عن هذا الموضوع في الحصة المقبلة ،لقد أنتهت الحصة الآن .
خرجتُ من الفصل وأنا أراقبُ تلك الساعة اللعينة الرابضة بشدة فوق معصمي
الأيمن ،وجدتُ نفسي وجهاً لوجه مع زميلي ينظر إلي بحنقٍ ،وقد تكوَّر فمه
كحبةِ زيتونٍ ،وبرزت عيناه لامعتين كزجاج سعتي اللعينة ،ألقى السلام على
عجلٍ ،ودخل الفصل بسرعة البرق ،أحتظنتني نظرات زميلتي منى بحنوٍ وهي تجتاز
الممر الفاصل بين الفصول وإدارة ،وبعد السلام الحار قالتْ :
-لقد ظننتُ بأنك غائبة ..رأيتُ علامة الغياب في السجل بالقلم الأحمر.
-آه .. لقد تأخرتُ خمس دقائق عن وقت الحصة ،فسجلني غياب ،لا بـأس .
-ولِمَ قمتِ بشرح الدرس ؟! ،لو كنتُ مكانك لرجعتُ أدراجي ..
قاطعتها قائلة :
-لا يستحق كل هذا .. الدقائق لا تُقدم أو تُأخر في شيء ،بل كيفية عطاء
المعلم وضميره هو المقياس ،دعيه يقيس بمقاييسه .
-أي ضمير هذا ؟!! ... لقد خرج المدير من الساعة العاشرة والنصف ولم يعد إلى
الآن ،فمن يحاسبهُ ؟!! .
نظرتْ بحدةٍ إلىَّ ،وأردفت :
-ضميرهُ ؟!!!
المتفوقان
(هل
يرتقي توقدُ أذهانهم إلى هذا المستوى)
خاطرٌ داهمها وهي تقوم بالتحضير لدرس اليوم التالي ،وقد أستعصى عليها تفسير
هذه النقطة الغامضة في الدرس ،وكان بعنوان الطهارة ،وسرعان ما أبعدتْ ذلك
الخاطر .
كتبتْ في اليوم التالي على السبورة عنوان الدرس (الطهارة) ،وأجلستْ جسمها
على كرسي خشبي ،وأستمرتْ في شرح الدرس ...،وفجأةً جاء صوتٌ عذبٌ خجول من
المقعد الثاني يستأذن للسؤال:
-لو سمحتِ أبله ،كيف تلد المرأة بدون دم ؟
حاولتْ جمع شتات أفكارها بعد أن أحدث فيها هذا السؤال (المبعد) زلزالاً
أهتزَّ له كيانها.
وبعد صمتٍ مطبقٍ دام لثوانٍ ،أثنتْ على طالبتها تلك وهمَّتْ بالاعتذار عن
الإجابة ،وإنها سوف تناقشُ الأمر مع زملائها المدرسين علَّهم يتوصلون
للإجابة الشافية ،إلاَّ أن طالباً وقفَ متحدياً ذكاء الطالبة في السؤال
،وبحماسٍ إندفع للرد عليها بقوله :
-ربما عندما تلد بالعملية القيصرية !!
وإلتفتَ إلى الأبلةِ في خجلٍ ..وكأنه يطلبُ منها التأكيد على إجابته .وفي
أثناء وجومها وعلامات الدهشة مرتسمة على ملامح وجهها وهي تستمع لهذا الحوار
المبهر ،استفاقت ،واستعادت أفكارها وأشارت برأسها وبحاجبيها موافقة ،مع
ابتسامةِ شكرٍ لا أظن أنَّ الطالب استوعب مضمونها ،فقد أنقذها من موقفٍ لا
تُحسد عليه .
29-6-1999م
|