السَّجِيْن
1
... في كل ليلة يقف بالقرب من النافذة.. يُنْصت إلى البُوم.. أو
إلى كلابٍ تنبح على شيءٍ يبتعد في الظلام.. وقُبيل الفجر تستيقظ زوجته.. تقوده
مِن كتفيه إلى فراشه.. تسحب فوقه الغِطاء.. تلفّ البطانيّة حول قدميه..
تُدثِّره كطفل.
2
... في كُلّ ضُّحى يقول لزوجته وهو يتشمَّس فوق العتبة:
ـ في هذه الساعة يسمحون لنا بالخروج من الزنازين إلى الشمس.
فتهِزّ رأسها كشخصٍ اعتاد سماع أمرٍ يعرفه.. وتقول:
ـ تنذكر وما تنْعاد.
3
... بعد الغَداء يقول:
ـ أتعرفين.. في هذا الوقت بالذات يضربوننا.
يقول ذلك وهو يلوك بعض محّ الخُبْز الذي يغمسه في الشاي الأخضر.
4
ـ هذا وقت تبادل الرسائل.
تفشل أحياناً كثيرة في إخفاء غضبها.. فتردّ بعصبيّة:
ـ لَك سنة كاملة.. تردِّد نفس الاسطوانة!
فيقول بهدوء.. كأنَّه لم يسمعها:
ـ كُنّا نتبادل الرسائل بواسطة الخيوط من فوق الزنازين أو من شقوقٍ
في الجدران.
5
... كعادته يقف بالقُرب من النافذة.. ينظر إلى القمر وراء
الأشجار.. يُنصِتُ إلى الأصوات الليليّة.. إلى الكلاب التي تنبح على أشياءَ
تبتعد.
كانت تجلس وسط السرير.. تحتضن الوسادة.. تُطَوِّق رُكبتيها
بذراعيها.. تنظر بِحنان إلى ظهره الغارق في الظلمة.. إلى كتفيه اللتين يُضيء
أعلاهما القمر.. منذ عام لم تجرؤ ليلةً واحدة على أن تُذكِّره بفراش الزوجيّة..
كان قلبها يحدس بالشيء المخيف الذي حدث في السِّجن.
قالت بنبرة يشُوبها الخوف:
ـ بعد أيّام يبدأ الشتاء.
قال دون أن يلتفت إليها:
ـ حين يحلّ الشتاء يُغرِقون الزنازين بالماء البارد.
مرَّت فترة صمت.. استلقت على جنبها.. سحبت الغطاء على وجهها..
تكوَّرت على نفسها واضعةً رُكبتيها في صدرها وهي ترتجف.. هل كانت تبكي أيضاً؟
كان يُمكن ملاحظة اهتزاز كتفيها تحت الغطاء.. بينما ظلَّ هو واقفاً ووجهه إلى
النافذة.. ينظر إلى القمر من خلال القضبان.. وظِلُّه الباهت ينطرح على أرضية
الغرفة.. ويصعد متكسِّراً فوق السرير.
(2005)
العُشّ
( ق )
... حقل الشعير بحرٌ أصفر يتموَّج بوشوشةٍ تحت الريح الخفيفة..
آلة الحصاد الخضراء (جون دير) تقصُّ مقطعاً عريضاً بطول الحقل.
( ب )
... عُشُّ القُبَّرة مُموَّه بعناية تحت السنابل الصفراء..
مغزولٌ بالقَشّ.. مُؤثَّثٌ بالريش.. مسكونُ بالدفء.. أربعة عصافير في لون
التبن.. تفتح مناقيرها لكل زقزقة أو رَفَّة جناح.
( ر )
... الإطاران الأماميان لآلة الحصاد عريضان.. مضلَّعان..
المنجل الدَّوّار يلوي أعناق السنابل.. يلفُّها.. السكِّين الحاد المتذبذب
يجزُّ رؤوسها.. تاركاً خلفه درباً من التبن.. آله الكبس تغرف خط التبن
المكوَّم.
( ة )
... القُّبَّرة الأم ترفرف صائحةً بفجيعة فوق العش.. نظرة إلى
الأسفل.. ونظرة إلى الحاصِدة.. المناقير الأربعة مفتوحة إلى السماء.. آلة
الحصاد تتبعها آلة الكبس تقطرها آلة الحرث.. يضيع صراخ القٌبَّرة تحت ضجيج
المحرِّكات والدخان الأسود.. الآلات تتقدم.. كُتَل من التروس والأشياء
القاطعة.. مخالب وأنياب.. أشياء تجزُّ.. تقضم.. تلتهم.. تبتلع.. تسحق.. تدوس..
تهشم.. تدهس.. تهرس.. تسحل.. تكبس.. تُقولِب...
(2001)
الْمُمَرِّضَة
1
... الممرضة الممتلئة تخرج من بيتها عند الضحى.. متجهة نحو
المستوصف الواقع في طرف القرية.
2
... تمرُّ من أمام المخبز..
يلتفت الخبّاز.. يمسح جبهته بطرف كُمِّه.. يشهق.. يُمرِّر
لسانه على شفتيه.. يهرول ناحية محطة الكهرباء تاركاً خبزه للنار.. ليخبرهم بأن
الممرضة تترجرج تحت سماء الله حاسرة الساقين.
3
... موظفو الكهرباء عيونٌ شرهة تتزاحم في فم الباب.. الممرضة
تتعثر تحت نظراتهم..
ـ واو.. هذي ملائكة الرحمة يا سِيْدي!
ينطلق أحدهم ليزفَّ الخبر إلى الورشة.. بأن الممرضة تتثنَّى في
مشيتها.. وتلبس فوق الركب.. عيني عينك.
4
... الطبيب وبعض المرضى على دَرَج المستوصف.. ينتظرون بترقُّب
ممرضتهم العارية تماماً.
5
... الممرضة الممتلئة تبتسم مُحيِّية.. وهي تصعد الدرَج بجلبابها
الأسود.. الذي يقصر عن كاحليها قليلاً.. بسبب الغَسْلة العاشرة!
(2000)
امْرَأتان
1
... مساءٌ غائم.. مُرذَّذ بالمطر.. صخرة على طرف الطريق تبول
عليها الكلاب.. ثورٌ مُتملِّص.. هائج.. يَجرُّ حبلاً مُوحِلاً.. بُومة تخرج من
حُطام السَّد الحجري القديم.. أخرجها هطول الأمطار فوق الخرائب.. فوق الأركان
المُتداعية.. ثلاثة أرغفة مُتراصِفة في التنُّور.. قصعة بها أثر عجين.. وطفل
يغرف ماء البِركة بالغربال.
2
في السفح المقابل.. طريقٌ مُوحِل.. وَعِر.. ينحدر مُتعرِّجاً
نحو بيت صغير مسقوف بالصفيح المُتموِّج.. يُومِض على واجهته عِقْد من المصابيح
الملونة.. وترنُّ في جنباته الزغاريد.
3
... نَهضت الأرملة.. غطَّت التنُّور بصفيحة معدنية.. بدأت تخطو
بتردُّد ناحية العرس.. تلتفت.. تُوصي ابنها بعدم الاقتراب من التنُّور.. بينما
هو يُراقب بدهشة رَشَّات المطر.. تُحدِث وشوشةً فوق الصفيحة المعدنية.. وتتصاعد
بخاراً حارًّا.
4
... على حافة الانحدار الزلِق وقفت سيارات العرس.. ترجَّل
الجميع.. أحاطت النساء بالعروس.. رفعن ثوبها الأبيض حتى لا يَطاله الوحل.
5
... مع تقدُّم المساء.. كانت امرأة في ثوبٍ أبيض.. تحفُّ بها
الزغاريد.. وتشدُّها الأيدي.. تخطو بحذر عبر طريقٍ مُوحلٍ لَزِج.
وامرأة أخرى.. وحيدة.. تُراوِح في خُطاها.. ونظراتها.. بين
العرس.. وطفلٍ يغرف ماء البِركة بالغربال.. وتنُّورٍ خامد.. وثلاثة أرغفة
مُحترِقة.
(2000)
عَصَافِيْر
1
... في السفح غابة.. في الغابة شجرة بلوط.. في البلوطة عُش.. في
العش طائر.. تحت الطائر بيض.. في البيض عصافير.
في البلوطة أيضاً ثعبان يتسلق.
2
... ينتفض الطائر.. يصيح بهلع.. يقفز من غصنٍ إلى غصن.. ينفش
ريشه مستخدماً كل أسلحة العاجز.. فيما الثعبان يلتقم البيض.
3
... في السفح غابة.. في الغابة شجرة بلوط.. تحت البلوطة ثعبان
يزحف.. في بطن الثعبان بيض.. في البيض عصافير.
في سماء الغابة أيضاً حدأة تبسط جناحيها بلا حَراك.
4
...لم يكن في الوقت متسع للاختباء.. ينتفض الثعبان.. يفِحُّ
بهلع.. يتلوَّى بين المخالب مستخدماً كل أسلحة العاجز.. فيما الحدأة تصعد إلى
السماء.
5
... في السماء حدأة.. بين مخالب الحدأة ثعبان.. في بطن الثعبان
بيض.. في البيض عُصيفيرات تُحَلِّق...
(1999)
|