حبال ياسمين
هذه الأيام لا تأتي بأي جديد .. الهواء هنا لم يعد يكفيها .. ثمة شيء
يخنقها .. ثم ..
تمتد كلمات من نور .. وذهب .. تضيء عتمة ليل طويل تقضيه وحدها .. تمتد
سلاسل من عذوبة .. وحبال ياسمين ..
تكاد تشعر ضغط ذراعه حول خصرها .. تكاد تسمع أنفاسه المتلاحقة .. و أنينه
الصامت .., وتصلها حرقة قلبه ..
باتت تتراءى لها أشياء لم تعشها .., لكنه عاشها .... لم تعرف عنها شيئاً
... لكنه حافظٌ كل تفاصيلها ... سائر في كل دروبها , ذائقاً طعمة الفرح
والحب هنا ... ذارفاً دمعتين صغيرتين هناك ..
ما هذه الصور ؟!.. ماض ٍ .. ووجوه .. ألف قصة .. وألف بوح .. أطفال .. وسفر
.. وجلادون ..
يا ويلتها.. أين تهرب من هذه الصور ؟... أين تاريخها وذاكرتها ؟.. أي تبادل
هائل للذاكرتين قد حصل ..؟!.. من المسؤول عن كل هذا .؟!. . ... تلمع اليد
في الظلام ..
تقول له : ... أنت هنا ... وأنا معك ...
لكني أكاد أفقد البصر .. لملم بعض هذه الصور ... أسقط بعض المستحيلات ..
أمسك يدي جيداً .. فقد أتوه في دهاليزك وحدي .... دونك دليلاً .. دونك
ضوءاً أهتدي به ...........ضمني إليك ..
من عصور ٍ خائفة أنا ... من عصور يأكل البرد عظامي ...
أسند رأسك المليء المتعب إلى كتفي ... دعني من جديد ٍ ألدك .. وأكون لك
أماً ..
أرخ ثقلك .. لا .. لا تكن هكذا .. واقفاً على حبل نار ..
اترك رأسك بهدوء .. نعم هكذا .. تماماً هكذا .. ما الذي يرهقك .. فيتربع
جبلاً على صدري ,
ما الذي يدور داخلك .. يؤلم أضلاعك .. فيؤلمني .؟؟!!!.
تقول له .. أنت هنا .. وأنا معك ..
ولكن مهلاً .. حبال الياسمين تتقطع .. من أطفأ النور ؟... أين أنت ؟...
أين الضغط على خصري .. كيف حررتني ..؟!
أنت تبتعد ... أنت تتلاشى ..
نقطةً في الظلام ... حرفاً في قصة بعيدة .. .. بعيدة ...........
تتجه برأسها أرضا .. تدخل مجددا عتم الليل الطويل ..
تمثال
كانت فكرة فقط .. داهمته في ليلة عاصفة , تملكت روحه , سكنته كعقيدة .. ثم
بدأ يقتات بها ..
" سأصنعه .. هذا التمثال .. سيكون تمثال عمري !.. به سأهتدي .. وله سأغزل
الحكايا .. وأمزج الألوان .. وأحظى بحياة تشبهني .. تلاحقني مثل ظلي ..."
أحواله متغيرة , الفكرة خلقت في عينيه بريقا ً , لاحظه كل من إلى جانبه ,
وباتوا في حالة ترقب وقلق , تقترب كثيرا ً من حالته !
"هي نعم .. مشروعي الأخير .. وأهم إنتاجاتي , معها سألعب بالزمن , سأحرك
أوراق اللعب كما يحلو لي .. وسأعود بأحلام عذارى .. بنشوة طفل يكتشف خبايا
لعبته الجديدة ..."
الخوف من البدء تلبسه , أصعب الأشياء البدايات .. حرقت رأسه أفكار " كيف
أترجم ما لمع في عقلي ؟..كيف أجسدها هنا ؟ .. في غرفة أفرغتها خصيصا ً لها
, وباب لا يفتح إلا عليها , ولا يخلع إلا بأمرها ..".
لا بد أن هذا التمثال سيضنيه , هذا ما بدأ يراوده , فالتردد لا يزال يشل
حركته أحياناً .. لكنه قادر على تبديده ومحاربته .. كيف لا وهو الفنان
المغامر المقامر ....المقاوم الثائر .؟!
وبدأ العمل بخطوات حثيثة , في البداية لم يتحكم تماماً بما يصنع .. بدا له
وكأن التمثال يخلق أمامه من العدم .. دون أن تكون له يد فيه , وكأنه كيان
حقيقي .. حتى قبل أن يتعرف تماماً إليه ..
إنها صبية .. على قاعدة من ذهب , كانت مخبأة منذ القديم في تلك الغرفة ,
تنتظر النحت الذي يختاره لها ويصطفيه لأجلها ...." نعم .. ستكون لها .. هي
من يستحقها " هكذا آمن ..
الأيام تمضي , والتمثال يتطور , بدأت الملامح تتوضح .. والروح تواقة إليها
..
"ما هذا .. ماذا تفعلين بي ؟.. أنا مذهول " هكذا ناجاها .. وقلبه يسمو ,
وعقله مزهو .. إنها لي .. إنها مخلوقتي !.. وعن كامل إرادة سأنصبها من
مقدساتي !!..إنها .. كل أسلحتي ..
مع كل يوم كانت يداه تتابعان عملهما , وتتحركان بنشاط لا حراك له ..
"نعم هكذا أريدها ..عينان واسعتان ساحرتان .. وثغر صغير .. آه من هذا
الثغر!.. لا بأس أيضاً بشعر يلفني .. يدثرني .. مسحة ذكاء هنا .. قليل من
دلال هناك , لمعان يضفي عليها بعض غنىً .. ما هذا العبوس ؟.. لا .. لا
أريده .. دعيني أشد وجنتيك قليلاً .. وأزيح الخطوط عن جبينك , وهذه قبلة له
..قبل أن أكمل عملي .."
كان الوقت الذي يقضيه في تلك الغرفة طويلاً , فالتمثال بحاجة لأيام تطول
وتطول حتى تكون صناعته ثمينة , دقيقة , متقنة ... حتى ينافس باقي التماثيل
!
كان باستمرار يفكر , يعمل عقله بسرعة رهيبة " تمثالي هذا سيكون الأجمل ,
سيكون الأبهى ..
سأحبه وأرعاه ..سيسبقهم جميعاً , حتى أولئك الأصدقاء المتعالون سيحسدونني
عليه .. سيرغبون بمثله .. ولكن هراء ! ..إنه لي .. لي أنا .. لا قبله ولا
بعده .."
الوقت يمضي , نال منه التعب , لا بأس باستراحة .. إن مشاغله تناديه .. فهو
ليس رجلاً بلا عمل ! .. لديه أشغال سوى هذا التمثال .. سوى هذه الفكرة
الحديثة الولادة !
ثم أن الأدوات ناقصة .. " لا بأس , أغادر قليلاً وآتي بها .. بعد قسط من
الراحة .."
ذهب لفترة , وعاد أكثر نشاطاً , أكثر تلهفاً إلى إتمام عمله .. " ما هذا ؟
.. لا يعجبني هذا تماماً .. لا بد من بعض تعديلات .. أرى ذبولاً .. ليس هذا
ما فكرت أني قد خلقت ! .. يا إلهي كيف السبيل ؟ .. أريد إشراقة هاهنا في
هاتين العينين .. في هذا الوجه , قليل سعادة ٍهنا .. بعض طموح .. بل كثيرٌ
منه ! .. ليكتمل المولود .."
ابتعد خطواتٍ إلى الوراء , كان عليه أن ينظر من بعيد إلى ذاك التمثال , كي
يكون بمقدوره الحكم بشكل أفضل .. فاللوحة لا يزهر جمالها إلا حين تراقبها
من بعيد .. والعمل , أي عمل .. يحتاج نظرة من مسافة ما ..
وقف قليلاً يحدق , تتكور عيناه , ترتسم على وجهه علامات فرحة وحبور , مع
قليل من الغرور وعدم الرضا !
" يحتاج شيئاً بعد .. ترى ما هو ؟ .. كيف أصل تماماً لما في ذهني .. لما
ترسمه مخيلتي وأعجز أنا عن تنفيذه .. "
لكنه رجل خبير , عارف نفسه , مالك كل المفاتيح , واثق بقدراته .. سعيد بها
, أفكاره شعلة نار وانبهار ..
عاد واقترب .." آه يا حبيبتي .. يا تمثالي الأثير ! .. هل لي بقبلة صغيرة ؟
.. ولكن .. رقيقة أنت , أخاف أن أؤذيك .. أن تطبع شفتاي على خديك ..
ولكن ما هذا ؟ .. مجدداً شيء يؤلمني .. ما هذا الحزن القاتل ؟.. ربما علي
أن أغير في اللمعة بعض الشيء .. عله يغادرها قليلاً .. لا بأس .. ينقصها
القليل من الرتوش , وتغدو فكرتي حقيقة على أرض الواقع .. محسوسة ملموسة ...
لم العينان تتجهان أرضاً ؟ .. ما هكذا أريد ..فلترتفعا قليلاً .. الحاجبان
أيضاً .. لا يمنع إن حملا مزيداً من الكبرياء .. آااه عرفت ! .. الذقن
يلزمه أن يرتفع قليلاً .. مع الأنف والعينين بنفس المقدار .. إذن .. الوجه
كله بحاجة إلى رفعة بسيطة .. بسيطة فقط ! "
واصل بكل تحفز , بدا و كأنه قد عثر على كنز , سكن وجهه ارتياح رائع , كمن
وصل أخيراً إلى قمة جبل بعد ساعات من التسلق ..
حدق بتركيز , بحث بسرعة بين الأدوات , كان يبحث عن شيء بعينه , قد يفي
بالغرض ..مد يده يلتقطه , وبدأ ينفذ فكرته ..
ثوان .. دقائق , وعصفت سماؤه .. امتقع وجهه , بدا وكأن الروح تفارقه , و
كأن ملك الموت قد تبدى له ..
كانت لحظات عصيبة دامية , الضربة كانت ثقيلة ,.. يبدو أن التمثال لم
يحتملها .. كانت أقوى من احتماله , وأقوى مما توقع هو لها .. فبسرعة ظهرت
بعض التشققات , طالت الوجنتين في بادئ الأمر , وامتدت إلى العينين .. إلى
الأنف .. وإلى الثغر الصغير .. ثم كانت ثوان فقط .. وتحركت الرأس بكاملها
من مكانها , وارتمت بثقلها على طرف الكتف .. ثم هوت على الأرض العارية ..
انقسمت قطعتين .. بل ثلاثاً .. وتناثرت بعض الشظايا
أمام دهشته .. ودموع ٍ تسمرت في عينيه ..!!!!
لعبة بحث
كانت حزمة جديدة من حبائل القدر .. أن أكون على موعد مع خيال لك , في بيت
كنت تسكنه !
وكنت عن نفسي أحتاج قدرا من الجرأة , حين نويت رغم اغترابي عنك , زيارة ما
يتصل ولو من بعيد بك , واستقصاء مكان كنت يوما هنا بين ثناياه , وكان لك
عمرا , ودارا ..ورفيق أحلام .
كان الوقت ليلا , والجو يحفل بالبرد الذي لم يفارقنا هذا العام , وكان علي
أن أرتدي معطفا سميكا , تماما كما كان علي أن أملك القدرة على استحضار
الأرواح , واللعب في التفاصيل .. لأستطيع الوقوف على يومياتٍ كانت لك هنا ,
قهوة ُصباحك .. وربما حليبه ! .. حنوٌّ أم .. أصواتٌ أسست لدولتك ! وأصداء
بحثت عنها طويلا دون يقين ..
ببطء متعمد شربت فنجان الشاي الذي قدم لي , ودارت عيناي تتفرسان في كل
زاوية ..
ما عاد بيتك لك ! .. وما عاد يحتفظ منك بالكثير .. وربما ما عاد يذكر مرورك
به !
هل كانت تلك خيانة ؟ .. أم أنه مجرد العجز أمام شهوة مالكين جدد .. حرفوا
كثيرا في حكاياتك , وحفروا بأيديهم في صخور غرفتك , واستوطنوا شرفة احتضنت
يوما أمانيك .. وتعب لياليك .. وربما بعض الأسرار التي لم يطلعني صدقك
عليها .. ؟!
حين داهمتني صاحبة البيت بسؤالها عن بعض ما كان يتداول الحديث, كنت قد غبت
رغما , ودخلت دهليز أفكار أبعد ما تكون عن تلك الجلسة الشتائية .. وكان
إحراجا كبيرا أن أجد نفسي عاجزة عن الإتيان بجواب منطقي , لا يفضح انفصالي
الكلي عما يدور ..
بيتك اليوم .. بات يشبهك ! .. زادت حمولاته , وتضاعفت جدرانه وقاية من برد
الشتاء .. وكذلك نوافذه التي احتقنت بزخارف الستائر , وحمل سقفه أصنافا
وألوان تحاكي الرتوش الاجتماعية !
بيتك يشبهك .. ما عاد عاريا كطفل يلهو بكرةٍ ملونة , بل امتلأ باللوحات
والتماثيل .. والأثاث الأنيق ! .. وبدا بساطا قد تراكمت فوقه الطبقات ,
وخبأت جواهره ! .. لكنها منحته المزيد من الميزات .. ومن نظرات الاستحسان !
وحين انتهت زيارتي وخرجت برفقة الأصدقاء نتنزه في طريق مشتركة قبل الافتراق
, كنت أشعر مجددا أني أسير بمفردي , وكنت لا أزال أحلق إليك ..
بيتك كم بات يشبهك .. منذ ذلك اليوم التشريني , منذ اهتزت الأرض وأنجبتك !
.. وأشرت إلي بعينك أن اتبعيني , وطوعا سكنت إليك , وطوعا اشتعلتَ بي ..
واحتوتني مداراتك ..
حميما كنت .. تشبه ذاك الطفل المجرد من كل شيء إلا فرحته , دهشته , وأسئلته
الرعناء !
حميما كنت .. ولك رائحة تشرين صافيا , ملونا , متسعا وطنا لعينين خائفتين
..
ومن يومها هبت ألف عاصفة رملية , تناثرت كثير من الذرات .. وتكاثرت
إكسسواراتك , ستائرك السميكة , وأدوات زينتك وجمودك !
تماما مثل بيتك !!
|