أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 14/08/2024

الكاتب: جاسم أحمد الحمود

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

جاسم أحمد الحمود، مواليد 1/2/1977 مهندس معماري من سوريا – مدينة الرقة

 

النشاط الأدبي:

-أكتب القصة القصيرة و الدراسات المعمارية

-نشرت نتاجي في العديد من الدوريات العربية منها

مجلة العربي الكويتية -مجلة الموقف الأدبي السورية -مجلة المعرفة السورية -جريدة الأسبوع الأدبي السورية -مجلة العرب والعالم الأردنية

 

حائز على عدة جوائز في كتابة القصة:

-جائزة البتاني للقصة القصيرة

-جائزة العجيلي للقصة القصيرة

-جائزة فرع اتحاد الكتاب العرب في الرقة لأكثرمن عام على التوالي  

 

 

 

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

وطن أخضر

عاشقة الظل

جاذبية

 اغتراب

 

اغتـراب

1-

انتصف الليل ، هجرني النوم ، و تركني في عراء الغرفة ، رائحة الرطوبة المشبعة بالعفن ، تثقل صدري ، أتحسس الورقة اليتيمة في جيببي ، هذا ما تبقى من الراتب ، و الشهر في أوله، جرّبت كل العمليات الحسابية ، لم تنفع شهادتي الجامعية في إيجاد معادلةٍ ،تجعل الورقة النقدية تكفي لأظل حياً حتى آخر الشهر.

 

أشعل الصندوق القديم الذي أسميه تلفازاً ، وبخبطةٍ قوية على رأسه ، تستقر الصورة المضطربة ... جندي أمريكي يفتش امرأة عراقية ، تمتد يداه من تحت الإبطين هبوطاً إلى الخصر ثم القدمين ... تنتابني رجفة ، النوم أفضل ، البرد شديد ، لا أستطيع النوم ، اللحاف مهترئ , صفيحة التنك فوق موقد الغاز ، مناظر الدم و الحرائق التي يبثها التلفاز ، كلها لم تستطع أن تبدد البرد ، أرتدي ملابسي على عجل ، أخرج من القبو الذي سماه صاحبه حين استأجرته غرفة .. أمشي في ظلمة الشوارع الخالية إلا من كائنات الليل المريبة ، تغوص قدماي في برك الطين ، و تغوص يداي في جيوب المعطف بحثاً عن دفء موهومٍ  .

 

2 -

الليل انتصف ، و جدران الغرفة العارية تزيد وحدتي .. في النهار تؤنسني أصوات المارة و الباعة .. أما الليل فيبعث وحدتي من رقادها .. منذ ساعة و أنا أقف وراء الباب الموارب ، أتأمل المطر ... البرد قارس ، و الليل طويل ... إذا لم يطرق أحدٌ بابي ، سأصوم عن الطعام كما صمت البارحة مكرهة .

 

مطر .. مطر كثير ، لكن الضروع جفّت ، و الأرض نسيت اللون الأخضر  ... و هذا الجسد الشاحب و الصدر الهزيل لن يجتذبا أحداً .. ( مومس السياب العمياء لن تغري أحداً ) ... ينكسر شرودي بوقع خطا وئيدة  .. يبدو من مشيته و شروده أنه ليس من زبائن الليل ... لكن سأحاول .. سعلت ،  فالتفت ، دعوته للدخول .

 

3 -

دخلت متردداً .

- معك نقود ؟ .

سألَتْني .

أخرجْتُ الورقة من جيبي و ضحكتُ : هذا ما تبقى من الراتب و الشهر في أوله .

-نقودكَ قليلة ، لكن لا يهم الليل في أوله و البرد قارس .. ثيابك مبتلة ، يبدو أنك سرتَ تحت المطر كثيراً .

-لم أستطع النوم ، فخرجت ألتمس الدفء  تحت المطر .

-تبدو مهموماً  ؟.

-ماذا أفعل ؟ عائلة في القرية من تسعة أشخاص و المواسم صارت ماضياً ، و الراتب أبعثه ثمناً للخبز .

-على الأقل لديك عائلة تفكر فيها ، يفرح قلبك حين تراها ، تنتمي إلى أهلٍ و قرية و أرض ، أما أنا ...

-أليس لديكِ أهل .

-بلى ، تركتهم هناك في بغداد ، ينامون مع أهل الحي في مقبرةٍ جماعية ، هاجمتنا قوات الاحتلال ذات ليلة ، لا أدري كيف نجوت ، و لا أدري كيف غادرت بغداد ، من قرية إلى قرية ، وجدت نفسي بعد أيامٍ من الخوف والضياع هنا ، قلت : الشام كبيرة ، لا بد أن أجد عملا ً فيها ، بحثت كثيراً ، قلت لأرباب العمل : لديّ شهادة جامعية .

ضحكوا ، و قالوا  : لدينا شهادات و شهادات .

 أنهكني الجوع ، و أذلتني الغربة ، استأجرت هذه الغرفة ، و صرت كما ترى ..

تجمعتْ قطرات الدمع في عيني ، وضعتُ الورقة  النقدية على طرف السرير ، و اتجهتُ نحو الباب.

-إلى أين ؟  دفعتَ نقوداً  ، ألا  تريد البضاعة ؟! .

تذكرتُ الأسرى في ( أبو غريب )  ، تذكرت مشهد الجندي الأمريكي ، و هو يفتش المرأة العراقية ، لو فعلت سأكون مثله حتماً .

لا أريد شيئاً .

قلت لها .

-تكفيني نقودك بضعة أيام  و بعدها ؟ .

-اسمعي .. جهزي نفسك ، سأمرّ بعد نهاية الدوام ، و آخذك  إلى القرية ، قريتنا صغيرة ، و سكانها طيبون ، عائلتي تسعة أشخاص ، لن يتغير الأمر كثيراً  إن صارت عشرة أشخاص . ركضتْ باتجاهي ، عانقتني مبتسمةً  دامعة .

 

 

جاذبية

إلى الطفل الشهيد : فارس عودة

 

اسمي فارس، طفلٌ كباقي أطفال هذه المدينة الصغيرة، الأطفال في هذه المدينة يختلفون عن غيرهم من أطفال العالم ، يولدون ، و يعيشون، ويموتون بشكلٍ مختلف، يولدون عند حاجز أو معبر و تحت الشمس ، و على قارعة الطريق أو في الزنزانة ، و في أفضل الحالات في خيمةٍ أو كوخٍ بائس من الصفيح  .....

الأطفال هنا يعيشون حياةً قصيرة ، يتلاعب بها الفقرُ والمرض ، ويرعبها القهر والقتل المبرمج، ويثبّتها الأمل و الحلم بشروق شمسٍ لا تغيب .

الأطفال هنا يولدون ، و يعيشون ، و يموتون بسرعة ، يكبر الطفل ليفاجأ بالغياب الدائم للأب ، فهو  إمّا شهيد  أو أسير  أو منفي  أو مطارد ، فيحمل الطفلُ ثقلَ الرجال على كتفيه ، و يصير رجل البيت ، و هو في عهد الطفولة .

 

مدينتنا معزولة عن ريفها و سهولها بالجدران العالية العازلة و الأسلاك الشائكة المكهربة .

 

والليل فيها مداهمات و ملاحقات و اغتيالات و حظر تجول ، و استعداد لمواجهاتٍ قادمة ، لا نرى فيه النجوم ، و لا تسرد الجدات فيه الحكايات الجميلة .

 

والنهار بحثٌ عن لقمة الخبز و انتظار و تفتيش و خضوع للمراقبة و مصادمات يتواجه فيها الرصاص و الحجر ، النهار عندنا بلا فراشاتٍ و ألعاب و بلا شمسٍ ساطعة .

 

أنا الآن في المدرسة ، لكني حملت الحجر قبل أن أحمل القلم و الدفتر ، عرفت رائحة الدخان و البارود والدم قبل أن أعرفَ رائحة صدر أمي و رائحة النعناع و الحبق في فضاء بيتنا العربي، ألفت صوت القنابل و هدير الطائرات أكثر من زقزقة العصافير و همسها لشجيرات البرتقال  في الدار .

 

منذ حملتني قدماي إلى الشارع ، أحببتُ أرضه و ما فيها من ترابٍ و أحجار، تعلقي بالحجارة كان شديداً ، أملأ جيوبي بالحجارة  المنتقاة بعناية ، و أعود بها إلى البيت .

حاولتْ أمي بكل الوسائل أن أترك هذه العادة لكن دون جدوى .

 

عندما صرت في السادسة أرادت أمي أن أعيش كما يعيش الأطفال ، اشترت لي أقلاماً و دفاتر و حقيبة ملونة ، و قادتني من يدي إلى المدرسة ، لكن لم أغير عادتي ، فالمدرسة ليست بعيدة عن المظاهرات و الاحتجاجات ، و تغلق أبوابها بين الفترة و الأخرى بأوامر من جنود الاحتلال ، صرت أملأ الحقيبة بالحجارة ، و أحضرها إلى البيت، اهترأت الحقيبة بسرعة ، فاضطرت أمي أن تشتري لي حقيبة جديدة ، استدانت ثمنها من جارتنا .

 

أحببت المدرسة كثيراً لأني صرت أتعلّم فيها أشياء كثيرة عن الحجر و البشر و الشجر .

 

تعلمتُ أنّ الحجرعندما نرميه في الهواء يسقط على الأرض بتأثير الجاذبية ،وأن الأرض تجذب الحجر، لكن لم أكن أدري أن للحجر جاذبية خاصة ، كلما رأيت حجراً  أحسّ بشيءٍ غريب يشدّني إليه ، يـسرّع خطواتي باتجاهه ، جاذبية قوية تجعلني أنحني لا شعورياً لتطبق كفي على الحجر ، فأحمله بحنان ، و أضعه بودٍ في جيبي أو حقيبتي ، وجوده معي يشعرني بالأمان و القوة .

 

تعلمتُ في المدرسة أنّ الحجر الصغير إذا رُمي في ماء بحيرة كبيرة راكدة ، فإنه يحدث دوائر كثيرة متتابعة ، يكبر قطرها كلما ابتعدت عن مكان سقوط الحجر ، نعم إنّ حجراً صغيراً بحجم الكف يهز الماء الراكد  هزّاتٍ عنيفة ولمسافاتٍ طويلة .

 

صارالحجر صديقي الدائم ، صرت أتعامل معه بحرارة و حميمية ، أمسكه بين أصابعي، تحتضنه كفي ، أحسّ به ينبض كعصفورٍ صغير ، أستمد منه الصلابة ، ألثمه ، و أعطيه قبل الرمي دفقة دفء و حماس و أمل ، كنت أقود الأطفال في المواجهات مع العدو ، فأنا خبيرٌ  في الحجارة كما يقولون ، حتى الأطفال الأكبر مني يستشيرونني ، فأنا أعرف أنواع الحجارة كلها ، أعرف أيها أصلب و أقسى ، و أعرف الشكل المناسب للرمي و وضعيات الرمي ، و أعرف الحجم المناسب للمقلاع أو الكفّ ، و أعرف الطريقة الصحيحة للتسديد ، و النقاط الضعيفة في الهدف ، و أحقق إصاباتٍ مباشرة ، تدهش الجميع .

 

وقفت دبابة في الساحة ، قذفها الأطفال بالحجارة ، لكنها بعيدة عن مرمى الأطفال ، لم تصلها الأحجار  .

 

قلت للأطفال : توقفوا عن رمي الحجارة .

تساءلوا بدهشة : لماذا ؟!!.

قلت : سأصطاد واحداً من طاقم الدبابة .

 

توقف الأطفال عن رمي الحجارة ... بعد فترة وجيزة أخرج أحد الجنود رأسه ، الخوذة تحمي رأسه و فوهة برج الدبابة تحمي أسفل وجهه ، الجزء المكشوف من وجهه الأنف والعينان فقط ، نظر إلى جمع الأطفال بتعالٍ ، وقهقه ساخراً .

 

مددتُ يدي إلى جيبي ، تلمست الحجر الصغير الصلب ، أخرجته ، تقدمت خطوتين ، و بضربةٍ خاطفة جاء الحجر بين الخوذة و فوّهة البرج ، و هشم أنف الجندي ، قفز كالملسوع ، أخرج بندقيته و جذعه من البرج ، و صار يطلق النار باتجاهنا ، لكننا سبقنا رصاصاته ، و ركضنا ،  لذنا  بأزقة الحارة الضيقة و شوارعها الفرعية ، و أخفتنا بيوتها الملتصقة عن الأنظار .

 

ومنعتني أمي من الخروج إلى الشارع بعد أن علمت  بما حدث ، فقلبها يظل على يدها  حتى تمضي الحادثة بسلام ، وهي بحاجة إليّ بعد استشهاد والدي كما تقول  .

غافلتها البارحة ، و خرجتُ ، رأيتُ في الساحة دبابةً تتقدم في الشارع الكبير ، و خلفها تظهر دبابات أخرى ، تفرّقَ الأطفال ، بقيتُ واقفاً في مكاني ، الدبابة تقترب ، و أنا أقف ذاهلاً ، بصري مشدود نحو العدسة الصغيرة المتوضعة تحت عنق سبطانة الدبابة ، عدسة زجاجية بحجم كف صغيرة ، لا بد أن لها عملاً مهماً ، و لا بد أنها قوية ضد الكسر ، الدبابة تقترب أكثر ،  يصرخ رفاقي صرخات فزع : ابتعدْ يا فارس  ، الدبابة تقترب ، ابتعد لئلا تدهسك  ......

وأنا واقفٌ في مكاني ، شعورٌ مبهم  يجتاحني ، قدماي التصقتا بالأرض ، تجذّرتا فيها كما تتجذر شجيرات الليمون في الدار ، تصبح الدبابة على بعد أمتار مني  ، فأخرجتُ حجراً من جيببي ، و قذفته سهماً مباغتاً  نحو العدسة ، و تطايرت شظايا الزجاج في كل الأنحاء .

 

في اليوم التالي دخلت باحة المدرسة ، أحاطني عددٌ من الأطفال  ، و كلماتهم تسبقهم : صورتك ظهرت في الصحف ، كنت تواجه الدبابة ، رأيناك في التلفاز .

في طريق العودة من المدرسة التقينا بدوريةٍ مسلحة ، راقبتْنَا عناصرها متفحصة ، و فجأة صاح   أحدهم مشيراً  إليّ بعربية مكسّرة ، نظرت إليه ، إنه الجندي الذي ضربته قبل أيام ، بدا على أنفه أثر جرح .

- إنه العفريت الذي كسر أنفي .

 صرخ الجندي مؤكداً .

صاح جندي آخر : إنه الشقي الذي تحدى الدبابة ، عُرضَتْ صوره في الفضائيات .

حاصروني من جميع الجهات ، نعتوني بالإرهابي .

انهالت عليهم أكوام الحجارة من الأطفال ، لم يكترثوا ، رفع أحدهم بندقيته ، دنا من رأسي ، و صوّب ، سمعتُ صوت الطلقة  ، و صيحات رفاقي الصغار المستنكرة ، و انفجر سائلٌ حارٌ من جبهتي ، تدفق بغزارة ، سال على الأرض ، لفـّني الشعور المبهم ثانية ، تكوّر جسدي ، والتصق بالأرض ، انغرست قدماي تعانق أحجارها ، و ارتفعت روحي إلى السماء طائراً صغيراً أخضر ، تودعه الحارة كلها بالزغاريد و الهتافات و التكبيرات  .

 

 

عاشقة الظـل

- 1 -

يبدو أنّ ساكناً جديداً  حلّ في البيتِ المقابلِ لشرفتي ، كالعادة  فهو طالبٌ جامعي ، منذ  ثلاث  سنوات ، وفي  مثلِ هذه  الأيامِ  سكنَ  ذاك  الذي  عشقته ، و هزمَني ، أنا  التي  ما  خسرتُ حرباً ، أنا المدججة  بأقوى  الأسلحة ، أسلحة  كثيرة  و قوية ، هزمتُ  كثيرين  في  المدرسةِ ، في الشارع ، في الوظيفة ، في الباص ، هزمتُ  كلَ من  قابلتهم ، لاحقوني ، شحذوا  أسلحتَهم ، و أعلنوا  الحربَ ، لكني  هزمتهم ، أمّا  هو فقد هزمني  دون عراك و  مطاردة ، و قبل  أن يرفعَ  سلاحاً  ، عندما  رأيته  أول  مرة  كان  جالساً ، يقرأ كتاباً  بيده ، حاولت  أن  ألفت  انتباهه ،  تحركتُ  في  الشرفة  جيئة  وذهاباً  دون  جدوى  .

 

في  اليوم التالي راقبته ، و ما إن  خرج  إلى الشرفة حتى برزتُ  مستعدة  للمجابهة  و  التحرش ، التقت  نظراتنا ، حييته  بابتسامة ، ابتسم ، ثم  جلس  على  كرسيه ، و  بدأ  يقرأ ، مضت  الأيام  أحييه  بيدي  ، أشير  له ، فيكتفي  بإرسال  ابتسامةٍ  هادئة ، قذفته  بالحصى  و الرسائل لاستدراجه ، فحافظ على وقاره و اتزانه ، أوقفت القتال في الجبهات  الأخرى ، حشدت كل ما أملك  من قوة  وسلاح  لهزيمته ، أعلنتها حرباً  واحدة  وجبهةً  واحدة ، لكنني فشلتُ ، أطلقت  سهاماً  ورماحاً ، و امتشقت  سيوفاً ، ولكنه لم  يرمِ  سهماً ، ولم  يرفع  سيفاً .

 

جاء  الشتاء ، هجر  الشرفة ، صار  يجلس  في  غرفته  وراء  النافذة ،  يجلس  عدة ساعات  دون  حراك ، و أحياناً يرفع  رأسه ، ويقذفني  بنظرةٍ  تشتت  صفوفي ، و  تزعزع  حصوني ، و أنا  أقف  أراقب  ظله  خلف  الزجاج  ، أثارني  هذا  الساكن  الغريب  إلى  حدّ  الجنون ، تلبّسني  العناد ، تحولت  إلى لبوة شرسة … إعراضه  عني حطمني ، ألغى كل  انتصاراتي ، و أرّخ  لهزيمتي  الكبرى ، و وأد  أمجادي ، كل من طاردني  ركع  أمامي ، إلا هو ، فقد حطمني ،  وتركني  أركض  خلفه .

 

- 2 -

انتهى العام الدراسي ، رأيته  يحزم  أمتعته ! .

سيرحل دون أن يترك لي فرصة  لأناوشه .

تحطم  ذلك  الكبرياء  الذي  بنيته على أنقاض  رجال  لا عدد لهم …

تملكتني جرأة عجيبة ، ارتديت  ملابسي على  عجل ، و قرعْتُ  جرس بابه  …

سأنقل المعركة إلى أرضه ، سيفتحُ البابَ ، ويراني ، سيتغيرُ لونه ، و  تتعثّر كلماته ، سيرتبك ، ويتراجع  إلى  الوراء  ويصطدم  بالكراسي ، و ربما  يقع  مكسوراً .

وفتح  الباب، ابتسم، وكأنه كان  بانتظاري  : تفضلي . 

قالها دون  تكلف .

 ُصدِمْتُ ! .

تغير لوني ، انكمشت  الحروف  على  لساني ، خطوت  بارتباك ، اصطدمت  بكرسي ، كدت  أن أقع ، جلست على الأريكة ، حاولت أن  أبدو  هادئة ، المعركة  الحاسمة  اليوم ، هذه  أول  جولة  خسرتها  بجدارة ،  يجب  أن  أخطط  جيداً  ، سأطلب  منه  أن  يريني  غرفته …

لكنه  فاجأني : ما  رأيك أن  تتفرجي  على  غرفتي .

الجولة الثانية خسرتها ، هذا  الرجل غريب .

هل  يقرأ  الأفكار  ؟ . هل تتحدث الكتب  التي  يصاحبها عن  التخاطر ؟ ! .

غرفته رائعة ، أثاث بسيط أنيق ، لوحات  جميلة  تزيّن  الجدران ، و الموسيقا  الهادئة  تخدّر الجسد  و  العقل …

ماذا  يدرس ؟ .

ماذا  يسمع ؟ .

ماذا  يحب   ؟ .

ماذا  يكره  ؟ .

أسئلة كثيرة  تحاصرني .

- اجلسي .

نطقها بحنكة شديدة  .

- أنا  أدرس  الأدب ، أعشق  سماع  الأغاني  العراقية ، أحب  البساطة  و العفوية ، و أكره  الهزيمة .

غريبٌ  أمر  هذا  الرجل ، إنه  يفاجئني ، يضربني  بأسلحةٍ  ادخرتها  لحربه ، يوقعني  في  كمائن  نصبتها  له ، يكشف  مخططاتي ، يعلنها على الملأ .

الجولة  الثالثة  خسرتها ، كم  بقي  أمامي  من  الوقت  ، هل  أوشكت المعركة  على الانتهاء  .

- سأسافر  بعد  ساعة .

 ضربة  أخرى  يوجهها  إليّ ،  خسرت  جولةً  أخرى ، بقيت  ساعة واحدة ، و قد خسرتُ  الجولات السابقة ، لم يبق من الوقت الكثير ،  ستبدأ  الآن المعركة  الحقيقية  ، سيشتد الهجوم  الآن  ستخرج  الأسلحة  الفتّاكة المعَدّة لمثل هذا  اليوم …  ستكون  الجولة  الحاسمة ، ستتحطم  بساطته  و  عفويته  أمام  درايتي  و  غوايتي .

سألته : ما  رأيك  بجمالي .

-  أنت  جميلة  بلا  شك  .

-  هل أعجبتكَ  ؟ .

-  كلّ  جميل  يعجبني .

-  ألا  تشتهيني  ؟ .

-  أنت  صغيرة .

-  أنا أكبر منك  بسنةٍ أو سنتين  .

-  مع  ذلك  فأنت  صغيرة  .

نهضْتُ من مكاني .

جلست  بجانبه  على  السرير  :  نحن  لوحدنا ، و الزمن  يمضي ، جسدي  أمامك  افعلْ به ما  تشاء .

ابتسم  : لن  أفعلَ  شيئاً  .

نهض  عن  السرير .

-  لن  يفيدك  الهروب ، صدري الناهد يفتن الرهبان و الزهّاد  .

-  لن  يفيدك  الإغواء  .

وقعت في حيرة ، كأني أخاطب حجراً ، لم  تتحرك  غريزته ، أريد  أن  يلمسني  بإرادته ، بل  أريد  محاولة  لمسي ، عندئذ  سأغادر ، و قد  نلتُ  مرادي  .

- انظرْ  إليّ  .

رفعت الغطاء عن شعري ، فتناثر  على كتفي بانسيابية و سوادٍ  ساحر .

 لم  يتحرك ، امتدت  يدي  إلى  الثوب ، فككت  الزر  الأعلى ، فككت الزر الثاني ، شعّ  بريق  الجيد …

 فقال ببرود : توقفي ، سأعلن  هزيمتي ، أليس  هذا  ما  تريدينه ، أنا  المهزوم  و  أنت  المنتصرة .

لا  فائدة  من  المقاومة ، انهارت  قلاعي ، و استسلمتْ  جيوشي ، رجوته : قبل  أن  تسافر  أخبرني  ما اسمك ؟ .

ـ سراب  .

قالها  همساً ، و اتجه  إلى  حقائبه  .

 

-  3 -

هاهو  الساكن  الجديد  يمسك  كتابه ، يتظاهر  بأنه  يقرأ ، و يصوّب  بصره نحو  شرفتي ، بدا  في ملابسه  الضيقة  بألوانها  الصارخة ، و  شعره  المدهون  بالزيت  كأنه  مهرجٌ  أحمق ، يحاول  لفت انتباهي  بحركاته  الصبيانية … يلوح  ظلٌ  خلف  النافذة ، ظلٌ  لشخصٍ  يجلس  منكباً  على  كتابه ، الصبي  الصغير  بشعره  المدهون  بالزيت ، يظن  أني  أنظر  إليه ، يرسل  إشاراته  الطفولية  .

انتهى دوامي ، وقفت بانتظار  الباص ، أحسست  أنّ  شيئاً  ما يتخبّط  بجانبي ، إنه  ذلك الصبي  بشعره  المدهون  بالزيت ، الغبي  ينتظرني ، وحدنا  تحت  مظلة  الموقف ، والشمس  الحارقة ،  أفرغت  الشارع من العابرين .

 – مرحباً  .

نطقها  بطريقةٍ  مضحكة .

تذكرت  ذلك  الهادئ  الرصين .

ـ ما رأيك بالجلوس  في  الحديقة ، أريد  أن  أكلمك  في  موضوع  هام .

بماذا  يهذي  هذا  الصغير  .

ـ  أنا أعرف أنك تراقبين  النافذة  دائماً ،  فلماذا  لا  تردين ؟ ! .

هذا  الصغير  لا يعرف  أني أراقب  النافذة دون  أن  اهتم  بمن  يسكن  البيت ، لا  يعرف  أني  أعشق  ظلاً  خلف  النافذة ، ظل ذاك المسافر الذي أترعني  بالهزائم  و الخيبة  .

الصبي الصغير  يثرثر  بجانبي .

 - متى  أستطيع  أن  أراك  على  انفراد  .

  المسكين  سينشف  ريقه ، و ينشق  حلقه  دون  أن  يسمع  إجابة  .

-  إذاً  اخبريني  ما  اسمك .

- سراب  .

نطقتها  دون  وعي …

نطقتها بين صليل السيوف و صهيل  الجياد ، نطقتها ، و كأني  أقف  أمام  ذاك المحارب الراحل  ، نطقتها  دون  وعي ، و اتجهت  نحو  البيت ، مشيت  تحت  الشمس  اللاهبة  لتغسل فورة الدماغ ، و ذلك الصبي الصغير  - الذي  لا يستطيع  السير  تحت الشمس  بقي  في  مكانه  ينطّ  فرحاً  لأنه كسب  المعركة  معتقداً  أني  أعطيته  اسمي  بعد  تمنع  .

 

 

وطن أخضر

 

هناك أشخاص يكرهون اللون الأسود ، و آخرون يكرهون اللون الأحمر ، لكنّ قليلاً من الناس يكرهون اللون الأخضر ، و أنا واحدٌ منهم ، و ربما أكون الوحيد في هذا العالم .

 

البداية كانت مع أول يوم لي في المدرسة، يومها علّقوا على كتفي شريطاً أخضرَ ، وقالوا : هذا صفك ، لا تغيّره .

 

 أما صديق طفولتي أحمد ،فعلّقوا له شريطاً أصفر ، و صار في صفٍ مجاور لصفي بعد الاستراحة أردت أن أبقَ مع أحمد ، دخلت معه الصف ، استوقفني أحد عناصر الانضباط ، و قال : هذا ليس صفك .

 

وأشار إلى الشريط الأخضر على كتفي ،نظرت إلى الشريط ،نترته بعنف، و رميته أرضاً ففوجئت بلسعةٍ طويلة حارقة تلفّني من فخذي إلى كتفي ،وصوت المعلم ينهرني: لماذا قطعت الشريط أيها الشقي .

 

في المدرسة حدثونا عن الشرطي الذي يساعد الأطفال و الشيوخ في عبور الشارع .

 

ذات يوم كنت ألعب أمام البيت عندما توقفت سيارة ، و نزل منها رجالٌ بوجوهٍ خضراء ، فرحت لرؤيتهم عن قرب ، هؤلاء الذين يساعدون الأطفال و الشيوخ .

 اقترب أحدهم مني ، و سألني : هل تعرف بيت حسن الراوي .

 

قلت بفرح : نعم  إنه  أبي .

-  هل هو في البيت .

-  نعم  سأناديه .

ذهبت ، و عدت بعد لحظاتٍ لاهثاً ، و قلت لهم : أبي ليس في البيت .

اقترب الرجل الأخضر ، و سألني بغضبٍ : ألم تقل منذ لحظاتٍ أنه في البيت .

أجبته ببراءة : ظننتُ  أنه في البيت .

انحنى الرجل الأخضر ، و صفعني ، فوقعت أرضاً، و نبهني : ثاني مرة لا تظن  .

اقتحم الرجال بيتنا ، لحظتها تبخّرت صورة الشرطي الذي يساعد الآخرين ، و ولدت بذرة الحقد على اللون الأخضر ،و عندما علمت فيما بعد أن الرجال الخضر، أخذوا والدي من بيت عمي ، و سجنوه ، تحولت بذرة الحقد إلى شجرة .

أثناء الدراسة الإعدادية و الثانوية ُقيِدْتُ ست سنواتٍ في بدلةٍ خضراء ، و في الجامعة  تجنبت اللون الأخضر بضع سنوات .

 

في يومي الأول من خدمة العلم فوجئت بالمد الأخضر المترامي ،  وقفت في الساحة الكبيرة مبهوراً ... المجندون ... الضباط ... يرتدون اللون الأخضر في أرضٍ قاحلة تفتقر إلى اللون الأخضر .

 

جمعونا في ساحة المعسكر ، أعطونا بدلاتٍ خضراء ، تفوح منها رائحة التخزين ... ذات مرة تأخرت عن الاجتماع مع بعض رفاقي ، فحوّلنا الضابط إلى السجن ... كان السجّان ضخماً بليداً بشاربين غليظين ، لونهما أخضر ، وقفنا أمامه ، صاح بنا : ( صفوا خمسة خمسة ).

 

انفلتت مني ضحكة لأننا كنا أربعة فقط .

صرخ السجان : تضحك ... انزلْ منبطحاً .

قلت له : أنا معي  ( ماجستير ) .

-ماجستير .. سرطان .. كبد ما تفرق معي .. منبطحاً يعني منبطحاً .

أذكر أني في لحظاتٍ يتيمة  انتابتني مشاعر مغايرة تجاه اللون الأخضر ، أذكر أنّ اللون الأخضر أوحى لي بالقوة و الكرامة عندما رأيت عرضاَ لوحدات الجيش العراقي قبل الحرب ، و عندما قاوم العراقيون القوات الأمريكية في أول أيام الحرب سرّني منظر الرجال الخضر وراء المدافع و الرشاشات ، قررتُ لحظتها أني سأحب اللون الأخضر ، لكن الخبر جاء صاعقاً  ، سقطت بغداد ! .

 

كيف و لماذا ؟

أين الجيش العراقي ؟ أين المليون الأخضر ؟ كيف تبخّر فجأة ؟ . كيف انهزم ؟ .

 

أعرف أن الرجل الأخضر الواحد ، يخيف عشرات الرجال ، رجال سمر بشوارب و كرامة ... فكيف ينهزم المليون الأخضر أمام رجال بلا شوارب .. قررت لحظتها أن أقطع الأمل في أي بادرة قد تؤدي إلى وفاقٍ مع اللون الأخضر، ولأن النفس أمارة بالسوء قررت أن أبحث عن طبيبٍ يزرع في عيني عمى الألوان .

 

أضيفت في 17/10/2010/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية