ككل المرات مع اختلاف
كبير
في أمور الحب والزواج كل المدن صغيرة
وصلت إلى العاصمة …
صباح طري يولد في أجواز السماء ويغمر المدينة بالألق ،شيء ما يزعجني
في قلبي، منذ سنوات أزور هذه المدينة وبمجرد ما تتسرب الحفنة الأولى من
هوائها إلى رئتي أصير مبرمجة بطقوس الزيارات السابقة، أطوي المسافات على
هواي إحساسي بأن لا أحد يعرفني هنا يحررني من القيود التي أحسها حين أكون
في مدينتي الصغيرة فأتملى الوجوه الرجالية بكل جرأة، أرتاد المقاهي وأرتكب
حماقات لا أستطيع مجرد التفكير فيها حين أكون هناك ..استوقفت طاكسي
-مقهى باليما من
فضلك
طابور السيارات الذي انضممنا إليه يبدو وكأن لابداية له ولانهاية
شلال من البشر يتدفق على الأرصفة بمنتهى الصحو في مثل هذا الوقت بالكاد
تمسح خطوات التلاميذ آثار النوم على وجه مدينتي الصغيرة ونادرا ما تلامس
عجلات سيارة إسفلت الشوارع ..اللعنة لانسى مدينتي أنا هنا في العاصمة ..شيء
ما يزعجني في قلبي ..قبل أن ألج المقهى أخرجت مرآتي الصغيرة ورتبت خصلات
شعري ، نظراته علمتني أن أعشق شعري وأهتم به، حين ضبطتني أصرح له بدلك أنا
القادمة من تلك المدينة الصغيرة استغربت ضحكت، ضحك، ثم ضحكنا معا ..أضحك
بحزن ، زمن ألبف يطل علي من الموائد المستديرة والأشجار المخضرة كأني كنت
هنا بالأمس؟ كيف أشمع القلب بختم النسيان وأصير الماضي خيط دخان؟..في
زيارتي الأولى وصلت مع بدايات النهار، اسنوقفت طاكسي..
-مقهى باليما من
فضلك
حين ولجت المقهى كان يجلس حيث أنا الآن كنت أبحث عن مائدة شاغرة
،وكانت نظراته تتبعني بوقاحة.. يئست وهممت بالخروج لكنه دعاني للجلو س معه،
ترددت ماذا يمكن أن يقول من يراني معه ؟ليقل ما يشاء ثم أنا هنا في العاصمة
ولا أحد يعرفني، دقيقة صمت ثم ساعات من الكلام.. بدأنا بأحوال الطقس وختمنا
بأحوال القلب ..في الزيارات اللاحقة كنت أعلمه بحضوري فيجيئني يسبقه عطره
وعطر ورود يهديها لي، كل شيء كان جميلا..تنهدت وسافرت نظراتي في فضاء
المقهى، كل شيء مازال جميلا، الأشجار المخضرة ظلال أعمدة النور أغاريد
العصافير، لكني مملؤة بالضجر وشيء ما يزعجني في قلبي ..أهرب مني قليلا
فألاحظ أن عدد النساء يتساوى مع عدد الرجال ،لاشك ان ارنياد المرأة للمفهى
يبدو أمرا عاديا هنا ..بقربي رجلا وامرأة يتهماسان بحميمية ! تظرت الى
أناملهما غير متزوجين ! هكذا هي البدايات ثم يأتي صقيع النهايات ليحول
بهاءها الى هباء في اللقاء الأخير سألته :
-لماذا لانتزوج
؟
-لان الزواج
يقتل الحب !
-ولكن لايمكننا
الاستمرار هكذا !
-هذا ما علمتك
مديتنك الصغيرة؟..
- في أمور الحب
والزواج كل المدن صغيرة
أخرجني صوت النادل من شرودي كأنه مكلف باعطائي اشارة التوقف عن
السفرفي دواخلي..أجبته بلا تفكير
-فنجان قهوةمن
فضلك
-فورا مدام
مدام، تلفضت بالكلمة في دواخلي مثل من يسمعها لأول مرةوتتبعت مسقط
نظرات النادل على الخاتم الذي يربطني برجل لم يجالسني قط هنا ..رأيت الفضاء
المخضر صحراء قاحلة..واحترقت أنفاسي بلهيب شيء يزعجني في قلبي
شقة محترمة
الأطفال الذين تعودوا على إرسال الكرة نحو زجاج كل النوافذ دونما
حذر، استثنوا شقة واحدة أحدهم يصيح دائما في بداية اللعب :
-احترموا هذه الشقة فهمتم، لا نريد مشاكل مع المخزن
- احترموا هذه الشقة وابتعدوا إلى الخلف، لا نريد مشاكل
تصيح إحدى الأمهات أيضا، ويتحول الأطفال صوب بيت الحارس ، يكتفي
الحارس بالابتسام نافذته الصغيرة طار زجاجها منذ زمن ربما لهذا لا يجد
مبررا للصراخ في وجه الأطفال ، ثم ربما يفكر أن لا أهمية للزجاج مادام
ينام خلف باب العمارة ليلا ويجلس أمامها نهارا، أو ربما يفكر في أشياء أخرى
تنسيه صخبهم أو تحببه إليه...يقف في حركة مفاجئة تجعلك تتوقع انه أخيرا
سيتمرد ويصرخ في الأطفال كي يبتعدوا..لكنه يلف حول العمارات في حركة
استكشافية روتينية ويعود إلى كرسيه ..يعلو صخب الأطفال ولغوهم ويظل هو في
حالة هدوء مثير.. الذين يتتبعون حركاته الهادئة في مثل هذه المواقف يفسرون
ذلك بالبيئة القروية التي نشأ فيها، أحدهم يقول: » إن أجواء المدن تجعل
أعصابنا دائما على حافة الانفجار، أنا مثلا أتمنى أن يأتي أحد أولئك
العفاريت ويلعب الكرة قرب دكاني تدرون ماذا سأفعل ؟سأمزق كرته بأسناني هذا
في أحسن الأحوال لأني أتوقع أن أتهور أكثر وأعض أذنه..« آخر يشير إليه
ويضحك قائلا : » ماذا يمكن أن يحرس هذا ؟ جثته المشحمة يمكن أن تغري
النساء بشيء ما، أما أن تخيف اللصوص فهذا مستحيل « يعقب آخر: » دعوه يأكل
رغيف الخبز الأمن مستتب هنا، هل نسيتم أن السلطة بينا؟ « و يشير إلى الشقة
نفسها، يرى الحارس في لفتة سريعة الإصبع المشيرة فينتفض واقفا، ينظر إلى
النوافذ المفتوحة ويدرك بحدس سر لا يعرفه سواه أن السيد مازال في الداخل،
لكن الساعة تشير إلى أن موعد خروجه سيزف بعد هنيهة ..يستل من جيبه منديلا
وحين يلمح طيف السيد على السلم يسبقه صوب موقف السيارات ويمسح زجاج السيارة
الأمامي.. يظهر الرجل الصارم على العتبة ويتعمد كالمعتاد تفحص المكان لبضع
لحظات وإظهار نيا شينه، يشير إلى الحارس.. يهرع إليه.. يكلمه بينما الحارس
يصغي ويحرك رأسه بالإيجاب الذين يتابعون المشهد من بعيد يعرفون أن الحارس
سينصرف من أجل أخذ كلب السيد في نزهته اليومية ثم سيحضر ابنته من المدرسة،
ثم يغيب في الشقة لدقيقة يخرج منها قاصدا دكاكين الإقامة ويرجع إليها محملا
بالأكياس، وهم يستغربون لماذا يبدوا سعيدا وهو يقوم بكل تلك الأعمال مع
انهم يعلمون انه لا يتقاضى أية نقود نظير تلك الخدمات ! أحدهم ينهي
الحوار قائلا: »حكم القوي على الضعيف «، الحارس نفسه حين يسأل يردد هذه
الجملة ..يزداد صخب الأطفال ينصرف الذين كانوا يراقبون إلى دكاكينهم.. يخرج
الحارس الكلب من كوخه الخشبي يمر به أمام الدكاكين في حركة استعراضية
يعرف هو وحده غايتها، وعندما يصبح خارج صف العمارات يدنومن الباب الخلفي
الأيسر للقبو ويفتحه، يدخل الكلب ويتبعه، يصبح الاثنان في القبو المشترك
للعمارات يستطيع الآن أن يمشي بحرية حتى يصل إلى الباب الأمامي الأيمن الذي
يوجد مباشرة أسفل شقة السيد، سيترك الكلب في القبو ومن فتحة باب القبو
سيراقب الذين كانوا يراقبونه، وحين يتأكد من انشغالهم يتسلل إلى الشقة،
تغلق هي شبابيك النوافذ، وعندما تصبح بين أحضانه يصرخ في ابتهاج فتهمس له
محذرة يطمئنها :
-لا تخافي لا أحد يجرؤ على الاقتراب من الشقة ، والأطفال يصخبون.
|