أكداسُ البراقعِ
عجزُ اللّغةِ أمامَ الفيضِ
«أنَا ما كان، وما هو كائن، وما
سيكونُ وما من إنسانٍ بقادرٍ على رَفعِ براقعي»
من تحدّي عشتار
لسعُ الأبوابِ:
هاأنا بكلّي أمامَ شيئين صامتين، جامدين، الهيكل
والوجه.
أحملُ زيتاً وشموعاً ونيروزاً معمّداً بالنّرجس والنار،
أرحلُ بنفسٍ عاشقةٍ ومتبتّلةٍ بشهوةِ الكتابة بحبرِ الدّم على جسدِ ورقٍ وثنيٍّ
يشي بتكويني، هاأنا بكلّي.
أقتربُ من بابكِ، بعد أن حملتُ فيَّ الميّتَ والحيَّ،
ألجُ زقاقك المترفَ بالسكينةِ أمتصُّ تعبي، وكلأَ الخطوِ وقد هدّني ضلالُ
السّمت.
لكنني تعلّمتُ...
تقاطعني نظراتُك حين ترسلها إليَّ، نظرات لا أكاد أفهم
ما ترمي إليه، تسألني بتروي حكيمٍ:
ـ تعلّمتِ ماذا؟
فأجيبُ:
ـ تعلّمتُ كيف يُستنبتُ النبيذُ من وهجِ الأكوابِ.
ـ وماذا أيضاً؟
ـ وكيف يطلعُ منه عشقٌ سافرٌ يتباوحُ في دوّامة اللغة.
قلتَ:
ـ مازلتِ تتخبّطين!
ـ ولكنّي علمتُ...
ينفخُ فيكَ كلامي الأخير الحماسةَ والفضولَ لتسألَ:
ـ علمتِ ماذا؟
ـ علمتُ وأنا الظمأى أنّ الحياة إذا كانت هُنا، فلمَ
أكون هناك؟
تمدُّ راحتك إلى ذقنك تمسحُ عليها بهدوءٍ، وشيء من
الرّاحةِ يسري على محيّاك. فيلفّني صمتٌ مشوب بالرّهبةِ، وداخلي يطفحُ بالرّجاء
لأنَّ أتكسّرَ كما النسمة فوق خشب الأبواب النّافر، أمسحُ الجلدَ الشائخَ بزيت
الغمام، ألملمُ الفرقدَ والياقوت من حوافي الجنوح لنعاس يتجدّدُ فوق ضفاف
الأجفان.
قلتَ:
ـ ليكن هذا معسول قولك، بابي يا أنتِ له عدّةُ أقفال.
قلتُ بفرحٍ لا حدود له:
ـ سيّدي، عندي المفاتيح وإليكَ أسعى.
لكنّك قلتَ غير مبالٍ:
ـ احترقي في سعيك، وابني بيتاً لستِ بساكنته!.
النّص:
بالأمس التقيتُ بيديك، ساحَ كياني في تويجِ بياضهما،
حمامتين من حنانٍ ودفءٍ لا ترغبان هديلاً عند تخوفي.
ووجدتني أربتُ برفقٍ على ذوبِ كبدٍ، وأهربُ إلى مباءتي
اللّزجة أخفي ذنباً اجترأه السوسن.
صرختُ:
ـ واهاً لقلبي، كم أفعمته بالمذلات والخيبات!؟
وقلبتَ ذهبي عند بابك إلى تراب!
قلتُ لكَ ذات مرّةٍ وفي راحك يتألّق شفيف الكأس:
ـ أكون كأسك.
قلتَ:
ـ لا علاقة بين الكأس وشرب الخمر.
ـ أكون ناراً.
ـ النار قد تنضج وقد تحرق.
ـ أكون فيضاناً.
صرختَ بي:
ـ انهضي ما دامت لكِ قدم تحملك، وتأبّطي الفرارَ قبلَ
الغمرِ.
ولم أغادر مكاني، سبحان مَن جعل العنادَ زادي!
فكلّما نهرتني بصدودك، ازددتُ تعلقاً بكَ.
أتدري لماذا؟
لأنّك أضأتَ الجزءَ المظلمَ في ذاتي، فإذا بالشمس
تتراكضُ في فلواتي تسعى لبثّي نورها.
تُرى هل تقدر أن تحلَّ محلّك، وتفعل فعلك؟
حكاية:
وقف مبهوتاً، مأخوذاً أمام اللّوحة.
واللوحة تمتدُّ بُعريٍّ صاخبٍ ومقدّس.
تصنعُ من ألوانها مدى لا أفق له من زعفران توّاق
للخَدَرِ.
وامرأة فاغمة الحواس ترتمي بثقلها الأنثويّ المجنون على
صدرِ الأرضِ.
قد أفلح الرسامُ حين أبرز الخِصبَ في الهيكل المرمريّ،
وأنضحَ الوعاءَ بما فيه، فقد رسمت ريشته الدنان في حالة عطاءٍ وهبةٍ، ضاجّة
بالفيضِ، ماتعةٍ بالمدِّ، ففار العسل والحليب والرّضاب.
قال الرسام لملهمته:
ـ ثدياك بارزان!
أجابت:
ـ إنهما مستودعا الخَلقِ، فيهما عراقة الخصب أيّها
الأبله!
ـ بطنك كبيرة!
ـ هو حمل أبديٌّ، فمنّي يتدفّق اللبن معجزاً، وجسدي الذي
تراه يهبُ طفولةَ الإنسان دفئاً ومأوىً وأمناً، وليلكه لأيّام الحزانى.
حينها شعرَ الرسّامُ بنفسهِ عاجزاً أمام دفقِ كلامها،
قال بتوسّلٍ واضحٍ:
ـ هبيني ملاذاً آمناً وكوني ناووسي.
قالت:
ـ أسألك سؤالاً.
ـ لكِ ذلك.
ـ إذا دلفتَ مكاناً للمرّة الأولى، كيف تأتيه؟
قال:
ـ آتيهِ بخوفٍ ورهبةٍ.
ثمَّ؟
ـ بحبٍّ ورغبةٍ.
قالت:
ـ إذاً ابدأ بالثّاني لأكون ملاذك، والفح المسامَ بفكِّ
الرموزِ ورفع البراقعِ.
خميسٌ في أفولِ شباط:
وراءَ زجاجٍ شفيفٍ، راح ينتظرُ شلاّلَ المجيءِ.
عيناه لاهفتان وفي الصدر يرتع رجاءٌ، يملؤه لقاء يطهّره
من الرتابةِ.
المطرُ يواصلُ زحفَهُ الهامس، وهو يُنصتُ باهتمامٍ إلى
نداء الخلخالِ وصليلِ الفضّةِ.
مثل شرفةٍ ترفل بالوشوشةِ والطيوبِ جاءته.
سقته الإطلالةُ أقماراً تزخُّ ضياء فائراً بالطّهر
والغوايةِ، ومن ندى القلبِ المشتاقِ وَهَبته أكوابَ حلمٍ.
فمدَّ إليها اليدَ والروحَ، وعُمراً من غارٍ أراقه في
وجه الحضور.
زرعت يدَها في كفّه، فنبتَ قُدّاحُ التّفاح، همست:
ـ ما كنتُ أُحبُّ شباطَ!
سألَ:
ـ والآن؟
قالت: ـ باتَ يسكنني.
قال:
ـ أمطريني.
وارتديا بعضهما، ولاذا بنمنماتِ الرذاذِ، يمطرا الآتي
بأساور الشوق، ورعاف البوح، وحين أرادَ أن يُدفئَ النّارَ بالزيتِ ليسمعها
هسيسَ الجمرِ، أمخرَ طولُها في بحر الوقوف.
قال مندهشاً:
ـ كيف ولمّا يمضِ غيرُ ساعةٍ؟
ماذا أفعلُ بأكوامِ الشوقِ؟!
ردّت:
ـ ليزيدنا الحرمانُ تشظياً وجنوناً وإبداعاً.
وحين ذابت من أمامه كعمود من الملح قال في سرّه:
"أيُّ امرأةٍ جاءت!؟
أيُّ أنثى ناشدتُ!؟
أرتني أملوداً تثنّى، تمايل أمام ارتعاشي بهداياه،
وخبّأت عنّي أزاهيره!
جاءتني بكلّها، بوقدِها، ونأت عني بسائرها!
أيتها الجنيّةُ!
ألهبتِ أرضي نبتاً وتفتّقاً، وبلّلتني بالأفول، مررتِ
بي، حرّكتِ سكينتي، ألهبتِ جمري الساكن، لتصيري قصيدةً تسافرُ تحت جلدي.
أيتها المرأة!
التي نبتَ كلُّ القمحِ حولَ ضفاف سُرّتها، فأسبلتِ
السّنابلُ، وأتى الحصادُ...
لكنّها رحلت...
رحلت عنّي في أنهر العِشَاءِ.
ولاذَ الرّجل بالصمتِ والانزواء، سأل قلبه المنكسر:
"ماذا أورثتكَ؟"
أجابَ:
"أورثتني سعادةً هاربةً، لائذةً، وشوقاً وليدَ مساء".
وحين ضمّه الحزن والوحدة سأل نفسه:
"ترى يا امرأة المساء الخميسي من شباط الماطر، ما حجمُ
شوقِ المساءات اليتيمة؟".
حكاية:
سألَ متألّمٌ حكيماً:
ـ كيف أتصرّفُ بهذا القلب في آلامه وأوجاعهِ؟
أجاب الحكيمُ:
ـ اقتل الألمَ كيلا ينبتُ مثل شيطان يلذُ له القتل.
سألَ المتألّمُ بحرقةٍ:
ـ كيف؟
قال الحكيمُ:
ـ اجعله بدائعَ فَنٍّ.
سأل المتألّمُ:
ـ وإذا عجزتُ؟
قالَ الحكيمُ:
ـ أسكِنْ الصبرَ قلبك.
توصية كاتب للكاتبة:
ـ ارتادي بفنّكِ درباً وعراً، خبيثاً وداعراً.
يكون دأبَ المتلقي التجوالُ في شعابه، يطاردُ الفكرةَ
كصيادٍ للفريسةِ، يحاولُ قبضاً على الخيوطِ فلا يقدر.
أمَّا الأسلوب!!...
فدعيهِ يُراوغُ، يتعرّضُ، يهتك ويُهلك.
اجعلي قصّك حُجرةً موسيقيّةً، لكلِّ آلةٍ من الآلاتِ
عزفها، وعويلها، تناسقها، ونشازها.
تصدحُ معاً، تنفردُ بإبداعها، تقتربُ مثقلةً بالنّغمِ،
وتغيمُ مبتعدةً، عابثةً.
سألت الكاتبة:
ـ وتدنو من المُبتغى؟
أجابَ الكاتبُ:
ـ تدنو من القداسة بالشهوات، وتبتعدُ عن الوصلِ
بالدناسة.
سألت الكاتبة:
ـ وتصلُ إلى المتلقي؟
ـ تمشي به من حيث لا يصل، يرشُّ نظرَهُ فوقَ صَوّانِ
جسدٍ طالما سحره.
تقول له: اقترب من لعنة النضارةِ والعصرنةِ، ولا تزال
تمنعه من حيث لا تردّهُ، حلمُ شجرةِ الغَرب بملامسة ماءِ الفراتِ.
سألت الكاتبة:
ـ وترويه!!
أجاب الكاتب ضاحكاً:
ـ ويلٌ لـه إن دنا، عطشٌ يلهجُ به، تقرّ به من الموردِ،
وتسفح الركضَ في خطوِها وسرابها، وعلى بطاحِ المفازاتِ يقرُّ المتلقّي
بالفَهمِ، وهو منطوٍ على الحَيرةِ بعدَ لحظاتٍ من لعقِ الشهدِ.
سألت الكاتبة:
ـ كيف أدخلُ الحرمَ؟
قالَ:
ـ بعشقٍ وجنونٍ وانتهاك.
صرخت الكاتبة:
ـ أيّها الجنونُ بعضاً من جنونك.
أردفَ الكاتبُ بزهو المعلّمِ:
ـ اجعلي فنّ القصِّ عندك جديلةً محبوكةً، متداخلةً
ومتماجنةً.
سألت الكاتبةٌ بخبثٍ:
ـ هل يُريني الإناءَ الأحمرَ، الماءَ فيه محمّراً؟
أجابَ وقد بلّلَ الشفةَ بريقه، وراحَ يتطلّعُ حواليه
كلصٍّ يتفقّدُ المكان، ثمَّ قال في نفسه:
ـ "يا للّعينة!".
بعدئذٍ ارتدى زيَّ الواعظِ وأجابها:
ـ الماء في نفسه لا حمرةَ فيه.
وحينما دلقَ الإجابةَ في أُذنها، ما كان من الكاتب
المتمكّنِ إلا أن حملَ الكأسَ المترعةَ بالنّبيذِ، وقرّبها من شفتيه
اليابستين.
وأخذَ ينظر إليها، ثمَّ وطِئَ الصمتَ والتأملَ، فطلعت في
خيالهِ من الشفيفِ المدنَّسِ الورديِّ أُنثاه.
أنثى رقيّة، لخصرها لين الفرات، ولصدرها طعم التّفاح
النّاضج، ورائحة الخبز في التنانير المسجرة.
أنثى، تسقي الخمرةَ من اللمى، لها عنق يهتفُ بالبضاضةِ
وهمسِ الصلصالِ، وبوح العرار في الشعر، فأضمرَ تقبيلَ نرجس الترقوة المزغّب،
والتجديفَ نحو حرير الشهوةِ، وكفراشةٍ نشوى رمى بكأسهِ، بكلّه أمام الحُسن
النيروزي الطّاغي. وطأطأ الرأسَ وقال:
ـ لا طاغية إلا بذليل، وهذا الجسد طاغية، فاترك للنشوى
أن تصنعَ ذهباً له.
قال الرسّامُ:
ـ سأرفعُ براقعكِ واحداً تلو الآخر، وأكشفُ عن الوجه
الأخّاذِ وألثمُ معسولَ الرّيقِ ولكن!
سألت:
ـ ولكن ماذا؟
قال:
ـ هذا المتنافرُ طاشَ العقلُ منه، وخرجَ عن قانونه.
فكيف أشذّب جنونَ الرّجلِ في داخلي؟
قالت:
ـ اسمع الحكايةَ قبل أن توغل في مراحلِ أخرى، أنأى من
ذلك:
"كان هناك تمثالُ امرأةٍ في معبد.
امرأة تلدُ من ضوءِ القمرِ، وتشعُّ بهاءً فضيّاً.
أحبّها شابٌ، فأرادها لنَفسه.
لكنّ برقعاً حجبه عنها، وعن متعةِ الرشفِ، فمدَّ يده،
وأزاحَ البرقعَ، فأصابه الخبالُ ممَّا رأى.
وانعقدَ لسانُه بقيّة حياته، فقرّرت المرأةُ ذاتها أن
تذيقَ كلَّ مَن جرؤَ على أن يفعلَ فعله، كأساَ دهاقاً مصبّرةً تمرمرُ روحه".
ارتجفَ الرسّامُ، وسألَ متلعثماً:
ـ كيف نتوازى؟
أجابت:
ـ هيهات أن يلتقي النيِّران!
قال:
ـ أريدُ أن يسفحني ضياءُ الوجهِ.
قالت:
ـ يمكن، شرط أن ترفعَ براقعي.
تحيَّر الرسّامُ ثمَّ قالَ:
ـ كم عددها؟
أجابت:
ـ لا تفكّر في العدد بل في الطريقةِ.
صمتَ وأطرقَ يفكّر، ثمَّ ركبَ لونَ الغيابِ واختفى.
تبتّلات:
ـ امرأةُ اليمامِ المضوّأةُ بالجنونِ والقادمِ.
كيف أراوغُ الشمسَ والمطرَ والصقيعَ، وأنتِ على عرشِ
النداءِ؟.
زلزلَ الركضُ، والسعي إليكِ تحتيَ المواطئَ، ولُهّابُ
الحَرِّ شقّقَ الجلدَ، وحبكِ أحرقَ القلبَ، فأيُّ عبدٍ أسود، فاحمٍ أنا؟!
ردّت:
ـ يقولون: "إن الحبَّ يُعطي اليدَ البيضاء للرجلِ
الأسود".
قال:
ـ أقسمُ، لو لم يكن وجهك أخّاذاً خلفَ براقعك، ما سفحتُ
دمي بذلٍّ لأبلغه!
قالت:
ـ كيف عرفتَ بجمالهِ، ولم تره؟
ـ صوتكِ يأتيني بكلِّ لغاتِ الجمال، يتهادى من وعاءٍ
يتمطّى باللَّهبِ والقطنِ.
ـ طوبى لمن يدخل دوّامةَ اللّغات، ويلامس حريرَ الخدِّ
ولا يضيع.
لغات:
بعد أن ركبَ الرسّامُ الغيابَ، عادَ بعدَ زمنٍ.
قالت المرأةُ بمكر الأنثى:
ـ أصبحتَ أجمل، وأنتَ تمتطي صهوةَ الغيابِ.
بينما راحَ الرّسامُ يفكّرُ بأيّة لغةٍ يدلفُ إلى بهاءِ
اللوحة ـ الوجه، الجسد ـ لتنكشفَ الأسرارُ، وتكشفَ الأستارُ.
لملمَ الفكرَ، والقلبَ المتشظّي، وسأل روحَهُ:
"بأية لغة؟!".
كلّ لغات العالم لا تفي، أحتاجها لغةً تُخلَقُ اللحظة،
تلبسُ حالتي الآنيةَ.
لغة ألوانها شفّافة، تتسعُ لعشقي، ولَوَثي، تتراكضُ في
دمي سربَ زرازير،
تدكُّ أقبيةَ الشريان، وتسردُ الأبجديات.
توصية الكاتبة للكاتب:
ـ اقرأني جيّداً أيّها الأُميُّ الأسطوريُّ، وحاول أن
تتهجّى حروفي، كما تتهجّى يداكَ صبرَ العروقِ الخضرِ في اليراعِ الواهبِ.
وصَلبت نفسَها فوقَ حِرزِ القصّةِ وقرأت تمائمَ الجنون
وقالت:
"أيّتها القصة الحرون...
فوقك أسردُ هذياني، وعليك أعرضُ حماقاتي، وشذوذَ الحرفِ
النّافرِ، وشدوَ الجرحِ الغافي، وأعصرُ خموري، ومُزني، وبُروقي نزفاً غنائياً
يرحَلُ للآخر، وأجرُّ حلماً مُنَروَزَاً بالطلاسمِ والفيروزِ والغَمَامِ.
وفي نهاية المطافِ لا أجدُ إلاكِ دواءً لداءاتي، فأنتِ
كلُّ أشفيتي، وأنتِ كلُّ دائي".
لغة القصِّ:
قال الكاتبُ:
ـ مُري بالفكرةِ ولا تصدميها، حوّمي حولها ولا
تُلاقيها.
أبطلي نواميسها المألوفةَ، واسبقي الحرفَ تمدّداً على
خشبةِ الصّلبِ، ونزفِ الغناءِ.
قالت الكاتبة:
ـ وماذا يقالُ عن ذلك؟
ردَّ الكاتبُ:
ـ أنها خرقت العادة.
قالت الكاتبةُ:
ـ أكمل لحنك بنغمةٍ، أعني أضئني بِمَثَلٍ.
قال الكاتبُ:
ـ النّارُ، تشتعلُ لتحرقَ، فإن وُضِعَ فيها ما لا يحترق
أبطل نواميسها، وغلبَ عليها.
سألت الكاتبةُ:
ـ واللغة الممتطاةُ؟
ـ لتكن عيناً فوّارةً تدلقُ بالماء الزُلالِ، ومتى فارت
استولدت من كلِّ لفظةٍ، لفظةً أخرى تنشقُّ عن أختها فتمتدُّ وتتناسخُ حتى
تغتسلين بها، أو تغتسلَ بك، فتُستضاءُ الطرقُ وتألفينَ الضوء.
لغة العجزِ:
تلمّظَ الرسّامُ بالحيرةِ والعجزِ أمامَ ذات البراقعِ.
شعرَ بإدبارٍ يزحف إلى الرغائب المُعَنّبةِ، وما كان منه
إلا أن روى حكايته أمام الخِمارِ المقدّس بلغة لحظته.
قال:
"كان هناك يا سيدتي رجلٌ يدعى "هرقل" قتل التنّين ذا
الرؤوس السّبعة، ومرّغَ أنفَ صاحبته بالتراب حين فاجأها بالقبضِ على أيلها
البري الغالي، وانتصرَ عليها انتصاراً مؤزّراً، كلّ ذلك لأنّها.....".
قاطعته المرأة وبدأت بحكايتها بينما كان هو في حالة
ذهول:
"كان يا ما كان....
كان هناك امرأة. أسمعتَ يا هذا. امرأة!
حينما أحبّت رجلها وتزوّجته، نبضت بذرةُ الحياة تحت
قلبها الحلو النّابضِ فترةً، وما إن دفعت بها إلى الخارجِ حتى غدت أمّاً دفعةً
واحدةً، وإلى الأبد".
ردّ الرجلُ بحكايةٍ جديدةٍ:
قال: "كان يا ما كان...
رجالٌ أقوياءٌ، اتّفقوا على أمرٍ واحدٍ، هو التخلّص من
النساء، فقتلوهنّ جميعاً، ولكنهم أبقوا على بناتٍ صغيراتٍ كنّ في المهد،
واستلموا حينئذٍ زمام الألوهة، ولقّنوا البنات عند نطقهنّ ما يريدون، ودرّبوهن
على الطّاعةِ والخضوع، وحينما كبرن تزوجوهن و.....".
واحتدّت المرأة، فقاطعته بحدّةٍ وقالت بعصبيّة لا
تحدُّ:
" كان يا ما كان.....
كان هناك رسّامٌ، يستوحي رسوماته من غوابر الأزمان،
وكانت المرأةُ موضوعه المحبّب والفريد، أخذ يصوّرها ـ كما كانت سابقاً ـ في
أبهى أوضاعها، فتارةً يرسمها سيّدةَ قصرٍ، وتارةً إلهةً، أو أميرةً، أو ملكةً
راكبةً العربة، تجرّها جيادٌ تسابقُ الريحَ.
وكان يصوّر الرجل ـ كما كان أيضاً، وهنا نظرت المرأة إلى
الرسّام نظرةَ خبثٍ ودهاءٍ ـ جندياً أو موسيقياً، أو حاصدَ زرعٍ، أو خادماً، أو
ساقياً يحمل الأكوابَ و.....".
قاطعها الرّجلُ الرسّام متوسِّلاً:
ـ يستر عرضك لا تنقّبي أكثر، اسمعي حكايتي:
"كان يا ما كان.....
امرأة ضاقت بما حَمَلت من جمال وحُسن وأسرار جسدٍ
ربّاني،
حارَ الرّجل بما يفعل لتكون له، فحمَل حاله وجاء سكّيراً
وقال له:
ـ يا مولاي، يا نديم الكأسِ، سكنتني امرأةٌ!
قال السكر له:
ـ اجعلها كأسك.
فيا امرأة الخمورِ المعتّقة، هَلا كنتِ كأسي؟
عندها لانت المرأةُ قليلاً،
وتوشّى الوجهُ بالهدوء والرضى، وصُبِغَ الكيان المتّقدُ
بالتراخي والمسكنة.
اقترب الرّجلُ منها على حَذَرٍ وهمسَ:
ـ أريدُكِ.
ـ اخلع عنّي أكداسَ البراقع.
ـ عُدنا؟!
قالت:
ـ لا مناص.
ـ وغير ذلك؟
أجابت:
ـ نتقايض.
فَرِحَ وصَرَخَ:
ـ بماذا؟
أجابت:
أنتَ ترفعُ برقعاً، وأنا أضعُ حلقةً حول رقبتك.
صاحَ دون تفكيرٍ:
ـ موافق، موافق.
وحينما امتدّت يمناهُ، ورفعت أحد براقعها، حملت المرأةُ
طوقاً معدنيّاً ووضعته في رقبته.
ثمَّ راح ينزعُ بُرقعاً، بينما تضعُ هي طوقاً.
ينزعُ بُرقعاً، وتضعُ طوقاً.
ينزعُ... وتضع...
حتى جاء البرقعَ الأخير، امتدّت كفّاه، برجفة ورهبة
إليه، ونزعتاه دفعة واحدة، فسطعَ الجمالُ بفوضويّةٍ يُعنبرُ الأمداء، راح يضوّي
أخّاذاً، معربداً، يُدينه بالوصل، ويَقصيه بالأمل، يجتازه، وينساه وهو خالدٌ
فيه أبداً.
رأى الرّجلُ ذلك، فأخذه الخبالُ، وراحَ يقفزُ ويهذي،
فمرّةً يطيرُ، ومرّةً يقفُ، مرّةً يضحكُ وأخرى يرقصُ، وكانت رقبته قد استطالت
قرابةَ ذراعٍ، تحسّسَ الأطواقَ المتعدّدة، وقال مُحتضناً المرأة الشّامخة:
ـ إلى متى هذه الأطواق؟
أجابت:
ـ انتظر، لا توقظ نعاسَ الأنفاسِ، سأحطمها وأحرّرك.
سكنَ الرجلُ بين يديها، هادئاً، وديعاً، ومتفائلاً، وهي
تحطّمُ الأطواقَ.
وحينما انتزعتها، تدلّت الرقبةُ على الكتفِ، وطقّت
فقراتُها، فسقطَ الرجلُ ميّتاً شهيدَ أكداس البراقعِ.
لغةُ الهديلِ الأخير:
قالت الكاتبة للكاتب:
ـ حمائم روحي تجذبها قعقعةٌ في الجوِّ...
أترى هذا الصوت، صوتُ سلسلةٍ تبغي التفافاً حول رقابها،
أم حديداً يتكسّر أمام لغةِ الهديلِ؟!
انتظرت الإجابةَ طويلاً منه...
عويلُ خيبةٍ يلوحُ على الوجهِ النّاضبِ، بدا يكابدُ
شيئاً يُشبه الألمَ، تركَ نفسه يسقطُ على كتفِ الصمتِ. عندها أيقنتِ الكاتبةُ
أن بقيّة القصّة مع القُصّاصِ.
أُفول شباط 2001.
أورورا ربة الفجر
"ومن عربتها، حيث يجلس إلى جانبها،
ترسل ربّة الفجر أصابعها الوردية،
وترسل النور إلى الآلهة والبشر..."
الإلياذة
بداية:
أنتِ بابل وقد شمخت على باب "إبسو" حين كان في البدء
ماء، ولا شيء سواه.
هذا السّديم السّافر، يهيمن بفضّته الجارحة وأنتِ وسط
الكون، مشرّعةً على كل الجهات،
تشرئبين شجرةً كونيةً ترمُقُ دروباً ثلاثاً، تتفتح
أمامها، فإلى أين تأخذني دروبك.
* * *
تواطؤ:
قد اصطفيتكَ دون الآخرين.
لتنزل مائي، متخلياً عن ردائك القديم، عارياً تلامس
البرودة، لا أحد غيري يراك، فلا تشعر بالخجل،
ها إني أراك تحمل في نفسك صورة ذلك الرجل العتيق الذي
كان عارياً في الفردوس قبل الخطيئة..
اغمر جسدك،
أدخل رأسك في الماء،
احسبه رمساً،
البشريُّ الذي فيك سيموت، سينطفئ،
لينتفض إله،
غصْ أكثر إلى العمق،
الآن اطفُ، اخرج، قد انبعثت كما أشتهي، مرصّعاً بالخصبِ،
خالياً مما أمقتُ،
كن الآن لي،
أيها الإله، لأدونك عاشقاً ومبدعاً، ومجنوناً...
خذ دربك إلى السماء، تعال..
تعال واجلس بجانبي،
الإله الذي صرته أودُّ لو يجالسني، فيرى كيف ينفلق النور
رويداً رويدا من الظلمة.
ها أنا أومئ بأصابعي ليكون ذلك.
رفعت أورورا أصابعها الوردية كساحرةٍ، فانبعث النور من
أطرافها واستضاء كل من في الكون.
دُهِشَ الرجل ـــ الإله، هتف:
ـــ أتمنى لو كنتُ رساماً لأؤبدَ اللحظة، وأهرق دهشتي
نظراً إليها كل حين.
ـــ لكَ ذلك ما دمتَ إلهاً.
وراح الإله الجديد يأمر الألوان فتأتيه على أجنحة
الهواء، تلهث كمطرٍ بين يديه، يقف عند أبواب الفجر ليقتنص شفقاً يولد، فكانت
أورورا في الشفق، حضوراً لـه دهاء الجمال.
* * *
جمرة النص:
قالت ربة الفجر:
ـــ أجمع الأرباب على أن أكون ربة الفجر حسب الحاجة إلى
ذلك، وقد تمنيت لو أكون ربة الرائحة، أو ربة النص.
هتف الإله الجديد ملتذاً بقربها المضيء، ورائحتها
الغاوية، مسلّماً بسطوتها:
ـــ أنتِ ربة الرائحة.
ـــ أهبك عطري.
ثم أمسكت بالقلم وراحت تدوّن فكرةً على سحاب أبيض شفيف،
فتشوّق الإله لمعرفة ما تكتب، أخذ يراقب أصابعها وهي تدفع ببارقة القلم.
لم تكن لتلك الأصابع الورديّة مهمة وحيدة تنحصر في إبعاث
النور من أطرافها إلى كل شيء في الكون ليتمتع ويسبح بالضوء الفضي، بل كانت
تنسال منها نصوصٌ تمتاز بعبقٍ خاص لا يمكن أن يحظى بشرف قراءتها إلا الخاصة،
عكس ذلك النور الذي تنتشي به الكائنات والجمادات على حد سواء.
وحين أتمّت الكتابة، رتّبت السحب فوق بعضها كصفحات دفتر،
ثم فرشت عباءةَ صمتها تتأمل أفق المدى الأزرق، فتمنى الإله رصد عين النص
الفوّاحة بالعطر.
فقال بتوددِ عاشقٍ قديم يركضُ البوحُ في حنجرته:
ـــ أقرئيني ما كتبتِ.
ـــ شرط أن تؤوّلَ الآلهة وتتقرّى ما خلف اللغة.
ـــ أفعل.
ـــ لكَ نصّي.
طائعة انفرشت السحب أمام ناظريه، ساطعاً انبلج النص،
عييّاً وقف أمامه للوهلة الأولى، ثمَّ ترامحت الجمل ونزفت الحروف أقماراً من
الرؤى، ابتدأ القراءة بعينيه، كلمةً، وحين وصل السطر الأخير بُهِتَ، كأنما دخل
في بياضٍ سافرٍ وما عليه سوى أن يقف مبهوتاً، حائراً أراد أن يقول:
ـــ أنتِ ربة النص.
لكنه خرس، لم يستطع النطق فقد غاصّ الكلام في حنجرته شعر
بقلق كبير وهيجان وتوتر، ومن بعض مسامه انطلق طينٌ بريٌ، فازداد جنوناً،
والسماء المشرعة أمامه قد ضاقت عما هو فيه.
فهل من جسور تمتدُّ إلى الأرض؟.
حُكمٌ عرفيٌّ:
كُن بشراً،
بعدَ أن كنتَ إلهاً ترتعُ في السماءِ،
هكذا جاءت النهاياتُ قِصاصاً لأنك خنتَ التأويل،
وقد خلناك سيدَ التأويل، تسوسُ غيماً في فضاء فاترك
العرشَ واهبطْ،
هذا جزاء من ادّعى ما ليس فيه.
* * *
اعتراف ربّة عاشقة:
نصّبوني ربّة الفجر،
ولم يخطر ببالي قط أن أرقَب الفجرَ شغفاً لأرى نجمة
الصبح الوحيدة، تتبختر، وقد رسمها "دوبيني" المجنون فأودعها كل ما في الكون
الأعلى من سكينةٍ فضيةٍ. كيف أنتظرُ سطوعي؟
ليس عليَّ الانتظار...
على المتربصّ بشروقي أن ينتظر بإحساسِ الضئيل الذي يقف
على سطح الأرض متأملاً، خاشعاً، يرقب قدومي إليه ثم يصطاد اللحظة المقدسة
ليؤرّخها باللون، أو الكلمة، أو النغمة، أو النبضة، أو المرمر.
تُرى كم من لحظاتٍ قلقٍ عاشها؟
وكم شعرَ بانكسارٍ في القلب وهو يحدّق محموماً
بالانتظار؟
انتظرْ..
فها إنني سألمعُ أمام عينيكَ بعد أن برقتُ في قلبك.
أنبئيني الآن يا لوحته، يا نصه، يا موسيقاه، يا منحوتته،
يا.....
هل قبضَ على بروقي؟
كم تشهّيتُ لـه أن يراوغ أكثر في الصبر، يتقن فن
المناورة في الصيد، يخاتل الانبهار أمام أكوام الطرائد التي ستأتي، ليقبض على
لوامعي، ثم طوالعي، لكنّه انفلت من رغائبي كالمهبول الذي يعلك برقاعه!
وتسألين يا لوحته!
يا نصّه!
يا نوطته!
يا منحوتته!
يا.....
ما الفرق بين هذه ا لمصطلحات؟
إليكِ يا من تنتظرُ مثله ندى سطوعي: اللوامع: تبقى وقتين
وثلاثة حائرة بينَ كشفٍ وستر، نور نهار وجيوش ليل، روحٌ ونوحٌ.
أما الطوالع: فهي ما يلي ذلك، مرحلة ثالثة بعد البروق،
واللوامع تأتي سلطانة تدوم مكثاً، تلتهم حتى الغدق الأثيري، وتنير حتى تنعدم
العتمة ويأتي البياضُ ولا شيء سواه.
حينها اجتمعت السائلاتُ تحت قدمي الربة، وبصمتٍ جنائزيٍّ
يليقُ بحزنٍ كبيرٍ، نطقن:
"أيتها الربّة العاشقة:
هذا المهبول، لم يعدْ يليقُ بنا، فاسمحي أن نختار
نهايتنا عند عتبتك".
قلن ذلك وأحنين رؤوسهن، ثم مارسن انتحاراً خاشعاً، فملأ
نجيعهن أصابعَ الرّبةِ، وقتها عرفت الربّةُ الدموعَ، بكت ألماً، وراح الله
يُحصي قطراتِ دموعِها.
* * *
حكاية:
تعلّق قلبُ مريدٍ بامرأةٍ.
فانتظر أن تفتح أمام خطواته الدروبُ ليعرف أيّاً منها
يلج.
انتظر طويلاً، ولم يكن هناك من شيخٍ يدلّه، فبكى بحرقةٍ
فجاءه الجوابُ صدىً رددَ:
ـــ ارحل فالسفر عليك حلال، وتحوّل من هذا الموضع.
حمل المريدُ أساه وانطلق...
كانت الرّيحُ تصفّرُ، والبردُ طاعنٌ، وقلبه ينتفضُ، لم
يستطع أن ينظرَ خلفه كيلا يضعف أمام رجاءاتِ قلبه النازف، التزم الصمت كمن في
الحضرة، تملأ عينيه العبرةُ.
ومضى.....
وفي نهاية الطريق فاضت به الرأفةُ، فتفقدَ قلباً ما عاد
يسمع لـه صوتاً، كأنّ دقاته خرست فطلبه بالتياع فلم يجده، حينها وصله صوت مختلط
بعويلِ الريحِ يقولُ:
ـــ يا أيّها الراحلُ الذي توقفَ، ما لك تطلبُ غيرنا؟
احرث.
قال المريد:
ـــ أحرث ماذا؟
ـــ احرث وجهَ الريحِ.
ـــ الريحُ تمنعُ زرعي.
قال الصوت:
ـــ أفلا تعقل إن الله قال: (إن شئتُ زرعتُ بالماء. وإن
شئتُ زرعت بالريحِ، وإن شئتُ زرعت بالبذر(
تفكّر المريد وأخذَ يخبُّ في وجهِ الريحِ، ينوي حرثاً،
وأي زرعٍ تنبته الرّيحُ؟
وهل من حصادٍ لا يتقن البعثرة؟!
* * *
خمرة النص:
قلما يحدث أن تجد ما يشبهه،
رجلٌ مثقلٌ بموهبته، بإمكانه أن يجرَّ البحرَ إلى
الصحراء، ويجعلَ وكناتِ الطيرِ في عمقه، أو في صدرِ أنثى، ويصبغَ حتى الهواء
باللون الذي يشاء، بإمكانه وبكلِّ يسرٍ أن يُكملَ ما عجزتْ عنه الطبيعةُ عند
إتمامه.
بحرثِه المعجّزِ على القماشِ الأبله، نورجه الريشة،
وبذوره الفكرة واللون، فكان هذا بلاؤه على العالمين.
وقد ملّ كثرةَ البلاءاتِ التي يقترفُها لأجل البشرية،
فأراد دواءً ناجعاً لأجل نفسه فقد تيقّظ حلمٌ كبيرٌ فيه، جمرةً من تحت رمادٍ
باهتٍ، أرادتْ أن تشهقَ شهقةَ القيامةِ والانبعاثِ.
حلمٌ بحجمِ جنونٍ قرمزيّ جارفٍ، توهمه بحجم قلبه، أو
كفه، أو على الأغلب بحجم رقعة القماش التي يفرشها على النّاصية الخشبيّة، مهما
كَبُرتْ فلن تكون إلا بحجم جدار. حلم مجنون يُختَصَرُ بنظرةٍ يتيمةٍ لتشعِلَ
مطرهَ.
فكّر ملياً كيف يُلقي بنظرتِه تلك إلى أراضٍ غاباتها
الأولى شجر عرعر وصنوبريات ليغتني قلبه بالرّائحةِ البكرِ كما أصابعه.
قلّما يحدث أن تجدّ رجلاً يقفُ مكتوفاً صامتاً أمامَ
أُبهةِ أميرةٍ تسيرُ على رؤوس أصابعِ قدميها، ترسف بأذيال ثوب أرجواني هفهاف
لـه ذؤابات ذهبية اللون ترجمُ الأعينَ بقداستها المغويّة، تمضي حيث محفّتها
البلورية لتحمل على الأكف، فتبدو كإبريق مزخرفٍ يغوي حتى الشياطين بالوضوء.
امرأة يقحمك جمالُها في تهورٍ مباشرٍ، أو جنونِ لاحقٍ.
قلما يحدث أن تجدَ رجلاً تفور ذاكرتُه بآتٍ مترفٍ،
وترشُّ أنامله بالخارق يدفع عمره ثمناً لنظرةٍ يصوّبها إلى جسد امرأة مجوسية،
يشتعل أوّارها بينما يوجد في عينيها نعاسُ عاشقةٍ متأبيةٍ، ومع كل مخيلته
الفيّاضة يفشل في إيجاد طريقة تودي إلى بلوغ عرّيها المُشتهى.
فحدثَ أن تربّصَ مرةً،
كذئبٍ لولوجِ هذا الممتنع، خاتلَ عاصفةً ثلجيةً وراحَ
يتعقبُ رائحةَ طريدةٍ تاهت أمام الصمتِ الأبيض، ولم يستطع أن يجرّها إلى
مخالبه، فكرّس موهبته وأهرق قدراته أزماناً ليجدَ طريقةً موفقةً...
أخيراً اهتدى هذا الضال إلى بحيرةِ الدهشةِ، رسمَ ناراً
على قماشٍ رهيفٍ وكخيطٍ أُرجوانيٍّ، اندسَّ في القماش الذي فُصِّلَ رداءً
جميلاً يلتفُّ على مواقدها العصيّة، وحين تلبّسها ولامس ضياءَ عُريّها، ورأى ما
رأى، لم يستطع أن يلجم دهشتهُ، فصرخ لفرط فتنةٍ:
ـــ ياه! يا للجمال!.
وانفلت لسانه من عقاله، ينفثً سيلَ هيجانه، صُعِقَ كأنه
اكتشفَ للتو شركاً منصوباً لـه عن عمد.
فضح نفسه منذ اللحظة الأولى لحصادٍ نالَ من صبرهِ، فلم
يستطع أن يحدَّ من هباله أمامَ وفرته، لقد رأى بأمّ عينه رعافَ الكرزِ على
خاصرةٍ وضيئةٍ، يُناغيه قمرٌ بنفسجيٌّ على ضفّةِ نهدٍ.
ـــ يا إله الخمرة، يا باخوس!
أوقف جنوني هذا، ولتمزقني الباخيات، نساؤك المجنونات،
ويهيئنني لوليمةٍ دمويةٍ، فلم أعد أحتمل غبطةَ الفرحِ.
وكالتماع برقٍ في سواد سماءٍ رمشت عينا المرأة، تنبهت
لخدعةِ التسلل، وما كان منها أن خلعت الرداء وألقت به في النار، واهبةً عريها
لكلِّ من يرغب في التأويلِ، وراحت النارُ تلتهمُ النارَ.
قلما يحدث أن تجد ربةً مجوسيّةً تعاقب رجلاً تشهى
نيرانها، فدوّنت نهايتَه حريقاً ليؤول رماداً، هي التي تبحث أبداً عن وثنيٍّ
يرقص حولَ ألسنةِ سعيرها ثم تقتسمُ معه زمنَ الاحتفاءات القرمزية.
أتُراها فعلت ذلك لتطهّره بهذا العماد، فيعيد الشبه
بالآلهة؟
* * *
دربٌ إلى الأرض:
قد علوتَ بأمرِ الآلهة،
وبأمرِ الآلهة تعودُ بشراً،
عُدْ....
فالنور ضاق ذرعاً بالطين.
اهبط ومرْ بحبرها وبياضِها ودمِها، علّكَ تدخلُ رحمَ
التأويل، نطفةً لتمارسَ دورتك وتتكون جنيناً، اهبط لن تُسْعَدَ كآدم حين أهبطه
الله في الهند عند وادي "بهيل" حيث الأمان يعلوه "الدهنج" بقمّتيه، جملاً
بسنامين، تعبق بالمكان رائحةُ المندل، تنشرُ أعوادَه كأنها الوحيدة المستعدة
لاستقباله فَوْحاً.
لن تكون آدم الشامخ بطوله، فيحتفى بهبوطه، سيكون حجمك
بسيطاً للغاية، حجم ذرة ضالّة أُتيح لها فرصة التحسر والندم إن هي مرّت
بالأقانيم الثلاثة، أجِّلْ بكاءك الآن، فالعرش قد ضاع،
ولا تندب كالنساء.
الأقنوم الأول "الحبر"
دونته عاشقاً، وملهماً، ومجنوناً أثيراً على حبرها،
أما الآن فحان الوقتُ لتدونه أحمقاً كما شاء لها أن
تنعَت كلَّ من يصارع الرّبات،
هذا الأحمق الذي عوّلَ كثيراً على ألوهيته الممنوحة،
غافلاً عن أنّ ما أعطي قد يؤخذ.
حبرها!
ذو اللون الأسود كم يُعلن حداده الآن؟!
وقد أشهرَ فيما مضى المكانة التي نالها إذ جاور "زحل" في
عليائه وحين استغرق في الخيلاء والتعالي، أصابه هبالٌ فأغرق اتلانتس بنجمٍ
أرسله.
وصار زحل في جزئه الذي تنكر،
يا زحل يا كوكب الشر ماذا فعلت؟
* * *
الأقنوم الثاني "البياض":
من الآن،
فصاعداً،
فأبداً،
لن يندبك أحد سوى بياضها.
كلما صهل بغيرك، تذكر طقس تعذيبك، وحلّق بك في الجو
عنقاء مغرب، أو تدري ما معنى ذلك.؟
لو أنك ما زلت في نسيج بياضها لكنتَ عرفتَ أن العربَ إذا
قالت ذلك فإنها تدعو بالهلاك أو البطلان.
ولكنك في عرف الجاهلية قتلتَ لها قتيلاً فوق بياضها
المشرع أمامك لفرط ذهولها نسيتْ أن تثأر له، فخرجت الروح من هامته بشكل طائرٍ
تصيح اسقوني، اسقوني.
وها إنها تنوي أن تسقيه، لتهدأ الروح وتزول الهامة.
ومن الآن،
.........
فأبدأ،
لا أحد يندبك سوى بياضها الذي استضافك، فنصبتَ خيامكَ.
يا أيها البدوي في مداه.
وراح البياضُ يشرحك.
ويكفي أن يشرحَك بياضُها، لتطلَّ على بوابةِ الخلودِ
الذي كفرتَ به،
فَلِجْ الأسطورةَ، الرحمَ السريَّ، علّك تستخرجُ معنى
الولادةِ من جديد.
* * *
الأقنوم الثالث "الدّم":
حدّث ولا حرج عن عناقيدِ دمها،
كم قُرِعَتْ أجراسُ الدّمِ احتفاءً بكَ ـــ هباءٌ قرعُ
الأجراس من بعد الاحتفاء بك هباء ـــ قد بُحّت حنجرتّها وما عادت تشتاقُ
رنينّها، نفدَ منها كما ينفد الجسدُ من بقايا عطرٍ، ورأت أن الصمتَ أشهرُ
الأسلحةِ أمام الصدمة الكبرى.
أجراسُ دمها فادحةُ الحساسيةِ غير حبرها، وبياضها!
كم رقصتَ على صوتِ الرنينِ يا شيفا؟
يا أيها الجميلُ الذي لا ملامح في وجههِ تستحقُ أن تُذكر
الآن،
كان رقصُكَ رائعاً،
ملعوناً كلونِ دمها،
بضرباتِ قدميكَ تضبطُ إيقاعاً لا يُنسى.
غرَّك ذلك، ولم تستوعبْ أكوامَ الدهشةِ، فأردْتَ الدمارَ
لكلِّ شيءٍ معلّلاً بولادةٍ جديدةٍ، بامرأةٍ أخرى يُحييك حبرُها، قالت لكَ
بثقةٍ:
ـــ مهما بحثتَ عن امرأةِ الحبرِ، فلن ترقى مستوى ربّة.
ومع ذلك فإن هذه التي تبحث عنها تستحقُّ.
ندمت على اعترافك، تلوّن كلامُكَ بلونٍ آخر، يا سيد
اللون، قلتَ لتذرو الربّة التي أنتَ في حضرتها ذروراً خفيفاً من الغبرة.
ـــ سأختار أدنى امرأة تعقد صفقاتٍ مع الحبر، فأرفعها
إلى مستوى.......
استوعبت الربة غرقك،
ها أنت تسقي بنفسك الهامة العطشى، التي خرجتْ من رأسِ
القتيلِ وتناشدْ ثأراً، ابتسمتْ وقالتْ بهدوءٍ ووقارٍ:
ـــ تستحقّك.
صمتت ثم أردفت:
ـــ وأنت تستحقها.
ولأنك شيفا الذي انطمر في مسّ الجنون، رحتَ تسحقُ تحتَ
قدميكَ في نشوةٍ فريدةٍ كلَّ شيء.
فلتكن رقصتك الأخيرة شيفا على رنين أجراسها، فبذرةُ
الحبِّ عندها في عمقِ نصّها.
هي ربة النص قبل أن تكون ربة الفجر،
ارقصْ،
واضبط بقدميكَ إيقاعَ الانحدارِ، فكلُّ الوديانِ ترحّب
بسقوطك.
ستارة مرمرية:
يومُها معه ثوى،
وباتَ أمساً،
يا أمساً رشحتْ لـه حبرَها الغاوي لكل تأريخ ليكتبه،
سيئَ الحظِّ كان،
ما إن دخلَ هيكل (ن) والتاث بحبرِ الدواةِ، حتى خرجَ
مطروداً،
فليخبرها عن الجنّةِ التي عاشها لوقتٍ محدّد، فأسطرته
بصفحاتٍ معينةٍ،
كم كان جميلاً ذلك الوقت الذي يُدعى المساء، تومئ لـه
بنبضِ حريقها، فيشتعلُ هاتفُها رنيناً، وينداحُ الكلامُ لا أحلى، كما لو بين
عاشقين مُترفين بالأقمار.
مبدعينَ لا أروع،
موحيين لا أبدع،
ـــ يا فادحة الإلهام!
كان يقولها كلما عادّ بعد غيابٍ، مبلّلاّ باعترافهِ،
مغسولاً بأريج أفكارٍ جديدةٍ جسّدها بعشقٍ غريب.
فتقول:
ـــ هذه بعض هباتي لكَ.
فهل كان يظنُّ أنَّ وقتاً آخر سيبدعه على صفحاتٍ أخرى
تؤسطره على رُقُمٍ كما لو كان ملحمة؟
لم كان أصغر من أن يستوعبَ حُلماً، وأقلَّ من أن تولِمَ
لـه دمَها صلاةً؟
هذا القرمز الذي رشته به، كم أتحفته بنجيعه؟
فليسأل مساماتِه تخبرُ، ليسأل شفتيه كم تلمظتا بطعمه،
ألم يكن "آموك"
عفواً بيدرَ الأسماء الذي تملك.
فليمهلها وقتاً لتُقنعَ نفسها أنها ما أطلقت هذا الاسم
جزافاً.
"آموك"
كم باركت هذا الاسم بعطرها الإلهي؟
ورغم القوارير التي سفحتها عليه، حنَّ إلى قديمه الطيني،
وعادَ إلى "شرنوق" أينَ نجيع "آموك" المُسكر؟
قد كان دمَ قرابينَ قُدِّمت لأجلها، استودعته عروقَه
عبرَ أزمانٍ، فسكنها دهوراً، ضنّت به على كلِّ حالم، ومبتغ، وسائل.
وهبته النجيعَ ومسرى النجيع.
يا هو،
يا من وهبته!
أبهذه البساطة يُعفى الأُرجوان من هباته، وتُجرَّدُ
الآلهةُ من عبقها؟!
ـــ متى كان يوم العطاءات؟
كان في يوم نعيمها، تماماً كيوم نعيم المنذر بن ماء
السماء.
يوم في السنة تهبُ فيه ما تعجز الآلهةُ عن إعطائه، ونهته
أن يأتيها في يوم بؤسها، عانَد وجاءَ، وأطنب، وزاد، ليعيرها في لحظة مسَّ
دهمته، بما سخت به، تفوّه أمامها بصغائر أمور تأبى الربة عن سماعها، بل ورخّص
بدم القربان الذي دهنَ به مسامَه لينجو من أيّ إثمٍ.
لهذا قرّرت هي الربة أن تنتقم، ولن تخيّره في طريقةِ
موتهِ فتقول:
ـــ إن شئتَ الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت الوريد، لن
تذبحه وتسفح دمه لتغري به الغريان كما فعل طاغية المناذرة، ولن تعطيه فرصة
التلذذ بالخمرة لتموت مفاصله، وتذهل لها ذواهله، لن تدعو لـه بها ولن تخيره
وقتاً لموته،
وإن أختار،
غضبها ينزل كما الصاعقة هي الآلهةُ التي لا تُعصى وقد
عصا، ولا يليق بعاصٍ مثله سوى النزول.
دربٌ إلى الجحيم:
ـــ "أنا من يرفع النساء الواطئات والرجال الواطئين، إلى
مصاف الآلهة."
هذا ما ادعاه، وتبجّح به في السماء على الأرض، ومع ذلك
لم يستطع أن يحصّن نفسه، بسربال الصفة.
قد جاء عرشها مقتحماً يسانده تاريخه في التواطؤ على
اقترافِ هذا الإثم، مشفوعاً بما أبدع ذات ألهويةٍ أَفَلَتْ.
جرأته هذه، أهي صدمة أمام حكم ربّة؟ أم تمرّد أخير
يتمرّده المذبوحُ أمامَ المقصلةِ الصمّاء؟
امتطى بقية الروح فيه وجاءها،
انكبَّ على يدها متفحصاً أصابعها الورديّة، تلك التي
أغوت الفجر بالانبثاق، والحبر والبياض ليستبيحا أبجدياتٍ خاصّة.
طال تحديقه بها، ثم ككائن بشريٍّ قبّلها وقال:
ـــ أقبّل اليد التي لا تعرف سوى الإبداع.
ما أروع ما قام به،
طوبى له، فقد قبّل يد الربة.
أتراه أراد أن يعقد صفقةً مع المستحيل غير عارفٍ أن
الحكم قد صدر، وأن أبواب العالم السفلي قد انفتحت، وأنه سيتناول عشاءه لا محال
مع الأموات؟
ـــ انزل إلى الجحيم، وكن فيها خالداً، ولينؤْ بكَ
العمرُ.
كان صوت الربة يدوّي، ارتجف هلعاً، راح يهذي بكلماتٍ لا
معنى لها، وحينَ يئس دهمه جمود، حتى تحطّب، لم يبق فيه رمق، لا في عقله، ولا في
جسده، ولا في أصابعه، صارَ يابساً مصفرّاً، ترنّح مهموماً للمرة الأخيرة ثمَّ
سقطَ في الفم الفاغر.
28/ 6/ 2005.
أروقةُ الضّلالِ
* لائحةُ النَّصِّ:
ـ ها الممتدُّ, ظلامُه سامرٌ, لا صبحَ فيه يُبَصّرني,
وقد رأيتُ في المنام, كأنّ قائلاً يقول لي: ائتِ
الفراتَ, وانغمرْ به,
ثمّ افتحْ عينيكَ,
وفعلتُ, فأبصرتُ.
وتحت شجرةِ الإسفيدار,
كنتُ عارياً, ومبتلاًّ, أنضِّدُ مُدُنَ الخوفِ تحتَ
جلدي, رفعتُ يديَّ عالياً,
أدفعُ وعاءً, ثمّ أنفخُ في الهواء, بخوراً تصاعدَ إلى
السماء:
"وافراتاه,
إنّا في ضلالٍ, نَلهو بتعدادِ خطايانا,
أَعطِ وجوهَنا أقنعةً لائقة, وكنْ كلَّ جهاتِنا, ثمَّ
أمسك بأيدينا, وكن الدليل.
***
* صلاةُ الدم:
رسمتُ شهوةَ سطوعي طريقاً, لاكَ طرفيه بُلّهٌ يعشقونَ
طائرَ الحُبارى.
فيصلّون له ليلَ نهارَ, وتركتُ نصوصي تتشكلّ من قُزَحِ
الإثم, وبراعم المرايا
ودم النّار, ليلجَ إلى عروقها "آموك" يفترعُ طَلْعَها,
ويُدمِنُ حبرها
الهازئ بكلِّ مَنْ لا يؤمن بالبرق صلاةً وبزوغاً,
وأعشاشاً.
فكانت هذه خطيئتهُ عَبْرَ رواقٍ طويلٍ.
***
* رواق الشمال:
كان متناوماً,
حين وقفَ الطبيبُ قربَ سريره في المشفى يُهامسُ زميلاً
له:
ـ سأكتبُ على دفتر الملاحظاتِ أن يُسَفّرَ الليلةَ, فلا
حاجة لأن يُشغِلَ الغرفةَ أكثر, مجرّدَ وقتٍ قصيرٍ ويسلّمها.
سأل الطبيبُ الثاني:
ـ أتعني الغرفةَ؟
ـ بل روحَهُ, مرضُهُ ميؤوسٌ منه.
دقَّ قلبُ المريضِ, كأنّ صاعقةً نزلتْ به, جَهِدَ ألاّ
ينهضَ عقبَ ما سمع.
كَتبَتَ صُراخاً في حنجرتهِ, ودَمْعاً في عينيه, وتمنّى
ألا يلحظَ الطبيبان عضلاتِ وجههِ وهي ترتعدُ, ونزفاً ساكناً يراوغُ ألاّ ينفلتَ
جنونُهُ,
وحين ابتعدت خطواتُهما, وأُغلِقَ البابُ دونَهُ, فتحَ
عينيهِ, ودخلَ في الذّهولِ, ثمّ توسّدَ ذراعيه, وأطلقَ نشيجاً.
وعند بوّابةِ المساءِ.
وقفَ باستسلام, تحتُ اللائحةِ الكبيرةِ المُضَاءةِ التي
حملت اسمَ المشفى, مُتكئاً على بقايا روحٍ في المذبوحِ,
أوقفتَ سيّارةً ومضى حيثُ بيته.
دخله, أضاءَ النورَ, وقفَ في وسط الغُرفة, حدّقَ
بأشيائه, وصورِه المعلّقةِ, وببقعِ دمٍ يابسةٍ على البلاطِ, وعلى عجلةٍ كتبَ في
ورقةٍ:
"سأغادرُ, ولكن أيَّ اتجاه أسلكُ؟."
شعرَ بدمِه المفتونِ يسري في عروقهِ غُصصاً, تناهضَ,
فتحَ دُرجاً,
أخرجَ ما فيه من مال مُدِّخَرٍ, ومشى خُطواتٍ نحو الباب,
ألقى نظرةً أخيرة على الأشياء, ثمّ أطفأَ النّورَ, وخرجَ.
في الشّارع وقفَ هزيلاً, ومرتجفاً أومأ لإحدى سيّارات
الأُجرة, قال
للسائق بعد أن ألقى بجسده على المعقدِ الخلفيَّ:
ـ لفَّ بي المدينة, أريدُ أن أستقرئها من جديد, أكتشفَها
بشكلٍ آخر
كأنّي أَعرابيٌّ جاءها من عمق باديته,
تفرّسَ السائق في وجهه, وابتسمَ حينما أردف الرجلُ:
ـ أنا ضالّ الآن, فكنْ دليلي فيها, ولكَ ما تشاء, كلّ ما
بحوزتي من مال لكَ.
هتفَ السائق:
ـ على رأسي.
وأبدى احتفاءً بالرّجلِ الذي ناست قسماتُ وجههِ كأمير
منكّس, مخذول.
ـ من أين نبدأ؟
سأل السائقُ بلهفةٍ.
ـ من مكاننا.
ـ أمرك.
قالها, وأقلعَ بالرّجلِ الذي تفتّق كلاماً وجراحاً,
وتفجّر قصصاً ورواياتٍ
كان السائق يُصغي, يضحك, ويبكي, ويشارك في الحديث, وحيث
كشف الرّجل
عن سرِّ ضلاله, وحكى صراعَه مع مرضه, أبطأ من سرعته
وقال:
ـ مرضك أعانيه منذ عشر سنوات, وما زلتُ أُرجئُ موتي, فلا
تخف.
سأل الرّجل:
ـ تُرجئه بماذا؟!
ـ بالثلاثيّة.
ـ ثلاثيّة نجيب محفوظ؟
أطلقا ضحكهما دفعةً واحدةً بعدئذ قال السائقُ:
ـ لا, بثلاثيّةِ العبدِ الفقيرِ.
ـ كيف؟
ـ بالضحك, والعمل, والمحبّة.
ردّدَ الرّجلُ الكلمات الثلاث بصوتٍ يُشبه الهمسَ, وحين
لفظَ,
آخرَ كلمةٍ, كان قد شعر بالنّعاس فأغفى.
وظلَّ السائق يدورُ بالرّجل ويحدّثه كلّما مرَّ
بمَعْلَمٍ من معالم المدينة,
أو اخترقَ طريقاً أو شارعاً, إلى أن تدلّت مصابيح
حَليبيّة اللّون من
السماء على المدينةِ الهاجعةِ, ركنَ السائقُ سيّارته
جانباً, سكنَ قليلاً
في شرفةِ الصّمت والتأملِ, ثمّ استدارَ نحو الرّجل
الغاطِّ ناداه, وناداه...
***
* مقامُ المحبّة:
ـ هذا مقامُك, بُليتَ به, فأقمْ.
ـ ما كان ألطفه من بلاء!
ـ وماذا ترجو؟
ـ المزيد.
إذاً لمحبّتك لنا, وضعناكَ فيه, فأقمْ يا سمنون.
"مَنْ أنتَ بحقِّ السّماءِ,
حتّى تطال قامتك قامةَ سمنون؟
مَنْ أنتَ ليأخذَ لسانُك حالَ لسانه, وقلبُك شكلَ قلبهِ,
وكفاك قُطْنَ كفيّه؟
مَنْ أنتَ؟"
وسمنون,
قد أقامَ في المحبّة, ما أن يسمعَ المرءُ كلامَهُ حتّى
يكاد قلبه يتفطّر, فيحسّ
بوهج ينفرُ من مسامه, فوانيسَ تتأرجحُ في السقوفِ
انتشاءً, ويشعر بجسده
يخفّ وزنه, وريشة تتطايرُ ولهانةُ,
من أنتَ لتشابهَ سمنون؟
ذلك الذي هدلَ طائرٌ بين يديه, ثمّ قعدَ في حضنِه يُصغي
بكلِّ جوارحهِ,
فلم يحتملْ, فضربَ بمنقاره البلاطَ عن غبطةٍ وامتلاءٍ,
فنزفَ الدمُ قرمزاً
تفتّح على الأبيض, وبقي يرعفه حتّى مات.
مَنْ أنتَ يا سمنون؟!
حتّى أُقتلَ في حبّكَ, وليس سوى الرؤية دِيَةَ المقتول!
***
* رواقُ الجنوب:
أَذكرُ,
إن كنتُ أذكرُ,
أنّ امرأةً من لهبٍ وتوقٍ محمومٍ,
هامت في الأبعاد, تحملُ وجهَ رجلٍ تتنفّسه, تُعانيه,
فأشرقَ فيها دروباً,
وخُطَاً, فأحسّت بالعُشبِ الذي على سفحِ قلبِها, ضاجّاً
بالحنين, فراحت تسوقُ إلى
الرّجل نداه, وأسراره, وعصافيرَ الدفءِ.
وتحاولُ قدر الإمكان أن تهيئَ غماماً للغةِ اللقاءِ
يليقُ بالجميلين حين يلتقون,
وبين حيرتها وجنونها تخيّلته واقفاً أمامها بأبّهةِ
وترفِ المكتنزِ بالمعرفة.
يقول لها بأنفةٍ:
ـ ردّدي خلفي:
فلتمطرِ السماءُ, وتبتلَّ الأعماق.
فتحت يداها, بدت كفّاها بيضاوين, وعيناها يغشيهما
الخشوعُ, سكتتْ قليلاً,
ثمّ سألتْ:
ـ هل ننتظرُ رعوداً وبروقاً ليتشكّلَ الغيمُ, ويملأَ
أنْداءَ السماء؟
ـ ......
كان واقفاً في الطرف الآخر من الدّعاءِ, نهرها قليلاً:
ـ رددّي.
قالت وهي ترفعُ نظرها إلى الأعلى:
ـ إذا تلبّدت بالغيوم, ولم ينزل المطرُ, ماذا نصنعُ؟
أجابَ:
ـ ننتظر يا باذخةَ العطر.
قالت:
ـ هناك دول إذا ما أرادت لغيمٍ ساكنٍ هطولاً, قوّسته
بطلقاتٍ حتّى ينزلُ.
قال:
ـ ما زلنا خطائين, وإذا ما سألنا نُعطى.
ـ طوبى للضّلال الذي فينا.
وَمَضَت المرأةُ,
تلاحقُ دفقَ رغبتها, تتحرّق لملاقاةِ الرّجل, تتشهّى
كعذراء العشب لقاءً مُبَاغتاً بالطّلِّ.
قبيلَ أن تفلتَ الرغبةُ من الأسر, وتتخلّقَ إعصاراً,
كانت بين يديّ الله
تصلّي صلاةَ الاستسقاءِ, فيعلو ابتهالُها حتّى ردّدته
كلُّ مآذنِ دمشق.
هل كنتُ أنا
تلك التي اقتحمت دمشق؟!
واقتحمتني رغبتي المجنونة, لأبحثَ عن رجلٍ لشدّ ما
عشقتُه نسيتُ تفاصيل,
وجههِ, وكأنثى تغويها التفاصيلُ الموحيةُ وهي تطالعُ
ربواتِ الرّائحةِ, صرتُ
مَجْمَرةً, بل مدائن مُجْمَرة, يندفعُ بخورُها الحرونُ
مفتوناً بالتلوّي.
ولكن!
ظلّت المرأةُ تبحثُ,
وظلّت دمشق فوقَ كتفيه, ثريا من حجرٍ ودخانٍ وغبارٍ أحمر
.
ـ بماذا أستضوِئُ؟
ـ بالقلب يا ضالّة!
ـ هل على قلبي أن يتفتّقَ مناديلَ هفهافةً, وورداتٍ
حمراءَ مشرعةً
في وجهِ غابةِ الأقنعةِ كي ينتفي الضياعُ؟
"آه يا قلبي,
كأنّنا كنّا نتخاطرُ!
ذاتَ اليومِ, أحسستُ بضجرٍ فتّاكٍ, فحملتُ جسدي حقيبةً,
وغرزته
في شوارع المدينة, قصدت "الحميدية" ليس لي شغل ولا
مشغلة, كنتِ شاغلي,
الأوحد, أضرمني شوقي إليك, فكانت جذوتي تحرقُ غابة,
خرجتُ لأراكِ في
النّاس, في امرأةٍ لها صوت يُشبهُ صوتَ قادمةٍ مغتسلةٍ
برذاذ الفرات,
ورحتُ أبعثرُ لهفتي, وأنفاسي الشاردة في الدخانِ
والضجيجِ, وأصواتِ الباعة,
آه يا قلبي!
صغيرةٌ وضئيلةٌ هذه المدينة عن قيامة جمري,
وضيّقةٌ سماؤها عن استيعابِ شوقي,
وبقيتُ سائراً مثلَ أبله, حتّى وصلتُ "الأموي" وقفتُ
ساكناً أمامَ بابه,
دخلتُه, وبخشوعٍ صلّيتُ, أحنيتُ رأسي حتّى لامسَ البلاطَ
اللاّمعَ, ثمَّ
استويتُ, وأطلقت دعاءً, وخرجتُ, أمشي, وأمشي حتّى ألفيتُ
مقهى
سكبتُ صليلَ التّعبِ فوق كرسيٍّ من القشِّ, شربتُ شاياً
حلواً كما تشربينه
أنتِ, ودخّنتُ, بينما كنتُ أنظرُ في وجوهِ السائحينَ
علّي أجدُ ضالتي, امرأةً
لها رائحةُ وردٍ بريٍّ, عيناها نرجستان, وقلبُها دافئٌ
كقلب قطاةٍ لاهثةٍ في المجاهل,
ربّما أرادت هذا اليوم أن تجيءَ دمشقَ,
ليتها تجيء,
فلتجئْ,
لتمسحَ بحنّاء أصابِعها فوق جبيني, فيخمدَ سعيرُه.
لكن!
ما الذي أبطأني لأرجئَ هُجرتي؟
سألتُ نفسي هذا السؤال اليومَ مراراً, فقد كنتُ يا قلبي
مصّمماً على الرّحيلِ, ولي في
تلك الأصقاع البعيدة موضعُ قدمٍ, وصديقٌ, وصَدَى لصوتي,
ولكنني عدتُ,
إلى هذا البلد لأبدعَ فيه, فما كنتُ إلاّ عقيماً, لم
أستطع التأقلم, قيل لي: إنّك
ممّن يحملون السلّمَ بالعرض, فحوربتُ بالصّمت حتّى
العفن,
فأنا يا أنتِ,
بل يا أناي, لا أودّ سفحَ العطرِ على أكوام المزابل
المنتشرة, حتّى عثرتُ
عليكِ مُصادفةً, وصرتِ أُنشودتي, خَلاصي, إلا إلاّكِ من
دليلٍ في طريقٍ
أبى أن يفتحَ لي صدرَهُ, قرأتُك, وعرفتُك على الورق,
فأحسستُ أنك تُشبهينَني,
ووددتُ أن ألتقيكِ مرّةً,
بعد أن سمعتُ صوتك ألفَ مرّةٍ, يا امرأةً باتت أماناً
لرجلٍ تبللّ بالرّعبِ, وقطراً لرجل
زحفَ إليه اليباس, وحقيقة أمام شكوكه, وامتلاءً في مدى
من فراغ.
***
* لطيفة:
ـ هذا الطريقُ نهرٌ من العتمه, لا يفتح بواباتِ الماءِ,
ليشّاعلَ في الظلام
صوتك اليشابه صوتَ صديق يختالُ في دمي رنيناً,
ـ احملْ الإبريق رفيقاً, والعصا دليلاً, واسفحِ الخطوَ
فيه,
ولا تنظرْ خلفك.
***
* أنوار:
قالَ وقد رقصَ الدمعُ في مقلتيه فرحاً:
ـ هذا قلبي غيّر اسمه.
ـ هل قلبَ ثوبَهُ؟
ـ بل جاهدَ ليصلَ محطته المنشودة حتّى يُمنحَ شرفَ الاسم
الجديد.
ـ وما اسم محطته؟
ـ محطةُ الوصل.
ـ وما الاسم الجديد؟
ـ فؤاد, غيّره من قلب إلى فؤاد.
ـ وما الفرق؟!
ـ القلب يا صاحبي فيه تقلّب, والفؤاد ثابت في مداره.
هزّ الصاحبُ رأسَهُ وقال:
إنها تحولاتُ قلبِ العاشقِ.
***
* رواقُ الشّرقِ:
هذا الذي أعرفُ,
كاتبٌ من الطّراز الأوّل, تدفعه لعنةٌ تسكنه مثلي
للكتابة, وربّما
الخطيئة التي في أعماقه, يهطلُ في شرفة الشروق فتغتسلُ
الشمسُ بنور ذنوبها وبالخجلِ
الفاضحِ فتنحني سفوحُ الذُرا العام وهجِ عطاءاته,
أمّا أنتَ!
فإنّك ترتجفُ أمامَ ما يُروى لكَ, فتشتهي أن تلهوَ, ولو
بأصابعك.
حين أرادَ كتابةَ نصّه الآخر, عزل نفسَهُ عن العالم,
ولاذَ بغرفة أشبه
ما تكون بقبوٍ, أ و نفقٍ, ثمّ استنزفَ ذاكرتَهُ, فخُيّلَ
إلينا أنه استنزف حبره, ولهاثه,
وجنونه أيضاً, وحين خرجَ إلينا, انصبّ نظرنُا على يديهِ
لنرى مخطوطَهُ المنتظرَ,
ويا للعجب!
لم نلمح ورقاً, ولا بقعَ حبرٍ على الأصابع, وإنّما
احتضنت ذراعاهُ دمى عديدةً
مصنوعةً من الخرق وبقايا القماش, وعلى خاصرته رتع سيفٌ
صقيلٌ.
تطلّع بنا, ابتسمَ قليلاً, ثمَّ مدَّ لنا لسانَهُ,
وركضَ, لحقنا به, ظلَّ يركضُ,
ونحنُ نركضُ, إلى أن دخلَ المتحفَ الغائصَ بزوّاره.
لم يدخلْهُ دخولَ الزائرين إنّما دخول المقتحمين
والفاتحين, ذُهلنا, وذُهِلَ كلُّ مَنْ رآه
يطيحُ بسيفه البتّار رؤوسَ الزعماء, والقوّاد, والملوك
الغابرين, وكبار الأغنياء والوجهاء,
تراكضتْ عناصرُ الشرطة نحوه, والحرّاسُ, والجنودُ,
ولكنّه كان كرةَ نارٍ تنتقلُ من مكانٍ إلى آخر,
سأله كبيرُ الشرطة مُحتدّاً:
ـ ماذا تفعلُ يا مجنون؟
ـ أُطهِّرُ العالمَ, وأعرّي هؤلاء بما لصق بهم كذباً
وبُهتاناً,
ـ إنّك تقضي على الحضارة,
ضحكَ بصوتٍ عالٍ حتّى دَمِعَت عيناهُ ثمّ قالَ:
ـ تفو, على هكذا قناعة.
سأله:
ـ ودليلك؟
أجابَ وقد نثر الدّمى هنا وهناك, فاستوتْ في أمكنتِها,
واشتعلتْ قناديلَ
أسرجت المكان بالألق, وراحت ألسنتُها تلهجُ:
ـ نحنُ الصنّاع الحقيقيّون, نحن, نحن...
ثمّ صرخَ الكاتبُ:
ـ أنا, مَنْ سينزعُ القداسةَ عن هؤلاء المرابضين هنا من
قديم الزمان,
آن لهم أن يخلوا السّاحةَ, كفى أن ننسبَ إليهم كلَّ
عطاءٍ,...
ثمّ هرعَ صوب الدمى, يشير إليها بأصابع مرتجفة ليردِف:
ـ هؤلاء هم أصحاب الإنجازات والبطولات المشرّفة, أصغوا
إليهم, وأفسحوا لهم الطريق, فلهم يُنْسَبُ الرّائع لا إلى من حكمهم...
ونفذَ اشتعاله, ولم ينفذ كلامُه, فانهارَ على ركبتيه
حتّى طوّقته الشرطة
بالضرب والبصاق والأشواك, والحديد, فتمنى في تلك اللحظة
أرضاً تقع في الشرق ولا تخون.
***
* لامعة:
ـ سأغسلُ هذا الطريق, فقد عفرّته خُطواتي,
ـ أروع ما تكون أن تخلعَ عنكَ كلَّ الصّفاتِ, لتلبسَ
سربالَ الدّليلِ,
وتكونَ معي, كما نحن في بدايةِ الطّريقِ, معاً في نهاية
الطريق.
***
* آموك:
لا لون للأشياء إذا ما باركها آموك,
هذا الساكنُ نبضي, والجالسُ في القسم الأعلى من القلب,
مجوسيٌّ مثلي متفانٍ في خدمةِ هيكلِ النّارِ, يتعاطشُ
ليسقِ
أبجديّةَ الاحتراقِ,
فاسمع النارَ,
فإن آموك قد بدأَ الحوارَ:
ـ مَنْ كُنتَ؟
ـ كنتُها.
ـ لمن جئتَ؟
ـ لها.
ـ من أين؟
ـ من عندِها.
ـ وإلى أين؟
إليها.
ـ ما لونك؟
ـ لون أصابعها.
ـ وطعمك؟
ـ طعمُ بروقها.
ـ ورائحتُك؟
ـ رائحة اشتهائها وجنونها.
ـ ورمحُك؟
ـ قوامُها.
* وكحكيمٍ قديمٍ من الصّين تبدّى بذقنهِ, المتموّجةِ
بعطرٍ أبيض,
يصّاعدُ موحياً بالمسك كلّما فتحَ فاهُ وتكلّمَ, بينما
جلس عارياً تحت شجرة
الغار, إلهاً سافراً في حضوره, يناشدُ صبحاً ودليلهُ هذا
الفجر, وائتلاقِ فضّته.
* "دافنيه,
أيّتها الجميلة, الباذخة الاشتعال, قد أحبّك أبولون,
وجدَّ في مطاردتك, وأنت
تنفرين, غزالاً هارباً من براثنِ نسرٍ كبيرٍ بحجمِ خيمة
سوداء, هو الحبّ دافعه
لأن تكوني له, فكاد أن يصلَ إليكِ, وتهطلين في مداره,
فينشدك أحلى أغانيه
ولكنّ ابتهالاً شفهياً ندَّ عن عمقك, ووصلَ آذان الآلهة,
فرقَّ قلبها وحوّلتك
في الحال إلى شجرةٍ من أشجار الغار, وظلَّ "أبولون"
شمساً تتبع في ظهورها الفجر,
والفجر أنتِ "دافنيه".
* وآموك, أحملُه كأضلعي, كوشم أزدهي به, يتفيّأُ الآن
ظلّكِ, فكوني
دليله إلى الصّبحِ, والصّبحُ لا يُشرقُ إلاّ من أعالي
زقّورتي.
لتفتتحَ الأسماءُ لونَها الأرجوانيَّ في حضرتِه, كلّما
قبّل حسناء يهبُها ثمارَ
برقوقٍ طائشٍ ثمّ يدعُها مُلتذّاً, يمتّع ناظريه برؤيةِ
نبيذِ العسلِ وهو يتقاطرُ.
* هذا آموك, لا يستطيعُ أن يعشقَ دونَ أن ينبثقَ دمُ
المرأةِ المعشوقةِ, حمامةً
منفلتةً من غبطتها
* طقسٌ يدخلُ به سرَّ الأمانِ, حين تولجُ يدُ شهواتهِ
المقدّسةِ في هيكلِ الطّينِ
المسجّى "أُنثاهُ" فتنفرُ زهورُ الرمّانِ من كلِّ مكانٍ
باركته شفتاهُ.
***
* مَيْضأة:
تنتظره "يوم نوح لبيّ" على أحرٍّ من الجمر, ليأتيها
حاملاً إرثه الخَضِل,
مترفاً بالغموضِ, ووارثاً للضياء والماء.
تماماً كما كان البابليون ينتظرون يوم السبت لراحةِ
قلوبهم.
هو الهناءُ لقلبٍ معنّى,
يعشبُ اليباسُ بين يديهِ, لهذا اتخذتْهُ مَيْضأةً
تحفُّها شتلاتُ النعنعِ,
فيطيبُ لها أن تتوضأَ وهي ترنو إلى المكان الذي يرسمُ
لونَ لهفتها.
***
* نرجسةُ النَّصِّ:
ذاك حلم النرجس أن تسمّى بأسماء لا يفسّرها إلاّكَ,
فكنتَ "شرنوق" ثمّ "سمنون" و"آموك" و"أُكسير"
ماذا بعد؟
* فليقلْ عنك النّصُّ شيئاً:
"رجلٌ متفرّدٌ يعلو فوقَ الاستثناء, يُبعثرُ رائحةَ
السموِّ فتنبتُ أعشابٌ
من القرمز مخمليّة تُشبه عُرْفَ الديك, ويُذكِّرُ
حضورُهُ بالألوهةِ حين يتعنبر
المكانُ بالنّورِ والنّارِ, فيكونُ سيَّد الكونِ,
وسيَّد اللّونِ,
ويكون تميمتَها, تعلِّقُها على الصّدرِ, تحمّله خطايا
نصوصِها القادمةِ, ويحمّلها
سرَّ نصٍّ لم يُهيّأْ له وقتٌ من رذاذٍ, ويكون أغنيتها
الشقيّة حين يوازي
جنونُه المنفلتُ بغتةُ جنونَها, فلا تغادرها حتّى آخر
نصٍّ يجسّدُ لونَ دمِها,
وبياضَ جسدِها, وعرسَ قياماتِها.
* فليقلْ عنكَ الطّيفُ شيئاً:
"لم يكن إلاّ رجلاً, قوس قُزَح, ينبغُ من أُفقٍ ليصبَّ
بآخر,
مُتكاملاً, كلُّ لونٍ فيه يتأهبُ ليأخذَ شكلَ حُنْجرةٍ
ترغبُ بالغناءِ,
فتفرح عصافيرُ قلبهِ المُتشاقية.
* فلتقل عنك يداي شيئاً:
"أمسكتُ برائحتهِ ذاتَ وقتٍ, عند ذلك الكرسي الذي تعمّدَ
به,
فأقسمتُ أن أُغرِقَهُ برهجي, وأن أُبارِكَ قسمي
بخطاياه".
* فليقل عنك البوحُ..
"إيه يا لون الارتعاش,
دمُ المرأةِ أجراسُ التّفاحِ,
اليشقشقُ من نعاس الجلّنار كالفجر السني,
بأيةِ دَهْشَةٍ تسبّحُ وجودَهُ في "برج الحمام"؟
وكيف ماسَ بفوحهِ؟
وصدى القبلاتِ المسروقةِ على الطريق الوحيدِ, المشجّرِ,
يشعلُها,
وكيف هَمسَ الآخرونَ عندما قبضوا عليها مُتَلبِّسيْنِ:
"والله حِلْوين"؟.
* فليقل عنكَ شيئاً برجُ الحمام:
"رجل وامرأة,
أشعلاني بنبضهما, والبحر قريبٌ, فلتُقرعْ أجراسُ الماءِ
عتبةً لهذا الاحتفاء,
فقد أبدعاني كما أشتهي,
وكما شاءا كنت لهما,
فأوقدتُ أوردتي, وأشجاري, لأُسقى ناراً, وأَلجَ مضاءاتٍ
ريّانةً
بالإبهار..
* فلأقلْ أنا عنك شيئاً:
"للمُبدع في زمنِ الضّلالِ,
امرأةٌ مبدعةٌ تقاسمُه القداسةَ والخطايا,
ونصٌّ ينهضُ بهما,
وطريقٌ يرسمُ بالندى والزّيت والعطر والهدى, ما يتهاجسُ
في صدريهما
أُنشودةً لضياعِ الدّليلِ.
***
* رواق الغَرْبِ
امتدَّ البحرُ بهيبةٍ أمامَ سكينةِ الرجلِ الّذي نالَ
التعبُ منه,
وبجانبه وقف جملُهُ وقد انغرزت أخفافُه بنداوةِ
الرّملِ,
وقال وهو يَفْرشُ نظرَهُ فوقَ ا لأزرق المهيب,
ـ يا محطةَ الوصول!
ثمّ امتدّت يدُهُ إلى "الخُرجِ" وأنزلَ الكتبَ القيمةَ
التي رافقته عُمراً,
تملاّها جيّداً ثم رمى بها إلى البحرِ وقال:
ـ "نِعمَ الدليلُ كُنتِ, والاشتغال بالدّليلِ بعدَ
الوصولِ مُحال."
وراحت عيناهُ المتعبتان تتابعان المشهدَ المثيرَ.
مساء 23/شباط/2004
|