استلهام الموروث السردي في القصة العربية:
زكريا تامر
نموذجاً
1 ـ مقدمة:
عدت القصة العربية تقليداً غربياً حتَّى وقت قريب، بل إنَّ جمهرة عريضة من
الباحثين والنقاد حاكمت التشكل القصصي العربي الحديث وفق تقليده الغربي، فالقصة
الفنية هي التي "تقلد" الغرب، وعوملت الكتابات القصصية التي تعيد أو تستعيد
الأشكال السردية الموروثة مثل المقامة والحكاية بتقدير أقل من القصّ المسترشد
بالقصص الغربي، غير أن نزاعات الهوية القومية وإكراهاتها وضعت التجربة السردية
العربية برمتها على محك الإبداع الأصيل الذي يبتعث تقاليده في سيرورة وعي الذات
والآخر.
وقد شهدت ساحة الإبداع القصصي خلافات متتالية حول آليات هذا التشكل القصصي
ومفهوم التأصيل السردي نفسه، وترافق ذلك مع عمليات الوعي بالتاريخ المتعاظمة
بعد الحرب العالمية الثانية وتحقق "الاستقلال" عن الاستعمار وإن تداخل في مراحل
كثيرة مع تجاذبات الاستتباع واستنباته في هذه الانعطافة أو تلك، في هذا المجال
أو ذاك، فتباينت النظرات لهذه القضية من مفهوم المؤثرات الأجنبية إلى التبعية
والمثاقفة والتثاقف والمثاقفة الحضارية إلى العولمة التي تنفي الخصوصيات
الثقافية، وتشيع نمطاً واحداً استهلاكياً بالدرجة الأولى، فخاض القاص العربي في
غمار تجريبه السردي نشداناً لأصالة لا تخفى.
وقد تبدت إشكالية استلهام الموروث السردي في أدب
نجيب محفوظ
مثالاً لاحتدام الصراع بين المؤثرات الأجنبية والمكونات الموروثة، فرأينا
استعادة متألقة للأشكال السردية: الحكايات في "حكايات حارتنا" (1974م)،
والليالي في "ليالي ألف ليلة وليلة" (1981م)، والمنامات في "رأيت فيما يرى
النائم" (1982م)، والأخبار في "حديث الصباح والمساء" (1987م)، والشذرات في
"أصداء السيرة الذاتية" (1996م).
وقد اتسعت عمليات استعادة أشكال كثيرة من الموروث السردي ما تزال طي التراث مثل
سرد البركة لدى محمود طرشونة في كتاب "المعجزة" (1998م)، وسرد التكاذيب في
"حكاية سحارة" لعبد الله الغذامي (1999م)، والسرد التاريخي لدى سالم حميش في
"مجنون الحكم" (1992م)، و"العلاّمة" (1997م).. إلخ(1).
لقد حفل الموروث السردي بأشكال متعددة هي منجم لإثراء الإبداع القصصي وتطويره
وتحديثه ضمن تقاليده القومية، على أن الأبرز بينها هو شكل الكتاب القصصي الدال
على أنماط قصصية يجمع بينها تنضيد ما، حيث يتألف النمط القصصي من مجموعة قصص أو
حكايات أو أخبار قصصية أو أحاديث سمر، أو سرد سيري.. إلخ(2) فيما هو أقرب إلى
السرد المفتوح.
ويلاحظ اعتمال القص العربي الحديث بأشكال سردية موروثة بعيدة عن دائرة الاهتمام
الحديث إلى وقوع قريب مثل السرد الصوفي الديني والأسطوري، وقد أطلق مثل هذه
الأشكال محمود المسعدي في كتابه "حدث أبو هريرة قال" (1972م)، ونمّاه جمعة
اللامي في مجموعاته القصصية "اليشن" (1978م) و"الثلاثيات" (1979م)، وروايته
"المقامة اللامية" (1983م). حتَّى صار إلى ظاهرة رئيسة من ظواهر الكتابة
القصصية العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ويؤشر هذا الاعتمال بالموروث
السردي إلى الشأو العالي والبليغ للتأصيل القصصي تثميراً لتقاليده في التجديد
والتحديث.
2 ـ تجلياته في القصة السورية:
لم ينقطع القاص العربي في سورية عن شواغل التأصيل، ويندر أن نجد قاصاً معتبراً
لم يدغم تحديثه القصصي بعمليات استلهام الموروث السردي، وأشير إلى نماذج دالّة
عند عبد السلام العجيلي وحسيب كيالي ووليد
إخلاصي
وياسين رفاعية وصدقي
إسماعيل
وألفة
الأدلبي
وجان
ألكسان
وأحمد
زياد محبك.
تساوقت عمليات إعادة الموروث السردي واستعادته لدى عبد السلام العجيلي منذ
مجموعته الأولى "بنت الساحرة" (1948م) التي يظهر فيها الصوغ الحكائي للمتن
القصصي جلياً، ثمَّ كتب الأشكال السردية الموروثة صريحة كالحكايات في سرد
السيرة والرحلات في "حكايات من الرحلات" (1954م)، والمقامات في السرد القصصي
الساخر والناقد في "المقامات" (1963م) والحكاية أو النادرة أو الخبر في
مجموعاته "في كل واد عصا" (1984م) و"فصول أبي البقاء" (1986م) و"حكايات طيبة"
(1986م)، ثمَّ مازج الصوغي الحكائي وكتابة المقالة والمقالة القصصية كما في
كتابه "عيادة في الريف" (1978م) إذ يكتب المقالة بصياغة منغمرة بأعراف الخرافة
والنادرة والطرفة أحياناً، وفي كتاب "سبعون دقيقة حكايات" الذي يقارب كتابة
البحث بأسلوب الحكاية، وفي كتاب "حفنة من الذكريات" (1987م) الذي يصوغ فيه
جوانب سيرية بالأسلوب نفسه.
على أن كتابته القصصية برمتها اكتسبت أصالتها من صوغها التقليدي أو الاتباعي
الذي يعني جوهر فهم القصة،ومنطلقه المبنى الحكائي والسعي الأصيل لتحديثه،
ويتبدى ذلك على نحو شديد الجاذبية والتألق والتأثير في غالبية مجموعاته القصصية
بعامة، وفي مجموعته "حكاية مجانين" (1972م) بخاصة.
واتجه
حسيب الكيالي
إلى استمداد التقاليد السردية الموروثة في فنه القصصي منذ
مجموعتيه الأوليتين "مع الناس" (1953م) و"أخبار من البلد" (1956م)، ويتداخل
تقليد الصوغ الحكائي مع الصوغ الإخباري ثمَّ ما يلبث أن يصير صوغ متن حكائي
مشبع بسمات الحكاية الشعبية كما في مجموعاته التالية: "حكاية بسيطة" (1972م)
و"تلك الأيام" (1977م) و"الحضور في أكثر من مكان" (1979م)، و"من حكايات ابن
العم" (1992م).
ويلمس المرء في كتابة حسيب كيالي القصصية الكثير من لوازم الحكاية الشعبية في
بناء قصصه المصادفة والمأثورات الشعبية ومحاولات كسر الإيهام بمخاطبة المتلقي
من الرواة أو توهم ذلك وصولاً إلى نفح سرده روح الحكاية.
ولعل
وليد إخلاصي
أحد رواد التحديث القصصي من أبرز الباحثين عن التأصيل في مرحلته الأخيرة، فظهرت
عنايته بأسلوب الحكاية في كتابته الأولى كما في مجموعتيه "دماء في الصبح
الأغبر" (1968م) و"الطين" (1971م)، ثمَّ جاءت أعماله السردية خلال العقدين
الأخيرين إسهاماً كبيراً في ابتعاث الموروث السردي والبناء السردي الحديث على
مثاله الأبقى كما في كتابه القصصي الذي حمل اسم رواية "حكايات الهدهد" (1984م)
على وجه الخصوص.
ووضع ياسين رفاعية قصته في متن حكائي شديد الكثافة في تنضيد حوافزه القصصية، في
مجموعتيه "العصافير" (1974م) و"الرجال الخطرون" (1979م)، ويتميز المتن الحكائي
في قصص رفاعية بانتظامه في مدار بنية رمزية أو استعارية مؤثرة.
وقد استطاع
صدقي إسماعيل
أن يثمر الموروث السردي ولا سيما عناصر الخبر والحكاية والبركة والسرد الأدبي
قصة فنية حديثة في مجموعته "الله والفقر" (1971م).
وأبدعت
ألفة الأدلبي
قصة تقليدية تنهض على التقاليد السردية الموروثة منذ مجموعتها الأولى "قصص
شامية" (1954م)، وتابعت تجويدها الإتباعي لهذه التقاليد في مجموعاتها "وداعاً
يا دمشق" (1963م) و"يضحك الشيطان" (1970م) و"عصي الدمع" (1976م).
وفعل ذلك
جان
ألكسان
في غالبية قصصه، وكانت مجموعته الثانية "نهر من الشمال" (1963م) علامة بارزة من
علامات تطويع المتن الحكائي لنسق التنضيد الحديث لحوافز قصصية ممعنة في
واقعيتها، ثمَّ أحاط هذه الحوافز بالمأثورات الشعبية في مجموعته "المعادة"
(1972م). وتابع دأبه في تمثل التقاليد السردية الموروثة في مجموعاته اللاحقة
"الحدود والأسوار" (1971م) و"جدار في قرية أمامية" (1977م) و"الحوت والزورق"
(1981م).
وشاع استلهام الموروث السردي لدى الأجيال اللاحقة، واذكر منهم
أحمد زياد محبك
في مجموعته الأولى "يوم لرجل واحد" (1986م)، وتحفل مجموعاته التالية بامتلاك
جمالي لهذه التقاليد في بناء المتن الحكائي لقصصه، ولا سيما "حلم الأجفان
المطبقة" (1996م) و"عريشة الياسمين" (1996م) و"طعم العصافير" (2001م) و"العودة
إلى البحر" (2001م)، ثمَّ بلغت عنايته بالموروث الحكائي الشعبي حداً أقصى حين
أعاد صياغة مجموعة كبيرة من الحكايات الشعبية في سرد فني محتفى به في كتابه
"حكايات شعبية" (1999م)، وقد قدم له بدراسة نقدية وعلمية عن معنى الإعادة
وأهميته.
3 ـ حضوره في قصص زكريا تامر:
بدأ استلهام الموروث السردي عند
زكريا تامر(3)
على استحياء في مجموعاته الأولى "ربيع في الرماد" و"الرعد" و"دمشق الحرائق"
و"النمور في اليوم العاشر"، إذ نقع في الأولى على شكل الحكاية في القصتين "ربيع
في الرماد" و"العصافير"، وفي الثانية على شكل الخبر في القصتين "النسيان"
و"خضراء". وحوت المجموعة الثالثة قصتين تستفيدان من شكل الحكاية في "الدأب لنا
وللطيور السماء" و"رحيل إلى البحر". وأشارت المجموعة الرابعة إلى استعادة شكل
الكتاب القصصي أو السرد داخل السرد أو تعدد دوائر السرد المتداخلة في قصة
"الملك".
ثمَّ تعاظم استدعاء الموروث السردي في صلب السرد القصصي في مجموعاته الأخيرة
"نداء نوح" و"سنضحك" و"الحصرم" و"تكسير ركب". ففي "نداء نوح" ثمَّة قصص كثيرة
تستيعد شكل الرواية مثل "عبد الله بن المقفع الثالث" و"دمشق" و"بيروت" و"يحكى
عن عباس بن فرناس" و"شهريار وشهرزاد" و"جريمة الماء". أو شكل الخبر مثل "إعدام
الموت" و"عنترة النفطي" و"الأطلال" و"نبوءة كافور الأخشيدي" و"الجالس والواقف"
و"من الألف إلى الياء" و"يوم غضب جنكيز خان"، أو شكل الكتاب القصصي مثل "كلب"
و"الخارجون من الكهف" و"قال الملك لوزيره" و"حكايات حجار الدمشقي".
أمَّا مجموعاته الثلاث الأخيرة فهي تستبطن الموروث السردي في إبداع حديث وأصيل
في الوقت نفسه، فتصبح المجموعة الواحدة كتاباً قصصياً ينفتح فيه السرد على
أشكال الحكاية والخبر في تنظيم مختلف الحوافز (الوحدات القصصية)، بما يجعل من
القصة الواحدة، طالت أم قصرت، نسقاً سردياً مكتفياً بذاته على أنه ما يلبث أن
يندغم بمهارة واقتدار في نسق تنضيد أشمل لفضاء المجموعة بكاملها أو قصدها
وأغراضها الأعم. فكانت "سنضحك" تنويعات على "الحكي" و"الإخبار" ضمن تقانات
حديثة للتمثيل السردي يصير فيه التحفيز الواقعي أو الجمالي للقصة المفردة عناصر
في التحفيز التأليفي للكتاب القصصي بمجمله. بينما تستغرق أشكال "الحكي"
و"الإخبار" في مجموعة "الحصرم" في دواعي الأمثولة حيث يكثف السرد، وتصبّ
الحوافز في القصة الواحدة في تحفيز واقعي أقرب إلى معطيات السرد المفتوح على
رؤية شاملة للشرط الإنساني المقهور.
ويضيف تامر إلى أشكال "الحكي" و"الإخبار" في مجموعته "تكسير ركب" تقانات
"السخرية" و"الهجاء" و"الدعابية" و"القسوة" و"التشويه" (تعدد مستويات المنظور
السردي والبنية السردية) بقصد قلب الدلالات وتباين وجوه الأمثولة بما يثري رؤية
الوضع الإنساني الشائن ومكابدة معاناته المروعة.
وتغلب على قصص المجموعتين الأخيرتين سمات الكتاب القصصي التي تتضافر مؤيداته
السردية من شكل القصة الواحدة المتماثل طولاً وبنية ونوع تحفيز واقعي غالباً،
إلى الصوغ الفني الذي يعني بتعاضد الحوافز في متن حكائي وإخباري شديد التوهم
وعميق الدلالة.
4 ـ الحكاية:
تقوم الحكاية، ومثالها الحكاية الشعبية على تراكم الحوافز (الوحدات القصصية)
وتواترها في تحفيز النص السردي الواحد أو لدى انتقاله وارتحاله وهجرته إلى نصوص
أخرى، وتتألف الحوافز من مجموعة عوامل أو فواعل أو وظائف تشكل المتتالية
السردية (التي لا تخضع لمنطق ما) في التحفيز الجمالي أو التأليفي. وتنتظم
الحكاية في مستويات سردية هي نسيج الخطاب أو المتن الحكائي وهي الحدث، وسمته
الغالبة هي العجيب أو الغريب أو الاستثنائي، أو العابر (من المصادفة) أو
السحري.. إلخ، مثلما تغلب على الشخصي طوابع "الأنسنة"، وليس الإنسان وحده، فثمة
شخصيات غير إنسانية، وثمَّة ظهور وغياب للشخصية، وثمَّة تجاذب بين الأسطوري
والتاريخي والواقعي في إهاب الشخصية، وثمَّة تحول في كينونة الشخصية، وقد يستند
هذا التحول إلى عناصر اجتماعية أو طبيعية أو غيبية.
وتتبنى الحكاية في مستواها الثالث على السرد في طبيعته التي تخلو من المنطق
السببي غالباً إلى تداخل في الوصف والحديث واستخدام الشعر والتناصات الأخرى،
وهي كثيرة في المتن الحكائي. وتتعدد أمداء الحيز في الحكاية من الحيز الجغرافي
المعلوم والحقيقي إلى حيز خرافي غير جغرافي متحرك غالباً في فضاء كوني شاسع لا
تحدّه حدود. وتتحرك الحكاية ضمن زمن افتراضي يعيده إلى الواقع والزمن الموصوف
وتعينه ودلالته في مسارات متعددة مثل التعاقب والتحديد. وتتميز لغة الحكاية
بمواصفات بلاغية(4).
وقد لجأ تامر إلى هذه المستويات مشتغلاً على تحرير الحكائية من خصائص التراكم
المجاني أو غير الوظيفي باتجاه تعليل الحدث وإدغامه في نسق تنضيد محكم البناء
ومنضبط التحفيز، لينّقي المتن الحكائي من المصادفة والاستطراد والحشو والزمن
الغائم والمفقود واللغة المعجمية والشخصية العائمة. ولعلنا ننظر في عدد من
القصص والاشتغال الفني على مستوياتها السردية.
ووضع تامر لقصة "ربيع في الرماد" تسمية مجازية تختلف عن صياغات العنوان في
الحكاية الشعبية التي تشي بدلالة المتن الحكائي أو تباشرها. وقد مضت استراتيجية
التسمية في الحكايات، وغدت غامضة في الحكاية الأسطورية أو الدينية أو الصوفية
كما هو الحال مع معارج ابن عربي حين تتوشح التسمية بالاستعارة الشاملة تعبيراً
عن رؤية متأملة أو مكابدة للوجود الإنساني. فصار العنوان إلى عتبة نصية تؤشر
إلى الغرض الأعم: التفاؤل بالحياة على الرغم من قتامة الواقع وتحولاته
المدمرة.
تقوم القصة على متواليات الحدث، إذ أدخل في حيز شبه جغرافي يتقاطع فيه الزمن
بين التعاقب والارتداد ومجاوزة تعيين المدة، فتثار أسئلة الوجود الموحش من
تصفية الحسابات القديمة لمعنى العنوان الداخلي إلى مداهمة العدوان الخارجي.
استعان الراوي بعدة الراوي الحكواتي في ضبط المنظور السردي: هلامية الزمن وتوهم
قدمه، ما دامت الحوافز تنبذ التوحد مع وهم الخلاص من الدمار الشامل في المحيط
الموبوء بتحالف أعداء الداخل والخارج، واللازمة اللغوية حول الماضي وتواتر
حوافزه ودلالاته كما في تكرار الحيز بلغة واقعية صارخة مثل المفتتح وما
يماثله:
"كان في قديم الزمان مدينة خضراء".
"كان ناسها جميعاً يحملون في جيوبهم قطعاً من الورق..".
"وكان الفقراء يقهقهون بخشونة في لحظات الفرح..".
"وكانوا ينادون أمهاتهم.."
"وكان الأغنياء والفقراء يحترمون الموت.. إلخ" (ص 81).
وتتكرر الحوافز الوصفية المبدوءة بفعل "كان" ومشتقاته أكثر من عشرين مرة، بينما
تتحدد الحوافز الفعلية بأقل قدر ممكن حرصاً على اقتصادها وضبط المنظور السردي:
ـ وصف المدينة المفترضة.
ـ وصف تقاليدها وطقوسها المفترضة.
ـ وصف طبيعتها وترميزاتها.
ـ حافز الرجل، النموذج، الباحث عن خلاص وسط الموت المنتشر، الذي يشتري امرأة
"ربَّما استطاعت أن تقتل القنفذ الباكي في دمي" (ص 83).
ـ حافز اللقاء بالمرأة، النموذج، التي ما تلبث أن تلبس دورها الشهرزادي
التاريخي. (ص 84).
ـ حافز التحول الذي يفضي إلى إقرار الحال المؤرقة: "آواه كم تعذبنا. آه كم
تعذبنا" (ص 85).
ـ حافز إعلان العدوان الخارجي: "هجم الأعداء.. اقتلوا.. اقتلوا.. إلى الحرب" (ص
85).
ـ حافز المقاتلة حتَّى الإبادة دونه: "إذ تبين له أنه الرجل الوحيد الباقي على
قيد الحياة" (ص 86).
ـ حافز موت المدينة.
ـ حافز التحول المتواتر في العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة: ظهورها ولبوس
الأدوار إياها من جديد: "احترقت المدينة. مات الجميع" (ص 86).
ـ حافز التثبت من اليقين المقلق: "وقال لنفسه متسائلاً: هل اسم الفتاة شهرزاد؟"
(ص 87).
ـ حافز الإقرار بالحال إياها: "وقال بحزن: إذن لم يبق سوانا من الأحياء؟"
(87).
ـ حافز الانهماك مجدداً في المدينة الميتة السوداء (ص 87).
تشير الحوافز، كما لاحظنا، إلى حدث عام: موت المدينة واتشاحها بالسواد، وحدث
رئيس: العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة بطوابعها القاتلة والمستحيلة، على أن
الحديث، شأنه في الحكاية الشعبية التي تخرج إلى القصة، يتخلص من مياسمه
الملازمة: الخطر أو السحر أو الكذب أو الغموض أو الاستحالة إلى حدث واقعي، قابل
للحدوث، وإن ترافق بشيء من المفاجأة، ولكن سيرورته منطقية حين يجهض بحافز
العدوان الخارجي الذي يحيل إلى العدوان الداخلي فتفرز العلاقة نفسها عوامل
موتها.
وينطبق هذا الرأي على الشخصيات فهي إنسانية، ولا تقارب نماذج الشخصيات الخرافية
أو المؤنسنة. وثمَّة علامات أخرى لواقعية الشخصيات ونموذجيتها: الرجل والمرأة
دون تسمية، وإن وردت حقيقة أو تناصاً. فالغرض هو الإحالة الكلامية إلى دلالة
الشخصية بتواتر ظهورها واستبدال التحول المادي بتحول معنوي. وتفضي هذه التقنية
إلى فهم السرد خطاباً يتفق مع مجازية عتبة العنوان أو التسمية، فقد تغيرت
الوظائف باستخدام الملفوظات السردية التي توازن بين الحوافز الواصفة وحوافز
الفعل القصصي: الحياة المهددة بالعدوان والقتل ونفيها من الداخل والخارج، وتصير
العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة مسوحاً للفعل القصصي باختزال الوظائف
ومجازيتها بديلاً للعجائبي والغرائبي في الحكاية الشعبية (الخارق، الجن،
السحر... إلخ) حين يوضع الفعل القصصي فعلاً إنسانياً دالاً من خلال فهم
المتواليات السردية، ولولا منهجية علم السرد لأستغلق المتن الحكائي على دلالته.
ويخفف هذا الفهم من تكلف تأويل النصوص السردية، فالمنهج سبيل رؤية، وليس حجراً
على فضاء النصوص(5).
ويستعاد شكل الحكاية برمته مطوّراً في قصة "شهريار وشهرزاد" (نداء نوح)، لينهض
السرد الشهرزادي أو سرد الليالي بقابليات حديثة مشحونة بغنى المجاز الدال على
رؤية شاملة للوضع الإنساني العربي وشروطه القاهرة، فقد مدّ تامر المتن الحكائي
إلى اللحظة الراهنة دون بعث تفاصيله أو شيء من أحداثه ووقائعه الغامرة لجوهر
علاقة الرجل والمرأة في الوجدان الشعبي، بل إنه سرعان ما أدغم هذه العلاقة بشرط
اجتماعي وإنساني أوسع باقتران الصمت (السكوت عن الكلام) بخوف شهرزاد "كأي عربي
وعربية" (ص 235)، فما يحدث في العلاقة بين الرجل والمرأة من وطأة شروطها
المعذبة في صعوبة الرضا والتفاهم أو استحالة الوئام يصير إلى تعبير مجازي عن
وطأة العام على الخاص، فليس ثمَّة علاقة خاصة بمنجاة من ضغوط الاستحقاقات
العامة القاهرة، وليس ثمَّة خلاص فردي بمعزل عن الخلاص الجماعي.
صرح تامر المبنى الحكائي الشهرزادي في مفتتح قصته إشاعة لطوابع سلطة الحكي
وتحوله إلى حكي السلطة، فتتكرر حكاية شهرزاد مع شهريار إلى نقيضها من خلال
تبادل الأدوار على سبيل الدعابية المريرة حتَّى تمتزج السخرية بالتوجع الذاتي،
وكأنه "التزوير" (عنوان القسم الأول من القصة) أو التزييف باختلاف الرؤية التي
تعضد وجهة النظر، وتثري المنظور السردي. فقد حلت شهرزاد محل شهريار، وصارت
الآمرة الناهية بالحياة وقتلها، حين أمرت بقطع رأسه، وطاولت البعد الأعمق
لانتفاء معنى العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة في ظل الشروط الاجتماعية
باهظة التكاليف، وقد تسيّد حكي السلطة لبوساً لسلطة الحكي، كما في خاتمة
"التزوير":
"وفي الأيام التالية، استدعت الملكة شهرزاد العديد من الأدباء الموثوقين،
وأمرتهم بإعادة كتابة حكايات ألف ليلة وليلة، وتعديلها التعديل المناسب، فكانت
لها ما أرادت، وأصبح شهريار خصماً للمرأة في كلّ العصور" (ص 234).
وينتقل المنظور السردي من مجازية معنى الفعل في العلاقة الأزلية بين الرجل
والمرأة بأشكالها المستعصية على التحقق حيناً وأشكالها المستحيلة حيناً آخر إلى
رؤية استعارية أشمل لمضاء جوهر هذا الفعل في تركيب اللحظة الإنسانية الراهنة من
خلال استمرار التشبث بقيم المجتمع الذكوري اكتساباً للسلطة التي تقتل ما هو
داخلي مراحاً لاستبطان القتل الخارجي المنتشر، وكأن قتل الداخل (العلاقة بين
الرجل والمرأة) اتقاء لقتل الخارج (شروط العيش العامة).
تُروى في القسم الثاني من القصة "الليلة الأخيرة" حكاية زواج شهريار ماسح
الأحذية من شهرزاد بنت صديقه صانع الأحذية، ولنلاحظ في هذا السياق عنف المفارقة
وهولها مثيلاً سردياً لتجاذبات الموروث والحي في آن واحد متمثلاً في عنف
العلاقة الذي لا ينفصم عن رهاب السلطة واستطالاته الأشد عنفاً على تحقق
العلاقة.
لقد رفض شهريار ماسح الأحذية اقتراح شهرزاد باستمرار العودة إلى معابثة سلطة
الحكي خشية من تداوله حكياً للسلطة، أي تمثل فعل السلطة بالحكي، منغمراً بدواعي
نمط العيش الاستهلاكي: ثقافة الصورة واستغراقها في التسلية واللاجدوى، وعندما
يُلغى رباط الحكي، ويستبدل بما يعين المرء على استهلاك يومه بالتلفزيون على
سبيل المثال، تبدأ لحظة الاختلاف أو الاستحالة، ويلبس صوت الرجل القمع
المستمر:
[فصاح شهريار بغضب: "اخرسي. بدأ عرض مباراة كرة القدم، وإذا تفوهت بكلمة ذبحتك
كأن الله لم يخلقك"] (ص 235).
ظهر تبادل الأدوار على سبيل السخرية نحو قلب الدلالات في القسم الأول، ثمَّ
تعمق كثيراً بإضافة مستوى التباين الاجتماعي والطبقي حين قالت شهرزاد في الليلة
الأولى لزوجها شهريار:
"سيزعم في المستقبل أنك ملك وأني ملكة، وسيزعم أيضاً أني أنقذت عنقي من الذبح
بسيفك بأن حكيت لك طوال ألف ليلة وليلة حكايات مشوقة، فما رأيك في أن أروي لك
مثل هذه الحكايات؟" (ص 234). ولعلنا نلاحظ من جانب آخر وفرة استعمال الحكاية
ومشتقاتها إشارات إلى المنظومة القيمية وممارسة عيشها الذي يبلغ ذروته في تجاذب
فعل الحكي فعلاً للسلطة:
[قالت شهرزاد: "اسمع. أنا لم أكن متسولة في الشوارع يوم تزوجتني، بل كنت أعيش
كالملكة في بيت أبي"] (ص 235).
غير أن الرجل استبدل سلطان الحكي بسلطان الصورة الاستهلاكي (عروض التلفاز
المسلية والفارغة)، وهو عود إلى جوهر قصد فعل سرد الليالي في دوام اللحظة
التاريخية العنيفة والمروعة في العلاقة العصية إلى التحقق بين الرجل والمرأة
بما هي نتاج قمع ينشد تعديله بمعابثة سلطة الحكي سبيلاً للسلطان المراوغ الذي
لا يلبث على حال.
5 ـ الخبر:
ينطلق الخبر فناً قصصياً من كونه وحدة سردية برأي محمد القاضي(6) أو وحدات
سردية، لأنَّ الوحدة السردية حافز لا يكتمل الخبر به، بمعناه الوسع والأقرب
لطبيعة الإخبار الذي يحتضن مجموعة الأحداث والشخصيات المروية من قبل راو أو
سارد يضعها في آلية الخطاب بما هو حبك للفعل القصصي. وقد يختزل الخبر أو يقتصد
إلى حافز عام موشى بمجموعة حوافز لفظية ووصفية، على أن العموم في فهم الخبر هو
توافر الوقائع والشخصيات داخل شبكة علاقات لغوية تسعف الوظائف على بلوغ الأغراض
المنشودة.
ويقوم الخبر عادة في السرد التاريخي أو الأدبي على الإسناد طلباً للحقيقة أو
الصدق التاريخي، غير أن الصدق لتاريخي مقترن بالصدق الفني، وهو مؤطر بالتوهم
بين الواقع وتخييله، أي مقدرة القاص على الاكتفاء بالخبر فضاء سردياً متخيلاً،
وقد يحافظ الراوي أو السارد على متن الخبر الأدبي أو التاريخي نفسه، أو يبني
تخييله السردي على سماته في نظام الإخبار الذي يؤثر على شكل التحفيز، أو تناسل
الأخبار التي تفيد في التحفيز التأليفي لمجموع الحوافز فضاء سردياً يستغني عن
التنامي الواقعي أو التاريخي للفعلية. وقد يعالج البعد الدلالي المرتهن
لمرجعيته أو لقبليته حين يحيل إلى واقعة تاريخية أو حين يتناص مع شرط ما أو
علامه، أو حين يباشر أغراضه الفكرية والعقائدية بينما يتطلب الإبداع مجاوزة
المرجعية إلى مقدرة المبدع على اجتراح زمنه ومجتمعه الخاصين.
بنى تامر قصته "الإعدام" وفق تقنية الخبر وحدة سردية تنهض على تعدد الحوافز
اللفظية والوصفية. يتولى السرد راو مضمر عارف بما جرى، ويمزج الفعلية أو زمن
السرد من المنظور الراهن [الفعل المضارع] والمنظور الماضي [الإخبار أو الفعل
الماضي]، إذ يصف عمر المختار مشنوقاً، وثمَّة حارس يراقبه. ثمَّ ينتقل إلى
الطبيعة وواقع الحال الذي يضيق إلى عناء الحارس الناقم على الحياة، وتكتمل
دائرة التوهم بمخاطبة الحارس لعمر المختار جثة تتدلى من أعواد المشنقة لتبدأ
الوحدة السردية الأشمل: ضنك العيش وقسوة الشرط الإنساني على الحارس المنغمر
بالتوهم، ويتابع تدعيم الوحدة السردية بحوافز أصغر: تهيؤات الحارس وتذمره، قدوم
ولد إلى التمثال وتدعيم الغرض الرئيس حين يتفاقم الإحساس بوطأة العيش فيصير
الحال إلى نقيضه بانتظار التركيب الجديد الذي لا يجيء. غدا الفعل القصصي مداراً
للحوافز الوصفية واللفظية تمهيداً لحبك الأطروحة ونقيضها، فقد تطاول الحارس على
الولد، وانتزع دميته بذرائع واهية وتهديدات شتى، ثمَّ غاب الولد بينما عاد
الحارس إلى نجواه المقهورة مع عمر المختار غافلاً أو متغافلاً عن معنى التناص
أو استدعاء الشخصية التاريخية، على أن هذه النجوى تتداخل مع عذاب الحارس الذي
تتقاذفه لوعة الوحدة ورهاب الخواء الداخلي في لبوس العدمية وانكسار الحس
الإنساني داخل هذه اللحظة المتأرجحة بين الواقع وحطامه، وبين القيمة وتلاشيها.
مدّ الحارس نجواه إلى الدمية، وخاطب جمهوراً خفياً ليتبدى نقيض الأطروحة في
لوعة القتل لدى الحارس الذي بادر إلى إعدام الدمية دوراناً في مدار الموت وكأنه
مناخ ضاغط على الروح، فيكتمل الحافز الصريح:
وشدّ قامته، وصرخ: "الموت للخونة".
وحمل الدمية، ولفّ الحبل حول عنقها ثمَّ تركها لتهوي في الفراغ متأرجحة بجوار
عمر المختار] (ص 92).
أمَّا الخبر وحدة سردية فيضاء بانكشاف تداعي المنظومة القيمية على الخراب
المنتشر:
"ورغب عمر المختار في الصراع غير أن الجموع بلّلت حالاً وجهه المتجعد ولحيته
الطويلة البيضاء، فها هو العصفور الصغير يطرد من مدرسته لأنه لا يتقن سوى
الغناء، وهاهي الغيوم تمنع من السير في الشوارع العريضة لأنَّ ثيابها عتيقة
مهترئة، وهاهو القطن يؤكل بدلاً من الخبز، وهاهي الوردة تلعق دمها، وهاهو عمر
المختار ينبذ حبل مشنقته، ويغدو نحو المقبرة بينما شموس الأرض تتوارى، وتنطفئ
شمساً تلو شمس" (ص 93).
يلاحظ في مستوى الخطاب مضياً في اقتصاد الحوافز الوصفية أيضاً، فيُختزل زمن
الأحداث الذي ينعكس على اقتصاد الحوافز بتقليل الوحدات القصصية وإدغامها في حيز
شبه جغرافي ممَّا يتيح لرواية الحدث انفراجاً في المشهدية وفي تعضيد تقانة
التواتر بوصفها قصاً إفرادياً يروى فيه الحدث لمرة واحدة حرصاً على مضاء تقليب
"الدلالة" في عملية الأطروحة ونقيضها وصولاً إلى تركيب جديد هو انفتاح الوحدة
السردية على فضاء المعنى، فقد خرج الراوي بالحديث إلى تمثيله المجازي من خلال
الإفراط في معاينة وضع الحارس بالقياس إلى وضع الجثة معنى حياً مفارقاً لمعنى
فعل الحارس. (الحوافز التي تقصّ تفاصيل جيشان الحارس الغافل عن جوهر فعل النضال
الذي يتلاشى في غيبوبة غريزة الموت).
وثمَّة أمر آخر في صياغة الخبر وحدة سردية ثرية الدلالة هو مبالغة التوهم
الواقعي بتأثير "مسرحة" الفعل القصصي فالحارس يتحرك على مسرح تتحرك فيه
الأشياء، أو يحركها الحارس المنفعل بترجيع الأحداث على ذاته نزعة تدميرية.
حوّل تامر نظام الخبر إلى وحدة سردية شديدة الانضباط والإلماح في نفوره من
الحواشي أو الاستطراد، وقوامه الترتيب والترابط ممَّا يفضي إلى تحفيز تأليفي
يعني بالغرض على أن القصد في القص يتجاوز المبنى الواقعي للأحداث إلى مبنى
مجازي طبع الخبر بكامله.
والأمر الأخير في تحليل الخبر وحدة سردية في قصة زكريا تامر هو الخروج من تأرخة
النص وواقعيته إلى التخييل السردي افتراقاً عن المرجعية نحو الانعتاق من ربقة
الواقع بالاستغراق في تمثيل الخطاب السردي، فالوارد هو مجموعة عناصر واقعية
تتخلص من إطارها الحقيقي لتندرج في مخيلة خصيبة دون اللجوء إلى العجيب أو
الغريب أو المعجز، فما يحدث كثير الحدوث، وما تغير هو شبكة العلاقة التي أعيد
تركيبها، ولم يكتف تامر بالتعالق النصي (إيحاء التناص باستخدام اسم عمر المختار
واستدعاء معنى الشخصية)، بل جاوزه إلى تعالق المرجعية والنص، إذ يبرز الواقع
الباهظ بتكاليف عيشه وصيرورة قيمه الإنسانية الباقية كما تعتمل داخل روع الحارس
المكدود مثل الحوافز التي تنتظم علاقته بالدمية إزاء الموقف من معنى عمر
المختار:
ـ مخاطبة عمر المختار عن الجيل الملعون الذي لا يحترم أحداً.
ـ مطالبة عمر المختار بنفي التفكير عن الحارس بولعه باللعب، فقد صار رجلاً منذ
زمان طويل.
ـ نجوى الذات عن حيرته إزاء الدمية وكأنها بشر.
ـ تفكيره بمحاكمة الدمية.
ـ الحنق على عمر المختار إذا توهم أن الحارس لا يصلح لإدارة محاكمة.
ـ رميه للدمية وصراخها عن بدء المحاكمة.
ـ تحذير عمر المختار من الضحك عليه وإلا شنقه.
ـ اتهام الدمية بارتكاب جريمة، وأنها ستدفع ثمن تحديها للمحكمة.
ـ مخاطبة الجمهور بأن "الضجيج ممنوع".
ـ زعيقه بالثياب المغسولة: إعدام.
ـ حيرته إزاء كيفية الإعدام.
ـ التوجه إلى الدمية واعتذاره عن عدم تلبية طلباتها الأخيرة.
ـ صراخه: "الموت للخونة".
ـ شنق الدمية وتأرجحها بجوار عمر المختار (ص 91 ـ 92).
ولا ننسى مبالغة التوهم بين الدمية والبنت وعمر المختار المثال المناضل وصورته
متدلياً من حبل المشنقة.
ولعلنا ننظر في قصة أخرى تأخذ شكل الخبر، ونختار قصة "خضراء" (الرعد)، ويقتصر
فيها السرد على وحدة سردية قوامها عدة حوافز وصفية ولفظية. وثمَّة ملمح آخر هو
الاستفادة من معطى التحولات الشائع في "الأسطرة" سبيلاً لتدعيم "الأنسنة"،
بإضفاء صفات إنسانية على الظواهر الطبيعية والكائنات الأخرى بوصفها مقاربة
للدواخل النفسية المضطربة بمعنى هذه التحولات. تمضي الوحدة السردية بجلاء إلى
ترميز الفعلية الموصوفة دون استطراد الحوافز أو استطالتها، فقد تماهت المرأة مع
الشجرة التي تناوبت عليها دورة الفصول، فأقفرت روحها من نداء الحياة القصي
حتَّى اليباس، غير أن مجيء الربيع جدد فيها الخضرة والنماء فأزهرت دون ثمر
ممَّا جعل صاحب الحديقة ينقض عليها بفأسه، "حتَّى سقطت على الأرض ميتة" (ص
110).
عمد تامر إلى التلخيص بلاغة للخطاب القصصي نافحاً "الإخبار" معنى "التحولات"
الذي نهضت عليه "الأسطرة"، فأورد حوافز وصفية ولفظية تشير إلى الفعلية الكامنة
إلماحاً إلى غرض يشي بتلاوين اليباس والخضرة في النفس القاحلة، وكأن الاخضرار
في النفس، وليس في الجسد وحده، وأن الهجران والانتباذ يقودان إلى القحط واليباس،
فالمرأة المهجورة والمنتبذة مثل شجرة يابسة تطوحها الفصول بمظاهرها المختلفة.
تصف الوحدة السردية حالات المرأة الذاهلة في حديقة الحياة إلى أن داهمها خوف
الذبول، فتتحول إلى شجرة في مهب الأوقات، ثمَّ لا يظهر حافز يؤشر إلى فعل سوى
إقبال صاحب الحديقة الهرم على التخلص من الشجر العاقر أو العقيم، فتتوالى
الحوافز الوصفية واللفظية المنضبطة على إيقاع الإخبار الوجيز:
ـ وقفة المرأة في الحديقة عارية القدمين.
ـ سماعها للغناء الخشن النائي منكسرة.
ـ تسرب الخوف إلى كيانها.
ـ ارتجاف جسدها وتصلب لحمها.
ـ نمو الجذور في باطن قدميها ويباسها وتحول اللحم إلى خشب.
ـ مقبل الشتاء وقدوم الربيع واخضرار المرأة ـ الشجرة.
ـ سطوع الشمس واكتشاف صاحب الحديقة الهرم عقم الشجرة ـ المرأة.
ـ استياؤه والتخلص منها.
من الواضح أن تامر يجمل الوصفية واللفظية في تحفيز بسيط ومجازي في الوقت نفسه،
هو أقرب إلى المشهدية أو تعاور الوصف والملفوظية على صوغ مشهدية يُخبر عنها
باقتصاد شديد، غير أن هذا التحفيز سرعان ما اندغم في تركيب جديد لتوارد الحوافز
ضمن عملية الإخبار عن حالات التحول وتعليلها الهادف. ويتبدى اقتصاد الحوافز في
لجوء تامر إلى تقنية "التواتر" الأكثر شيوعاً في متن الخبر حين يرد القص مرة
واحدة، وساعد على فاعلية هذه التقنية استخدامه الواسع للأنسنة الملازم لبنية
الخطاب في الأسطرة بما هي قرين الحديث الغريب أو غير المتوقع أو العجيب، وضاعف
من أهمية هذا الاستخدام التفات تامر عن الخارق وغير المألوف كما في السحر والجن
وغيرهما.
وتفيد تقنية التواتر كثيراً في بلاغية السرد حيث تقتصد الحوافز تعديلاً على
فاعليتها في الخطاب نحو تنظيم نسق تنضيد السرد لاكتناه الدلالات الكامنة.
6 ـ الكتاب القصصي:
يدخل مفهوم الكتاب القصصي في عمليات السرد المفتوح على سبيل القصة داخل القصة
أو تضافر القصص في قصة واحدة، وقد عمد تامر إلى هذه التقنية مبكراً، فحوت قصة
"رجل من دمشق" (صهيل الجواد الأبيض) عدداً من القصص التي تقرأ منفصلة أو
مجتمعة، والرابط بينها هو حال الرجل المغمور ومكابدته للعيش في مدينته الظالمة.
ثم وسع شبكة العلاقات بين القصص داخل القصة الواحدة كما هو الحال في قصة
"القرصان" (ربيع في الرماد) التي يتواشج مبناها بتعدد الدلالات وثراء القصد
داخل القصص المفردة في المستوى الأول وضمن اجتماعها قصة واحدة في المستوى
الثاني. ويلاحظ أن ثمة اختلافاً بين الحوافز في أجزاء القصة:
1 ـ كنت قرصاناً.
2 ـ المهرج.
3 ـ سقوط الرجل الشرير.
4 ـ ختام كلّ الحكايات.
أما عنصرا الترابط والترتيب في هذه القصص المفردة فهو تماثل صور الموت وانعدام
الضوء. وتجاذبت أمثال هذه القصص أشكال سردية متعددة الصوغ ورؤية المرجعية في
تخييلها الشاسع، كما في قصة "الذي أحرق السفن"، وتتألف من قصص أو وحدات سردية
تكتفي بذاتها حيناً، وتلتحم أجزاؤها حيناً آخر.
وصارت هذه التقنية إلى سرد مفتوح في كتاب قصصي قابل للزيادة والنقصان، فتحتفظ
كالقصة الواحدة بنسق تنضيد خاص سرعان ما يندغم في نسق التنضيد العام للقصة
بمجمل أجزائها، والقصة الأكبر في تجربة تامر القصصية حتى تاريخه هي "الأعداء"
(النمور في اليوم العاشر)، وتتألف من ست وعشرين قصة أو وحدة سردية مختلفة
الطول، من عدة أسطر مثل "محو الفقراء" إلى أكثر من صفحة مثل "الرشوة". وتحمل كل
قصة أو وحدة سردية عنواناً، وفق التالي:
1 ـ البداية: عن القمع المنتشر والقتامة الناجمة عنه على وجوه الناس.
2 ـ السماء المفقودة: عصفوران يتناجيان عن احتباس الفضاء واحتلال طائرات العدو
للسماء، مما آل الحال بهما إلى الانتحار.
3 ـ الأسرى: عجوزان يقرران رفع عريضة إلى الله عز وجل أن يرسل من ملائكته من
يقاتلون الأعداء عنهم، ويحمي الاستكانة والعجز عندهم.
4 ـ الثأر: انقضاض الأطفال الخانعين على مخترع الطائرات صفعاً ولكماً وركلاً.
5 ـ رجال: الحمد لله لأنه خلقهم رجالاً جبناء يهربون من مواجهة الأعداء.
6 ـ الخطر: نبوءة فلكي عن الهلاك القادم فلا يتنادى لدرء الخطر إلا لأن النساء
ستسير "في الشوارع دون ملاءات" (14).
7 ـ الجنة: خشية الرجال الموشكين على الصلاة من وجود الطائرات في الجنة، وتطمين
شيخ المسيجد بنفي ذلك.
8 ـ خطبة: الخنوع والذل والتسلح "بالروح والحق لا بالمادة الزائلة والباطل
الزهوق" (ص 15).
9 ـ وسام المنقذ: السخرية المريرة من تقاعس الناس عن حماية وطنهم، لأن الطابور
الخامس "يتجاهل وحدة الطاقات القتالية للغة العربية" (ص 15).
10 ـ لماذا؟ عن مزايا الكلام ودوره المشرف في محاربة الأعداء، والسؤال الضاغط:
"فلماذا حدث ما حدث وحلت بنا الهزيمة مع أن كلامنا جاهد جهاد الأبطال؟" (ص
16).
11 ـ محو الفقراء: مفارقة لفظية عن جوع المواطن والشبع من ورق الجرائد،
والإيمان العميق "بما قالته الجرائد" (ص 16).
12 ـ برنامج إذاعي: بطالة الشاب ورغبته في الموت وتعليق المذيع أن أمنية الموت
رغبة "في معاقبة نفسه، لأنه لا يساهم في بناء مجتمعنا المتطور السائر إلى
الأمام" (ص 17).
13 ـ الأبناء: حوار بين الأم والطفل وتوضيحها أن ملكات الإنسان مخلوقة لتعزيز
الولاء للسلطان "بينما كانت الأم ترتعد خاضعة لرعب قاس" (ص 17).
14 ـ البطل: جواب خالد بن الوليد للمذيعة أن بطولته بفضل ملح اندروس الفوار.
15 ـ الحبّ: تفسير الإخلاص للوطن بمحبة المرأة الموالية للنظام.
16 ـ الجريمة: نفاق العامل الذي يعدّ زيادة الأجور جريمة تستحق أشد العقوبة
وخدمة للأعداء لأن مال الدولة سينقص، وسيتأثر الإنفاق على ترف المسؤولين، مما
يؤثر على معنوياتهم في مواجهة الأعداء.
17 ـ أولو الأمر: هدد الشرطي النهر بأن يقدم تعهداً خطياً بألا يتدخل في الشؤون
السياسية، فبادر النهر إلى إعلان "الولاء والطاعة لأولي الأمر" (ص 20).
18 ـ في سبيل وطن يسبر السياح: نداء من المخلوقات البشرية الرثة أن تستأصل
اتقاء من خيانة الوطن!
19 ـ أصفاد الموتى: طلبت منه أن يدفن الأجداد في قبورهم، ولكن أشباحهم أوثقته
بالأصفاد ودفنته، على أن امرأته "انتظرت عودته دونما يأس كي يحارب الأجداد
والأصفاد" (ص 21).
20 ـ الشموس والأقمار: دعوة للخنوع والإذلال والنفاق والجبن وطاعة أولي الأمر.
21 ـ الصغار يضحكون: أنبهم رجل الدين أن يبنوا مسجداً على الرغم من فقرهم لأنّ
الهزيمة أمام الأعداء عقاب وإنذار بابتعادهم عن الدين الحنيف، فبنوا "مسجداً"
له مئذنة تشبه رمحاً غاضباً يوشك أن يندفع عبر الفضاء ليثقب طائرات الأعداء" (ص
23).
22 ـ التحقيق: التحقيق مع طفل في المهد للوشاية برفاقه.
23 ـ الوصية: يوصي الرجل الهرم المحتضر بالتزام المسلكية الشائنة وغير
الأخلاقية كالتملق والرياء والانتهازية والكذب والابتذال.. إلخ، ولم يوقفه عن
تمام وصيته إلا الموت.
24 ـ النهاية: يشرح المعلم لتلاميذه معنى الفصول، غير أن مقدم الصيف مختلف هذه
المرة، "فلن تنبت سنابل قمح، إنما ستنبت طائرات جديدة ورجالاً توّاقين إلى موت
ثان" (ص 26).
25 ـ النهاية: ألصق رجل مديته في التراب مستشفياً، وأحس أن الأرض تبكي مثله، ثم
ما لبث أن سمع "أحذية الجنود تصك الأرض برتابة" (ص 26).
يقوم الكتاب القصصي عند تامر على إعادة ترتيب المتن الحكائي، ولا سيما "التبئير"
الخارجي (بناء وجهة النظر) إذ يغلب وصف الشخصيات وسلوكها وأفكارها من الخارج،
لتنتظم الرؤية إلى موقع الراوي المضمر العارف لنسق تنضيد السرد. مثلما يهتم
بالمؤلف الضمني الذي يعالق دلالات القصص المفردة في المنظور السردي برمته، فلا
يباشر الأغراض، ولا يصرح بوجهة النظر، ولا تتملكه شهوة الخطاب التبشيري أو
الإيديولوجي بل تسعف العناية بهذا المؤلف الضمني في تراتبية أغراض السرد
المفتوح إلى فضاء الدلالات الأعم والأشمل، على أن تامر يثمّر أيضاً تقانة الزمن
الحكائي في الكتاب القصصي القائم على الحذف ضمانة لسرعة سردية توازي بين
الوحدات السردية، وتجمع بينها في إيقاع متسارع يعتمد على المشهدية ومتوالياتها
التي تجترح زمنها الخاص، ولعلنا نشير إلى تحقق مثل هذه التقانة للمزمن في صوغها
الأبسط في "المقامة" حين تتوالى المشهديات التي تقوم على الوصف بالدرجة الأولى،
وحوار النجوى الذاتي المتأمل للحال العامة والخاصة بالدرجة الثانية مما يعين
على خطاب قصصي ينهض به المؤلف الضمني(7).
لقد صار التأليف القصصي إلى سرد مفتوح على مثال الكتاب القصصي في أضمومات قصصية
أو هي أقرب إلى الموجات على صفحات الماء، وما تلبث أن تتفتح وحدات سردية شديدة
الكثافة في ضبط الحوافز الوصفية واللغوية والإخبارية عن فعل خاطف أو فعل يتوالد
ويتنافى في تحفيز واقعي سرعان ما يندغم في أشكال مجازية من التحفيز التأليفي
بخاصة، إذ لا يختفي الحدث قط، أو يُشار إليه في الخطاب القصصي. وربما كانت قصة
"بعض ما جرى لنا" (سنضحك) بتفريعاتها القصصية إطاراً فسيحاً لتوالد الوحدات
السردية أو تكاملها بوساطة راو متكلم يخبر، وهو العارف إلى حد كبير، عن حكايات
حارته أو منطقته في صيغ الخبر بالدرجة الأولى، على أنه يعلل الأحداث والوقائع:
لماذا جرت على هذا النحو أو ذاك في بنى استعارية تؤشر إلى فضاء العذاب الشامل
لجماعة مغمورة ومقهورة مكتوبة بنار شروطها المضنية فتوغل في الفساد والإفساد
إلى منتهاه،
وتختلف صور الرذيلة مع صور الفضيلة. وأوجز أقوال الخطاب القصصي وإشاراته إلى
المعنى المؤرق والحسّ المأساوي لقتامة الوجود في بعض هذه الجذاذات.
ـ سهرة في المخفر:
دعاهم رئيس المخفر للسهرة في مخفره، ودعاهم للكلام بعد صمت طويل، فتحدثوا عن
نسائهم وأولادهم، مما أشاع الملل في صدره، فمضى إلى وقائع حارته التي تشبه
الأهوال، إذ بات يروي حكايات قبضه على متهمين فارقوا المعتاد من الأفعال
الشائنة إلى اختراق المألوف والمحرم و.. كما هو الحال مع هذه التهم:
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على امرأة تغتصب الرجال، واعترفت إبان التحقيق
أنها اغتصبت سبعة رجال".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على سكران يسير في الطرقات صائحاً أنه الله".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على شحاذ مبتور الساقين والذراعين، ولا يزال
التحقيق معه جارياً، ولم يعترف بعد باسم الدولة التي يتجسس لحسابها، ولكنه
سيعترف".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على صبي لا يتجاوز عمره عشر سنين، ففوجئنا بأنه
أخطر مهرب للمخدرات".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على رجل متزوج من عشر زوجات، ويعامل كلّ زوجة
بوصفها دكاناً مطلوباً منها كل يوم أن تربح".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على ثلاثة رجال كانوا يحاولون هدم مسجد".
وقال لنا رئيس المخفر: "وقبضنا على فتاة صغيرة جميلة مختصة بإغواء الأتقياء من
الشيوخ"] (ص 208).
ـ الملاذ:
عرف رستم بهاء الدين بمهارة الكذب، وغطاء لغرابة أطواره التي تجعل الآخرين
يحتسبون الأذى الصادر عن صورته الشائهة، فلاذ به أهل الحي خلاصاً من هموم في أن
يدعّم لديهم فوائد الصدق، فروى أسباب نجاته من الموت في المحاكمة عن قتله
لامرأة واغتصاب زوجها، وعن تزيين فعل الدعارة لزوجته باسم حبّها للرشاقة،
وتطليقها عندما فضلت حبّ الرشاقة على حبها للمال، وعن عمله الدائم في نقل
المعلومات لرئيس المخفر عن أهل حارته، فارتاح القوم، واختفت همومهم.
سارق المئذنة:
الدعابة المروعة المبنية على المفارقة اللفظية بين الطربوش والمئذنة، فقد اتهمه
رفاقه بسرقة المئذنة، وأنكر ذلك. وحين دخلوا المسجد للصلاة اكتشفوا أن المئذنة
غير موجودة، فاختطفوا طربوشه "وأقسمنا أننا لن نعيده إليه إلا إذا أعاد المئذنة
المسروقة، فظل عباس المخللاتي طوال سنوات بغير طربوش، وظل مسجدنا بلا مئذنة" (ص
211).
ـ كلنا ينتظر الرياح:
ادعى نذير الحردان أن السبب الحقيقي لاختفاء الطويل عن قومه هو الرياح القوية
التي حملته وطوّحت به إلى مدينة لا يعرفها ليس فيها سوى النساء مما أجبر على
الزواج من سبع، فحسدوه، وأكثروا "من الوقوف في الطرقات كلما هبّت الرياح" (ص
212). وتتوالى الوحدات السردية موجات قصصية تتداخل فيما بينها لتغدو كتاباً
قصصياً عن الخلل القيمي في مراتع الفساد والإفساد، فلا يظهر إلا المفسدون بينما
يزداد المعذبون عذاباً. وثمة أكثر من عشرين قصة أيضاً داخل مبنى حكائي محكم في
ضبط نسق التنضيد للقصة مفردة أو مجتمعة مع قريناتها. ويعتمد تامر على استلهام
الموروث السردي ولا سيما الحكاية المتعاضدة مع الحكايات الأخرى، في لبوس تقانات
حديثة مثل المفارقة والتهكم والدعابية بلوغاً لقصد عام تتلاقى على تخومه مجمل
القصص الأخرى داخل تلاوين الأخلاقيات السائدة، كما في قصة "الراكض" التي تختزل
السرد إلى وحدة سردية هي السباق ومشاركة الشباب الأقوياء فيه ممن ارتدوا سراويل
قصيرة ملونة، فاستنكر الشيخ جبر الأحمدي فساد الأذواق، فالرجل يقصّر "ثيابه
بدلاً من أن تقصر المرأة ثيابها" (ص 214). ثم يقتصر المتن الحكائي على الإخبار
عن مشاركة عمر الباقي الذي لم يوقف ركضه السريع على الرغم من انتهاء السباق،
ولعله توالي المنغصات والنكبات: موت أمه، إصابة ابنه الوحيد بنزيف دموي، عهر
زوجته، مصادرة بيته... فما كان من عمر الباقي إلا مواصلة الركض السريع،
"فالأحوال ليست على ما يرام، والوحوش تكاثرت" (ص 215).
لقد أسعف اللجوء إلى مفهوم الكتاب القصصي المبنى الحكائي بثراء الوحدات السردية
نشداناً للغرض المحدد، مثلما نهضت الوحدة السردية الواحدة على تفريع الحوافز
ملفوظات تشير إلى تنامي الفعل القصصي بوساطة تقانة الوصف والمشهدية والمؤلف
الضمني الذي يوازي بين الوحدات السردية على سبيل التضام والتبئير الخارجي، أي
الرؤية الواصفة المتأملة من خارج بما يستنطق الخطاب السردي أغراضه الدالة.
7 ـ خاتمة:
يلاحظ مدى اشتغال تامر على تأصيل الفن القصصي في تقليده السردي الموروث ضمن
تشكل شديد المهارة في تواشج المبنى الواقعي والمبنى المجازي تثميراً لتقانات
حديثة تطور أشكال الحكاية والخبر والكتاب القصصي أو السرد المنفتح على ثراء
الدلالة.
الهوامش والإحالات:
(1) أبو هيف، عبد الله: "القصة العربية الحديثة والغرب"،
منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1994م، ص 197 ـ 221.
(2) المصدر نفسه. ملحق "مصطلحات القصة العربية" ص 273.
(3) أصدر زكريا تامر المجموعات القصصية التالية مرفقة بتاريخ
الطبعة الأولى، وتوثيق الطبعة المعتمدة في البحث:
ـ صهيل الجواد الأبيض (1960)، دار رياض الريس للكتب والنشر،
بيروت، ص 4، 2001.
ـ ربيع في الرماد (1963)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت،
ط4، 2001.
ـ الرعد (1970)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط4،
2001.
ـ دمشق الحرائق (1973)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ص
4، 2001.
ـ النمور في اليوم العاشر (1978)، دار رياض الريس للكتب والنشر،
بيروت ص 4، 2000.
ـ نداء نوح (1994)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ص 2،
2001.
ـ سنضحك (1998)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ص 1،
1998.
ـ الحصرم (2000)، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت ص 1،
2000.
(4) قدم عبد المالك مرتاض رؤية لعناصر الحكاية: اجتهاداً خاصا.
انظر كتابه: "ألف ليلة وليلة: تحليل سيميائي وتفكيكي لحكاية حمّال بغداد" ـ
ديوان المطبوعات الجزائرية ـ الجزائر 1993م.
(5) أشير إلى نموذج نقدي للتجاذب بين التحليل الدلالي في فهم
النص السردي وتكلفه. انظر:
ـ الوكيل، سعيد: "تحليل النص السردي: معارج ابن عربي نموذجاً"،
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998م.
فقد استخرج خمساً وثلاثين وظيفة من العزم على الإسراء حتى
الوصول إلى العماء من وحي الوظائف التي ووصفها بروب وطوّرها ورثته.
(6) القاضي، محمد: "الخبر في الأدب العربي: دراسة في السردية
العربية". منشورات كلية الآداب منوبة، تونس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998م،
ص 353.
(7) انظر على سبيل المثال التحليل السردي لمقامات الهمذاني
مستفيداً من علم السرد في إضاءة مكونات النص السردي:
ـ بكر أيمن: "السرد في مقامات الهمذاني"، الهيئة المصرية العامة
للكتاب، القاهرة، 1998، ص 118 وما بعدها.
أضيفت في
08/02/2006/*خاص القصة السورية
/ عن اتحاد الكتاب العرب
القصة السورية تراجعت عن
دورها في الحاضر بسبب تحولات الواقع
بدا المشهد الأدبي في النصف
الأول من سبعينيات القرن العشرين، وكأنه يؤسس لمرحلة تحول جديدة في الشعر
والقصة كمّاً ونوعا، وبدا كأن هناك محفزات ثقافية تحرض على انجاز هذا التحول،
وبلورة ملامحه الجديدة.ومن يعيد قراءة ذلك المشهد سيلاحظ ان ثمة تفاعلا كان
قائما بين تجارب جيل الشباب، وجيل الآباء دون أن يكون هناك.
حديث عن القطيعة الأدبية،
ودون أن يصادر جيل الآباء تجارب الجيل الجديد، ويخضعوها للوصاية الأدبية، وربما
كان هذا من العوامل المهمة في تحفيز وتعزيز صورة المشهد الأدبي آنذاك.
لقد شهدت القصة القصيرة في
تلك المرحلة انتعاشا واضحا تبدى من خلال عدد التجارب القصصية الجديدة، ونزعة
التجريب السائدة فيها، اضافة إلى بروز تجارب مهمة استطاعت تطوير أدواتها الفنية
والتعبيرية في السرد القصصي والتعبير عن هواجس الإنسان والواقع السياسي
والاجتماعي ما عبّر عن تفاؤل حقيقي بمستقبل السرد القصصي في سوريا، والمراهنة
على عدد من التجارب.
ودورها في تحقيق هذا
التطور، وقد أدى ذلك الانتعاش في واقع القصة القصيرة إلى ظهور بداية حركة نقدية
مواكبة من داخل المشهد القصصي نفسه، ومن الجيل الجديد، فكان أن تكاملت صورة
المشهد، وظهر التفاعل بين النقد والقصة، لا سيما وان الأسماء النقدية التي ظهرت
كانت من الأسماء القصصية الجديدة في المشهد أمثال القاص رياض عصمت، والقاص
عبدالله أبو هيف وغيرهما من الأسماء الأخرى.
أول شكل من أشكال التفاعل
بين جيل الستينيات وجيل السبعينيات دون ـ أن يعني هذا التحقيب وجود فواصل زمنية
تحدد على أساسها الأجيال والاستخدام هنا للتمييز الذي تتطلبه ضرورات البحث ـ
تجلى في سطوة تأثير الشكل القصصي الذي قدمه زكريا تامر في قصصه، والذي يجمع بين
اللغة الشعرية المكثفة والموحية.
وبين السرد القصصي، وتمركز
السرد حول الذات واغترابها وبؤسها وغربتها عن الواقع، ما أدى الى انكفاء
الشخصية على ذاتها وعالمها الداخلي، عبرت عنه من خلال المنولوجات والاستيهامات
التي كانت تكشف عن الصراع والبؤس وقسوة المعاناة وقدرية المصائر المأساوية التي
كانت تلاحق تلك الشخصيات.
لقد حاولت التجارب الجديدة
أن تتمثل هذا المزج في القصة القصيرة عند زكريا تامر بين التعبيري والواقعي
والمعبر عنه بسردية تجنح كثيرا نحو الشعر، وتستثمر لغته وبعض خصائصها
الأسلوبية، ولذلك طغت نزعة التجريب المقترنة بتمثل خصائص السرد التامري
كالمنولوج والتداعي والاستيهام، وتداخل شخصية الراوي مع شخصية القاص في تعبيرها
عن نوازعها وأحلامها المجهضة، وضياع الهوية، والانكسار والغربة، في حين ان
تجارب أخرى ظلت وفية للاتجاه الواقعي في القصة، وتعبيره عن حراك الواقع السياسي
والاجتماعي برؤية واعية ونقدية للواقع.
وظهر تجاوب جيل الستينيات
مع التجارب الجديدة من خلال دعمها، والاحتفاء بأسماء أصحابها، ونظرا لغنى
التجارب الجديدة، وما قدمته من اضافات للسرد السائد سارع النقد الجديد الذي
ساهم فيه عدد من القاصين الجدد أنفسهم باستكشاف وتوصيف ملامح السرد الجديد،
وأشكاله وتقنياته، اضافة الى أسماء ممثليه كما حاول رياض عصمت في كتابه المبكر
جيل السبعينيات في القصة السورية، إذ يعد هذا الكتاب من الأعمال النقدية
المبكرة التي رصدت ملامح التجربة الجديدة، وحددت توجهاتها الفكرية والجمالية.
وعلى العكس مما كان مؤملا،
شهدت نهاية حقبة السبعينيات تراجعا في عدد الأسماء والتجارب، إما بسبب توقف
التجربة عند حدود منجزها الأول أو بسبب تحول عدد من الأسماء من القصة إلى
المسرح والنقد والصحافة حيث أدى ذلك إلى تراجع واضح في سوية الأعمال القصصية
الجديدة، وفي كثافة حضورها، وتطورها، وقد شكل ذلك انتكاسة، كانت في جانب مهم
منها مرتبطة بالوضع الثقافي السائد، والوضع الاستثنائي الذي شهدته سوريا آنذاك،
ما شكل قطعا في مسيرة تلك التجارب، وأدى الى تحولها الى عدد من الجزر المعزولة
هنا وهناك.
لم يكن واقع التجارب
الجديدة في الشعر أفضل من واقع القصة والفنون الأخرى. ولذلك بدت مرحلة
الثمانينيات في الشعر والقصة السورية وكأنها بمثابة هامش أو كتابة في الوقت
الضائع، إذ لم تأخذ حتى الآن حقها من الاهتمام النقدي والأدبي. وقد تعزز تراجع
المنجز القصصي عند تجارب السبعينيات مع غياب أسماء كثيرة.
أو انتقالها الى الرواية،
أو محدودية انتاجها القصصي ومن الأسماء التي برزت في تلك الحقبة رياض عصمت،
عبدالله أبو هيف، خليل جاسم الحميدي، ابراهيم الخليل، نيروز مالك، محمود عبد الواحد، حسن. م يوسف، نبيل جديد، عادل حديدي، محمد أبو معتوق، وليد معماري
... أما بالنسبة للأسماء النسوية فلم يظهر أي اسم في ذلك المشهد الذي كان حكرا
على الكتاب الشباب.
حاول رياض عصمت في مرحلة
السبعينيات ان يجمع بين القصة القصيرة والنقد المتخصص في مجال القصة، فبدأ ينشر
الى جانب أعماله القصصية دراساته النقدية، ثم انتقل فجأة الى كتابة المسرحية،
وفي العقدين التاليين تحول الى تدريس المسرح والاخراج المسرحي، وتوقف منذ تلك
المرحلة عن نشر الأعمال القصصية، التي بدا واضحا فيها تأثره الكبير بالقص عند
زكريا تامر.
ولم يتأخر عبدالله أبو هيف
عن التحول بعد مجموعته القصصية اليتيمة الى النقد والصحافة الادبية حتى غدا
النقد القصصي والروائي والكتابة في قضايا الثقافة مجال اشتغاله الدائم، في حين
ان حسن. م يوسف كان انتقاله الى مجال الصحافة مؤثرا على حضوره القصصي، وعلى
تطور تجربته على الرغم من كونه لم يتوقف عن النشر، ومازال بين فترة وأخرى يقدم
عملا جديدا، لكن من دون الحضور الخاص الذي حظيت به أعماله الأولى.
ولا يختلف الأمر كثيرا عند
الأسماء الأخرى التي حاولت الجمع بين كتابة القصة، وكتابة الرواية، إذ لم يتح
لها هذا التوزع بين القصة والرواية ان تكرس جهدها في مجال تطوير واغناء تجربتها
القصصية، أما الأسماء التي ظلت تنشر هنا وهناك فلم تضف لمنجزها القديم شيئا
وربما ترك تراجع حضور القصة في المشهد الأدبي السوري تأثيره على تلك التجارب
لكن العديد من الأسماء تخلت عن كتابة القصة نهائيا دون أن تتجه نحو أجناس أدبية
أخرى كما فعل عدد من الأسماء الأخرى.
إن اعادة دراسة وتحليل
الواقع الثقافي في تلك الحقبة، لا سيما على صعيد التجارب الأدبية، ستكشف عن
حقائق عديدة، تفيد في قراءة سيرورة المشهد الأدبي والثقافي، وتحديد عوامل
الاخفاق والخلل فيه، إذ ان ما أصاب الشعر والقصة في تلك الحقبة أثر على واقع
التجربة الأدبية في المراحل التالية، كما مهد لعملية التراجع وغياب فاعلية
المؤسسات الثقافية المعنية بالشأن الثقافي ومقومات نجاحه وتطويره. خاصة وان
الحراك الثقافي في تلك المرحلة، ساهم في تنشيط الحياة الأدبية.
وكان متوقعا ان يسهم ذلك في
تشكيل تراكم ايجابي يؤدي الى تطوير المنجز الادبي. وبلورة تجارب متقدمة، إلا ان
تحولات الواقع، وغياب الفعل الثقافي أديا الى نتائج عكسية شاهدناها في تراجع أو
غياب التجارب القصصية، أو مراوحتها في مكانها، اضافة الى غياب الفعل النقدي
المواكب والذي تفرزه التجربة من داخل حقلها الأدبي.
من هنا فإن الحديث عن تجارب
السبعينيات في ذلك المشهد هو حديث عن الثقافة في مرحلة لم تستكمل شروطها
الابداعية، ومقومات نهوضها على المستويات الأخرى، فكان ان تراجع الفعل الثقافي،
لتتقدم عليه أولويات أخرى، أثرت على دوره وحركته، ولذلك لم تكن القصة وحدها
معنية بهذا التوصيف في صعودها، وتراجع حضورها، بل كان الشعر والمسرح والرواية
والعمل النقدي غير الأكاديمي أيضا.
|