عطش الهواء
- تأنقت المرأة:
فاستعد كل ما فيها لاستقبال الهواء، نوافذ الجسد، ومداراته السرية
وظلاله القاتمة، والثياب والحلي الفضية وعبقت رائحة الحبق من صدرها ممزوجة بزنخ
الإبط، ودقات قلبها، هذا الإله الشرقي الصغير، المستبد استبداد طفل وحيد ومدلل
ومع ذلك ظلت عيناها معلقتين بخنجر فضي يتدلى في الجدار.
- تأخر الوقت كثيراً . رفت الكلمات في البال ولم تحرّك ساكناً،
استسلمت لأنامل سرية تمتد إلى صدرها، وتتلمس نهديها ثم تنزلق إلى الأسفل تداعب
زهرتها النائمة.
تأنقت المرأة.
فبدت (ش) التي هي بكامل أبهتها، امرأة استثنائية طالعة من مخالب
الثلج كالبخار الكبريتي، فراشه تتهيأ للطيران بين جنة ونار ولا وقت لديها
للتراجع.
- ما الذي عوّقه؟!
وبدأت عذابات العطش تترمّد، بدءاً بالحلق، فالجوف، حتى أصابع
القدمين، عطش معذّب وشرس.
...
وقف الرجل وسط الغرفة.
كان حافياً وعاري الجذع، تطل من عينيه أحلام حزينة كموكب من جنياّت
شقية، ومع ذلك كان يقف مشدود القامة، يرقب شيئاً خفياً كالطمي النهري يتسرب في
عصبه، فيخلق داخله حالة من الخصب والشبق المتعطش، فتتحرك معسكرات النمل الوحشي
هناك في الأغوار البعيدة .
وقف الرجل فبدا(ع) الذي هو بكامل وحدته وخوفه وشوقه الحار إلى صدر
أنثى ليرتمي عليه كطفل جائع، وبدأ حالة من الهذيان العادية.
- لهذه المشاعر لغة سرّيه لا يدركها إلا العارفون بحالاتها، وهي لا
تسلم مفاتيحها إلا بعد وجد ومكابدات وأنا رجل عارف بها، حافظ لإشاراتها
الغامضة، فاهدأ أيها الكائن الجميل، ولا تبالغ في اندفاعاتك الجموحة فثمة عطش
يحاصرك، ثمة كون يضيق أو يتسع، ثمّة أنت ...وهي ... ثمّة.
توقف الرجل عن الهذيان، وكأن رجلاً أخر يتكلم، وتوقف جريان الهواء،
فمّد رأسه من النافذة، فلم يشاهد سوى طفل صغير على الرصيف المقابل يلهو، فتذكر
خوفه القديم من الاختناق، وأفاعي الماء، وكلاب الرعاة.
كانت المرأة شاحبة ومتقلبة تتكلم بسرعة، وتضحك في ساعات الفرح
كطفله مسكونه بروح مذهلة وعشق مزمن للنهر والعصافير ونباتات الزينة، وكانت
تحبّ الكلمات والقهوة والتدخين والنوم متأخرة، تدفن رأسها تحت الوسادة وتستحضر
كل كوابيس الدنيا لترتعش خائفة، فالخوف صديقها الذي ترتاح إليه، كما يرتاح
الغصن العطشان للمطر في الربيع، وكانت تحب زيارة الساحرات والمشعوذات وقارئات
الفنجان.
- أحبك
قال لها(ع) يوماً، ولم تجب ظلت ساكنة ترتعش
- أنا خائفة
قالت(ش) ثم فرّت هاربة وهي تشعر بعطش طاغٍ إلى الهواء والفراغ، حتى
لا تختنق.
....
كان (ع) رساماً
تلوث أصابعه الألوان، كما تلوث روحه هذه الرتابة القاتلة، ودبيب
الوقت البطيء وكأنه الرتيلاء، زماناً أحب الأشياء وعاشرها، ويوم ملّ الوجوه
والأمكنة وثرثرات الناس، عاش سباتاً طويلاً، يرسم بآلية، ويأكل، وينام، ويشرب
العرق في المساءات وحيداً وهو يحلم بجسد امرأة يخلده في لوحة من لوحاته.
كان (ع) هادئاً.
حين هبّت عليه عواصفها، فبدأ الخراب، خراب القبح والرتابة والأشياء
والأمكنة، حيث أعادت تكوينها من جديد فقال بعد الكأس الثالثة من العرق:
- إنها تعيد تشكيلي.تعيد لي الألوان البكر.
وكان يحس ببروقه القديمة تتحرك من جديد في التماعات وومضات تترافق
مع ضحكتها، هذه الضحكة التي تطلع من قاع حلقها مغسولة بالماء وصافية كالكريستال
العتيق، كما تترافق مع كلماتها السوقية التي تحب استعمالها في توصيف الناس
والوقت والأشياء، والأحلام، وأحياناً للتعبير عن الإعجاب المطلق بفوضى العالم
الذي يحيط بها.
- أحبك.
قال لها يوماً. ولم تجب، ظلّت ساكنة ترتعش.
- أنا خائفة.
قالت ثم فرّت إلى الخارج تركض كالوعلة الحذرة....
آخر مرّة التقيا قال لها (ع):
- هذه العلاقة لتي تربطنا لا أفهم لها معنى فأنا أحبك ومع ذلك
فأنت..
فردّت (ش) بإصرار:
- أنا خائفة
-إذن لنفترق بإرادتنا.
-لا.
صاحت برعب ويدها ترتعش.
-والحل؟!
-نفترق مؤقتاً، ونجرّب.
- نفترق مؤقتاً، ونجرب.
وافترقا مؤقتاً، لاذت هي بعالمها الخاص، وانصرف هو إلى العرق والرسم
في المساءات الثقيلة. وكانت رحلة العطش.
...
تحركت المرأة تمن مكانها.
فتحت الباب ثم اندفعت لا تلوي على شيء، وكان الشارع خالياً في تلك
اللحظة، والمقهى القريب شبه مهجور، ولم تسأل نفسها:
- إلى أين ؟
تركت لقدميها حرية الحركة والاندفاع إلى حيث تشاءان وكأنها منومه أو
مسلوبة الإرادة، فهذا العطش أعماها، عطل فيها كل شيء، فهو يسكنها يضغط على
أعصابها، فتلوب عيناها بحيرة وألم، وتتشنج أصابعها وعروق العنق، وينسحب الشحوب
على وجهها قناعاً مستعاراً بلون الطباشير .
...
عطشان يا صبايا.
جاءه الصوت من مذياع الجيران فهزّه، أقلق قنوته الخاشع، فاندفع إلى
الخارج زائغ البصر، مشوش الذهن، هذا العطش يقتله يحوله إلى كومة من الرمل
الجاف. ولم يسأل نفسه:
- إلى اين ؟
كانت المرئيات من حوله تتحرك كأشباح في ضباب، بلا صوت مجرد كتل
هلاميه، تأخذ مساحات من الفراغ، فتمنى لو كانت معه ريشته وألوانه لينقل هذه
الإحساس الغريب بالعالم إلى لوحة بالتأكيد ستلقى الترحيب من الجمهور.
كانت (ش) تشعر بأنها تحلّق.
ترتفع بجناحين من حرير، والعطش يقودها في أودية عميقة بين ماء ونار،
وكانت خائفة ومهتاجة، تعبر بين الظلال والألوان وكل شيء أمامها كبساط من صوف،
الفضاء، والسهوب، والعماير، والشجر، والمخلوقات، والعطش لا يفارقها، يدق جرس
القلب الصغير، ويضرب العصب بشدة.
- هذا العطش حارق وقاتل.
قالت ثم تابعت بعد حين باستسلام:
- هذا العطش اسمه (ع).
وتصور أمامها هذا العطش كرة من النار والضوء فاتجهت إليه باستسلام
قدري وهمست:
- إنه قدري.
...
كان (ع) يحسّ العطش شمساً من قصدير ولهب.
رملاً يشويه القيظ، وكان يراه فرساً تدوس بحوافرها صدره وعصبه وتفري
لحمه، تنثره في الحماد فيتبدد بين الرجوم، يضيع وسط عماء وحيرة.
- هذا العطش لا يطاق.
قال ثم تابع بحسم:
- هذا العطش اسمه 0(ش).
ومضى لا يلوي على شيء، عاصفة من الأوراق واللون والمشاعر الحادة.
....
وقفا وجهاً لوجه.
قالت (ش) باستسلام
أحبك .
قالها لها(ع):
- أحبك
واندفع تيار من الهواء يملأ نوافذ الجسد، ومسامه، وعصبه، وعبقت
رائحة عطر غامض، ودفنت (ش) وجهها في صدره وكأنها تريد أن تغفو.
المهرة والعذارء
كانت ليلة باردة وسوداء.
تهب ريحها معولة كالشياطين، فتثير في طريقها الغبار والأوراق
اليابسة والحصى، وتسفع الوجوه والجدران الطينية وذوائب الشجر الرعوي، فيتردد
صدى عويلها في الوديان والشعاب عميقاً مخلفاً وراءه رهبة وجلالاً وضيقاً بهذا
الجبروت، وهذه القسوة غير المبررة أحياناً، وغير المفهومة، لكنها باتت مع ذلك
أمراً واقعاً عند الساكنين وكأنه قدر لا مهرب منه.
وكانت أمي تقف بطولها الفارع، وثيابها السود، وهي ترفع بيدها اليمنى
قنديل الكاز، فتبدو في ضوئه الشاحب وجوه الحاضرين جامدة، قاسية الملامح
كالصوان، وقد ترجرج في العيون خوف قديم وخاشع ولهفة غامضة وترقب لما تـأتي به
اللحظات الغامضة.
كان الوقت رملاً ينسرب من بين الأصابع، أجنحة تحلق فوق الرؤوس
وتصطفق، كان صوتاً يأتي من كل الجهات يحمل إلى الواقفين نداء غامضاً لأغنية
الحياة المهددة، الحياة الخارقة التي تنبت في شقوق الصخور مثل وردة برّية من
شوك العاقول.
ومن داخل الحظيرة جاء صوتها، حمحمة عميقة، تتصاعد من صدرها العريض
وهي تدق بحوافرها الأرض، وكأنها تترجم ألمها الأعجم، لأنها غير قادرة على
الإفصاح عن أوجاعها، أوجاع المخاض الذي دهمها قبل الأوان، فانطرحت على أرض
الحظيرة، قبّة حمراء من الدم والألم والعصب والأنفاس اللاهثة والصهيل المحموم،
وقد تصاعدت في الموقد ألسنة النار إلى جانبها، تحاول أن تساعدها في مخاضها
الدموي العسير بالدفء والقوى الكامنة فيها.
- إنها تتألم.
قال أخي الأكبر بحزن وإشفاق فرد أبي بعصبية:
حتى الحمار يفهم أن الولادة لا تتم بدون ألم، فهل رأيت أنثى تلد وهي
تضحك؟ اسكت.
وسكت أخي وهو الذي اعتاد مثله مثل الآخرين أجوبة أبي القاسية في مثل
هذه المواقف المصيرية الحاسمة.
ونظرت إليه أمي، وكأنها تريد أن تقول له: انظر، كم تعاني الأنثى
لتلد، فهذه الأوجاع لا يحتملها سوى نبي أو امرأة حبلى لحظة الطلق الأخير.
....
- كيف الحال يا شيخ أحمد؟!
سأل والدي الرجل المشرف على ولادتها، وقد بدأت حمحمات الفرس تعلو
حيناً ثم تغيب بعدها طويلاً، وكأنها تحتضر لا تلد، فردّ الرجل المجرب:
- الله يأخذ بيدها.
- ونعم بالله.
- صلوا على النبي.
صاح الرجل وهو يدور حول الجسد المسجى، فترددت الأصوات بالصلوات،
أصوات خاشعة وعميقة ومرتعشة كشموع في محراب صخري.
- يا ربّ...
وكزّ على الأحرف وهو يرقب حركة الحافر الذي يدق الأرض والحمحمة
والعيون الخرساء الضارعة، والشخير، ثم شمّر عن ذراعيه حتى الإبط، ودفع يده
المشعرة في الرحم وهو يرفع صوته النائح بأدعية وصلوات، وينادي، أجداداً له
مغرقين في القدم، طالباً منهم العون والمساعدة في مثل هذا الموقف الحرج حتى لا
يخذل.
- يا باز... كراماتك.
وتتابعت الزمزات والحمحمات قويه هذه المرة، وتعالى صوت الرجل من
الداخل، واشتد عويل الرياح، وتراقص ضوء السراج بينما ارتجفت يد أمي، بينما
ازداد تصلب وجوه الرجال، كنا نحس الموت قريباً جداً، بل نسمع صوت خطواته على
الحصى وهو يتقدم متمهلاً مزهواً نحو الحظيرة.
النار، زيدوا النار حطباً، وهاتوا الماء الحار.
صاح الشيخ بصوت واثق، صوت بشري، فأسرع اخوتي يحملون الحطب، ويلبون
طلباته، والفرس تضرب براسها ويتصاعد لأول مرة صوت طوق الفضة والخرز الأزرق في
صدرها يطرد كل صوت عداه من المكان.
- الله أكبر.. صلّوا على خير البرية.
وشق الصهيل سكون الليل، فارتعشت الوجوه والحجارة والظلمة والأشجار
أمام الميلاد الجديد، وكان الجسد الأملس يندفع من الرحم بيسر وسهولة.
- مهرة
صاح الرجل بعد فترة صمت، فانطلقت الفرحة من الصدور على شكل أصوات
ودموع وحشرجات، ولأول مرة أرى أبي يبتسم.
ومن خلف البيوت جاءت جدتي، تتوكأ على عصاها، وحين رأتني صاحت بأبي
باستنكار :
- كيف تتركها؟
وأشارت بعصاها إلىَّ ثم تابعت حانقة:
- ملعونة كل امرأة شابة تحضر ولادة مهرة.
فسكت الجميع، فالتفتت إليّ، وصاحت:
- عودي إلى البيت .
فانسللت خفيفة رشيقة، وأنا أحبس الفرحة في صدري، فللمرة الأولى
سيكون لي صديقة في هذه البرية القاسية، صديقة أحدثها عن أحلام قلبي الذي بدأ
يكبر.
...
- هذه المهرة مشئومة.
قالت جدتي، وجدتي عارفة بالناس، وأحوال الخيل والنساء والفصول،
وأنواع الأعشاب النافعة.
- هذه المهرة أصيلة.
قال ابي باحتجاج خفي، ثم تابع وكأنه يقول مُسلَّمة لا تقبل الجدل أو
النقاش:
- والأصيلة لا تخون .
- ومن أدراك ؟!
- هكذا سمعت من أبي .
- أبوك؟!
وهزت رأسها ثم قامت إلى المهرة، وأشارت إلى خيط أحمر ورفيع، وصاحت
غاضبة وهي الوحيدة القادرة على الصياح في وجه الجميع دون أن تنتظر اعتراضا:
- لا تكن مجنوناً، انظر إلى خيط الدم هذا، إنه ينحدر من أعلى الأذن
إلى ما تحت العنق، هل لك أبوك يعني؟!
- وماذا يعني ؟!
- ليكن خط العفاريت، فكل ما أعرفه أن الأصيلة لا تخون.
أمام الخيل يتحول أبي إلى صخر، لذا حدجته جدتي بنظرة قاسية ثم
استدارت إلى الخلف وتابعت إلى البرية بحثاً عن بيوض العصافير والنباتات النادرة
والفطر.
....
وعاشت المهرة
كانت صغيرة ورشيقة، لها جلد أملس وعينان بلون الكحل الأسود، وعُرف
طويل، طالما ضفرته لها، وزينته بالخرز الأزرق وأجراس الفضة، فتبدو مثل أميرة
تتمايل في جريها، وتميس، وهي تدرك نبل أصلها وعراقته فلا تأتي بتصرف شائن،
تتناول طعامها من يدي فأحس وكأنها تهز رأسها شاكرة لي.
كان لمهرتي أناقتها..
وكان لها وسامتها..
وكان لها سلوكها الراقي.
وكان لها معجبوها .. أنا، والحجارة، والسهول، والأزهار ،وأهل البيت،
والطيور.
وحدها جدتي كانت تكرهها، وتشيح بوجهها عنها، وترى في وجودها كارثه
وشؤماً، فكانت كلما رأتها، تحوقل، وتبسمل، وتقرأ المعوذات وهي تنظر إلى السماء
بقلق، وإذا ما رأتني إلى جانبها صاحت بي :
- أنت هناك. تعالي واتركيها..
فكنت أسرع امتثالاً لأمرها مكرهة، وأنا ألمس في أعماقي خيطاً رفيعاً
يربط بيني وبينها، خيطاً من الدم الأحمر.
...
وكب جسدي، تفتحت كل ثماره الوحشية.
ولم يكن يرعى فيه سوى صهيل مهرتي وأنفاسها الحارة، مهرتي التي كبرت
فكنت أندفع إلى جانبها صاعدتين التل حيث تبدو رفوف العصافير أقرب وهناك أدفن
خطمها في صدري وأنا أضفر عرفها، فتصهل صهيلاً يوقظ كل شياطيني، بينما أحسّ
بنفسها يلسع لحمي الحيّ، فأنظر من أعلى التلّ أرقب الطريق وأنا أتوقع فارساً
يأتيني من وراء الغيم.
- قلبي يحدثني بشرّ مستطير.
قالت جدتي، وكان بصرها قد كفّ، لكنّ سمعها مازال قوياً.
- وكلي ربك با مؤمنة، هذه وساوس.
- قلبي لا يكذب فأنا أعرفه وأسمعه كما أسمع صهيل هذه المهرة. وتلاقت
عيون الحضور، ولم يفه أحد بكلام فقمت إلى فراشي وسط وجوم غريب يلفني، وفي نومي
رأيته في المنام، شاباً وسيماً يأتي من أعلى التلّ وكأنه بازي أو شاهين ينقضّ
علي ويقودني أنا ومهرتي إلى الشرق ومن خلفنا خيط من الدم الرفيع لا ينقطع.رأيته
يقودني بعيداً، وسط حقول خضراء مكسوة بالأقحوان وشقائق النعمان والباقلاء، ولم
يكن في تلك الأرض أحد من الناس، وكان ثمّة صهيل يتبعنا، صهيل ورائحة دم،
فاستيقظت مرعوبة، ولم أجرؤ على رواية ما رأيت.
...
مساء اليوم التالي ماتت جدتي .
غسلناها، ثم صلّى عليها الرجال، ودفنّاها في أعلى التلّ الذي كنت
أجلس عليه مع مهرتي دائماً، وكنت أحسّ في بعض الأيام بصوتها يتردّد في أذني:
- ملعونة كل امرأة شابة تحضر ولادة فرس وتتفتح على صهيل فرس. فأعود
إلى البيت، فأواجه عيون أبي وإخوتي وامي التي تجلس وحيدة في زواية البيت، وبعد
العشاء آوي إلى الفراش، وأنا باتنظار حلمي الذي بات يتكرّر كثيراً.
...
صباحاً انطلقت مع مهرتي.
درنا حول التلّ، راقبت من مكاني هناك طيور الحجل الصاخبة، وزهر
الأقحوان، وحجارة التل الساكنة، والسماء الزرقاء التي تمتد صافية كقبة من
الديباج.
صعدت التلّ، وجلست أتأمل كل ما حولي، كانت بيوتنا بعيدة، وفجأة سمعت
صوت حوافر جواده التي طالما تردّدت في أحلامي ،ومن بعيد رأيته قادماً، فصاح
قلبي بين ضلوعي، وصهلت مهرتي بصوت ضعيف، صكّت أذنيها، وقمت من مكاني، كان الصوت
يقترب.. يقترب.. يقترب والمسافة تضيق، فوضعت أصابعي على عنق المهرة، كان العنق
يرتعش، وصوت الخرز الأزرق، وأجراس الفضة يتعالى، وأصابعي تغرق في سائل لزج
ودافئ، للوهلة الأولى ظننته عرقاً يسيل فلما رفعت أصابعي، كان الدم يقطر منها
على شكل خيط رفيع، فتسمرت في مكاني، أعولت الريح، وصاح قلبي كطائر محاصر.
والفارس يقترب على صهوة جواده.
- لقد بدأ الغزو.
وتسمّر كل ما حولي، وظل الفارس وحده يتحرّك، وبدأ الصهيل، صهلت
مهرتي، صهل حصانه، صهلت عيناه، وصهل قلبي ولم ينقطع خيط الدم، فثمة صهيل آخر لم
يبدأ بعد.
شجرة الغَرَب
كانت القرية من قرى ذلك الزمان بيوتاً تتناثر ضمن دائرة السور
الأثري القديم، متلاصقة حيناً ومتباعدة أحياناً، أبوابها ونوافذها ذات أشكال
بسيطة، وأرضها من الجصّ وقد بُنيتْ منازلها من الطين والفخار الأحمر الذي نهبه
الأهالي من السور، وبنوا به فوق خرائب المدينة الأثرية القديمة، ولا رقابة أو
سلطة لحكومة آنذاك سوى سلطة "المخفر" وهو مخفر للدرك الخيالة قام على تل مشرف
خارج السور، وظيفته منع تعديات البدو على القوافل المسافرة في برّ الجزيرة
الفراتية، ثم أحدثت بعض الدوائر الرسمية الصغيرة، لتسيير شؤون السكان المحليين
ومراقبة بعض المنفيين من المغضوب عليهم من معارضي الحكومة أو قادة الأحزاب
السياسية المشاغبة.
وكان أهل القرية ميالين للمهادنة والسلم، يحبون الغريب ويتقاسمون
في الأزمات وسنوات الغلاء الخبز والبرغل والتتن والحكايات الشعبية والأحزان
والابتسامات.
أمّا سقوف تلك القرية المفتوحة على بعضها وكأنها بيت واحد بعشرات
الغرف، فكانت من التراب الذي جاء به الأهلون من البرية، لذا ما إن يهلّ الربيع
حتى تتحول السطوح المتلاصقة إلى حدائق معلّقة من العشب البري والنرجس والأقحوان
وكأنها بابل جديدة، بلوحاتها الإلهية وروائحها العبقة التي تدخل الأنوف والثياب
والبيوت وأعشاش الخطّاف والدوري وحجارة السور القديم في مهرجان فاتن للون
والعبق.
وكنا- يومها- صغاراً، أبالسة صغاراً، لا نهدأ ولا نعرف معنى السكينه،
نندفع قطيعاً من التياتل الصغيرة، أو الجراء الهرّاشة المرحة، نصعد طلل السور
القديم الذي بناه المنصور، ومن أعلى برج فيه، برج هجرته الثعالب والأرانب
والحمام البري والثعابين هرباً منا، نستطلع المكان الذي ينبسط أمامنا كصحن
واسع، مكسر الأطراف والحوافي، فإلى جانبنا مباشرة يقف باب بغداد الأثري جليلاً
باذخاً تفوح من آجره الأحمر رائحة القوافل العابرة ومواكب الرشيد، وتحت قدميه
المغروستين في الأرض والعشب، يمتد سهل واسع أخضر حتى الفرات القريب، تقوم في
طرفه الأيمن مطحنة للحبوب وسط عراء من شوك العاقول يحرسها من تعدياتنا بإبره
الطويلة التي تعرف الطريق جيداً إلى أرجلنا الحافية، وقد جاء إليها الرجال من
كل مكان يدفعون أمامهم حميرهم المثقلة بأكياس الحنطة ثم يجلسون حلقات حلقات في
الباحة ينتظرون دورهم وهم يثرثرون ويدخنون، تفوح نهم رائحة العرق والتعب.
وعلى اليسار تقوم المقبرة، مساحة مستوية من الأكوام الحجرية ذات
شواهد تسمى قبوراً، ولا بناء فيها سوى قبه من الطين أقامها أحد الزوار الغرباء
على مقام سيدنا" أويس القربي" تبرعاً لوجه الله، وقد اختلطت قبور الأهالي بقبور
من بقي معروفاً قبره من قتلى معركة صفين كعمار بن ياسر وابي بن كعب، وإلى جانب
قبة المقام المطلية بالجصّ تقف شجرتنا، شجرة الغرب، عملاقة جبارة بألف ذراع،
تذهب بعيداً في الفضاء، وتمدّ أغصانها المتينة وكأنها كائن خرافي يوشك أن يطير
إلى عالم سحري آخر غير عالمنا البسيط الذي لا يغري كثيراً في البقاء فيه.
شجرتنا التي كنا نعبدها بطريقة غريبة وقاسية وغير معقولة، تتناسب مع
عقولنا وتتفق مع رغباتنا وغرائزنا نحن المبللين بماء الفرات، المعجونين مع طينه
ورمله وحراشف شبابيطه.
كنا نصعد إليها كزوبعة، فتفرّ عصافيرها مذعورة، وتستسلم لأكفنا
الطرية وقلوبنا الحجرية أعشاشها وبيوضها وفراخها، فننثر الأعشاش في الهواء
ونتضارب بالبيوض فتسيل الحياة الصفراء على وجوهنا القاسية خجولة خرساء، ونرمي
بالفراخ في المياه الضحلة التي تتجمع في حوض وكأن قوة قاهرة حفرته لتستمر حية
شجرتنا، فالغرب لا يحيا بدون الماء، وبعد هذه الغزوة البربرية، نتساقط كثمار
فجة من بين أغصانها، وبقطع حديدية أو حجرية نفتح ندوباً في صدرها العريض، فيسيل
الدم والحليب والأنين السري، ثم نقصف ما تدلى من أغصانها على الماء، ليقيم
صلاته السرية التي لا يعرفها سوى شجر الغرب.
كنا وحوشاً، برابرة صغاراً، يعجب بنا الآباء، ويسخر من افعالنا
الأجداد، يهزون رؤوسهم، وينفضون عباءاتهم الحائلة اللون بنزق... ويقولون:
- نحن براء من هذا الجيل الشيطاني.
فيردّ الآباء:
- يكبرون ويعقلون.
- ويل لكم من عقولهم.
ويسكت الطرفان، يعلنان هدنة مؤقته، بينما نكون انطلقنا ساحبين خلفنا
ذيلاً من الغبار باتجاه ساقية قريبة اقامها أحد مزارعي القطن ليروي مشروعه
الزراعي، بواسطة مضخات حديثة تدار بالمحروقات، وهو الأول من نوعه في
البلد،وهناك نتعرى من ثيابنا عرياً كاملاً، وما أن تدبّ برودة الماء في جلودنا
حتى تستيقظ كل الشرور في نفوسنا، فننطلق وسط زوبعة من الصياح والعجاج إلى حقل
البطيخ القريب، نفتح في ثماره الخضراء ثقوباً ندخل فيها أعضاءنا الصغيرة
وأصابعنا وبعدها تبدأ المجزرة، ويتحول الحقل إلى ساحة حرب نحن جنرالاتها،
وسلاحنا تلك الثمار المسكينه، التي تملأ أشلاؤها الحقل وتسيل دماؤها الحمراء
على جلودنا، دبقة لزجة، ثم نفرّ بعد ذلك لنترك مسافة طويلة بيننا وبين صاحب
الحقل الذي يكون بالتأكيد في طريقه إلينا، ليشهد نكبته.
ولم يأمن الرجل شرّنا، إلا حين اشترى كلباً قرباطياً شرساً وسريعاً
يدركنا بثوان، وقد هزمنا في كل معاركنا معه، فرضينا بالانسحاب من المعركة إلى
الأبد.ولأننا خسرنا حربنا مع صاحب الحقل وكلبه، توجهنا بكل قواتنا الجهنمية نحو
شجرتنا، ننتقم،منها ومن جماعة الكراكي،التي كانت جموعها تقف على ساق واحدة في
الماء الضحل. فعرفت حجارتنا طريقها إلى الأجساد والسيقان الطويلة وابتهجنا
بأصوات الشكوى الحزينة.
كان أجدادنا يقولون وهم يهزون رؤوساً أثقلتها الدنيا بحملها،
وسكنتها الوساوس، والأهواء، وأخلاق الآباء:
- هذه الشجرة مباركة، لا شرقية ولا غربية، حرست قبور الصحابة يوم
هجر الناس خوفاً من الحناشل والأوغاد، وأوت الفارين من السفر برلك والوجع
والجوع من كل الملل والنحل، صلى تحتها العابد، وناجاها العاشق، وسمعت شكاة
المحروم، هذه الشجرة كنا نودع تحتها ما يزيد على حاجتنا من متاع حين نرحل في
الربيع مع أغنامنا طلباً للكلآ ومساقط الماء ،وحين نعود نجد الأمانة كما
تركناها دون نقصان، رغم أن قيّم المقام كان يرحل معنا، تاركاً مقام سيده، ونذور
الزائرين في حراسة الشجرة، فالبلد يقفر ولا طعام لديه يمكن أن يقيم أوده.
وكان أباؤنا يقولون بحب ينبع من القلب:
-شجرتنا من الجنة، وإلا لما تركت النهر، ووقفت حرسة على البلد
المهجور تحمي روحه من التلف والسوس، وبين أغصانها تتجاور أعشاش البواشق واليمام
والدوري، ويأوي إليها الهدهد والخضّر والخطاف، بينما تتبرد الكراكي المقدسه في
بركة الماء تحتها.
وتقول جداتنا بإيمان صوفي:
- من علقت خصلة من شعرها على غصن من اغصان شجرة الغربّ نالت مناها
وتحقق لها ما تريد.
وتقول أمهاتنا الشابات:
- الشجرة ؟!
ثم يتهامسن بخبث:
- هنيئاً لمن يجمع بين رأسين في الحلال.
وتقول الصبايا لأكبر مناسباً ممن ذقن الحليب، وعرفن سرّ البروق التي
تهيج في أمسيات القيظ، فتومض وتشلش النزل:
- الشجرة؟؟!
وتتلمظ الألسن كحيات مسلوخة، ثم يردفن ضاحكات بلؤم يليق بقمر الشتاء
الذي يخفي تحت معطفه المطر والرعد وسحاب الله القادم من المجهول.
- أمّ الأسرار لا تبوح ولا تفضح.
ويقول الغجر القادمون في مواسم الحنطة والحصاد، يدفعون كلابهم
ونسوتهم المدربات طلباً للصيد، حيث تفوح في البلد كمية هائلة من عرق وعطر غريب
وضحكات غامضة ونداءات لحوح، تعلن عن فسق كمين، وخطايا لا بدّ منها لتستمر
الحياة في القيظ:
- الشجرة ؟! هذه الساحرة لا يمكن لأحد أن يفكَّ طلاسمها، إنها رصد
ملعون.
ويوم الجمعه، بعد صلاة الصبح.
تتجمع العذارى وقد جّمشنَ خدودهن، فطفر الدم من الوجنات ذبيحاً،
بينما برق غامض موشى بالرغبات يظلل العيون المثقلة بالكحل الأسود، يفصح عن كلام
كثير وأمنيات محرمة، لا تفهمها سوى أغصان شجرتنا وحجارة اللبن في المقام، وحين
ينطلقن موكباً من ساحرات بابل يقف الصباح وحيداً امام البهجة وتثور زوابع صغيرة
وراء خطواتهن وتتردّد أناشيدهن الغامضة في الفضاء البلّوري.
إنها صلاة بكاء ضاحك، يفرد أجنحته خائفاً وراءحدود البال، يعلن عن
نفسه، وهناك تحت الشجرة تبدأ شعائر طويلة، وتهويمات حرّة من عيون منداة بالدمع،
عيون كثيرة:
- سيدي لك ما شئت شرط أن يكون الذي في بالي هو.
- مللت يا سيدي، واليوم لا يمرّ إلا بطلوع الروح.
- ومن لي غيرك يا شيخي؟.
- شفاعتك يا ابن خالة النبي.
- الله... الله بنا
ثم ينصرفن بعد ذلك إلى هدوء أشبه بالصلاة وكل ما حولهن صامت، القبور
والنهر القريب والساقية، والطاحونه وقبور الموتى الهادئةهدوء الحطب الجاف.
كنا برابرة من اسلاك وشغب
جنرالات حرب أعلناها على كل شيء، الناس والشجر وحجارة السور وغيران
الجرابيع والفئران، والقطط والكلاب، تسري في عروقنا دماء أجداد قتلة نصف رعاة
نصف مجانين، ويوم أحسسنا بالبروق تبثّ إشاراتها وبرسائل غامضة تبعث البهجة
والنار في نصفنا الأسفل أسرفنا في الشتائم نكيلها بسبب أو بدون للأمهات
والأخوات، وحين نجد فسحة من الوقت نوجهها إلى الحجر أو الربّ.
ولأننا جنرالات حرب موتورون ومدربون وقادرين ومنتصرون في معظم
غزواتنا بدأنا نرسم خططاً للتسلل كي نراه. هذا الذي يثيراً اسمه فينا البروق،
ونكثر منه في شتائمنا، ووجدنا الخطة، فمعظم أبواب الغرف من الخشب الذي تركت فيه
حرارة الشمس شقوقاً، ومعظم البيوت بلا حمامات، تغتسل النسوة في عتبة الدر، من
هنا تفتقت في عقولنا نحن الجنرالات خطتنا فكنا نتسلل، قططاً محاربة ومستفزة
وباحثة عن تلك القطعة من اللحم التي يزينها الزغب الأسود أو الأشقر كخيوط من
أسلاك هاتف علوي.
كنا ننحني وننظر من خلال الشقوق إلى الصبايا وهن في لحظات حميمة في
طشت الحمام المعدني، ويغرقن في الماء والصابون واللهاث الإلهي المتصاعد من
الصدور والأثداء والأعناق الممتلكات المبعثرة في فوضى.
كنا نواطير الكروم المحرمة ولصوصها، صانعي خمرها في ليالي اللهاث
المحموم ولا شاهد علينا سوى القمر أوطين النهر، هذا الطين الذي نصنع منه دمى
وآلهة نفسق فيها بأصابعنا الطرية، نهتك لحمها الغضاري بوحشية وكنت أنا والليل
نغرق في ليل لاحدود له، ولاحدّ لجناياته، ليل الحرمل البري والماء وكلاب
الحراسة والخرنوب، وحين أتعرى وحيداً، أتلمس أعضائي بلذة، فأود لو تتحول الأرض
امرأة، التلال امرأة، الشجرامرأة، النهر امرأة، لو تتحول المدينة امرأة، فأوقظ
كل التباريح، فأحضّ إلى وجع وخالق، وفتنة وحشية، وأمدّ براثن الذئب الفتى إلى
دغل القلب بحثاً عن أفراس النهر وكائناته.
كنا نحس رائحة، وحكايات وحكايات، ولم نكن نعلم كم كان أهلونا بسطاء
ماكرين، أقاموا بلداً من فخار وحكايات خرافية، كنا نحس بالحيرة أحياناً أمام
هذه الوجوه التي تتورد، وتتلون وتحكي، وتحاول أن تؤثل من الهباء أمثولة، ومن
الخواء ملحمة، وكانت ليالينا من مياه عكرة حاربناها بأكف ملوثة بالطين والقش.
...
-من لا يملك نهراً سيموت عشطاً.
- ومن لا يملك امرأة سيموت حزناً.
- ومن لا يملك جنة فهو يملك ناراً.
قالها لي بطريقة بسيطة صديق سبقنا إلى العشق ثم اردف بعد ذلك:
- كل حرف يكتب في غير الحب لا يساوي فلساً، ولا معنى له، فالمدن
والجبال والأنهار ماء وطين ولا يخلق من الماء والطين شيئاً عبقرياً إلا أصابع
العاشق.
لذا يوم عشقنا كانت حبيبتنا جميعاً امرأة واحدة.
وشاركنا عشقها كل رجال الحارة، سميناها الأميرة، واخترنا للمرة
الأولى لقباً متواضعاً «رعايا الأميرة» وكان أن اطلقنا اسمها على كل ما يحيط
بنا، الجسر وشجرة الغرب والحارة والعصافير وبستان البلدية ويوماً بعد يوم أصبح
كل شيء ملكاً للأميرة، وكل ما تملكه الأميرة مقدس حتى منزلها المتواضع كنا نراه
قصراً من البلور.
وكانت أميرتنا امرأة شابة، لا أحد يعرف من أين جاءت؟ فذات يوم عادي
من أيام حارتنا دخلها رجل وامرأة، كان الرجل اسود كالفحم ضخم الجثة بشاربين
مفتولين، وكانت المرأة فارعة كالرمح رشيقة يتلجلج بياضها كالفضة، سكناً معاً
في بيت مؤلف من غرفتين ومطبخ ومنذ اللحظة الأولى شعرت نسوة الحارة بغيرة وعداء
تجاه أميرتنا فقد كانت الأجمل، والأرشق، والأعذب حديثاً، تخرج ضحكتها من قاع
حلقها صافية عذبة كنا فورة ماء، هذه الضحكة هي التي سحرتنا كما سحرت رجال
الحارة.
وكان لأميرتنا شامة سوداء تحت شفتها السفلى، وقرطاً ذهبياً يزيدها
فتنة حين ينعكس على صفحة وجهها البدري، وهذا ما زاد في خجلنا فكنا نجلس على
الرصيف نرقب باب دارها من بعيد ننتظر خروج «عنتر وهو الاسم الذي أطلقناه على
عبدها. فنحن نرفض أن نسميها زوجته، وكان عادة في الصباح الباكر يحمل دلة القهوة
المرة، يمرّ بها على الدكاكين يصبّ لأصحابها، ويجودون عليه بما يتيسر وهي مهنة
غريبة على البلد آنذاك.
وبدأت الشائعات تتسرب في الحارة لتزيد في ذبول الرجال وتنمرّ النساء
فأميرتنا كانت تعشق أسودها حتى العبادة، ومع ذلك كان لا يأبه بها، فكل مساء
يجده الرجال في نزل الغجر يغني لهم ويرقص برشاقة غريبة وساحرة تفتن النساء،
ويظل إلى أخر الليل ثم يؤوب مطفأ الروح والجسد، ليسقط إلى جانبها جثة هامدة.
وكي نتأكد صعدنا السطح المقابل ورحنا نرقب من الظلام ،حيث لا يبدو
منا سوى عيون ملتهبة بالشوق، وقلوب تكاد تقفز من الصدور، لقد غادرنا الذبول
فجأة، وسرت الحياة في عروقنا حين رأينا اميرتنا في غلاله ورديه شفافة تنتظر
أسودها، فتصاعد لهاثنا وصممنا على الانتظار ونحن نقاوم النوم حتى دخل الأسود
بقامته الضخمة التي ملأت المكان وشاربه المفتول، فطارت إلى لقياه أميرتنا
مفتونه، قادته من يده إلى الفراش، فارتمى كجذع نخلة سحوق، فبدأت طقوسها الليلة
لكي تشعل في رماده النار دون جدوى، فقد غرق في نوم عميق وتعالى شخيره، بينما
وقفت أميرتنا أمامه تنظر إليه بعشق مفتون.
وبعد تلك الليلة ازداد إحساسنا بالعداء للأسود، كما ازداد ذبولنا،
فأصابنا الضعف ولم نعد إلى حروبنا المقدسة، فافتقدت الحارة كل ذلك، وكنا نفكر
جدياً بطريقة للقضاء عليه، فاختطافه من قبلنا مستحيل فهو أقوى من ثور، ومواجهته
في معركة مفتوحة سنكون فيها خاسرين بالـتأكيد.
وتوالت الأحداث سريعاً، فذات ليلة، جاء الأسود اللعين مخموراً طينة
وبرفقته إحدى الغجريات، قادها إلى الفراش بوقاحة وقحه غريبة، وكانت أميرتنا
بانتظاره كمعتاد أمرها، فما إن رأت المشهد، وأين على فراشها المقدس؟ تحولت إلى
نمرة وركضت إلى المطبخ مثل لبوة، جاءت بالسكين، وأمام عيون الغجرية المصعوقه
مزقت جثة الرجل فسال الدم يغرق الفراش وهمدت الجثة إلى الأبد، وأسدل الستار على
فصل من فصول الدم في حارتنا وبدأ فصل آخر من فصول حياتنا.
وظل الناس يكبرون ويشيخون ثم يموتون.
ظلت الكراكي والخضر والخُطّاف، والحمام والنسور، تزور شجرتنا وقد
تعود أسرابها وقد لا تعود ،وظلت معبودتنا وحدها صامدة، شجرتنا التي نعرفها
جيداً، كبرنا وانقطعت السبل، وربما جاء جيل بعدنا لا أعرفه، وتوسعت القرية
الصغيرة، امتدت واستطالت فأكلت كل المساحات الخالية، قامت بيوت جديدة، لا تنمو
على سطوحها الحدائق البرية، لأنها من الإسمنت المسلح، وجاء أناس جدد، وسافرت
لأكمل دراستي في الهندسة وليس في حقيبتي سوى دفتر اشعار استوحيت معظم قصائده
تحت شجرتنا، وليس في بالي سوى صورة واحدة، لفتاة ترتدي عباءة سوداء من الحَبَر
الناعم، وتمد ذراعاً بضة لتمسح دمعه سطقت من عينيها الواسعتين عفواً، سافرت
ودعوات امي تلاحقني:
- مودّع الله. يا عمود بيتي.
سنوات طويلة مرّت
أخذتني الجامعة في أحضانها، وجرفني تيار الحياة الجديدة، عرفت بشراً
ومدناً وأشجاراً، ونسوة كثيرات، فتقلّمت براثن الجرو الصغير وتقاعد جنرال الحرب
المشاكس.
وحين عدت تم تعييني مهندساً في البلدية.
وكان سؤالي الأول عن فتاتي، فعرفت أنها تزوجت بعد رحيلي فلم أحزن
كثيراً، ونسيت شجرتنا، كيف غابت عن بالي؟! لا أعلم حتى استدعاني رئيسي في
العمل، ليكلفني بمهمة وهي الإشراف على تنفيذ مجمع ضخم يضم مسجداً ومدرسة كبيرة،
ومرافق لهما، وحين سألت عن المكان، ردّ مرافقي:
- مكان المقرة القديمة:
- والقبور؟!
صرخت كالملسوع، فردّ بهدوء بارد:
- نقلت إلى مكان آخر ،ولم يبق سوى مقام سيدنا عمار بن ياسر وأويس
القرني.
وتذكرت شجرتنا، فلم أجرؤ على السؤال عنها، حتى لا تظن بي الطنون
فمضيت إلى غرفتي أجهزّ نفسي وأوراقي للذهاب في اليوم التالي إلى المشروع.
....
حين خرجت في الصباح الباكر كنت مرحاً.
وكأنني على موعد مع صديقة العمر، كيف لا؟ وسوف أرى اليوم شجرتنا من
جديد، بعد كل هذا البعد، وكنت واثقاً ثقة أكيدة من أنني سأراها، مررت على بعض
مواقع العمل الذي كان في بدايته، فاستغرقني ذلك فترة ليست وجيزة، ثم توجهت إلى
مقام سيدنا أويس القرني الذي حجبته عن عيني تلة من الركام، فدرت حولها وقد وصل
إلى سمعي هدير آلية جبارة تعمل، ويالهول ما رأيت.
واجهتني شجرتنا، وهي تهتزّ وتئن تحت ضربات الذراع الحديديه الجبارة
للآلية، أردت أن أصيح:
- توقفوا يا أولاد الزواني.
لكن صوتي اختنق، تسمرت للحظة وأنا أرى شجرتنا تنحني بكبرياء ملكة
متوجة بالغار والخضرة، وتكابر، تعاند لتقف من جديد وكأنها رأتني فأرادت أن
تقول:
- تأخرت كثيراً يا صديقي.
وركضت كالمجنون، لكن صوت انكسارها المريع دوّى كقنبله فصدّع قلبي،
أذهلني، فقصّرت خطواتي وكأنني أسير في موكب جنائزي، وحين وصلت، كان السائق يوقف
هدير الآلية الجبارة وهو يسب ويلعن تلك الشجرة التي لم يصادف في حياته الطويلة
أقوى واصلب منها،وهو الذي ظنها في البداية مجرد شجرة عجوز وفارغة، سوف تنهار مع
أول ضربة.. ثم قال:
- أستاذ هذه الشجرة مسكونة بألف عفريت. ابعد عنها وإلاّ أصابك الشر.
ولم أردّ عليه تقدمت وسط دهشته من الجسد المسجى وأنا أسمع أنين
الشجرة المحتضرة، كان ثمة شكوى من ظلم ما، من أناس ما ... عاملتهم بكل الحب
فخانوها:
- يا أمي.. من يعلم أولادنا غداً بعد رحيلك ؟! من يعلمهم الحياة ؟!
همست بتبتل وغام أمام ناظري كل شيء، حجبته الدموع بينما تفجر صوت ناي حزين
وبعيد.
الخروج من العزلة
كان الذئب الأغبر قد أختار عزلته طائعاً، غاب مثل صدى أجراس بعيدة
يتردد في الوديان والأغوار العميقة معلناً عن بداية طقوس وشعائر لايدرك أسرارها
إلا من عرف فضائل الوحدة، ومست قلبه جمرة الوجد، فيفتح خلاياه كأجراس القطن،
تتشرب بكل ما حولها من عطور سرية ولغات غامضة، ثم تحوله في النهاية إلى هلام،
قابل لكل أشكال التكوين، فيتراوى له، شجراً محرم الثمر، شوكاً، سمكاً بحراشف
ذهبية، نهراً يشق خاصرة الأرض عن ماء ورمل وحصى، رُقماً طينية، عجولاً من
الجرانيت الأسود، باجنحة وأبهة ملكية، ونذوراً إلى معابد آلهة وثنية غامضة،
تفوح منها روائح البخور، والبشر، ودماء العرابين، والشهوات الضالة.
وحين يظلم الليل، ويفرد عباءته السوداء مثل نبي زنجي يحمل أوزار أمة
باغية، يطلق الذئب الأغبر عواءه الممطوط فيهتز المكان ويستعد لحدث جلل، ويدقّ
صدره بجمع يده ثم يغرز براثنه في اللحم المشعر، فيتدفق الدم خطاً نحيلاً ينسرب
بين أعلى السرة والنحر، فتلتمع قطراته المتجمعة على رؤوس الشعيرات المحنية
كأجراس العاقول الحمراء، فتنوس تحت ثقلها.
ويتنامى ذلك الأسى الشفيف، يغطي عري الروح بظل، ورفوف من قطا وحبارى
ورخم، فتزقو فراخ في أعشاش، ويلتهب المدى الرحب بكل ما في الأصيل من نضار
وياقوت .
عسل الذئب بين دغل وماء، عض لسانه بقهر، ناشته الأشواك ومزقت أفخاذه
شجيرات الظرفاء والصرّ، وكان الهالوك الأصفر يعمّ كل ما حوله من نبات، رفع
الذئب الأغبر رأسه إلى الأعلى حلم بوليمة من لحم ودم، بطريدة يمزق صدرها عن قلب
يضرب خوفاً ورهبة، وبعينين حاقدتين لهما لون الذهب صاح:
- ليش يا ساكن العالي؟!
فلم يجبه سوى الصدى.
لعق جراحه وكابر، عاصى السلوى والعزاء، وكأن بينه وبين العالم ثأراً
مقدساً، ومن بعيد لاحت أمام عينيه مياه الفرات الخالد، تمضي في رحلتها الأبدية،
فنادى مرّة أخرى.
- أما آن الآوان؟!
وتردّدت في أذنيه أصداء غامضة، وروائح، وغمغات يذوب المعنى فيها
بالحرف، ويعشق الحرف فيها معناه، فلا تخرج سوى دندنه مبهمة كلحن صوفي يذوب في
حالة من الوجد.
- تقتلك الكلمات بسحرها.
قال لنفسه.
- تقتلك النساء.
قال الصدى.
- خيارك العزلة.
قال لنفسه
-تقتلك العزلة
قال الصدى.
وتابع سعيه مرة أخرى، يعتسف الدرب، عضّ لسانه، داس الحصى، وأوراق
الشجر العفنة، والعشب،وقد سرى في شرايينه ذلك اللهب القدسي، فطامن من غريزته،
فاستكان وكأنه يلبس جبة سلطان العاشقين في قونيه، ويرقص مع دراويشه رقصة الحب،
بعد رحيل شمس تبريز عنه، همس الذئب الأغبر بلسان العاشق:
- هذا القلب نصفه عاقل، ونصفه الآخر مجنون، في النصف العاقل أسكنت
العالم يزرعون ويحصدون قمحاً وزيتوناً وعباد شمس وزهر الخشخاش، ووهبت النصف
المجنون لحبيبتي تستريح فيه، وتشرب كل صباح فنجاناً من دمه الطازج بدلاً من
قهوتها، ثم تملأ شرفاتها بضحكاتها العالية، وسلاحفها النهرية، وعصافير الكناري،
ونباتات الصبار، ثم تتعرى، وتستلقي على سجادة من تبريز، ومتى شاءت اشعلت
بأصابعها الباردة النحيلة النيران فيه ليحترق، فتخرج منه أروع أرغفة الخبز
الأشقر، بينما عيناي لا تفارقان نهدين في صدرها ينز منهماحليب وعرق له رائحة
المسك.
حين صحا الذئب الأغبر من حالته، دفع مخالبه في صدر الريح وانطلق
مرّة أخرى يطارد حجلاً خفياً، متلذذاً بمحاسن العزلة وفضائل الاتحاد بالذات،
وقد بدت أمامه الموجودات كما يشتهي أن يراها، لا كما هي بالفعل.
عشرون عاماً مرّت وأنت وحيد، تحول خلالها القلب الى موقد بارد ليس
فيه غير الرماد والخشب الجاف، وروائح ضائعة لعطر قديم لا يريد أن يفارقه.
- هكذا أردت.
- هكذا كان، خسرت كثيراً، ولم أربح سوى الهباء.
- لك الهباء.
- وشيء آخر.
- والآن؟!
- أريد أن أوقد النار في الموقد المهجور، أريد أن أشم رائحه العطر
الغامض، وعرق الحجر القاسي، ودفء النار وهي تمس بذوائبها حبة القلب، فتوقظ
زبيبه الجاف ليتحول دماً صافياً كنبيذ العنب.
- تأخرت كثيراً.
سأحاول.
-كيف؟ّ
- شرارة واحدة ويشتعل كل خشبه الجاف.
- هكذا ترى؟
- هكذا يجب أن يكون.
- هكذا ترى؟ ولكنك قد تشعل الدغل كله.
- جائز.
- صحوة أم غواية؟
- لتكن ما تكون.
- كفَّ عن استعمال لغة الخلق «تكون»هذه.
- ولمَ؟
- لأنها لغة الله وأنت صلصال.
- هذا الصلصال لولا النار لظلّ طيناً.
- أنتَ الذي اختار.
- أنا الذي اختار.
وسكت على مضضن وهو يحسّ برياح الخريف تدهمه، تحاصره من الجهات
الأربع، فاضطرب لأول مرة في حياته، ومع ذلك رفع رأسه عالياً وعوى بعزم وشراسه
فأقلق صمت الدغول، وقنوت الحجارة والشجر.
دار الذئب الأغبر حول نفسه.
تراءت له صورته في الماء، نادته السنوات القادمة فتصلب ومن بعيد
كانت ظبيته تقبل مثل ملكه متوجة، مثل جنية من جنيات الفرات،فدهمته رعشة مفاجئة،
فأشاح عنها، ثم اندفع مذعوراً نحو أعماق الدغل، ووقفت الظبية مدهوشة، لا تجد
تعليلاً مقنعاً لما حدث، فقالت:
- هذا الغرور غير مبرر.
ثم استدارت وانطلقت خفيفة تريد أن تطير، ومن أغصان السوس والطرفاء
كانت عيناه ترقبان رحيلها بشوق وقد صاح قلبه بين الضلوع:
- قفي، لا ترحلي.
ثم لطأ تحت شجرة الصفصاف، أغفى متلذذاً بوحدته، لكنّ خوفاً جديداً
بدأ يبزغ أمامه كشمس سوداء وصغيرة.
أنت جبان.
الغواية أشجع من كل فضائلنا.
- أنت متردّد.
أنا..
وانطلق كالسهم إلى جهة مجهولة يطارد حجلاً خفياً ورائحة غامضة توقد
في شرايينه النار.
...
أفاق سلمان الرواي من حالته.
غادرته ساعة الذئب، فنظر إلى ما حوله بدقة وتفحصٍ وكأنه يرى ما يراه
لأول مرّة، غابة من الكتب، والأوراق، والطاولة والكرسي، وأعقاب السكائر
،وفناجين القهوة، والصور، كل شيء كان يحمل بصماته، وأنفاسه، ورائحة عرقه.
هنا كان يعتزل، يكتب، ويقرأ، ويراقب مرور السنوات بحياد وزهد وعدم
اهتمام، فالعالم من حوله فقد الإثارة منذزمن بعيد، فما عاد يجذبه، أو يحرك فيه
تلك البروق والأشواق القديمة للمستقبل.
- أنت مجنون يا سلمان، خبلتك الكتب والعزلة.
- الحكمة نصفها جنون.
قال واتجه إلى المطبخ، غلى لنفسه قليلاً من القهوة السوداء ثم مضى
إلى باحة الدار، وجلس يشرب قهوته تحت شجرة النارنج الخضراء بلذة ومتعه مبالغ
فيها.
كان سلمان الراوي يحس مرور الأيام في دمه كقطيع من الثلج والخيول
الهرمة، تدفع بها الريح المسائية نحو الهاوية دون رحمة، أيام من الدم والحجر
واللهاث والخيبات السياسية والعاطفية التي لا تحتمل، ولم يفقد صلابته.
عاش مع الناس بلا روح، وكان يراهم مجرد كائنات، كتلاً لحمية تتنفس
وتتـآمر وتكذب بفخر، وتتسابق نحو المكاسب كقطعان من الكلاب البرية الجائعة
الشرسة.
- بدأت تهرم يا ابن الراوي.
قال ورشف حسوة من قهوته السوداء، ولأول مرة تهاجمه البرودة، لأول
مرة يكتشف أن روحه مريضة، ومعطوبة، ويأكلها العفن الوردي مثل برتقالة، بينما
تمرّ السنوات غير آبهة به.
تذكر سلمان الراوي ،طفولته يوم كان ذئباً أغبر فتياً يُسْلم ويمضي
بعيداً، وجسده يتوقد بلون الطمي الأحمر.
كنت ذئباً أغبر تقودك غريزة الهتك.
واليوم؟
أنت أعلم.
كان سلمان الراوي يومها روحاً من الألق والبهاء، مسكوناً بتلك الروح
التي تسطع نجمة فوق تلال الجزيرة، يفرض سطوته على الشجر والطيور وينافس النهر،
وفصول البرد والحرّ، فيخرج إلى البراري الموحشة، للبحث بين شعابها وصخورها
ونباتاتها عن النبض الغائب عن عيون الناس، يلمس بأصابعه شقوق الأرض العطشى
وينظر إلى السماء طالباً مطراً، وإذا مرّت الإوز بتشكيلاتها الرائعة وأصواتها
أمتلأ قلبه فيلوح بيده ويطلق أصواتاً مرحة يودعها كصديق قديم.
واليوم؟!
أفاق الذئب الأغبر على صوت الطيطوي والعصافير المتشاقية، رفع رأسه
عالياً، وشمّ رائحة الزل، والسمك والسوس، لكنّ الريح حملت له مرة أخرى رائحة
الأنثى، تسللت إلى داخلة بسرعة فايظت كل ما في عروقه من شوق دفنه، حتى كاد دمه
يتحول إلى ملح ورماد جاف.
تيقظ الذئب الأغبر، جال ببصره يبحث عن مصدر الرائحة، فرأها مرة
ثانية تقبل وسط موكب الأبهة والعطر الغامض والنزق الذي يليق برشاقتها الآسرة،
وفي منتصف الطريق توقفت تنتظر ولم يتحرك، شلّه التردّد والخوف والانبهار، فنفرت
لا تلوي على شيء غاضبة.
- الخوف مرّة اخرى.
- العزلة الطويلة تعلّم الحذر.
- ممَ تحذر؟
- لا أدري.
- بل تدري، فلقد بعت سنوات الذهب بسنوت التراب.
- ما معنى ذلك؟
- معناه تلمس صدرك هل تجد فيه نبضاً؟
- ماذا؟
- كثرة السؤال دلالة الحيرة، والحائر لا موقف له.
- أأشعل النار؟!
-طينك هذا لا تطهره من رائحة العفن سوى النار.
- أخشى أن أخسر.
- من يخسر يتعلم الحكمة والحكمة جوهرة
- مرّة ثانية.
- مرّة ثانية وثالثة وعاشرة.
-ولكن ..
- لا تتردّد، فما تربحه من خسارتها أثمن من امتلاكها.
ومن أعلى تلّة، وقف الذئب الأغبر يبحث بعينين جديدتين عن ظبية
شاردة، تملأ قلبه بالنار، نار الغدر أو الحب لا فرق في ذلك ما دام قد قرر أن
يدخل التجربة من جديد.
....
نعيمة.
ردّد سلمان الرواي الكلمة برقة وخشوع، وتداعت الوجوه أمام ناظريه،
وجوه بيضاء وشقراء وسمراء، شاحبة باهتة، إلاّ وجهاً واحداً لم تستطع السنوات أن
تمحو خطوطه، وجه نعيمه الأولى، حبّه البكر وعقدته التي يحاول دائماً أن
يخفيها، يلفها ويداورها، ومع هذا تظل وجعه الدائم والأبدي، لذا سمى كل النساء
اللواتي عرفهن بعدها باسم نعميه في محاولة لاستعادة الزمن المفقود، والحب
المفقود دون جدوى لأنهن غير قادرات على ملء الفراغ في قلبه البارد أو إشعال
النار، في موقده.
كانت نعيمة الأولى بنت الحلواني، رقيقة وناعمة مثل ظبية، وكان سلمان
الراوي يومذاك ذئباً شرساً ومتمرداً، كانت نعيمة بنت الحلواني ساحرة وبرئية
وخجولة مثل سندريلا، وكان سلمان الراوي نزقاً وعابثاً مثل إبليس، كانت نعيمة
بنت الحلواني هادئة تحب الابتسام والناس، وكان سلمان الراوي لا يطاق، كتلة من
الشرّ والأذى والسخريه، كانت نعيمة بنت الحواني تحبه برصانة وهدوء وتوازن وكان
سلمان الرواي يحبها بصخب وضجيج وكأنّ قلبه الصغير يومها لم يستطع أن يحتوي كل
هذا العشق ففاض به، كانت نعيمه بنت الحلواني تهوى العلوم والمعارف العلمية،
وكان سلمان الراوي يحب الموسيقا، والشعر لأنهاّ الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامه
ليكتب فيها قصائده، وهذا الفارق الوحيد بينهما الذي يحسب لصالحه.
وحين تزوجت نعيمة بنت الحلواني، أحس سلمان الراوي أنه يقف على شفير
هاوية، لأنه كان يعتبرها مُلكه، أرضه الصغيرة التي يقف عليها، دنياه ووطنه،
فاندفع إلى الفرات، وقف على شاطئه، راقب شجر الغَرَب والصفصاف، وانعكاس العمر
على سطح الماء الرجراج، اشتم رائحة الموت وسط موكب من نقيق الضفادع فصاح:
- ليش يا ساكن العالي؟!
وبكى طويلاً، عوى كذئب جريح، ثم أطفأ عدداً من لفافات التبغ في كفه
وذراعه، لا زالت آثارها حتى اليوم، ثم نام على الشاطئ بعد أن هدّه اليأس والألم
وهو يردّد:
معي وحدي سرّ زهرة روحها، فليلغِ الكلب في جسدها الفاني، لن تعرف
أصابعه الملوثة بالزيت المعدني، لن تعرف كيف توقظ عطرها الخفي.
ثم دفن اصابعه في برودة الرمل المغسول بالماء دون أن تصدر عنه سوى
نهنهات متقطعة.
وقام سلمان الراوي، نكس رأسه كراية جيش مقهور وهو يردّد:
- معي وحدي السرّ، ولكن طعم الخيانة مرير.
...
قالت نعيمة بنت الحلواني يوم رأته بعد زمن من الانقطاع والعزلة:
أهذا سلمان الراوي ؟ لا أصدق أين عنفوانه القديم؟ ومن قلّم براثن الذئب الأغبر؟
وقالت نعيمه من النعيمات صادفته عند أقاربها:
كم يبدو حزيناً سلمان الراوي؟
قالت نعيمة أخرى رأته مرة على الجسر القديم:
سلمان الراوي ؟ إنه يبدو جافاً مثل خشب اللوز.وقالت نعميه
القوقازية:
- هذا الرجل سلمان الراوي فارس لكنه فقد مهمازه وجوداه.
وخرج سلمان الراوي، سار بعزم وتصميم، وهو يعرف ماذا يريد ؟ وكيف
يحقق ما يريد؟ فلقد فارقته كل هواجسه، فارقه خوفه وتردّده، فهو لا يريد أن يموت
مرتين، مرّة روحاً، ومرّة جسداً وكان الطريق يعرفه إلى نعيمة الأخيرة.
...
دار الذئب الأغبر مع ظبيته حول المكان.
وقفا عند شاطئ الفرات، راقبا غروب الشمس الساحر، وهدوء المكان،
وتدفق الماء، التصق بها، التصقت به، كانت لها رائحة تسكر النفوس، وتوقظ الغرائر
الكامنة، نظر إلى عنقها الأملود بعينيه الذهبيتين، شعر بالنشوة، بالارتعاش،
بشرايينه تمتليء من جديد بدم ونار، وكان قلبه يخبط، وأنفاسه تتقطعّ، فأسند راسه
إلى العنق، استراح عليه، وفجأة أحس بحركة الدم في شرايينه تستفزه، وبلمح البصر
غرز أنيابه في اللحم فتدفق الدم... دم حار وطازج... فأغمض عينيه وتابع الهتك
الشرس دون رحمة.
...
وقف سلمان الراوي أمام نعيمة.
وقفت نعيمة أمام سلمان الراوي، كانت نحيلة وشاحبة وناعمة مثل
سندريلا، وكان كهلاً أدمت ت براثنه الصخور والأشواك، قال لها:
- أنا أريدك.
قالت له:
- أنا خائفة منك.
ضمها إلى صدره فاستجابت له مسحورة، همس في أذنها:
- تخافين مني؟!
- نعم. فلك عينا ذئب، وابتسامة مسيح.
- صدقت فلقد عاود الذئب الأغبر سيرته، واشتعلت النار في الموقد
المهجور.
- ماذا تقول؟!
- لا شيء، لاشيء.
ودفن وجهه في شعرها، شم رائحة العنق. فتيقظت فيه كل مشاعر الماضي،
عض الأذن بلطف ثم انحدرت شفتاه على مرمر النحر، دغدغه بأسنانه، وفجأة غرز تلك
الأسنان عميقاً وصرخت وكان الدم يتدفق غزيراً من المكان الطري.
الضياع
-1-
•مساءً جاؤوا كعادتهم إلى مضافة الدليمي.
من كل الحارات، جلسوا متقابلين، شربوا قليلاً من الشاي الأسود،
وكثيراً من القهوة العربية. ودخنوا مختلف أنواع التبوغ، تحدثوا عن الموسم
والمطر والأغنام، وتسويق الأقطان والحبوب، وتأريخ العشائر «والجندرما»
العثمانية، حيث كان الجندي، يطالب صاحب البيت المضيف بعد الطعام بأجرة تنظيف
أسنانه، وكان رجب القهوجي يزودهم بين حين وآخر بالقهوة والماء، والجمر لمن يدخن
«نرجيله»
وآخر الليل ارتحلوا بعباءاتهم السود كالوطاويط، لبسوا أحذيتهم بتمهل
وهم يشدون بشفاههم على لفافات التبغ، خليطاً عجيباً من الرجال والباعة
الجوالين، والوافدين الجدد والحمالين والأصدقاء القدامى والشرطة والأقارب.
قال أحدهم:
- اليوم أغلقت مضافة العوامر.والمضافة في عُرف الناس هنا، المكان
الذي يسمر فيه أبناء الحي أو العشيرة في أول الليل، ويأوي إليه الأضياف قبل
انتشار الفنادق منذ فترة قريبة، وإغلاق أحداها يعتبر تهديداً خطيراً لاستمرارية
شكل من أشكال الحياة والعادات.
وقال آخر:
- بعد عشر سنوات لن تبقى مضافة واحدة في البلد، سيبيعها أو يؤجرها
ذوو " البنطلونات".
وقال رجب القهوجي وعيونه تبرق بفرح منتصر:
- أغلق وجر آخر من أوجار الضباع.
وعند الباب قال عمر الشي هامساً:
- نراك غداً في اجتماع المجلس البلدي .
- سأكون حاضراً.
قال عباس ثم انتقل إلى داخل البيت العربي الواسع، مثقلاً بشعور من
الفخر والأهمية والمجد، تاركاً المضافة خلف ظهره، تغرق في الضوء والفخامة
بطرازها الهندسي الرائع الذي لامثيل له في البلد، وهذا أحد أركان فخره.
- كل شيء قد تغير.
قال ذلك وهو يمسح بعينيه النوافذ والجدران، والشجر الليلي، والقمر
الطالع، ثم توقفت نظراته على أعتاب الغرفة الطينية المنزوية كتذكار يجرح زهوه
وفخره بوحشية خنجر، إنها أمه العجوز التي سرت من كل الثريات، والسجاد، والبلاط،
والأضواء، والضيوف القادمين من المدن الكبيرة، مهمين وغير مهمين، وعاملته كعباس
بن شواخ الدليمي ذلك الولد الحافي، الراكض إلى حضنها، يستنشق العجين والدخان
بعد كل حى وظلت في غرفتها التي شهدت عرسها، تخيط ثيابها بيديها، وتخبز خبزها
أيضاً بيديها، وتكفكف دموعها بيديها، لقد باغته صوته في مأتم أبيه حينقالت بلا
سبب:
- أنت بلا قلب.
وكانت على حق، فهو لم يفرح كما فرح يوم موت أبيه المدمن، ذاك الذي
اضطر ذات يوم إلى الحجر عليه في قبو المنزل مع ما يشتهي من الطعام والعرقحتى
لاي في الخمارات الرخيصة، والأسواق، والأزقة ولكن بعد أن أجبره على توقيع بكل
ما يلمك لصالحه.
دلف إلى غرفته، وحين أندس إلى جانب زوجته، شعر بنفسه يتحول إلى كتلة
من النحاس والقصدير تستحم بالريش والقندريس البري وتمتد بين قطعان العجول
والماعز والأكباش، وبيوت الفلاحين في مشاريعه العديدة والهواء مثقل برائحة
الفلاحات اللواتي اغتصبها أو راودهن في غياب ازواجهن، مثقل بالدم والحسابات
الصغيرة أو الكبيرة التي صفاها مع خصومه، كما فعل حين دفع القهوجي السابق تحت
إغراء المال والخمر إلى قتل أحد الفلاحين لأنه وقف بينه وبين الوصول إلى زوجته
الجميلة.
لأنه قال له بأنفة:
- عباس الدليمي، اسمع، هذه المرأة دفعت دمي للزواج منها، وهي لا
تكفيني وحدي، لذا سأقطع اليد التي تمتد إليها.
ثم مضى بثبات، يحمل فاسه بين شجيرات القطن ورجلاه تغرقان في الطين
وقد نفرت عروقهما.
أغلق رجب القهوجي باب المضافة بهدوء.
-2-
وصوت أقدام"شاوي" آخر الطالعين لازال صداه يختلط بالحصى المفروش في
الممر، ويتردّد في اذنيه، وشاوي لقب علق بالرجل منذ اليوم الذي أنحدر فيه من
قريته القريبة ورآه الأولاد يترنح من السكر بعباءته وعقاله الأسود في أزقة
الحارات.
أنه - بالتأكيد- الأن ينحدر من شارع«الهادي»باتجاه السوق القديم
بحثاً عن خماره، أو اصطبل مهجور، أو منزل يُنبى حديثاً يأوي إليه، فالجوامع
مغلقة هذه الساعة المتأخرة، فإن لم يجد، فليس أمامه سوى المقبرة أو محطة
المحروقات القريبة منها، حيث يتاح له أن يراقب الأضواء البعيدة، والسيارات
العابرة، ويشرب شاياً مع عمال يحتاجون له لكي يدفعوا عنهم سطوة النوم والتعب،
ويسليهم بحكاياته عن الدجاجه التي لم يجرؤ على ذبحها فأطمعت فيه أهل القرية
وإخوته فسلبوه كل شيء.
لقد قال له عصر اليوم:
- أنت صديقي، أليس كذلك يا رجب ؟
- بالـتأكيد.
- إذن أعطني ليرتين أشتري بطحة عرق.
كانت عيناه الصغيرتان مطفأتين، وقامته النحيلة ترتجف كقصبة، وفي
صوته رنة غريبة.
- تكرم.
قال له ثم تابع- :
- شاوي يا صديقي العزيز. لماذا لاتعود إلى قريتك وتسترد أرضك ممن
غصبوها، وتتزوج؟
- أعود إلى القرية؟ ليتندر بي الناس في السهرات والولائم، ليدفعوني
في النهاية إلى الجنون أو القتل، ثم ارضي، لقد تقاسمها إخوتي ولم يتركوا لي حتى
موضع قبر يلمني غداً، رجب بالأمس كان عليّ أن أذبح دجاجة لأثبت رجولتي، أما
اليوم فالدجاجة ما عادت تكفي، عليّ أن اذبح انتبه ...أ...ذ...بح ... رجلاً لآخذ
مكاني بينهم ولست مستعداً لذبح عصفور. إن الدم يفقدني أعصابي.
- وتبقى على هذه الحال؟ّ
- وهل هناك حل آخر؟ دلني عليه.
-لا أعرف ماذا علي أن أقول.
-لا تقل شيئاً.
- آخ يا شاوي
- نعم آخ
-لم لم يتمسك بشاوي لينام معه الليلة ؟! شاوي الذي يعمل ايام الصحو
عاملاً مياوماً، أو بائعاً للثياب المستعملة، ويسكر في الأيام الممطرة، ودّ لو
يخرج خلفه راكضاً ليعود به، ولكنه تسمر في مكانه كالقصبة.
...
أغلق باب المضافة.
فازداد توهج النار في الموقد، بدت الغرفة المستطيله سفينه حجرية
فارغة إلا من البسط الشعبية الزاهية، والوسائد، وزهرة النار في الوجاق، حيث
تصطف «دلال» القهوة المرّة بجلال عشائري خاشع ورائحة الوجوه والكلمات التي ظلت
تهوّم وتعبق كزنخ الجلود، تختلط بغبار الأحذية الراحلة في كل الجهات، عبق كل
شيء، ولا يدري لماذا أحس وكأنه داخل وجار ضبع أنيق، ينتظر أن يقدّم طبقاً
رئيساً على مائدة هؤلاء الرجال الذين لهم رائحة الضباع، وطعم التبغ الحريف،
ولون الآجر المشوي.
صبّ رجب لنفسه فنجاناً، اتكأ على الوسادة ثم مدّ رجلين حافيتين
شققهما البرد والتعب، وغرز لفافة من التبغ بين شفتيه وسحبها بشغف ولذة.
كانت أمه تقول له حين يخرج إلى المرعى:
- انتبه إلى خراف الناس جيداً
وكان العجائر يحذرونه.
- احذر الضباع.
وكان يخشى الضباع، لأنها تبول على الإنسان، فتشلّ إرادته وتسيطر
عليه وتقوده حيث تشاء - كما حدثوه- سرّ الضباع هذه، هل أعطته للسادة فقط،
فسيطروا على الفقراء ؟ ترى الأمر كان كذلك ؟ لقد ودّ لو يعوي كذئب فتي في
العراء ليخيف الخراف والضباع والسادة
وحين ذهب إلى المخفر ذات مرّة. قال له الشرطي:
- قف جيداً.
أما المدرب في الجيش فقد صاح به.
- أيها الراعي، صوب جيداً على الهدف، واحبس النفس.
وقالت له سيدة المنزل.
- ليديك كرائحة القهوة المرّة، ولجسدك زنخ التيس، فابعد عني ابعد.
وكانت تصبغ يديها بالحناء، وتغرق قدميها في الماء الحار، فرفّ
بأهدابه القليلة التي أكلها الرمد والقرمز، وحك الوشم الأزرق على صدغه، ثم
ابتسم بمذلة، وهو يشعر برغبة جارفة في اغتصابها على فراش السيد، يبطحها عارية
ولا يفارقها حتى يغمى عليها.
وقال له عباس الدليمي:
راقب قهوتك جيداً
عباس الدليمي.. رنّ الاسم كرنين قطعة من النقد على البلاط، وكشر رجب
عن اسنانه، ودّ لو يعوي، يغرس أنيابه وبراثنه في جلد هذا الخارج من مغاصة الطين
إلى مصيدة النهب.. الدليمي؟! إنه زمن ردئ.
ودوّت في أذنه كلمات أحدهم، وكان يتحدث بانفعال عن تأريخ الرجل
وصعوده من أسفل القاع إلى القمة:
- عباس الدليمي؟! عباس، كان جدّه حذاء للخيل، لا أحد يعرف من أين
جاء؟ عبر الفرات في عز التشارين حين لم يكن هناك جسر لعبور الناس، وهو يحمل
ثيابه بيد فوق رأسه، وبأخرى يفوج الماء ويسبح، خلقه الله جميلاً وقوياً فتزوج
سريعاً، تعب وهو ينتقل من قرية إلى أخرى حتى أنشأ شواخ والد عباس، الذي عيّن
مأموراً للطابو. فتحالف مع "حسين بك ". ضابط السوقيات التركي أيام «السفربرلك»
فنهبا نصف أراضي البلد كرشاوى لتهريب المطلوبين للسوق إلى جبهات القتال في
البلقان أو العراق. من هنا لجأ إلى معاقرة الخمر لينسى ضحاياه ممن ذهبوا ولم
يرجعوا أبداً.
...
رشف رجب قهوته.
انحسرت كل الوجوه عدا وجه عباس الدليمي، ظل يحاصره كالفزاعة، تذكر
قريته حين هجرها، كان حافياً، عاري الرأس، وجائعاً، نزل المدينة عصراً تجول
كحيوان ضال، قالوا له:
- نم في المسجد، وفي الصباح تجد مكاناً عند السرايا القديمة، يجلس
عنده العمال المياومون والعاطلون بانتظار من يستخدمهم في عمل يدوي بسيط لا
يحتاج إلى مهارات أو ذكاء.
جلس وكان خائفاً، جائعاً، فشاركه أحدهم الشاي عند بائع على الرصيف
فعرف حرارة الدفء الإنساني، وهو «شاوي» وحين حاصرته عينا عباس الدليمي، ارتجف،
فزانه كدابة للذبح، أو كلب للحراسة ثم أشار له بعجرفة من اعتاد إلقاء الأوامر.
- اتبعني.
ومنذ ذلك اليوم نسي عادة النظر إلى الغيوم المسرعة في السماء كأقدام
الله، وآخر الليل حذره شاوي من عباس، الذي دفع القهوجي السابق إلى قتل أحد
فلاحيه، فدخل السجن.
-3-
صباحاً توجه أعضاء المجلس البلدي إلى الاجتماع، لبسوا عباءات الجوخ
الثمينه، والكوفيات المعطرة بعطور ثقيله، والأحذية اللماعة، اجتمعوا أولاً في
المقهى، شربوا قهوتهم ثم تحركوا مجموعة من المزراعين والسماسرة، ومحدثي النعمة
من المتعهدين والتجار أبرزوا ساعاتهم المذهبة، وخواتمهم، وأعقاب مسدساتهم
المرخصة ثم كرروا مطالبهم التي لا تتغير: تأجيل ديون المصارف، وصرف تعويضات حوض
الفرات.
وبعد القهوة والدخان خرجوا يجرون ذيولهم كالديوك باتجاه المقاهي
والمضافات مرحين راضين.
-4-
جاؤوا من كل القرى التي فيها مشاريع لعباس الدليمي، نصفهم يغرق في
الوحل والزرع طوال العام ونصفهم الآخر يغرق في ديون عباس الدليمي، أكلوا ثريداً
على العشاء ولحماً، وشربوا شاياً ودخاناً أجنبياً فاخراً، ونعموا لساعات بضحكة
الآغا، حدثهم عن مصاعب تسويق القطن، ورداءة الوقت، ومصاعب الصرف وشركاء الظل،
وكانت عيونهم تراقب القلم بين أصابعه يجردهم من لحمهم وعرقهم وأحلامهم وفي
الصباح ارتحلوا يحملون هدايا صغيرة لأطفالهم وعائلاتهم من دبس وحلاوة وديوناً
جديدة للآغا ترهنهم عاماً آخر، وخوفاً لا يفارقهم من الدرك وفقدان الصحة.
- 5 -
سهر مع "شاوي"إلى ساعة متأخرة
تحدثا عن القرى والبيادر والكلاب والدخان الذي يشعله الفلاحون لطرد
البعوض والأاس التي يقيمها القادرون، وفي الصباح رحل شاوي بحثاً عن عمل أو
امرأة تكلفه بيع بعض الثياب القديمة لزوجها المتوفي أو الحي، أو قد النار، وملأ
"دن" الماء الفخاري، ثم سكب لنفسه فنجاناً من القهوة الحارّة.
كان السيد نائماً ولما يستيقظ بعد، بالتأكيد سهر طويلاً يحصي كنزه
الذي سرقه من عرق الفلاحين.
-رجب .
نادته السيدة، حمل دلّة القهوة وهو يطأطئ من هامته ويراقب ذراعها
المثقلة بالذهب والوشم الأزرق.
- صبّ قهوة.
ناولها الفنجان وهو يرتجف.
- ما بك؟!
- لا شيء.
- هات الفنجان.
تناولت الفنجان، رشفته بصوت مسموع ثم ردّته، ولا يعرف كيف سقط على
البلاط فتناثر إلى أجزاء صغيرة، تسمّر مكانه، وجاءته الصفعة، فاشتعل غضباً،
وغير بعيد منه كان عقاله الأسود، تناوله ثم انسحب بصمت إلى زاوية من زوايا
المضافة، ودّ لو يخرج إلى مشاريع السيد يشعل فيها الحرائق، ثم يجلس على مرتفع
يراقب الغيوم تسرع كخطو الله في الأعالي.
...
- أنا مسافر. راقب قهوتك جيداً.
قال السيد وهو يتناول من يده فنجان القهوة، ويراقب الأرضية النظيفه
والدِّلال النحاسية التي اشتراها قديمه ليدلل على عراقة موهومة لا وجود لها
- هذه مائة ليرة لك ومثلها لشاوي.
ألقى بالقطعتين ثم خرج، وبعد لحظات سمع رجب صوت العجلات تنطلق إلى
المدينة الكبيرة والنساء وليالي القمار الثقيلة.
-6-
قال الرجل بحزن:
- شاوي في المشفى.
فسقط قلبه، وقال الناس.
- راهن خماراً على ابتلاع شفره حلاقة مقابل ليتر من العرق.
وكان المشفى كعادته غاصاً، والدم يبلل ثيابه، الدم الذي هرب منه
طوال حياته.
قال الممرض:
- ابتعد، الزيارات ممنوعة الآن.
وقال رجب:
- أريد أن أظل معه.
- ممنوع.
مطّ الممرض الكلمة ثم دفعه خارج الممر قائلاً:
- تعال غداً.
...
قالت السيدة:
- أين كنت؟!
- في المشفى.
- ماذا تفعل في المشفي.
- أزور شاوي.
- تزور.
وبصقت، ابتلاع بصقة من أجل رغيف خبز، ابتلاع عرق، ابتلاع شفرة، خبز،
عباس الدليمي، عفة الفلاحات المخدوشة، اختلطت الأمور دارات الغرفة والجدران،
وركضت الأشجار، وحجارة المضافة، والدلال النحاسية الصفراء والدم يبلل ثياب
شاوي.
- الدم؟!
كزّ على اسنانه بغيظ.
...
مساء جاؤوا من كل الحارات.
شربوا قليلاً من الشاي ،وكثيراً من القهوة المرة، تحدثوا عن الموسم
والأغنام وتأريخ العشائر، وتسويق الأقطان، شاويي كان الوحيد الذي لم يأتِ وآخر
الليل تفرقوا في كل الاتجاهات.
لم يغلق رجب المضافة كالعادة، نظر إلى السماء بثبات، كان وجه شاوي
يسرع في الأعالي ،جليلاً ومهيباً ونظيفاً كجرس القطن المتفتح.,
وبالثبات نفسه، أغرق جنبات المضافة، البُسط الصوفية الزاهية،
والوسائد، ووضع الدّلال في الوسط، ثم أشعل النار فتوهجت، سرت كالجياد في
المكان، فارتاح، فارقه الخوف والرهبة وانطلق صوته الحبيس، عوى كالذئب، شرساً،
أصمّ، وقاسياً، وكانت الغيوم تسرع إلى جهة مجهولة.
واستيقظ الحيّ بكامله، ولم يفهم الناس سرّ الحريق للوهلة الأولى.
لكنه ترك في نفوسهم مهابة وخشية.
الباب الموارب
1- أول الكلام..
•قال الكاتب....
- هذه اللغة مجنونه فلأتركها.
قالت اللغة:
- هذه الرجل خبلته الأوهام.
قال الكاتب:
- يجب أن آتي بجديد، بحكاية.
قالت اللغة:
- لن أتخلى عنه أو أخونه.
قال الكاتب:
- سابدأ حكايتي بامرأة جميله، ونزقة، لها عينان صغيرتان ذهبيتان،
وفم ناعم، تحب القراءة والتدخين، والاستماع إلى الموسيقا، امرأة تشرب قهوتها
الصباحية في السرير، وتكتب رسائل غامضة إلى رجل مجهول في دفتر أزرق لا يطلع
عليه أحد، امرأة وحيدة يمتصها عفن المكان، والانتظار، وتحاصرها الأسئلة وعيون
الجيران، ونظرات الرجال الجائعة فلا تهتم بكل ذلك، ويوم أذاعت محطات الأخبار
والصحف العالمية مقتل الحسين في أدغال بوليفيا، شربت كثيراً من القهوة ودخنت
كمية كبيرة من السكائر، وظلت تكتب طوال الليل في دفترها الأزرق.
وفي الصباح استيقظت، دخلت الحمام، وظلت تحت«الدوش» زمناً ليس يسيراً
تتفقد كل قطعة من جسدها، النهد، والكتف، والشعروالشفتين ثم خرجت تتلجلج كليرة
الفضة الجديدة، وبعد أن أعدّت قهوتها الصباحية، جلست في السرير، تشرب وتدخن،
وتتأمل طويلاً ما أمامها، اللوحات المائية على الجدران، ولون الأغطية، والدهان،
وقصاصات الورق ثم شرعت تكتب رسالة إلى مخزن للزهور، ليرسلوا باقة إلى قبرها في
اليوم التالي، كما أوصت بإرسال عامل شاب لكي ينظف المكان من أعقاب السكائر،
وبقع القهوة والشاي، وفضلات الطعام والقطط ثم تعرّت من ثيابها، ودهنت جسدها
بزيت عطري، فبدأ يلمع في الغرفة كنار مجوسيه مقدسة، تعب السادن في العناية بها،
فألقمها أروع ما عنده، ثم انحنى يصلي لها ضارعاً.
ثم مدّت أصابعها الرشيقة تفتح المذياع على محطة مجهولة، فصدحت
موسيقا حزينة وتعالت تراتيل كنسية شهيدة، فازداد المشهد احتفالية وجدّية، فمدّت
عنقها الأملودوكأنها بانتظار خنجر معقوف يجزّه بلمح البصر فتندفع الدماء نافورة
حمراء من الضوء والياقوت.
وبعدها، فركت نهديها بورق الريحان، فعبقت رائحة غامضه كانت مزيجاً
من احتراق وعطر وعرق، ثم تحدثت طويلاً في الهاتف المعطّل منذ سنوات، وكان الصوت
يأتيها ضعيفاً ومتعباً، فتصغي بشغف ولذة ماتعة وتكرّر الكلمات وكأنها تمضغها
بعد قدح من الكونياك الأرمني الفاخر.
وحملت زجاجة السمّ مثل ملكة خسرت كل حروبها، وبكل أناة
وكبرياءأفرغته في فمها، ثم أغفت في سريرها باسمة، تحلم بصباح ماطر يغسل السطوح
والنوافذ والأرصفة، وقد تركت إلى جانبها فنجان القهوة وعلبة الدخان الفارغة،
ورسالة لا تبرئ هولاكو فيها من دمها
قالت المرأة:
هذه المخلوقة لا تشبهني.
قال الكاتب:
هذه المرأة نزقة.
قالت اللغة:
ألم أقل لكم، الكاتب لا يخون الكتابة
قال الكاتب:
- أمّا الرجل، ولا بدّ من الرجل- فيجب أن يكون كهلاً، له قامة هشّة
من الحوّار. وصوت عميق أجش، يحب القطط والكلاب ويكره سيرة النسوان، وقد طلق
حديثاً، فهو بلا مستقبل لامع، أو طموحات كبيرة، يعيش على دخل متواضع يأتيه من
بيع الحشائش البرية للدكاكين، بعد أن فقد حقه في الراتب يحب أن يطلق على
حيواناته أسماء غريبة مثل: الكابوس، والضفدع، ويا ريت زماني، وبوكاسا، والعقيد،
والمنقلب، والحكيم، لكن مثل هذا الرجل الصموت، قليل الكلام سيكون ورطة للكاتب،
فكيف اصنع له نهاية مشرّفة، أو موتاً لائقاً بالحكاية؟ كيف أصنع له الحلم
والثقة وهو الذي أعلن حربه منذ زمن بعيد على الناس؟!
قال الرجل:
- أنا لا أحب الكتاب، فهم سفاحون يقتلون بطريقة متقنة وغامضه، لقد
قتل المرأة قبل قليل ولم يترك فرصة الدفاع عن نفسها أو التراجع عن قرارها، لو
اقترب من حيواناتي سأطلق عليه النار.
قال الكاتب:
- الشخصيات المهمشة متعبة.
قال الرجل:
- سأشتري كلباً سلوقياً وأسميه «الكاتب».
قال الكاتب:
- لا بدّ من الحكاية، من مكان ونهر وأشجار وحروب كبيرة أو صغيرة، لا
بدّ من رجل وامرأة، وإلاّ لمن تقول المرأة: أحبك؟! ولمن يقول الرجل :أحبك؟.
قالت الحكاية:
- لا بدّ من قصة حب.
-2- مرثية لحمار الوحش
كان قلباً مفتوحاً لكل الشهوات والنسوة الأناثى الباحاثات عن لحظات
مسروقة، وللغة بكل أبهتها وزينتها الملكية، وأجراس حشودها الرعوية، وهي تصنع
عسلها المسكر من دم الزهر الغض بأناقة وإدمان.
ولم يكن زماناً للرتابة والتعقل والحصافة.
لم يكن وقتاً للأعمال الحاسمة، أو المسرات الجليلة، ولم يكن وقتاً
عابثاً للفصول، أو الضحك الصافي يرنّ في الصدر رنين الفضة على الرخام البارد،
أو يبه كالفاغية لا تضنّ بعطر على العاشقين في مساءات الحضرة والتطهير.
لم يكن وقتاً من البدد النثير، أو المعدن الواثق، او النبض المعافى
يخدش زائدة الدفق الأسر، ويرتل مع سلطان العاشقين نشيده الآبد، يحدو الارواح
وهو ثمل يتمايل ويوقد البخور ثم ينقر على الدفّ، يستحضر ما فاته من الزمن، زمن
الغفوة الذهبية، حيث لا براح ولا راح.
كان في الرؤيا «أيلاً» وفي الهيام رجلاً يصنع من أكوابه وردة وفي
وضوء الدم عاشقاً مصلوباً وفي الختام بداية الحكاية وقطعة من آرابيسكها الصدفي
المكفت بخشب الجوز.
لم يكن وقتاً من الوقت، أو تاريخاً محكياً، أو كتاباً مدوناً على
عظام البلشون الأبيض لأيام النهر وموازين الموت والناس ولم يكن فرساً في سباق
الأفراس الجميلة بين الفرات والصحراء.
لم يكن، أيلاً أو ما يشبهه، يقلق هدوء الكراكي بقرونه الشجرية حين
يخزّ صدر الأفق الغافي، يرسم كما الغجري وشماً من اسماك وجراح وعيون وسلاحف تقي
من شر الحاسدين . كما لم يكن حرملاً تشتله أصابع الريح بين سلماس الحماد وخذ
راف البوادي حيث لا ابتداء ولا أنتهاء إنما بدء البدء ونهاية النهاية.
كان نهباً أو ما يشبه النهب.
قلباً من الغبار الذهبي، أو ما يشبه الغبار الناهض نحو تعب وقيظ
تتضور منه طيور الله الهائمة وسط عرق ولهاث وحجارة طالما غسلتها دموع العابدين.
كان عصفوراً على أشجار التوت والعليق، أو ما يشبه العصفور ينقر زهرة
بين غصنين، زهرة بين ساقين أدماهما غروب عابر خانتا الله وصفين وانحازتا إلى
الثعالب، كانت امرأة من عصب ولحم اغتصبها معاوية على سرير الفرات. فتاهت تبحث
عن بكارتها المفقودة في بادية الشام.
كانت مرثية بليغة لحمار الوحش، بلغة الفكر البري حيث يتألق الحجر
الصافي كالضحكة في الماء البارد.
...
قال الكاتب:
- تلك مرثية اللغة لا حمار الوحش.
قالت اللغة: لا تبالغ فإن نصّك مفضوح.
ردّ الكاتب:
- هذه اللغة خائنة وهرمة فقدت بكارتها الأولى.
قالت اللغة:
- كان عالياً هذا الدمع ليّساقط مثل ندى الله في كلماته، يطفر
طاغياً مستبيحاً خداً من الجوري تخدشه آهة العاشق، وترسم فيه حروقاً هبة النسيم
الناعس، ويلهم فقه الموبقات الفاضلة، ويعلن: هذه البساتين رمان، كل رمانة
بمملكة، وكل حبة منها جمرة من النار تأنقت بورد الخشخاش، وزهت، تجر وراءها
موكباً نحو ثلج الروح لإذابته.
قال الكاتب:
- هذا هذيان:
قالت اللغة:
- كان تالعاً هذا الجيد الناصع، مرمراً للكتابات، حروفها من نار ودم
عن الفسق الحلال والغواية الهادية لغايات محرمة على العوام، وكانت عينين من
الأقحوان تدوران في وجه من العسل الصافي والسمسم يأوي إليها القطا العطاش فيقع
في أشواكها، حيث لا خلاص.
قال الكاتب:
- هذه لغة ومعنى المعنى.
قالت اللغة:
- هذا ظل الروح.
قال الكاتب:
- أيها الإله الحجري احرس هذه الساحرة الصغيرة.
...
تراكمات:
قال الماضي:
- ومن أعجب ما رأيت شحاذان أعميان على جسر بغداد، هذا يتسول باسم
على بن أبي طالب، وهذا يتسول باسم معاوية ابن ابي سفيان، والناس في زحام وشقاق
وخصام، هذا يدفع وهذا يدفع، وفي الليل- ولا ليل للعميان- يقتسم الشحاذان
الحصيلة، وهما يضحكان، فلا تطلق النار على جياد الأمس الهرمة أيها الرجل
الغريب.
وقال الحاضر:
- الحزن صديقي، فأعني يا الله على أحزاني.
وقال المستقبل:
- رجل يصنع من أكوابه وردة حمراء، ليصلي ركعتين في العشق وضوؤهما
الدم.
وقال الخوف:
- باسمي يفتتح النشيد الأممي اليوم
وقال الحاسد:
- لمَ كل هذه الشبهات؟!
واشتعلت سروة القلب الرمحية بحروف من نار، فرّت اليمامات وطيور
الزعرور، والفراشات، ورّف زهر الرمان غيمة من البهار واللهب والعذابات، وحين
اتجه الشواظ إلى سويداء القلب، انطلق الأيل يرسم بقرونه الشجرية صورة لأميرة
الحرية في هذا الفضاء الواسع.
وقال القائل:
- معلك وحدك سرّ دلمون فما حاجتك إلى الكلمات، والتأويلات قل:
آهَ... وترنمّ:
لا تقل خرج آدم من أجل تفاحة أيها الفضّاح..
وباع جنة من اجل امرأة فالدود في التفاح.
قال وقال وقال وكان عاجزاً تحت شمس إبليس والعاجز لا يؤاخذ، يبكي
على صدر حبيبة تخونه كل يوم وهو يدرك تماماً بأنها تخونه، ولا مفرّ.
قال الكاتب :
- من أين أبدأ الحكاية، من اللغة أم من اللغو؟
قالت اللغة:
ابدأ من حيث شئت ولكن سمَّ الأشياء بأسمائها الحقيقية؟!
ولا تلعب لعبه الاستعارات والمجاز .. قل:
- هذه فراشة لا عنكبوت
هذا جزار لا قديس
هذه محبة لا كراهية
هذا عدو لا حليف
هذا دم لا ماء
هذا وطن لا مقهى.
وقل...:
- هذه القدس لا أورشليم
هذا المسجد الأموي لا البنتاجون.
هذه مقاومة لا إرهاب.
هذا ياسر عرفات لا صلاح الدين
هذه هزيمة لا نصر.
وقل:
- هذا تمييع لا سلام.
...
-3- ايضاحات للهذيان:
قالت الرؤيا:
- ايل يطلع من وراء رجم حجري، يضرب بأظلافه جلد الأرض الجاسي ويمزق
رداء الهواء الرقيق عن عصافير وغبار وصخب، ويمضي فتياً جسوراً، يبحث عن شجر
وغابة فلا يجد أمامه غير الفراغ الخاوي والحماد الذي يستعرض عريه القبيح تحت
سماء من الفيروز الباهت، فتميل قرونه حتى تكارب الأرض بحثاً عن رائحة أنثاه،
فأين مضت؟! من ذا الذي أطلق في أثر القطيع كلابه الشرسة؟! أيل، روح شاردة، خنجر
لفراغ البوادي، مخمل لجسد الليل النقي يزين وحدته الوحيدة.
قال الهيام:
- رجل يصنع من أكوابه وردة، يعمل على تربيع الدائرة مرّة، ومرة يقول
الدائرة مثلثة، رجل يسكب في كل كوب حسوة من الشراب، ويبدأ طقوسه وشعائره،
بادئاً بالأحمر المزّ فالأخضر النعناع، فالأبيض الدره، فالأزرق الحاد، فتشتعل
حرائق باشتعال الألوان وتتداخل المرئيات في جنة إبليس، وينده صوت بغوم أغنّ، يا
جنيد . صوت أنثى، غائم ودافئ من قرنفل وهيل وزعتر بري حضل الأوراق، شهاء البحة،
هذه وردة الصاحب أم وردة الأكواب؟! وتطل صورة رجل على الصليب، رجل فرح يقيم
وضوءه الدامي في أعراس الصلب، والحجارة والخناجر تنوشه، وهو يبتسم أمام وجوه
العوّام الحاقدة ويردّد كمن يلعب بالنجوم:
- هذا اللحم العدم لكم خذوه، جرّدوني منه وكلوه قبل أن ينتن ويأكله
الدود,
ترميه الأيدي الحاقدة، ترميه العيون الحاقدة، يرميه الجهل والسلطة
والغرائز الفائرة، ومع ذلك لا يبالي، يحدق في السماء البعيدة، ويتنهد: آهِ..
ويتابع صلاته الأخيرة، كان عالياً، اللحم يأكله من جسده الخشب والمسامير. ثم
جاءت الوردة، وردة الصاحب الذي رماه بها في غفلة من العيون، ثم انسل كاللص،
فصاح بألم وحزن:
- آخ... قتلتني الوردة.
صوت ينادي:
يا جنيد...
يلتفت، كان الأيل، والمرأة يغيبان وراء الأفق، ولم يبق في وردة
الأكواب سوى الأحمر المزّ الذي تحوّل مالحاً كالدم، فمن ذرّ الملح على الجروح؟
من اسلم المدن بعدها لغزاة المغول والتتر؟!
قال وضوء الدم:
- من خلف أحد البيوت خرج الرجل، يرفع طرف جلبابه الأبيض النظيف بيد،
وباليد الأخرى حمل إبريق الوضوء النحاسي الأصفر.،
وعلى راسه الأشيب استقرت طاقية بيضاء
- يا حبيبي وحبيب الكل يا بهاء البهاء.
قال ثم ترنم بنشوة لا يعرفها إلا من عاشر التكايا والخوانق والزوايا
عمراً طويلاً:
توهمتها في كأسها فكأنما توهمت شيئاً ليس يدرك بالعقلِ
وصفراء أبقى الدهرمكنون روحها وقد مات من مخبورها جوهر
الكل
فما يرتقي التكييف منها إلى مدى تحدّ إلاّ ومن قبله
قبل
ورفّ جناح من البهاء والنور يصل ما بين سرّة الأرض وقبّه السماء
الصافية، وتهادى قطيع من البقر الوحشي يرعى في مروج خضراء عشباً، وردّد ومن
جديد:
- هذا الزغب الذهبي في فخذيها، لم خلقته يا حبيب الروح؟ لمَ تعذبني
به؟!
وتفوح من آثار قدميه رائحة المسك والزعفران، ويرنّق البياض كل شيء،
وتخرج من وراء التلة عارية كعشتار تحمل جرتها، وتمضي باتجاه النبع، تمضي وردة
الليل، ونهداها يشمخان باتجاه السماء وكفلها كفل مهرة، وعيناها وردتان من شقائق
النعمان، وكفاها من مرمر، ويزداد الجلباب الأبيض بياضاً. ومن الحجر تندّ تلك
اللغة التي لا يفهمها سوى قلة من البشر، وينادى:
- يا حبيبي، أنت الهوى، وهذا القلب تفاحة نضجت، ومع النضج جاءت
الغواية، والدود، فمن لي غيرك ؟ أصابعك التي صاغتها عصباً ودماً وناراً وزغباً
ذهبياً، يا حبيبي خذني إلى صدرك، فصدرها شرك لي، ضمني حتى أتوهم أنك أنا، وأنني
أنت، أعطني صفاتك واسمك وخاتمك، وابعدها عني.
همس لنفسه، ورقت المشاعر، سالت كعذب الماء الصافي، تغسل درن القلب،
وعليق الأسئلة الحائرة، وتترك الفرصة للبراعم كي تتفتح وتغسل أهدابها بنور
الشمس، فتطل بعينيها الفضة من نافذة الروح، وكانت وردة الليل تمضي وساقاها
عمودان من النور، وسرتها حُقّ للياسيمن والفل، وشعرها يمتدّ من مفرق رأسها إلى
أظافر قدميها... فردّد:
- البهاء بهاؤك، والجمال جمالك، أعنّي حتى لا يخرب القلب، ويصل
السوس إلى الروح، فأنا أدري أن لاصلاح للقلب الخربان، يا حبيبي اشم ريحك في
مكان فذوبني.
وفاح عطر الكلمات، فاح عطر التفاح والنارنج، وتداخلت الحقيقة
بالعطر، كما القهوة والماء، وشعر الرجل بأنه خفيف وقادر على الارتفاع حتى يلمس
سقف السماء بأصابعه... وهاجمه الخوف، والهيبة، وكانت وردة الليل تمضي تحمل
جرتها،وعنقها الأملود عنق ريم، وحين رفع الرجل الإبريق ومدّ ذراعه فأحسّ بسائل
كثيف وحار يغسله يغسلها، ويقطر منها، فصاح وهو ينظر إلى السائل:
- دم ؟!
- قال ذيل كشف الظنون:
كل حرف تفاحة، وكل تفاحة مملكه
فنجان قهوة لحبيبتي التي عيناها من بابل ونهداها من سومر، وشعرها من
جزيرة العرب.
حمامتان تهدلان على غصن أخضر
هذا القلب كأس من الذهب والياقوت أشرب منه دمك المقدس يا طفلة
الأنبياء هذه النمنمات من أنامل ونعاس وأوراق الليمون.
سنونوة عائدة إلى عشها في القلب حربة موجهه إلى واجهة الليل تنقش في
جبهته جرحاً.
هذا الجسد من البرقوق والكمثرى المعجون من ضباب وفلفل وحناء وبخور
متى يكون لي؟
قال الختام:
- ذياك البريق يخاتل الهدب، يسطع ماسة صغيرة، والكحل الذائب في
العينين وحشي، وسارة تغتسل، المرأة تغتسل من ظنون كاليقين، من يقين كالظنون ولا
مكان للأيل، تهذي:
- من اسلم راسك للذبح يا بن فاطمة؟! المدن الخائنة أم القلوب
الخائفة؟!
ويصدح جسدها بألف لغة وكل لغة تبشر بجنة من تين وأعناب وخمر، ولا
صوت سوى صوت الماء يختلط برائحة الأنثى والغار وجدران السيراميك والزغب الذهبي
قصيدة معلقة تحت الإبط وفي باطن الفخذين وفوق الشفاه، زغب يطلع من اللحم رفيقاً
رقيقاً، والماء يتحول إلى بخار، ينعقد تاجاً فوق شعرها الأشقر فتتورد فوانيس
بالشهوة، تنام مدن، وتحيا مدن.
-آهِ...آهِ
وبدون سابق إنذار، يأتي النقر على خشب الباب، يأتي حيياً، يوقظ
الخلايا فتسطع شمس صغيرة في النهد الأيمن تكللها رغوة الغار والماء وخصلات من
الشعر.. تهمس:
- من هناك؟1
- أنا..
- من أنت ؟!
صوت يعبر البخار والماء ورغوة الصابون ورائحة الانثى الزاهية كشجرة
دفلى ريانه، صوت فيه ذكورة مختمرة وناضجة وفحولة صاهلة:
- ماذا تريد؟!
صمت يعقبه قرع ناعم على الخشب، وترتجف حمامتا الصدر، ويزهو لون
الحناء... ويعاود الصوت:
- افتحي...
- لن أفتح إلاّ إذا عرفتك؟
- أنا حسين.
وامتدت أصابع سارة إلى القفل فاستجاب لها، وواربت الباب بكتفها
العاري، أحست بطعم الماء والخشب المبلول يتسلل إليها وجاءها العواء.
هذا العواء الصادر عن ذئب.
وهذا النهد ذئب
وهذا الماء ذئب.
وهذه الرائحة ذئب.
وهذه اللحظة ذئب.
وهذا الذئب ذئب.
وهذه المرأة...
واندفع قطيع من الذئاب ينهش الجسد العاري، يمزقه بقسوة فيسيل الدم،
وتعبق الرائحة وحين يغادر القطيع المكان لا يخلف وراءه سوى الدم والعظام
والرائحة...
-4- الخواتيم
قالت الحكاية:
- كل الخواتيم كانت ماسأويّة
قال الكاتب:
- ماتت الحكايات.
وقام إلى المطبخ، أحضر مكنسة، وبدأ في تنظيف الغرفة من أعقاب
السكائر، وقصاصات الورق، ثم مسح بقع القهوة والشاي، ولم يجد ما يزين به المكان
سوى باقة من البنفسج الذابل أهدتها له آخر مرّة زارته، وجلس ينتظر امرأة جميله
ونزقة، تحب القراءة والتدخين وشرب قهوتها الصباحية في السرير، بينما ترك الباب
موارباً.
شتاء الرقة- أواخر 1996.
البازيار الجميل
كان جميلاً كما تؤكد كل الروايات.
ومجنوناً بتضرية الطيو، وتدريب الكلاب، يضع وراء أذنه اليسرى وردة
خزامى، ويتدلى منها قرط فضي فيه خرزة زرقاء، تطل كعين في نقش فارسي على سجادة
من تبريز، وكأنما وضع هذا القرط ليدلل على أصوله القرباطيه، إضافة إلى ما يضفيه
عليه من سحر وجاذبيه .
كان فيه كل صفات الرجل الذي اختاره القدر، ليلعب دوراً مجنوناً أو
يبشر برسالة، لاهمَّ، فجلده الأخضر اللامع كالزيتون المغسول بندى الفجر يتفجر
برائحة فاغمة، أشبه برائحة العشب الريان بعد ذوبان الثلوج عنه، في موسم الربيع،
وسنه الذهبية تعطي لكلماته رصيداً من التأثير والاهتمام، وقد قيل يوم ولادته،
إن السماء امتلأت بالطيور من كل نوع، طيور من كل نوع لا يعرفون من أين جاءت؟
حامت طويلاً حول الخيمة الرثة، وكأنها تقوم بطقس مقدس، ثم رحلت، ولم يبق سوى
هدهد وحيد.
ولم يألُ جهداً في تعلم مهنة الأجداد، فسكب المعادن الرخيصه، وصنع
الغرابيل، ووشم بالشذر الأزرق، الوجوه والمعاصم والسيقان، ولكنه أنف أن يظل
عمره يقرع الطبول في الأعراس، أو في البيطرة وتنعيل الخيل، لم يخلق لهذه الأمور
التافهة، وحار الأهل، خافوا من العينين الواسعتين اللتين بلون الكستناء
المحروقه، والضحكة الساخرة.. وقال:
أريد أن أكون ملكاً أو سلطاناً .
خافوا أن يكون به مس، ثم تابع.
أريد مهنة للقلب لا للعيش، مهنة أعطيها كل دقيقة وثانية من حياتي
وأنا مرتاح، مهنة لا تأكلني كالنار، ثم تتركني رماداً في موقد مهجور وبارد،
تذروه الرياح.
سألوه بسخرية:
وهل لنا أن نعرف هذه المهنة التي تليق بقرباطي شاب ليس في رأسه سوى
النمل.
- كل شيء بأدانه.
- ألم يئن هذا الأوان؟!
- لا أعرف.
- حين تعرف خبرنا.
- سأفعل.
وتركوه، غسلوا أيديهم منه، وانصرفوا إلى شؤون يومية وملحة لا تقبل
الانتظار أو التأجيل، وهم على يقين بأن الأغصان لا يمكن أن تنمو بعيداً من
الساق، ألا يجري في دمه ذلك الإرث البعيد للقرباط ؟ إرث العشق الدائم للرحيل،
والرقص في السهول، والانتظار في قمم الجبال، وسكب المعادن والنقر على الدفوف
والطبول.
وتركهم ذاهلاً، يمم مكاناً قصياً، وفي ظل أحد الرجوم تمدّد، تلمس
الأرض بأصابعه، والحصى، ثم أصغى إلى صوت غامض وبعيد، يأتيه من أغوار مجهولة،
مخترقاً يباس الرأس وشغاف القلب، واستلقى على ظهره، أغمض أهدابه الطويلة أمام
ضوء الشمس الغامر ثم فتحهما على سعتيهما، كانت السماء زرقاء صافية، تزرعها رفوف
الطير، فتبدو كبحر واسع من الضوء والكريستال البوهيمي.
وعاوده الصوت من جديد، وكأنه نبوءة:
- كل شبر على الأرض عليه حارس، وله مالك، فالخيل، والقصور للأغنياء،
والمزارع والأشجار للأغوات، والدكاكين والمخازن للتجار، حتى دور المتعة
والبغايا لها: قوادون يحرسونها.
فردّ عليه بعتاب:
- هل تريد أن تغلق أمامي السبيل؟!
- لا.
- إذن ماذا تركت لي؟!
- تركت لك السماء، ستكون سلطاناً على الطير، وسيداً للكلاب الضواري،
فلا تيأس، لا تيأس.
فلا تيأس، لا تيأس.
لم يفهم، أغمض عينيه، ونام نوماً كاليقظة، وهو يغالب شيئاً حاراً
يدق صدره كالسعال الجاف، فلم يهتم، كوّر قبضته الفتية، ودق بها الصخر فلم يشعر
بالألم.
...
زانه الرجل العجوز بعيني خبير.
راقب صدره العريض، ويديه، وعينيه، ورشاقته التي لا تخفى، وكانت
أصوات الكلاب والطير ورائحة المكان تملأ كيانه بخوف غامض، وسطوة مشرعه كساطور
القصاب، وترقب قلق، يدبّ كالحذر في أطرافه.
- وتريد أن تكون بازياراً؟
- نعم.
- وتقول نعم، هكذا بكل بساطة وكأنك تريد أن تشتري حفتة من التمر أو
الزبيب من السوق.
- عفوك يا معلمي
- لم اصبح معلمك بعد.
ونكس راسه بإجلال.. فتابع الرجل العجوز بصوت خافت لكنه ساخر كلامه:
وهل تعرف شيئاً عن البيزرة: هل تفرق بين الباز والغراب؟ قل لي هل
تعرف شيئاً عن سلالات الكلاب.
- جئت أتعلمّ من كبير المعلمين.
- تتعلم..ها.
- نعم، فالإنسان لا يولد وفي رأسه كل شيء.
- كلام جميل كبداية.
قال ثم قاده إلى كوخ صغير ملحق بغرفته الواسعة، وتركه هناك وحيداً
ثم انصرف إلى شؤونه اليومية، وهو اشبه بغائب عن الوعي أومسحور ومن عينيه
الماكرتين كان ضوء خافت يتدفق بحذر وهدوء.
وفي المساء جلسا متقابلين، على صحفة من الطعام المتواضع، وعاود
العجوز من جديد ما انقطع من حواره السابق، وكأنما أجله لغاية في نفسه، أو لأمر
خاص به... وقال:
- اسمع يا ولدي، عليك أن تترك كل شيء وراءك وتنتبه إلى كل ما أقوله
أو أفعله أمامك بقلبك لا بأذنيك.
- سأفعل أن شاء الله.
- إذن .. هل تركت كل شيء.
- كل شيء.
- قولاً وفعلاً.
- قولاً وفعلاً
- هل في قلبك امرأة ؟!
- لا..
- هذا أول النجاح
- ألك أهل وأصدقاء تحبهم؟
- نعم.
- اطردهم من قلبك. فمن انصرف في البيزرة قلبه إلى غير طيوره وكلابه
خاب مسعاه وفسد عيشه، وباء بالخسران.
- طردتهم من هذه الساعة.
- وكل ساعة .
- قد فعلت يا معلمي
- جميل .. هذا جميل.
قال راضياً.. ثم تابع:
- البازيار الحقيقي يا ولدي سلطان الطير، وسيّد الكلاب الآمر الذي
لا تردّ له كلمة، ولا يعصى له أمر عند رعاياه، لكنه يبقى في النهاية خادم
الأمير، فعليه أن يوازن بين سلطان وخادم في نفس واحدة، وأن يحبّ بقلبين، قلب
لطيوره وضورايه، وقلب لولي نعمته وسيد مصيره، أن يعرف متى يقول لا ؟ ومتى يقول
نعم؟ وإن لم يفعل ذلك ضاع واندثر.
- لا اريد جاهاً بين الناس.
- كلام جميل آخر.
- هذه المهنة يا ولدي من يفهم فيها فهو محتقر، ومن يتسلى لا يكون
إلاّ سيداً أو أميراً، وأنت اخترت العلم، وهو أول درجاتها إلى صومعة العشق
الخالص.
- ستكون كل كلمة يقولها معلمي مقدسة.
- والان.. كلْ، فقد حزت القبول.
وامتدت يده إلى الطعام الذي اصبح بارداً.
...
قال العجوز في أول درس من دروسه اليومية وهو يتطلع بعينيه الماكرتين
إلى السماء الزرقاء وكأنه يرصد حدثاً او معجزة على وشك الاجتراح دون أن يترك
للإنفعال أن يؤثر في نبراته:
- أول درجات هذه المهنة: العلم، فالإطعام، فالحراسة، فالتأديب، ثم
تضرية الطير. أفهمت يا ولدي؟
- فهمت يا معلمي.
والطير أربعة: الغطراف، فالأرقوان، فالكافي، فالزِّنج، وهو أردأ
الأنواع جميعاً، لأنهم جاؤوا به بعد أن اسفد وباض وفرخ وتقرنص، فلا يصلح لكل ما
يريده البازيار منه.
وسكت العجوز طويلاً، ثم قاده من يده، مرّ بالطير في أماكنها، وتفقد
الكلاب في حظائرها، وكأنه يتفقد أولاده، ثم تابع كلامه وهو يتفحص كل شيء بعين
المراقب العارف بكل صغيرة مهما دقت.
- تيقظ دائماً، فمداراة الطيور علم دقيق لا يفهمه إلاّ الذكي اليقظ،
ومن فاته شيء، فلن ينجح، وعليك أن تتعلم كيف تشدّ السيور؟وتلبس الجارح الكمة؟
وكيف تعمل آلاته؟ وكيفية الإرسال والإجابة ؟ وإذا جيء لك بطير، تفقد أعضاءه،
وريشه، وعينيه ومخلبه وأجنحته، فإن وجدت فيه عيباً، فدعك منه، فلا نفع فيه،
وهكذا ترى الكمال شرطاً في الطير وبازياره، والخطأ غير مغفور، فكل طير ثروة من
مال وحب وجمال.
ومضى العجوز في جولاته اليومية ودروسه التي يلقيها وهو يتفقد
كالعادة رعاياه.
- احفظ طيرك من الدخان والغبار ووهج النار، ومن الحرّ الشديدوالبرد
والندى والاحتكاك بالغرباء، ولا تدخله من باب ضيق، أشقّ أو أجمة كثيرة الدغل،
واصبر عليه في وثوبه ورده واضطرابه ولا تنهره أو تتفل في وجهه، ولا تدخل عليه
سكران أو جنباً ولا ضيقّ الصدر، ولا سخيفاً أو أبخر، فإن فعلت ذلك رميت في قلبه
الوحشة، فالبازي أرق المخلوقات طبعاً، وأقلها احتمالاً للأذى، فإنه حين يقع في
شباك الصيادين ينحني فيمزق صدره وينتحر، إذا لم ينتبهوا إليه، فاعقد الألفة
بينك وبينه، لأنّ ذلك يزيده فراهة ومحبة لك، ومتى انعقدت المحبة رأيت منه
العجب.
وسكت قليلاً .. ثم تابع..
- لا تشبع الجارح إذا أساءلك، ولا تحرمه إذا أحسن وأطاع وإلاّ رميت
في قلبه الوحشة.. أفهمت يا ولدي؟!
- فهمت يا معلمي.
- إذن . بقي علينا أن نشرب كأساً من الشاي الخدران .
- تكرم يا معلّم.
ويمضي الشاب إلى المطبخ لإعداد الشاي اليومي لمعلمه، وهو فرحان
القلب لا يعرف التعب.
..
ويوماً سأل الشاب معلمه العجوز.
- أحب أن اسألك سؤالاً، ولكنني خائف.
- اسأل ولا تخف..
- لمَ لم تتزوج حتى الان يا معلمي؟!
وصفن العجوز طويلاً، ثم استدرك نفسه.. فقال:
- يا ولدي للبازيار - كما قلت- قلبان، واحد للطير والضواري، وآخر
لأميره، ولا مكان للمرأة في حياته.
والاولاد ؟!
أولاد البازيار طيوره وضواريه. وإلا ضاع. هكذا خلقه كما يخلق
الراهب في ديره.
...
وأخلص الشاب للمعلّم أكثر من ابن.
ولم يخب أمله، ولقد زكاه قبل موته للأمير، وأدخله في خدمته، وكان
الأمير مفتوناً بطيوره وضواريه، حتى زهد بالأكل والشراب، وانصرف إلى الصيد
والقنص.
- ريشة يفقدها طير، أو ظفر لكلب، وتفقد رأسك.
هذا شرط الأمير منذ البداية، والأمير مجنون إلى درجة أن السماء
والأرض من حوله كادت أن تقفر من الحبارى والقطا والأرانب والغزلان وحتى
الثعالب.
ويوم استطاع البازيار الجميل تحقيق معجزته الكبرى، التي لم يستطع من
قبله أن يحققها أمهر البازيارات، دخل قلب الأمير، فما عاديردّ له طلباً مهما
كان، فلقد استطاع أن يدرّب غراباً، ونجح في تضريته حتى باتت له ضراوة البازي،
وسطوة الباشق، وسرعة الشاهين، فقرر الزواج متناسياً كلمة الملعم الكبير
ووصاياه.
تزوج البازيار الجميل من فتاة دخلت قلبه، فتمكنت منه، ولم تتغير
معاملته لكلابه وطيوره، رغم رائحة العطر الجديد التي فاحت منه، وجاء الابن
الأول، ثم البنت الثانية، ولم يبدل من عاداته واهتماماته حتى خلط بين جوارحه
وأولاده.
وشاخ البازيار، هاجمه الضعف ووهن العزيمة، وبدأ يدرّب ابنه الأكبر
والابن كان مفتوناً بالربابة والأعراس، لذا لم يتشرب أصول المهنه كما تقتضي
أصولها، ولم تنعقد الألفة بينه وبين الجوارح، وكذا الابن الأصغر الذي انصرف إلى
سكب المعادن الرخيصة وصناعة الغرابيل ووشم الأجساد على عادة الأسلاف. فهز رأسه
وقال:
- اللهم اسالك حسن الختام.
ثم سكت حزيناً ويائساً من فعل شيء.
...
- الكلاب تنبح على غير العادة.
- لتنبح، هذه عادتها.
ردّ الشاب على والده، فلم يعبجه الكلام.. فقال:
- لكنه نباح غضب وقهر.
- بدأت أذناك تخونك يا سيد البازاريه.
- أين أخوتك؟
- لا أدري.
قال الشاب دون اهتمام، ثم انسل خفيفاً رشيقاً، فامتلأ قلب الشيخ
حباً حتى فاض، فانحجبت عنه الأصوات، ونسي جوارحه وضورايه وفاء إلى هدوء محايد
بالسلام.
ويوماً، كان فيه الأمير غائباً، والهدوء يبسط أجنحته، سمع البازيار
صخباً ضارياًوعواء مجنوناً، وصوت أجنحة تصطفق، نادى أحد أولاده فلم يجبه أحد،
فقام يتوكّأ على عصاه، نظر من الباب فارتعدت فرائصه، وزاغ بصره، كانت الدنيا
مقلوبة، أولاده وكلابه وطيوره في مجابهة هائلة، وقد حوصر في الوسط ابنه الشاب،
اندفع بجنون وشق الصفوف فجمد كل حيّ، وخرست الأصوات، أشار لأولاده فانسحبوا
وحين أحصى الخسائر، طاش صوابه، وهاجمه خوف مريع هزّه من الداخل.. فصاح:
الرحيل، الرحيل قبل أن يعود الأمير وتكون الكارثه.
بعد ساعة اتجهت العربة نحو المجهول، وخلّف البازيار وراءه مجداً
ممزقاً وطيوراً جريحه. وكلاباً مهتاجة، لقد تقوضت أركان مملكته وحلّ الدمار
بكل شيء.
وحين سأله ابن الشاب.
- إلى اين يا أبي؟
ردّ بهدوء وحكمة.. وقد استسلم لمصيره:
- أرض الله واسعة، وليس لقرباطي مكان محدّد.
وتابعت العربة طريقها، وقد بدأ النعاس يداعب عيون الجميع بينما ظل
الرجل العجوز صاحياً يحدق في السماء الزرقاء الخالية، ورنت في أذنيه كلمات
معلمه العجوز.
- يا ولدي للبازيار قلبان...
وضاع باقي الحديث، فانصاع إلى ذلك الهدوء الذي يكلل تلك البراري
بتيجان من البهاء والقنوت، أشبه بتيجان القندريس البري المستديرة بلونها
البنفسجي وأشواكها الذهبية، فهزّ رأسه الأشيب، وتابع تأملاته، وهو يمضي وسط
الحماد نحو الهاوية، بخطو فيه ثقة وتصميم، وهو يدرك أن خيل الأمير لا بد أن
تدركه.
وفجأة بدأ يغني، نعم يغني بصوت واهن، ومتحشرج وكأنما هو على وشك
الاحتضار، وكان ثمة برد بدأ يهاجمه، يتسلل إلى عظامه، والطريق يمتدّ إلى مالا
نهاية.
قبة دانيال
قبل كل شيء لأعترف .
بكل بساطة ومودة، وبحرّية الزرازير التي تطلق زقزقاتها وهي تتشبث
بالهواء وتصطاد بمخالبها ندف الثلج، وهو يدثّ ليغطي وجه الأرض مخملاً أبيض
وفرحة ببراءة مفقودة، كان قبل يأتي تُسلمها القرى الحدودية القريبة للدرك
الخيالة ومهربي التبغ ومخافر الحدود، ثم تشتفيق على فاجعة غير محسوبة، فيدرج
الرجال لفافاتهم بأصابع قلقة، ويبللونها بشفاه جافّة ـ بينما تدق النسوة صدورهن
الهزيلة صارخات بأصوات محشرجة :
يا ويلنا ويا خراب بيتنا .
وتقعي الكلاب وهي تبصبص بأذنابها وتهزّ رؤوسها بمرح، تنتظر دماً
ينسرب يعقبه ثغاء باكٍ .
لأعترف . بأنني امرأة غير عادية، لي عالمي الخاص أصنعه من ملكياتي
الصغيرة التي لا ينازعني عليها أحد، من اسمي وأصابعي ولون عيوني وشعري وبحّة
صوتي وطباشيري، ودورة الفصول الأربعة التي لكل منها خصوصيته ورياحه ولن تربته
وغيومه ومواسمه.
جلّنار ... جلنار ... أين أنت يابنت ؟
كانت أمي تنادي بالصوت نفسه، والتساؤل نفسه حتى لو كنت أمامها ثم
تردف بعد ذلك :
قهوة . عندنا ضيوف .
وأقوم من مكاني تحت شجرة النارنج دائمة الخضرة، وتتفرق بضع دجاجات
تنقر الأرض الرطبة بحثاً عن حبّات تائهة من القمح والعدس، أو من الديوان التي
تتوالد بسرعة مذهلة في الطين والظلال . وحين أدخل المطبخ أضع دلّة القهوة
النحاسية وأتابع اللهب الأزرق تحتها، وأنا أعرف أنّ أمي في تلك اللحظة تجلس
أمام الباب الخشبي، مع الجارات يثرثرن في شؤون تافهة، يقتلن بذلك الوقت الذي
يتلوى حولهن كثعبان ضخم يبتلع ساعات عمرهن كأفراخ زغب الحواصل لم يصبّ ريشهن
بعد، ولا صوت لما يجري .
لأعترف بأن لي مزاجي الخاص، وحالاتي الخاصة التي أرفض أن أشارك فيها
أحداً من الناس، كما ترفض أصابعي أن تشابه بصماتها بصمات أصابع أخرى، فأنا أنثى
حالمة تمرّ عبر شعابها رياح مجنونة وشرسة كقطيع من ذؤبان البراري، لا أملك
غالباً ذلك التوازن المطلوب مما دفع مدّرستي لأن تقول :
هذه الصبيّة مجنونة صغيرة .
فلا أشعر تجاهها بغير الودّ الخالي من كل حقد، كما أنني شاحبة
كأوراق الكتب القديمة، لي ضحكة مجلجلة وصافية مثل قرع كؤوس السوس الفضيّة، وهي
ترنّ حين تضرب بعضها بعضاً، معلنه عن استعدادها لريّ العطاش، أيّ عطاش كانوا،
بسائلها الذهبي الرقراق، وطعمها الخاص الذي لا يماثله طعم آخر في المشروبات .
جلّنار ... يا جلّنار..
أنادي نفسي فأحس بطعم الخرنوب الناضج في فمي، بينما تناديني أصوات
أخرى، أصوات زرقاء بلون لهب النار، لها رائحة القهوة بالهال، وليونة الطين
النهري، وهو يتوقّد تحت الشمس الجاسية، وقد تركت على وجهه طيور الطيطوي
والكراكي والدراج آثار أصابعها كنقوش مسمارية تروي أسطورة حبّ سومريّة .
عاشرت أصابعي الحبر والألوان كما يعاشر السمك ماء النهر، هذه
الألوان التي أوزعها على المساحات البيضاء لتتحول إلى وجه واحد من آلاف الأعشاب
والأزهار والعصافير والثعالب وسلاحف النهر، وجد عاشرتهٍ كما يعاشر البرد قمم
الجبال المكللة بالثلج وركضت عيوني على آلاف الصفحات بحثاً عن صاحب الوجه
الغامض، هذا المتوج بعمامة، من الحرير والجواهر والفتوحات والقبائل التي قاتلت
واقتتلت ثم ذابت لتسلم مجدها إلى بابوات جدد من الباشوات الحمقى والخلفاء
الأغبياء وهم يدخنون النراجيل ويضعون على رؤوسهم جبالاً بيضاء يسمونها العمائم،
استبدلوها مع تطور الزمن طرابيش حمراء بلون الدم الذي يسفكونه من بكارات
العذارى، بأصابعهم المثقله بالخواتم الذهبية والخطايا ودماء الأخوة .
هذا الرجل الغامض، كان يحرك صهيل كل أفراس جسدي الجميلة، وقد فاجأني
أبي يوماً في حالة تلبّس حقيقية وأنا أرسم صورته بالطباشير على جدار البيت فقال
مستنكراً وهو يشير بأصبعه:
ماذا تفعلين ؟ قلت وأنا أحني رأسي :
أرسم صورة كما ترى .
صورة من ؟
هرون الرشيد .
هارون الرشيد ؟ ! ما هذا التخريف ؟! نظفي الجدار وانتبهي إلى دروسك
فلن ينفعك هارون الرشيد في الامتحان .
قال أبي ثم دخل يحمل خبزنا اليوم، وخبزهم، نعم خبزهم، ناولني حصتنا
ثم تابع طريقه إلى القبو الصغير لايسمح لأحد بالدخول إليه سوى أمي لتحضر ما
يلزمها من المونة المخزنة هناك من عدس ورز وسكر وسمن، نزل الدرجات القليلة ثم
أدار المفتاح فتكّت طقّاته، ثم تعالى صوت خطواته عميقاً في الداخل، وانطبق
الباب من جديد.
كنت أعرف لأبي أصدقاء من الجان، يحمل إليهم خبزهم وطعامهم أحياناً،
ويجلس معهم يدخن ويناقش حتى يعلو صراخهم أحياناً، لكنه لايعدو جدران البيت وقد
طمأن أبي الجميع بأنهم رحمانيون ولا يأذون أحداً، وحين يخرج كان يبدو عليه
التعب ويبلله العرق لأنه تعب في حوارهم وإقناعهم، وقد شكّت أمي في البداية في
أن يكون متزوجاً منهم ولم تقنع حتى أقسم لها على المصحف .
وإذا أردت أن أخفف عنكم وقع المفاجأة، أقول بأنني مسحورة أيضاً.
مسحورة بأشياء كثيرة، أدمنتها كما تدمن النحلة رحيق الزهر، فتصنع منه عسل
حياتها، هذا العسل الذي يتغزّر كحليب أم حديثة الولادة، وأنني مسكونة بامرأة
تشبهني، لا تظهر إلا ليلاً وهي مكللة بثياب زرقاء، امرأة أستطيع أن أدّعي بأنها
خارقة، واستثنائية، قد تكون عاشت من قبل في بلاط الرشيد، العامر، ترنّ حجولها
الذهبية في الردهات الواسعة، كآهات معدنية مشاغية، ويشفّ الحرير عن جسد من
الجمر اللذيذ والصبابات المنفلته كمياه السيول في شعبان عميقة الغور تصطاد
الثعالب وتغرق جحور اليرابيع، تدخن النرجيلة فتتعالى كركراتها دون توقف، وتمدّ
قدماً من الثلج الريان بالدم في الماء الخجول، فيحتفي بها وسط مهرجان من الرغوة
والصخب الكتيم، ويغسلها برّقة عصفور وكأنه يتذوّق منها طعم السجاد التبريزي
المترفّ، فتتساقط رسومه لتنفرط كعقد من الأضواء الملونة . فأناديها :
جلّنار ..
فتضحك بصوت كالموسيقا الوتريه ... وتناديني:
جلّنار ..
وفي المساء، يخلع عمامة الملك، وخاتم الخلافة، ثم يتسلل إلى جناحها
كاللص، ملثماً بكوفية من الخزّ الأسود، وقد لفّ جسدّه العاري، بعباءة من وبر
الإبل، وبأصابع حذرة وعارية من كل شيء ينقر الباب، ثم يدخل كالزوبعة ينضح منه
العرق، وعبق الغالية، والخوف يشلّه، خوف يشبه خوف المهربين وهم ينتظرون أمام
حواجز التفتيش وقلوبهم ترّف كالطير في فخاخ الصيادين.
وحين يغلق الباب، يعود إليه الأمن ويشتعل كما تشتعل أعواد الحطب
الحافّ، في التنور، فينشر الدفء ورائحة الخبز والطحين والماء، ثم يبدأ طقوسه
الوثنية المألوفة، فيتمدّد فليلاً، وهو يتكئ على جانبه الأيسر، وقد انحسرت
العباءة عن قدميه ورجليه، فبان بياضه المشرب بالحمرة، وقد غطى شعر ذهبي لا مع
كل ما ظهر من جسده، فكأنه حقل من الحنطة في موسم الحصاد، يقصده القطا والصعو،
وقطعان الماعز الشامي الضارب إلى الحمرة دون أن يعلم أنه مزروع بأفخاخ سرّية
لصيده، فيأتي خوفه نابضاً وحاداً كالمنجل:
اسقيني ..
وتملأ راحتيها بالخمر وتدنيهما من فمه، فتحسّ بدغدغة خفيفة كدغدغة
أفواه السمك، فترتعش وتتوالى الجرعات، ثم تمتد أصابعه إلى شحمة الأذن، فتحمي
هامتها لتلاصق صدرها، فيدفن رأسها بينهما، وهو ينفث جمره القدسي وغواياته،
وتصلها غمغماته.
جلّ .. نار ... نار ...
ويتناول بزاوية فمه توت النهد المشتعل فينفرط حليب سرّي، يعرف طريقه
إلى عصب الأسنان له طعم الكمثرى الناضجة، فيتمتم :
هذا التوت بخراج خراسان والريَّ .
وتتحول عيناه إلى قنديلين صغيرين يتدفق منها الضوء والدفء بينما
تنزّ جراح الكرز بدماء مالحة، وتتجمع قطرات من العرق في الترصيعة التي تتوسط
الحنك، ثم تسيل إلى العنق . وحين يتوتر، تزحف فوق مخمله وهي تتلمس أعشابه
السّرية، وتشتل لهاثها في جلده المندّى بعرق وعطر، وتنتظر أمطاره وهي تلهث
كالطريدة المحاصرة بين فخّ وهاويه .
وآخر الليل يرحل، ولا يخلف وراءه سوى رائحة العطر والشراب والدخان
والنرجيلة المطفأة، والموقد الخامد إلاّ من رماد الحطب وآثار أسنانه يزرع جسدها
بشقائق النعمان من شحمة الأذن إلى توت النهد الصلب الذي بنى معه صداقة لا تخون
.
....
قلت لكم إنني مسحورة بأشياء كثيرة .
بعضها قد يثير الدهشة لديكم لتفاهته، وقلّة اكتراث الآخرين به،
كزمرة دمي مثلاً، لا لشيء إلاّ لأنها سلبيه ونادرة، لذا اعتبرتها مقدسة، فقد
قال لي الطبيب الذي يعرف أهوائي ومزاجيتي يوماً :
مبروك، زمرة دمك تثبت بأنه أزرق .
قلت بدهشة ومرح :
ماذا يعني ذلك ؟
يعني أنك من سلالة نبيلة، فمن أين تحدّر إليك هذا الدم ؟ !
لا أعلم فنصف عائلتي مجانين .
والنصف الآخر .
على وشك الجنون .
هذه ضريبة النبلاء . فتذكرّي .
أنا مختلطة الدماء . فربما جاءني هذا الدم من جدّة بعيدة جاؤوا بها
سبيّة من قندها، أو بلاد الغور والقبجاق .
وربّما ؟
كنت أميرة عباسية من سلالة إحدى جواري الرشيد الفارسيات أوالروميّات
دمها مزيج من كل عروق البلاد المفتوحة .
تحبين التاريخ إلى هذا الحد ؟!
وأكثر .
من هنا يأتي الجنون .
أو الحكمة الخالصة لثعالب القرى البعيدة .
وفي النهاية، يأتي الدم الأزرق .
وضحكنا معاً أنا وطبيبي الذي نسي مرضاه، ووقته الثمين، ليثرثر مع
أنثى جاءت لتكتشف دمها الأزرق النبيل، هذا الدم الذي أحرص على اللعب به، وأراهن
على استمراره دون اعتبار للآخرين .
...
قبل سنوات عديدة ،جاءت عائلتي .
رجل وامرأة وأطفال كنت أوسطهم، وسكنت العائلة في بيت متواضع ظهره
إلى السور الأثري - وإذا أردت الدقة - أطلال السور القديم الذي حصن به الخليفة
المنصور مدينته التي بناها على شكل بغداد، لتكون بغداد الصغرى، وكان الأب
موظفاً صغيراً، له قلب من الذهب، وصوت خافت أليف ولكنه آمر وحاسم خاصة حين يدخل
القبو وهو يحمل بيده اليمنى الخبز وبالأخرى " قبّة دانيال " وهو كتاب ورثه عن
أبيه يمتلئ بسطور كتبت بأحرف كبيرة وغير متناسقة باليد وكأن كل صفحة فيه بما
تحتويه من كتابات وصور أشبه بقرية للنمل، وهو يردّد دائماً لنفسه :
نتعلّم السحر ولانفعله.
وبعد لحظات يتعالى صوته عميقاً وخشناً وآمراً أو متضرعاً :
أسألك باسمك المكتوب على سرادق المجد، وأسألك باسمك المكتوب، السراب
السابق، الفايق، الحسن الجميل، النضير، رب الملائكة الثمانية، والعرش الذي
يتحرك، أو أسألك بالعين التي لاتنام، وبالحياة التي لاتموت وبنور وجهك الذي لا
يطغى بالاسم الأكبر الأكبر، الأعظم الأعظم الأعظم، الذي هو محيط بملكوت السموات
والأرض، وبالاسم الذي أشرقت به الشمس وأضاء به القمر، وسجرت به البحور ونصبت به
الجبال، وبالاسم الذي قام به العرش والكرسي، وباسمك المكتوب على سرادق العرش،
وباسمك المكتوب على سرادق العزّة، وباسمك المكتوب على سرادق العظمة، وباسمك
المكتوب على قلب الشمس، وباسمك المكتوب على سرادق البهاء، وباسمك المكتوب على
سرادق القدرة....
ويغيب الصوت للحظات، يضيع في فلوات عارية وجرداء كما يضيع قطيع من
الغزلان الخائفة ... ثم يعود قوّياً من جديد:
يانور النهار، ويانور الليل، ونور السماء، ونور الأرض، ونور النور،
ونوراً يضيء به كل نور ...
ثم تنفرط الكلمات كعقد من الخرز الأزرق، ويمتلئ المكان بهمهمات
غامضة أشبه بحفيف أجنحة الخفاش عند الغروب وهو يملأ الأفق .
كان أبي يحلم بالعثور على قبة دانيال، هذه التي لا تفتح أبوابها
إلاّ مرة واحدة في السنة ليدخلها ويطلب مايشاء .
أما أمي فكانت امرأة ساذجة وبسيطة، لا أحلام خاصة لها، وإنما كرّست
حياتها للثرثرة أمام الباب مع الجارات والعناية بأطفالها وبيتها، وقراءة
الفنجان بعد شرب القهوة .
وقد كنت مبهورة بكل شيء، أصدقاء أبي السريين، وصلواته الغامضة،
والعشب البّري الذي ينبت في الربيع فوق أسطحة البيوت الترابية، ويكسو التل الذي
يقف أمام بيوت الحارة، حيث كنت أمضي وقتاً سعيداً، أقطف باقات من زهوره
البّرية وألاحق السحالي التي تخرج منه، ثم أجفف ما أقطف من أعشابه للشتاء
القادم .
وأكثر ما كان يجذبني، ويجعل أنفاسي تتلاحق، وجود أطلال بناء مازالت
بقاياه قائمة من أقواس ونوافذ وجدران خرساء تتحدى أصابع الزمن الثقيله والفصول
وعوادي الأيام بحجارته القرميدية الضاربة إلى الحمرة أو الصفرة، وكان الناس في
الحارة أشبه ببنات آوى، مراوغين ومتلونين، يحبون النميمة وشرب الشاي الأسود
الحلو، ومراقبة النسوة العابرات، بعيون كعيون الذئاب الجارحة، وهم يحركون حبات
مسابحهم الثمينة بأصابع قلقه، ثم يسبلون عيونهم في صلاة غامضة لا ربّ لها .
ويوماً اقتربت من جارنا العجوز جاسم، الذي كان يجلس عصر كل يوم عند
سفح التلّ، يدخن النرجيلة، ويشرب الشاي الأسود الحلو، ووسط سعاله اللاهث يحلم
مرّة أخرى أن يقوم بمعجزته، فهو في شبابه عشق العزف على نايه القصبي، فأسر
قلوب العذارى، وسحر الشباب، ولكن عازفاً غجرياً استطاع يوماً أن يهزّ مكانته
فجعل الحضور يبكون مرة، ويضحكون أخرى، بل بلغ الأمر أن مزّق الجميع ثيابهم حتى
ظهروا عراة وهم لا يعلمون .
وكردّ على العازف الغجري، أخرج العم جاسم نايه، وبدأ بالعزف، وكأن
في أصابعه ألف شيطان، ولم يكن يخاطب البشر، كان يخاطب كائنات أخرى، ولم يفهم
الناس شيئاً ،وفجأة جاءت أسراب من الكراكي العابرة، حامت فوق الرؤوس بأجنحتها
الثقيلة، ثم وقفت كحرس ملكي بين الحضور، مأخوذة بسحر العزف، وبعد تلك الحادثة
حطّم عم جاسم نايه السحري واعتزل العزف، فمن سحر الكراكي لا حاجة به إلى البشر
.
سألت عم جاسم وأنا أشاركه شرب الشاي، وأتلذذ بتدخين النرجيلة، التي
يناولني مبسمها مقابل عنايتي بها حتى لا تنطفئ :
هذا البناء قديم ياجدي ؟ وأشرت إلى أطلال البناء القائم، فهزّ رأسه
وهو يبتسم قائلاً :
أوووه .. قديم جداً .
ثم استدرك غاضباً
ولكنهم خربوه .
ومن خربه ياجدّي ؟!
أولاد الحرام نهبوا حجارته، وبنوا بيوتهم الحقيرة التي أمامك.
وهل تعرف اسم هذا البناء ياجدي؟
اسمه ؟ ! قصر البنات .
وأي بنات يا جدّي ؟
ماذا جرى لك اليوم ؟
أريد أن أعرف ياجدي فلا تزعل مني .
بنات هرون الرشيد، قال أي بنات .. قال .
وسكت قليلاً ريثما نفث دفعة من الدخان خرجت من أنفه وفمه ثم تابع
وكأنه يفشي سراً خطيراً أثقل صدره :
اسمعي يا بنتي، قبل أكثر من سبعين عاماً، كنت أرعى خرافي فوق هذا
التل حين مرّ شيخ مغربي عجوز، على حمار أبيض، وبعد أن استراح قليلاً، ناداني
وقال لي: اسمع يا هذا، تحت هذا التلّ كنز . ثم ارتحل مع حماره باتجاه الشرق .
ولمّ لم تخرج الكنز ؟
ومن يقدر على ذلك ؟ فكّل الكنوز مرصودة، ولابّد من إبطال الرصد
أولاً وإلا مات كل من يقترب منه .
وما الرصد ياجدي ؟
العادة أن يكون حيّتين، حيّة على جهة اليمين، وحية على اليسار،
تحرسان المدخل .
وكيف يبطل الرصد ؟!
على يد إنسان، قد يكون شاباً شجاعاً، وقد يكون فتاة عذراء فيها
إشارة أو علامة خاصة .
قال ذلك ثم انخرط في سعال عميق وأجش ... وتابع:
كان رجلاً طويلاً، بلحية بيضاء ووجه أسمر .. أمّا صوته فكان يأتي
عميقاً وكأنه خارج من بئر .
من هذا يا جدي ؟
الشيخ المغربي .
وتسللت إلى الطرف الآخر من التل، وأنا أحس أن هذا القصر هو قصري
وأنني الفتاة الموعودة التي يبطل على يدها الرصد، ويفك الطلسم، وقد التهب
خيالي، بأطياف وخيالات معظمها قرأته في “ ألف ليلة وليلة “ حيث لاحت بنات
الرشيد وسط الوصيفات والجواري وكأنهن الأقمار الزهر، ينتقلن من غرفة إلى غرفة
عبر الممرات والردهات المموهة بالزينة، ورائحة العطر تعبق من أردانهن، بينما
يقف حارس طويل وأسود أمام الباب، يحمل سيفاً مرصعاً بالذهب والجواهر، وعيناه
قطعتان من الجمر وعند حافة البركة المثمّنة تقف جارية .... يا إلهي كم تشبهني
!! وإلى جانبها نرجيلة تفوح منها رائحة الدخان المعطر، تلهو بالماء وصوت
خلاجلها يرن في المكان، وباليد الأخرى تتلمس سلسلة في أسفلها قلب فارغ ينتظر
صورة الحبيب لتزينه وكل ما حولها أخضر بلون الزمرّد .
ومرّت الأيام .. وتوثقت العلاقة بين حلمي - التل .
فأنا أجلس هناك كالنواطير، أتلمس الحجارة بشغف، وأراقب الأقواس
الرشيقة والنوافذ التي لم تصلها يد الخراب، وأكاد أسمع أحياناً همس الجواري
ووشوشاتهن، بل أوشك أشمّ عطر الغالية يهب من قلب التلّ، محمّلاً بتنهدات حارّة،
فأصغي إليه، بينما تأتيني حشرجات جارنا العجوز وهو يدخن ويشرب الشاي الأسود و
يوصوص بعينين أو شك نورهما على الانطفاء، بانتظار من يبطل الرصد، وهو يؤكد علي
دائماً :
لاتخبري أحداً عن الكنز .
سرّك في بئر ياجدي .
فيضحك بصوته المخنوق وكأنه يحشرج، ويتابع الكلام بيديه ورأسه
والرذاذ يتطاير من فمه .
والآن يابنتي ... الجمرة توشك أن تنطفيء، والنَفَس لا يطلع من
النرجيلة إلا بطلوع الروح، فتصرفي .
تكرم ياجدي .
وأقوم لأتناول بالملقط الحديدي جمرة جديدة من الوعاء ثم أرصّها على
تاج النرجيلة الخشبي المملوء بالتبغ العجمي الأصفر المغسول، وأنا أطلب أجري
المعتاد فيناولني مبسم النرجيلة لتجربة قوة النار، وحين يداهمني السعال يضحك
متشفياً ويصيح :
- ستكوني حشّاشة في المستقبل .
- البركة برعايتك ياجدّي.
- دخنّي عليها تنجلي، فالدنيا بلا دخان وشاي لا تساوي شيئاً، مجرّد
كومة من التبن .
- كلامك كله حكم ياجدّي فمن أين جئت بكل ذلك ؟!
- الأيام خير معلم، ثم النسوان .
- النسوان ؟!
- إي النسوان .
ولم يكمل، فقد داهمه السعال، وكانت أصابعه ترفع “ استكان “ الشاي
كالعادة بينما لاح سرب من الإوزّ البري يتجه إلى الماء في تشكيل رائع، وصوته
يملأ الفضاء .
- جدّي . كم مرة تزوجت ؟
سألته من جديد، فعاد الرواء إلى ملامحه، فرقّت ولانت، واندفع إلى
القول :
- أربع مرات .
- يا إلهي .. أربع مرات ؟
- نعم .
- وهل أحببتهن كلهن ؟
- لا .
- أحببت أول واحدة .
- إذن ولماذا تزوجت عليها؟
- تزوجت بعد أن ماتت .
- والباقيات ؟ !
- متشابهات في الغيرة وسوء الأخلاق، فكنت أداوي الواحدة بالأخرى،
فالحجر لا يكسره إلا الحجر .
- واليوم ؟!
- بقي عندي واحدة . والباقيات في دار الحق، يرحمهن الله .
ويعاود من جديد غيبوبته المعتادة، وهو يحلم بالكنز، والشباب، وحواري
الجنة اللواتي ينتظرن المؤمنين .
....
وذات يوم، كانت الحارة هادئة .
الأزقة الضيقة، وبيوت الطين والفخار، والثرثرات المألوفة، وهبّات
العجاج المعتادة، والوجوه التي امتصها الحزن وسوء التغذية والخوف من الجاي حين
جاء رجال غامضون، يقودون سياراتهم الحديثة، وقفوا فوق التلّ يتلمسون حجارة
البناء ويستعرضون أقواسه ونوافذه، وهم ينحنون على أرضه يلتقطون كسر الفخار
والزجاج والخرز الأزرق، ويفحصون تربته، ثم يهزون رؤوسهم الشقراء ويفتحون عيونهم
على سعتها، رجال ونساء، وكهول وشباب، يرتدون الملابس الغريبة، ويرطنون بلغة
أجنبية وقد أصابت الدهشة، معظم الجوار، مثلما أصابتني أنا، أمّا الوحيد الذي
لم يعرهم اهتماماً فكان جارنا العجوز، فقد تابع التدخين والسعال وهو يقول :
إنهم سواح أجابت، ساعات ويرحلون، لقد رأيت الكثيرين بين الخرائب
والحفر يرسمون أو يصوّرون .
لكن الرجال الغرباء عادوا في اليوم التالي، بنوا خيامهم حول التلّ،
وبدؤوا يفردون أوراقهم وخرائطهم على الطاولات، وهم يدققون الخطوط والمسافات
ويطابقون، فيضحكون تارة، ويعبسون طوراً، وبعد يومين من العمل الجاد، استأجروا
عمالاً محليين للحفر وترحيل الأتربة، وبدأ التلّ يكشف عن خباياه، من غرف وممرات
ودهاليز وآبار والرجال يتابعون عملهم بدأب وإصرار، تساعدهم في ذلك النسوة وهن
يرقبن كل ضربة فأس أو معول بيد العامل حتى لا تطيش فتكسر لقيه فخارية، أو
مصباحاً خزفياً، وإذا ما وجدوا حطام جرّة أو كسر زجاج انحنوا عليها بخشوع وفرح
وقد تهللت وجوههم، وحملوها إلى الطاولات بحرص وأناة .
ويوماً بعد يوم ألف الأهالي وجود أفراد البعثة بل وتناسوه، وكنت
أرقب العمل باهتمام، يشاركني في ذلك جاري العجوز، الذي ينتظر خروج الرصد على
العاملين . وأنا أدور حول كرسيه، أنفخ في جمر النرجيلة، وأتابع أفراد البعثة
وهم يقومون بمهامهم، وقد لفت انتباهي أحدهم، كان عملاقاً أشقر في مقتبل العمر
يلبس بنطالاً من الجينز الأزرق، ويشدّ رأسه بعصابة سوداء على طريقة قراصنة
السينما، فإذا ابتسم انفرجت شفتاه عن أسنان أماميه تشبه أسنان الأرنب تزيده
جاذبية وطفولة، وكان طوال اليوم على اللقى الأثريه يعيد ترميمها أو رسم أشكالها
على أوراق خاصة، وهو لايكاد يكلم أحداً، وإنما يتابع كل شيء بعيونه الواسعة
وكأنه يلتقطه بكاميرا خفيّة
- تراهم سيجدونه ياجدي ؟
- ما الذي يجدونه ؟
- الكنز .
- لا أظن فهو مرصود .
- ولكن هل يؤثر الرصد في الأجانب ؟
- والله يابنتي لم أسأل الشيخ المغربي عن هذا الأمر، على كل حال
الله يستر، والله هو الحارس . هاتي الشاي.
وعاود إلى شؤونه اليوميه .
....
ويوماً رأيت الشاب الأشقر .
كان يجلس أمام الطاولة وأمامه جرّة فخارية انتهى من عمله في
إصلاحها، وقد فرد أمامه ورقة بيضاء، كان ينحني على رسم شيء فيها، وبين فينة
وأخرى يسترق النظر باتجاهي، ثم يعود إلى الانحناء على الورقة ويده تعمل، وعيونه
تعمل وكل مافيه قد استغرقه العمل الذي يقوم به .
كنت ساعتها ألتقط الجمرات وأرصها فوق التبغ الأصفر الذي يتربع على
تاج النرجيلة، ثم أتناول المبسم من جارنا العجوز، وأدخن وأنا ألطأ إلى جانبه
مثل قطة مدللة، ولم أهتم كثيراً بنظراته، بل تابعت التدخين والثرثرة مع جاري
العجوز الذي كان يحدثني عن أولاده وأحفاده الذين تفرقوا بين المدن والبلاد فما
عاد يعرف أخبارهم أو عددهم .
وقبل غروب الشمس حين فرغ العمال المحليون من عملهم، وساد هدوء مؤقت
وانتظار مخيم البعثة، رأيت الشاب يقترب من مكاننا أنا وجاري العجوز باسماً عن
أسنانه الفرق، فداهمني شعور غامض بالحذر، وعندما أصبح في مواجهتنا توقف. وجاءنا
صوته العميق الأجش :
- السلام عليكم .
وفاجأتني لغته العربية المكسّرة، فابتسمت .
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . تفضل اجلس يا ابني .
قال جاري العجوز وهو يرفع عينيه الماكرتين، وجلس الشاب على صخرة
قريبة منا، فناوله جاري “ استكان “ الشاي الأسود الحلو، وخرطوم النرجيلة فضحك
وهو يردد بابتهاج :
- شكراً .... شكراً لكم .
وبدأ يدخن بخبره أدهشتني . ثم تطلع إلي وقال :
- أنا .. جون .
فقلت أعرفه بنا :
- وأنا جلّنار ... وهذا جاسم، جاري وجدّي .
- أوووه .. جلّنار
- اسم فارسي .
- هكذا يقولون
- ومعناه ؟!
- لا أدري .
- معناه " زهر الرمان " .
- بربك ....
صحت بفرح ... ثم تراجعت عن بهجتي باكتشافي الجديد . فعاد إلى الحديث
من جديد ولكن ليس عنا :
- بلادكم رائعة، تحت كل تلّ مملكه، وتحت كل حجر أسطورة أو حكاية
خرافيه ترويها المدونات الطينية .
- شكراً على هذا الكلام .
- هذه حقيقة وليست مجاملة .
قال ذلك وهو يهزّ رأسه ثم تابع وكأنه فطن لما جاء لأجله فناولني
ورقة كانت بيده :
- هذه لك .
ولما طالعتها واجهني رسم لي وأنا أدخن النرجيلة وعلى رأسي طربوش
تركي بشراشيب حمراء فصرخت :
- هذه أنا .
- نعم .. هذه أنت
- ولكن من أين جاء هذا الطربوش ؟
- إنه إضافة مني .
- ولِمَ ؟
- هكذا أحببت .
ثم حدثني أنه عمل في مصر والعراق وإيران، وبأنه يقوم بإعداد أطروحة
عن الفن الإسلامي، وهو معجب بتراثنا فله مذاقه الخاص الذي لا يمكن أن تجده في
غيره. وفي اليوم التالي اقتربت من التلّ دون أن أخشى مندوب مديرية الآثار
الدمشقي الذي يرفض أن يقترب أحد من الأهالي من مكان العمل خوفاً عليهم من
السقوط في الحفر العميقة أو الآبار التي تملأ المكان، ولم يرفع رأسه حين رآني،
بل تابع عمله في ترميم الجرّة الفخارية ولصق قطعها المتناثرة أمامه . وبعد أن
انتهى رفع رأسه وابتسم.
- أهلاً جلّنار .
قال بحفاوة :
- أهلاً جون .
قلت بصوت خافت ... ثم سألت :
- هل وجدتم شيئاً مهماً ؟ ضحك بمرح وقال :
- وجدنا أشياء كثيرة ومهمة .
- أين هذه الأشياء ؟
- ألا ترى كل هذه الأبنية واللقى الفخارية والزجاجية؟ ! إنها ثروة
لا تقدّر بثمن .
- الذهب ؟!
- أيّ ذهب ؟!
- يقولون كنوز الرشيد مدفونة في هذا التلّ، ولكنها مرصودة .
- ضحك بصخب ثم صفق وهو يقول:
- والرصد يحتاج إلى عذراء لتبطله .
- وكيف عرفت ؟
- سمعت كثيراً من هذه القصص في المغرب والعراق وإيران ومصر .
- وهذا البناء ؟!
- أثر من الآثار الإسلامية لاشك في ذلك، الطراز والرسوم والكتابات
لاتترك مجالاً للشك أو الاحتمال .
- أقصد هل عرفتم اسمه ؟
- لا . ليس بعد - فماذا يسميه هنا الناس ؟
- قصر البنات .
- اسم رومانسي جداً، ولكن أيّ بنات ؟
- بنات الرشيد .
وضحك مرّة أخرى ... ثم قال :
- كل مالدينا من تصورات - وهي أكيدة ونهائية - تقول بأن هذا البناء
قد يكون قصراً من قصور أحد أثرياء تجار الرقيق، أقامه كدار للهو والمتعة
لطالبيها من العابثين والأمراء وأبناء التجار، وكمركز لتصدير الجواري بعد
إعدادهن وتثقيفهن وتعليمهن أصول الغناء والتعامل ليصبحن لائقات بقصور الخلفاء
والقواد الكبار والوزراء، وأمثال هذا التاجر كثيرون وأخبارهم ترويها كتب الأدب
والتراث .
- مستحيل.
- قلت لك كل هذا " تصوّرات " وليست ثوابت نهائية . وقد نكتشف غداً
ماينسف كل تصوراتنا هذه ويقلبها رأساً على عقب .
- أرجو ذلك .
- ولمَ كل هذا الإصرار ؟ !
- من أجله .
- من أجله من ؟ !
- هرون الرشيد، أكره أن يكون مكان قصره داراً للمتعة .
- هرون الرشيد ؟! أوووه .. يا للروعة .
قال ثم هزّ رأسه الأشقر المعصوب على طريقة القراصنة، ثم أخرج من أحد
أدراج الطاولة طربوشاً أحمر بشراشب، وضعه على رأسي ووقف، يتأملني، وهو يبتسم
ويردّد بإعجاب :
- تمام ... إنك صورة طبق الأصل عنها .
- من هي ؟!
- زبيدة زوجة الرشيد.
- وكيف عرفت ؟
- للفنان عين ثالثة .
- شكراً .
وشعرت بالغرور، فوقفت متصلبة وكأنني موديل يرسمه فنان في الهواء
الطلق .
- أنت ساحرة .
- أشكرك .
وانطلقت إلى جدّي جاسم ألوذ به، لأخفف من وقع الانفعالات في صدري
الذي ضاق بها .
....
ليلاً رأيت نفسي أصعد التلّ .
وحيدة تحت ضوء قمر منير، يحفّ بي روح من البهاء والأبهة، والسور
يمتد جسداً عملاقاً لكائن خرافي من الطين والحجارة والضوء الذي يغسل ظهره
وينسفح على ما حوله، ليزيد من روعة اللحظة وأهميتها في نفسي.
كنت أصعد ونسمة هواء تعبث بشعري فيتناثر على وجهي، فألتذُّ لعبثه
هذا وأتابع طريقي إلى القمة متعثرة بالحصى والتراب، وحين أبلغ القمة أرفع رأسي
إلى السماء، فأرى النجوم والقمر في سطوعهما، فأود لو أصهل كمهرة فتيّة لكن
صوتي ينحبس فأحني رأسي خوفاً من شيء غامض قد يفاجئني على حين غرّة فيفسد عليّ
ما أحس به، فأرى درجاً يقود إلى بطن التلّ فأنزل كالمسحورة، وحين أصل إلى
الأسفل أرى ساحة واسعة في وسطها بركة مثمنة الأضلاع، تحفّ بها المقاصير وقد
أسدل على مداخلها سجف من الحرير المطرزّ بعروق الذهب.
كل شيء كان هادئاً وصافياً، الليل ووجه البركة والقمر الساجي، وأنا
في مكاني واقفة، ولا صوت أو حركة، تقدمت بضع خطوات قبل أن أرى شبحه يتقدم
خفيفاً وكأنه يريد أن يطير، وحين أصبح قريباً رأيته، كان يضع قناعاً من الذهب
على وجهه تطلّ منه عينان بلون الفيروز، ويلفّ جسده الرشيق بعباءة من وبر الإبل،
وقد ملأ عبق الغالية أنفي .
- أخيراً . جئت؟!
قال بصوته العميق الأجش وفي عينيه ترقص نهارات من الفرح ... ثم تابع
:
- انتظرتك طويلاً .
ثم قادني من يدي، وعند باب خشبي مطعم بالفضة والنحاس وقفنا، كانت
هناك حيّتان ضخمتان، يتدلى من فم كل منهما لسان طويل، وعيناهما تبرقان كجوهرتين
.
- تقدّمي .
- الحيّات .
- لا تخافي . فلن تصابي بأذى، فأنت الفتاة الموعودة لإبطال الرصد .
وتقدّمت ولم تتحرك أيّ من الحيّتين، مددت يدي فانفتح الباب أمامي عن
دهليز طويل مضاء بمشاعل، فتابعت طريقي، وحين واجهني باب جديد مددت يدي فانفتح
عن قاعة واسعة . وقد امتلأت بالجواهر والذهب، إنه الكنز، ولمّا التفت لم أجد
ورائي سوى الفراغ والظلام، وقد هبّت الريح فأطفأت كل شيء، فصحوت .
...
قبل أيام من رحيل البعثة الأثرية
وقد أوشك موسمها الصيفي أن ينتهي، كنت أجلس إلى جانب جارنا العجوز
جاسم، أرقب العمل في التلّ دون حماس، وأنا أحس بغضب مكتوم، وخيبة مريرة فكيف
يتحول قصر أحلامي إلى دار للمتعة، وخليفتي الفاتن إلى تاجر للرقيق والجواري
والمحظيات .
وفجأة ناداني صديقي الطيّب جون :
- جلّنار ...تعالي بسرعة .
وتحركت نحوه، وأنا خائفة من خيبة جديدة، أو من خبر أكثر سوءاً، وحين
وصلت سار أمامي في الردهات والممرات إلى أن وصلنا إلى فناء في وسطه بركة مثمنة
ويمتد صف من الأعمدة أو ما بقي منها، وأمام أحدها وقف وهو يشير لي قائلاً :
- انظري . ماذا ترين ؟
- عموداً من الرخام الأبيض .
- أقصد انظري أسفل التاج العلوي .
- ماهذا ؟
- هذا رسم يمثّل حيّتين متقابلتين وفي الوسط .
ولم أتركه يتمّ كلامه فأسرعت أقول:
إنه الرصد الذي حدثني عنه عمي جاسم .
- لا تكوني خيالية إلى هذه الدرجة .
- أنت متأكد من كلامك ؟
- رأيت مثله الكثير، في دمشق وبغداد والقاهرة واستانبول .
- وماذا يعني ذلك ؟
- يعني بأن البناء كان مشفى، وهذا الرسم شعاره .
- هذا البناء مشفى ؟
صحت بفرح وكأنني أتخلص من هم أثقل صدري فترة طويلة، فتابع وهو يبتسم
بمكر :
- مشفى ولكن ..
وتوقف عن الكلام، فأسرعت أسأل:
- ولكن ماذا ؟
- ولكن للمجانين، بمعنى آخر بيمارستان
وشعرت بقلبي يسقط بين قدمي، فأطلقت ضحكة صاخبة، وقد طفرت الدموع من
عيني، والشاب ينظر إلي باستغراب، ألم أقل لكم أنا أنثى مجنونة، أحلم برجل غامض
وقصر قد يكون داراً للمتعة، أو الخلافة، وقد يكون مشفى للمجانين .
حين توجهت إلى داخل البيت، كان أبي يحمل الخبز بيده اليمنى وكتابه "
قبّة دانيال " بيده اليسرى وهو ينزل درجات القبو القليلة، ليقابل أصدقاءه
السّريين .
قبّة دانيال ...
همست بصوت خافت، فأحسست بطعم البلح الذي لم تنضج الشمس عذوقه بعد،
يتفجر تحت لساني، وبعد لحظات جاءني صوت أبي في صلواته الغامضة فهدأت روحي.
الرقة -10/1/1967
|