خواطر مَشّاء
وَمُشاهَداته
كل يوم لي مشواران على القدمين. مشوار قبيل الشروق، من بيتنا قرب مستشفى
راث إلى جسر الفوهرر شرقاً، فيتاح له تأمل كل ثانية من ثواني عملية ولادة
الشمس مذ هي خاطر من الزعفران في ضمائر الغمامات المتناثرة في الأفق، إلى
أن تفقع الزعفرة عن مروحة أرجوان لا تلبث حتى يمتشق من مركزها خنجر أعقف من
نار، ينفرش رويداً رويداً حتى يغدو منسفاً من المناسف البدوية عليه غلالة
متحركة تجعله حيناً من نحاس وحيناً من لهيب.
حينئذ أكون قد وصلت عند قدمي الجسر فتكف الشمس عن إثارة اهتمامي فأنزل إلى
شط الماء وأقتعد الرمل لأتأمل آلاءها فيما حولي، في السماء، آلافاً من
الألوان، وعلى الماء دروباً يخطف البصر لألاؤها من الذهب الخالص.
في هذا المشوار أترشف هناءة التوحد مع الرمل والضوء واللون والنسائم البرية
في بعض الإصباحات، أول أمس مثلاً، لفت نظري كلب شارد وسيم، رشيق النحافة،
أبيض بمساحات لونية (كما يقول نقدة الفنون التشكيلية) سوداء، وبوز سبحان من
صوَّر لطافة وجمال ونسب حتى لتخاله كلب أكابر أصيلاً أباً عن جد. هذا
المخلوق كان يتسكع في أقنية عنابر إحدى شركات الملاحة ذلك الصباح. لمحني من
بعيد، فراح يبصبص بذنبه مودة، وبدرت عنه حركة من يهم بالمجيء ووجهه كأنما
يقول: "وحدك؟ مثلي يا حرام! طيب، لا تزعل، أنا آت لمرافقتك!" وأنا أخاف من
الكلاب مذ كادت كلبة، قبل خمسين سنة، تعضني لأنها توهمت أني سرقت أحد
جرائها مع أني لم أفعل إلا أن داعبته. لذلك، لما رأيت بادرة الكلب، لوحت له
بعكازي ناهياً زاجراً. وأشفعت هذه الحركة البليغة بأخرى أبلغ إذ انحنيت على
الأرض متظاهراً بتناول حجر، فما كان منه إلا أن جمدته الدهشة، عقلت حركته
الفجاءة. ولكن ذلك لم يطل إذ بدأ، من غير أن يتقدم خطوة واحدة، يصرخ بي
معاتباً مؤنباً محنقاً: "أما قليل عقل. ولكن كل الحق عليّ أنا الذي أردت
رفقتك لما رأيتك وحيداً. سر، سر، تضرب في هذه الشيبة!"
المشوار الآخر، وموعده قبيل الغروب، من بيتنا إلى الخور (1) عند العبرة، أي
عند مرفأ القوارب البخارية الدرويشة التي تنقل الركاب بين بر دبي والديرة
والعكس. في هذا المشوار أسلك الطريق التي تساير الخور مارة بالتصوينة
الخارجية للقنصلية البريطانية –المعتمدية سابقاً –حيث تمتد سلسلة من
البنايات البراكات والأشجار توهمك بأنك تمر بقلعة. ههنا أيضاً قد يقع لي أن
أعمل محطة في كوخ صغير تناثرت أمامه الكراسي الصغيرة. هذا هو "مقهى
الجمارك". وهو ليس بمقهى لأنه لا يقدم قهوة بل شاي. مرة أخذت كرسيا وقعدت.
جاء الساقي، هندي، فتي، لونه زيتوني داكن حتى السواد. قلت له: "واحد
سليماني" وكلمة سليماني التي تعني عندنا "السمّ" تعني هنا شايا دونما حليب.
وأضفت بالإنكليزية: "ويذاوت شوكر" (دون سكر) فهز رأسه كما يفعل الحرذون،
وهي حركة هندية خالصة تعني التودد وتعني الموافقة وتعني الإذعان والامتثال
وغاب فلما عاد كان يحمل لي كأس شاي فيه حليب وسكر!.
أنا أسلك هذه الطريق لأنها تتيح لي حضور عملية الغياب الحزين، حين أتتبع كل
شعرة، كل شأن تأخذه الشمس في رواحها إلى مستقرها في البحر وما تخلفه من
ألوان تكاد تشبه ألوان الولادة وإن تكن تلك إنما تذوب أسى، تلونها اللوعة
والحنين والفراق على نحو يكاد يدفع بالدموع إلى المآقي مما لا تدري له
سبباً. في هذه الطريق تمر بصيادي السمك، الهواة، الصامتين الصابرين، من
الهنود والباكستانيين في الأغلب. هؤلاء قد يجيئون بنسائهم وأولادهم السمر
الحلوين كالحملان يلعبون على الرصيف الجديد بلاطه، في انتظار فراغ آبائهم
من لوثة تدلية الخيط وإخراج هذا السمك القميء، سمك الخور، الصغير الذي لا
يسمن من جوع لأن السمك الكبير لا يصاد إلا في البحر العريض.
في بعض الأمسيات، بينما أنا عائد، أتوقف في مقهى آخر، واقع في الساحة
المنبسطة أمام جامع دبي الكبير. هذا المقهى يقدم مع القهوة والشاي
–السليماني وغيره –بعض المعجنات الهندية. مرة شاركني الطاولة شاب هندي أميل
إلى السمن، في نحو الخامسة والعشرين من عمره، فلما طلبت الشاي السليماني من
الساقي صاحب المئزر، الذي كان أبيض، ولم يفهم عليّ كالعادة، تولى هذا الشاب
الترجمة. وابتعد الساقي فسألني جليسي: "أنت فيه هني كم وقت"" (أنت هنا منذ
متى؟) قلت: "تسعة أشهر" قال:
"أربي؟" (عربي) قلت: أي نعم، من الشام!" انبسط. قال: "أنا أرف أربي زين
وايد. أنا كان في بيروت اثنين سنة!" وفهمت منه بالجهد أنه عمل في لبنان
سائق سيارة أكثر من سنتين هما أساس "ثروته" اللغوية، هذه التي لا تتعدى، مع
كل النيات الطيبة في الدنيا، بضع عشرات مكسَّرة، مهندة... وأقل منها
رأسماله من الإنكليزية. على كل حال استطاع أن يفهمني أنه كريستيان (مسيحي)
وأن اسمه جوزيف، ويقبض ألفين وخمسمئة درهم في الشهر من الشركة التي يعمل
فيها، ويسكن مع سبعة أو ثمانية هنود في غرفة (ستوديو) أجرتها ثمانية آلاف
في السنة، غير متزوج مثل الغالبية العظمى من الشبان الآسيويين ولكن أقصى
أمانيه أن يتزوج وينجب... كان يبدو عليه، من جلسته المرتاحة، وبريق عينيه
الجذلان، وتلذذه بالتهام السمبوسك المجلل بمرق قان يشبه دبس الرمان العاقد،
وأسئلته التي تتصل بشؤوني الخاصة.. إنه مغتبط بصحبتي، لأنه لا يجد في
اللحظة الحاضرة خيراً منها، راغب في إطالة الجلسة إلى ما لا نهاية. وهذا
طبيعي، إنساني، ما دام إذا ارتحل من هنا لم يجد أمامه غير اللامكان. أين
عساه أن يذهب والليل من أوله! وأما أنا فأعلم دائماً أني أذهب، بيد أن
أمامي هنا كنزاً حقيقياً، باباً فُك رصده يفضي به إلى بعض جوانب الحياة
الحميمية لهذا العنصر الزيتوني –الطوفان الذي يغمر الخليج من مسقط إلى
الكويت مروراً بالإمارات والبحرين وقطر والسعودية.. لقد وضعت كلمة "بعض"
بين أربعة أهلة لما في الأرض المشتركة بين جوزيف وبيني –اللغة –من هزال:
الحد الأدنى لأجرة الهندي بين ثمانمئة وألف ومئتي درهم، قل أن وسطيه ألف.
هذا المبلغ إذا ترجم إلى الروبية الهندية كسَّر نحوا من ألفين وخمسمئة فإذا
عاش الهندي على ألف روبية (أربعمئة درهم) استطاع إرسال ألف وخمسمئة إلى
أهله. وهو يحرص على أن يلبس جيداً أو يتغذى جيداً مع مرعاة الاقتصاد طبعاً.
بكلمة، الهندي هنا في جنة عدن حقيقية، حياته هذا ربيعها وعصرها الذهبي:
مدارس هندية، كنيسة بروتستانتية وأخرى كاثوليكية، محرقة لموتاه إن كان
بوذياً حتى الهندية يتعلمها ثلاثة أرباع المواطنين الذي يتحدر كثير منهم من
أمهات هنديات أخذهن آباؤهم للغلاء الفاحش في مهور بنات البلد (أقل عرس يكلف
نصف مليون.) أي نعم، كل شيء تمام كما يقول العرب –الهنود إلا المشكلة
الجنسية. هذه هي الهاجس –الهوس والعصاب المستوطن المقيم في أرواح كل أحد
وأعصابه ومسامه: قلما تخلو صفحة "الحوادث المحلية" في أية جريدة من جرم
أخلاقي. محمد عبد العزيز باركر، هندي الجنسية، يعمل أجير خباز في أحد أفران
رأس الخيمة اغتصب ليلى، بنيَّة في السادسة من عمرها ذهبت تشتري قطعة حلوى
من الدكان القريبة. كان الوقت هاجرة الظهيرة والشوارع خاوية، فاستدرجها
–كما تقول الروايات –إلى المخبز حيث افترسها وخبأها في صندوق موز فارغ
وألقاها في القمامة اتهم سائق سيارة الأسرة الإيراني. عجزت أجهزة تحقيق
الإمارة. استنجدوا بالعاصمة فجأة ظهر اسم محمد عبد العزيز باركر بوصفه
الفاعل الحقيقي، لا في حادثة ليلى وحسب ولكن في حادثة شيخة، أربع سنوات،
التي اختفت العام الماضي في ظروف غامضة جلاها باركر واعترف أنه بعد أن قضى
منها وطراً وضعها في صندوق مثقل بالصوان ورماها في البحر... كان هذا في
الصيف الماضي. لم تبق صحيفة أو مجلة إلا خصصت صفحتها الرئيسية للحادث
الفاجع. بعض الصحافيين زلَّق أن نظرة عابرة إلى صورة محمد عبد العزيز كافية
لكي يلعب الفأر في عب المتأمل حقاً، كانت الصورة تنبئ عن فتى مسكين، طيب،
لا يطاوعه قلبه لقتل عصفور. وشرد لغط أن باركر راح ضحية تغرير من الفاعل
الحقيقي الذي أطعمه بقرشين وتسفير إلى بلده في أسوأ الأحوال. استشهد أصحاب
هذا الرأي بالوقائع:
عبد العزيز متزوج من امرأة صبية (نشرت صورتها) حسناء هي في الهند وطفلة
أحسن.
مهما تكن الحقيقة فقد أبدت القضية وجوها عدة بعضها طريف: بعد الكشف عن
الفاعل" كثر مدّعوه وعلى رأسهم شرطة رأس الخيمة ذاتها التي سبق أن استسلمت
أمام غموض القضية! جانب آخر من المشكلة شغلني أنا، ولعله أن يشغل عالم
النفس أكثر: إذا صح أن محمد عبد العزيز هو الفاعل فما معنى هذا الإذعان حتى
الانسحاق أمام الاتهام: كتب اعترافاته بالإنكليزية والأردية. في أثناء
المحاكمة أتيح له أن ينكل عن اعترافاته فأصر، في حال تشبه الوسيط المنوّم،
عليها، وظل كذلك حتى عمشت عيناه وأطلقت عليه نيران بارودة. أبو ليلى تبرع
بتربية ابنة المعدم في اندفاعة أريحية مذهلة. قل هذه مسألة أخرى، ولكن ما
خطر على بالي هو أن عبد العزيز –إذا صح أنه مرتكب جريمتي شيخة قبل عام
وليلى هذا العام –لما رأى أن جريمته في حق شيخة قد قيدت ضد مجهول أخذ
وجدانه يذيقه عذاب الجحيم. كان يرغب في الاعتراف حتى يتخفف من هذا الويل ثم
يجبن. فإذا كان سادياً ومصاباً بعصاب النفعية (محبة الصغيرات) فقد ارتكب
جريمته الثانية تحت تأثير العلة.
ولكن هذه العلة لا تنفي عذاب وجدان جديداً. من هنا ترك نفسه بعد فعلته
الثانية غير منيع فلم يجعل ليلى في صندوق مثقل بالأوزان ويقذف بها إلى بطن
البحر وإنما رماها غير بعيد من مخبزه.. هذه خواطر، ولكن المعضلة على الصعيد
الإداري مردها إلى أن الدولة تعمرها الأيدي العاملة الرخيصة المستوردة من
الأوقيانوس البشري في الهند أولاً ومن بعد الباكستان وإيران والفيلبين
وكوريا الجنوبية، هؤلاء المستوردون لا يسمح إلا لقلة مدعومة باستقدام
نسائهم. وبما أن أكثرية هؤلاء الغربان شبان فلك أن تطلق لخيالك الأعنة عما
يمكن أم تحتويه أجساد هؤلاء وأرواحهم من متفجرات جنسية أقوى من أية قنبلة
معروفة حتى الآن. وأي جوع لا يهدأ له عرام ولا سيما أن الشواطئ، الشوارع،
الفنادق، تغلي غلياناً بالأفخاذ العارية، البيضاء الخدلجة التي تكسر ظهر
أعظم ناسك في الدنيا! أكل مغذّ. طقس، طوال ستة أشهر، ألذ من بلودان في
الليالي القمراء الصائفة، هواء، طوال السنة، نقي، خلو من التلوث، حتى الهوس
الحكومات: حكومة دبي مثلاً نقلت شركة الكهرباء من البلدة إلى جبل علي على
بعد نحو من أربعين كيلو متراً. فلماذا لا يكون الناس، ولا سيما الشبان،
مسكونين بالجنس: الصحيفة التي تخلو صفحة "الحوادث المحلية" فيها من سائق
باكستاني أو هندي أو بلوشي أو ياباني أو إيراني.. اعتدى على راكبة إنكليزية
عجوز واغتصبها في طريق خلوية.. فهي لا تخلو من واحد من هؤلاء ضبط في زريبة
ماعز يرتكب أفعالاً مخلة بالآداب مع عنزة أو آخر "بينما كان يسوق سيارته
البيكاب في الطريق بين الشارقة وحتى لمح غنمة ترعى وحيدة فأوقف سيارته و...
مخلة بالآداب العامة"... النوق لم تسلم. لا، بل ادعت السيدة... أن مجهولاً
اعتاد مواقعة كلبها... ولماذا نروح بعيداً؟ معي الآن في محفظتي هذه التي لا
تكاد تفارقني جريدتا الأمس (منتصف كانون الأول) واليوم. تلك أوردت الخبر
المحلي الآتي، أسوقه كما هو ضارباً عرض الورقة بأن يتقبل القارئ بقبول حسن
ما أسوقه أو أن يستثقل ظلي ويتهمني بالثرثرة الناقلة (منذ عهد بعيد وأنا
أتشهى أن أكتب ما يرضيني لا ما يرضي القارئ!) عنوان الخبر:
استغل "محمد" هندي الجنسية، الثقة التي منحه إياها المشتكي "درويش" فاعتدى
على ابنته التي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها".
وتفصيله أن المشتكي كان يتردد على محل للأدوات المنزلية (عصرونية) فتعرف
بالمتهم محمد وبعث معه بعض المشتروات وصادف أن أسرته كانت في حاجة إلى بعض
الأعمال المنزلية فكلف محمد إياها فقام بها خير قيام. ومنذ ذلك التاريخ أخذ
يتردد على البيت وتعرف في من تعرف بابنة المشتكي وبدأ يسمعها "عبارات الحب
والهيام" بالهندية التي تتقنها الفتاة جداً ويوهمها أنه يريد أن يتزوجها،
فكانت تسكت ولا تبدي ولا تعيد حتى كان قبل نحو شهرين أن قام المشتكي بتركيب
جهاز هاتف في المنزل. ومن يومها بدأت الاتصالات بين المتهم والفتاة التي
كانت تتصل به يومياً وفي فترات متقطعة. وكان الحديث يدور خلال المكالمة عن
العلاقة بينهما. وبعد فترة طلب المتهم من ابنة المشتكي أن تتصل به على هاتف
آخر لأن صاحب المحل الذي يعمل فيه قد يرفع السماعة ويكتشف الأمر ومن ثم
يمنعه من التحدث إليها فلم يكن أمامه إلا أن أعطاها رقم هاتف آخر في محل
قريب. وتطورت بينهما إلى أن أصبح المتهم يحضر إلى غرفة نوم الفتاة ويبقى
معها حتى الفجر إذ يخرج ويغدو إلى عمله. وخلال وجوده معها يرتكبان الفحشاء.
وكان المتهم محمد ينسل إلى غرفتها إما من الباب حيث يتصل بها هاتفياً قبل
أن يأتي (كذا) فتقوم بفتح الباب له وإما أن يتسلق الجدار ويتسلل إلى
غرفتها، وليلة 24 تشرين الثاني 1981 الماضي، حوالي الساعة التاسعة مساء،
اتصلت ابنة المشتكي بالمتهم وتبادلت معه الحديث ثم أغلقت الخط على أمل أن
تتصل به فيما بعد وهذا ما كان إذ اتصلت الساعة الحادية عشرة تقريباً وطلبت
منه أن يحضر إليها الساعة الثانية عشرة ليلاً فقام المتهم في ذلك الوقت
(كذا) وراح إليها بناء على طلبها حيث دخل عليها الغرفة بعد أن فتحت له
الباب قبل حضوره وبقي معها حتى الصباح يمارسان الأعمال المخلة بالآداب
العامة حين (هذه من عندي لأن محرر الخبر كتب "حيث") غادر إلى عمله اتصلت به
ابنة المشتكي بعد ذلك لتخبره بأنها لا تريد الإفطار حيث (!) كان يحضر لها
الإفطار... وفي ظهر اليوم نفسه ذهب المشتكي بنفسه إلى المحل الذي يعمل فيه
المتهم حيث (أيضاً!) رجعا معاً إلى المنزل..."
هنا يختلط الخبر ويعتريه غموض لم أتبين معه وجهاً إذ يقول: "وهناك اتصل
المشتكي بالشرطة التي حضرت وألقت القبض على المتهم!! وأمام النيابة العامة
اعترف المتهم بأنه كان يواقع ابنة المشتكي في غفلة من أهلها وأكثر من مرة
حيث (!!) كانت تفتح له الباب في منتصف الليل ودون أن يشعر أهلها بذلك وكان
يقضي معها الليل ويغادر عند الفجر. بناء على هذا الاعتراف تم تحويله إلى
المحكمة بتهمة مواقعة أنثى دون الثامنة عشرة من عمرها. وأمام هيئة محكمة
البلبيسي، اعترف المتهم بما أسند إليه فأصدر القاضي حكمه بحبسه ثمانية عشر
شهراً مع الإبعاد عن البلاد بعد نفاذ العقوبة." انتهى الخبر كما أوردته
الصحيفة تقريباً. وهو كما ترى يثير أكثر من سؤال ويستوجب أكثر من تعليق ليس
أقلها: وماذا كانت عقوبة الطرف الثاني في عملية "الأخلاق بالآداب العامة"
هذه؟
خبر الجريدة الثانية، جريدة اليوم أحسن ترتيباً. عنوانه "شرطي وسائق
يرتكبان جريمة بشعة. يقدمان حلوى مخدرة لأسرة في سيارة أجرة وفي مكان بعيد
يعتديان على زوجة الراكب" وتفصيله أن محكمة دبي المدينة برئاسة القاضي
إبراهيم القباني وعضوية القاضي محمد نذير وأمانة سر صلاح الحسيني، حكمت على
المتهمين (لاحظ مدلولات الأسماء) نور العالم محمد، 19 سنة سائق سيارة أجرة،
ودليل الرحمن محمد سليمان، 20 سنة، شرطي وهما من الجنسية الباكستانية، بحبس
كل منهما 7 سنوات وإبعادهما عن البلاد بعد انقضاء العقوبة على أن تحسب لهما
من مدة التوقيف. وتعود تفاصيل القضية إلى يوم 12 يناير (كانون الثاني) من
هذا العام حيث (!) كان المشتكي ع. أشرف، 20 سنة، وزوجته ل. جلال، 21 سنة،
وطلفتهما البالغة سنة، وهم من الجنسية البنغالية، بصحبة المتهمين بغرض
توصيلهما إلى مستشفى راشد للعلاج. وفي طريق العودة من المستشفى إلى بيت
المجني عليهم، قام المتهمان بدس حبوب مخدرة في حلوى قدماها للمشتكي وزوجته
وطفلتيهما مما جعلهما في غيبوبة كاملة. ثم أن المتهمين قاما بأخذهما إلى
منطقة رملية خارج منطقة القصيص. وانتهز المتهمان حالة الغيبوبة التي يغوص
فيها الزوجان وقاما بالاعتداء عليهما. وضبطتهما مصادفة إحدى دوريات الشرطة
في الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. وجاء قرار المحكمة أن النيابة قد
أثبتت دعواها ببينة مترابطة اقتنعت بها المحكمة. وقد جاءت مبررات النيابة
كافة لتؤكد أن المتهمين قد استغلا وضعهما بوصف الأول سائق سيارة أجرة،
والثاني شرطياً. وقاما بدس الحبوب المنومة للمشتكية (!) وزوجها. ونجحا بذلك
وتمكنا من تحقيق مأربهما المنافي للآداب العامة!
ولدى سؤال المتهم الأول أفاد بأن السيارة التي معه لم تكن له وكان فيها
حبوب منومة. وهذا القول يدل على علم المتهم الأول مسبقاً بوجود حبوب منومة
في السيارة. وأكد ذلك تقرير المختبر الجنائي بأن الحبوب التي ضبطت مع
المتهمين تؤثر في صحة الإنسان وينتج عن تعاطيها حالة تشبه تعاطي المواد
المخدرة، وأخذت المحكمة في الاعتبار كون المرأة المشتكية حاملاً وأي حبوب
تتعاطاها ينبغي أن تخضع لاستشارة الطبيب المشرف عليها للولادة. وقد أضافت
النيابة في بينتها التقرير الطبي عن حالة المشتكية (حد علمنا أن زوجها هو
المشتكي!) المجني عليها ويؤكد أنها كانت في حالة نصف غيبوبة حينما عرضت على
الطبيبة بعد الاعتداء عليها لتقرير حالتها.. ومن ناحية أخرى، فإن إفادة
المتهمين لدى النيابة والشرطة وأقوال المتهم الأول أمام المحكمة، جاءت كلها
لتضيف دليلاً وتدعم بينة النيابة عن أن كلاً من المتهمين قد حاول إلقاء
جريمة الفعلة الشنعاء، فعلة الإخلال بالآداب العامة مع المعتدى عليها، على
الآخر. وجاء في حيثيات الحكم اعتبار حالة المجني عليها طبقاً لما جاء في
التقرير الطبي في "حالة نصف غيبوبة" (من أين جاء هذا "النصف"؟) وملابسها
"غير مرتبة" (2) وشهادة المتهمين والمرشح محمد سيف ضاغن من شرطة دبي،
ومحاولة المتهمين الهروب بالسيارة لدى رؤية الشرطة متجهة نحوهما. وذلك يدل
على التواطؤ بين المتهمين لارتكاب فعلتهما الشنعاء بصورة جريمة (!) وبأسلوب
درامي وسينمائي (!) ينم عن تدهور أخلاقي تدنى إلى مرتبة انعدام الضمير
مستغلين ما أتيح لهما من ظروف كون المتهم الأول سائقاً يفترض حرصه على
أعراض الذين ينتقلون معه من مكان إلى آخر لقضاء أمورهم والمتهم الثاني كونه
شرطياً، أي من حماة الأمن في البلاد. ولم تأخذ المحكمة بشهادتي تقدير السن
المقدمتين من وكيل الدفاع للمتهمين حيث لا تتفقا (كذا) مع منطق ما أبرزته
النيابة من حصول المتهمين على رخصتي قيادة اللتين يشترط بلوغ السن
القانونية، 18 سنة، للحصول عليهما، إضافة إلى شهادة وكيل الشرطة سيف محمد
النعيمي التي تؤكد أن هوية المتهم الثاني تؤكد أنه تجاوز 18 سنة، وجاء في
الحيثيات أنه لذلك كله قررت المحكمة إدانة المتهمين بتهمة (!) الاغتصاب
المنصوص عنها بالمادة 170 من قانون العقوبات لعام 1970 وأصدرت حكمها
السابق."
أستطيع أن أستمر في إيراد الأمثلة طوال صفحات مديدة ولكني سأكتفي بعناوين
خبر يتعلق بالموضوع ذاته ولكنه ينحو نحواً آخر لعله أن يغنيه. ولا بأس في
نقل بضعة السطور الأولى:" منذ أكثر من ستة أشهر و"فاطمة" تدير الشقة التي
تسكنها في مدينة بدر للبغاء، حيث تردد عليها عدة نساء لهذا الغرض من بينهن
وفاء، متزوجة ويزاولن البغاء تحت إشرافها. وقبل نحو ثلاثة أشهر تقريباً قام
"علي" بمواقعة فاطمة مقابل مئتي درهم دفعها لها، وبتاريخ لاحق كرر علي
الزيارة للشقة نفسها وبعد اتفاقه مع فاطمة ووفاء لمواقعة الأخيرة مقابل
خمسمئة درهم انفرد بهذه الأخيرة في إحدى الغرف بعد أن دفع المبلغ المتفق
عليه لفاطمة في محاولة منه لمواقعتها برضاها. وما أن خلعت ملابسها بالكامل
لهذا الغرض المخل بالآداب حتى طرق سكان الشقق المجاورة الذين تأذوا من هذه
الأفعال باب الشقة ولما فتحت لهم فاطمة استمهلتهم حتى ترتدي ملابسها فلم
ينصاعوا لها واندفعوا إلى داخل الشقة ثم إلى إحدى الغرف وبفتح باب تلك
الغرفة وجدوا علي منفرداً بوفاء وهي عارية تماماً، وقبل أن تتم المواقعة
وأخرجاهما وهما على هذه الحال حتى حضرت الشرطة حيث (!) حولتهم إلى النيابة
العامة." وأما عنوان الخبر فهو: "لم ترضيا بحكم "الجزائية" المخفف لقاء
تعاطيهما البغاء وأمام الاستئناف أدينتا بالأشد وعوقبتا بالسجن والإبعاد."
ولكني لم أتوقف في أي مقهى هذا المساء. سحبة واحدة من البيت إلى مرفأ
العبرة على الخور في السوق. وصلت تعبا، ورأيت، على الدرج العريض الذي يفضي
إلى مخزنين أحدهما لبيع الأقمشة والثاني للأدوات الكهربائية، قطعاً عريضة
من الورق المقوى الذي كان صناديق للبضائع، فسحبت واحدة وجلست عليها مثلما
كان يفعل هذا الكهل الهندي الأعجف الفاحم، قربي، مع فارق أني دليت ساقي
وأما هو فقد كان يجلس جلسة فقراء الهنود أو الكاتب المصري، ويلبس قميصاً
خفيفاً كأنه من الشاش ومئزراً أبيض متسخاً حتى الغفرة.
مسَّيته بالخير فهز رأسه وابتسم لي. سألته، باللهجة المختلطة الدارجة هنا
حتى لتكاد تتخلق لغة مستقلة، بضعة أسئلة أجاب عنها مجتهداً ولكني لم أفهم
إلا القليل مع الأسف.
كانت الشمس في لحظاتها الأخيرة. عن يساري، على الجانب الآخر من الخور، أي
في ديرة دبي، مكتبة دبي العامة. هذه أنا كنت أرتادها سنة 1974، حين كانت
داراً دبوية درويشة فيها أحلاس كتب يفتحون كتبهم ومصاحفهم على مقران مما
نراه في المساجد، أو يفتحونها على حجورهم وهم جالسون جلسة هذا الجار الهندي
هنا على المصطبة على يميني، يعني مثلما كان طلبة العلم يفعلون في الأزهر أو
في الأموي أو جامع تنكز في دمشق أو في الخسروية في حلب أو القرويين في فاس...
وأما الآن فقد جدد بناؤها وإن كان مهندسوها (هي تابعة لبلدية دبي) أبقوا
على ساحة سماوية، فيها –ما تزال –شجرة لوز باسقة دائمة الخضرة. والبناء
الجديد فيه قاعة شاسعة للمحاضرات ونحو من خمسة عشر ألف كتاب، والاشتراك
فيها رمزي، ويمكن استعارة الكتب منها وأخذها إلى البيت. مع ذلك، فالمكتبة،
مثلها مثل أية مؤسسة لا علاقة لها بالتجارة أو الصناعة أو البورصة، كالمسرح
والنوادي الثقافية والسينما والمعارض التشكيلية وحفلات الموسيقا الكلاسيكية
تحييها فرق أوروبة... لا تعدو كونها ديكوراً، حتى أن القيم عليها، وهو
سوداني عذب، يزوج القط للفار فيما يتعلق باللغة العربية ولكن هذا لا يمنعه
من أن يكون عريف المحاضرات التي تلقى في قاعتها الفخمة.
عن يميني، في الضفة الأخرى دائماً، بنك دبي المحدود. هذا واجهته عجيبة، من
النحاس الأصفر أو شيء من هذا القبيل، فإذا مالت الشمس إلى المغيب بسطت كل
عضادة درباً راقصة من الذهب على صفحة مياه الخور.
عن يميني، غير بعيد، أي عند قدمي المصطبة التي اقتعدها مباشرة، هندي آخر
يبيع فستق العبيد المحمص. عن يساري بائع آخر، هندي أيضاً. الاثنان يوليان
ظهريهما لمصطبتي. عدة بائع اليمين علبة حليب فارغة اتخذ منها منقلاً فيه
بضعة أعواد وقشاقيش أضرمت النار فيها. فوق التنكة صاج اتخذ محمصة أو مقلى.
قدامه صناديق عتيقة صفَّت على شكل قطاع دائرة عليها الفستق غير المحمص وعلب
فيها أوراق درجت على شكل مخاريط لـ "تعليب" الفستق بعد التحميص. وأما بائع
اليسار فكان يحمص فستقه على موقد بريموس، ويبدو آنق من بائع اليمين ولكنه
كان جالساً على صندوق فارغ وأبطأ حركة من الآخر.
قوارب العبرة رائحة جائية بين البروديرة. كل قارب يلفظ أربعة وعشرين راكباً
آتياً، وسرعان ما يوسق بأربعة وعشرين رائحاً. القوارب التي تقف عن يميني
للمشاوير البعيدة، أي حتى دائرة البريد ومدخل سوق مرشد من جهة الشرق. هنا
الأجرة على الرأس خمسة وعشرون فلساً. وأما القوارب التي عن يساري فمشوارها
أقصر، يكاد يكون مستقيماً: تنزل ركابها عند المدخل الشرقي للسوق المسقوفة.
الأجرة في هذه خمسة عشر فلساً على الرأس. ولكن هناك عبرة ثالثة هي أعجب
الثلاثة وأكثرها جرحاً للقلب.
هذه تعمل المكوك بين البر عند محطة الديزل ومكتبة دبي. قواربها ليست بخارية
وإنما ذات مجاذيف. ملاحوها أناس كالهياكل العظمية المتفجحة. محاريك تنور
متقصفة.
وإذا كان مشوار القارب البخاري، حتى الطويل، يستغرق بضع دقائق قصار فمشوار
هذه –مع أنها الأقصر –يحتاج إلى أكثر من ربع ساعة مد يد من تجذيف مضن،
لأنها في العادة توسق خمسة ركاب على الراكب نصف درهم... والأنكى أن هؤلاء
الملاحين المساكين أكثرهم نباتيون يعيشون على الرز و"الصالولة" (مرق الخضار
الهندية الحارة) فما عسى أن ينفع هذا القوت الشحيح مع هذا الكدح الذي تتفصد
منه الجسوم، كما لو كانت تحجم، ولا سيما في أشهر الصيف، والبلد ما فيه غير
أشهر الصيف ورطوبتها القاصمة للظهور! أنا لم أتجاسر مرة واحدة على ركوب أحد
هذه الزوارق: قلبي يوجعني أن أراني أتمطرق مستمتعاً بالتأرجح اللذيذ في وسط
بحر من اللألأ يخطف الأبصار، ونسيج البحر يداعب وجهي ويدي وصدري كمحبة
مشغوفة، في حين تتكسر ظهور هذه العيدان من جلد وعظم في ضرب أكباد المياه من
أجل نصف الدرهم الذي ستجود به كفي. خطر لي أكثر من مرة أن أقف عند "مرفئهم"
وأوزع عليهم بعض الدراهم كما لو ركبت مع كل واحد منهم عشرة مشاوير. ولكني
تلقيت درساً عميق المغزى من "منظور إلهي"، العتال الصغير، ابن تسع السنوات،
في سوق سمك ديرة. والعتال هناك إما بعربة يد أو حامل صندوقاً من الورق
المقوى: منذ أن تدخل السوق يعرض عليك خدماته في تهذيب. يومئ لك إيماء فإذا
أجبته بإيماء موافق أن "تعال" لحق بك أينما تذهب، من سوق السمك حيث تصادفك
أعجب اللوحات التشكيلية في أسماك الخليج هذه التي لا تكاد تعد أو تحصى
(بعضها لا تقول إلا أكواريل دون إطار).. إلى سوق الخضرة حيث تجد، في كل
الفصول، خضار الهند ورأس الخيمة وإيران ولبنان.. إلى سوق الفواكه (كلها
متجاورة، في منطقة واحدة) حيث عنب الشيلي يتعايش مع تمور مسقط وتين الشام
مع جوز هند عمان ويوسفي أندونيسيا مع جوافة مصر ومنغة البريمي ولومي (ليمون
صغير يسمى في مصر منزهير وهي كلمة فرعونية ونقل الإنكليز اللومي إلى لغتهم
فصارت "لايم" الإسماعيلية وأنت تكدس في عربته (أو صندوقه) مونتك لأسبوع أو
اثنين. ويظل العتال ظلَّك حتى تفرغ من حاجاتك وتمضي بها وبه إلى سيارتك أو
إلى سيارة أجرة. كل هذا لقاء ما تجود به كفاك عليه كثيراً كان أو مقتراً
يأخذه في صمت وشكران من غير أن ينظر فيه وينصرف.
الجمعة الماضية، كنت عند نسيب عيسى صاحب الملحمة السورية العربية، ابن دير
عطية، في السوق. وهو سمين مثلي، استفتاني مرة في أنجع السبل لتخفيف وزنه
فنصحته بنظام غذائي لا يخيب وإن كانت إرادتي أضعف من أن أتبعه دائماً،
ويقوم على الامتناع عن أي طعام أو شراب إلا اللبن الرائب (المصريون يسمونه
الزبادي)...
بعد ثلاثة أيام من تقيد صارم بنظامي الغذائي هذا جاءه الدكتور نضال الصالح،
فلسطيني مولع بما أكتب، ومد يده ليصافحه وإذا يد نسيب تمتد بعيداً من يد
الدكتور. فلما استفهم منه هذا أخبره بأنه يدوخ، وراح يسبني، وأوصى صانعه،
لتوه، أن يهيئ له صحن حمص مضاعفاً، صميدعي الطحينة والمخلل مع كيلو لحم
مشوي وأربع مرقدات مرق بها كلها حتى إنه لحوس الصحون وأصابعه جميعاً... بلا
طول سيرة، كنت جالساً وراء مكتبه نتضاحك وإذا سيدة أجنبية ترطن ببضع كلمات
عربية هي بهن فخور، تدخل المحل ومعها الولد منظور الهي خان: حلو مثل
السكرة، أحور، أوطف، بفم مكلثم وأنف اسكندافي كأنه مرسوم بالقلم آمنت
بالله. كان يحمل صندوقاً مقوى فيه مشتروات السيدة، وضعه عند قدمي الحاجز
الرخامي ووقف ينتظر أن ينتهي حسين، الصانع الذي من درعا، من جرم نصف الخروف
الذي اشترته وتعريقه، ليضيفه إلى بقية أغراض الصندوق. لباسه باكستاني أي
سروال فضفاض وقميص سابغ رصاصي اللون، ولكنه نظيف. نظيف أيضاً وجهه وجميلتان
يداه. مددت يدي إلى جيبي فعثرت على أربعة دراهم معدنية. ندهته.
امتثل. سألته عن اسمه. قلت له: "خذ عمو، خذ" فحسر كلتا يديه كأنما لسعته
بصة نار وانسحب عائداً إلى موقفه المهذب الشامخ.
هذا واحد. الثاني اسمه سبيل الله خان محمد. عتال هو أيضاً، في مثل سن منظور
إلهي وحلاوته. هذا، رحنا وائل الخطيب وأنا لنتسوق فسايرنا عبر الأسواق إلى
أن انتهى بنا المطاف إلى حيث أوقف وائل سيارته غرب السوق، صوب فندق حياة
ريجنسي.
لما وضع لنا الأغراض في صندوق السيارة ومقعدها الخلفي أعطيناه عشرة دراهم.
لم يصدق عينيه في البداية. تلبَّك. هم بإرجاع خمسة أو سبعة. ولكننا أفهمناه
بالإشارة أن يحتفظ بالعشرة كلها. انصرف يكاد يرقص دافعاً عربته أمامه.
وبينا أنا أتخذ مجلسي قرب وائل، بدرت مني التفاتة نحو جدار السوق: كان سبيل
الله خان محمد قد أوقف عربته اليدوية في ظل الجدار وتمدد فيها وانطلق
يغني.
الثالث سعيد الله خان سعيد. وهو مثل هذين عمرا وإن كان أنحف وتلفت النظر
عيناه الخضراوان الصافيتان. عند مدخل سوق الخضار المواجهة لملحمة نسيب
عيسى، عند بسطة الخضري الثاني المعلقة كجنائن بابل، اقترح عليّ نفسه. اسمك؟
قال لي.
راغباً في شراء حزمة بقدونس (المصريون يسمونها ضمة) وكيلو باذنجان، فيظل
الخضري دابقاً عليّ هو ووزير ميمنته طويل الوجه ووزير ميسرته الملتحي حتى
يشرُّوني أكياساً لا تحصى من الكرفس والجرجير والباذنجان الأبيض الذي لا
أدري ما عساي أن أصنع به والملفوف الأزرق واليقطين والقرع الأكواز والرمان
اللفَّان والشمرة الخضراء... بكلمة كل ما لم توصني به ربة البيت. وهذا ما
كان يومئذ، بعد أن وافقت على عرض سعيد الله خان سعيد. فلما طفح صندوقه
الصغير، أشفقت عليه من ثقله فحاولت حمله أنا إلى الملحمة في انتظار جولة
أخرى في سوق الفاكهة، ولكن أقال عثرتي، أنا المفتوق سابقاً، أبو اللحية
معاون الخضري فحمل الصندوق تلك الخطوات العشرين، من بسطته إلى داخل الملحمة
فلحقته أنا وسعيد الله خان. عند الباب أعطيته خمسة دراهم وقلت له شيئاً
بالعربية المكسرة وشيئاً بالإشارة أن الحمل صار ثقيلاً ولو كان معه عربة
لاستمر مشوارنا معاً.
خفض بصره الأخضر شاكراً وانصرف وعلى وجهه الجميل إمارات التفكير. وعدنا،
نسيب وأنا، إلى ما كنا فيه من ضحك. خمس دقائق تقريباً وإذا نحن بالباب يفتح
وسعيد الله خان يدخل جاراً وراءه مراهقاً باكستانياً مثله، وجهه يشبه
الثعلب. أفهمني أنه اتفق مع هذا على أن يكملا المشوار معي لقاء درهمين
يعطيه إياها سعيد من الخمسة. حاولت أن أشرح له أني لا أريد فرفض. ذهبنا نحن
الثلاثة. لم نشتر أشياء كثيرة من سوق الفواكه (صفوف من الخيام المتجاورة
شمال سوقي السمك والخضار) فلما وصلنا إلى موقف سيارات الأجرة أخرج سعيد
الخمسة دراهم وقدمها إلى أبي الحصين وقال له شيئاً بالأوردية يمكن أن يكون:
"هاك هذه الخمسة وأعد لي ثلاثة" ولكن أبا الحصين زلَّق الخمسة كلها في عبه
ومضى قاسي الملامح. حاول سعيد أن يحتج. فات الأوان. أعطيته، وأنا أطيِّب
خاطره، خمسة أخرى. عاد الصفاء إلى خضرة عينيه وهم بالانصراف. استمهلته.
بحثت في جيبي فوجدت خمسة ريالات معدنية أخرى أعطيته إياها. رفع بصره إلي
على استحياء وقال بعربيته المكسرة ما معناه: "إذا جئت غدا فلا تنده غيري.
غدا لن آخذ منك فلساً!"
أي نعم، كانت قوارب العبرتين البعيدة والقريبة تبتلع وتلفظ أناساً من مختلف
أمم الأرض. لا يمكن أن يكون لبلد غير هذا البلد كل هذا التعدد. الهنود كلهم
ممثلون هنا:
سيخ بعمائم مهندزة فجَّتين متناظرتين تناظرا عجيباً يكاد يكون بالمسطرة
والبركار. مرة، على شط البحر، رأيت ابن خمس سنوات منهم قد عقص شعره إلى
الأعلى بمنديل. كان يتدرب، لا بد، على العمامة منذ الآن. ومن يدري ربما
كانت هذه واللحية طقسين دينيين.
أجل، كلهم ملتحون في عناية فائقة. لحاهم هي أيضاً، كعمائم، مضفورة ومعقوصة
إلى الخلف ومحسوبة خصلاتها على الميليمتر. الألوان في العمائم، وفي اللحى،
هي التي يختلف ألوانها: عمائم بيج، لحى بلون الفحم عمائم بيضاء ولحى ملح
وفلفل، عمائم صفراء بلحى بيضاء. وكلهم نحاف. قد تصادف هندياً، باكستانياً
سميناً. وأما بين السيخ فلا مطقومون على الأوروبي. أهم نباتيون (3)؟. سمعت
أنهم يطعمون العقبان موتاهم في حين أن الهندوس يحرقون والمسلمين يدفنون..
والسلالات لا تحصى واللغات لا حصر لها.
صرت بعد عشرة الأشهر التي أقمتها هنا قادراً على تمييز الهندي الهندي من
السيخ من الهندي المسلم أحياناً. وأما الباكستان والبلوش والباتان فمختلفون
ملامح وألواناً مع أنهم من قارة واحدة. لعله الطعام والتزاوج. في القصيص
رأيت مرة باكستانياً كستنائي الشعر على ذراعه طفل عار أبيض كأنه من السويد.
ومهما يكن من أمر فقد هب على هذه القارة، وما يزال، تمازج عاصف خضهم خضاً
كقربة الزبدة. إن فيهم الهندو –إنكليزي أي الخلاسي والهندي التتري من أيام
تيمورلنك. والهندي الفارسي والصيني والتيبتي.. هؤلاء بينهم ما يشبه أن يكون
أرضا مشتركة هي نفورهم من العروبة: تدخل محلاً هندياً –وما أكثر المحلات
الهندية –تطرح سؤالاً فتصفع، حتى قبل أن تتمه، بهذا البتر:
We don’t
speak Arabic here
(نحن لا نتكلم العربية هنا). قد تكون انما تريد أن تشتري بألف غير أنهم
زاهدون بألوفك، وهم في أرضك، إذا لم تكن تعرف لغتهم أو لغة أسيادهم
الإنكليز الذين خرجوا من الباب ليدخلوا من الطاقة! ويزيدهم بعداً منك
وتقوقعا على ذواتهم وانكليزهم أن الدولة تسمح لهم بفتح مدارس هندية لا
تعلمهم كلمة عربية واحدة.
إنهم يعايشون العرب معايشة تفصلهم عنهم بأسوار كتيمة. هذا ليس بتعايش ولكنه
تجاور متباعد بعداً فضائياً.. قد يكون الباكستانيون والقوميات الأخرى
المسلمة كالأفغان والبلوش والباتان، وحتى الهنود المسلمون أكثر قدرة،
ميلاً، استعداداً للاستعراب بتأثير القرآن والصلوات. ولكن هذه الشعوب –كما
لاحظ كاتب كويتي في افتتاحية إحدى صحف الكويت الذي يعاني، ككل الخليج، من
المشكلة الشعوبية ذاتها –هي التي قضت على الدولة الأموية وأوهنت من جلد
الدولة العباسية حتى صار الخلفاء "العرب" في قفص بين وصيف وبُغا يقولون ما
قالوا لهم كما تقول الببغاء!
نعود، بعد هذا الشرود، إلى القوارب: هذا الذي يرسو الآن يلفظ عمائم من طراز
آخر. إنها العمائم الأفغانية والبلوشية. بيضاء، ضخمة، مجدولة على نحو
تخالها معه ستسقط بين لحظة وأخرى وتفرط. ولكنها لا تسقط ولا تنحل حتى ولو
قفز صاحبها في الهواء ربما.
دفقة أخرى من السيخ. هذه المرة أطلعت إلى الرصيف جنوناً من الألوان
المتلاحقة القافزة:
الزهر، الألماسي، الأصفر، البرتقالي، الأعفر. هندي تعمم بمنديل عقده من
أربعة أطرافه. هنديات بساري. خلاسيات. مواطنات ببرقع من الجلد يستر أنفهن
وقسماً كبيراً من الوجه. جاري على المصطبة، المؤتزر بالإزار الأبيض المتسخ،
مستبشر الوجه دائماً.
ما أكثر معاني الوجوه والأعين. بعض العيون يشبه عيون الغمة (4) كما تقول
النساء في بلدنا عن عيني المرحوم فريد الأطرش. وجوه قاتمة ووجوه بشرها منها
وفيها فهي لا تحتاج إلى بذل جهد لتستبشر مثل جاري هذا عن يمين. وجوه كالحة
كجلد الواوي. وجوه تعيسة. وجوه زرية. وجوه سعدانية وأخرى نمورية (وجوه
السيخ خاصة) وجوه أرستقراطية تسح نبالة بأسمال بدلة سفاري كأنها كانت
بيجامة. هندي زنجي. زنجي هندي. مهراجا بوجه شحاذ هندية بلا ساري. أندونيسي،
ياباني بنظارتين. إيراني بشعر فاحم أجعد.
مسقطي بطاقية مطرزة اشتريت أختها بخمسة وعشرين ريالاً وهي من أرخص الأنواع
لأن من هذه الطاقيات ما ثمنه مئتان وخمسمئة، شغل يد سمعت أن الواحدة تأخذ
نحو شهر شغل. صبية تمر أمام مخزن "نجاش وشركاه"، أقصى اليسار فتبدو أن
استدارات ساقيها وفخذيها كأنها في غلالة نوم ليس تحتها شيء. امرأة سمينة
ببرقع جلدي غليظ ترى مثله على البائعات في سوق السمك.
لم يشتر أحد فستقاً حتى الآن من أي من بائعي الميمنة والميسرة. طفل من
السيخ، ست سنوات، عقص شعره وربطه بشبه عمامة. هاه، الآن فهمت، من هذا ومن
صبي الشط، أنهم منذ هذه السن يعلمون أطفالهم فتل العمامة وجدل الشعر. وإلا
كيف يمكن لهاتين أن تكونا على مثل هذا الإتقان الشديد!
دي! هاهو ذا بائع الميمنة يبيع أربعة مخاريط دفعة واحدة. يزداد نشاطاً في
موقفه، يقلِّب فستقه في الصاج الذي يعلو العلبة –المنقل. يصنع مخاريط ورقية
جديدة في فترات الركود. ينادي على بضاعته بالهندي ثم بلغة أخرى ثم بثالثة.
لا مناداة واحدة بالعربي.
لعله أن لا يعرف منها حرفاً يتيماً واحداً. صوته طريف يشبه ديكاً طفلاً
يتعلم الصياح.
وأما بائع الميسرة فحالم. جالس يركي رأسه على كوعه ويستغرق في هذا التأمل
الهندي الذي أدى إلى البقرة والقذارة وتقديس الأفاعي والقرود وكل شيء إلا
الإنسان كما قال مالك حداد إثر زيارة قام بها للهند. مع ذلك نشرت إحدى
الصحف المحلية، قبل أيام، صورة لسيارة باص مكتوب عليها بالإنكليزية –طبعاً
–والعربية "مدرسة الإمارات الهندية" وهذا التعليق: "هذا كان الناقص!" ولكن
هذا التعليق المتحسر القعيد لا يمنع أن الواقع يكاد يكون "هذا الناقص"
العرب انتشروا أيام قتيبة بن مسلم من أسوار الصين إلى تور وبواتييه فجعلوا
اللغة العربية هي سبيل التواصل بين الأمم، لغة قلبت التجاور الكتيم إلى
نماذج فكانت حضارة جديدة لغتها العربية. وأما هنا فلا شيء غير التجاور!
التفت إلى جاري المقرفص وقد زهقت من محاورة نفسي:
-رفيك
التفت نحوي الهيكل العظمي الموميائي. ازداد استبشاراً ولكن، يا له من
استبشار خلو من أي معنى.
أضفت ممفصلاً كل كلمة، رافعاً صوتي كأن رفعه يجعله أقدر على فهمي!
-رفيك، أنت فيه مألوم (معلوم) فلسطين.
طيف حيرة لبدت الجمجمة:
-مالونيهي!
هذه، حد فهمي، تعني النفي: لا أفهم.
وعادت الجمجمة لتوصد بالابتسامة الجوفاء الخاوية المنيعة.
----------------------
دبي –نهاية كانون الأول 1981.
1 -لسان من ماء البحر يمتد في البر طويلاً فيصنع ما يشبه
النهر عليه جسران. والكلمة من أصل عربي لا شية فيه من خار يخور خَور وخوار
إذا ضعف.. وماء البحر عندما يدخل الخور يضعف، ولذلك كان هذا مرفأ طبيعياً
للبواخر المتوسطة الحمولة
2 -ورد الخبر في صحف أخرى، في هذه النقطة بالذات، مفلفلاً
مبهراً بوصف الملابس "غير المرتبة".
3-بعد أن كتبت هذا السؤال سألت ساقياً هندياً يعرف
الإنكليزية فقال لي أن ديانتهم تحلل لهم الغنم والدجاج والسمك وتحرم البقر
والخيل وغيرها.
4 -ويسمونها في الشام "القشة" وفي مصر "الكرشة": رأس الخروف
مع معدته وكراعه.
الديك الصديق
مسرحية شعرية
"يرفع الستار عن ركن في سوق الطيور."
القروي يحتضن ديكاً جميل المنظر، ملون الذنب، أشم العرف، ويقف منتظراً.
يسمع في جوانب شتى من المسرح صياح ديكة، وقوقة، جلبة مساومات"
"المشتري يدنو من القروي"
المشتري: بكم تبيع الديك هذا يا أخا الخيرات؟
القروي: "ينته إلى وقع الكلمة" أبيعه؟... بعشر ليرات.. أجل، عشر من
الليرات.
المشتري: بأربع –القروي: لم أسمع
المشتري: ما شغلك، قد قلت لك بأربع
القروي: لم أسمع ديكي هذا رائع مدلل
مصفق مهللو
وإنه طروب انظر إليه:
منظر حبيب
وعالم عجيب
يوقظني مع الصباح الباكر يصيح بي...
الديك: "صائحاً" قم بادر يا صاحبي إلى العمل.. قم اغتسل واطبخ وكل واذهب
نشيطاً واشتغل "كوكو.. كوكو.. قم ليس خير في الكسل!"
المشتري: "مدهوشاً" –بأربع، بأربع يا صاحبي لا تطمع..
القروي: لو شفته في دارنا
على سطوح جارنا
في البيدر العامر
في مرجنا الناضر:
الزهو في الإطلاله
والمشية المختاله
ألوانه هي الفرح
كأنها قوس قزح
الأحمر الندي
والأزرق البهي
ورقة في العرف
وخفة في العطف
المشتري: بأربع ونصف
القروي: يكفيك، دعني، يكفي، ديكي، نبع ظرف ديكي هذا إلفي:
رأيته أزغب كأنه طفل مضى على رضى صبحاً إلى المكتب رأيته بعد وقد نما
منعماً رأيته يلحق في البيدر أماً له جليلة المنظر تذود عنه القط والكلب إذ
ينط إذا أتاها خطر قف الجناح الخطر وامتشق المنقار كالصارم البتار فيهرب
العدو وهو يصيح "نو" وهو يصيح "عو".
المشتري: قد أشتري بخمس.
القروي: هس
دعني لا تقاطع إن شئت أمراً نافع.
"ينظر إلى ديكه"
وشفته لما صعد، ذات صباح كالأسد علا خفيفاً مصطبه في ضجة ودردبه وصاح في
اصطخاب:
"وكوكو.... كوكو... صرت من الشباب".
المشتري: قد أشتري بست.
القروي: "مستمراً" اسكت إذا ما شئت!
المشتري: سأشتري بسبع.
القروي: أنا ضعيف السمع.
المشتري: أبعته بتسع.
القروي: أحس مثل الدمع في مقلتي الملتهبة ومهجتي المكتئبة.
"يعود إلى تأمل ديكه"
انظر إليه الآن شبابه ريان
وصوته رنان
يغمره الحنان
"يخاطب ديكه"
أأنت للبيع أيا صديقي؟
لا، أنت للغناء في الشروق
هيا بنا تعالا
هل تعرف المحالا
والله لن أبيعا
صاحبي البديعا
"ويتحرك للانصراف"
أنا أحب
الديك: "مبتهجاً" –أعلم يا حلو يا معلم "يصيح جذلان" كوكو.. كوكو..
استفيقوا هاهو الصبح الرشيق قد دعانا للعمل
كوكو.. كوكو.. والأمل.
القروي: "مستمراً" ما أنت بالمملوك
وقد ولدت حراً
وقد نظمت شعراً
يا أحسن الديوك يا خلي الشجاع
والخل لا يباع!
ستار(للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
شعر
الحمقى
( قصيدة كتبها الأستاذ حسيب كيالي تعقيباً على
كتاب أدب الحمقى للأديب التونسي الساخر عبد اللطيف الزبيدي، وقد كتبها وهو
في المشفى، قبيل رحيله بسنتين تقريباً- 1991 ):
ما ألطـفَ الشعـرَ الذي قَــوَّلَ الـ
قرأتُـهُ والسـاقُ مَـرفــوعةٌ
دمَّـلـةٌ فـي السـاق مشؤومةٌ
طُرِحْـتُ منهـا فـرشةً بعـد أنْ
هأنـذا فـي التخـتِ لا يُرتَـجى
كـأنني مـن شبــحٍ خَـطـرةٌ
أو أنني الحفـيـفُ فـي دوحـةٍ
لكننـي عُـصـافـةٌ حـيــةٌ
عُـصـافـةٌ لا مستقرَّ لهـــا
أوجاعُ سـوء لـم يَـذُقْ مثـلَها
ما أوهنــتْ من جسـدي وحده
عُدتُ كضرس العقــل لا نفع لي
|
|
الحمقى أخو الألطاف عبدُ اللطيفْ
لا دَلَــعاً، ولكـن لأمرٍ مخيفْ
كـأداءُ كادت أن تصيبَ الوظيـفْ
طُرِحْتُ في الشارع فوق الرصيفْ
مني، مع الأوجاع، رأيٌ حصيفْ
أو ريشـةٌ فـي هبة مـن شفيفْ
خلَّـصَـها مـن الثيـاب الخريفْ
تلهو بها أدراج ريح عَصــوفْ
ما زلتُ، والبرهــانُ أني نزيفْ
أيوبُ فـي محنـتهِ أو سِــزيفْ
فالعقل لاقى من أذاها الصــروفْ
أو " فشة " المعلاقِ عند الخروفْ
|
لا عمـل أسـطيـعُ إنجــازَهُ
فكرتُ في المغزى: إذن أعــذبُ
وأشعرُ الأنــــام مرضاهمو:
ما خَلْقُ الشـاعــــرُ إلا بما
ويبلغ الشعر الذرى حينمــــا
فإن تُطِلْ دمَّـلـتـي مكـــثَها
أشعارُ حمقــــاهُ على حُمقها
|
|
غير قريض مثل هذا السخيــفْ
المنظوم ما يوحى لعبــدٍ ضعيفْ
الشدوُ فخمٌ والمُغنـــي طفيفْ
صيره الإسفافُ مثل السفــوفْ
يصدر عن عقل شَرودٍ خفيــفْ
أبـزُّ فـي الأشعـار عبدَ اللطيفْ
طافحةٌ بكل معنــــىً طريفْ |
|