الرسائل الأدبية بين النشر والإتلاف
بقلم الكاتب:
سعد بن عايض العتيبي
الرسائل الأدبية فن من فنون الأدب ازدهر في أوائل القرن المنصرم،
وكانت الرسالة قطعة أدبية؛ لأن الأديب يكتبها وهو في حالة صفاء ذهني،
فتنثال عباراته الأنيقة وهو في غاية التجويد والإتقان.
وللأسف فإن هذا الفن الجميل فقد بريقه وأوشك على الاندثار بسبب
التقدم المذهل في وسائل الاتصال الحديثة من حاسوب وإنترنت وجوال وغيرها.
ولعل أبسط تعريف للرسالة الأدبية هي (نص نثري سهل ، يوجه إلى إنسان
مخصوص ويمكن أن يكون الخطاب فيها عاما ، فهي صياغة وجدانية حانية مؤنسة ،
وفي عتاب رقيق يظهر النجوى أو الشكوى ، ويبوح بما في الوجدان من أحاسيس
وأشجان ، وتتوارد الخواطر فيه بلا ترتيب ولا انتظام ، لتغدو الرسالة إن
قصرت أو طالت قطعة فنية مؤثرة دافعة إلى استجابة المشاعر لها ، وقبولها ما
باحت به). (1)
وأحسب أن من أشهر الرسائل الأدبية في العصر الحديث هي الرسائل
المتبادلة بين الأستاذ مصطفى صادق الرافعي وتلميذه محمود أبورية رحمهما
الله ، فقد امتدت المراسلة بينهما أكثر من عشرين عاما في الفترة (1912-
1934)، وقد عمد الأستاذ أبورية بعد رحيل أستاذه الرافعي إلى نشر تلك
الرسائل في كتاب بعنوان " من رسائل الرافعي " صدرت طبعته الأولى عام 1950م،
ثم أعاد طبعه عام 1969م بعد أن أعاد ما حذفه في الطبعة الأولى من عبارات
جارحة كان قد كتبها الأستاذ الرافعي في بعض حالات ضيقه وتبرمه من الناس
والحياة.
وقد أحسن أبو رية صنعا حينما طبع تلك الرسائل الثمينة في كتاب حفظها
من الضياع أو الاندثار ، فبقيت شاهدا على بلاغة وأسلوب الرافعي الذي أفاض
في الحديث عن أسرار حياته وأحوال معيشته ، ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة،
عدا حديثه عن خصوماته مع بعض أدباء عصره.
ومن أسف أن ما نشر من رسائل الأدباء يعد ضئيلا إذا ما قيس بما لم
يتم نشره ؛ لأن تلك الرسائل تنطوي على أسرار لا يجوز إفشاؤها لما يسببه
نشرها من حرج لمرسلها، علاوة على أن معظم الأدباء يرون أن نشر المؤلفات
وتدبيج المقالات أهم من نشر الرسائل التي قد تجلب لهم بعض المشكلات مع
أصدقائهم، ولا تعود بالفائدة على القارئ.
هناك من يرى أن تعدم الرسائل الأدبية باعتبارها " أوراقا خاصة " من
هذا الفريق الأستاذ وديع فلسطين ، يقول : (مذهبي الذي لا أتنكبه أن البريد
الأدبي حتى وإن تناول شؤونا و شجونا عامة ، هو في النهاية مكاشفة شخصية بين
صديقين لها خصوصيتها الحميمة ، التي لا يسعني تلقاء ها إلا الدعوة إلى طي
هذا البريد ودفنه بإكرام) . (2)
وهناك من يرى غير هذا الرأي وهو الأديب الأستاذ نقولا يوسف ( 1904-
1976 ) يقول : ( لا ، ولست من القائلين بإعدام هذه الرسائل باعتبار أنه لم
يقصد بها النشر ، فهي بعض من آثارهم لا يقل قيمة عن ملابسهم المحفوظة في
المتاحف مثلا ، ومازلت أرى في نشر ما لدي من رسائل الأدباء فوائد أدبية
للدارسين والنقاد والقراء جميعا ) . (3)
في الحقيقة لا يمكن استقصاء كل ما نشر من رسائل الأدباء على الصعيد
العربي في العصر الحديث ، لكن سأشير إلى أبرز الرسائل الأدبية التي جمعت في
كتب أو نشرت من خلال الصحف والمجلات:
"من رسائل الرافعي" نشرها تلميذه محمود أبو رية ، "رسائل أحمد تيمور
باشا إلى العلامة الكرملي" نشرها وحققها كوركيس عواد وميخائيل عواد"،
"رسائل جبران" نشرها جميل جبر, "رسائل أمين الريحاني" نشرها ألبرت الريحاني
، "الريحاني ومعاصروه" نشرها ألبرت الريحاني ، " رسائل مي زيادة وأعلام
عصرها" نشرتها سلمى الحفار الكزبري ، "رسائل جبران إلى مي زيادة (الشعلة
الزرقاء)" نشرتها سلمى الحفار الكزبري والدكتور سهيل بشروئي.
"رسائل محمد كرد علي إلى الأب أنستاس ماري الكرملي" حققها وعلق على
حواشيها الأستاذ حسين محمد العجيل، "رسائل بدوي الجبل" نشرها صديقه الأستاذ
أكرم زعيتر " ، " من رسائل العقاد " نشرها الأستاذ محمد محمود حمدان ،
"رسائل الخليل" وهي الرسائل التي تلقاها من بعض أدباء عصره ، نشرها نجله
الأستاذ عدنان مردم ، "رسائل بدر شاكر السياب" نشرها الأستاذ ماجد
السامرائي، "وثائق من كواليس الأدباء "نشرها الأستاذ توفيق الحكيم ، "رسائل
عبد الكريم جرمانوس إلى الناعوري" نشرها الدكتور عيسى الناعوري، وصدرت ضمن
مطبوعات المجمع العلمي الهندي.
"رسائل الأديب عمر فاخوري" صدرت عن دار الآفاق الجديدة، "رسائل أنور
المعداوي إلى فدوى طوقان" نشرها الأستاذ رجاء النقاش والدكتور علي شلش،
"رسائل غسان كنفاني" نشرتها غادة السمان، "رسائل نزار قباني "نشرتها سلمى
الكزبري ، "رسائل نازك الملائكة إلى عيسى الناعوري" نشرها وحققها
تيسيرالنجار ، "رسائل الشابي إلى صديقيه محمد الحليوي والبشروش" نشرها
الأستاذ أبو القاسم محمد كرو، "رسائل طه حسين ومعاصروه" نشرها نبيل فرج،
"الرسائل التي تلقاها إبراهيم العريض من بعض أدباء عصره" نشرها بنفسه قبيل
رحيله، "الرسائل المتبادلة بين إبراهيم اليازجي وقسطاكي الحمصي" نشرها
الدكتور كميل حميش، "الرسائل التي تلقاها الأستاذ محمد عمر توفيق من
أصدقائه الأدباء" نشرتها جامعة أم القرى ضمن أعماله الكاملة، "رسائل الشاعر
إبراهيم طوقان إلى شقيقته فدوى" نشرها المتوكل طه، "رسائل حمزة شحاته"
نشرتها كريمته شيرين شحاته، "رسائل جبرا إبراهيم جبرا" نشرها تلميذه
الدكتور عيسى بلاطة مع بعض الصور النادرة لجبرا تمثله في شبابه وكهولته،
"رسائل الدكتور أحمد زكي أبو شادي" نشرها العلامة روكس بن زائد العزيزي،
"رسائل أرملة الشاعر إلياس أبو شبكة" نشرها عبد الخالق فريد.
"رسائل نزار قباني" نشرها الأستاذ عبد الله الجفري ضمن كتابه "نزار
قباني .. أخر سيوف الأمويين الذهبية"، والصادر عن دار النور ببيروت.
رسائل جميل صدقي الزهاوي" نشرها في مجلة "الكاتب المصري" أحمد محمد
عيش، "رسائل عبد الرحمن شكري إلى نقولا يوسف" نشرها في مجلة "الأدب"
الأستاذ نقولا يوسف، "رسائل نظير زيتون" نشرها في مجلة "الأديب" الدكتور
فوزي عطوي، "رسائل نقولا يوسف" نشرها في مجلة "الأديب" الأساتذة: وحيد
الدين بهاء الدين، إيليا حليم حنا، رياض نصور، أحمد حسين الطماوي، "رسائل
الشاعر جورج صيدح" نشرها في مجلة "الأديب" عبد السلام العجيلي، فوزي عطوي،
عيسى فتوح، عبد الرزاق الهلالي، "رسائل نزار قباني" نشرها في مجلة "الآداب"
صديقه الدكتور سهيل إدريس"، "رسائل الزيات" نشرها في مجلة "مصر" الدكتور
محمد جاد البنا، "رسائل الأستاذ إبراهيم المصري" نشرها في مجلة "الأديب"
الدكتور حسين علي محمد، "رسائل الناعوري" نشرها في مجلة "الدوحة" الصحافي
أسامة فوزي، "رسائل سعيد كردي" نشرها في مجلة "الفيصل" صديقه الأستاذ يوسف
الشاروني، "الرسائل المتبادلة بين أحمد زكي باشا والكرملي" نشرها في مجلة
"المورد" حكمت رحماني، رسائل الشاعر محمد عبد الغني حسن" نشرها في صحيفة
"المسائية" الدكتور حسين علي محمد، "رسائل الدكتورة سهير القلماوي إلى
الدكتور طه حسين" نشرها في مجلة " المصور" إبراهيم عبد العزيز، "رسائل نزار
قباني إلى صافي ناز كاظم" نشرتها في مجلة "نصف الدنيا" سناء البيسي، "رسائل
شفيق معلوف" نشرها في مجلة "الأديب" وحيد الدين بهاء الدين "رسائل
الأستاذ سيد قطب إلى الأستاذ وديع فلسطين" نشرتها في مجلة "الهلال" صافي
ناز كاظم، "رسائل إلياس قنصل" نشرها في مجلة "الأديب" وحيد الدين بهاء
الدين، "الرسائل المتبادلة بين الشاعر معروف الرصا في وبعض أعلام عصره"
نشرها وحققها في مجلة "المورد" عبد الحميد الرشودي، "رسائل الدكتور علي
جواد الطاهر" نشرها في مجلة "عالم المخطوطات والنوادر" جليل إبراهيم
العطية، "رسائل الأستاذ ميخائيل نعيمه" نشرها في مجلة "المنتدى" الدكتور
عبد الكريم الأشتر، "رسائل البدوي الملثم" نشرها في مجلة "الأديب" الأستاذ
عيسى فتوح.
والواقع أنني بدوري كنت ومازلت من هواة المراسلة، وقد راسلت عشرات
الأدباء داخليا وخارجيا، بعضهم انتقل إلى رحمة الله، أذكر من تلك الأسماء
مع حفظ الألقاب: عبد السلام العجيلي، وديع فلسطين، محمد رجب البيومي، يوسف
عز الدين، خليل إبراهيم الفزيع، عبد الغني العطري، محمد عبد المنعم خفاجي،
عبد الله أحمد شباط، حلمي القاعود، زكي قنصل، عبده بدوي، أحمد الطماوي، عبد
اللطيف الأرناؤوط، نور الدين صمود، مدحت عكاش، عبد الكريم الأشتر، عبد
الرحمن شلش وغيرهم.
وقد تلقيت من الأستاذ وديع فلسطين وحده أكثر من مائتي رسالة أدبية
تقع في الفترة من (1995- 2006)، وهي تعد ثروة فكرية لا تقدر بثمن.
والحقيقة أن هذه الرسائل وهي بخطوط أصحابها أشبه بندوة أدبية ، فهي
زاخرة بأخبار الحركة الثقافية في الوطن العربي ، مثل : صدور الكتب الجديدة
، وافتتاح مهرجان الجنادرية ، أو معرض القاهرة الدولي للكتاب، أو انعقاد
دورة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أو افتتاح مهرجان قرطاج السينمائي، أو
انتقال أحد الأدباء أو الشعراء إلى الرفيق الأعلى، كما أنها لا تخلو من بعض
المعلومات عن أحوال الطقس، وارتفاع أجور البريد، أو فقدان الرسائل. عدا
الحديث عن الجوائز الأدبية التي تمنح لبعض الأدباء والشعراء، مثل: جائزة
الملك فيصل العالمية، وجائزة سلطان العويس، وجائزة الشاعر الأستاذ محمد حسن
فقي وغيرها.
ويجد القارئ مع هذه الأسطر بعض النماذج من الرسائل التي تلقيتها من
بعض الأدباء والشعراء ، وهي من أصل 1200 رسالة أحتفظ بها في أرشيفي الخاص.
وليت إحدى دور النشر الكبرى تعمد إلى تخصيص إحدى سلاسلها لنشر رسائل
الأدباء؛ لأن بعضهم بحوزتهم الكثير من الرسائل ولا يجدون ناشرا لها ، وقد
أخبرني الأستاذ عيسى فتوح أن لديه (326) رسالة تلقاها من الدكتور عيسى
الناعوري ، وهي مرتبة حسب تواريخها كما أن لدى الأستاذ فريد جحا نحو (170)
رسالة من الشاعر جورج صيدح، والأمثلة كثيرة.
هوامش:
(
1
) د . محمد العوين ، المقالة في الأدب السعودي الحديث ، ط1 ، الرياض :
مطابع الشرق الأوسط ، 1412هـ 1992م ، ص243
(
2
) مجلة الفيصل ، ع 197 ، ذو القعدة 1413هـ ، ص7
(
3
) مجلة الثقافة ، ع 95 ، أغسطس 1981م ، 87
أضيفت في
20/11/2007/ خاص القصة السورية (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة بأدب الرسائل)
قراءة في كتاب
"رسائل حب
بالأزرق الفاتح"
للناقد العراقي
أ. د.
محمد صابرعبيد
بقلم الكاتب: أديب حسن محمد
لم يكن كتاب د. محمد صابر عبيد "رسائل حب بالأزرق الفاتح" في حاجة
إلى تقديم الشاعر الراحل نزار قباني حتى يفصح عن تميز كلماته، وعلو قامة
رسائله...
ربما الشيء الجوهري... أو القاسم المشترك بين محتوى الكتاب وبين
تقديم الشاعر قباني هو ذلك العنوان العريض (رسائل حب بالأزرق الفاتح) هذا
العنوان الذي يشي بتقاطع روحي بين القاموس النزاري وبين محتوى رسائل د.
محمد صابر عبيد... لكن وبعد قراءة متأنية للكتاب نلمح وراء الكلمات شخصية
رهيفة تمزج بين الروائي والقاص والشاعر وصائد اللحظات والخواطر الجميلة..
فالرسائل بهذا المعنى فن من الصعوبة بمكان خلق نموذج متفرد منه يفترق عن
التقريرية والمباشرة اللتان لا تكاد تنجو منهما كتابة الرسائل.
استطاع المؤلف تقديم فن نبيل... زاخر باللحظات الموحية دون الوقوع
في فخاخ السردية والمباشرة، وما كان له أن يفعل ذلك لولا إخلاصه لموضوع
الرسالة التي هو في صددها، إضافة إلى تسلحه بموهبة أدبية لا غبار عليها
تمكّنه من العبور إلى موضوع الرسالة بشيء من سحر المفردات التي تتميز
بموسيقاها، وبفضائها الحساس الذي يتجاوز القاموس الأحادي إلى فضاءات أكثر
رحابة وسحراً...
نقرأ مثلاً في الرسالة السابعة المعنونة "بيان أبيض بقامة النهار".
"شكراً
لأصدقائي الأدباء الكرد الذين أتوهج بهم الآن، وآمل أن يتوهجوا بي... شكراً
لهم من أقصى نرجسة في كردستان إلى أقصى نرجسة في أقصاها...
شكراً لعروبة الكرد وكردية العروبة.." ... ص 60.
ويقول في الرسالة الثانية عشرة المعنونة "ثلج ناعم وأفكار لا تحسن
الرقص":
"لا
تنشغل بالتفكير حين تعمل الأحاسيس، واقطع أصابع المنطق حين يفور الحليب
وتمتلئ فقاعاته بالأنوثة والبياض... إنما خلقت الحياة للرقص وليس لأذرع
الكمبيوتر وسيقان الرياضيات الحديثة"... ص82.
إن لغة الرسائل التي نحن بصددها لغة متوثبة تستفز المعاني ولا تطمح
إلى مغامرات الإلغاز في الوقت نفسه لا تقع في الاستسهال والكلام المياوم،
إنها لغة قادرة على تقديم فضاء أو حقل دلالي تتنفس فيه المعاني بشيء من سحر
البيان الذي يضفي على الصور مسحة من روح الكاتب بحيث تدخل المشاهد والصور
في مزيج ساحر مع الوجدان وتمتزج بنفثات الروح الإنسانية التي تطلق الأمكنة
والمواقف من عقالها الرتيب الاعتيادي، وتخرجها في صور أكثر إشعاعاً، وأشد
تأثيراً وخلباً لذائقة القارئ، ومن الملاحظ أن كل مفردات اللغة وتراكيبها
يجندها الكاتب لخدمة الموضوع... موضع الرسالة ونادراً ما تخرج المفردات
ساهية عن خلق فضاء المعنى إلى شأن آخر، وهذا يعني أن الكاتب يمسك بخيوط
الموضوع من أول حرف في رسالته إلى نقطة النهاية، دون أن يخرج اللغة إلى
مهمات أخرى لا تزيد فنية النص شيئاً، ودون أن يستعرض مواهبه في الإطالة
السمجة، أو الاستعراض الكمي الفارغ لمفردات لغوية خارجة عن قياس الموضوع.
ولأن الأسلوب في رأيي لا ينفصل عن التكوين الشخصي الداخلي للكاتب
فإن رسائل الدكتور محمد صابر عبيد تعتبر انعكاساً صادقاً لشخصيته البسيطة
البعيدة عن التكلف والصنعة ومن هنا فإن الانعكاس الأهم يجيء على صعيدي
اللغة والمواضيع، فمواضيع الرسائل بعيدة عن التفلسف والتعقيد، وهي موضوعات
بسيطة يتناولها الكاتب بكاميرا داخلية تلتقط أدق التفاصيل، وتضعها في
سياقها المكمل للبناء الجمالي العام، واللغة من الجهة الثانية تساير
الموضوع فلا تسرف في التقوقع والمعجمية بل تنساب انسياباً كما لو أنها نفثة
أو تنهيدة عميقة صادقة لا تبتغي شيئاً سوى كينونتها العفوية، يقول في
الرسالة الثامنة المعنونة: ليس للحب طريق مختصر:
"الطريق
إلى بغداد قصيرٌ جداً لا يتسع حتى لهمسة، فسرعان ما قفلت راجعاً أمسح
الحروف وألغي النقاط وأمحو آثار الأقدام، وأطلق سراح جياد الوقت وأحرر
الأرصفة، وألون الأشجار الهاربة بالأخضر الغامق الضارب إلى السواد.. وأمشط
شعر جموحي وأربت على كتفه، وأعزي أشيائي التي أتنفسها وتتنفّسني.." ص67.
لكن الاقتراب من المواضيع الحياتية المياومة لا يعني إغفال الكاتب
لنقد الواقع العربي، لكنه يشخص هذا الواقع المريض بعدسته الخاصة التي لا
ترى الأشياء كما يراها الآخرون... فنقرأ في الرسالة عشرة "هواء مضبب لدم
الزرقة".
(لقطار
العرب الذي مازالت طفولتنا تغني له، وهو يطوف من الشام لبغدان، ومن نجد إلى
يمن، إلى مصر فتطوان... على الورق لا على الأرض...، لأن لعبته ليست سوى
لعبة حلم تنتظر ديكتاتورية النهار لكي تجهز عليها، وتعلِّقها إلى ليل
قادم... في حلم قادم..)... ص132.
في الرسائل الكثير من التأريخ لأشخاص تقاطعوا في حياتهم العجولة مع
وجدان الشاعر الذي حفظ الكثير من اللحظات الحميمة وسطرها بالأزرق الفاتح
بكلمات تفوح منها رائحة الوفاء، وفي الرسائل إخراج لبعض المناسبات الأدبية
من إطارها الشكلاني الرتيب، بحيث تتحول إلى إشراقات متاحة للذاكرة المتوثبة
للكاتب الذي يحوّل كل تلك الموجودات في مستودعات الذاكرة إلى كنوز تسبح على
بياض الورق، وبحيث تغدو مادة هذا الكتاب أرشيفاً أدبياً رفيع المستوى يستحق
القراءة لأكثر من مرة، ويستحق مبدعها أن ترفع له قبعات الحبر، وهو الذي
يقول عن نفسه في إحدى الرسائل:
(أعترف
أنني لست كائناً خارقاً أو أسطورياً، ولا أحمل في طيات قمصاني، ولا تحت
إبطي خرزاً أو زعفراناً أو مسكاً يجلب الحظ، صحيح أن أصابعي أرفع قليلاً
مما يجب، وقلبي أرهف، وجسدي أكثر اتقاداً وحزناً، وحبي بالدرجة الأولى
مسألة عطش، إلا أنني خلاف ذلك لا أتميز بشيء واضح يجعلني عرضة للانتباه
ومركزاً للاستقطاب...)... ص143.
دكتور
محمد صابر عبيد
أ. د. محمد صابر عبيد
ـ دكتوراة في الأدب العربي الحديث والنقد عام 1991/ جامعة الوصل/ العراق.
ـ حصل على درجة الأستاذية عام 2000.
أستاذ النقد الأدبي الحديث في الدراسات الأولية.
ـ أستاذ المناهج النقدية الحديثة والنقد التطبيقي في الدراسات العليا.
ـ عضو هيئة استشارية في بعض المجلات الأدبية.
ـ عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.
ـ عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.
ـ عضو مؤسس في جماعة المشروع النقدي الجديد في العراق.
ـ حظي بالتكريم لعدة سنوات بوصفه أفضل أستاذ متميز في الجامعة في النشر
والتأليف.
ـ فاز بالعديد من الجوائز وصدرت له العديد من الكتب في الشعر والنقد.
أضيفت في
20/11/2007/ خاص القصة السورية (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة بأدب الرسائل)
الأدب وَالنهُوض الحَضاري
بقلم الكاتب: حسن حموي
إذا كان الأدب يساهم بشكل أو بآخر في تنمية الذوق الجمالي، وزيادة الوعي
المعرفي لدى الكائن البشري، فهو في أهدافه ووظائفه الأخرى يرمي إلى بناء
الشخصية الإنسانية بناءً متكاملاً، بحيث يكفل لتلك الشخصية أن تمارس دورها
الحضاري. في صياغة الحياة صياغة جديدة تحمل كل معاني التغيير والتطوير
باتجاه الأكمل والأفضل. وهذا أمر طبيعي وبديهي أيضاً، فالأدب أداة معرفية
هامة فاعلة في إحداث نقلات نوعية في المجتمعات التي يكون فاعلاً فيها، لأنه
يتعامل مع العقل، والإنسان هو عقل ودماغ قبل أن يكون أي شيء آخر. وعندما
تمتد به الأدب إلى نوافذ ذلك الدماغ، فتفتحها على جميع الثقافات الأخرى،
وتذهب بعيداً في رفد خلايا ذلك العقل بكل جديد ومفيد وممتع، فمعنى ذلك أن
ثمة تغذية مستمرة ورعاية فائقة لتنشئة أجيال متقاربة في أهدافها، تجمع
بينها مواصفات وسمات مشتركة، تؤهلها أن تقود عمليات التغيير، والنهوض
الحضاري، والإبداع والابتكار في شتى مجالات الحياة، مما يشير إلى أن
العلاقة بين الأدب والنهوض الحضاري علاقة جدلية قائمة على فاعلية الأدب
وقدرته على التأثير في تنشئة الفرد من كافة جوانبه الاجتماعية والفلسفية.
والجمالية والعقلية. هذا الفرد الذي يشكل حجر الأساس في بناء المجتمع. وفي
وضع المدماك الحقيقي في بناء صرح الحاضرة الإنسانية.
نبدأ جولتنا الثقافية لهذا الشهر من أيكة الشعر والقدود الغنائية بين
التصوف والتحديث والشاعر أمين الجندي في دراسة مفصلة شاملة قدمها الدكتور
عمر موسى باشا رئيس قسم اللغة العربية في جامعة دمشق على شكل محاضرة
أكاديمية في قاعة المحاضرات بمبنى الاتحاد بدمشق، فقد حاول الباحث الدكتور
عمر أن يبدأ من دائرة الموشح، ثم ينتقل إلى المراحل التي تطورت فيها
الموشحات حسب اجتهادات الشعراء، واختلاف أساليب التعبير لديهم، ثم الوقوف
طويلاً عند الشاعر أمين الجندي وتأثيرات إبداعاته الشعرية ولاسيما التي
تحولت إلى قدود غنائية في تحديث الشعر، ونقله نقلات نوعية باتجاه الأمام.
وقد ساق الباحث عدداً غير قليل من الشواهد الشعرية المناسبة لوصف الأماكن،
وتصوير الحالات التي يمر بها العاشق الصوفي في حالات الهيام والحب والوجد.
أما المحاضرة الثانية فقد كانت للأستاذ عبد اللطيف أرناؤوط في المكان ذاته
تحت عنوان (أضواء
على أدب الرسائل عند المرأة)
هذا النوع من الأدب الذي عرفه أدبنا العربي القديم مع عبد الحميد الكاتب
وتطور ونما مع الهمذاني والجاحظ والتوحيد حتى وصل إلى جبرن خليل جبرن ومي
زيادة في أدبنا الحديث. فهو إذن أدب يمتد إلى سابقه، ويستمد أصالته من
جذوره التاريخية البعيدة وليس أدباً جديداً متطوعاً أو طارئاً على أدبنا
العربي بدأ المحاضر بحثه بالكشف عن سرائر النفس الإنسانية من خلال تلك
الرسائل، فهي أكثر قدرة على كشف وجدان صاحبها ما يعتمل في داخله من مشاعر
وعواطف وخلجات حيث يقول: ((ما من فن من الفنون الأدبية يمكن أن يكشف عن
وجدان صاحبه كالرسالة، وبصورة خاصة الرسائل الوجدانية، مع أن بعض النقاد
يذهبون إلى أن الشعر والقصة هما أقدر على الكشف عن نفسية الأديب من
المذكرات والرسائل، ذلك أن الأديب يدرك أن رسائله هي مرآة نفسه في نظر
الآخرين، ومن هنا فإنه يحاول أن يزين صورته أو يتجاوز كثيراً من حقيقته
ليظهر من خلال مذكراته ورسائله بالصورة التي يحب أن يراه بها الناس))[1].
وينتقل الباحث إلى أدب الرسائل عند الشعوب الأخرى، مبيناً أنها أكثر جرأة
وأكثر إفصاحاً عن مكونات النفس الإنسانية وهي عند النساء والرجال تكاد تكون
متقاربة، في حين تظل الرسائل النسائية في أدبنا العربي محظورة مقيدة بالخجل
والخوف والرهبة وإن كان الرجال في رسائلهم أكثر إفصاحاً فهم يحاولن تغيير
الأسماء فيما يكتبون من أدب، أو يحاولون التستر خلف أسماء أصدقائهم فهذا هو
الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذي كانت تربطه مع الأديبة مي زيادة
علاقة حب حميمة، فجرت لديه عدداً غير قليل من القصص والقصائد هذا الأديب
الكبير نجده في قصة /سارة/ يؤثر أن يبدل الأسماء الحقيقية لمحبوباته كي
يبعد عنه الفضيحة فيسمي سارة سعاداً ومي هنداً على عكس ما نجده في أدب
الرسائل الغربي في رسائل /سيمون دي بوفوار/ التي كانت على علاقة حب جارفة
مع الأديب الفرنسي جان بول سارتر وكانا يتبادلان الرسائل بكل جرأة وصراحة.
وقد أتيح للباحث أن يطلع على بعض رسائل الأديبات المعاصرات أمثال سميرة
عزام والسيدة وداد سكاكيني والأديبة سلمى الخضراء الجيوسي والكاتبة مها
غريب والأديبة ألفة الإدلبي، فعرض بشيء من الإيجاز لتلك الرسائل مستخلصاً
منها ما يميز أدب الترسل النسائي عن خصائص يفترق بها عن رسائل الرجال
فالمرأة حين تكتب إلى المرأة تختار آفاقاً وعوالم تفترق عما تتضمنه رسائلها
إلى الرجال، ذلك أنها في مخاطبة بنات جنسها تتبسط إلى حد ما، وترسل قلمها
دون قيد أو احتراز، وتجترئ على التصريح بأفكار لا ترد في مكاتباتها، وهو
أمر بدهي، لأنها تعتقد أن بنات جنسها أصون لسرها، وأكثر ثقة لحمل همومها
ومعاناتها))[2].
ثم يستعرض الرسائل والأشعار التي تبادلتها مي زيادة مع أصحابها فهذا ولي
الدين يكن يهديها رسمه ويكتب تحته هذا البيت[3].
كل شيء يا مي عندك غال
غير أني وحدي لديك رخيص
ولم تبادله مي مشاعره لكنها ظلت على صلة حسنة به حتى آخر يوم من حياته
وأغرم بها إسماعيل صبري شيخا فلما فاتحها بغرامه فاتحها من خلال الشعر
قائلاً:
أهاجرتي
أطفئي لواعج لا تنتهي
مضت في هواك السنون وما نلت ما أشتهي
إذا قيل مات الأديب بفاتنة أنت هي
فأجابته في بيتين قالت فيهما:
زمانك قبلي انتهى
ولا يرجع المنتهي
فحسبي أن أزدهي
وحسبك أن تشتهي
((ويستشف من الجواب أن مي في رسائلها كانت ترد المعجبين بها دون أن تقسو
عليهم، مع ميل لديها إلى تعذيب المحبوب، وتركه معلقاً بين الصد والأمل، فهي
تريد أن يخلدها أدب عشاقها دون أن ترخص نفسها لأي منهم فهي لم تحب حباً
جسدياً لكنها أحبت حباً روحياً وتجلى حبها الروحي في صلتها بمصطفى صادق
الرافعي الذي كتب إليها العديد من رسائل الحب، وكتبت إليه تعبر فيها عن
عاطفة صادقة وبجبران خليل جبران من خلال رسائل متبادلة م تنته بلقاء وحين
صارحها بحبه في أكثر من رسالة كتب إليه تقول بعد أن خاب أمله منها وانقطعت
رسائله ((آلمني
سكوتك، وأرهف انتباهي، فألقتني إلى نقط كلها غير مسرة، منها أنك لم تشاركني
ارتياحي إلى تلك الصداقة الفكرية، لأنك كنت سعيداً بها مثلي))
على أن مي لم تستطع أن تقاوم مشاعرها الخفية، فبعد أن استبد المرض بجبران
صارحته بحبها، واعترفت له أنه محبوبها الوحيد في رسالة كتبتها عام 1924
تقول فيها ((ولكني
أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، إني أنتظر من الحب كثيراً، فأخاف ألا
يأتيني بكل ما أنتظر.. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا!!! وكيف أفرط فيه
لا أدري!!؟ الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به.. لأني لو كنت
الآن، وكنت حاضراً، لهربت أنا خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفينا زمناً
طويلاً)).
ويبعث إليها جبران برسالة جوابية مع هدية متواضعة (محفظة يد ومرآة وقلم)
فكتبت إليه ((مضت جميع الوجوه من المرآة، إلا أنها استبقت لي نظرة بعيدة
قريبة من عينيك، فأتلقاها بنظري، وأتملاها فأقول لها شيئاً يعرفه القرطاس
كذلك)) وترسل إليه رسالة أخرى تكشف فيها عن حبها وشوقها فتقول: ((لا
بد أن تكون مسراتنا مزيجاً من المحسوس وغير المحسوس، لذلك يروق لي أن ألتقي
بك في الضباب وخارجاً عنه، تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة (القاهرة)
فلماذا لا تأتي وأنت فتى البلاد التي تناديك؟ تعالى فنور القمر يثير الرمل
حول أبي الهول. ويمرح في موج النيل، تعال يا صديقي، تعال فالحياة قصيرة،
وسهرة على النيل توازي عمراً حافلاً بالمجد والثروة والحب))[4].
لقد تفجر الحب الحقيقي من داخل حجرة القلب العابقة بكل الشوق والحنين لرؤية
جبران والسهر معه على ضفاف النيل، فراحت تناديه بصوت عالٍ، وجرأت نادرة،
تعال، تعال ولكن هيهات، فالزمان ينقضي ويتلاشى كالسحاب، والأعمار تهرب
مهرولة في فضاء الحياة دون أن يدري أصحابها بهروبها، والحب ذاته يتسلل على
رؤوس أصابعه، من حجرات النوم إلى خارج الزمن والحياة على غفلة من العاشقين
والمحبين.
لقد بقيت مي متسترة، متكتمة على حبها تجاه جميع الذين طلبوا ودها، المعشوق
الوحيد، لا بل العاشق الوحيد الذي استطاع أن ينتزع اعترافها بحبه، وجعلها
تبوح علانية بذلك الحب الجارف هو جبران خليل جبران لأنه هو الآخر كان
يعشقها بصدق، ويهيم بها إلى درجة العشق، والرسوم التي خلفها وراءه،
والكتابات التي رسمتها أصابع عبقريته المبدعة تشير إلى قوة ذلك الحب،
ومصداقيته.
لو أن الأستاذ عبد اللطيف أرنأوط وضع عنواناً لمحاضرته رسائل مي إلى
عشاقها، لصحت التسمية، ولكنه أراد أن يكون العنوان شاملاً وجهه كي يجمع
العديد من الرسائل لعدد غير قليل من الأديبات في محاولة جادة منه لربط
القديم بالجديد، وحسناً فعل، فهو موضع شيق وممتع ووجداني لأنه يلامس شغاف
القلب، ويهز أغصان الذكريات.
وخاتمة الأنشطة الثقافية للنصف الأول من عام 1990 كانت محاضرة الدكتور نزار
عيون السود وهي بعنوان (دور الأدب في التنشئة الاجتماعية) حيث يبدأ الباحث
بتقديم مفهوم شامل لمضمون التنشئة الاجتماعية من وجهة نظر الفلسفة حيث
تتناول عملية تحول الإنسان في مسار تطوره البيولوجي، وارتقائه النوعي إلى
كائن اجتماعي، ومن جهة نظر علم الاجتماع، وعلم التربية من خلال عمليتي
التكوين والإعداد الهادف للجيل من أجل المشاركة الفعالة والنشيطة في التطور
الاجتماعي من خلال الحفاظ على القيم الاجتماعية، واكتناه العلوم والمعارف
في إطار الثقافة الفاعلة.
وحول التنشئة الاجتماعية وتعريفها ومراحلها يقول الباحث: ((إن نظرية
التنشئة الاجتماعية التي تطورت تطوراً عاصفاً في الخمسينات والستينات من
القرن الحالي لا تشكل حتى الآن منظومة كاملة وهادفة، فثمة تيارات مختلفة
واتجاهات متباينة في طرق هذه النظرية، تعالج مفاهيمها بصورة متباينة، وقد
اختلف العلماء في تعريف التنشئة الاجتماعية، فالباحثان الأمريكيان (بريم)
و(أويلر) يعرفانها بأنها العملية التي يكتسب الفرد خلالها المعارف
والمهارات والميول التي تسمح له بالمشاركة بصفة عضو أكثر أو أقل فاعلية في
الجماعة))[5] بيد أن غالبية العلماء متفقون على أن التنشئة الاجتماعية هي
((عملية مزدوجة تشمل استيعاب الفرد للخبرة الاجتماعية عن طريق الدخول إلى
الوسط الاجتماعي، وإلى منظومة الروابط الاجتماعية من ناحية، والتجديد
النشيط لمنظومة الروابط الاجتماعية من جانب الفرد عن طرق مشاركته الفعالة،
ودخوله النشيط إلى الوسط الاجتماعي))[6]. ومما لا شك فيه أن التنشئة
الاجتماعية عملية مستمرة مدى الحياة، وهي لا تقتصر على سنوات الطفولة لأن
الفرد يمارس أدواراً اجتماعية مختلفة خلال مراحل حياته، وفي كل مرحلة عليه
أن يتلاءم مع الوسط الجديد، ومع وضعه الجديد.
وتكمن أهمية التنشئة الاجتماعية في إنها في آن واحد، عملية تكوين اجتماعي
للجيل الناشئ من ناحية، وعملية نقل التراث لهذا الجيل من ناحية أخرى.
ويصنف الباحثون مراحل التنشئة الاجتماعية في المراحل الثلاث التالية:
1ـ المرحلة السابقة للنشاط العملي، وتشمل كامل الفترة من عمر الإنسان قبل
بدء العملي أي مرحلة الدراسة في جميع مراحلها ومستوياتها.
2ـ مرحلة النشاط العملي التي يمارسها الفرد في إطار المنظمات والأحزاب
والأندية والمؤسسات خلال هذه المرحلة وما بعدها.
3ـ مرحلة ما بعد النشاط العملي وهي مرحلة الهرم والتقاعد والشيخوخة.
أما المؤسسات الرئيسية للتنشئة الاجتماعية فهي تشمل:
ـ الأسرة
ـ المدرسة
ـ وسائل الإعلام
ـ الأدب
وعند هذا الأخير نتوقف قليلاً لنشير إلى أثر الأدب في بنية الشخصية
الإنسانية المستقبلية وعلى درجة النمو الثقافي والأخلاقي والروحي الذي
يعكسه في نفوس الأجيال.
لقد حاول الباحث أن يوضح هذا الدور الهام الذي يلعبه الأدب في التنشئة
الاجتماعية، لكن تقاطعات كثيرة ، حالت دون إبراز هذا العنصر الحاسم في
صياغة الحياة والإنسان والعالم، نظراً لاتساع دائرة البحث، وتعدد العناصر
الداخلة أو المشاركة في نسيج التنشئة الاجتماعية، غير أنه في المحاضرة ركز
تركيزاً شديداً على وظيفة الأدب وتأثيره إلى جانب الفن في عملية التنشئة
الاجتماعية ومما قاله في هذا السياق: ((أن التأثير الذي تحدثه المؤلفات
الأدبية والفنية في الفرد، لا تقتصر على الانفعالات والمشاعر والعواطف، بل
هو ناتج عن منظومة كاملة من الإيحاء والانفعال والإقناع والعقلانية، وجميع
الأعمال الروائية العظيمة تتميز بأهمية التأثير المركبة هذه الشعورية
واللاشعورية، والانفعالية، والعقلانية))[7] وأخيراً فإنه يتوجب على الأدب
بجميع أجناسه أن يلعب دوراً ومهماً في التنشئة الاجتماعية على اعتباره
شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي الذي يحمل تطلعات الأجيال وآمالهم إلى آفاق
التغيير، والبحث عن الجديد في إطار التواصل والتفاعل بين هذا الجديد بكل
ألوانه القزحية، وبين ذلك القديم الذي يشكل الرافد الطبيعي لدائرة الوعي
الأساسية في رسم معالم الثقافة الخاصة والعامة للمجتمعات البشرية.
دائرة الحِوار
[1] نص المحاضرة (أضواء على أدب الرسائل عند المرأة) ص1.
[2] المصدر ذاته ص3.
[3] المصدر ذاته ص3.
[4] المصدر ذاته ص4.
[5] نص المحاضرة (دور الأدب في التنشئة الاجتماعية) ص2.
[6] المصدر ذاته ص2.
[7] المصدر ذاته ص5.
أضيفت في
20/11/2007/ خاص القصة السورية (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة بأدب الرسائل)
العراقيون وأدب الرسائل العاشقة -
عبد الغني
الخليلي نموذجا
بقلم الكاتب: خلدون جاويد
أدب الرسائل... هل هو عادة متوارثة.. انفتاح على علاقات اجتماعية؟ عناق
ومحبة لبني البشر. أم هو جبهة مقاومة على نار هادئة ؟
اراسل شاعري الجليل الخليلي منذ عام 1986. حصلت على عنوانه من الدكتور غانم
حمدون أيام كنا نعمل في مجال التعليم في الجزائر، ولم يكتحل بصري بمرآه.
وفي أرشيفي الشخصي المتواضع، عدد كبير من الرسائل (على مدى خمسة عشر عاما)
وهو لايخشى الكتابة الى من دونه عمراً وثقافة من اصدقائه وزملائه، ولذا
فظاهرة ادب التراسل تتضافر عبر من لديهم القوة والشجاعة على ذلك. واريد ان
اشير هنا الى ان بعضا من المتأدبين او المتشاعرين المنتفخي الأوداج يترددون
في الدخول الى هذا الطقس الخلاب، الى هذه الغابة السحرية الغرائبية، وسفوح
مباهجها العذراء والتي هي باختصار جمالية الآخرين وروعة مالديهم وعظمة
مايمكن ان يصدر عنهم... أي ان الطاقات الهائلة للعمق الانساني من جهة اخرى
بحاجة الى من يطل عليها ويناديها ويستنهضها كي تتألق، ومن نافلة القول اننا
لايمكن ان نحكم على البلد النائي من مجرد اسمه او المتحف من حجارته
الخارجية والكنيسة والعتبة المقدسة من خلال بوابتها. هناك من يبخل على من
سواه بكلمة حب او تشجيع او اشادة او نقد بناء فلايجد المرء عند التوجه الى
(هؤلاء) الاّ أمرين
- الملامة والأستذة الفارغة.
- الصمت القاسي الذي لاتنسى مرارته مدى العمر.
وهنا أنآى بنفسي عن التحدث عن تجارب شخصية. أما الاستاذ المربي عبد الغني
الخليلي فلطالما احببت فيه رقته بالتعامل ودفء روحه وحنانه الأخوي الذي راح
يشيع رسائل ملونة وصورا حبيبة وهدايا لأطفالي الذين لم يرهم وهو الذي
يداعبهم عبر المسرة، فهنا حتى الأطفال يهرعون اليّ فرحين باسمه (عمو
غني)... وفي كل مرة يرين الصمت والوحشة في زوايا بيت حزين وكليم مثلما هي
بيوت الكثير من العراقيين، يرن تلفون الصديق الحبيب ليشد من أزر الروح
المعذبة والمزاج العليل والقلب المكدر بالغربة، وهذا مايجعلني أتفكر بأحوال
العراقيين وحاجتهم الى نماذج من رفاق السبي المهجر ، أجلاء كهذا الرجل
الامثولة.
لقد تعلمت أدب الرسائل من استاذي الخليلي الذي يذكر لي بانها عادة قديمة،
اذ كان هو وسواه من الادباء يمارسون هذا الطقس من الأدب ويحتفظون بالرسائل
– الجوابية في صندوق خشبي مخصص لذلك كما لو يكون ارشيفا حنونا يقاوم
التقادم الزمني او عبث العابثين. انه أدب العشاق لايقوى عليه الا الذين
يفيضون حبا، ولايليق الا بطيور الشجرة التي سهدت الاستاذ الخليلي حتى الفجر
وهو يتطلع الى الجلنار الذي ظل عالقا في ذاكرة معرشة بعناق بابل وكربلاء
والكوفة والنجف بل العراق أجمع.
وعندما ظهر كتاب (سلاما ياغريب) انبريت لتوجيه رسالة او بطاقة حب وكتبت
استعراضا عن الكتاب ونشرته.. انا لا أزال مفتونا بصدق تعابير ذلك الكتاب
ولأنه أولا وقبل كل شئ وثيقة فجائعية عراقية، واذ يشيح الكثير من الادباء
والفنانين عن النظر في وجوه بعض فانني ذاتيا لأفخر بأن انتهل من المدرسة
الخليلية متجسدة بآخر فرسانها الاستاذ الشيخ المتلفع ببردة من ثلج الأيام
ووحشة المنتآى، وأدنو من الجمال الجريح لأدبنا المنفي واستعرض ،وان كنت غير
مختص نقديا ، بعض الاسهامات والاعمال الشعرية او الروائية محاولا اعلاء
كلمتنا لاارخاصها واكبار مبادراتنا لا التقليل من اهميتها واحترام اسمائنا
لاطمسها واستصغارها وادعاء تجاهلها ، لقد دفعني هو وسواه من محبي العراقيين
الى الذهاب الى العراقيين لا الذهاب عنهم . فياترى من هو استاذي محط الفخر
والاعجاب ؟ ادناه تعريف من أعز اصدقائه ومحبيه ألا وهو استاذ الأساتيذ هادي
العلوي القائل بحقه:
"مهجّر
عراقي يعيش في المنفى السويدي، تجاوز السبعين عاما، من اسرة دينية ادبية،
يعتبره العراقيون من رواة الجواهري فقد صحبه دهرا في عمله الأدبي والصحفي
وهو بدوره شاعر وناثر رقيق الكلمة عذب العبارة يتقطّر ماء الفرات من قلمه
وتفوح من كلماته رائحة الطلع والقداح، لايحسن الكثير من السياسة لكنه يحب
العراق : نخيله ورافديه ، بغداده ونجفه وكربلاءه ... ويحب لغته العربية
ويزهو بقاموسها الذي يعرف منه أضعاف مايعرفه الجهلة الذين أخرجوه من وطنه
فهو ابن النجف وريثة الأدب العباسي وحاملة لوائه في العصور المظلمة".
وأما الجواهري الخالد فقد خصه بقصيدة جميلة منشورة في المجلد الرابع من
ديوانه وكانت قد نشرت في جريدة اليوم اللبنانية 27/2/1968:
" أبا الفرسان انك في ضميري
و ذاك أعز دار للحبيبِ
وبي شوق اليك يهز قلبي
ويعصره فيخفق بالوجيبِ
وذكرك في فمي نغم مصفى
يرتّل في الشروق وفي الغروبِ
سلام الله يعبق بالطيوب
على ربعٍٍ تحل به خصيبِ
ثري بالمفاخر والمزايا
تورثها نجيب عن نجيب
أبا الفرسان ان عقّت ديار
عقدت بها شبابي بالمشيب
وذوّبت الضلوع على ثراها
ولم أطلب بها اجر المذيب
فلا عجب فقلبي ضاق ذرعا
بخير الناس احمد والحبيب
فذياك استبيح دما وعِرضا
وذاك قضى بها نحب الغريب
وسيم البحتري الهون فيها
وغص بحسرة الترب الحريب
على حين استباح الغر فيها
بقايا السيف والسلب الجليب
أبا الفرسان لاعجب بانا
نؤدي فدية البلد العجيب ِ"
وبعد هذين التعريفين لأديبنا الكبير والجليل أعود الى مابقي في عنقي من
امانة أجدني ذاهلا أمام محرابها، أمام كلمات تضع الاشتياق الى العراق مصحفا
على صدري وأعني بذلك رسائله الكريمة التي هي كثيرة عليّ او ربما تكون أكبر
مما استحق. ادناه البعض القليل مما عثرت عليه منها:
خلدون الوفي: أرجو أن تتفضل عليّ برقم تلفونك لأتحدث خلاله اليك ..كلما
شعرت بالوحشة وهاجني الشوق الى حديثك الممتع الشهي.. لاتنس ياعزيزي .
كيف حال الست الفاضلة والصغار الحلوين ، كم انا مشتاق لزيارتك . ديوانك
الجديد ، يستريح أمامي على رف مكتبتي ..اعيد قراءته بين الحين والحين
مستمتعا بقصائده المترعة بالشوق والحنين الى الوطن ..رجاء لاتنس أن تبعث
اليّ برقم تلفونك ... ادناه عنواني الجديد مع رقم الهاتف .................
تقبل سلامي ومحبتي ياعزيزي.
عزيزي خلدون: لاتسخر من أبياتي انا لست بشاعر يهزك
بشعره .....
*انعى
اليك امام اللغة والنحو استاذي وصديقي الدكتور المخزومي... لن يجف دمعي
عليه أبدا فصلتي تمتد به الى زمن الصبا ..وكلانا من حي واحد في النجف .
السويد 20/3/1993
عزيزي: ذكرتك عند زيارتي لآل المظفر الأوفياء وتمنينا جميعا لو انك كنت
معنا في تلك المدينة العروس فنحن بجانب جبل أخضر بمحاذاته بحر ازرق ، وفي
الوسط وادٍ معشب هو جنة للأطفال وللعشاق ولكل من يعشق الشعر والشجر والماء
....استمتعت برسالتك الجميلة التي بعثت بها الى العزيز (أ) ألم أقل لك انك
كاتب بارع ومبدع.... بورك قلمك.... يدي الراعشة لاتعينني على الكتابة...
ساودعك واتمنى لك ولأهلك وللصغير منهم الصحة والراحة وألف تحية وتحية
ياعزيزي خلدون.... أبو فارس....
انتظر جوابا منك لاطمئن على وصول هذه الرسالة ياعزيزي .كن لي أخا طيبا
وحبيبا وصديقا وولدا فقد بقيت وحيدا في هذه الديار بعد رحيل أخي عني ، فقد
كان سلوتي الوحيدة فحرمت منها . اريد ان أطمئن على صحة العائلة ياعزيزي ،
واركن الى الصبر والدمع أيضا فالدموع بلسم لنا نحن المفجوعين بأحبتنا ...مع
السلامة ياعزيزي ... السويد 13/10/1993
حبيبي خلدون الورد: هذا هو صاحبك الخليلي. الفتى الشيخ... يسألك كيف كان
لون الفجر في سماء بغداد ، ولون النخل والقباب والمآذن الزرق ، ونسيم السحر
والعيون السود يوم ودعت الوطن.،،،،، تحيتي ومحبتي وكل عام وأنت بخير وأهل
بيتك واليمامات الحلوات وقصائدك بألف خير ..... السويد 20/12/ 1993
حبيبي الشاعر خلدون : لم هذا الجفاء ...ماكنت أظن أنك تصد عن الخل الخليلي
الذي أحبك وتغنى بشعرك واستمتع بحلاوة رسائلك ....لم هذا الجفاء ياعزيزي
البغدادي الجميل ؟ متى يرتقي هذا الديك الجميل المنبر ومن فوقه ، يعلن
البشرى لأهل العراق الحزين الجريح ، بزوال هذا الليل الأسود ، وبشروق فجر
لايخلفه ليل أسود آخر ...متى ؟ ....
تحيتي ومحبتي وتمنياتي لأهل بيتك الحلوين بربيع أخضر جميل . لاتنس أخاك
الخليلي ....
أبو فارس ... السويد 7/5/1995 .
حبيبي الغالي الشاعر المبدع خلدون: نسيم فارس الخليلي، أول حفيد يأتي الى
صديقك عبد الغني الخليلي... وهو شيخ، أضَرت به الغربة ...وأوجعته الوحدة،
ودنت رحلته من الدار.... سوف يقول نسيم لأترابه الصغار: لاأذكر جدي الخليلي
.. ولا مناغاته لي لكني اذكر أبي . كان يقول : ان جدك كان يعشق الحمام
والشعر والنخيل ...وكان وفيا للصديق ...رحمه الله ...عزيزي خلدون لاتحزن .
...عبد الغني.
حبيبي الكاتب والناقد والانسان الغارق بالوفاء والحنين للأهل والوطن
ولمقاهي بغداد التي ألفتها وانت في سن الصبا.... ومازلت تتذكرها وتشتاق
اليها ... عزيزي خلدون: لم تصلني الرسالة التي تفوح بعطر الشاي المنساب من
ابريق خزفي جميل يتوّج السماور، لأقوم بتهذيبها، ان كانت بحاجة الى تهذيب ،
قبل نشره. كنت كلما ضاق صدري واعتصرتني الوحدة القاتلة، في هذه الديار
البعيدة الغريبة. خففت وجعي بالحديث معك. وبقراءة رسائلك الموشحة بالمودة
والشعر وزغردة الحمامتين المنسابة عبر الهاتف. لكن كل هذه الرسائل التي
كانت توصلني اليك ، توقفت منذ شهر، وبقيت انتظر عودتها . اعيد اليك صورة من
كلمتك الجميلة التي كتبتها عن خاطرتي ( في الصيف الأخير) . بعد رحيل أخي
علي، اذ ربما تعينك ان حاولت ان تنقد كتابي ( سلاما ياغريب ). وذلك يفرحني
جدا ياعزيزي.
تحيتي لك وللأهل وقبلاتي للصغار الحلوين . المحب الخليلي. معذرة اختصرت
تحيتي هذه اليك بسبب الجلطة الدماغية التي اصبت بها قبل فترة . ولولا انها
كانت خفيفة لكلّفتك قصيدة رثاء موجعة.
مازلت اعاني منها . لا تنسَ ان تدعو لي بالعافية عند امام المسجد
الباكستاني الشيخ جمال الدين نور الله ....
*أتدري
بسبب ما أصابني ، صرت لاأقوى على جمع شتات أفكاري وخواطري لأضعها على
الورق.... انني لحزين جدا... معذرة... أخوك أبو فارس.
حبيبي خلدون الورد... قبّل بدلا مني اليمامتين الجميلتين الوديعتين
واذكرني... هل لديك نسخة من ذكرياتي عن النجف المنشورة في الثقافة الجديدة
عام 1988. اني بحاجة اليها... ان وجدت لديك.
لأول مرة أنعم بصباح عطر ، بضوء الشمس... بعد عتمة ظالمة دامت أياما. حتى
يئسنا من عودة الصيف الى هذه الديار... ليت شمس بغداد تمر بنا ولو ساعة
وبصحبتها كل ذكريات العمر. المحب عبد الغني.
حبيبي الشاعر والكاتب خلدون: صبرا جميلا. ولو من بعيد، أمزج دموعي التي
فجرها حزني على رحيل أخي علي، بدموعك على فقد والديك الحبيبين، وأنت عنهما
بعيد، فحزنك هو حزني فكلانا فجعنا بأحب الناس الينا . تمنيت لو أنني قريب ،
لقاسمتك أوجاعك، فعسى ان تخف، ولو قليلا... لكني بعيد.... الغربة عن
الأوطان، وعتمة الطقس تزيد من كآبتنا، في هذه الديار البعيدة... ماكدنا
ننعم بشمس الخريف، وبزرقة السماء حتى جاءت رسل الشتاء تكمل الينا البرد
والمطر والغيوم السود ، فأطبقت علينا كآبة ظالمة... فلا خلاص منها الا
بالقراءة وكتابة الرسائل الى الأحبة، ففي هاتين المتعتين تتبدد كآبتنا.
حبيبي خلدون الشاعر: ارى عبر النافذة سربا من الطيور، يدور منذ الفجر في
السماء، وبين آونة أو اخرى تنضم اليه طيور قادمة من أماكن بعيدة ...وبعد
قليل يكتمل عددها ، فتودع المدينة والغاب والساحل ، وترحل الى حيث الشمس
دافئة، لا تغيب عن السماء، وفي الربيع تعود الى وطنها، لكن من يودع هذه
الأرض لا يعود اليها وان عاد الربيع . يلح احيانا بي الشوق اليك ... لكن
رقم هاتفك لم يحملني اليك ...كم حاولت ذلك قبل شهور حتى مللت... والآن أرجو
منك فور وصول رسالتي هذه اليك ان تزودني برقم هاتفك الجديد.
هذا هو عبد الغني الخليلي أحد نوافذ فردوس ادبنا العراقي المعرش بالمحبة
والحنين الى الجمال، زاجل مغرب عن أحبته، يمامة في الثلج تتحرق لعناق
منارة... عاشق الشمس والحرية... انني - مادام الأمر يتعلق بأدب الرسائل –
لا أنظر الى ذخيري من كلماته باعتبارها هدايا تشبع غروري أو فرحي الطفولي...
أبدا بل أرى اليها باعتبارها مدرسة تملأ لحظاتنا الحزينة بالأمل، جهالتنا
بالعلم، حاضرنا المنفي الأجوف بالذكرى... وتدغدغ القلب الذي صدأت عراقيته
بالتوق والانشداد، وتذكّر الابن ببيته... وهل نتنكر "لعل
الموت ينسينا .... بغير الموت لاننسى"...
اللهم اغفر لنا فقدان العقل لو جننا ولاتغفر لنا العيش والتكسب في المنافي
بلا حلم عودتنا الى البيت القديم ووطننا الغالي. ان أية صورة أو بطاقة
معايدة او منظر طبيعي أو أية خاطرة او ذكرى هي نقلة شعورية الى العراق، ان
الخليلي وآلاف مؤلفة سواه يعيشون جسديا في المنافي أما أرواحهم فلم تبرح
العراق الجميل.
وهكذا ينحو أدب الرسائل منحى الدفاع عن الذاكرة والوجود كعاطفة وطنية فياضة
بالوهج والوجد.
واخيرا وليس آخرا.... ينذر الخليلي عمره ومئآت الالوف سواه من حملة صليب
الكلمة قرابينا على رافدي المحبة. ومهما اختلف مناخ الكلمة شعرا او قصصا او
رسائل ادبية حارقة فان همنا الأقدس الذي يجمعنا على اختلاف مشاربنا
واساليبنا هو العراق الحبيب. ان كل دعاة اتهام المنفى باللآوطنية هم مجرمون
قتلة مع سبق الاصرار وان كل من يدنو بالاساءة لهذه القضية سيظل هو ومايكتبه
ضد العراقيين من المنفيين لوثة ولطخة لن تمحوها الذاكرة العراقية خاصة وقد
قدر عدد هم قرابة 4 ملايين . أكبرسبي في تاريخ الرافدين وهذا ماسوف يندرج
أيضا في محاكمات الأنظمة السابقة المسببة لظاهرة المنفى في حياتنا.
يوم مرض أستاذي الأديب كتبتُ ونشرتُ كلمات الحنين له وللعراق وقد جاءت في
الصورة الآتية:
"بعد
عذابات تهجير، ومعاناة مرض ! يرقد الأديب العراقي عبد الغني الخليلي بمنفاه
السويدي في سرير المرض فاقد الذاكرة موصلا غفوة الليل بالنهار:
قم ياغني الليل زائل
والسجن حّطم والسلاسل
ولربما المنفى الكسير
الى المزار الأُم راحل
قم ياغني لعلنا
متنسمين هواء بابل
وعسى الجنائن أورقت فرحا
وغرّدت البلابل
قم ياغني لنحتفي
بك كالأزاهر بالجداول
قم فالبلادعلى شفا الطوفان
تجرف كل قاتل
قم ياغني لنغتني بك
بالمنابع بالمناهل
يابن الفرات الفذ لا
تذبل فما الجوري ذابل
يازهرة النجف المنيف
اريجك العلوي حافل
ياغصن أجمل كربلا
في الكون يانفح الخمائل
قم يابن أزهى كعبة للعلم
يالغة الفطاحل
يامن رشفت النور من
مهج الأواخر والأوائل
مازال دونك موطن ظامٍ
ودون شذاك قاحل
فالفجر باكٍ
والضحى جهمٌ
وضوء النجم آفل
كلٌ يريدك بلسماً
لجراح أرملةٍ وثاكل
عبد الغني ّ تململ المنفى
فكن للدرب زاجل
أشفق على القبلات قد
طبعت بجنحك والرسائل
لاترتحل ...
فمهجروك تقهقروا
والظلم زائل
من يسقي سوسنة الصباح
اذا رحلتَ ومن يغازل ؟
الناس عرس الكون في بلدي
وأنتَ لهم هلاهل
يامن بسيفك ننتضي
وتهاب قلتنا الحجافل
وتهبُ من دمنا البيارق
والمطارق والمناجل
عد للمنائر كالحمام
وللسفائن كن سواحل
مهما يداهمك الظلام
فأنت للقمم المشاعل
عد ياغنيّ فألف جلادٍ
يزول ولستَ زائل
من أجل شعبٍ جائع ٍ
تنمى لتربتنا المعاول
ولرب قافلة تموت
بدربها انبثقت قوافل
ان الفضاء لمن يحلق
والتراب لمن يناضل
هي خطوة تلج المسار
وبذرة تلد المشاتل
يامن يشاد بفكره وطن الفواتح
والمحافل
من أجل عش صغارها
ارتأت الحمامة أن تقاتل
عبد الغني الدرب بالعثرات
والكبوات حافل
لكن جواد الرافدين
برغم ليل السجن صاهل
رغم السقام سينهض العملاق
مطعونا يواصل
وستورق الآمال
والصفصاف لو نسقيقه آمل .
.......
يوم اتممت هذه الكلمات، كنت أُحضر رسالة عثرت عليها بين فوضى من اوراق
فوضعت لها مقدمة تدل على معاناة الرجل الغيور والأديب المبدع ، وكنت اتمنى
نشرها وارسالها اليه لكن اكتفيت بنشر القصيدة أعلاه.
ورأيت من المناسب أن اثبت هنا تلك الرسالة التي لم يتح له ان يراها مؤطرة
بمقدمة حب وعرفان من تلميذه المحظوظ به... لكنني وانا احاول العثور عليها
الآن أصرت هي على الاختفاء يالها من رسالةٍ عنودٍ ( الرسالة المختبئة )…
انني حقا حزين لكني لست اكثر حزنا من ذلك اليوم الذي غادرنا فيه الحبيب.
*شهيد
المنافي عبد الغني الخليلي
كتبتُ الى استاذي في اربعينيته:
وداعا لا
فانك ألف آتِ
من الماء المقدس للحياةِ
يعانق فيك نبض غدي بأمسي
صدى مستقبلي من ذكرياتي
كأنك في أديم الأرض بذرٌ
تناسغ بالجذور المزهرات
كأنك قائل :
المهد لحدي
ورغم الليل أبدأ من رفاتي
فليس يليق في منفى وضوئي
ولا اكتملت بلا وطن صلاتي
شربت الماء
من حوب وصوب
فما يروي به جسد فراتي
دفنت القلب عند غدير أهلي
ونخلة منزلي
ومهاد ذاتي
وماراهنت سلطانا بشعري
على ذلٍ
ولارخصت دواتي
ظللت على صيامي الدهر صبرا
وقد زعموا هلال العمر آتِ
ورغم الظلم ، سوف أصون صمتا
شفاهي فهي نذر للحفاةِ
اغني في السجون وفي المنافي
لشعبي
لن اغني للطغاةِ
واصبر كاظما جرحي منيفا
فما استخذى لذي عرش شَتاتي
وهودج عرسي َ العدويٌ نعشٌ
ترف به
الى نجف رفاتي
وداعا ياغني ...وياسماءا
تبشر بالغيوم الممطرات
فكل غد له قزح
وشمس
تطل على السفوح المورقات
ويابدرا تنآى
وهو أجدى
بمعترك الليالي المعتمات
وياسيفا أسفت عليه لما تهاوى ،
ساعة اجتمعوا قضاتي
تهاوت وردة
والريح تعوي
وطاحت نجمة والليل عاتِ
أيا عبد الغني أبا الأغاني
وياصنو الرجا والامنياتِ
تمهل فالطريق الى صباح
ٍ ولا عهد يدوم على سباتِ
وكل أخٍ
أضاع أخاه يوما
يقبل هامه رغم الجناةِ
وان سفائني لابد يوما
من المنفى
لبابل مرجعاتي
ملايينا لأحياءٍ وموتى
سيحضنهن صدر الامهات
ويزهر في غدٍ
حقلٌ ( غنيٌ )
تفجر بالندى والمعجزاتِ
ويبقى الموت في وطني حياة
فهاتِ يديك
رغم الموت هاتِ.
عليّ ان اقول في خاتمة المحاولة الكتابية هذه أنني راسلت هذا الصديق الفخم
لكني لم استطع ان اره حتى رحل عن الحياة ولذلك اسباب عديدة منها كثرة
المنافي وفشل محاولات عديدة للقاء وخيبة طالع وعوامل مؤسفة اخرى. ان ذلك
لايشعرني بالندم بل انه يسمّر الندم في قلبي حتى لحظاتي الأخيرة . فله ولمن
غادر مثله قبل أن يرى الأفراح والأتراح اكليل لآلئ وباقات قمر.
توفي عبد الغني الخليلي عام 2002 لكنه ترك وراءه قلوبا تنبض بالحياة ليس
لمن عاشوا معه فحسب ولكن لمن راسلوه وسمعوا عنه. انه نجمة في الأُفق وجورية
من ضفاف الفرات وفوق ذلك نوذج تربوي للأخلاق العراقية الحقيقة تلك التي
تستعيد عافيتها يوما بعد يوم.
أضيفت في
20/12/2007/ خاص القصة السورية (للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة بأدب الرسائل)
|