دراسات
ومقالات في الأدب المهجري2
خواطر في الأدب العربي المهجري المعاصر
بقلم الكاتب:
لطفي حداد
المهجر الجديد:
إذا كان المهجر والأدب المهجري في بدايات القرن العشرين أميركيًّا ، ولبناني
الطابع بشكل أساسي، فإن المهجر الجديد هو أوروبي وعراقيّ الصبغة.
هناك اختلافات جذرية بين المهجر القديم والجديد.. فالهجرة في السابق كانت غربة
وعزلة شديدتين حيث طرق المواصلات بطيئة وغالية ، وأغلب المهاجرين لا يعرفون
لغات المجتمعات الجديدة ولا شيء عن تلك الحضارات.. أما اليوم فالمهاجرون الذين
يعيشون في أوروبا أو أميركا يستطيعون قراءة الجرائد العربية اليومية عبر
الانترنت أو الصحف الورقية التي تصل إلى أماكن متعددة من العالم. كذلك يستطيعون
التنقل بحرية وبساطة بين الوطن الأم والمهجر (إذا لم يكن هناك مانع سياسي) وهم
بسبب الانفتاح العالمي و «العولمة» يعرفون مسبقًا الكثير من أنماط العيش في تلك
المهاجر قبل أن يصلوها... فالمهجر الجديد أسهل بكثير من المهجر القديم من هذه
النواحي ، رغم أنَ العزلة قد تكون شديدة بسبب الحنين اليومي والجرح النازف كل
لحظة نتيجة معايشة أخبار الوطن عن بعد.
* * *
يبدأ الحنين منذ اللحظة الأولى ، ويتحول مع الزمن إلى صراع نفسي بين الذاكرة
والواقع، ثم يحصل نوع من الراحة والتأقلم عندما يفهم الكاتب أن البيئة الجديدة
تقدم له ساحة لقاء تستقبل فكره الثوري الذي رفضته بلاده، فتعوّض حضارةُ الرقي
الإنساني والانفتاح الثقافي قليلاً عن فكرة الوطن ليصير الوطن الحقيقي ـ عند
بعض الذين نجحوا في الخارج ـ أبعد من الحدود الجغرافية للوطن العربي، بل ممتدًا
على الأرض كلها.
لكن الكثيرين يفكرون بالمنفى ويشعرون أنهم أدباء منفى. فلماذا هذا الاسم ؟
أولاً: لأنه إما أن تمتزج بالمجتمع الجديد وتصير واحدًا معه، أو أن تعيش وجع
المنفى واغتراب الروح والأرق المكرَّس للأبد، وهذا الوجع والاغتراب والأرق هو
ما يعيشه أغلب الأدباء المنفيين.
ثانيًا: لأن الوطن ليس مكان الذكريات الماضية، ولا حلم المستقبل الذي يأتي ولا
يأتي. لكنه لحظة عشق نختارها حتى الموت، ونرحل نحوها كغرباء ومنفيين.. يكوينا
الشوق، وتنهبنا لهفة اللقاء. وهذه اللحظة العشقيّة قد اختارها أغلب الأدباء
المنفيين.
ثالثًا: لأنهم يعيشون في الشتات أحلام الحرف والوطن والهوية، ويسعون للحرية
وقلوبهم مأسورة هناك بين المحيطين!!
رابعاً وليس أخيرًا: لأنهم يعشقون، وعشقهم أوسع من عيونهم التي تربّي رويدًا
رويدًا طيور العودة إلى الوطن.
وهكذا فهناك أدب مهجريّ وأدب منفيّ وأدب مغترب (وهو أدب مسافر في مجاهل
الإنسانية والكون وفي داخل النفس البشرية نحو حقيقة ما، يبحث عنها الأديب خارج
حدود أرضه ومحيطه وكيانه).
* * *
المراهنة على أدب المنفى:
كيف يمكن للأدب والفنون ـ أي الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والرسم _ أن
تنمو وتنضج في ظل الأنظمة العربية الحالية، التي لا تؤمن بالحوار والاختلاف!!
الثقافة تتطلب الحوار، والحوار ينمو في تربة الاختلاف، لذلك أرى أن المهاجر
الأوربية والأمريكية هي خير بيئة لنمو الثقافة العربية المعاصرة وحصول حوار
حقيقي، بسبب تعدد الثقافات وتنوعها واختلاف الآداب المجاورة للأدب العربي، بشكل
يسمح بلقاء الآخر دون تسلّط واستبداد.
فالأدب العربي المنفي هو رسالة نبوية من أجل أدب عربي ناضج ومتدفق.
* * *
الشرق
الأوسط تفهمه في المهجر:
كذلك يحمل أدب المنفى رسالة نبوية لأنه يسعى إلى فهم الواقع العربي والتعبير
عنه بلا خوف أو تردد، فالأدب في الداخل ما يزال مهددًا بالرقابة والسلطات
الدينية والسياسية، كما أن فهم الوضع العربي يكون أكثر وضوحًا من الخارج. إنّ
الأدب المهجري الحالي ـ إذا وعى دوره ومسؤوليته ـ هو الذي يملك الإمكانيات
والرؤيا لعمل ثورة في الأدب العربي كله.. لأنه يرى أفضل، ويفهم ويستوعب ويهضم،
ويفسر عن بعد، دون أن يضيع في التفاصيل المضللة.
***
الأديب المنفي:
الكاتب لا يعيش في وطن، إنه يرتحل نحو وطن، إنه يؤمن بأن السماء هي الآخرون،
ويعيش الكلمة كوطن.. إنه يفهم الانتماء كحاجة طفولية ويتخطاه، لكنه يبقى يحب أن
يعود إلى حارته يومًا ويسهر على عتبات بيته.
إنه يظن أن نبوة اللحظة الحاضرة هي الانفتاح على الثقافات المتعددة وقلوب
الآخرين،
إنه يحلم بالحرية ليل نهار، ويسافر إلى أرض ميعاده في العيون الصادقة..
إنه الإنسان بضياعه وفرحه وصدقه ومغامرته وجبروته وهزيمته ولوعته وحضارته!!
هذه بعض هواجس الأديب المنفي!!
* * *
اللغة هي الوطن:
حين يكون كل شيء وكل شخص حولك غريباً، أو بالأحرى تكون أنت الغريب وسط كل شيء
وكل حياة، تصير الكلمات رحمًا أخرى تدخلها لتطمئن قليلاً وتستدفئ لبعض الوقت!
بالنسبة للمنفي الشعر حياة ، والقصة تجسّدٌ للجوع الروحي، والرواية سفر في
الماضي والوطن..
الأدب المنفي ظاهرة عالمية يضم أدب المنفى العربي داخل
جناحيه كأحد جراح، لأن الأدب الحقيقي هو الخارج عن الحدود، الناظر من بعيد
لجمال القرية والشاطئ والمقهى، الباحث عن الحقيقة في كل اللغات والعيون
والأمكنة، المتحرر من الجغرافيا.
إنه أدب المنفى بلا وطن لأن اللغة وطنه.. اللغة رحم!! اللغة ولادة!
* * *
التكفير وحرية التعبير:
ظاهرة التكفير واحدة من الأشياء المضحكة المبكية في وطننا.. ويبدو أنها تنتصر
في معظم الأحوال على حرية التعبير.. فالكثير من الكتب الأدبية تمنع من الدخول
إلى بلد عربي أو أكثر. وبالنسبة لأدب المهجر فإنني أتوقع أن معظم الكتب التي
ألّفها أدباء عراقيون مثلاً لم تدخل كثيراً من البلاد العربية.. لكن الأدباء
دائمًا يجدون الحيل لإيصال كلماتهم إلى الناس. فمن تلك الحيل إرسال كتاب واحد
تُنسخ منه مئات أو آلاف النسخ، وتوزع أو تباع بأسعار زهيدة جدًا.. طبعًا كانت
هذه الظاهرة واضحة جدًا في العراق قبل الحرب لأن كل أدب من الخارج محرّم..
يعاني أدباء الداخل من تحديد حرية التعبير أكثر بكثير من أدباء الخارج الذين
يستطيعون طباعة كتبهم في لبنان (حيث الرقابة أقل من بقية الدول العربية) أو في
إنكلترا وألمانيا (هناك العديد من الدور العربية للنشر). لكن الثالوث المحرّم
(الجنس والدين والسياسة) ما يزال يضغط على الأقلام ويحدّد ما يجب أن يكتب وما
يقع داخل دائرة التكفير. وتبقى مشاكل العرب الأساسية (جنون النفط، الأصولية
السياسية، أو الديكتاتورية السلطوية) بعيدة عن التناول، وإن كُتبت عنها مادة
أدبية، لا تصل إلى الجمهور المتعطش لحرية التعبير.
* * *
الأدب العربي القديم:
إن المنفى الأدبي ليس جديدًا تمامًا في الأدب العربي فقد شعر الكثير من الأدباء
العرب عبر التاريخ بمعنى الاغتراب والبعد عن الوطن. واشتاقوا إلى الأمكنة التي
تركوا ، والمنازل التي هجروا.. وهكذا صارت المقدمة الطللية (من الوقوف على
الأطلال) نهجًا تقليديًا استهلت بها المعلقات، وكثير من القصائد العصماء
المشهورة. فها هو امرؤ القيس يبتدئ معلقته قائلاً:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وقوفًا بها صحبي عليّ مطيّهــم يقولـون لا تهلك أسى وتجمّلِ
وإن شفائي عبرة مهــراقة فهل عند رسم دارس من معوّلِ
ومن قصائد الحنين والغربة غير المعلقات نجد بعض الأبيات المشهورة للمتنبي، خاصة
في بلاد فارس حيث يقول:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكنّ الفتى العربيّ فيها غريبُ الوجهِ واليد واللسانِ
كذلك عبّر أبو تمام عن حنينه إلى أرضه وبيته وحبه الأول إذ يقول:
نقل فؤادك حين شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدًا لأوّلِ منزلِ
وحين يبتعد الشاعر عن أهله وأحبائه ووطنه لأنه في سجن أو أسر، فإن القصائد تخرج
ملتهبة دامعة شديدة اللوعة. فها هو أبو فراس الحمداني يسمع هديل حمامة على شجرة
عالية قرب سجنه في بلاد الروم فيتذكر الأهل والوطن ويقول:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا، لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم
تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكُت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالِ
وفي الأندلس، المهجر العربي القديم، نسمع الأمير عبد الرحمن الداخل من القرن
الثامن يقول بعد أن نظر إلى نخلة فهاج شجنه وتذكر وطنه:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن
بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي
ولما عاد ابن عبد السلام الخشني إلى الأندلس ـ بعد غياب خمس وعشرين سنة (كما
يحدث لكثير من الأدباء المهجرين المعاصرين) ـ شعر كأنه لم يرحل ولم يغب قط عنها
لأنها بقيت في قلبه وضميره ليل نهار. يقول:
كأن لم يكن بينٌ ولم تكن فرقة إذا كان من بعد الفراق تلاقِ
كأن لم تؤرق بالعراقين مقلتي ولم تمر كفُّ الشوق ماء مآقي
وأختتم هذا المقطع بنونية ابن زيدون الذي اكتوى بنار الهجر والسجن والبعاد عن
الوطن:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
* * *
الأدب المهجري في أوائل القرن العشرين:
لم تكن الهجرة الأدبية والفكرية إلى أميركا مقتصرة على اللبنانيين، فهناك
جماعات سورية وفلسطينية أيضًا ومهاجر أخرى مثل كندا ودول أميركا اللاتينية
كالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا. هناك تشابه واضح وجميل بين الأدب المهجري في
العصر الحديث والأدب الأندلسي في القرن السابع الميلادي. لكن اختلافًا واضحًا
أيضًا بين الأدبين يكمن في أسباب الهجرة. ففي الأول كان السبب العامل السياسي
المتمثل في اضطهاد الحريات أيام الحكم العثماني بالإضافة إلى الصعوبات
الاقتصادية وضيق المعيشة. أما الأدب الأندلسي فقد نشأ من هجرة القبائل والجيوش
العربية إلى بلاد إسبانيا بعد الفتح الإسلامي حيث لم يكن هناك اضطهاد سياسي ولا
ضيق اقتصادي. لقد بلغ عدد المهاجرين بين عامي1889ـ 1919 نحو ستين ألفًا، وكان
أول مهاجر عربي هو أنطون البشعلاني اللبناني الذي هاجر عام 1854 إلى أميركا
الشمالية ومات بعد سنتين من هجرته. أما أول أديب هاجر إلى الأرض الجديدة فكان
ميخائيل رستم والد الشاعر أسعد رستم. وبلغت موجات الهجرة قمتها عام 1913.
* * *
الجماعات الأدبية العربية في المهجر بداية القرن العشرين:
* الرابطة القلمية:
أنشئت هذه الرابطة في نيويورك في 3 نيسان عام 1920 بدعوة من الأديب عبد المسيح
حداد (1890ـ1963) صاحب جريدة «السائح» ومؤلف كتاب «حكايات المهجر». وقد أصبحت
جريدة السائح لسانها الناطق، فصدرت أعداد ممتازة منها تصور الحياة الأدبية في
المهجر. كذلك يعتبر كتاب الغربال لمخائيل نعيمة الصادر عام 1923 ممثلاً لأفكار
الرابطة وروحها التجديدية.
* العصبة الأندلسية:
قامت في المهجر الأمريكي الجنوبي عام 1922، في البرازيل بمدينة سان باولو، وكان
مؤسسها الشاعر القروي. وقد اتسمت هذه الحركة الأدبية بالهدوء والاتزان
والتقليدية فلم تُنتقد كشقيقتها الرابطة القلمية المجدّدة والثورية.
أنشأت العصبة الأندلسية مجلة أدبية حملت اسمها وضمت الكثير من الشعراء والكتاب.
* رابطة منيرفا:
أسسها الشاعر المصري المهجري د. أحمد زكي أبو شادي عام 1948 في نيويورك، وكان
رئيسها، وانتهت بوفاته، وليس لها أثر كبير في الشعر المهجري.
* الرابطة الأدبية:
أنشئت في الأرجنتين عام 1949على يد الشاعر جورج صيدح، واختفت بعد عامين إثر
عودة صيدح إلى الوطن.
* * *
هواجس المهجريين:
في قصيدة المواكب لجبران نرى سعي الإنسان إلى السعادة والخلود في عوالم أخرى
غير التي يقترحها الشاعر، وهي الغابة، حيث الانعتاق من المحدود ومعانقة المطلق
في فرح الراعي على أنغام الناي التي تجسد وتجمع في ذاتها الكون كله.
وهكذا نجد أيضًا عند إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة هذا النوع من السعي إلى
الخلود عن طريق الفلسفة الروحانية المعتمدة على البساطة والعيش في الطبيعة
والاتحاد بنغمات الكون الأزلية..
لكن الجواب ليس واضحًا دائمًا فأبو ماضي يعيش اللا أدريّة في لحظات طويلة من
حياته، كما أن نعيمة وعريضة يبحثان عن الإنسان ومعنى وحدته وضياع طريقه.
وتبقى الروح الصوفية والنزعة الإنسانية والطبيعة الشفافة لكل أعمال هؤلاء
المهجرين واضحة ومشعة وموحية عبر الزمن. إنهم في بحثهم عن معنى الوجود خارج رحم
الوطن، وتلمسهم قرارة العدم
واللا معنى، يصلون رويدًا رويدًا إلى حقيقة الصداقة والحب، حيث لا يعود الحنين
هربًا إلى الماضي بل غذاءً روحيًا مخصبًا ودافعًا لطيفًا نحو الوطن الأكبر، قلب
الإنسانية.
إن الأدب المهجري شكل مدرسة متكاملة رومانطيقية، أساتذتها هؤلاء الشعراء
المتمردون المفتشون عن الحرية والمعنى، المغتربون في عالم آخر خارجي وعوالم
كثيرة داخلية ، حيث السفر إلى العمق يتطلب جهدًا أكبر من العودة إلى الوطن
الجغرافي، وحيث اكتشاف الذّات قد انطبع لديهم بنزعة صوفية وفلسفية متأثرة
بالتيارات الفكرية المعاصرة لهم.
* * *
يقول توفيق الحكيم، الروائي المصري المعروف:
"أدبنا الحديث أدب مراحل بل أدب موجات متداخلة، فالموجة الأولى سورية. قد
اندفعت من سوريا ولبنان وهي موجة يمكن أن ندعوها بالكلاسيكية الجديدة، بعثت
الحياة في الأدب عن طريق تلقيحها الأسلوب القديم ببعض الفكر الغربي، وهي موجة
أنتجت الشدياق واليازجي وفرح أنطون. وأخرجت في مصر بعض شعراء الجيل الأسبق
وكتابه. ولعل الرمز الأكمل هو تعريب البستاني للإلياذة. والموجة الثانية
أميركية وهي التي انطلقت من المهجر. ففي المهجر، للمرة الأولى في أدبنا الحديث،
ولدت المدرسة الرومانتكية العربية وانبجس الشعر الغنائي والنثر الصوفي، حاملاً
نسيم لبنان إلى الحضارة الأميركية ممثلاً في الريحاني وجبران ونعيمة وأبي
ماضي."
وأضيف هنا إلى مقولة الحكيم: "والموجة الثالثة عراقية خصوصًا في مجال الشعر
وابتدأت في الستينات وحملت راية التجديد عبر العقود الماضية متمركزة بشكل خاص
خارج العراق وأغلبها في المنافي الأوربية."
* * *
خصائص الأدب المهجري:
يغلب الطابع الإنساني (كالحنين ومحبة الوطن)، والقيم الفاضلة (كالحرية
والانفتاح على الآخر)، على الأدب المهجري منذ نشأته في بداية القرن العشرين
وحتى اليوم، رغم تغير التوزع الجغرافي للأدب وبروز الوجه العراقي بشكل واضح .
فإذا كان الأدب المهجري في السابق في القارة الأميركية بشكل غالب وبألسنة
لبنانية وسورية ، فإنه حاليًا يتمركز في أوربا وبأغلبية عراقية.
هذا الأدب المهجري الحالي هو أدب منفتح على الثقافات الأخرى وناضج ومتحرر
ومتفاعل مع الحضارات المجاورة.
ورغم غلبة السريالية في الشعر إلا أن هناك الكثير من التأثر بالرومانسية
الفرنسية، والكلاسيكية العربية. أغلب الشعراء المهجريين الحاليين يكتبون نوعًا
من القصيدة النثرية، وبعضهم يكتب قصائد موزونة " قصيدة التفعيلة" ، ونادرون من
حافظوا على القصيدة العمودية. أما الروائيون فما يزالون يكتبون عن الوطن
والحنين، وعن المنفى والعزلة، وعن الحرب والموت والفشل، وقد تطور هذا الشكل
الأدبي كثيرًا عن بدايات القرن العشرين وصار يزاحم بقوة الأشكال الأخرى خاصة
الشعر. فالرواية العربية المهجرية شكل أدبي جديد ظهرت في النصف الثاني من القرن
العشرين بشكل أساسي. أما قبل ذلك فكان هناك محاولات بسيطة ومتواضعة مثل رواية
«من المهد إلى اللحد» لأنطون شكور الذي كان يقيم في البرازيل. ورواية نظير
زيتون «ذنوب الآباء». ورواية «في سبيل الحرية» لإلياس قنصل. وبعض المسرحيات مثل
مسرحية «الآباء والبنون» لميخائيل نعيمة ومسرحية «ابن حامد» لفوزي المعلوف.
* * *
من خصائص الأدب المهجري الحالي موضوع الحرية والتحرر، بصياغات مختلفة متنوعة،
وروح تقدمية منفتحة مصغية وإنسانية. إن هذه القيم العميقة كالبحث عن الوطن
والمعنى والحقيقة ، والشوق إلى الديمقراطية والعدالة والأخوة والمساواة ، بروح
وطنية صادقة واحترام لحقوق الإنسان الأساسية، أقول إن هذه القيم سيكون لها
طابعها الخاص وتأثيرها الإيجابي على الأدب العربي عبر العقود القادمة. وإن
الألم الذي يعانيه الأدب المنفيّ سيكرّس هذه القيم للأبد في قلب تاريخ الأدب
العربيّ.
الأدب المهجري أدب مهموس (كما يسميه الناقد الدكتور محمد مندور) لأنه عميق
وواقعي ومرتبط بالحياة وليس فيه الخطابية والسطحية الثقافية.
ويقول جورج صيدح (أحد الأدباء المهجريين): لقد طبعت شمس الغرب ألوانها على
أوراق الأدب المهجري.. أما لبّه فيحيا على إشعاع الشرق، وقلبه يختلج بنسمات
الصحراء... ويجعل الموهبة الفطرية لا الثقافة هي مفتاح السرّ في تفوّق أدب
المهجر، مع الجد والاجتهاد والتأمل العميق. تنطبق هاتان المقولتان على الأدب
المهجري الحالي بشكل واضح وصادق وتنطبقان على أدب المنفى العالمي بشكل عام ،
لأن هذه الظاهرة الجديدة، أعني ظاهرة المنفى، لم تقتصر على العرب في العقود
القليلة الماضية بل شملت شعوبًا كثيرة وبالتالي أدباء كثيرين.
* * *
الحياة المهجرية:
يعيش الكثير من الأدباء العرب في المهجر أو المنفى حياة صعبة ويضطرون للعمل في
المطاعم والمحلات التجارية ومحطات البنزين لكسب المعيشة وتوفير ضروريات الحياة،
وهذا مشابه إلى حد بعيد بوضع الأدباء المهجرين في أوائل القرن العشرين (كما
نقرأ في كتاب «المغتربون» لعبد اللطيف اليونس، وكتاب «ذكرى الهجرة» لتوفيق ضعون).
بالمقابل هناك نجاحات المغتربين في كافة المجالات حيث عملوا في كل حرفة وأبدعوا
في كل علم تمامًا كحال المهجريين الحاليين الذين حازوا على جوائز كثيرة في
مجالات الأدب والاقتصاد والعلم.
لقد عاش المهاجرون في الماضي جماعات يكونون جاليات عربية ، ومن الناحية الأدبية
كانت نيويورك في بداية القرن العشرين أهم الجاليات الأدبية. بالمقابل تشكل
باريس ولندن حاليًا أهم المراكز الأدبية والثقافية العربية ، وليس هناك جالية
عربية أدبية قوية في أميركا (باستثناء قليل من الأدباء الموزعين على الولايات
الأميركية ولديهم علاقات عرضية فيما بينهم).
تغير أيضًا التوزع الجغرافي بالنسبة لأميركا الجنوبية حيث لا نجد حاليًا أي
أديب يكتب بالعربية في كل القارة الأميركية الجنوبية (باستثناء الشاعر اللبناني
قيصر عفيف الذي يعيش في المكسيك) بينما كانت أميركا الجنوبية حافلة بالأدباء
المهجريين مثل جورج صيدح، رشيد سليم الخوري، نظير زيتون، شفيق معلوف، فوزي
معلوف، إلياس فرحات، إلياس قنصل، زكي قنصل، شكرالله الجر، نعمة قازان، حبيب
مسعود، توفيق ضعون، وغيرهم. كذلك أسس المهجريون النوادي الأدبية والجماعات
الأدبية المختلفة، والمطابع العربية، والصحف والمجلات العربية (أول صحيفة عربية
ظهرت في المهجر الأمريكي كانت "كوكب أمريكا" عام 1892، أصدرها إبراهيم ونجيب
عربيلي).
* * *
فسيفساء الأدب المهجري:
رغم الحضور القوي والغامر للشعر العراقي الذكوري في المشهد الأدبي المهجري
المعاصر، إلا أن هناك تلوينات وتنويعات مختلفة ومهمة ومتعددة تعطي المشهد العام
شكل فسيفساء عربية راقية رائعة..
فالأصوات النسائية من الأقطار العربية المختلفة والمهاجرة لأسباب مختلفة تعطي
توازنًا ضروريًا للاستمرار، كذلك حضور اللون القصصي واللون الروائيّ الناضجين
يعطي اللوحة جمالاً خاصًا يقرّبها من الكمال.
وإن الأقلية الأدبية من شمال أفريقيا تخلق مع كل ما سبق أدبًا مهجريًا متناغمًا
متجانسًا بألوان متنوعة متناسقة تشكل معًا لوحة الأدب المهجري المعاصر.
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
كثيرون يكتبون خارج بلادهم
فهل يصح الحديث عن أدب مهجري جديد؟
تحقيق بقلم الكاتب: اسكندر حبش*
لو حاولنا اليوم، أن نقوم بلعبة صغيرة، تتمثل في إحصاء عدد الكتّاب العرب الذين
يعيشون خارج بلادهم لوقفنا مندهشين فعلا، أمام العدد الكبير الذي يظهر أمامنا.
كأن كل شيء يوحي بأن المجتمعات العربية <آيلة إلى السقوط والزوال>. من هنا حركة
الهجرة الكثيفة هذه، التي تملك أسبابها المتعددة.
بالتأكيد، قد تختلف أسباب الرحيل عن مسقط الرأس بين شخص وآخر. ففي مواجهة
الحالة العراقية مثلا (التي نفهمها في ظل النظام القديم)، تقف حالات أخرى
متنوعة الأسباب، وهي تمتد إلى مختلف الجنسيات العربية الأخرى.
في جميع الأحوال، لا بد أن نذكر أن <مواسم الهجرة> عندنا، لم تكن وليدة
<الأزمنة المعاصرة>. فلو عدنا بالذاكرة إلى الوراء القريب، لوجدنا أن القرن
التاسع عشر حمل في طياته بذور هذه الحالة، وبشكل مكثف. رحل الكثيرون يومها هربا
من الاضطهاد العثماني بحثا عن الحرية. هرب الكثيرون أيضا بحثا عن لقمة العيش،
وتجنبا للمجاعة. لكن ثمة اختلافات حالية تكمن في أن الهجرة لا تقتصر، بنسبة
كبيرة على اللبنانيين، مثلما كان الأمر في الماضي، إذ نجد كما قلنا العديد من
الجنسيات العربية المختلفة. كما أن مدى الانتشار، لم يعد مقتصرا على
الأميركيتين مثلما كانت العادة بل تخطى الأمر جميع الحدود المعروفة، ليشمل جميع
البلدان من دون استثناء. لم يعد هناك من مركز واحد، بل لنقل في كل بلد، أصبحنا
نجد مراكز متعددة ومختلفة.
وبين ذلك كله، أين يقف الأدب العربي المعاصر من هذه القضايا؟ لنقل بداية، إن
واحدة من أكثر الحركات الثقافية تأثيرا، في آدابنا المعاصرة، كانت حركة الأدب
المهجري، عبر <الرابطة القلمية> (في أميركا الشمالية، الولايات المتحدة)
و<العصبة الأندلسية> (في أميركا الجنوبية، البرازيل تحديدا). عديدة هي الأفكار
الجديدة التي غذّت الأدب العربي، في بداية القرن العشرين، كانت نابعة من هذا
الاتصال المباشر بالآخر، مع هذا المكان الجديد الذي أنتجت منه حركة أفكار
كبيرة. وإلا كيف نفهم، على سبيل المثال لا الحصر، المقدمة التي كتبها أمين
الريحاني لديوانه <هتاف الأودية> (العام 1905) والتي تحدث فيها عن الشعر
الجديد، المنثور، متأثرا بكلامه بالشاعر الأميركي والت ويتمان؟ بالإضافة إلى
العديد من الموضوعات الاجتماعية التي شكلت يومها أدبا اجتماعيا، ملتزما، إذا
جاز التعبير، بقضايا الناس الذين يعيشون في الوطن الأم.
نقطة التأثير هذه، يتناولها الشاعر العراقي شاكر لعيبي، (المقيم في سويسرا)
بالقول: <نلاحظ أن التلاقح مع مصادر أجنبية، إلى جانب المراجع التاريخية للشعر
العربي، قد قاد إلى إحداث تغيرات جمالية بارزة في الشعر العربي، إذا لم نقل
قطيعة إبستمولوجية. هكذا سينقاد الشعر عبر قراءة ما للشعر الإنكليزي سنوات
الأربعينيات إلى ولادة الشعر الحر على يد الملائكة والسيّاب والبياتي وغيرهم،
وفي الستينيات قادت قراءة الشعر الفرنسي في لبنان إلى انبثاق ما يسمى الآن
قصيدة النثر، وأوصلت قراءة عميقة للشعر الروسي إلى (القصيدة المدوّرة) على يد
حسب الشيخ جعفر، وقاد الانحناء على الأدب البريطاني والفرنسي والألماني إلى
تحولات شعرية ونثرية عند أكثر من شاعر عراقي في العشرين سنة الأخيرة. وفي هذا
الإطار يتوجب في يقيننا النظر إلى الأساسيّ من الشعر العراقي المكتوب خارج
العراق مثلا>.
إزاء ذلك كلّه، أي إزاء هذه الهجرات الكثيفة التي نعرفها اليوم، هل تأثر الأدب
العربي الحديث بذلك؟ أي هل هناك اليوم أدب مهجري جدي؟ هل يلعب المكان الجديد
دورا في الكتابة؟
وفق هذه الآلية، حاولنا أن نطرح سؤالا على عدد من الكُتّاب العرب <المهاجرين>،
مفاده: <الأدب، بمعنى من المعاني، هو أيضا ابن مكانه ومجتمعه الذي ينشأ فيه.
أنت أحد الذين غادروا مكانهم الأول، ليعيش بعيدا عنه منذ سنين عديدة. ربما تصح
تسمية المنفى، لكن لنسمي ذلك <مهجرا> جديدا، من هنا ثمة سؤال يطرح نفسه اليوم:
هل هناك أدب عربي مهجري جديد؟ إلى أي حد لعب المكان الجديد في صوغ كتابتك؟>
يقول الشاعر الكويتي محمد جابر النبهان (يقيم في كندا): <بداية أستطيع أن أقول،
هناك ملامح لأدب مهجري جديد وهذا ما نسعى إلى تقصيه وبحثه ودراسته من خلال
إطلاقنا مؤسسة <جذور> في أميركا الشمالية كمؤسسة تعنى بالأدب المهجري الجديد.
في المهجر ثمة أدب له ميزة خاصة، لو رصدناه نقديا بشكل مدروس، لثبت لدينا ما
يمكن تسميته بأدب مهجري جديد. إن تسمية منفى هنا لا تصح كثيرا واتفق على
تنحيتها، لأن <منفى> لها تبعاتها السياسية الكثيرة، وأنّ المنفيّ شخص خارج برسم
العودة ريثما يتغير وضعه أو وضع البلد. أما المهاجر فأسبابه كثيرة وحسابات
العودة والعيش في الخارج متعددة، لهذا يوجد فرق كبير بين المفردتين ومن ثم
المصطلحين.
قد يكون موقف الشاعر العراقي خالد المعالي (يقيم في ألمانيا) مخالفا كثيرا
لموقف زميله النبهان، إذ يجد: <الأدب هو الأدب، يكون أو لا يكون ويكتب أينما
كان، التسميات تعني بما هو خارج ولا تخص الجوهر. أتيت إلى أوروبا شابا يافعاً،
ولكني ما زلت اكتب فيما أكتب عن مكاني الأول، ويجب عليّ أن أتأثر بالأمكنة
الأخرى، بمجتمعاتها، بلغاتها! وأعتقد بان من لا يتأثر اثنان: واحد لم يغادر
وآخر غادر ومعه خيمته، وهما ربما في الحصيلة النهائية لا شيء لديهما يتعرّض
للتأثير! استطعت في ظلال لغات وثقافات أخرى ان أرى مكاني ومجتمعي ولغتي بطريقة
أخرى، ربما انفلت من ضيق الأفق والرقابة التلقائية التي كانت ستتحكم بكتابتي لو
بقيت هناك! وهذا لا يحول أدبي إلى أدب مهجري أو أدب منفى... الى آخر ما هنالك
من افتراضات يُتحدث عنها أو يلجأ إليها هذا وذاك من أجل إبراز هول المعاناة.
وهذه موضوعة كما هو معروف لا علاقة لها بالأدب!>
تشدّد الشاعرة السورية جاكلين سلام (المقيمة في كندا) في كلامها على تأثير
المكان في قصيدتها، فهي تجد أنه: <في كندا، المكان الذي أقيم فيه أجد أن أوائل
الأدب الكندي كتبه مهاجرون من العالم ولكل خصوصيته. وباطلاعي على ما كتبه
هؤلاء، أجد تفاصيل المكان وتاريخه. ويمكنني القول إن ما يكتبه الشاعر الآتي من
أحزان سراييفو، له ثيمة وبنية وعجينة تختلف عما كتبه الشاعر وديع سعادة، حيث
نجد العلاقة بالمكان قائمة من خلال <النافذة> التي تأخذه إلى شتلة الحبق على
عتبة بيت الطفولة، عربات الذاكرة، والوجوه الأخرى التي يغص بها الشارع الفرنسي
المقابل، هكذا تهطل البلاد كلها في النص <بسبب غيمة على الأرجح!
وتمضي بالقول: <النافذة، وجدتها حاضرة في قصيدتي أيضاً، وبمواصفات تكنولوجية
وامكانية مغايرة. والآن أتأمل علاقة <نصوصي> بالمكان، فأجدني أطقطق على
الكيبورد، بينما العاصفة تلعلع في الشباك وتدخل من <زيق> الباب، لتبعثر كمشة
الأوراق الصامتة، ويقاطعني إيميل صديقة سورية. وهكذا تشعر قصيدتي! أجدها مكتوبة
بالثلج وبدرجات الحرارة، وفيها العواصف والكوارث الطبيعية، والسنجاب. فيها ركن
للغة الأولى والثانية، تقترح تمارين للإقامة في الجوار برفقة بائع الهوت دوغ،
تقض راحتها مستحقات أول الشهر، كلمات صديق مهاجر لم ينتحر، مقتبسات شاعر كندي
منتحر، وتحضرها الذاكرة والمطبخ الشرقي والوقت الضائع إلى جوار أحذية ونايات
ومكانس وتلك <الجيم> التي تخط أسطورتها الشخصية، وفيها أنا وأنتم والمسافات.
المكان حاضر بدوره في قصيدة الشاعر العراقي فضل خلف جبر (المقيم في الولايات
المتحدة)، إذ يجد: <نعم..لعب المكان الجديد، ويلعب، دورا هاما في تحفيز لوامسي
الشعرية. إننا نتحدث هنا عمّا يمكن أن تجنيه حواسك ومألوفك البصري ممّا لم
تعتده. الشعر هو ابن الدهشة، ولا يمكن أن يكون هناك شعر من دون توفر عنصر من
عناصر الإدهاش. قد يكتب الأديب ما يشاء، لكن حين يكون الحديث عن النص
الاستثنائي، فلا بد من وجود وفر شعوري استثنائي. فعلى الرغم من أنني شهدت في
حياتي هجرات متعددة ومتداخلة عموديا وأفقيا، إلا أن تجربة الانقطاع كليّا عن
المألوف البصري المرتبط بالبيئة الأصلية؛ كان لها الدور الحاسم في تغيير آليات
الاستقبال، ومن ثم الإنتاج لدي>.
بدوره، يرى شاكر لعيبي أن هناك <تعالق معلن بين المكان والكتابة من دون شك. ومن
بين كل العناصر الفاعلة التي يمكن التطرق إليها، التشبع بمفرداته، بمناخه،
بثقافته. مثلا، أتوقف عند عنصر واحد هو اختلاف المرجعيات الشعرية. لم تعد
مرجعيات الشعر المكتوب في هذا المهجر الجديد (أو <المنفيّ طواعية> وهي عبارة
تعلن عن مفارقة ذات منطق داخلي) هي ذاتها مراجع الشعر العربي المكتوب في
الثقافات المحلية العربية المتشظية. اسمح لي أن أقول كلمة عن مفردة المهجر: لا
أحب المفردة لأنها تكاد تفوح بخيار صالح في الذهاب إلى مكان جديد وهو ليس حال
غالبية الشعراء العرب في العالم، وهي مفردة تذكرني من جهة أخرى بالأدب المهجري
اللبناني الفواح بالبهجة والألم الرومانسيين، في حين ليس هناك ذات النوع من
البهجة والألم في واقع الشاعر العربي المغترب في لحظتنا.
الشاعرة اللبنانية آمال نوار (المقيمة في الولايات المتحدة) تجد أن تعبير الأدب
المهجري لم يعد له من مكان في حياتنا المعاصرة، تقول: <مع ما نشهده في زمننا
الراهن من مظاهر العولمة، ومن تطور في وسائل التواصل الإنساني والمعرفي، أرى
أننا بتنا ملزمين اليوم بوقفة تأمل ملحّة وعميقة أمام تسميات وتصنيفات وتعريفات
عدة، هي وليدة إرثنا الثقافي وما كانت عليه مقومات وطبيعة حياتنا حتى ماضٍ
قريب. ففي المجال الإبداعي، نجد أن تصنيفات مثل: أدب مهجري أو نسائي أو ملتزم
أو غيرها، لم تعد لتناسب في ما تحمله من دلالات المعطيات الجديدة لحياتنا
المعاصرة، وخصوصاً في ظل ما شهدناه/نشهده من تطورات ومتغيرات طرأت على
مجتمعاتنا العربية وعلى الإنسان المعاصر، وخصوصاً في مسألة علاقته بثنائية
المكان والزمان.
لا شك في أن الانفتاح المعرفي للإنسان المعاصر بما يقترحه عليه من اهتمامات
وتطلعات، بات ذا طبيعة كونية شمولية، ولم يعد محصوراً بموقعه الجغرافي أو إرثه
أو دينه أو عرقه أو جنسه. إن تسمية <أدب مهجري> لم تعد لتعبّر بدقة عما تصفه.
ولو ألقينا اليوم بنظرة خاطفة على ما يكتبه مثلاً، شعراء المهجر والوطن العربي
على حد سواء، لوجدنا أن دور عامل المكان الجغرافي في صوغ اهتمامات كل منهم،
وأسلوبه في بناء القصيدة، ومفهومه للشعر، ورؤياه المستقبلية وما إلى ذلك، ليس
فاعلاً بالقدر الذي يبيح لنا اعتماده كأساس متين لتسمية أو لصفة نطلقها على هذا
الإنتاج أو ذاك. هذا بالطبع لا ينفي أن يكون للمكان دور في صوغ الكتابة
المعاصرة، إلاّ أن تأثيره لم يعد عمودياً إلى درجة نراه معها ينفذ إلى الجذور
ويتحكم بمصادر نسغها أويقلبها رأساً على عقب. ولعل جذور الكتابة المعاصرة لم
تعد في الأرض وحدها بل وفي السماء أيضاً.
*اسكندر
حبش: شاعر وصحافي لبناني.
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن السفير15/5/2006
الأدب المهجري ورائده
إيليا أبو ماضي
بقلم الكاتب:
د. وليد مشوِّح
يتناول هذا المصطلح دراسة الأدب الذي خلّفه لنا أبناؤنا المهاجرون إلى الشمل
والجنوب الأمريكي، علماً أن تأثيرات المكان كانت واضحة في أدب أولئك المرتحلين
إلى المهاجر الأمريكية.
والهجرة في الشعر العربي تجلّت منذ أقدم عصور الشعر الجاهلي، ومن يقرأ شعر
العصور المتعاقبة؛ يجد أن الهجرة تحولت إلى موضوع رئيس في الشعر عبر عصوره
المختلفة. ولامية العرب (كما اصطلح على وسمها) تمثّل خير تمثيل تجليات موضوعة
الهجرة في الشعر العربي. فقصيدة الشنفرى التي تبدأ بـ: (أقيموا بني أمي صدور
مطيَّكم..) تحمل إحساساً عاطفياً يُجَسِّد الحنين إلى المكان، ويفصح عن عواطف
الشاعر المبدع تجاه دياره وهو بعيد عنها. إذن؛ الهجرة كانت وما زالت تمثّل
الحاجات الظرفية المحيطة بالإنسانية، ولم يخل أدب من آداب الشعوب من عنصر
الهجرة، كما مثلّته لامية العجم للطغرائي: (.. فإن العز في النُقَلِ...) "أي
التنقل والتجوال".
كذلك بدت الهجرة واضحة في قصيدة ابن زريق البغدادي، وعند أبي تمام وغيرهما من
شعراء المشرق والمغرب العربيين.
أما الهجرة في الأدب العربي الحديث، فقد أضحت أكثر تنظيماً وفهماً وتمثلاً
للغايات التي بدأت من أجلها، حيث طبعت الإبداع الذي صاغه المهاجرون المبدعون
بطابع الحنين إلى الوطن الأم، حيث بدأت الهجرة سنة 1854 واستمرت بشكل إفرادي
غير لافت.
ومن أسباب الهجرة تلك العوامل الاقتصادية التي كانت تسود بلاد الشام آنذاك،
كذلك كان للظلم السياسي والقهر الاجتماعي أثره في تنامي حركة الهجرة إلى خارج
الوطن، ناهيك عن نزعة حب الاطلاع، والمغامرة، والحلم حيث اندفع الكثيرون لهجرة
أوطانهم والبحث عن عوالم جديدة هي أرحب من العوالم التي يعيشون فيها.
لقد لاقى المهاجرون الكثير من الآلام والعنت، فانطبع ذلك في شعرهم، فتركوا لنا
فيضاً من الشعر الذي يحمل آهات الإنسان المبدع الرقيق المتعلق بتراب وطنه،
وشعوره بالغربة الروحية واللسانية في الديار الجديدة التي استوطنها.
علماً أن أهل الشمال (المهاجرين غلى الشمال الأمريكي) كانوا يتمتعون بوضع أفضل
من أقرانهم المهاجرين إلى الجنوب الأمريكي، لأن الفئة الأولى هاجرت بناء على
المحاصصة التي سنتها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لأهل القارات، وكانوا من
أبناء الطبقات البرجوازية والعائلات المعروفة، وتوجهوا إلى الموطن الجديد وهم
في مُكنة من اللغة الإنكليزية، أما مهاجرو الجنوب فكانوا من أبناء الطبقات
المسحوقة، فجاءت هجرتهم كيفية، وفي دواخلهم رغبة في كسب الرزق نتيجة لكدحهم
وكدّهم من أجله، ولم يكونوا يعرفوا من لغات الجنوب حرفاً واحداً، فعملوا في
المهن الدونية المُرهِقة.
إن اللافت للانتباه؛ هو تعليل الشعراء لأسباب الهجرة قبل الوصول إلى مواطن
الاغتراب، ومن ثم نوحهم وجئيرهم بالشكوى بعد التموضع في المهاجر.
فإيليا أبو ماضي يسوغ الهجرة قبل احتمال تبعاتها بقوله:
لبنان لا تعذل بنيك إذا همُ
ركبوا إلى العلياءِ كلَّ سفينِ
لم يهجروك ملالة... لكنهم
خُلقوا لصيد اللؤلؤ المكنونِ
لمّا وَلِدّْتَهمُ.. نسوراً حلّقوا
لا يقنعون من العلا بالدونِ
الأرض للحشرات تزحف فوقها
والجو للبازيِّ والشاهينِ
وعندما وصل إلى الأرض الجديدة (أمريكا) غيّر وجهة نظره، واستدار، فقال:
نحن في الأرض تائهونَ كأنّا
قوم موسى في الليلة الليلاءِ
ضعفاء، محقّرون، كأنّا
من ظلام والناسُ من لآلاءِ
... واغتراب القوي عزّ وفخر
واغتراب الضعيف بدءُ فناءِ
كذلك هو رأي الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري)، الذي يصوغ الحالة النفسية التي
باتت تتنازعه، فهو يتأرجح بين الإصرار على طلب الرزق والبقاء يتقلب على نار
القتاد، وبين غلبة الحنين ولوعة الفراق على الذات الشاعر، فتحدثه نفسه بالعودة
للالتحاف بسماء الوطن، فنجد ذلك جلياً في نص شعري واحد، يبدأ بالتردد، وينتهي
بوصف الحالة الجسدية والنفسية في المهجر.. وفيها يقول:
ناءٍ عن الأوطان يفصلني
عمّا أحبُّ البرُ والبحرُ
في وحشة لا شيء يؤنسها
إلاّ أنا والعودُ والشعرُ
حولي أعاجمُ يرطنون فما
للضادِ عند لساتهم قَدْرُ
ناسٌ.. ولكن لا أنيس بهم
ومدينةٌ.. لكنها قَفْرُ
أما إلياس فرحات؛ فيتذكر ـ وهو يعيش على الجوع والطوى، ويتمنى لو أنه لم يهجر
وطنه ـ أهله وخلاّنه، وهم يتحلقون معاً حول مائدة الطعام، ويرى في هذا التواصل
قمة إنسانية، لا يعرفها مواطنو الأرض الجديدة.. فيقول:
هنيئاً لكم حول الخوان اجتماعكم
وصاحبكم يطوي الفيافي بلا زادِ
وعندكم الماءُ النمير مسيله
جزاف على وجه الثرى.. وأنا صادي
وأودكم في (الجوخ) تدفى جسومهم
فما همّكم أن يقتلَ البردُ أولادي
ويعلن نسيب عريضة ندمه إزاء الخطوة المتعجلة التي خطاها، والقرار المتهور الذي
اتخذه تحت ظرف مادي قاس، حيث سارع إلى الهجرة ولاقى ما لاقاه من قهر وعنتٍ
واستلاب؛ فيقول:
ظلامُ الليل قد جَنّا
وبوقُ الهمِّ قد رَنَّا
فنم يا طفل لا يَهْنَا
غنيٌّ باتَ شبعانا
ألا.. يا هَمُّ يكفينا
لقد جَفّت مآقينا
لو أنَّ الدمعَ يغذونا
أكلنا بعض بلوانا
هذه المُسحة التشاؤمية، والألمُ العاصف، والقهر المدمّر، تعم شعر شعراء المهجر
الأوائل، الذين مضوا مع أحلام أنوية، تنصب على المال والجاه، وتقليد الآخر
المتمدين، ولم يحققوا أي شيء من الحلم الذي مضوا من أجله، ولم يصبهم منه إلا
الآه والحسرة.
يقول ندرة حداد في هذا الصدد:
وقفت مطايانا.. فليس لها
حادٍ وليس بنافع زجرُ
لم يبق إلا الشعر نسكبه
خمراً إلى أن ينتهي العمرُ
يا.. ويحَ أهل الشعر كم شبعوا
جوعاً وكم سكروا ولا خمرُ
والشعر الذي ينسج على هذا النوال في المهجر؛ كثير جداً، فهو ينتقل من الحنين،
إلى الوصف، إلى التحليل النفسي، إلى رسم صورة الشقاء، وصروف الدهر، وفي هذا
يقول مسعود سماحة:
كم طويت القفار مشياً وحملي
فوق ظهري يكاد يقصمُ ظهري
كم قرعت الأبواب غير مبالٍ
بكلال وقرِّ فصل وحرِّ
كم توغلت في البراري وقلبي
سابح مثل زوَرق فوق نهر
كم تعرضت للعواصف حتى
خلتُ أن الثلوج في القفرِ قبري
كم توسدت صخرة وذراعي
تحت رأسي وخنجري فوق صدري
هي ذي نماذج من الشعر المهجري تبني عن احتفائه بإنسانية الإنسان من خلال الغوص
في العمق الذاتي لـه، والإبداع في تصوير حالته الخارجي، مما أضاف إلى الشعر
العربي بكلتيه أبعاداً جديدة، ومنحه طعوماً ونكهات، أكدّت المقولة القديمة
الجديدة: أن العرب أمة شاعرة بالفعل.
أركان الشعر العربي المهجري في الشمال والجنوب، وأبرز سماته:
لست بصدد تقديم بيبلوغرافيا عن شعراء المهجر وأدبائه، قد كفتني كتب ومؤلفات
ودراسات كثيرة تناولت هذا الركن الهام فأشبعته درساً ونقداً وتاريخاً وتحليلاً،
وإنما أردت نمذجة الشخصيات التي أرى فيها تمثيلاً أصيلاً وحقيقياً لأدب المهجر
عموماً بشماله وجنوبه.
فمن أبرز أدباء الشمال الأمريكي المهاجرين: جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة،
ومسعود سماحة، وأمين الريحاني، وأضرابهم من مبدعي الأدب المهجري.
أما اللافت للانتباه في تركيبة أدباء الجنوب الأمريكي المهاجرين، فهي السلسلة
العائلية أو الأسرية التي تمثلت في عائلة رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)،
وعائلة المعلوف، وعائلة قنصل، وعريضة، وصيدح، وحداد وأضرابهم ممن رسخوا الإيمان
العروبي والموقف القومي.
وهنا لا بد من إيراد بعض السمات التي امتاز بها كلٌ من أدب الشمال وأدب الجنوب،
وتبيان الفروق الجوهرية بينهما، والفعاليات الفكرية التي أسسوا لها في
مغترباتهم.
فهناك فرق كبير بين سمات الجهتين أدبياً، فأدب الجنوب كان أكثر إشعاعاً وتقدمية
والتزاماً من أدب الشمال، ذلك لأن أهل الشمال كانوا أقل اهتماماً بالعروبة،
وأقل ارتباطاً بالقضية القومية، والمشكلات الاجتماعية في الوطن الأم، على عكس
أهل الجنوب الذين حافظوا على هويتهم القومية، وانتمائهم الوطني، فتمسكوا
بالتراث، ومهدوا الأرضية التي قامت عليها إبداعاتهم المستمدة من روح الأدب
القديم الحامل للمعنى والغاية والتوجه.
ففي عام 1920 أنشأ أهل الشمال ـ بعد أن هددهم الضياع ـ جمعية وسموها بـ/الرابطة
القلمية/ وعنها صدرت الصحف الناطقة بلسانهم والحاملة لأفكارهم والناشرة
لإبداعاتهم، وعنها (الرابطة)، صدرت صحف (السائح والسمير وغيرهما).
أما أهل الجنوب فألّفوا عصبة وسموها بـ/العصبة الأندلسية/ مما يشفُّ عن إيمانهم
بماضيهم، واعتزازهم بتاريخهم، وتمثلهم لتراثهم، وعنها صدرت ـ أيضاً ـ مجموعة من
الصحف التي كانت أقل انتشاراً من صحف أهل الشمال، وخاصة في الوطن العربي.
وإذا كان لا بد من إشارة سريعة لها أهميتها في تعزيز السمات الفارقة بين أدب
الشمال والجنوب، فلا بد من التوقف عند حقيقة تقول: إن أدب الشمال كان أكثر
تحرراً من روابط الدب العربي، وقواعده ومشروطياته: بينما ظل أدب الجنوب أكثر
التزاماً والتصاقاً بالأدب العربي، وبات يقف بصلابة مستنداً إلى ما رسخه النقد
العربي القديم، وما خلقه النحاة والعروضيون وعلماء الكلام وفرسان البلاغة،
منطلقين من قيم عروبية إسلامية حتى وإن كانوا يدينون بدين غير دين الإسلام، وقد
صرّح بذلك الشاعر القروي بقوله:
سلام على دين يوّحد بيننا
وأهلاً وسهلاً بعدها بجهنم
من أهم الموضوعات التي تناولها الأدب المهجري بضفتيه الشمالية والجنوبية:
عبّر أدباء المهجر عمّا يجيش في نفوسهم بصدق وإخلاص وحريّة، ومن يقرأ شعرهم
يلاحظ أنهم طرقوا أبواباً كثيرة، وتناولوا أغراضاً عديدة؛ لكن السمة المميزة
لشعرهم؛ هي الحنين والغربة، لأنهم لم يتركوا بلادهم عن قلى، ولا عن رفاهية؛ بل
تركوها تحت ظروف اقتصادية قاهرة، وضغط نفسي كثيف، ومن الطبيعي أن ينطبع شعرهم
بطابع الحنين، ويجسّد مرارة الغربة، فالحنين والغربة كموضوعتين إحساسيتين شكلتا
الحيز الكبير في شعرهم.. وكانتا ظاهرتين في مساحة إبداعاتهم الشعرية في مناحيها
المختلفة، لذا جاءت موضوعاتهم الشعرية على شكل تأريخ لحراكهم الاجتماعي
والثقافي والسياسي والسلوكي منذ نعومة أظفارهم، حتى لحظات إصرارهم على الهجرة،
واستقرارهم في المهاجر الجديدة.
يقول جورج صيدح معللاً هجرته بأسباب الجهل، والفقر، والظلم، والاضطهاد السياسي:
رُبَ أحجارٍ بها الشرق ازدرى
أصبحت في حائط الغرب دعامه
وعظيمٍ شاب في دار النوى
لن تلاقي داره إلا عظامه
كمَّتِ الأوطان فاهُ فاعتلى
منبر المهجر يستوفي كلامه
من رآه في المغاراتِ رأى
أسداً يستنجز الغاب طعامه
كيف يرتاح وتذكار الحمى
كلما أقعده الجهد أقامه
وكثير منهم كانوا يكتبون شعراً لسدِّ فراغ، ولا همَّ لهم إلا تذكر بلادهم،
والتغني بأمجاد وطنهم، وهذا ما صنّفه النقاد بالشعر الوطني، وفي هذا يقول شفيق
المعلوف:
وطني أين أنا ممن أَوَدّْ
أَوَمَا للحظ بعد الجزر مَدّْ
مارَسْتَ حيث رَسَتْ فُلْك النوى
لو أباحوا ليَّ في الدَفَّةِ يَدْ
غاب خلف البحر عني شاطئ
كلما أرَّقني فيه رَقَدْ
فيه أهلي.. فيه جنّات جَرَت
تحتها الأنهارُ والرزق جمد
فيه مُرُّ العيش يحلو ورأى
في سواه زبدة العيش زبد
وطني ما زلتُ أدعوك أبي
وجراح اليُتمِ في قلب الولد
وبكلمة دقيقة وموجزة؛ فإن المهاجرين لم يتركوا بلادهم إلا انحناءً أمام الظروف
القاهرة في تشعباتها الخشنة والحادة، وكان الحنين إلى الوطن هو الغالب والظاهر
في أغراضهم الشعرية في مناحيها المختلفة.
ومن السمات التي وسم بها أدبهم، السمة القومية، وهذا ناتج عن إيمانهم القومي
المطلق، وقد آمنوا بالوحدة العربية، وبالقضايا المصيرية للأمة، وهذا ما نلاحظه
بصورة عامة وظاهرة عند أدباء الجنوب أكثر من أدباء الشمال (عدا أمين الريحاني
الذي سخّر قلمه للعروبة والأمة العربية فانتج الكثير من الكتب في هذا الشأن).
وتابعوا القضايا التي مرت بالوطن العربي منذ لحظة رحيلهم عنه، فشعرهم في هذا
المجال لا يخلو من المناسباتية المباشرة، وتعلقوا باللغة العربية، وكانوا من
حماتها والمدافعين عنها، كما فاخروا بالإسلام وإنسانيته المطلقة على الرغم من
كونهم مسيحيين.
كذلك دافعوا عن قضايا الإنسان العربي في مغرب الأمة العربية، بيد أن الوطن
العربي لم يتلمس هذه المواقف، كون أخبارهم تحملها الوكالات العالمية.
كانوا رسلاً وسفراء لأمتهم العربية، فهم بمثوبة المجاهدين في سبيل الحق العربي،
وظلت جهودهم في أماكن إقامتهم فقط، ولم يعن بهم القائمون على شؤون أوطانهم
آنذاك، مع أنهم كانوا يحملون قضية فلسطين بإخلاص وتفان، ويعملون من أجل الحق
العربي فيها، ويفضحون المؤامرات الصهيونية والغربية المنصبة على احتلال الأرض
وتشريد أهلها الشرعيين.
لقد وجدت القضية الفلسطينية العربية مجالاً واسعاً في أدبهم، إذ لا يكاد شاعر
منهم يقدم نصاً إبداعياً، يخلو من ذكر فلسطين وما يتعرض لـه أهلها من جور وقهر
وتشريد، وربما خرجت بعض قصائدهم على الإطار الفني في سبيل الدفاع عن الهدف في
صياغتها، نتيجة للحماسة الفائقة، واللحظة النزقة التي يكون الشاعر ضمنها عندا
يتعرض للقضية الفلسطينية. يقول إلياس فرحات:
بالأمس كنت إذا لقيت مفاخراً
فاخرته متشامخاً أبتسمُ
إن قال: ممن أنت؟! طرتُ حماسة
وحدجته بلواحظ تتضرم
وأجبته: من أمة جبّارة
تَفْنى إذا غُزِيت ولا تستسلم
فإذا سئلتُ اليوم؛ غالبني الحيا
فسترتُ وجهي وانثنيت أتمتم
ماذا أقول وفي الفؤاد مرارة
منها يسيل على اللسانِ العلقم
ويقول الشاعر القروي في هذا الشأن:
الحق منك.. ومن وعودك أكبرُ
فاحسِب حسابَ الحق يا متجبر
تَعِدُ الوعودَ وتقتضي إنجازها
مهج العباد.. خسئت يا مستعمر
لو كنتَ من أهل المكارم لم تكن
من جيب غيرك مُحسناً يا بلغر
وقفوا وقفة صلبة لا غبار عليها، ضد الاستعمارين الإنكليزي والفرنسي، وكان غضبهم
واضحاً في الشعر، والنثر، والخطابة، وكانوا مباشرين في كل ما قدّموا، ولم يعنوا
كثيراً بالأمور الفنية، ومستلزمات الأناقة في النص الأدبي.
وحينما حلّت النكبة، وبدأت مآسي اللجوء والتشرد والضياع الفلسطيني، علت النبرة،
وتحول الشعر المهجري إلى صراخ وعياط وجئير بالشكوى والحداء واستصراخ الضمير
العربي في المشرق والمغرب وبلاد الغربة.. فانسحب الشعر من ساحة العقل والتأمل،
ليتناول الراية الكتاب والمؤرخون والسياسيون المهجريون، وكان أبرز الذين دافعوا
عن الحق العربي، ورفعوا صوت الضمير في الغرب المتمدين شيخ المهجريين ومقدمهم (الكونت
فيليب حتي)، إذا أتحف المكتبات العالمية بمؤلف ضخم عن الحضارة العربية.
ومن السمات العامة للأدب المهجري، بل هو العنوان الأبرز لذلك الأدب؛ هو تحوله
إلى أدب رسالة وموقف ومبادئ.
أما موقف النقاد العرب من أدب المهجر فقد انقسم إلى قسمين؛ قسم يقول: هو أدب
غربي مستورد، أسلوبه مخلّع غير رصين، تغلب عليه الخطابية والمباشرة والشعاراتية،
وبعضهم قال: هو داعم جديد للأدب العربي بوصفه الأدب الجديد المتساوق مع العواطف
الإنسانية في ظل الزمن المعيش بمعطياته كلها.
ومن الذين وقفوا ضده: أدباء الأزهر، ودار العلوم، وعزيز أباظة، وطه حسين (في
البدايات).. أما الغالبية العظمى، فوقفت إلى جانبه، وكتبت عنه، واحتفت به،
ووجهت طلاّب الدراسات العليا لإنجاز أطروحات أكاديمية حوله.
المهم؛ فإن أدب المهجر، أدب عربي قبل كل شيء، كما يقول جورج صيدح: "أدب المهجر
أدب عربي بحت، لم يلصق به الغرب إلا طابع البريد..".
شخصياتهم عربية، نفسياتهم عربية، تطلعاتهم عربية، معاناتهم عربية، لذا فهو أدب
رسالة موجهة، كرست لقضايا الأمة العربية، وعلى رأسها القضيتان العظيمتان الوحدة
العربية، وحرية الوطن العربي، وقضية فلسطين.. وكانوا الأكثر فعالية في طرح تلك
القضايا من أدباء الوطن المقيمين، لأنهم يتمتعون بالحرية أكثر من أقرانهم
الواقعين تحت سوط القمع المجلي. وهنا، يتوجب علينا ألا ننكر، أن الرعيل الأول
من المهاجرين كانوا قليلي الثقافة في اللغة العربية، لذا نفذ المحافظون (من
النقاد) من هذه الفجوة، فسجلوا المآخذ على الأدب المهجري. والخلاصة، إن الأدب
المهجري يميل إلى الرومانسية، وهو أدب تأملي رومانسي صوفي، وهذا ناتج عن
نفسياتهم الشرقية الأصيلة، لذا تعاطوا فلسفة الوجود والحياة والموت، وصبوا
حقدهم على الدين و المذاهب الدينية التي (تكبل الإنسان، وتولّد الحزازات
برأيهم)، لأنهم عانوا من التعنت المذهبي في أوطانهم الممزقة.. لذا جاء أدبهم
وجدانياً غنائياً. وكتبوا المطولات التي تقترب ـ في بعضها من الملاحم الشعرية ـ
مثل: ملحمة وادي عبقر، وملحمة الطلاسم، وملحمة المواكب وغيرها.
لم يعن دارسو الأدب المهجري المهجر بالنثر المهجري على الرغم من أنه يشكل ظاهرة
كبيرة عند أعضاء الرابطة القلمية وجبران على وجه الخصوص.. وفي هذا النمط الأدبي
انعطافة كبيرة ليس في أدب المهجر فحسب، بل وفي أنماط النثر العربي كله مما
شهدته أعصر الأدب العربي المختلفة.
ـ إيليا أبو ماضي... رائد الشعر المهجري:
ـ إيليا أبو ماضي (1890 ـ 1957)، شاعر مهجري كبير، جزل، معطاء في فن الشعر، من
أبرز أعماله الشعرية:
ـ تبر وتراب، الجداول، ديوان أبي ماضي، وقد أحدثت ملحمته الشعرية الموسومة بـ/الطلاسم/
ضجة كبرى في الوطن العربي وتناولها النقاد بالدراسة والتمحيص والتعليق.
وقد أصدر ديوانه الموسوم بـ/الخمائل/ عام 1948.
ـ أحدث شعره رد فعل عنيف في الوطن العربي، خصوصاً، عندما صدر ديوان الجداول،
حيث تدور موضوعات قصائده بين الشك واليقين، والحياة والموت، والقضاء والقدر،
لذا وقف منه رجال الدين وقفة عدائية، وصبوا جام غضبهم عليه.
عاش طفولته في لبنان وفي أحضان قريته (المحيدثة)، ولما بلغ الدفاع سافر إلى مصر
وسكن مدينة الإسكندرية، تأثر في بداياته بشعراء (الإحياء (محمود سامي البارودي،
أحمد شوقي، حافظ إبراهيم وغيرهم)، ومن يقرأ بدايات شعره يلاحظ سمات التقليد
ظاهرة فيه.
رحل إلى نيويورك، وانضم إلى الرابطة القلمية، وكان عضواً بارزاً فيها، وأصدر
صحفاً خاصة به مثل (السمير والسائح)، وهكذا ظل يعيش على الصحافة حتى بداية
الخمسينيات حيث باع المجلة والصحيفة والمطبعة، لبلوغه من السن عتياً، (كما قال
هو).
كرس أبو ماضي حياته للأدب، ولم يهتم بالسياسة إطلاقاً، وصحفه التي كان يصدرها
تعتبر ـ بحق ـ تأريخاً ونقداً وتوثيقاً لأدب المهجر.
تصدى الدارسون والنقاد لشعره، وصدرت عنه أبحاث ودراسات كثيرة لأنه يدور ـ على
الأغلب ـ حول موضوعات إنسانية صرفة.
إن المتابع لسيرورة شعره سيلاحظ تناقضاً في توجهاته؛ فهو في البدايات مؤطر
بالتشاؤم، متشح بالسواد، أما عند اكتماله ونضوجه فإنه تحول إلى شعر إنساني فرح
وفيه طمأنينة وسلام روحي.
ومن أبرز قصائده: العنقاء، الطين، الطلاسم، وقد ترك أثراً كبيراً في الشعر
العربي وأمدّه بموضوعات جديدة وخصوصاً عندما يصف الطبيعة، أو يضع العقل أمام
بوابات التأمل للإجابة على أسئلة تحملها القصيدة، ويطالب دائماً بفك اللغز.
كان يحن دائماً إلى لبنان، وقد زاره، لكنه اصطدم بالواقع المعيش آنذاك، فغادره
ولم يعد إليه بتاتاً، حتى مات في مغتربه سنة 1957.
يرى النقاد في شعره عذوبة وطلاوة وفي رمزه إدهاشاً، وفي موضوعاته وصياغاته
سهولة تكاد تقترب من الشعبية، لذا وصفوه بالشعر السهل الممتع.
الفترة الزمنية بين ديوانه الجداول، وديوانه الثاني الخمائل طويلة، ومع هذا فلم
يكن ليتجاوز نفسه ويقدم جديداً في ديوان الخمائل، بل جاء نسخة طبق الأصل عن
ديوان الجداول كما اتفق عليه النقاد.. وقد جاءت قصيدة الطلاسم في أول ديوان
الخمائل، وهي قصيدة تأملية تبحث في الوجود، وتستقرئ العدم، وتنوس بين الشكل
واليقين، بين الجدوى واللاجدوى بين الأمل واللامعنى، والحقيقة التي يقرها مؤرخو
حركة الشعر تقول: إن طلاسم أبي ماضي، هي أول قصيدة في ديوان الشعر العربي التي
حاورت العقل مباشرة:
جئت لا أعلم من أين/ ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قدّامي طريقاً/ فمشيتُ
وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا/ أم أبيتُ
كيف جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لست أدري...!!
هذه اللاأدرية عند أبي ماض، تدل بشكل مباشر على قلق إيمان من جهة، وقلق وجودي
من جهة ثانية، ولقد غلبت عليه عقيدة الانتماء إلى الطبيعة والإيمان بفردانيتها
وحريتها، وما الممارسة "الطقوسية" ضمن جمالها وهدوئها إلا تقييد للروح ونفي
للطمأنينة:
أجديد أم قديم ـ أنا ـ في هذا الوجود
هل أنا حرُّ طليق أم أسيرٌ في القيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى.. أتمنى.. أنني أدري!!!
ولكن... لست أدري؟.
فالشك الذي يحيط بعقل أبي ماضي ليس من بدعه هو؛ بل هو موضوعة قديمة منذ وجد
الإنسان على البسيطة، وقد برزت موضوعة الشك بل طغت على سيرورات الملاحم
القديمة، جلجامش، الإلياذة، الأوديسة، الإنياذة وغيرها، كذلك وجدت في ثنيات
العشر الإسلامي والعباسي والأموي، ولم توجد في الشعر العربي فحسب، بل هي كثيرة
في الشعر العالمي.
وقصيدة الطلاسم طويلة، وقد أراد مبدعها أن يضعها في مصاف الملحمة، لكنها في
موضوعتها رسمت إشارة استفهام بحجم كونِ الشاعر، وقد جزأها، ووضع لكل جزء
عنواناً جانبياً (البحر، الدير، المقابر.. وهكذا)، فهو في كل مقطوعة من مقطوعات
القصيدة يتناول قضية وجودية، ويعمل على إثارتها في العقل، للوصول إلى غاية تجعل
الإنسان نوّاساً بين الشك واليقين فيتماهى مع القلق الوجودي الذي يعيش في حمائه
الشاعر ذاته:
قد سألت البحر يوماً/ هل أنا يا بحر منكا
هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا
أم ترى ما زعموا، زوراً، وبهتاناً وإفك
ضحكت أمواجه مني وقالت:
لستُ أدري..!!
أسئلة وجودية تثير إشكالات في العقل، تحتاج إلى الحرية، حرية الاختيار الشعوري
بين صفتي الروح: الشك.. اليقين.. بيد أن ثمة كوابح ثقيلة للحؤول بين الإنسان
والرغبة، وفي رأي الشاعر أن الدين أثقل من كل هاتيك الكوابح؛ ففي مقطوعة الدير
يقول إيليا أبو ماضي:
قيل لي في الدير قوم أدركوا سر الحياة
غير أني لم أجد غير عقول آسناتٍ
وقلوبٍ بليت فيها المنى فهي رفات
ما أنا أعمى.. فهل عبدي أعمى؟!!
لست أدري
إنه تعميم تسوغه الظروف التي عاشها الشاعر، فنحن نجد أنفسنا أمام شافٍّ لقي
صدمة عندما حاول الاقتراب من اليقين، فوجد فجوة بين الممارسة والتطبيق:
إن تك العزلة نُسْكاً وتقىً، فالذئب راهب
وعرين الليث دير حبه فرض وواجب
ليت شعري.. أيميت النسكُ... أم يحيي المواهبْ
كيف يمحو النسك إثماً.. وهو إثم؟!!
لست أدري!!!
ويقف طويلاً أمام جدلية الوجود والعدم، يتعمق في فلسفة الحياة والموت، ليعبر عن
شيئية الإنسان، عن لا جدواه في الوجود، عن ممارساته البهيمية عن غبائه
اللامحدود، وهو يعلم، أن لا خلود لـه في هذا الوجود، ويستشهد بشهود كثر،
القبور، والراقدون في ظلامها:
ولقد قلت لنفسي/ وأنا بين المقابر
هل رأيتِ الأمن والراحة إلا في الحفائر
فأشارتْ.. فإذا للدود عيش في المحاجر
ثم قالت: أيها السائل.. إني:
لست أدري
الموت الحقيقة العظمى، لأن الإنسان يولد ليموت، والحياة أكذوبة تنطلي على
السطحين، فهم دود الأرض، ينسحقون وهم يسعون إلى ملذّاتهم، ويكون الموت هو الحكم
على فترة عاشوها، والموت قمة الديمقراطية، لأن فيه مساواة، ففيه يتساوى الغني
والفقير، القوي والضعيف، والسيد
والحقير، والكبير والصغير، لذا فهو حقيقة الحقائق:
انظري.. كيف تساوى الكل في هذا المكان
وتلاشى في بقايا العبد.. رب الصولجان
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان
أفهذا منتهى العدل؟
فقالت: لست أدري!!
وقد كانت مقطوعة القَبر تتساوق مع إرادة الشاعر الذي أراد تمهيداً للنقلة
التالية إلى المشهد الذي يليه، يمثل الصراع الطبقي من خلال حوار بين الكوخ
والقصر، ويكاد القصر أن ينتصر على الكوخ، لولا حضور الموت وإجرائه عدالة
المساواة، فصاحبا المكانين يموتان، ويسكنان قبرين متساويان في المساحة والعمق
والظلام والدود.
وإذا كانت سمة التفاؤل تغلب على أعمال إيليا أبو ماضي الشعرية إجمالاً، فلماذا
جاءت قصيدة الطلاسم مجافية الجو العام لشعره؟.
سؤال فيه شيء من الحقيقة، ولا نجد لـه إجابة إلا في ظل تصورنا لمعاناة الرجل في
طفولته، وسيطرة الطقوسية الكنيسة على حياته، والتشدد أو الأرثوذكسية في تكوين
سلوكاته، ثم رحيله إلى مصر الأكثر انفتاحاً آنذاك لا على العالم فحسب، بل على
المعرفة والثقافة، والحياة، وهاتيك العوامل ـ بظني ـ هي التي سببت ردة الفعل
هذه عند الشاعر ووقف على شاطئ بحر الإسكندرية طويلاً وكان حواره مع المرج، إذ
طوح بأسئلته الوجودية في البحر فغابت في عمق اليم، وابتلعتها الحيتان، فهل
ستظهر من جديد، كظهور النبي يونس...؟ لست أدري!!
عنده الكثير من شعر الحنين والغربة، وهو أفضل من صور حال المهاجر من الداخل
وأعطى للإحساس الغريب مزيداً من الشفافية... كما أنه تغنى بمصر ونيلها.
غير إيليا أبو ماضي في شكل القصيدة العربية، وأضاف لمضامينها مضامين جديدة،
وكان مأخوذاً بمذاهب الأندلسيين، وخصوصاً في موشحاتهم، وكأنه يتماهى معهم في
ظروفهم الوجودية والوجدانية، فهم مهاجرون أبناء مهاجرين، وهو مهاجر وأولاده
أولاد مهاجرين.
كان أبو ماضي ينوّع في القوافي والأوزان، وأعطى للقصيدة شكلاً جديداً، فزاد في
التفعيلة، وخرج على الشطر الشعري، وكان يحقق غاية تقول بعدم جمود الشعر وتقوقعه
ضمن ضوابط وموازين ما عادت على شكلها تصلح للزمن المعيش هذا.
في قصيدته المرسومة بـ /العميان/ يجري فلسفته الخاصة ضمن مضموناتها، فهو شاعر
ومؤمن بالشعر، وفي الشعر سر وجوده، لذا يجب الارتقاء بالشعر، وتسامي الشاعر،
كونه بمنزلة نبي جاء ليصور الكون وأدواته، ويحق الحق، وينتصر للضعيف:
كم خفضنا الجناح للجاهلينا
وعذرناهمُ... فما عذرونا
خبروهم يا... أيها السائلونا:
إنما نحن معشر الشعراء.. يتجلى سر النبوة فينا
إنها شعرية مباشرة تقول إلى تحديد وظيفة الشعر، وبالتالي رسالة الشاعر، وكيف
يتحول الشاعر إلى نبي يقود العامة إلى الواقع الأمثل، والجهة الصحيحة، والحقيقة
النقية.
في أخريات حياته بات إيليا أبو ماضي يبحث عن الفرح، لذا دأب على إيجاد صياغات
ساخرة ترسم الابتسامة على شفاه المتعبين المعذبين، لذا تحول شعره في أخريات
عمره تحولاً كبيراً؛ يقول في مقطوعة شعرية وسمها بـ/ابن الليل/:
أشرف البدر على الغابة في إحدى الليالي
فرأى الثعلب يمشي خلسة بين الدوالي
كلما لاح خيالٌ خاف من ذاك الخيال
و... اقشعرا
وفيها حديث عن المتلونين، الأفاقين، الدجالين، لذا توجه الشاعر إلى خيال يخلّص
الناس من هذه المتسلقات الدائيات.. فوجد بآيات الشعر نوافذ على الحقيقة؛ يقول
في مقطوعة عنوانها الطين:
نسي الطين ساعة أنه طينٌ
فسارَ تيهاً....وعربدْ
وكسى الخز جسمه.. فتباهى
وهوى المال كيسه... فتمردْ
يا أخي لا تمل بوجهك عني
ما أنا فحمة ولا أنت فرقدْ
وقد خصص أبو ماضي مساحات كبيرة من شعره للحديث عن الطبيعة وتصويرها وتمجيدها،
وحارب التشاؤم، وعمل على أن يبهج الروح ويفرحها ويدفعها نحو الأمل:
أيهذا الشاكي وما بك داءٌ
كيف تغدو وقد غدوت عليلا
في شعره أساليب القص، والكثير منه يعتمد على الحوار المباشر، أو يقوم على
المنلوج الداخلي، أما اللافت في الأمر شحة الشعر الغزلي حتى الندرة.
هو ذا رائد الشعر المهجريين الشماليين إيليا أبو ماضي والذي استطاع أن يحدث
تجديداً في اللغة الشعرية، حيث فتح أبوابها ونوافذها لتتسع لمضامين الحياة
الاجتماعية والفكرية والنفسية كلها، من غير أن تخرج عن إطار البساطة والوضوح.
وقد شهد لـه جبران خليل جبران، شريكه في الغربة والقلق والشك وعبادة الطبيعة
وتمجيد إنسانية الإنسان، فقال عنه: "تجد في شعر أبي ماضي كؤوساً تملؤها بتلك
الخمرة التي إن لم ترتشفها؛ ستظل ظمآن صادياً..".
إنه إيليا أبو ماضي الذي قصّرنا عن تذكره على الأقل، وجلسنا فوق أمانيه، نعبُّ
من اغترابه، ولا نتمثل قلقه...
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن الوقف الأدبي
من هو محمود شريف؟
المصري
الوحيد في الأدب العربي المهجري
بقلم الكاتب:
محمد علي فرحات
محمود شريف هو المصري الوحيد في الأدب العربي المهجري في فرعيه الأميركي
الشمالي (الأشهر هم أعضاء «الرابطة القلمية» في نيويورك: جبران خليل جبران
وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة) والأميركي الجنوبي (الأشهر هم
أعضاء «العصبة الأندلسية» في ساو باولو: ميشال معلوف وحبيب مسعود وشكر الله
الجر وشفيق المعلوف والشاعر القروي رشيد سليم الخوري ونعمة قازان والياس فرحات
وتوفيق قربان). ولا يمكن اعتبار المصري أحمد زكي أبو شادي الذي أقام في
الولايات المتحدة الأميركية في خمسينات القرن العشرين شاعراً مهجرياً إذ اقتصر
إبداعه هناك على قصائد قليلة، وكانت شخصيته الأدبية اكتملت مع إصداره مجلة «ابولو»
في القاهرة في ثلاثينات القرن العشرين، ومع ما كان لهذه المجلة من تأثير في
تحديث الشعر العربي.
ويعرف متابعو الأدب العربي الحديث التأثير النهضوي للأدب المهجري، خصوصاً في
مجالي الشعر والنقد، إذ كان هذا الأدب مؤسساً للحداثة الشعرية في مشرق العالم
العربي ومغربه، وذلك عبر حركة إبداعية حيوية ومجددة، أبرزها أعمال جبران خليل
جبران المنظومة والمنثورة، والقصائد المنثورة التي كتبها أمين الريحاني (أقام
في نيويورك في أوائل القرن العشرين متابعاً دراسته الجامعية وكاتباً، قبل أن
يقوم بجولات في عدد من البلاد العربية كتب خلالها مشاهدات وشهادات ذات قيمة
أدبية واجتماعية وتاريخية)، وعبر كتابات ميخائيل نعيمة النقدية التي حاول فيها
تكريس ذائقة جديدة لشعر جديد (كتابه الأشهر نقدياً هو «الغربال»).
لكن انقسام الأدب المهجري العربي إلى أميركي شمالي وأميركي جنوبي، تعدى المجال
الجغرافي إلى الشكل الفني والمضمون، فالغالب على أدب مدرسة نيويورك تخطي
الكلاسيكية نحو حيوية الألفاظ وشفافية المعاني وتفاعلها مع آداب الغرب وفنونه
المعاصرة، بما يشكل الخطوة الأولى للحداثة العربية، ويغلب عليه أيضاً التركيز
على أعماق النفس الإنسانية وصولاً إلى مجالات روحية لامس بعضها وحدة الوجود
والأفكار الحلولية (كما عند نعيمة وفي أحيان كثيرة عند جبران).
أما أدباء المهجر الأميركي الجنوبي فغلب عليهم الأسلوب الكلاسيكي في الشعر
ومواكبة الأحداث الكبرى في الوطن الأم عبر تغنيهم بالنضال من أجل الاستقلال
والوحدة الوطنية بين الأديان والطوائف.
لكن السمتين الغالبتين على كل من المهجريين الشماليين والجنوبيين لا تمنعان
وجود استثناءات، من بينها قصائد إيليا أبو ماضي المقيم في نيويورك ذات الطابع
الكلاسيكي الذي يلامس الرومانسية، وقصائد فوزي المعلوف المقيم في ساو باولو ذات
النزعة التأملية في أعماق النفس الإنسانية ومصيرها.
ومن ضمن الاستثناءات في أدب المهجر الأميركي الجنوبي «معلقة الأرز» لنعمة قازان
التي اتخذها محمود شريف مادة لكتابه النقدي ومنطلقاً لأفكاره وتجربته كمصري
كاتب وفنان في بيئة أدباء وفنانين مهاجرين من لبنان وسورية، وهذه البيئة أصدرت
في الفترة بين العقد الأخير من القرن التاسع عشر والعقد الخامس من القرن
العشرين حوالى 150 صحيفة ومجلة، غالبيتها في دول أميركا الوسطى والجنوبية، وكان
أكثرها قصير العمر وأقلها طويله (كانت المطبوعات تصدر بحرية عدا الفترة ما بين
عامي 1941 و 1947 تقريباً، وفي البرازيل تحديداً، حيث أصدر رئيس الجمهورية
قراراً يحظر فيه نشر أي مطبوعة في غير لغة البلاد الرسمية). ولم يبق من هذه
المطبوعات ما يستحق الذكر، بعدما توفي الجيل الأول من المهاجرين وقسم من الجيل
الثاني وندر متقنو العربية لدى الجيل الثالث (لن نتحدث عن المهاجرين الجدد بعد
حرب 1967 العربية – الإسرائيلية وحروب لبنان الأهلية، فهؤلاء يرتبطون بأخبار
وطنهم الأم عبر الفضائيات وعبر القليل من المطبوعات الإخبارية الصادرة باللغتين
العربية والمحلية والتي تستقطب إعلانات مؤسسات الجاليات العربية).
ويرجع ازدهار الصحافة ومعها الأدب والفن إلى المستوى الثقافي المرتفع للمهاجرين
الآتين قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها من لبنان (وسورية وفلسطين)، وإلى
الحراك الاجتماعي لأبناء الجالية – القراء ليحفظوا ثقافتهم وانتماءهم ويؤدوا
ولو من بعيد دوراً لمصلحة أوطانهم الأصلية التي كانت تعج بحركات التحرر من
السيطرة العثمانية ثم من سيطرة الانتدابين الفرنسي والبريطاني، وبأزمات تشكل
الدولة الحديثة في مجتمعات متعددة الأديان والأعراق.
من هو محمود شريف وكيف ومتى وصل من مصر إلى البرازيل وكيف عاش وكتب هناك،
ولماذا غادر هو المثقف والفنان بلده مصر التي كانت في ثلاثينات القرن العشرين،
فترة مغادرته، تعج بالحركات الثقافية والسياسية وبالمنابر الصحافية المتنوعة،
وتتيح للمثقف المصري فرص العيش الكريم في وظائف الدولة وفي القطاع الخاص؟
ليس من جواب شاف عن هذه الأسئلة سوى ما يمكن استنتاجه من كتاب «ثورة قازان في
معلقة الأرز»، فلم نستطع الحصول على معلومات أخرى عن محمود شريف تغطي فترة
نشوئه وعمله الأول في القاهرة، بل إن أول معرفتنا بهذا الكاتب هو خبر عن كتابه
«ثورة قازان....» ورد في عدد شباط (فبراير) 1947 من المجلة الشهرية «الكتاب»
التي كانت تصدر عن دار المعارف في مصر ويرأس تحريرها عادل الغضبان (الأديب
الشاعر الحلبي الأصل والمولود في مرسين - تركيا)، ومراجعة نقدية لهذا الكتاب
نشرت في عدد حزيران (يونيو) 1947 من المجلة نفسها بقلم الكاتب (الأردني لاحقاً)
عيسى إبراهيم التاعوري أرسلها من القدس، وأعاد الناعوري نشر هذه المراجعة في
سياق كتابه «أدب المهجر» الذي طبع مرات عدة في سلسلة «مكتبة الدراسات الأدبية»
عن دار المعارف بمصر.
يفيد محمود شريف أن أباه كان من الوجهاء المتأدبين يملك في بيته مكتبة عامرة، و
«كان للمرحوم أحمد شوقي بك في مكانة الأخ. وكان المرحوم حافظ بك إبراهيم شقيقاً
لأبي لا صديقاً وكان له وإياه في مجلس المرحوم الإمام محمد عبده يمين ولاء
وإخلاص شهدها الإمام».
بدأ محمود شريف حياته الأدبية في المهجر البرازيلي شاعراً «ثوروياً»، على
المنابر لكنه ما لبث أن تخلى عن هذا النهج ليكتب شعراً لصيقاً بنفسه، واعتبر
أنه «للنار تلك الناريات. للنار أصنام الجمهور. للنار ذلك الشعر الذي يوقظ أمة
نائمة على صليل السيوف ولون الدماء وأنين الجرحى وحشرجة الشهداء».
عمل لفترة مذيعاً في إحدى الإذاعات المحلية في ساو باولو باللغة العربية، كما
عمل مدرساً للعربية والإنكليزية في إحدى مدارس المهاجرين اللبنانيين في ساو
باولو (مدرسة القديس ميخائيل)، وصحافياً في جرائد ومجلات اغترابية، ويبدو أنه
عمل لاحقاً لدى الشاعر نعمة قازان الذي كان رجل أعمال، ومن بين أملاكه مصنع
كبير للأحذية في ساو باولو. ويروي شريف بدايات وصوله إلى ريو دي جانيرو عاصمة
البرازيل سابقاً وتقلبه في مهن عدة، ومشكلات تكيفه في البيئة الجديدة:
«خمسة صناديق جلدية (حقائب) مليئة بالثياب الثمينة وعدد من الأوراق المالية
جدير بالاحترام وشباب لا عيب فيه وثقافة لا بأس بها. كان هذا رأس مال الداعي
يوم أن بصقه الإطلنطيق على شاطئ البرازيل، وقد كنت على يقين من أن الحكومة
البرازيلية ستبعث بمن ينتظرني عند الباخرة ويحمل عني أثقالي ويقودني إلى فندق
شيِّد خصيصاً للمهاجرين، وبعد أسبوعين على الأقل يُنظر في أمري ويعهد إِليَّ في
العمل الذي اختاره وأرضاه. هذا ما قاله لي الرفاق في مصر يوم أن أتيت على
الثروة التي ورثتها عن المرحوم (والد محمود شريف) وصممت على الهجرة إلى
البرازيل ثم إلى الولايات المتحدة الشمالية حيث «هولي ود» (هوليوود) مدينة
السينما، حيث مستقبلي.
لا شيء من هذا. كلام فارغ. أنا في الريو دي جانيرو عاصمة البرازيل (سابقاً)
وحيد غريب لا أفهم لسان القوم ولا أحد يفهمني ولم أكن لأعلم عن البرازيل شيئاً
مذكوراً(...).
قيل لي ان مواطنيك في الريو دي جانيرو أكثر من أن يعدّوا، فكان أن توغلت في
المدينة على غير هدى حتى انتهيت إلى شارع أطول من عمر سيدنا نوح وأضيق من أخلاق
حديث النعمة. وليت القائلين بجامعة اللغة العربية يزورون ذلك الشارع. ليتهم
يسمعون القوم هناك وكل واحد له لهجة ولا قاموس لتلك اللهجات، بل ليتهم يدعون
القديم يأكل بعضه بعضاً ويهتمون بدرس اللهجات والتوفيق بينها جميعاً بحيث تصبح
لغة الكتابة في متناول الكل. لا أكثر عليك القول. لم أرَ خيراً من الرحيل إلى
سان باولو حيث جماعة من المصريين علّقت أملي بهم. وهناك وبين أيدي تلك الجماعة
عرفت أنّ لا أحد لأحدٍ في البرازيل، وما حكّ جلدك مثل ظفرك. أنا يا ناس فلان بن
فلان لم أقرب العمل في حياتي ولا وزر لي إِلا الكتابة والتمثيل، فماذا أفعل؟
(...) وفي سنتين تقلّبت في المهن الآتية: خادم في مطعم – بواب فندق – عامل في
مذبح – بائع جوارب – عامل في السكة الحديد – ممثل مسرحي – كاتب في جمعية سياسية
– مدرّب للبوكس في كلوب رياضي منزلي - مدرّس للغة الإنكليزية – صحافي يكتب
ويحمل الحروف إلى المطبعة...
وفي ولاية بارانا قضيت سنة ونصف سنة اشتغل بزراعة القهوة لأحصل على القوت
الضروري، وكانت تسليتي الليلية لا أكثر من استخراج الحافور من أصابع قدميّ
اللتين صارتا وقتئذٍ كدسكرة النحل... ثم ولاية ماطو غروسو حيث اشتغلت في مناجم
الماس».
ما هي الظروف التي دفعت محمود شريف إلى الهجرة؟
يقول انه بعد وفاة أبيه أقنع أخاه الكبير بضرورة التحاقه بالمدرسة الثانوية في
القاهرة، وساعده عمه في إقناع الأخ فكان له ذلك. هذا يعني أن العائلة كانت تقيم
في مدينة أو بلدة مصرية ما خارج القاهرة. يقول شريف: «هذا هو عمي يزين لي
القاهرة ويراودني على توكيله في أملاكي ويضع في يدي بدرة من المال لم أكن أحلم
بها (...) وهاجرت بعد أن أتيت بمساعدة عمي على الثروة الضخمة التي تركها لي
أبي، وكانت البرازيل حظي دون بلاد الله الواسعة».
ويركز شريف على قراءاته المبكرة لأشعار عربية جنــسية كبعض قصـــائد أبي نؤاس
وبعض أبيات «القصيدة اليتيمة»، ولما اكتشف أبوه ذلك ضربه وحذره من هذه القراءات
وأمر الخادم ألا يدعه يقترب من مكتبة البيت، لكن شريف عاد إلى سيرته الأولى بعد
موت الأب: «لبى الوالد دعوة ربه، وأستحي من نفسي إذ أقول لك انني عدت من
المقــبرة إلى البــيت واقتــحمت باب المــكتبة اقتحاماً تاركاً خلفي الــباكين
والبــاكيات وطفقت أفتش فيها عن الدرر اليتيمة وغير اليتيمة...».
من هذا المدخل الشخصي للأدب وللشعر خصوصاً، يصل محمود شريف إلى معيار أخلاقي،
وتوصله توبته إلى محاكمة الشعر العربي قديمه وحديثه وفق هذا المعيار، ويعتبر
شعر نعمة قازان، خصوصاً قصيدته الطويلة «معلقة الأرز»، نموذجاً يحتذى للشعر
الأخلاقي الإنساني. وفي كتابه «ثورة قازان» جولات من المحاكمة النقدية الشرسة
للشعر أو للأدب المهجري العربي، خصوصاً معاصريه في أميركا الجنوبية.
ونعمة قازان الذي يعلن محمود شريف باسمه أو من خلال شعره ثورة في نقد الشعر ذات
طابع أخلاقي، هو لبناني من مواليد جديتا – منطقة البقاع عام 1908، كتب الشعر
بالفصحى وبالعامية، ونشر بتوقيع «بدوي البقاع» و «فرخ النسر» قبل أن يوقع
قصيدته الطويلة «معلقة الأرز» (صدرت في البرازيل عام 1938) ومجموعته الشعرية
«المحراث» (صدرت في البرازيل عام 1964).
ويركز قازان على رسالة للشعر قائمة على الفضيلة وتمجيد الله والإنسان، ويرى،
كما يرى معه محمود شريف، أن أدب ميخائيل نعيمة هو الدرة الوحيدة في الأدب
العربي، قديمه وحديثه، كما أن جبران وصل إلى منتصف الدرب ولم يكمل رسالة الشعر
التي وحده نعمة قازان أكملها في «معلقة الأرز».
هذه الطهرانية المتعالية على «ماديات» الشعر المهجري في أميركا الجنوبية هي هدف
شعر قازان ونقد شريف، وهي، في خلفيتها الوجدانية والاجتماعية، محاولة للخلاص من
التباسات الهوية والانتماء والصراع الديني والأيديولوجي في بلاد الشام التي
حملها المهاجرون إلى البرازيل وسائر أميركا الوسطى والجنوبية، يقول شريف:
«لبنان اليوم منقسم على نفسه وإصلاح نعمة قازان جاء في الصميم. يعني أنه تناول
الأدب الذي هو منبر الأمة. تناول الأدب المنقسم على نفسه ليوحّد به الأمة
المنقسمة على نفسها».
الفضيلة والجامع الإيماني بين الأديان هما معيار محمود شريف النقدي، وباسم هذا
المعيار يحصد رؤوساً شعرية وأدبية قديمة وحديثة، مركزاً على معاصريه من أدباء
المهجر، بحماسة صاحب الرسالة الذي لا يرعوي عن تدمير الخصوم والمحايدين باسم
رسالة يعطيها صفة القداسة. وبين هؤلاء الخصوم والمحايدين أسماء قديمة وحديثة،
من المتنبي إلى أحمد شوقي، ومن إلياس أبو شبكة إلى الشاعر القروي رشيد سليم
الخوري وغيرهم كثير.
أسماء يحطمها محمود شريف كما يحطم الأصنام، مستجيباً «تعاليم» نموذجه نعمة
قازان في زرع الفضيلة الموجودة في الكتب الدينية المقدسة «في نفوسنا ونفوس
الناس بأبسط حالة وبألطف عبارة». إنه نقد خاص ليس كمثله نقد، نستعيد معه سجالات
أدباء مهجريين في أميركا الجنوبية لم يبق منهم سوى قبس شحيح وذكرى.
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن
الحياة 23/05/06/
قراءة أولى في الأدب المهجري
بقلم الكاتب: ديب شاهين
"أنت أول عاصفة انطلقت من الشرق ’ واكتسحت الغرب ،ولكنها لم تحمل إلى شواطئنا
إلا الزهور"
(الرئيس الأميركي روزفلت مخاطبا جبران خليل جبران )
الحديث ، ولنقل الكتابة،عن الأدب المهجري ، فيه من السحر والجمال والروعة ،
بقدر ما فيه من الغموض والتشتت وعدم الوضوح ، فسحره وروعته تعيد الكثيرين منا
إلى الشباب ومقاعد الدراسة ، والاستمتاع بجمال الكلمة والفكرة ، وسحر المضمون ،
وتفرد النص الأدبي الذي حمل في معظمه نزعات قومية وإنسانية تنقلنا من عالم غابت
عنه العدالة والحرية والجمال إلى آخر قيدتنا فيه التقنية والحداثة والعولمة
والتحديث تلك التي باتت سمات مميزة "اعتمده بعض الذين يهمهم تجريد انساننا
العربي من كل مخزونه الحضاري وتراثه الثري " , كما يقول الباحث المهجري كامل
المر ،وبالتالي عدم التحديد ، بل التوسع إلى ما لا ينطبق عليه لا توصيف ولا
تشخيص لأدب مهجر ، إذ بات الباحث مشتتا في صفاته كل بما يريد أن يطلق على هذا
النص مهجريا ، أو ذاك أنه ليس كذلك ،وكأننا نضع العنوان قبل الخوض في التفاصيل
.
في واقع كهذا ، لا ننكر بالطبع مهجرية الأدب ، أو وجوده ، ولكن نود معرفة صفاته
، بل مزاياه ، كي نستند إليها عند الدراسة . العديد من الأسئلة تطرح نفسها
أحيانا ونطرحها نحن أحيانا أخرى ، والتي قد لا نجد لها إجابات شافية .
لماذا لا يوجد أدب مهجري إنكليزي، يوناني أو أسترالي مثلا ؟
هل أن نتاج أي كاتب في بلده الأم ونشره في بلد المهجر هو أدب مهجري ؟
ما الفرق بين الأدب المهجري عند أدباء الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية من
جهة وبين الأدب الأندلسي ؟
وأسئلة كثيرة متشعبة قد تؤدي بنا ال معرفة خصوصيات لأدب مهجري منتشر الآن في
بلدان الاغتراب …الدول الأوربية …استراليا، أفريقيا والأميركيتين . وهل لهذا
الأدب الجديد من خصوصية تميزه ؟.
فإذا ما حصرنا نقاط بحثنا في نقاط كالتي ذكرت نود هنا من أ صحاب الاختصاص
التفضل مناقشة هذا كي نخرج بنتائج تحد أطرا عامة لموضوع هذه الدراسة .
نفي المؤرخ السيد شاكر مصطفي مرة ، في إحدى مقالاته في مجلة العربي ، أن يكون
ثمة أدب مهجري متميز أو حتى فيه شيء فيه يدل على أنه أدب مهجري إذ يقول :"ما هو
إلا بضاعتنا ردت إلينا ، كل ما كتب حوله فإنما هو تزييف ، وبعضه زلفي ، وبعض عن
ارتزاق ، وبعض عن جهل بالحقيقة ."
وفي رده على هذا يقول الباحث والأديب حنا عبود :"أكان بين أدباء المهجر ملوك
وأمراء يتقرب إليهم الأدباء زلفي ؟أما أن يقول تزييفا فعليه أن يثبت ذلك ويبين
الغرض من هذا التزييف ؟
كما يذكر شاكر مصطفي أن:"الأدب المهجري " بضاعة شرقية " لا جديد فيه ، ولا يجوز
أن نسميه أدبا مهجريا لأنه لم يتفاعل مع الآداب واللغات الأخرى ، ولم يتفاعل مع
البيئة الجديدة ."
بالطبع يتحدث الدكتور مصطفي عن أدب مجموعة الرابطة القلمية في أميركا الشمالية
ومجموعة العصبة الأندلسية في أميركا الجنوبية وآخرين من أدباء فترة زمنية معينة
، وتحديدا في الأميركيتين . وفي هذا المعيار الذي يقيس به المؤرخ الأدب ا
لمهجري لا يمكن لنا الاتفاق معه ’ إذ يبقى أدب تلك الفترة مميزا بمهجريته سواء
تفاعل أم لم يتفاعل . واللافت في هذا المجال أن أدب تلك المرحلة كان محصورا في
بقعة عربية واحدة هي سورية ولبنان الآن .
في هذا السياق يقول حنا عبود:
" سنسلم بأن أدب المهجر هو بضاعتنا التي ردت إلينا ، ونسأل : لو كانت هذه
البضاعة ليست بضاعتنا فهل كنا نطلق عليها اسم أدب مهجر؟ بضاعات كثيرة تأتي
إلينا من وراء البحار وكلها تتحدث عنا نحن ، إنكليزية ، إسبانية ، برتغالية ،
فرنسية …. وتاريخنا ،أدبنا ، شعرنا … كله تجده ومع ذلك لا نجرؤ أن نقول أن هذا
الأدب هو أدب مهجري . شرط الأدب المهجري أن يكون أدب لغة وأدب قضية ، وإلا كان
أدب غوته و لامرتين وأولئك المعجبين بالشرق أدبا مهجريا " .
إذن يحدد لنا هنا السيد عبود بعضا من خصائص الأدب المهجري : أدب لغة ، وأدب
قضية . ونسأل السيد عبود من قبيل المعرفة فقط ، ما الفرق هنا بينه وبين الأدب
المقيم ؟ أليس أدبنا المقيم في معظمه أدب قضية وفي مجمله أدب لغة ؟ الشاعر شادي
الخوري ، بدأ بقرض الشعر وهو في الخامسة عشر من العمر ، وما وصلنا من شعره هو
شعر قضية ، وكان المترجم موفقا جدا في نقل كافة المشاعر والخلجات عبر الكلمات
العربية ، ذهب والده إلى الولايات المتحدة بقصد الدراسة ، وانتهى به المقام
مهاجرا . أين نضع شعره في التصنيف ..مهجري …أميركي ..أم …؟
يجمع الدارسون على أن وطأة السياسة العثمانية كانت ثقيلة جدا على سورية ولبنان
خلافا لما عاناه الشعب في دول عربية أخرى ،حيث المصادرات والمطاردات
والاغتيالات والاعدامات ، إذن كان للهجرة ما يبررها ، وكان بنتيجة ذلك الأدب
المهجري .وفي هذا المجال يقدم لنا حنا عبود أسبابا،قد تكون مقنعة ، عن كون
وتسمية هذا الأدب مهجريا ، فيقارن ما بين الأدب الأندلسي ، والأدب المهجري ،
فلا يسمي الأول مهجريا ، ويدعم الثاني بالتسمية ، ويقول أن من باب البديهيات
ألا نسمي الأدب الأندلسي أدبا مهجريا علما بأن هذا الأدب كتب بلغة عربية صافية
، والتراث الذي نهل منه العرب في الأندلس هو التراث العربي من دون شك، ذلك لان
الذين ذهبوا إلى الأندلس إنما ذهبوا بقصد الاستيطان والاستقرار، غير أن الذين
ذهبوا إلى الديار الأمريكية كانت العودة في نيتهم ، ولا يوجد شاعر مهجري إلا
وتحدث عن قضيتين أساسيتين : العروبة لتحريرها من العثمانيين ،والعودة التي ظلت
أمنية لم تتحقق لدى الكثيرين ، وان تحققت لدى بعضهم .
إذن ذهب العرب إلى الأندلس للاستيطان ، وسموا أنفسهم أندلسيين ، فهم بذلك حددوا
انتماءهم ، ولم يطلق عليهم أحد هذا اللقب ، هم الذين اختاروه ، ولو أن أدباء
المهجر قالوا أننا أمريكيون لما تجرأ أحد أن يسمي أدبهم أدب مهجر ، معظمهم حصل
على الجنسية الأميركية ، ولكن أحدا منهم لم يقل أنه أميركي ، وكان يفاخر دائما
بأنه عربي أصيل ، الفرق بين الفريقين هو أن الأول أراد أن يفرد نفسه وأن تكون
له شخصيته ، والثاني رغم حصوله على الجنسية ، ظل مصرا على التباهي بأمته
العربية.
ونخلص هنا إلى خصوصية ثالثة من خصائص الأدب المهجري ، ألا وهي الإقامة المؤقتة
بقصد العودة إلى الوطن بعد أن تنجلي ، بل تنتهي مسببات الهجرة .ويحضرني هنا
سؤال : إلى أي مدى يمكن أن نطبق هذا على واقع الأدب العربي في استراليا مثلا ؟
وهناك ما نفخر ونفاخر به من نتاج أدبي رائع لكبار من الشعراء والأدباء أمثال :
نعيم خوري ، وديع سعادة ، وفؤاد نعمان الخوري وغيرهم …هل جاءوا إلى المهجر بقصد
العودة ؟ أم من الواجب علينا أن نفرق مابين أدب مهجري قادته المدرسة الجبرانية
والرابطة والعصبة في الأميركيتين ,وأدب قادت طلائعه وثبتت وجوده أمثال من ذكرت
وآخرين منتشرين في الأميركيتين والدول الأوربية أمثال جمال حمدان في السويد ؟
وهل كانت المؤسسات (الرابطة والعصبة ) أحد أسباب تسمية نتاج أعضائها بالأدب
المهجري ؟ اعتقد ذلك ، في هذا الحال ما أحوجنا إلى عمل مؤسساتي ندعم من خلاله
هكذا هدف ، وأن نتوجه بهذا الدعم باتجاه رابطة إحياء التراث العربي ، وتوسيع
نشاطاتها من خلال فروع لها في كافة الولايات الأسترالية .
يحق لنا الآن أن نجري نوعا من المقارنة ما بين الأدب المهجري (ما يختص منه
بالرابطة والعصبة، ) والأدب الأسترالي الذي ظهر في نهاية القرن الثامن عشر
وبداية القرن التاسع عشر. انه أدب إنكليزي اللغة والتقليد والتراث ، ولا يختلف
عند بدايته على الأقل ، عن الأدب الإنكليزي ، ومع هذا لم يجرؤ أحد أن يسميه
أدبا إنكليزيا ، ولا أدبا مهجريا . بل بقي الأدب الأسترالي متفردا على الرغم من
السمات المشتركة من حيث استخدام اللغة الأم والتقاليد الأدبية والثقافة
التراثية الأصيلة .
يقول الدارسون في هذا السياق أن الأسترالي فقد صلته بالوطن الأم على الرغم من
اعتماده اللغة والتقليد الأدبي والتراث الفكري الإنكليزي ، الأمر الذي لا يعني
قطعا وحدة هذا الأدب مع أصله ، ولا يعني بالضرورة استمرارا له ، لان
الأستراليون أرادوا أن تكون لهم شخصية مستقلة ، ولو أنهم التصقوا بالوطن الأم
لكان لهؤلاء الدارسون حديث آخر ، أو ربما أعطوه صفة الأدب المهجري . ولكن ماذا
سيطلقون على الأدب الكندي المكتوب بالفرنسية والإنكليزية . إذن الاتفاق باللغة
والتراث أمر لا يكفي لطرح التسمية .
تقول إحدى الدراسات الحديثة عن الأدب المهجري : " بما أنه لا يوجد أدب مهجر في
كل الآداب العالمية ، وفي كل الآداب العربية عدا الأدب الشامي ، وبالتحديد
سورية ولبنان ، وبما أن هذا الأدب ظاهرة فريدة فان تعريف أدب المهجر يكون بسيطا
للغاية : انه الأدب الذي أنتجه الشاميون من سورية ولبنان ، الذين هاجروا هربا
من السياسة العثمانية التي ضيقت الخناق عليهم حتى في لقمتهم ، وظل هذا الأدب
محتفظا باللغة والتقاليد الأدبية والتراث الثقافي ، بل محافظا عليها ، سوى أنه
اتخذ في مهجره موقفا وهو أنه أدب مناوئ للسياسة العثمانية.
صفات كتلك المذكورة أعلاه قد تنطبق ,إلى حد كبير على الأدب المهجري الذي تعرفنا
عليه، وتحديدا هو أدب الأميركيتين العربي. ولكن ماذا عن الأدب المهجري الحديث
في استراليا تحديدا ، نحن بحاجة جديه لدراسة هذا الأدب الذي فرض نفسه على
الواقع الأدبي مقيما كان أم مهاجرا . أم أننا سندرس هذا من خلال كل شاعر ،أديب
أم كاتب كل على حدا ؟ وبالتالي أضعنا صفة المهجرية في هذا الأدب .
إبان التحضير لمواد العدد الثاني من هذه المجلة ورد إلينا مقالا للسيدة الأديبة
نجاة فخري مرسي بعنوان بداية الأدب المهجري في استراليا ، تحدثت فيه عن الإعلام
العربي ، وكانت دراسة وافية وشاملة في الإطار الإعلامي . ولكن هل الإعلام
والترجمة حقلان من حقول الأدب وأبوابه العربية العديدة : مهجري، قومي، اجتماعي،
نسائي، أطفال، وحتى أدب المراسلات …. علما، وعلى حد معرفتي المتواضعة لم يخرج
الأدب الإنكليزي عن كونه رومانسيا .واقعيا . كلاسيكيا .
لقد جادت خواطر الباحثين والنقاد بالعديد من الخصائص التي أطرتالأدب المهجري :
لغة . بيئة . تراث . حنين ووطنية …الخ
ولكن الغاية من تأسيس الرابطة القلمية كما جاء في الأهداف هو : التجديد في
الفكر والمعنى والخيال والأسلوب،
والابتعاد عن الأفكار المبتذلة ….
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن الوقف الأدبي
حول نشأة الأدب العربي المهجري في أستراليا
بقلم الكاتبة: نجاة فخري مرسي
صحافة مهجرية..أدب مهجري..مواضيع تُنشر..دواوين شعرية تُطبع..مؤلفات
توقع..ندوات أدبية..دعوات لأدباء وشعراء من الأوطان..جائزة جبرانية
عالمية..استحسان وتشجيع..نقد وهجاء وتقريع..ضجيج فكري..سجال أدبي..رعاية
دينية..ومشاركة دبلوماسية.
وسط هذه الأعراس الفكرية، لا بدَّ وأن ترجع بنا الذاكرة إلى فجر
نشأة هذا التحرك الأدبي العربي في أستراليا.
يعود تاريخ الهجرة العربية إلى عام 1860م، إلا أن الصحافة العربية
قد بدأت بوادرها في الظهور عام 1957م، وهو تاريخ صدور أول نشرة نصف شهرية
اسمها” الوطن العربي “ ولم تستمر أكثر من عام. وفي العام 1965م صدرت جريدة
“القمر” النصف شهرية ثم جريدة ”الهدف” الأسبوعية. وفي أواخر الستينات صدرت
صحيفة “صوت المغترب” ثم غابت ثم عادت، وكانت عودتها بداية انتظام الصحف
اللبنانية والعربية، تبعتها جريدة “التلغراف” كل خميس “ وفي عام 1975م، أصبحت
التلغراف ملك لأربعة شركاء هم: بطرس عنداري، إدوارد عبيد، جورج جبور، وجوزيف
خوري” وما زالت تصدر حتى الآن ثلاث مرات في الأسبوع. وفي العام 1977م، تم تأسيس
جريدة “النهار” وهي مازالت تصدر حتى الآن مرتين في الأسبوع. وفي العام 1986م،
صدرت جريدة “البيرق” وهي تصدر حالياً ثلاث مرات في الأسبوع. وصحفنا العربية
اليوم تصدر جميعها بانتظام، وبدأت تستعمل التكنولوجيا الحديثة التي تُمكنها من
نسخ نصف موادها عن الصحف العربية، حتى أنها تستعمل نفس أسماء الصحف العربية في
الوطن الأم.
يقول تقرير سليم الزبال في مركزه للمعلومات، إن مائة جريدة ومجلة
عربية صدرت في أستراليا منذ عام 1957م، حتى صدور مركزه للمعلومات عام 1989م،
“منها حوالي 36مجلة”.
واختصاراً للوقت، سأكتفي بإدراج أسماء أوائل المجلات العربية التي
صدرت في أستراليا.
أوائل المجلات العربية في أستراليا:
يقول هذا التقرير المعلوماتي إن أول مجلة صدرت في مدينة ملبورن عام
1963م كانت مجلة “النور” واستمرت تصدر حتى عام 1867م، شهرية وأحياناً نصف
شهرية. وإن مجلة “ المنارة” كانت أول مجلة دينية صدرت عن اتحاد المجالس
الاسلامية في أستراليا عام 1964م، وكانت تصدر أربع مرات في السنة، ثم أصبحت
تصدر مرتين سنوياً، وتحتوي على مقالات بالعربية والانكليزية. وإن مجلة “
الرسالة “ كانت أول مجلة سياسية اجتماعية، صدرت في ملبورن عام 1975م، شهرية
استمرت لمدة عامين. وإن مجلة “الثقافة” كانت أول مجلة حزبية شهرية تصدر في
أستراليا عام 1975م، استمرت لعدة سنوات. وإن مجلة “الاقباط” كانت أول مجلة
دينية تصدر عن الهيئة القبطية الأسترالية عام 1977م، وتوقفت بعد إصدار عددها
الثاني.
وهكذا استمرت المجلات العربية بالصدور، منها من يستمر، ومنها من
يتوقف بسرعة تدل على أن الأعباء المادية، وضآلة التوزيع هما السبب في هذه
المعاناة. ومع ذلك ما زلنا نقرأ مجلات التسعينيات، حتى صدور مجلة “الجذور” في
ملبورن التي نتمنى لها قوة الاستمرار.
هكذا، وبعد هذا العرض المختصر، نجد بل ونستنتج أن الصحافة العربية
كانت ومازالت تصر على تأكيد وجودها، ولو بشق الأنفس، بل ومازالت الدليل الصارخ
على رغبة المهاجر اللبناني خاصة، والعربي عامة، في التمسك بلغته وتراثه،
“ وكما نعلم أن أكثر مشاريع الصحف كانت تجارية وثقافية معاً”.
رابطة إحياء التراث العربي:
ننتقل الآن للحديث عن هذا الحدث الثقافي العربي في المغترب
الأسترالي.
تأسست رابطة إحياء التراث العربي في سدني عام 1981م ”في سنة جبران
العالمية”، وبدأت نشاطها تحت اسم”تجمع أصدقاء جبران” وفي الحفل الذي أحياه
التجمع للمشاركة بتكريم جبران، أعلن عن إنشاء جائزة وقدرها “500دولار” تُمنح
لأفضل بحث أو دراسة تتنأول سيرة جبران وأدبه، وأن تحمل هذه الجائزة اسم”جبران
خليل جبران” وكما قرر التجمع أن يتخذ اسم”رابطة إحياء التراث العربي في
أستراليا” وحدد أهدافه في دستور، وكان من بين أهدافه إحياء التراث العربي في
أستراليا. وفي عام 1984م، احتفلت الرابطة بأول جائزة تحمل اسم “جبران خليل
جبران” وكان الحفل حافلا بالمؤيدين والخطباء، حيث فازت السيدة وداد الياس
بالجائزة الولى، وفاز السيد إيلي ناصيف بالجائزة الثانية، وهكذا استمرت الرابطة
باقامة الندوات وتقديم الدعوات ومنح جائزتها الجبرانية لمن تقرر لجنتها أنه
يستحقها، إلى أن سجلت نجاحها بعد أن فردت أجنحتها إلى الأوطان العربية، وإلى
المغتربات والمهاجر العربية الاخرى.
وسأورد هنا مقابلة كنت قد أجريتها مع السيد كامل المر/مؤسس ورئيس
الرابطة ونشرتها في جريدة البيرق المهجرية بتاريخ 1992م، ضمن استفتاء عام حول
نشأة هذا الادب العربي المهجري في أستراليا قال فيها: “بعد نجاح التجربة
الأولى، قررت الرابطة أن تعيد النظر بشأن الجائزة، فأوقفت العمل بقرارها السابق
حتى عام 1987م، حيث جعلت من جائزة جبران جائزة تقديرية تُمنح لنتاج أدبي مُميّز
يلتزم قضية الحرية عامة، وحرية الكلمة على الخصوص، ويلتزم قضية الانسان
بالمطلق، كما رأت ألا تقتصر الجائزة على النتاج الأدبي الصادر في أستراليا، بل
تتعداه إلى الوطن الأم، وإلى المغتربات العربية الأخرى، فاستمدت بذلك صفتها
العالمية. وقد منحت على مدى الأعوام الماضية إلى مجموعة من الأدباء الأعلام في
لبنان والعراق، ومصر وسوريا، والأردن، والبرازيل، والأرجنتين، بالاضافة إلى عدد
في أستراليا، عرباً وغير عرب.
ذكرنا سابقاً أن اتساع نشاطات الرابطة الأدبية قد دفع حركة النشر
إلى الأمام، وإلى مدى بعيد، فصدرت عشرات الدواوين الشعرية بالفصحى والعامية،
كما صدرت عشرات الكتب، تتفاوت طبعاً من حيث الأهمية والاتساع. وأستطيع أن أقول
إن لنا في أستراليا، ولا سيما في حقل الشعر، شعراء يضاهون شعراء الوطن الأم.
كما أنه عندنا من المفكرين والأدباء، من نفتخر بهم ونعتز، وأتجرأ وأقول، إن
أوطاننا الأم تفتخر بهم بدورها وتعتز. أما عن دور الصحافة المهجرية في نشر
الأدب والشعر في المهجر الأسترالي غني عن القول أن صدور صحف باللغة العربية في
أستراليا، هو بحد ذاته نشاط أدبي ملحوظ، فكيف إذا كانت هذه الصحافة تحتضن
النتاج الأدبي فتنشر قصيدة إلى هذا الشاعر، ومقالة إلى ذلك الكاتب، وهذا ما
يشجع الشاعر أو الكاتب على الإنتاج. ولكن الصحافة مطالبة بدور أكبر في عملية
النشر والدراسة والتقييم، وهذا من شأنه أن يساعد على تقدم الأديب وتسديد خطاه.
وأخيراً أتمنى أن يكون للصحافة العربية المهجرية دور أكبر في التعريف بنتاجنا
الأدبي المهجري، وفي أية حال فلها الشكر على ما قامت به وتقوم به في هذا
المضمار”. وفي مقابلة كنت قد أجريتها مع البرفسور نديم نعيمة/ رئيس الدائرة
العربية ولغات الشرق الأدنى في جامعة بيروت الأمريكية أثناء وجوده في أستراليا
لتسلم جائزته الجبرانية عام 1992م، سألته فيها عن رأيه بالحركة الأدبية
المهجرية في أستراليا، وهل يرى فيها بوادر لأدب عربي مهجري واعد يبعث على
التفاؤل؟ فأجابني بالآتي:
“ أنا كنت معجباً طبعاً بالحركة الأدبية نثراً وشعراً في أستراليا،
وأعتقد أن لهذه الحركة، إذا قيض لها أن تستمر وأن تتطور، مستقبلاً يجعلها واحدة
من حركاتنا الأدبية المهجرية، التي سبق وعرفناها في الأمريكيتين. والذي أرجوه
أن تولي هذه الحركة المزيد من الاحتكاك والتفاعل مع الأدب الأسترالي المحلي
بشكل خاص، والأدب الإنكليزي والعالمي بشكل عام. مثل هذا الاحتكاك، وهذا
التفاعل، هو الذي كان وراء عالمية أدبنا المهجري في أمريكا الشمالية، وجعل
أعمالاً كالتي كانت لبطاركة هذا الأدب المهجري أمثال: نعيمة وجبران والريحاني
تحتل مكانها في معظم لغات العالم الحية". بقي أن نقول إن رابطة إحياء التراث
العربي، قد منحت على مدى ثمانية عشر عاماً ما يزيد عن ستين جائزة جبرانية لنخبة
من الكُتاب والشعراء والمفكرين محلياً وعالمياً: من وزن الشيخ عبد الله
العلايلي، والأديب مارون عبود، والشاعر نزار قباني، والمفكر أمين العالم، وهذا
العام منحتها للمؤرخ أحمد داوود، وعالم الآثار البرفسور نجيب قنواتي، وأم الطفل
زهية سلمان. أما محلياً فقد منحتها لأدباء وأديبات وكتاب وشعراء يضيق المجال عن
ذكر أسمائهم. من الملاحظ أن الأسماء التي نالت الجائزة هذا العام كانت جميعها
من خارج أستراليا فما سبب ذلك؟ هل لأن الانتاج المحلي قد خفَّ أم أن جائزة
جبران قد وجدت من يليق بها أكثر؟ وقبل أن أنهي هذا البحث دعونا نفتش عن المرأة،
في هذا الجزء الهام من تاريخ أدبنا المهجري في أمريكا أولاً ونتساءل: هل كان
للمرأة فيها دور؟ هل بَعدَتْ المرأة؟ أم هل استبعدت؟ هل ساهمت ثم هُمّشت؟
واقتصرت الأضواء على الرجال كالعادة؟
لمعلوماتي المتواضعة أن سيدة ”لا أذكر اسمها” كانت مع “الرابطة
القلمية” في نيويورك، ولكن ذكرها قد اختفى ولم يظهر لأسباب لا نعرفها. والذي
يبعث على الإطمئنان هو أن رابطتنا لإحياء التراث العربي في أستراليا، قد منحت
أكثر من جائزة جبرانية لأديبات وفنانات وسيدات عربيات، كذلك منحتها لشاعرة
أسترالية. ونعلم أيضاً أن في الرابطة بعض العضوات، ولكن ليس للمرأة في لجانها
التأسيسية والتنفيذية وجود. بمعنى أن مشاركتها رمزية بعيداً عن وضع القرار. وكل
ما نرجوه أن يبقى للمرأة وجود في سجل الرابطة مستقبلاً، إذا أصبح لها سجل. كذلك
إذا عدنا للحديث عما أسميناه بنشأة الأدب العربي المهجري في أستراليا ورجعنا
للحديث عما قدمته الصحافة العربية، وما تقدمه الرابطة، فهذا لا يعني وجود
محأولات لمنتديات أدبية في سدني وفي ملبورن وباقي ولايات أستراليا، ولم يكتب
لها النجاح والاستمرار لأسباب لا نعرفها. ولا يعني أيضاً أننا نستطيع أن نقلل
من أهمية ما نتج عن وجود صحافة عربية، ووجود رابطة أدبية ثقافية، وما نتج عن
وجودهما من نهضة فكرية بين أبناء جاليتنا العربية، تذكيها روح المنافسة، خاصة
في مدينة سدني، حيث تصدر جميع الصحف العربية، وحيث يوجد مقر رابطة إحياء التراث
العربي وندواتها الأدبية والثقافية، وحيث أثمرت هذه اليقظة الإعلامية والادبية،
الكثير من المؤلفات الأدبية والتسجيلية، ومن الدواوين الشعرية الجيد منها
والمتواضع. والذي أذكره ولا أنساه، ذلك النقاش الحاد، الذي تطور إلى نقاش جادّ
بين شاعرين من الأوائل، حول من ألف أولاً في أستراليا، ومن طبع أولاً في
أستراليا ”مع أن تاريخ الإصدار ومكان الطبع” بإمكانهما حسم النقاش الحاد ببساطة
تحفظ لكلٍ منهما حقه في الأولوية المنشودة. طبعاً كان لهذه الحركات الأدبية
تأثيرها الايجابي الكبير على وجود نتاج فكري كبير في الجالية، ولكن السؤال الذي
يفرض نفسه الآن: ماذا عن مستقبل أدبنا العربي المهجري في أستراليا؟ وهل سيبقى
محصوراً في مؤسساته؟ أو مقصوراً على أستراليا فقط؟ أم أنه سينطلق إلى آفاق أوسع
من المشاركة والتشاور؟ وإلى عالمية أدب نعيمة وجبران؟
أضيفت في22/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن الوقف الأدبي
الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه
بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه
شرط الكلام على تأّثر وتأثير بين فرد وفرد أو جماعة وجماعة أو بين حضارة
وحضارة، أن يكون لكل من الاثنين المتفاعلين شخصية واضحة وكيان معروف وهوية
محددة، ألا يتوّفر ذلك في أي من الاثنين المتفاعلين، انقلب الكلام من تأثير
وتأّثر بينهما إلى متبوع وتابع وصانع ومصنوع، بل إلى مولى مقطوع النسب وسيد به
وإليه يتم الانتساب. لقد كان من الغرب الحديث في أخريات القرن الثامن عشر أن
فاجأ العربية وأهلها في عقر ديارهم وهم في غفلة شبه تامة، لا عنه وعن حقيقة
آدابه وتراثه وحضارته فقط، بل عن واقع حالهم هم وحقيقة لغتهم وآدابهم وتراثهم،
بل عن هويتهم ومكانهم في التاريخ. جلّ ما كانوا يعونه من أمرهم، شعور غائم
أّنهم عثمانيون، وأن غربا يقتحم أبوابهم كما فعل نابوليون في مصر 1798 لا يعدو
كونه غراما متطفلا عن أرض هي أرض السلطان، على حد ما قاله أهل الإسكندرية
ومماليك القاهرة لمحّذريهم الانكليز من خطر الفرنسيين: "هذه بلاد السلطان، وليس
للفرنسيين ولا لغيرهم عليها سبب فاذهبوا عّنا... إذا جاء جميع الإفرنج فلا
يقفون في مقابلتنا وإّننا سندوسهم بخيولنا". فلا عرب بلاد السلطان يومها،
والتركية لغة أمتهم الرسمية، كانوا بالنسبة إلى أنفسهم عربا وأهل عربية حية
فاعلة، ليؤّثر الغرب الطارئ بلغتهم وآدابهم، ولا الغرب هذا كان بالنسبة إليهم،
والإسلام مرتكز دولتهم، أكثر من إفرنجي غامض مضلل متطفل مصيره حوافر خيولهم، كي
يكون له تأثير في إسلامهم أو كي يتأّثروا بشيء من تراثه وحضارته. قصة التأثير
والتأّثر في الآداب العربية منذ الجبرتي إذن، بل ربما قصة التراث العربي الحديث
جميعا، هي في مدى استفاقة العربية وأهلها على ذاتهم كشعب وكتارث من جهة، وفي
درجة يقظتهم من جهة أخرى بفعل تلك الاستفاقة ونتيجة لها، على هوية الغرب وحقيقة
تراثه وحضارته. إذ ليس لنقيض أن يفعل أو ينفعل بنقيضه إلا في مدى وعيه حّقا كم
هو مختلف ونقيض. لذلك يقتضي كل بحث في موضوع الأدب العربي وتأّثره بالغرب أو
تأثيره فيه أن يتمحور حول مسألة الهوية. بين عرب بلاد السلطان المتحفزين لإبادة
الغرب الطارئ ودوسه بحوافر خيولهم وبين المهجريين النازحين عن تلك البلاد في
نيويورك، "دردور" الحياة الغربية، كما وصفها ميخائيل نعيمه، وأحد أهم مجسات
نبضها، قرن كامل. إّنه قرن تململ أهل العربية واستفاقتهم المتنامية على ذاتهم
كشعب وتراث تحت ضغط المد الغربي المتفاقم وبسبب منه. وإّنه ليصعب الإلمام
بطبيعة الأثر الذي كان للغرب على الأدب العربي خلال تلك الفترة، وما بعدها، بما
فيه المهجريون ومدرستهم التي نعتبر مقال أمين الريحاني "خطبة في التساهل
الديني" سنة 1900 فاتحة لها، من غير أن نرافق عند أبناء العربية مسارهم الجدلي
مع الغرب وتنامي وعيهم له ولأنفسهم كما انعكس في تراثهم حّتى في ذلك التاريخ.
لعلّ أبرز ما يستوقف الباحث عند الجيل الأول من أجيال ما يمكن أن نسميه
"الجدلية العربية الغربية في أرض السلطان" أثران اثنان استثارت كلا منهما ظاهرة
واحدة هي نابوليون والوجود الفرنسي في المشرق العثماني، واحد للجبرتي في مصر
وآخر لنقولا الترك، أحد شعراء بلاط الأمير بشير في لبنان. ففي الأول استفاضة في
الكلام على ما كان للحملة النابوليونية من مساوئ وقباحات خاصة في ما يتعّلق
بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والروحية بحيث أن زوال تلك الحملة الملحدة يقرب
من أن يكون قدرا إلهيا لصون نقاء حياة المصريين وشرف دينهم وتراثهم. لذلك لم
يجد الجبرتي لتسمية كتابه خيرا من مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس. أما
كتاب الترك تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية الذي يرجح
أن يكون بتكليف من أميره الحريص، نظرا إلى موقعه الحساس، على معرفة طبيعة
المستجدات حوله في المنطقة، فيتناول الحملة بروح أقل عداء وإن لم يكن أكثر
قبولا. وإذا لم يغب عن باله أن نابوليون هو في الحقيقة ابن الثورة الفرنسية،
يقبل على هذه الثورة، وبأسلوب لا يعوزه الذكاء، فيتحدث عن بعض مسبباتها
ومرتكزاتها دون أن يذهل كما لم يذهل الجبرتي، عن أن جماعتها دهريون وأن خطرهم
على الدين والأخلاق والمجتمع عميهم. ليس المقصود من الأثرين هنا التوقف عند
المضامين، ذلك أن حقيقة الحملة وبطلها ومن ورائها الثورة الفرنسية بما أحدثته
أو رمزت إليه من انقلاب هائل في مجرى الحياة الغربية برمتها، ظلت أبعد من أن
يلم بها قلما الكاتبين. المهم في الأمر ما تجّلى واضحا عند الرجلين وعند أبناء
جيل من متفقهي العصر حولهما، من تبديات شعور ال "نحن" وال "هم" فكانت تعني
"الفرنجة" أو الغرب على وجه العموم، على تنسم، وإن بعد غامضا، لما يعنيه ذلك
الغرب، خاصة غرب الحداثة بالمعنى العلمي والفكري والحضاري، وأما ال "نحن" وقد
أصابتها الهزة وعصفت بسقفها ريح الحداثة فلم يعد بوسعها أن تبقى مستكينة تحت
ذلك السقف مطمئنة إلى ثوابت وجودها ومطلقات قناعاتها ولا نهائية نظرتها إلى
الكون والحياة. لقد تسبب الغرب في المنطقة، إضافة إلى الهزة العسكرية التي
أحدثها مجيئه، بعدد من الأفكار والممارسات وطرائق الحياة التي كانت مغايرة، بل
نقيضة للمعهود والمسّلم به والمتعارف عليه. وهكذا لم يعد ممكنا لهذه ال"نحن"
باسم هويتها الضبابية القائمة أن تتعامل مع هذه المستجدات بمجرد التجاهر
والرفض. فحّتى الرفض ذاته أصبح يقتضي العودة إلى الذات لتبرير ما هو مقبول.
وهكذا دخلت الذات العربية ما بعد جيل الجبرتي والترك، وقد هزها الغرب وربما
لأول مرة في تاريخها الحديث، جدلية الرفض والقبول. فالجبرتي مثلا، الذي كان في
رأس ما أزعجه عند الفرنسيين فساد المرأة وتفّلتها في مقابل المرأة المسلمة
المتميزة، يسترسل في الكلام على فظاعة هذا المسلك، وخطره على دين أهل الإسلام
وأخلاقهم وقيمهم. ولا يخفى تشّفيه المثلج بابنة البكري التي خالطت، وعددا من
مثيلاتها، الفرنسيين وتشبهت بهم، عندما دّقوا عنقها بعد رحيل الحملة وعودة مصر
ثانية إلى سلامة ما كانت سابقا عليه. أما المفارقة ففي أن ما ارتاح له الجبرتي
بعد جلاء الفرنجة من إغلاق لباب المرأة، ومن اطمئنان إلى سلامة هويتها من
المؤّثرات الغربية، لم يكن إغلاقا على الإطلاق، بل كان فتحا لذلك الباب من حيث
لم يدر الجبرتي يومها، على قضية مستحدثة لا عهد للتراث بها من قبل: إّنها
المسألة النسانية التي ما لبثت أن شغلت فكر ما بعد الجبرتي من الطهطاوي مرورا
بقاسم أمين واستطرادا حّتى العصر الحاضر. إلا أن مشكلة هذا الفكر جميعا ففي
أّنه من منطلق الإيمان بوجود هوية ثابتة ومميزة للمرأة المسلمة وبوجوب بلورتها
والحفاظ عليها في مقابل المرأة الغربية المباينة، عمد إلى تحريك تلك الهوية
وإعادة رسمها باستمرار، بحيث غدت عند واحدة كنوال السعداوي في أخريات هذا
القرن، غربية خالصة، زواجا وطلاقا وعملا وحرية واستقلالا وقيما وغيرها، تكاد لا
تحمل من سماتها الأولى غير الاسم. فالمفارقة هي في أن المرأة الشرقية من حيث
المبدأ لم تصبح غربية لأّنها تنكرت لذاتها وتغربت، بل أن الحرص على التباين من
باب إعادة رسم الهوية وترسيخها هو الذي أفضى في نهاية الأمر إلى التماثل. والذي
يقال في المرأة وقضيتها في ضوء جدلية الرفض والقبول، وال"نحن" وال"هم" التي
دخلها أهل العربية منذ مطلع القرن الماضي، يصح أيضا وبالتمام في مجمل ما أتى به
الغرب إلى الشرق من مقومات ترتكز إليها هويته الحضارية الحديثة: من شريعة وسلطة
مصدرهما الشعب وليس الله، إلى علمانية تفصل في المجتمع بين الحياة الدينية
والحياة المدنية، وفي المعرفة بين ما يتعّلق منها بالطبيعة وما يّتصل منها
بعالم الماوراء، إلى تركيز على الفرد كقيمة نهائية، إرادة وحرية فعل وفكر
واعتقاد، إلى الديموقراطية كسبيل أمثل للحكم، إلى الأمة المّتخذة من الأرض
والتاريخ والنفع القومي مبدأ انتماء، إلى غير ذلك مما يتصل بهذه جميعا ويتفرع
عنها ويكون ما اصطلح على تسميته الغرب الحديث. وأّنه من باب الحرص نفسه كما في
المسألة النسائية على التباين بين ال"نحن" وال"هم" في كل هذه القضايا، أن أفضى
الأمر بالنسبة إليها جميعا إلى تماثل يكاد يكون خالصا. فالطهطاوي مثلا الذي
عايش في باريس أواخر العشرينات من القرن الماضي نظرة أوروبا الوضعية العلمانية
إلى المجتمع والشريعة والسلطة والفضائل والمعارف والعلوم، لم يستطع، على إعجابه
بمنجزات الغرب، أن يتقبل النظرة الكامنة وراءها. وهكذا وجد نفسه مسوقا، مراعاة
لهذا الإعجاب من جهة وحرصا على التميز هوية من جهة أخرى، إلى تحريك تلك الهوية
معتبرا، وفي ذهنه كمسلم أن الله خالق كل شيء بما في ذلك الطبيعة، أن لا كبير
فرق بين مبادئ القانون الطبيعي الوضعي ومبادئ القانون الإلهي المتمّثل في
الشريعة الإسلامية، فاتحا هكذا الباب أمام الجيل اللاحق للتأكيد بلسان إمام ذلك
الجيل الشيخ محمد عبده في مقولته فقد كان من شأن هذه المقولة عند الأجيال
التالية من مريدي .« الإسلام دين العلم والعقل والمدنية » : الشهيرة الإمام، لا
أن تعطي العقل والعلم والمدنية هوية إسلامية كما هو مقتضى التميز المطلوب، بل
أن تضفي على الإسلام هوية علمية بالمعنى الغربي للعمل، فينتهي بذلك إلى التماثل
الذي سبق رفضه. ذلك بين لا في تفسير الإمام عبده للقرآن الكريم فقط حيث يحاول
فهم الكثير من آيات الكتاب في ضوء معطيات العلوم الحديثة، بل في أعمال تلامذته
ومتأّثري مدرسته من قاسم أمين إلى علي عبد الرازق وحسين هيكل ولطفي السيد وطه
حسين في القرن العشرين. إذا كان الإسلام هويتي التي بها أتميز، وكان في الوقت
نفسه دين العلم والمدنية، مناص، إذا أدت العلوم الوضعية في الغرب إلى اعتماد
العلمنة، من أن اعتبر الإسلام قائلا بها كذلك. وهكذا خرج كتاب عبد الرازق
الإسلام وأصول الحكم بأن الإسلام لم يكن دولة في الأصل إذ لا نص على الخلافة في
القرآن ولا هي في السّنة ولا حصل بشأنها إجماع. بل "الحق أن الإسلام بريء من
تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون"، التي كانت "نكبة على الإسلام والمسلمين
وينبوع شر وفساد" وإذ زال هكذا كون الإسلام دينا ودولة انفتح الباب أمام
المشرقي على مصراعيه كي يكون مسلما إيمانا وهوية، وعلمانيا في الوقت ذاته، ذا
نظرة وضعية غربية خالصة إلى سائر شؤون الكون والحياة. أما وقد بلغ التمايز عند
جيل عبد الرازق بمن فيهم لطفي السيد وحسين هيكل في الباكر من إنتاجه حد
التماثل، خاصة في مجال الفكر القومي والقومية المصرية، فأي جدوى يمكن بعد أن
تجنى من بقاء ال"هم" وال"نحن". وهكذا يأتي طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في
مصر تتويجا لهذا المسار، فيلغي الجدلية من جذورها ويدمج ال"نحن" بال"هم" على
أساس أّننا والغرب أبناء حضارة واحدة والمقومات موحدة الجذور والمنطلقات
والأهداف، فلا تمايز أو تماثل ولا رفض أو قبول، بل "سنسير سيرة الأوروبيين في
الحكم والإدارة والتشريع" جاهدين في أن نمحو من قلوب المصريين، أفرادا وجماعات،
هذا الوهم الآثم الشنيع الذي يصور لهم أّنهم خلقوا من طينة غير طينة الأوروبي
وفطروا على أمزجة الأوروبية، ومنحوا عقولا غير العقول الأوروبية... علينا أن
نصبح أوروبيين في كل شيء، قابلين ما في ذلك من حسنات وسيئات... علينا أن نسير
سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة،
خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره وما يحمد فيها وما يعاب. إذا
كانت جدلية الرفض والقبول قد أفضت بمسلمي العربية تحت شعار التمايز هوية
وحضارة، إلى التماثل التام بل إلى الوحدة الخالصة فشرعنت دخول الغرب حضاريا إلى
المنطقة من الباب الأوسع، فإّنها بالنسبة إلى مسيحي العربية منذ بدايات القرن
وحّتى المهجرين قد سلكت، وإن على تواز، خطا آخر ترتبت عليه نتائج مختلفة. ذلك
أن مبدأ ال"نحن" في المنطقة عند من استجار به من مسيحيي العربية في وجه ال"هم"،
لم يكن الإسلام بل اللغة العربية. والأصعب أن يفسر تفسيرا كاملا هذا الإقبال
الملفت عند مثقفي المسيحيين المحليين منذ أوائل القرن الثامن عشر، على العربية
وسائر علومها امتدادا من حلب إلى لبنان ولبنانيي مصر على امتداد القرن التاسع
عشر. إن محاولات هؤلاء التعبيرية حّتى بدايات القرن الماضي ظّلت على وجه العموم
ركيكة ومخلخلة مما جعل شاعر أحد بلاطات بغداد في حينه يحجم مثلا عن أن يحتفل
بقصيدة شائعة ألا فاعفنا من رد شعر » : لأحد شعراء الأمير الشهابي في لبنان طلب
إليه سيده داود باشا أن يعارضها، قائلا تنصرا. ألا إّنها ركاكة كان يحتدم خلفها
جهد حار لتجاوزها إلى عربية أولى أصيلة خالصة تطلب لذاتها لا كوسيلة تقتضيها
حاجة إلى إبلاغ، في ضوء هذا تفهم تلك الغيرة الشديدة مثلا التي يبديها نقولا
الترك في إحدى قصائده على الشعر، بسبب قصور مجايليه الفاضح عن الوفاء بمقتضياته
البنائية وصون مقدساته اللغطية وحرماتها. كما يفهم حرصه على التزام الأسلوب
المقامي في التوجه إلى مولاه الأمير بشير وفي محاولاته الترفيه عنه.
الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه2
بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه
ويقفز هذا الولاء الخالص للعربية وعلومها على أيدي الجيل اللاحق
ممّثلا برجالات كناصيف اليازجي وفارس الشدياق وغيرهما قفزة تكاد تفوق كل توقع.
ففي أعمال ك مجمع البحرين وسر الليال والجاسوس على القاموس والساق على الساق
ومحيط المحيط ما يجعل أصحابها لا لغويين ممتازين فقط بل أئمة العربية في مختلف
ديارها بلا منازع. وإن ما يلفت في كتاب ك مجمع البحرين، ليس فقط تلك الإحاطة
الموسوعية بالعربية وفنونها وبمختلف ما يمكن لّلغوي أن يستحدثه من تحديات
تعجيزية في هذه المجالات، بل أيضا توزيع مقاماته الستين على مختلف مدن العربية
وقبائلها وديارها في أرضها التاريخية، من اليمن في أقصى الجنوب إلى الحجاز
ومدنه ونجد وقبائلها إلى العراق وتخومه وسوريا وتوابعها وصولا إلى أنطاكية
ونزولا إلى فلسطين وغزة ووادي النيل. إّنه ليصعب إزاء كل هذا ألا يخرج الباحث
بأن هذا الإلحاح على اللغة وديارها عند مسيحيي العربية أكثر من مجرد هوس لغوي.
فكأن فيه إثباتا لمبدأ هوية وتميز قوامه انتماء إلى أمة كانت العربية كما لم
تزل علامتها الفارقة. فهي قوام ال "نحن" الذي في ضوئه يتم التميز عن ال"هم"
ويتحدد مبدأ الفرض والقبول. أما أن هذه اللغة قد بدأت فعلا تتحول إلى عقيدة،
فطلائعه ظاهرة واضحة عند غير واحد من الجيل اللاحق في حدود .« تنبهوا واستفيقوا
أيها العرب » : منقلب القرن، كما في القصيدة الشهيرة لليازجي الإبن التي مطلعها
إلا أن المفارقة في هذا المسار المسيحي، ليست في أّنه تحول باللغة إلى عقيدة
فتحتم على العربية العقيدة أن تصطدم بعقيدة أخرى قائمة فعلا في صلبها وهي
الإسلام، ذلك أن بالإمكان اعتبار الإسلام كما المسيحية المشرقية في جملة ما
ينتمي إلى هذه العلامة الفارقة التي هي العربية، ولا حرج في اجتماع أبناء
العقيدتين في ظلّ العقيدة اللغوية الجامعة. المفارقة الحّقة هي في أن ال"نحن"
القائمة على اللغة كمبدأ هوية وتميز ستفضي إلى تصنيف ال"هم" من منطلق لغوي
أيضا، فيغدو التمايز، أو مبدأ الرفض والقبول قائما على جدلية لغوية لا على
جدلية مضامين. وهكذا لم يلبث العربي الجاهد في سبيل التميز هوية، أن غدا متميزا
نطقا فقط. أما مضمون النطق، أما الناطق نفسه الذي ظلّ خارج الجدلية فلم يشمله
الرفض وأضحى بالتالي غريبا خالصا. وبالغربنة هنا لا نعني فقط ما انتهى إليه
نصارى العربية بعد منقلب القرن الماضي والعقود الأولى لهذا القرن من القول
بالقومية عربية أكانت أم سورية أم محلية، أم بالاشتراكيات على أنواعها أثناء
ذلك وبعده - وكل ذلك قائم على نظرة غربية خالصة، وإن معربنة، إلى الحياة
المجتمع وطبيعة الأشياء- بل نعنيبا لغربنة أيضا، الفكر العربي المسيحي وما
رافقه من أدب عربي على امتداد القرن التاسع عشر، من داروينية شبلي الشميل
الاجتماعية، وسبنسرية يعقوب صروف وجماعة المقتطف وحّتى علمانية فرح انطون. إن
هذا الفكر هو في حقيقة أمره فكر بالعربية لا فكر عربي. كذلك كان ما رافقه من
أدب، أدبا بالعربية لا أدبا عربيا. ذلك أن الذي كانت تجسده الأقصوصة أو الرواية
أو المسرحية أو غيرها من الفنون الأدبية المستحدثة والمقتبسة لم يكن شخصيات
وأحداثا ومواجد عربية تقتضي بطبيعتها أساليب فنية بعينها للخروج متكاملة إلى
النور، بل كان في مجمله أدبا غربيا يّتخذ من هذه الشخصيات وهذه الأحداث
والمواجد ظاهرا عربيا. لقد كان من شأن مسرح مارون النقاش مثلا، أو روايات سليم
البستاني ويعقوب صروف وحّتى محاولات جرجي زيدان في الرواية التاريخية، أن تسّلي
العربي أو تمّتعه، أو تزيده ثقافة، معتمدة في ذلك المقتضيات الشكلية لهذه
الفنون المستوردة. لكن ليس بينها واحدة تناولت النفس العربية لا كما يقتضيه
الشكل بل كما تمليه الموجبات الضمنية لهذه الفنون، كأن نقبل على الذات العربية
لا لنزيدها عن طريق الفن تسلية أو متعة أو معرفة أو ثقافة أو غير ذلك. فهذه
شؤون كمية، الكم تعميمي، ولا شأن للفن الذي دأبه الفرادة، بعالم الكميات.
فالفرادة تقتضي تناول الذات العربية لا من حيث الكم بل من حيث الكيف، فندخل
إليها لا لنزيدها من هذا الأمر أو ذاك، بل لنبرز كم هي خصوصية في إقبالها على
هذا الأمر أو ذاك وكم هي في كل ذلك فريدة ومتميزة ومستوجبة في تميزها تعبيرا
متميزا. لم يكن متوقعا من الأدب العربي خلال القرن التاسع عشر وقد أفضت جدلية
الرفض والقبول بأربابه، من حرص على التمايز إلى التماثل بل إلى الانصهار التام،
أن يتكشف عن أي فرادة إن في مساره الإسلامي أو المسيحي. فالانصهار الحضاري
التام في المسار الإسلامي بين أبناء العربية والغرب الذي توجه أيديولوجيا طه
حسين في العقد الرابع من القرن العشرين، كان قد انتهى إليه في العقد السادس من
القرن الماضي، وإن بمنطق مختلف نسبيا، المعلم بطرس البستاني الذي يمكن أن يعتبر
بحق إمام التجديد في حركة مسيحيي العربية آنئذ والروح الكامنة وراءها والمسددة
لمسارها حّتى نهاية القرن. ففي محاولاته الحثيثة لجعل العرب ينفتحون على الغرب
الحديث بعلومه وثقافته وحضارته من غير أن يشعروا هوية بالاغتراب، ذكر بما كان
لأجدادنا أيام العباسيين من ثقة بالنفس في انفتاحهم على مختلف الحضارات الغربية
وتعريبها وهضمها وتمثلها والبناء عليها. فانفتاحنا اليوم على تراث غريب لن يكون
سوى انسجام مع ماضينا من جهة، واسترداد من جهة أخرى لحضارتنا نحن التي استدانها
الغرب نفسه زمن كنا غافلين، وهاهو اليوم يعيدها إلينا مع فلتب ّ شر بنو سام لأن
أولاد » : الفائدة. فالحضارة هذه إذن ليست اثنتين بل واحدة ولا فرق بين عربي
وغربي عمهم بني يافت قد ابتدأوا يرجعون لهم ما أخذوه منهم مطبوعا وعلى ظهره
اكتشافاتهم المتأخرة نظير فائدة لا .« رباء عن مدة أربعمائة سنة الهجرة اقتلاع،
لذلك هي حنين إلى الجذور، من هنا كانت جدلية المغترب مع ديار غربته جدلية
كيانية وجودية لا جدلية نظرية تتصل باللغة أو بالثقافة أو بالدين أو بالقومية
أو غيرها من إيديولوجيات انتماء، كما كان واقع الأمر عند أهل العربية القائمين
في ديارهم إذ واجهوا الغرب الحديث. فالمغترب قد يحتفظ في ديارغربته بلغته ودينه
وثقافته وأيديولوجياته على أنواعها ويبقى مع ذلك غريبا، ذلك أن هذه جميعا
إضافات على الذات من غير أن تكون هي الذات التي تحملها. في الجدليات تسقط
الإضافات وتبقى الذات، فإن لم تكن ذات وكانت إضافات فقط عند أحد النقيضين، أفضى
التباين إلى تماثل واتحاد، وهو ما كان من أمر مقيمي العربية مع الغرب الحديث
وإنسانه. أما حنين المقتلع إلى جذوره، فهو في عمق حقيقته حنين إلى الذات التي
كانت في الأصل قبل أن تطرأ عليها الإضافات: كانت في الأصل، فكانت لها بعد ذلك
الإضافات: من إطلالتها الخاصة على الوجود، إلى تراثها المتميز الناتج عن خصائص
كيانها وطبيعة تركيبها الروحي والذهني والشعوري لغة أكان أم دينا أم ثقافة أم
حضارة. جدلية المهجريين في دار هجرتهم مع الغرب إذن لم تكن في عمقها جدلية
إضافات، بل كانت عملية مواجهة بين ذات وذات، أو بين إنسان وإنسان؛ بين إنسان
مشرقي عربي له مقوماته الذاتية الأصيلة التي تملي عليه نظرته الخاصة إلى الكون
والحياة، وبين إنسان غربي له أيضا مقوماته ونظرته إلى الحياة والوجود. الإنسان،
كسائر الكائنات جبلة وطبيعة، وأّنه من غير الممكن تغيير جبلة الأشياء من خارج
طبيعتها. لذلك كان من شأن مواجهة الإنسان المهجري للغرب، وإن مست فيه بعض
الإضافات كأن يستبدل عربيته بالانكليزية أو قناعته بغيرها من القناعات أو نظام
حياته بنظام آخر، ألا تمس هويته التي كأّنها في الأصل بل أن تزيده نزوعا إليها
وتشبثا بالولاء لها ووضوح رؤية لجوهر حقيقتها. ففيما كان مقيمو العربية ينزحون
حضاريا في ديارهم فيها إلى تماثل مع غرب دخيل عليها، كان نزوح المهجريين من غرب
هم فيه إلى التميز ذاتا وحضارة في شرق عربي ينتمون أصلا إليه. فكأن مشرقية
المقيمين ما كانت إلا لتزيدهم تغربا وكأن تغرب المهجريين ما كان إلا ليزيدهم
مشرقية. ففي حين كان طه حسين مثلا يدعو أبناء قومه في أواسط أن نسير سيرة
الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع... وأن نصبح أوروبيين في كل »
الثلاثينات إلى كان ميخائيل نعيمه يخاطب أبناء بلاده بعد « ... شيء... ونسلك
طريقهم... لنكون لهم شركاء في الحضارة مدينة » ، شهر من وصوله في حزيران 1932
إليها تاركا خلفه عشرين سنة من الاغتراب في نيويورك وأنتم يا أبناء بلادي ليس
يؤلمني من أمركم شيئا على قدر ما » : كما أطلق عليها، قائلا « الآلات والأزمات
يؤلمني تطلعكم إلى الغرب، وجهدكم في تقليد مدنيته المحتضرة، واحتقاركم لأنفسكم
ولكل ما فيكم من غنى فطري وعري روحي... يا أبناء بلادي، لا يبهرنكم برق يلعلع
في عيون المدنية الغربية- إّنه لبرق خلب، ولا يهولنكم رعد يزمجر .« في صدرها-
إّنه لحشرجة الموت الآلات » وبعد عشر سنين من اغترابه في الثانية عشرة من عمره
إلى نيويورك، وانخراطه في مدينة نفسها، يسلك أمين الريحاني في بعض قراءاته
الإنكليزية ما ارتد به إلى قومه وهو بعد يكاد لا « والأزمات يعرف عن هويتهم
شيئا. يغوص في لجة ما يقرأ في التراث الغربي فلا يلبث أن يجد نفسه منسربا فيه
إلى صاحب كتاب « كارليل » المشرقي فكرا وتصوفا، إلى « أمرسن » مجاري تعود به
إلى مشرقه العربي من في كتابه عن حمراء الأندلس، إلى غيرهم من الغربيين « إيرفن
» الأبطال، وعلى رأسهم النبي محمد، إلى النزاعين إلى الشرق. وهكذا تجري الجدلية
بالريحاني لا من التباين إلى التماثل والانصهار بل من التماثل، وكان كارليل أول
من عاد بي من وراء البحار إلى بلاد العرب... لله أنت أيها » : ارتدادا إلى
الذات المتميزة البلاد العربية التي لم يشأ الله أن أجهلك حياتي كلها، فبعث
إلي، وأنا بعيد عنك، إنكليزيا يعرفني إلى رسولك وأمريكيا يصف لي محاسن
أبنائك... فصرت أحلم بذلك المجد الماضي أحلاما تمّثلني حيا فيه أو تمثله حيا
أمامي... وكنت لا أعرف من لغتي غير اليسير اليسير، فتغلغلت في سراديبها دون أن
أرثي لحالي... قرأت اللزوميات معجبا بها، ثم قرأتها مترّنحا ورحت أفاخر بأّني
من الأمة التي نبغ فيها هذا الشاعر الحر الجسور.« الحكيم يروي نسيب عريضة، الذي
كان قد مضى عليه أيضا ما يقرب العقدين من « قصة الصمصامة » وفي بقوة » في
نيويورك وانجذابه « الميتروبوليتان » الاغتراب في مدينة الآلات والأزمات، قصة
زيارته لمتحف خفية إلى قفص من البلور منفرد... فيه سيف وحيد قد سلّ بعضه من
غمده ألقى على قطعة من الحرير .« سيف أبي عبد الله آخر أمراء العرب في الأندلس
» : ورقعة من تحته تقول « شرقية النسيج والزركشة وعندما يهز الحارس كنف الكاتب
مشيرا إلى موعد الإقفال، ينتبه إلى أّنه قد مضى عليه ذاهلا ساعات أمام ذلك
القفص، قص السيف عليه خلالها مفارقات تنّقله العجيب منذ عهده بالوجود من يد
قحطان، جد العرب العاربة، إلى ابن ذي يزن فهانيء بن مسعود الشيباني ومعركة ذي
قار، إلى خالد بن الوليد، فالقادسية وهكذا مرورا بجملة من أبطال العربية
ووقائعها الفاصلة في التاريخ شرقا وغربا حّتى انتهاء آخر معاقل مجدها على يد
الغرب في الأندلس. قد كان بالإمكان التوّقف عند هذا الحد من استنطاق عريضة
للسيف واعتبار ذلك الاستنطاق خيالات مغترب يحن في ديار هجرية إلى قومه وحضارته.
إلا أن في القصة، بغض النظر عن مستواها الفني، جملة رموز دالة تتخطى مسألة
الحنين والتخيل لتنفذ إلى الذات العربية كما ترى نفسها في تكونها البدئي، وكما
تتمثل تبعا لذلك دورها الخصوصي في الحياة والوجود. فعندما يروي السيف عن بدء
تكوينه، وهو في قصة عريضة رمز العروبة منذ تفتحها على الوجود، نفهم أّنه لم
يصنع كما تصنع سائر السيوف من معدن ترابي. إّنه ليس كنت » مجرد سيف آخر بين
أسياف مماثلة عرفتها سائر الحضارات والشعوب في التاريخ أو ستعرفها بل في أول
أمري نارا سائلة في أحد النجوم القصية يضيء نوري بين الدراري في السماء. ولأمر
ما من أمور الباري الخفية أُهبطت إلى الأرض في هيئة نيزك... في بلاد العرب
النبيلة في طليعة تاريخها، فعثر علي قين.« يماني... أتم صقالي فصاغني سيفا يخطف
البصر وهكذا كانت العروبة منذ البدء كما يرمز إليها سيف عريضة، ذاتا رسولية
خصوصيتها أن تنير الأرض باسم السماء وأن تبدد الظلمة باسم النور وأن ترتفع
بالسفلى عن طريق ما هو أعلى. من هنا جاء إعلانها على لقد أرسل الله إليها نارا
من » : لسان السيف منذ يومها الأول في ضبابية التاريخ، ولعلّ ذلك كان في عدن.«
السماء لنشعل المسكونة، فلتستعد جيوشنا لافتتاح الأرض ويرمز جبران خليل جبران،
بعد ما يقارب العقود الثلاثة من اغترابه في غرب العلم والمختبر والآلة، إلى هذا
العلوي الذي هو هاجس الذات المشرقية، ب إرم ذات العماد المدينة الأسطورية
المغيبة في مجاهل الربع الخالي. أّنها مدينة الكشف الروحي التي ما لم تبلغها
الذات وتطل من خلالها على العالم ظلت جميع معارفها المتعّلقة بدنيا المحسوسات
والمجسدات جهالات مموهة باليقين. ذلك أن الشفيف سابق للمكثف والرؤيات سابقة
للمرئي الذي هو الصورة المكثفة المعتمة لنورانيتها، أو كما تقول آمنة العلوية،
بطلة حوارية جبران التي.« أن الخيال حقيقة لم تتحجر بعد » : تمكنت من بلوغ أرم
وعادت لتعلم في ضوء ما خبرت لعلّ هذه النزعة الإرمية بالضبط هي ما كان معول
جبران في موضوع التأثير والتأّثر بين شرق العربية والغرب الحديث إذ ألح على أن
تكون للشرق ذاته المميزة ومعدته الخاصة، حّتى إذا تناول شيئا من مطابخ بدون
أضراس تقضم ولا معدة تهضم، فالطعام يذهب سدى » الغرب حوله إلى ذاته هو. فإذا
كان هذا الشرق بل ينقلب سما قاتلا... أما الشرقيون في الوقت الحاضر فيتناولون
ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه ولكنه لا يتحول إلى كيانهم الشرقي بل يحولهم إلى
شبه غربيين. إن روح الغرب صديق وعدو لنا... صديق إذا فتحنا .« له قلوبنا وعدو
إذا وهبنا له قلوبنا إن هذا الإلحاح على هوية القلب المشرقي والحرص على أّنه
وإن كان مقيما في الغرب وكان محبا له ومنفتحا عليه فهو متميز عنه ومتفرد فيه
ومكون من طينة حضارية مختلفة، قد تمّثل رمزا في النبي أحد أهم مؤّلفات جبران
وأكملها فّنا وأوسعها انتشارا في الغرب وفي العالم. فبعد أن أقام مصطفى، بطل
النبي، اثنتي، عشرة سنة في مدينة أورفليس، وهي مدة إقامة جبران في نيويورك حّتى
تاريخ صدور الكتاب سنة 1923 يفرغ لأهل أورفليس من منظور مشرقي عربي صرف زبدة ما
أفضت إليه سياحاته بينهم في ظواهر الحياة وإذا قال ذلك أومأ إلى البحارة » :
وبواطنها، ثم يركب سفينته مودعا وعائدا إلى أرضه، عائدا إلى الشرق .« فرفعوا
المرساة في الحال، وحّلو السفينة من مرابضها وانطلقوا بها ووجهتهم المشرق ليس
المقصود من عرض هذا النزوع المشرقي العربي في الذات المهجرية كما تمثل في أربعة
من أركان المهجر، أي إيحاء بأن المهجريين رفضوا الغرب باسم تميزهم عنه وأغلقوا
أبوابهم دون ثقافته ودونه. بل المقصود عكس ذلك بالتمام ذلك أن المدرسة المهجرية
المتمّثلة بأعمال أركانها ما كانت لتنزع هذا النزوع الداعي إلى تميزها عن الغرب
واختلاف منابتها عن منابته وتباين إنسانها عن إنسانه، إلا لأّنها كانت، كما لم
تكن أي من حركاتنا الأدبية والفكرية والحضارية على امتداد القرن الماضي والعقود
الأولى من القرن العشرين، على قدر كاف من الفهم لهذا الغرب والتفاعل الحي معه
والتأّثر به والاستفادة منه، ذاك على الأقل يصدق أكثر ما يصدق في بطاركة هذه
المدرسة وهم الريحاني وجبران ونعيمه وعريضة. فهؤلاء الذين سرت عدواهم إلى سائر
الزملاء كإيليا أبي ماضي ورشيد أيوب وندرة وعبد المسيح حداد، كان لهم إلى جانب
عربيتهم، وعلى تفاوت في العمق، ذلك القدر الكافي من الثقافة الغربية الذي يؤكد،
إذا هم ركزوا على مشرقيتهم، أّنهم يفعلون ذلك لأّنهم على وعي حقيقي للبديل. لقد
كان دأب المقيمين من أهل العربية كّلما أحسوا بوطأة الغرب على هويتهم أن يلوذوا
من أجل الحفاظ عليها بدينهم أو بلغتهم أو بتاريخهم أو بتراثهم مواجهين الغرب
هكذا دينا بدين ولغة بلغة وتاريخا بتاريخ وتراثا بتراث. وغالبا ما كانوا يلجأون
إلى تعزيز هذه جميعا بأيديولوجيات يستعيرونها من الغرب تتعلق بدور اللغة والدين
أو التاريخ أو التراث وتحديد الهوية وبناء مبدأ الانتماء. فكان الأمر يفضي هكذا
بهم ليس فقط إلى هوية هي غربية في حقيقتها ومموهة ظاهرا بطلاء مشرقي، بل إلى
إقامة هوية يشترط فيها الثبات، على تراث ديني ولغوي وتاريخي يفترض بالهوية
الحية أن تبقيه أبدا متحركا. فأنت والحالة هذه إما أن تحرك الثابت مراعاة
لإحياء التراث فلا يعود هوية، وأما أن تجمد المتحول حفاظا على ثبات الهوية
فتنتهي إلى تراث هامد ميت لغة وتاريخا ومعتقدا.
الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه3
بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه
أهمية المهجريين الأولى التي جعلت منطلق مدرستهم نقطة تحول في
التراث العربي الحديث ومرتكزا لكل جديد أتى من بعد حّتى يكاد، في ضوء تجديدهم
لا يبدو جديدا، أّنهم فهموا الجدلية القائمة بين شرقهم والغرب، جدلية إنسان
وإنسان لا جدلية دين ودين أو لغة ولغة أو تاريخ وتاريخ أو تراث وتراث. إن سر
الغرب الحديث هو أّنه من حيث المبدأ ومنذ الحركة اللوثرية، وال"كوغيتو"
الديكارتية والثورة الفرنسية مرورا ب"كانت" وانتهاء إلى ليبراليي القرن التاسع
عشر، قد انتهى إلى اعتبار الإنسان في ذاته قيمة مطلقة، حوله تتمحور جميع
المعارف والنشاطات والمعتقدات والقيم وغيرها، وتكيف، ومنه وبه وله ومن أجله
تحصل وتوجه وتقوم وتقبل وترفض ليس من قدسية لشيء إلا لما فيه خدمة الإنسان. إذا
كان هذا شأن الإنسان وموقعه بموجب النهج الذي اعتمده الغرب الحديث في تعاطيه مع
الحياة والوجود، وإذا كانت الجدلية القائمة بين الشرق والغرب جدلية إنسان
وإنسان، فمنطق الجدلية هذه يقتضي إنسان الشرق أن يؤكد هو الآخر ذاته وأن
يجلوها. وتأكيد الذات هذا يرتب عليه، أسوة بإنسان الغرب وتعزيزا لموقعه أمامه،
أن ينتفض هو أيضا على كل مكبلاته التراثية ويستعيد مركزه المحوري وسيادته على
كل ما انتزع منه السيادة في مسيرته الدهرية، واستعبده وشلّ حركته في حلبة
الصراع. وهكذا اقتضى النهج المهجري الذي استمدت أصوله من الغرب النقيض أن تكون
اللغة، كما أضحت لغة الغربي، في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة اللغة. فكان
لهذا أن يستتبع عند المهجريين ثورة لغوية أدبية تتناول الشكل والمضمون والرؤيا
في الأدب العربي القائم ووظيفة كل من الكاتب والمكتوب؛ وأن يكون التراث
والتاريخ كله في خدمة الإنسان المشرقي، لا أن يجعل الإنسان المشرقي رهينة
تاريخه وتراثه. فاستتبع ذلك عند المهجريين ثورة تعيد للإنسان السيادة على
موروثه وليس الموروث على الإنسان؛ وأن يعتبر الدين منزلا من أجل الإنسان مكونا
من أجل الدين، فاستتبع ذلك ثورة روحية ارتفعت بالإنسان إلى مرتبة النبوءة
والتأّله. تلك هذه الروح التحتية للحركة المهجرية كما تجسدت نظرية نقدية شبه
متكاملة في كتاب نعيمه الطليعي الغربال الذي كتبت معظم مقالاته خلال العقد
الثاني من القرن. فالقاعدة فيه أن الإنسان هو محور كل مآتيه أجل، إّننا في كل
ما نفعل وكل ما نقول وكل » : سابقا وحاضرا ومستقبلا وأّنه المعيار النهائي لكل
هذه المآتي ما نكتب إّنما نفتش عن أنفسنا. فإن فّتشنا عن الله فلنجد أنفسنا في
الله. وإن سعينا وراء الجمال فإّنما نسعى وراء أنفسنا في الجمال. وإن طلبنا
الفضيلة فلا نطلب إلا أنفسنا في الفضيلة... وإن اكتشفنا سرا في الطبيعة فما نحن
إلا مكتشفون سرا من أسرارنا. فكل ما يأتيه الإنسان إّنما يدور حول محور واحد هو
- الإنسان. حول هذا المحور تدور علومه وفلسفته وصناعته وتجارته وفنونه. وحول
هذا المحور تدور آدابه... ولا قيمة لعمل يأتيه إلا بمقدار ما يدنيه ذاك العمل
من نفسه أو يقصيه عنها. وسواء أدرك الإنسان ذلك أو لم يدركه .« فهو أبدا يقيس
كل مآتيه بهذا المقياس تأّثر المهجريين بالغرب في ثورتهم العارمة على الحياة
الشرقية القائمة بكلّ وجوهها اللغوية والأدبية والفكرية والدينية والاجتماعية
وغيرها، لم تكن إذن لتطاول الإنسان المشرقي في سبيل تحويله إلى غير ذاته، بل
لتؤكده عن طريق تحريره من مكبلاته. فهذه الثورة الغربية الطابع عند المهجريين
لم تستهدف الذات العربية بهدف تغريبها، بل استهدفت تأكيدها عن طريق تحريك
الإضافات، أدبية أكانت أو فكرية أو دينية أو اجتماعية أو غيرها. والإضافات، أيا
تكن المؤّثرات فيها ليست هي التي تشرق صاحبها أو تغربه. المهم هو الإنسان
المتأّثر ذاته. فهو الذي يعطي الثورة، أي ثورة هويتها، فيتقرر إلى أي مدى هي في
جوهرها أصيلة أو هجينة. يقرأ الريحاني في مطلع رجولته مثلا، وهو أقدم رجالات
الحركة المهجرية عهدا بالغرب وبثقافته وأسبقهم خاصة في كتابه عن الثورة «
كارليل « و « فولتير « و « روسو « و « ثوم باين « و « انغرسول » ريادة لها،
كّتابا مثل الفرنسية، فيفضي به هؤلاء وخاصة فولتير، إلى انتفاضة لا كهنوتية
عارمة هي الأولى بشدتها وأبعادها في الأدب العربي كله، على الإقطاع الديني
والأخلاقي والاجتماعي في بلاده. وقد كان من شأن هذه اللاكهنوتية أن طبعت جميع
أعمال الريحاني الباكرة من خطبة في التساهل الديني سن 1900 مرورا ب المكاري
والكاهن والمحالفة الثلاثية التي بسببها أنزل به
حرم كنسي والريحانيات الأولى وصولا إلى عمله الإنكليزي الأم كتاب خالد سنة 1911
. وليس اعتباطا ومن غير مغزى دالّ أن المكاري كما ُتقدمه رواية المكاري والكاهن
كان عائدا حديثا من هجرة غير موفقة في أميركا، حيث تسربت إليه بعض أفكار فولتير
المتداولة. فهو من هذا الموقع ينتهي بصلف محاوره الكاهن وتجبره الذي يرمز إلى
أجيال من خنوع الشرق تحت تسّلط جلاديه باسم الشرائع المنزلة، إلى الخروج من
كنيسته وعليها والعودة إلى مسيحية الفطرة التي رْفعتها لا في أن تنوء بثقلها
على أكتاف الناس وتسحقهم بل أن تنحني في خدمتهم وترتفع هي بهم على أكتافها.
وتتسرب هذه الثورة نفسها إلى جبران في أعماله الباكرة فيسير بها على خطى
الريحاني من عرائس المروج والأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة وصولا إلى
العواصف سنة 1920 ، فينصب من الطبقات التحتية وباسمها عددا من الأبطال المسحاء
خارج الكنيسة من أمثال يوحنا المجنون وخليل الكافر ويوسف الفخري، الذين كانت
مهمتهم نقض المجتمع العتيق بكل مظاهر حياته وقيمه وإقامة جديد على أنقاضه. إلا
أن ثورة جبران تعود فتتسع، وربما بتأثير من نيتشه وبعض الفكر المثالي الألماني
لتشمل لا العناصر الساحقة وحدها في المجتمع من بشر وتقاليد وأعراف وديانات، بل
المسحوقين أيضا، لأن الذلّ كائن في النفس البشرية، والمطلوب إيجاد إنسان يثور
لا على مستبديه فقط بل على نفسه هو أيضا. مثل هذا الاتساع في ثورة جبران يمثله
عدد من أقاصيصه ومنثوراته الشعرية في العواصف، بخاصة حّفار القبور وأبناء
الآلهة وأحفاد القرود والأضراس المسوسة والعاصفة ويابني أمي. ففي هذه الأخيرة
تقريع مر ببني أمه على امتداد شرقهم لشدة ماهم طيعون للاسترقاق. ماذا تطلبون من
الحياة والحياة لم تعد تحسبكم من أبنائها. أرواحكم تنتفض في مقابض الكهان ...»
والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسّفاحين، وبلادكم ترتعش تحت
أقدام الأعداء الفاتحين، فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟... دينكم رياء
ودنياكم ادعاء وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحة الأشقياء؟... أنا أكرهكم
يا بني أمي لأّنكم تكرهون المجد والعظمة أنا أحتقركم لأّنكم تحتقرون نفوسكم. .«
أنا عدوكم لأّنكم أعداء الآلهة ولكّنكم لا تعلمون وتمتد قراءات الريحاني إلى
هاكسلي والمزيد من كارليل بخاصة في كتابيه الأبطال وسارتر يسارتس، وإلى ولز
وتيار الفكر الدارويني الاجتماعي والمثالية الألمانية. فيخرج منها ومن غيرها
بمزيج يضيف إلى ثورته » اللاكهنوتية نزعة اشتراكية، وإلحادية مطعمة بإيمان
حلولي كما عند بعض الداروينيين الاجتماعيين، واقتناعا بالتطور التاريخي المفضي
إلى مجتمع العلم من غير إلغاء للروح كما عند ولز، وثقة بأن التاريخ صنيعة
الأبطال، وأن البطل وحده بغير معنى المتسّلط وبمعنى المستبد العادل، يستطيع أن
يستجمع ماضي الأمة في حاضرها وأن يغير بالتالي مسارها، كما عند كارليل. هذه
العناصر مجتمعة دخلت في تكوين المحتوى التقميشي لكتاب خالد، أهم مؤّلفات
الريحاني بالانجليزية وأبعدها أثرا في جبران من بعده. أما مبنى الكتاب إضافة
إلى جانب مهم من أصوله الفكرية، فيقتفي فيه .« الخياط مرّقعا » ، الريحاني
كارليل في كتابه ذي العنوان اللاتيني سارتر ريسارتس أي، بالترجمة الحرفية وهو
افتراضا القناع ،« ديوجنيس تيوفلد شتروخ » فالكتاب هذا الذي يشبه أن يكون مسيرة
روحية داخلية لبطله الذي يلبسه المؤلف نفسه، ينتقل بهذا البطل من حالة إفلاس
روحي رفضي، إلى مرحلة لا إبالية ومن ثم إلى قناعة نهائية تشدد على وجود روح
علوية حالة في جميع عالم المادة، مما يعزز قيمة العمل في هذه المادة وهذا
العالم لا لغاية أنانية بل بدافع من هذه الروح وتمّثلا بها. أما بناء الكتاب،
وهو جميعا مبتدع ابتداعا، تاريخ الملبوسات، » فيذهب كارليل إلى أّنه صاغه حياكة
أو ترقيعا من مصدرين مستقلين: كتاب مزعوم اسمه ومن سيرة المؤلف المفترض لهذا
الكتاب، وهو تيوفلد شتروخ. « منشؤها وتأثيرها ويأتي كتاب الريحاني هو أيضا
ترقيعا من مصدرين مستقلين: مخطوطة عربية يفترض أن الريحاني وجدها في المكتبة
الخديوية في القاهرة وعليها بكلام عربي ُ خط حول رسم لناطحة سحاب على شكل هرم
يحيط بها هو ذا كتاب خالد الذي أهديه إلى أخي الإنسان » راقصون هم مزيج من
سماسرة البورصة ومن دراويش ومن سيرة مؤّلف المخطوطة. فبعد بحث محير عن هذا
المؤلف المغيب، « وإلى أمي الطبيعة وإلى الله مكوني المبهم يعثر الكاتب -أي
الريحاني افتراضا- على من سبق أن كان رفيقا لصاحب المخطوطة، فكتب سيرته
باعتباره نبيا جديدا. وهكذا جاء كتاب الريحاني، ككتاب كارليل، نسيجا من
المخطوطة التي تحوي تعاليم خالد ذلك النبي المستحدث، ومن السيرة التي سبق أن
دونها عنه الصحابي، وهي تحمل تفاصيل حياته. وكما في كتاب كارليل يتدرج الريحاني
في تطوره العقلي والروحي تحت قناع خالد من فتى رفضي في بعلبك ناقض لكل ترسبات
مجتمعه وموروثاته وأعرافه، إلى رجل لا أدري في نيويورك تتنازعه في قراءاته
العشوائية اللامحدودة عقلانية الغرب المركزة على ال"هنا" وروحانية الشرق
المنصرفة عن كل ما يجر بي إلى ال"هناك" وثم إلى قناعة نهائية بأن المدينة
العظمى العتيدة لن تكون سوى مزيج رائع من عقلانية الغرب وروحانية الشرق جامعة
هكذا في ذاتها ال "هنا" وال "هناك". أما المرشح لإعلاء هذه المدينة المزمعة
فبلاد تمرست في النبؤات التي تحمل فلا يلبث النبي البطل أن يتحول بالحلم فيها
إلى حقيقة تغير وجه التاريخ؛ إّنها بلاد العرب. وهكذا تتحول قناعة خالد، وقد
اعتبر ذاته تجسيدا لعقل الغرب وروح الشرق، إلى الحلم بنفسه مخّلصا يحمل رسالة
قوامها بناء إمبراطورية عظمى تكون "انتصارا للنموذج وتحققا للحلم الكبير: إنه
نهوض أمّا .« شعب عصفت به أزمنة رديئة، وبعث لبلاد هي بلاد العرب، واستعادة
لأمصارها، وإحياء لمجدها مرتكزات الحياة في تلك الإمبراطورية النموذج والمشعل
فثلاثة هي: النور الذي هو حياة الروح، والمحبة خلوا » فجميع مآتي الإنسان على
الإطلاق .« التي هي حياة العلائق البشرية، والإرادة التي هي حياة العمران .« من
النور والمحبة والإرادة تبقى شؤونا مفرغة وطنينا على خواء أما ميخائيل نعيمه
فجاء المهجر الأمريكي والتراث الانجلوسكسوني سنة 1911 عام صدور كتاب خالد، من
خلفية روسية غنية مشبعة، يشاركه في بعض منها نسيب عريضه، زميل دراسته الباكرة
في دار المعلمين الروسية بالناصرة، وذلك قبل ارتحاله هو طالبا متفوقا إلى بلاد
القياصرة. لذلك جاءت ثورته التي أضرمتها فيه وفي زملائه قراءاتهم الغربية
وانفعالاتهم بها، مطعمة بلقاح روسي مباين. فاتخذت لا كهنوتية الريحاني وجبران
العاصفة عند نعيمه مثلا وبتأثير من كّتاب كغوغول وتولستوي منحى ثورة روحية
رسولية متكاملة تبلغ في أعماله وبخاصة المتأخر منها حد الخروج بمسيحية جديدة.
كما لازمت نعيمه واقعية إنسانية من النوع الروسي، خاصة في أدب دوستويفسكي
وتشيخوف، تحولت بالتنظيرية والتعليمية والإيهامية الوعظية عند زميليه الأقدمين،
وفي مجال الأقصوصة والرواية على وجه الحصر، نحو التشخيص والتجسيد والنهج
السيكولوجي في بناء الأشخاص والتعاطي مع الوقائع والأحداث. لذلك كان لأعمال مثل
الآباء والبنون وكان ما كان ومذ ّ كرات الأرقش أن اعتبرت فاتحة المسرحية والقصة
والأقصوصة في الأدب العربي الحديث بالمعنى الفني المعاصر. ولروسية نعيمه وعريضة
أيضا بعدها الظاهر في الشعر. لقد عصفت الثورة المهجرية بالشعر العربي شكلا
ومضمونا، فتلاعبت بوحدة البيت والقافية وبجسد القصيدة ككل معتمدة فيه بناء
هارمونيا تلعب فيه الموسيقى الداخلية للألفاظ والتراكيب ووحدة المقطوعة وتناغم
المقطوعات في القصيدة الواحدة في سياق من تلوين القوافي وتوزيعها، دورا أساسيا
في خلق وحدة نغمية هي القصيدة كلها، قائمة على مجمع تباين في الأصوات والنغمات.
وقد بلغ الأمر بنسيب عريضة في إحدى قصائد عام 1917 أن أرسى النموذج لما أصبح
لاحقا واصطلح على تسميته وإن « حركة الشعر الحديث » ومنذ مطلع الخمسينات معتمد
الحداثة في ما أطلق عليه وكان أمين الريحاني قد سبق وأدخل إلى العربية منذ سنة
1905 ، وبتأثير من الشاعر .« الشعر الحر » ، خطأ الأميركي والت ويتمان في
ديوانه أوراق العشب، ظاهرة الشعر المنسرح أو ما يجدر فعلا أن يسمى كما .« الشعر
الحر » سماه الريحاني فعلا إلا أن نعيمه وعريضة، إضافة إلى ما فعلته الحركة
المهجرية من قضاء على المنبرية في الشعر، ومن إدخال للشاعر إلى صلب القصيدة
فأصبحت شاهدة له بعد أن كان شاهدا لها وللأشياء من خارج، قد أدخلا الشعر منطقة
الجرح الكوني. فالقصيدة بعد أن غدت مسكونة بالشاعر من داخل، لم تعد مجرد تعبير
خارجي عنه بل أصبحت الشاعر نفسه مجسدا في قصيدة. إلا أن الشاعر هذا بالنسبة إلى
شعر نعيمه وعريضة، وبتأثير روسي ظاهر، خاصة شعراء من أمثال بوشكين ونادسين
ولرمنتوف، كائن مجروح، جرحه الكوني، كما في وهما من أشهر قصائده، أّنه كائن
مزدوج الهوية: ،« ليلة رأس السنة » للرمنتوف مثلا، أو « الملاك » قصيدّنه نسمة
إلاهية علوية في كتلة سفلية من طين. وهكذا يطغى على شعر نعيمه في ديوانه همس
الجنون وعلى قصائد عريضة في مجموعته الأرواح الحائرة، وبلا استثناء تقريبا، نوع
من التمزق الكوني الوجودي بين أشواق تشد الشاعر إلى عالم الرؤيا فتسمره على
المطلق، ومنازع ترتد به إلى عالم الحس فتعمق جذوره في الطين. فإذا القصيدة رجع
أنين صاعد من عمق جرح دهري في الشاعر ليس له من طبعه أن يلتئم. ولعل أقرب ما
توصف به قصائد ك"التائه"، و"صدى الأجراس"، و"لو تدرك الأشواك" في همس الجنون،
و"يا نفس" و"صرخة من الحضيض" و"على طريق إرم" في الأرواح الحائرة، إّنها ليست
كلاما منتظما في قصائد، بل ذوب حنين طاف في هارمونية من وجع. أما وأن المهجريين
قد بلغوا بالشعر هذا الشأو، وأن الشاعر نفسه قد أصبح موضوع القصيدة فإّنهم قد
أعطوا فالديوان لم يعد مجموعة من .« الديوان » الأدب العربي وسائر من أتى بعدهم
فيه مفهوما جديدا لما كان يسمى القصائد المتباينة الأشكال والأغراض والمواجد
والنزعات، بل غدا في الحقيقة، والشاعر موضوع الشعر وساكنه، قصيدة واحدة موزعة
على عدد من العناوين. وهكذا كان لهم أن يحّققوا، أسوة بالغرب، لا وحدة القصيدة
فقط بل أيضا وحدة الديوان. من هنا كان الحديث عن العالم الشعري عند الشاعر، لا
عن قصيدة له أو أخرى متعّلقة بهذه أو تلك من التجارب التي صادفته أو عرضت له في
الحياة. ما أن تدخل الشاعر هيكل القصيدة، كما فعل المهجريون، فتصبح هي الناطقة
به بعد أن كان هو الذي يدلي بها من خارج، حّتى يتحول الشعر إلى عمل تجسيدي خالص
همه من الشيء أن يكونه لا أن يبقى كلاما عنه. وهكذا أحل المهجريون الرمز، وخاصة
جبران ونعيمه وعريضة، ولأول مرة في الأدب العربي الحديث، المكانة الأولى في
عملية البناء الشعري. وقد بلغ الرمز بأحدهم، وهو نسيب عريضة أن أدخل الشعر،
أسوة بالشعراء الغربيين، عالم الأسطورة، راجعا فيه إلى مخزون التراث العربي
السحيق، وذلك كما يتجّلى في مطولته الملفتة "على طريق إرم". وهكذا كان له أن
يفتح الباب واسعا، ولأول مرة كذلك، على ما قد أصبح بعد ثلاثة عقود على الأقل،
معتمد ما يسمى "شعراء الحداثة". إلا أن التحول الأبرز الذي استحدثه المهجريون
في الأدب العربي شعرا ونثرا، فغدا معول كل حركة تجديدية بعدهم والمعيار الأول
والأهم لدى كل نقد أدبي لاحق، كان ربطهم كما عند أدباء الغرب ونّقاده، وخاصة
المدرسة النقدية الانكليزية، بين الأدب والحياة. فدور الأديب ناثرا أو شاعرا
ليس الوقوف خارج الأشياء والاقتصار على مجرد الانفعال بها وترجيع صداها والتأنق
بما يتيحه الحذق اللفظي في التعبير عنها ومحاكاتها كما كان دأبهم في أدب القرن
التاسع عشر ومطلع القرن العشرين حّتى نهاية عصر شوقي. دوره أن ينتقل بالأدب من
الانفعال إلى الفعل، فيدخل الأشياء ويستبطنها ويضفي عليها من ذاته أبعادا جديدة
فيسهم في إعادة خلقها معطيا الحياة معاني أعمق وأجمل مما هو حاصل ومباشر في
تبدياتها المختلفة، حّتى إذا قال "ماثيو أرنولد" وسيتضح للجنس البشري أكثر
فأكثر أن علينا اللجوء إلى الشعر من أجل أن يترجم لنا الحياة ويمنحنا العزاء
وقوة الرجاء محلا الأدب هكذا محلّ الدين، جاء ميخائيل نعيمه ناقد المدرسة
المهجرية ومرسي قواعد نظريتها الأدبية فاعتبر الشاعر الحق نبيا وكاهنا
وفيلسوفا، نبيا لأن دأبه أن ينفذ من المرئي ليعانق برؤياه ما لا يرى من أبعاده
الماورائية المطلقة، وكاهنا لأّنه ملتزم أبدا بتلك الحقائق ومذيع لها ومبشر
بها، وفيلسوفا لأّنه مدرك للحلقات الرابطة بين المرئي واللامرئي ومنته من كل
ذلك إلى موقف متكامل من الحياة والوجود.
الأدب المهجري: تأّثره بالغرب وتأثيره فيه4
بقلم الكاتب: د. نعيم نعيمه
فنعيمه المقبل إلى الحركة المهجرية من تجربة معمقة في أدب روسيا
القرن التاسع عشر الذي من ورائه بيلنسكي، ناقد روسيا الأعظم، قد أسقط من عائلة
الأدب كما فعل بيلنسكي وكما كان واقع تولستوي خاصة بعد انقلابه الروحي سنة 1976
، كل ما ليس من شأنه أن يسهم في إعطاء الحياة مزيدا من معنى. فالكلمة الأدبية
التي ليس فيها ما يزيد الإنسان دنوا من معرفة نفسه والناس ومكانه ومكانهم من
الحياة والوجود من حولهم، لا تندرج في عالم الكلام بل في مجال اللغو. فالأدب
رسولي، وكل أدب لا ينطوي على ما يضيء الوجود الإنساني في أعماقه ليس أدبا على
الإطلاق. وهكذا كان للمهجريين بموجب مفهومهم للأدب ووظيفته أن أدخلوا إلى الأدب
العربي، ولأول مرة في الكلمة » أو « الكلمة اللوغوس » إلى « الكلمة الحرف »
تاريخه، مبدأ الالتزام، وأن تحولوا في اللغة الأدبية من الكلمة » نفسها اللغة
الفعلية الأولى لكل عمل أدبي حّتى تصبح هي لا « الكلمة الإنسان » ما أن تغدو .«
الإنسان المعيار الحقيقي لذلك العمل وعلامته الفارقة ومبدأ هويته، سواء أجاء
بفصحى العربية أو بعاميتها « الحرف أو بأي لغة أخرى أجنبية. من هنا كان لكبار
المهجريين، مع تشبثهم بعروبتهم حّتى الإطلاق، ليس فقط أن يعتبروا العامية لغة
أدبية مشروعة إلى جانب الفصحى وأن ينظروا إلى الأدب الشعبي نظرتهم إلى الأدب
الفصيح سواء بسواء، بل أيضا أن يعتمدوا الإنكليزية فيضع كبارهم فيها ومن موقع
عربي بحت، عددا من هي وحدها التي في ضوئها يتقرر ما إذا كان « الكلمة الحرف »
لا « الكلمة اللوغوس » أبرز مؤّلفاتهم. إن تم بها إعداده. « كلمة حرف » العمل
الكتابي مجرد أدب بالعربية أو أدبا عربيا، بصرف النظر عن أي ومن مفهوم الالتزام
بمعناه « الكلمة اللوغوس » كان الأدب العربي حّتى منقلب القرن الماضي وقد خلا
من الوجودي الأعمق، مجرد أدب بالعربية لا أدبا عربيا. لقد ظلّ أدبا خاليا من
إنسان عربي. فالجدلية التي دخلها وحدها، لم يكن ممكنا أن تفضي به إلا إلى أن
يكون مقلدا. لقد دفعته « الكلمة الحرف » مع الغرب ومعوله فيها إلى أن يلوذ إما
بماضي العربية وتراثها فينتمي إليها بدل أن ينتميا كلاهما إليه كصاحب فعل وحياة
وهوية، وأما بحاضر الغرب الحديث فيحتسب لحاضر غيره من غير أن يكون له هو من
نفسه ولنفسه حاضر. والاتجاهان على تباينهما الظاهر ينتهيان كلاهما إلى نتيجة
واحدة هي استحداث أدب وفكر وثقافة بلا هوية أو أي إلى أدب بالعربية لا إلى أدب
عربي. لذلك سهل على طه حسين في الثلث الأول من القرن ،« لوغوس » الحالي وعلى
لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، وهم أبرز من يمثل ما انتهى إليه الخط
الجدلي المتصاعد منذ مطلع القرن التاسع عشر، أن انتهوا في غياب الهوية الواضحة
إلى القول بهوية حضارية واحدة هي الهوية الغربية، وبأّننا والغربيين فيها سواء،
ولنا ما لهم في كل شيء وعلينا ما عليهم، والفرق فيها بيننا ليس في النوع بل في
الدرجة. فهم المتقدمون في هذه الدرب الواحدة بالنسبة إلى مسارنا ومسارهم ونحن
المتخّلفون. والمطلوب أن نسرع نحن الخطى لنلحق بالركب. هنا بالضبط مكمن الخطورة
في الثورة المهجرية وأهمية ما يمكن أن يترّتب عليها إن هي دفعت إلى نتائجها
المنطقية النهائية من أبعاد محولة، لا بالنسبة إلى الأدب العربي فقط بل بالنسبة
إلى مسار الحضارة العربية الحديثة أيضا بمجمل توجهاتها. لقد كان من شأن
المهجريين وقد تفاعلوا تفاعلا حيا وعميقا مع الغرب الحديث، أّنهم لم يتغربوا.
لقد استمدوا من الغرب مجمل ثورتهم على كل ما يكبل الإنسان في موروثهم، لغة
وأدبا وروحا ومجتمعا ونظرة تقليدية الكلمة » إلى « الكلمة الحرف » إلى نفسه
ودوره في كل ذلك وفي الحياة وتحولوا باللغة في أدبهم منإلا أن احتككهم بالغرب
وتفاعلهم مع تراثه ومع الوضع الجدلي الذي وجدوا أنفسهم فيه كمغتربين .« اللوغوس
مشرقية وعروبة. فكما أن سيف عريضة « الكلمة الإنسان » أو هذه « الكلمة اللوغوس
» ما كان إلا ليزيد هذه ليس كسائر السيوف في العالم. بل كان أصل منشئه نيزكا
نورانيا هبط من سحيق « قصة الصمصامة » في بلاد العرب ليثور الأرض باسم السماء،
والسفلي المكثف في الحياة والوجود باسم ما هو علوي نوراني، كذلك في مقوماته
البدئية وفي تركيبه الذهني، ونظرته إلى الوجود، ليس كإنسان سائر « اللوغوس »
فالإنسان العربي الحضارات بما في ذلك إنسان الحضارة الغربية. فإنسان الغرب
الحديث الذي يبدو، بعلومه وتقنياته وفورة عمرانه وطغيان قدراته، وكأّنه يثور
على السماء باسم الأرض فيخضع المرئي للامرئي والروحي للمادي عند جبران، المقبلة
« لآمنة العلوية » والمطلق للنسبي، هو قطعا النقيض الجدلي لا لسيف عريضة فقط،
بل لتضيئ العتمة المكثفة لإنسان الأرض بنور مدينة الروح المغيبة، ولمصطفى "نبي"
« إرم ذات العماد » من جبران الكارز في "مدينة أورفليس" الغرب بما يضيء حياتهم
من نور موطنه المشرقي، قبل أن يغادرهم من مغتربه بينهم إليه، و"لأرقش" نعيمه
العالق في روايته الذاتية مذكرات الأرقش بين أنوار إرم وعتمة العالم، والذي
"يذبح حبه بيده لأّنه فوق ما يتحمله جسده ودون ما تشتاقه روحه"، ولمرداد نعيمه
أيضا الهابط إلى حاملا إليهم حكمة شرقه الدهرية من آدم حّتى الطوفان « مغدر
الصوان » على رأس « قمة المذبح » العالم من لكي ينجيهم بها من الطوفان الحتمي
الجديد الذي ستفضي إليه الحضارة الغربية المعاصرة، ولغير هؤلاء من التي يأهل
بها التراث الهجري ابتداء حّتى بخالد الريحاني في مؤلفه الأم « النبوية-
اللوغوس » الشخصيات كتاب خالد. فخالد هذا، وإن أقر للعقلانية العلمانية الغربية
بنصف الدور في بناء الإنسان النموذجي العتيد الأمثل، فقد عاد وشدد على أن هذه
العلمانية وحدها لن تفضي بأصحابها إلى النتيجة المرجوة ما لم تمازجها وتتحد بها
الروحانية النبوية المشرقية. لذلك كان خالد الشخصية النبوية التي جمعت في ذاتها
بين رؤيا الشرق وعلمانية الغرب، وكانت أرض العرب وحدها، دون سائر الأراضي،
المرشحة لتجسيد الرسالة وللخروج إلى سائر العالم بالمدينة العتيدة العظمى. ما
أن خرج المهجريون من جدليتهم مع الغرب باستفاقة حادة على إنسانهم وعلى هويته
المميزة حّتى تحولوا باسم هذا الإنسان من تلامذة للغرب ومتأّثرين به ومتعّلمين
عليه في كل ما يختص بالإنسان من إضافات، إلى مرشدين له من موقع مشرقي متوخين أن
يؤّثروا هم فيه ويتعهدوه وأن يسدد إنسانهم مسار إنسانه. فالمواجهة هنا أصبحت
بين إنسان وإنسان لا بين إضافات وإضافات. لذلك لا يصح أن نفهم بأن قصد
المهجريين من روحانية الشرق التي لها وحدها أن تضيء عتمة إنسان المدينة الغربية
المعاصرة هو دياناته المشرقية كما ترسبت في تراثه، يهودية أكانت أم مسيحية أم
إسلاما. ليس غرض المهجريين الدعوة إلى دين من الديانات القائمة ورد الناس إليه
بعد انصرافهم إلى حياة العقل والعلم والتكنولوجيا ودولة الإنسان. فهذه الديانات
وما شاكلها من تعاليم أخرى روحية مشرقية نبوية ليست هي في ذاتها الروحانية
المشرقية، بل هي الإفرازات المتعاقبة للذات المشرقية منذ آدم وقصة الخليفة حّتى
اليوم، في تركيبها الذهني النبوي الفردي وفي نظرتها الرؤيوية المتميزة إلى
الإنسان والحياة والوجود. كان الإنسان المشرقي أولا، فجاء تراثه الروحي على
تعاقب دياناته ورسله ورؤيوييه استجابة لذلك الإنسان وتعبيرا عنه وتجسيدا
لنظرته. ولما كان هذا التراث الروحي مجرد تعبير عن الذات المشرقية وإعرابا عنها
من غير أن يكون هو الذات نفسها، لم يكن له أي قدسية في ذاته ولا أي مبدأ حياة
واستمرار، فحياته وقدسيته وفعله مستمدة كلها من إنسانه، تتصلب الذات المشرقية
ويتوقف فعلها وتتجمد، فيسري التصّلب والتجمد إلى رسالاتها الروحية وتتحول
دياناتها إلى طقوس، و"الكلمة اللوغوس" في كتبها إلى "الكلمة الحرف" والتدين إلى
إدانة، والروح المحررة المضيئة المكهربة إلى قوة قمع وتكبيل وتعتيم وإخماد.
وليس ينفع الشرقي أو الغربي مع ديانات مشرقية فرغت من إنسانها فغدت طقوسا
محّنطة وأجسادا هشة من النصوص والشرائع والشعائر والممارسات، أن يرتد إليها أو
يحاول رد الحياة إليها عن طريق إعادة تفسيرها وتأويلها أو فلسفتها بحيث تتلاءم
مع حياته وظروفه وعلومه ومكتشفاته ومقتضيات عصره. الأجساد لا تتجدد من ذاتها،
بل هي نسمة الحياة فيها التي تلبس وتنضو منذ البدء، وتبدو مع ذلك وهي إياها،
أبدا جديدة. المطلوب ليس الارتداد إلى هذه أو تلك من الديانات المشرقية، فهذه
كلها إضافات، بل إلى الإنسان المشرقي الذي كان منذ البدء خلفها جميعا فجاءت في
مجملها تعابير متعاقبة عنه وعن رؤيته الخلاصية المميزة الفريدة. كانت تعابير
متعاقبة عنه في ماضيه وهي مرشحة أن تتعاقب مجددا في حاضره ومستقبله، إن هو
استعاد نفسه، فيبدو بها وفيها، وهو إياه، أبدا معاصرا وجديدا، وأن في هذا ما
دفع ميخائيل نعيمه، أحد أرفع مشرقيي الحركة المهجرية وروحانييها قامة إلى القول
إلى إحدى مناسباته: إّني أرى خيال المشرق يطل على العالم من جديد، والذي يحمل
مشعله نبي عزيمة الأرض في رجليه وقوة » السماء في ساعديه وبهاء الحق في ناظريه
ووداعة المعرفة في لسانه وحلاوة المحبة في قلبه. وسيمشي هذا النبي بين الناس
شرقا وغربا فيتبعه بعض من هم أشد تصّلبا للعقل ومحسوساته. ويهرب منه الكثير ممن
يحسبون أنفسهم في رأس أبي الهول وهم ما يزالون في ذنبه. وسيحمل هذا النبي قلبه
على كتفه طعاما لكل جائع. فيأكلون منه في الغرب ويتسممون، ويتناولون منه في.«
الشرق ويحيون، ولن يصلب أما الإنسان المشرقي هذا الذي استفاق عليه المهجريون،
برؤياه النبوية المتميزة كما تجسدت في تراثه وبنظرته الفريدة إلى نفسه، وإلى
الحياة والكون، فهو ذلك الكائن الإبراهيمي الذي كان منشؤه منذ آدم في بقعة من
الأرض غطتها العروبة وترعرع فيها تراثها من عدن إلى بلاد ما بين النهرين
امتدادا حّتى ثغور أنطاكية. ففي نظرة هذا الإنسان النابعة من تركيبه الذهني
والتي تختلف جوهرا عن نظرة أي إنسان آخر في حضارات العالم التي يعرفها التاريخ،
أن الكون قائم على جرح دهري رهيب ضارب في أعماقه حّتى الجذور. الكون ليس ثنائية
مظهر وحقيقة كما عند اليونان، إّنه ليس عالمين اثنين يتمرأى واحدهما في الآخر
بحيث يستطيع الإنسان بوسائل المعرفة المتيسرة لديه أن ينتقل بحثا واستقصاء
وتجريدا من المجسد إلى المجرد، وأن يرقى من كثافة الزمني والمكاني إلى معقولية
المطلق من غير أن يشرخه الجرح فيبدله كيانا بكيان ووجودا بوجود، كأن يكون دودة
مهيضة فيستحيل عبر الجرح فراشة مجنحة، أو رمادا هامدا فيخضبه الجرح ويتحول به
إلى فينيق. والكون إبرهيميا من جهة أخرى ليس وحدة موصولة الحلقات ولا جرح فيها،
كما في المشرق الهندي والصيني، ينتقل السالك في معارجها تأملا وانجذابا معراجا
بعد معراج حّتى يخلص بنفسه مفردا ومن غير جلجلة، على قمة النرقانا. من هنا لم
يكن للإنسان المشرقي الإبراهيمي العربي، شأن شقيقه الهندي الصيني، وقد أوحشه
عالم "المايا" المتحرك، أن ينسل منه انسلال طارئ عليه ومتنصل منه ومنفعل به غير
فاعل فيه وأن يلوذ عزوفا واستغراقا وسكونا بعالم مفارق، وذلك من غير تقطيع
أوصال "حلاجية" أو مد يد مخّلصة إلى وراء أو حنوا له ينزل ب "كلمته" رحمة إلى
العالم من أجل أن يرتفع به إليه. كما لم يكن له من جهة أخرى، وقد أيأسته في
حياته، كما فعلت بشقيقه الغربي اليوناني عملية الجمع بين الظاهر والباطن وبين
الواقع والمثال، أو بين عالم ال "كيف" الذي هو عالم الطبيعة وعالم ال "لماذا"
الذي هو عالم الما وراء فأفضى به الأمر نهائيا كما هوة شأن إنسان الحضارة
الغربية إلى الفصل بينهما والتركيز على ال "كيف" مكان ال"لماذا" وهما في ذهنه
أصلا منفصلان، وذلك من غير جرح فيه أو دم أو جلجلة. الوجود عربيا إبراهيميا،
كما تمّثله المهجريون ونضج به أدبهم فجاء لأول مرة في أدبنا الحديث عربيا خالصا
في هويته، ليس وحدة ناجزة متواصلة الحلقات ينسل فيها السالك في اتجاه واحد، من
حركية الدائر المحيط إلى سكون المحور. ولا هو عالم طبيعة وما وراء يمكن الإنسان
في مجال العلم والمعرفة والحياة أن يفصل بينهما فيعطي لكل حقه من غير أن يستشعر
في كيانه أي توتر إن شرخ أو انفصام. الوجود العربي الإبراهيمي ليس عالمين اثنين
ولا هو عالم واحد سوي، بل هو فلقتان متباعدتان لجرح دهري ضارب في الكيان الواحد
الذي هو الحياة بمعناها الشمولي المطلق: فلقة عدنية علوية إلهية، وفلقة أرضية
سفلية هي عالم الزمن الساقط. وغاية الحياة من الإنسان، وهو الممتد عبر الهوة
والعالق بين الفلقتين، كغايته هو منها، وهي أن يشد الفلقة الواحدة إلى الأخرى
فيلتئم به الجرح ويزول الشرخ ويتوحد الكيان، مثل هذا لا يمكن أن يحاول تنظيريا
فيستطيعه العقل أو التأمل أو الاستغراق، أو طبيعيا فيستطيعه الاستقراء والعلم
والتكنولوجيا، مثل هذا لا يمكن أن يتحّقق إلا كيانا. فالكائن العربي الإبراهيمي
المكّلف أن يكون الصلة الكيانية بين ضفتي الجرح، قدره كان منذ البدء، أن يظلّ
في نزف دائم. دأبه أن يشد السفلي في نفسه وفي الناس إلى العلوي، وفي ذلك ما فيه
من اقتلاع وتمزق وتقطيع أوصال ووجع، أو أن يهبط بالعلوي إلى السفلي بصيغة نبي
أو كتاب أو مسيح في محاولة منه أن يرتد بهذا السفلي إليه، وفي ذلك ما فيه من
هجرة واغتراب وجودي وموت من أجل فداء على جلجلة. لذلك جاء التراث العربي
الإبراهيمي كّله منذ آدم، تراثا رسوليا قوامه إنسان يكالم الله أو إله يحل في
كلمة، لا في سبيل خلاص فردي بل من أجل أن يتم بالكلمة أو بالإنسان الكلمة ومن
خلالهما التئام الشرخ الإنساني الكوني، فيرتد الزمن الساقط إلى ما قبل السقوط
ويعود آدم من هجرته في الأرض إلى عدن ويتسّنى للبشرية « الكلم » ولعلّ في هذا
ما يفسر مجيئ الكلمة في العربية اشتقاقا من .« البحر الأحمر » عبر الجرح اجتياز
معنى في ضوء الروح التحتية للتراث العربي الإبراهيمي كله إلا ذا كانت « كلمة »
بمعنى الجرح. إذ ليس لعبور إلا وتقتضي من حاملها نزفا من دم « كلمة » تحمل ما
من شأنه أن يسعف الناس في عبور الجرح، ولا وذبيحة. مثل هذا الجرح العربي
الإبراهيمي وهذه النزعة العربية الإبراهيمية هو ما نراه في أدب المهجر على وجه
في « على طريق إرم » العموم وعند نسيب عريضة وجبران ونعيمه على سبيل الحصر خاصة
مطولة الأرواح الحائرة لعريضة والمصطفى في النبي لجبران، والأرقش في مذكرات
الأرقش ومرداد في كتاب مرداد لنعيمه. ففي مطولة إرم يشد الشاعر، رمز الإنسانية
الموغلة غربة وضياعا في أرض التيه والعتمة إلى لألأ إرم المدينة المنورة في
الضفة الأخرى من المعبر. إلا أّنه لا يبلغ الضوء إلا بعد أن يتخضب بدم المطايا.
وما مطاياه إلا الشق الزمني في نفسه وفي الناس المنغلّ في الأرض انغلال الدودة
بفيلقتها، إلا أّنه مقضي على ذلك الشق أن يسكر بدمه ويموت إذا هو شاء أن يصير
مجّنحا فيعبر. أما المصطفى، نبي جبران في مدينة أورفليس رمز نيويورك حصرا مدينة
الناس في الأرض جملة، فيعانق وهو في مهجره الغربي بينهم الأنوار الإرمية ويشد
هو أيضا إلى مدينة الشرق الماورائية المنورة عبر الجرح. إلا أّنه وهو يدلي
إليهم قبل أن يرتحل بما يجعله هو نفسه جسر عبور لهم أيضا، يلسعه الجرح ويعضه
الوجع، وجع الاقتلاع: لا، ليس من غير جرح في النفس سأرتحل » عن هذه المدينة...
إّنه ليس ثوبا هذا الذي أخلعه اليوم، بل إّنه الجلد، جلدي هذا الذي أمزقه أنا
نفسي بيدي... والكثير الكثير من السهام التي انطلقت من قوسي ما غادته إلا طلبا
لصدري. ويزداد الشرخ العربي الإبراهيمي عمقا ودما في أرقش نعيمه، الشخصية
الروائية التي تتجسد فيها كينونيا البحر » الفلقتان المتقابلتان للجرح. يحاول
الأرقش من نفسه وبنفسه، باعتباره رمزا للبشرية كلها، أن يجتاز إّنه عاشق كأعنف
وأعظم ما يكون العشق. إلا أّنه ما أن يقترن بمعشوقته حّتى يذبحها قبل وصلها .«
الأحمر في المخدع الزوجي، تاركا خلفه ما نصه: « ذبحت حبي بيدي لأّنه فوق ما
يتحمله جسدي ودون ما تشتاقه روحي » أما المذكرات بعدئذ، فتداعيات نفس اقتضاها
سعيها إلى الإرمي المطلق، أن يغتسل بالدم. فالحب بمعناه الروحي الأعمق هو شوق
النفس المجتزأة في عالم الزمن إلى الاكتمال بمعشوق هو رمز خلاصها من الانقسام
وخروجها من النقص إلى الاكتمال. إلا أن الحب بمعناه الجسدي هو عودة بالمعشوق
بعد الشهوة الطاغية وبفعلها إلى الزمنية التي كان قبل وعدا بالخروج منها. لذلك
كان المخدع الزوجي بالنسبة إلى الأرقش حدا فاصلا بين ضفتي بحر أحمر. فالدم
المسفوح فيه نجيع انسان يتوق السفلي فيه إلى العلوي فيفضي به ذلك إلى جسد يذبح
لأّنه دون ما تشتاقه الروح، وينشد فيه العلوي إلى السفلي فينتهي به الأمر إلى
أن يضحي بإله هو فوق ما يستطيع أن يتحمله جسد. لذلك كان الأرقش في مذكراته ذلك
الإنسان العربي الإبراهيمي الذي قدره أن يكون في جوهر وجوده ذابحا مذبوحا من
حيث هو ذابح. وتبلغ السمات الدهرية للتراث العربي الإبراهيمي أوضح تجلياتها في
الأدب المهجري وأكملها تصورا ورؤية وبناء في مرداد نعيمه. قوام هذا الكتاب
أسطورة حاكها المؤّلف عن دير خرب مهجور على قمة مستعصية لعّلها رمزا، قمة صّنين
التي كان الكاتب يقطن عند أحد سفوحها في لبنان. تعود ،« آلاس واللبان » من جبال
الأسطورة بالدير إلى سيدنا نوح الذي استحضر قبيل وفاته ساما كبير أبنائه وأوصاه
أن يبني على القمة، تماما حيث سبق أن رست السفينة، بيتا للرب قوامه دائما تسعة
مختارين من مهمتهم أن يبقوا فيه نارا مشتعلة. فالبيت تذكير دائم للناس بالطوفان
الذي كان من دنيوياتهم أن جلبته على أنفسهم، والنار رمز للإيمان الذي إذا
استمروا في تعهده جّنبهم طوفانا آخر يبدو، قياسا على مسلك الناس في الحياة،
إّنه لا محالة مقبل. أما التسعة فبعدد الأشخاص الذين كانوا في السفينة: ثمانية
هم نوح وذريته، أما التاسع على ما أفضى به نوح لولده، فكان شخصا غير منظور إلا
منه رافقه طوال عهد السفينة وأمسك دائما بيده وهي قابضة الدّفة. وكان أمر نوح
ألا يهتم السدنة باختيار تاسعهم كّلما نقص عددهم وترتب عليهم إتمامه كما هو
مقتضى الوصية، بل أن يضموا إليهم أول طارق مهما كان جنسه أو وضعه أو قيافته،
ذلك أن الذي أرسل التاسع إلى الفلك هو الذي سيتدبر أمر تاسعهم. وكان ما توقعه
نوح في حدسه. فالبيت الذي رغب إلى السدنة فيه أن يعيشوا على الحد الأدنى من
الصدقات وأن يوزعوا الفائض على المحتاجين، أُثقل مع الزمن بثروات الأرض على
أنواعها وتحول سدنته باسم ائتمنوا عليه من متصدقين إلى جماع وطماع ومستثمرين.
أما أن البيت اليوم خرب ومهجور، فلأن رئيسه المتسّلط الجشع في عهد من العهود
رفض استقبال طارئ أتى ليحلّ محل تاسع كان قد رحل، بسبب قيافته المزرية ومظهره
الحقير. إلا أن هذا الطارئ نفسه الذي نجح في إقناع الرئيس أن يدخل البيت ولو
خادما، ما لبث أن تكشف عن شخصية رائية غريبة مغنطت بتعاليمها وإشعاع حضورها
سائر الأخوة ماعدا الرئيس، فضوأوا بالنور الأصيل، ونزعوا عن البيت العتيق ستائر
دنياه التي حالت بين نوافذه والضوء، وهبطوا خلف هاربهم من القمة عبر منحدر من
الصوان رهيب إلى العالم عند السفح لكي يكونوا الخميرة لعهد في الناس جديد. أما
سيرة هذا الهادي وأقواله الخلاصية، وقد سبق أن دونها أحد السبعة في كتابه هو
كتاب مرداد، الاسم الذي عرفوا به معلمهم، فأبقاها المعلم تحت بلاطة المذبح بعد
أن أنزل قضاءه بالرئيس، وهو شمادم، أن يبقى الدهر حارسا للكتاب فلا ينحل أساره
إلا حين يقيض الزمن من يرقى ثانية إلى القمة عبر منحدر الصوان إياه لتسّلم
الوديعة وحلّ الأسار. هكذا حكت الأسطورة كما كان يتداولها أهل السفح في المنطقة
أبا عن جد. أما أ ن أحدا منهم على كر السنين لم يحاول التسلق إلى "قمة المذبح"
للتحقق من الواقع وعتق الراهب المسحور والعودة بالكتاب، فلأن دون تلك القمة على
امتداد شبه عمودي رهيب منحدر مستحيل من الصوان المسنن الدقيق. وحده الراوية
تلهبه الأسطورة ويستثيره التحدي فيشد إلى الكتاب سيرا على الصوان الدقيق المسنن
وعتاده عكاز وسبعة أرغفة. ويتكشف الصعود بعدئذ، رمزا بعد رمز كما هو واقع
الأسطورة كلها، عن الملحمة الدهرية الرهيبة التي هي ملحمة الإنسان العربي منذ
آدم وعهده بالشرخ الكوني بين الشق الساقط والشق الخالص في الكيان الإنساني
الواحد، بل في طبيعة الحياة نفسها بمعناها الشمولي الأوسع. فما أن يمعن
المتسّلق في الصعود حّتى تتعاقب عليه طائفة من الظاهرات العبثية المغربة، يعضه
الجوع فيأتيه من ينتزع أرغفته السبعة ويطعمها كائنات أسطورية، زاعما أن لا شبع
لسالك مثل ذلك الدرب إلا لمن يتخذ من لحمه زادا، ولا ري إلا لمن شرابه من دمه.
وينهش الصوان حذاءه ويبري قدميه ويقعدهما، فيأتيه من يسلبه عكازه زاعما أن خير
عكاز للمقعد أن يسير بلا عكاز. ويقبل عليه الليل ويلسعه البرد حّتى إذا احتمى
بغار، أتاه من يعريه مما تبقى من ثيابه زاعما أن خير لباس للصاعد هو أن يتدرع
بعريه. ويمعن الصوان في لحمه وعظامه نهشا وبريا وتعرية، ويأخذه الوجع الأكبر
والتخّلي الرهيب، فإذا هو من نفسه على شفير "الهوة السوداء" التي لا يلبث أن
يغوص في غيبوبتها وغيهبها العدمي الدامس. وكان أن في ذهاب النفس عودتها: يستفيق
الصاعد فيجد نفسه فعلا على القمة، في الفلقة المقابلة من الجرح الكوني،
و"الكتاب" بين يديه، يتصفحه، يتملاه، ثم يستر عريه بثياب السادن المسحور الذي
انقلب صخرة، ويعاود الهبوط بالرسالة الخلاص التي هي كتاب مرداد، إلى السفح. بين
السفح في الإنسان وقمته منحدر طويل من الصوان، والذي يأخذ على نفسه أن يجتاز
المنحدر ليشد سفلي الإنسان إلى علويه، فينيق عربي يختار أن يترمد هو نفسه في
عدن ومن أجلها، كي يستنبت من رماده أجنحة للناس، بين الكشوفات المكية
و"المدينة"، مدينة إنسان السفح، هجرة وغربة واقتلاع. والذي يختار رد الثانية
إلى الأولى مهجر ومهاجر باسم كتاب، سدنة البيت العتيق الذين هم أناس ما بعد
الطوفان الجدد، قد حالت بين نوافذهم والضوء حضارة الإنسان الآلية المعاصرة
فأعمتهم عن الذي هو "أبعد من موسكو ومن واشنطن" كما هو عنوان أحد مؤّلفات نعيمه
ومنطوقة، وعن تاسع ثمانية الفلك الذي كان له وحده أن يسدد مسار السفينة وينتصر
على الطوفان. لقد دار المهجريون دورتهم مع الحضارة الغربية المعاصرة فتفاعلوا
معها وتأّثروا بها وأخذوا عنها تأكيدها على الإنسان. إلا أن الذي أكدوا هم عليه
كان إنسانهم العربي الدهري لا إنسانها، فظلت لهم هويتهم المباينة. ذلك لم يكن
منهم طلبا مفتعلا لتميز، بل شعروا حقيقيا بامتياز إنساني حضاري. وهكذا كان لهم
من موقع هذا الامتياز أن تحولوا من تلامذة للغرب إلى مرشدين. فحضارة العقل
والعلم والتكنولوجيا، على ما بلغته من قدرة وبأس وجبروت، لا تعدو كونها واقفة
عند الفلقة السفلى من الجرح الكوني، وهي لا محالة غارقة في لجة ذاتها ما لم
يتيسر لها من يجتاز إليها فيجيزها "البحر الأحمر". والذي هو مؤهل بطبيعة تكوينه
الذهني لأن يجتاز المعبر جيئة وذهابا، كما يشهد تراث البشرية كله، هو الإنسان
الإبراهيمي العربي. فعل ذلك في ماضيه، وهو قادر أن يفعل ذلك أيضا في حاضره، إن
هو تمكن أن يعي ذاته ويستفيق على حقيقة هويته. لم يزعم المهجريون أّنهم مخّلصوا
العالم. إلا أّنهم أعطوا بمؤّلفات ك كتاب خالد والنبي وكتاب مرداد وغيرها من
مثيلاتها، النماذج الحية لنوع ذلك الخلاص المنشود، ولهويته. وفي الذي لاقته هذه
المؤّلفات من رواج وشيوع عند الغربيين، وخاصة مرداد والنبي الذي ظلّ لسنوات
طويلة أكثر الكتب مبيعا وانتشارا في الولايات المتحدة، شهادة أّنها، على
عروبتها وغرابتها بالنسبة إلى الإنسان الغربي فاعلة فيه ومستجيبة لحاجة في
نفسه، ومعاصرة. ذلك ليس لأّنها كتبت أصلا بالانكليزية وترجمت إلى معظم اللغات
الغربية الحية، بل لأّنها، وهي موضوعة بألسنة غربية، ذات هوية خاصة ومنبع مغاير
ونكهة غذاء متميز لجوع معاصر مختلف. إّنها تمّثل تراثا بالانكليزية أو بهذه أو
تلك من لغات الغرب، إلا أّنها ليست تراثا إنكليزيا أو غربيا. لذلك لم يحدث، على
شيوعها في الغرب، أن أدخلت في صلب الآداب الغربية أو تمّثلت في المجاميع أو
المختارات التي تعرض لتلك الآداب أو تؤرخ لها. ففي حين كانت الحركة المهجرية
أول نقلة في تراثنا الحديث من أدب بالعربية إلى أدب عربي، فإّنها بنتاجها
الإنكليزي كانت أدبا عربيا بالإنكليزية لا أدبا إنكليزيا.
أضيفت في27/05/2006/ خاص
القصة السورية / تحرير وإخراج موقع القصة السورية
|