دراسات
ومقالات في الأدب المهجري1
من أعلام الأدب المهجري
الأديب رياض المعلوف آخر شعراء العصبة الأندلسية في البرازيل
بقلم الكاتب: د. موسى العويس
نعت الأوساط الثقافية والأدبية في لبنان الأديب المهجري رياض المعلوف، آخر
شعراء العصبة الأندلسية في البرازيل، وآخر شعراء المعالفة المهجريين.
وبموت رياض المعلوف انطوت آخر صفحة من صفحات رواد الأدب االمهجري، ذلك الأدب
الذي شدا به فئة من أبناء العرب المغتربين، حين ألقوا عصا الترحال في تلك
المطارح النائية، لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية تكالبت على بلاد الشام
أواخر القرن التاسع عشر للميلاد وأوائل القرن العشرين، فكانت تلك الهجرة التي
اغترب فيها الأدب العربي ليتجدد سبباً في ظهور إحدى المدارس الشعرية في العصر
الحديث ألا وهي «مدرسة المهجر».
على غير ما ألف، لم تستطع الغربة- رغم مرارتها- إخماد وهج الابداع الأدبي لدى
أولئك، أو أن تقطعهم عن موروث أدبي وفكري وثقافي تشربوه في وطنهم الأم، بل ان
الاغتراب هو الذي فجر ينابيع الإبداع لديهم، واستلهموا منه كثيراً من معانيهم
وصورهم، حتى ظهر في أدبهم ما يسمى بشعر الحنين والغربة.
وفي أطروحتين علميتين تقدمت بهما إلى كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن
سعود الإسلامية قدر لي أن أدرس الأدب المهجري شعره ونثره، وأن استشرف من خلال
نتاج أدبائه، والمقابلات واللقاءات مع بعضهم، أو المعاصرين لهم البيئة الثقافية
التي مهدت لظهور هذا الأدب، وأن استجلي أبرز السمات والخصائص الأدبية له، وكان
من بين أولئك الأدباء الأديب الراحل رياض المعلوف، إبان زيارتي له في مسقط
رأسه«بزحلة» في لبنان عام 1417هـ/1997م.
في«زحلة» رأى رياض المعلوف النور وذلك في عام 1912م كما يقول، ففي واديها نشأ،
وعلى ضفتي البردوني ترعرع ونما. وفي رحاب كل حي من أحياء زحلة سار.
هناك، حيث السهل والوادي، والينبوع والجدول، والتلة والكهف، والصخر والحصى
والتربة، في الأجواء الرحبة، والآفاق البعيدة، في تلك القرية المتواضعة
بمنازلها وغير المتكلفة بحياة أبنائها.
تلك القرية كانت هي الفكر بالنسبة له مولداً ومنشأ، هي دفء الكلمة ملجأ وملاذا،
هي قاموس اللغة أصولاً وأصالة.
في تلك القرية الريفية تنفس خياله شعراً ونثراً، كما تتنفس الطبيعة بفصولها،
سواء ما ابتسم له من فصولها أو اكفهر في كل فصل من فصولها، حتفى من دون تمييز
أو قصور، كما يقول الدكتور/ متري نبهان، فقد عزف على كل الأوتار، وصعد معظم
الألحان، وذلك بفعل المحبة المتفجر بها قلبه إخلاصاً للطبيعة.
لم أجد أديباً من أدباء المهجر تفاعل مع البيئة الريفية بجميع عناصرها تفاعل
رياض معلوف. وقد رسم هذا التفاعل بأدق الصور في كتابيه«صور قروية» و«الريفيات»،
اللذين تعدى فيها الوصف والتصوير إلى رسم النماذج البشرية الريفية وأبعادها،
موظفاً لها كل ما يمتلك من أدوات وطرائق تعبير حتى جاءت بعض موضوعاتها أقرب إلى
المذكرات أو الذكريات. وقد قدم للأول بقوله:«هذه الصور كتبتها بسواد العين، كيف
لا، وأنا شدتني إلى لبنان أواصر الرحم، وحبال الشوق، بعد ما هجرته زمناً،
فراودتني أحلام العودة إلى «زحلة» وواديها، ورحت أستعيد ذكريات الطفولة والصبا
في الأمس الغابر، فكل صورة منها منتزعة من صميمي وحشاشتي وقلبي وستظل هذه الصور
ترافقني طيلة حياتي، إلى أن يطفىء الموت نور حدقاتي ويمحوها..».
من خلال أدب رياض نستشف حبه للطبيعة التي أبدعها الخالق، حيث العذوبة والرقة،
والهدوء والجمال، من غير تكلف أو تصنع أو استهجان أو تزييف فعشقه للطبيعة من
منطلق إنساني بحت، يصل إلى درجة الاغراق في مخاطبة الأرض والتراب،والنبات
والحيوان.
وفيما يبدو أن هذا الامتزاج في المجتمع الريفي، هو الذي جعل منه شخصية مرحة،
حاضرة النكتة والبديهة، خفيف الظل، بارع الحضور، محدث لبق، قد يؤثر العزلة ولكن
بدافع الحذر، صريح في علاقاته الاجتماعية.
ولم يكن للجدية التي اتسم بها الأدب المهجري، وبخاصة لدى أصحاب الاتجاه القومي
نصيب من أدبه، إذ كان بعيداً كل البعد عن الممالقة والمداهنة والتصلف، وغيرها
من صفات قد يكون مبعثها الانسياق إلى حزب سياسي معين تظل فيه أهداف الأدب.وإذا
ماقورن رياض معلوف بغيره من أدباء المهجر وجدناه غير مكثر من الشعر، بل كل ما
صدر عنه جاء على شكل مقطوعات غنائية، ولكنها بشكل أو بآخر ترسم لنا الأطوار
التي مر بها أثناء تكوين حياته الأدبية، كما نقف من خلالها على الفرق الجلي بين
نتاجه في المهجر والوطن، ولاشك أن ذلك الاختلاف من تأثير اختلاف البيئة من جهة،
وتطور شخصيته الأدبية ونموها من جهة أخرى. ففي ديوانه«الأوتار المتقطعة» وهو
باكورة الانتاج تبدو نزعة التشاؤم في شعره، مصطبغة بنظرة سوداوية حيال الوجود،
على غرار نهج أخيه فوزي المعلوف الذي كان التشاؤم سمة شعره، حيث نجد ذلك في قول
رياض.
إيه ربي! خلقت عيني لدمعي
وفؤادي عبدالشقا والعذاب
وخلقت الممات مثل خريف
يفقد العمر في ربيع الشباب
إن نفسي في كف عمري سراج
زيته الدمع من نجيعي المذاب
شحّ دمعي فأخفق النور فيه
كاحتضار الضياء عند الغياب
أما ديوانه«خيالات» فقد حاول فيه الانطلاق على سجيته، والتحرر من التأثر بطرائق
سواه، ولذا نجد إلى جانب نزعة اليأس من الحياة والتبرم منها أخذت تطل في شعره
نزعة التلذذ بمباهج الحياة والإقبال على مسراتها، ويمكن أن يمثل هذا اللون
الجانب اللاهي من أطوار حياته التي تحكي عبث الشباب، حتى ليبدو فيها شيء من
الهبوط الفني المفضي الى السطحية أحياناً على نحو من قوله:
هذه الدنيا لنا/لحبيبي، لي أنا/فتمتع يا حبيبي/فالمنى تتلو المنى/طالما أنت
بقربي/كل شيء هاهنا
وحين تقدمت به السن وآب لوطنه،، وهمدت في نفسه جذوة الصبا ونزق الشباب، تخلى عن
رومانسيته المفرطة في التشاؤم، واتجه بشعره اتجاهاً اجتماعياً، كان- فيما يبدو-
بسبب انغماسه في حياة الريف التي وجد في أعطافها الملاذ الآمن بعد رحلة طويلة
من الضياع والحيرة والتعلق بالمجهول.
وفي هذا اللون من شعره نجد الطرافة في التعبير، في اللفظة والصورة، وهي بلاشك
نابعة عن ذاته العاكسة لمؤثرات تحوطه من معالم وكائنات، حيث نلمح في قصيدة«صباح
الثلوج» غير صورة شعرية ريفية من خلال تساؤله:
أكمام من ياسمين نثير
فوق ريش الحمائم البيضاء
أم شراع على العيون تهادى
إثر تلك العواصف الهوجاء
أمل أبيض أطل علينا
بعد تلك الغمائم السوداء
إلى أن يقول في القصيدة نفسها:
سرت في الثلج مع رفيقة قلبي
في دروب الطبيعة الخرساء
والورود البيضاء تهوي علينا
كنجوم تهوي من العلياء
هكذا الثلج لفّنا برداء
والهوى لفنا بألف رداء
هكذا هو في معظم أشعاره- كما يقول الدكتور/ عمر الدقاق «ذو مزاج انبساطي سمح
يأخذ الحياة من أيسر جوانبها، إنه شعر الأداء الحسي، شعر بطبيعته غنائي الطابع،
فهو أبعد ما يكون فيه عن الروحانية والتأمل الذاتي» ولرياض معلوف دراسات أدبية
وتاريخية استأثرت باهتمامه منها:
1- شعراء المعالقة، اصدار المطبعة الكاثولوكية في بيروت سنة 1962م.
2- الشاعر فوزي المعلوف، المطبعة البوليسية، لبنان 1979م. 3- شاعر«عبقر» شفيق
معلوف. 4- العلامة عيسى«سكندر المعلوف، صدر في صيدا لبنان 1961م. 5- تاريخ فخر
الدين الثاني، المطبعة الكاثولوكية بيروت 1966م. كما صدر له عدة مؤلفات باللغات
الأجنبية منها كتاب- تلاوين- حبات ورمال- الفراشات البيضاء- شعر المرأة والخمر
عند العرب- غيوم.
*
إدارة تعليم منطقة الرياض
أضيفت في18/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
أدباء المهجر .. أرواح ترسم النجاح
بقلم الكاتب: عبد الله بن علي السعد
وقع بين يدي كتاب من تأليف الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي .. يتكلم
فيه المؤلف عن "قصة الأدب المهجري" .. والحقيقة أنني لم أكن قد قرأت كتاباً عن
أدب المهجر أو عن أدبائه ومنهجهم الأدبي .. وكل ما أعرفه عن هذا الأدب هو ما
أراه خلف الشاشات من لقاءات وانتقادات .. أو ما تقع عليه عيناي من مقالات
مبعثرة أو قصاصات من هنا وهناك ، وبعض الدواوين التي سطرها أدباء المهجر .. ولم
يدر في ذهني وقتها أن أتعرض للنص بتحليل أو دراسة .. فقط كنت أقرأ وأتمتع
بالقصيدة كنص أدبي دون أن أشعر أن هذه الأحاسيس كانت تعبيراً عن مشاعر بشر يسعد
في صور السعادة .. ويتألم في صور الألم .. ويحن عند صور الحنين .. أي أنني
أستطيع أن أقول أن الكتاب كان أول شيء أقرأه عن أدب المهجر .
ومع أن الكتاب لم يخلو من أخطاء هي في الحقيقة تمثل وجهة نظر الكاتب
فقط ، وليست رأياً تاريخياً ولا منصفاً ، وأقصد به ما يتعلق بموقفه من الدولة
العثمانية ، ولكن لأن الحديث عن أدب المهجر فلن أشير لهذه النقطة بأكثر من هذه
الإشارة وفيها الكفاية بإذن الله .
الحقيقة أن القارئ سيجد أن الكتاب يشده للتعرف على أدباء المهجر ..
وعلى الوقوف على دواوينهم وقراءة قصص معاناتهم .. بل ربما أخذه الخيال لأبعد من
ذلك فيرى نفسه وقد هاجر من بلده ليستقر في بلد أوربي ويكون لبنة في بناء الأدب
في المهجر .. كل ذلك من أجل أن يسطر روائع ما كتب هؤلاء الرجال في وصف أحوالهم
وغربتهم وأحاسيسهم وطريقة معيشتهم .
ومن مميزات الأدب المهجري الحنين إلى الأوطان وما أكسب ذلك النفوس
من رقة بدت واضحة في كلماتهم وقصائدهم .. وهذا الأمر هو أول ما سيراه المتأمل
لأي نص لأي أديب من أدباء المهجر .
ولكن بالجملة لحظت في هذا الكتاب أمرين .. لا يخصان الكاتب وإنما
يتعلقان بفكرة الكتاب وهي الأدب المهجري وأدبائه .
الأمر الأول : يتعلق باللغة العربية .. كم هي قوية هذه اللغة في
تعبيراتها حتى أنك تقرأ بعض الأبيات فتشعر أنك تقيم معهم في البرازيل .. أو
تقرأ وصفاً فتظن أنك على موعد في نيويورك .. وكم ستتخيل رجلاً يسير وحده في
الغابات يبحث عن موطن يستقر فيه .. أو تراه وهو يختبئ في سفينة في عرض المحيط
.. ثم تتخيل لحظة وصوله إلى ميناء مجهول وعليه أسمال بالية وبقايا كسرة في
حقيبة مهترئة .
وتساوى الجميع في التعامل مع هذه اللغة بغض النظر عن ملته .. وفي
هذا أعرض لكم نموذجاً لبعض الكلمات كتلك التي أطلقها جبران "خذوها يا مسلمون
كلمة من مسيحي أسكن يسوع في شطر من حشاشته ومحمداً في الشطر الثاني .. إن لم
يقم فيكم من ينصر الإسلام على عدوه الداخلي فلا ينقضي هذا الجيل إلا والشرق في
قبضة ذوي الوجوه البائخة والعيون الزرقاء" .
ورتل القرآن وبكى قائلاً : "ويل لكم أيها المسلمون .. أتذل أمة بين
يديها هذا الكنز الثمين .. ويستعمر شعب يملك هذه القوة والعظمة" .. وأعادتني
هذه المقاطع إلى إعجاز هذا الدين في تحدي العرب بهذه اللغة القوية .. وعجز
العرب أن يأتوا بمثل آية من كتاب الله وهم أهل البيان واللغة .. وأهل الوصف
والتعبير .
الأمر الثاني : يتعلق بالأدباء .. ظهرت عدة مميزات في تلك الطبقة من
الشعراء تجعل المرء يتأمل في إعجاب الصورة النادرة من قوة العزيمة التي أعطتهم
هذه القوة وأوصلتهم إلى هذه المنزلة .. وكيف وصلوا واستقلوا بأدبهم .. ثم كيف
قاموا وفي سنين قليلة بوضع علماً ومرحلة من مراحل تاريخ الأدبي المعاصر .
-همة في التميز في تحقيق الأهداف .. بدا هذا الأمر من خلال
نجاحهم وهم الأقلية الغرباء الذين وصلوا إلى بلد غريب في لغته وعاداته ، لا
يملكون قيمة وجبة يقتاتون بها .. ولا يعرفون مكاناً يأوون إليه .. ثم يصبحون
أرباب التجارة والصناعة في تلك الدول .
-قدرة على الوصف .. سواء الوصف المادي الذي سلكه البعض لوصف
الأماكن أو الأشياء .. وكان ذلك في فترات ولادة المهجر تغير الكثير من الأشياء
المحيطة بهم في سرعة تستدعيها النهضة الصناعية في تلك الدول . أو من خلال وصف
المشاعر والتعبير عن صورة حب للوطن نادرة حقاً .
وهم بهذه الصور الرائعة نقلوا لنا جانبين .. الأول يتعلق بالماديات
والثاني يختص بالمعنويات .. وهي بلا شك متوفرة من قبل في الشعر العربي .. ولكن
ولطبيعة البلاد هناك فقد أثروا الأدب بمزيد من صور الجمال وبلاغة التعبير ..
ودقة الوصف .. ويستطيع كل ناظر إليها مطلع عليها أن يستفيد منهم حال خوض تجربة
كتابية مشتبهة .
-تميزاً في الإبداع .. وذلك من خلال طرق مجالات الثقافة
الأدبية المتنوعة كالقصة والقصيدة والمقال .. وتجديد فنون الأدب والوصف .
والقوة في التعبير يغذي ذلك الحنين الجارف إلى مواطنهم الأصلية .. مع الوفاء
لها والاعتراف بحبهم لها ومكانتها في نفوسهم.
-خلق أجواء مناسبة لهم .. تمكنهم من التعايش مع كل المعطيات
المحيطة بهم ، ومن ثم التغلب على المؤثرات والظهور بقوة في مجتمع غير مجتمعهم
وثقافة غير ثقافتهم .. مع تقنين هذا التواجد .. وذلك من خلال التوثيق الإعلامي
بإصدار مطبوعات دورية تعبر عن حاجاتهم .. ومن خلال إنشاء أربطة أدبية عربية في
دول غير عربية .. يلتقي فيها كل الناس من كل مكان لا يجمعهم رابط سوى رابط
القومية والحنين إلى العروبة .. وكم نحتاج إلى إعادة دراسة هذه الظاهرة الفريدة
الرائعة من زاوية جديدة .. ومحاولة الاستفادة منها في توجيه الطاقات الإسلامية
المنتشرة في كل مكان في العالم .. والبعد عن التعصب المذهبي والخلاف القائم ليس
بين المذاهب فحسب ، بل بين أتباع المذهب الواحد .. مع تجاوز السلبيات التي وجدت
فيها ، والتي لابد أن توجد بسبب التباين في طباع البشر .. ولا ننسى أن لكل أمة
من هذه الأمم صفات ومؤهلات ولذلك فمسألة وجود السلبيات ، أو التنوع في القرارات
والخلاف في وجهات النظر مسألة طبيعية .
أضيفت في24/05/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتب
قراءة في أدب الحنين
مهاة
فرح الخوري مسيرة نبل وعطاء
بقلم: مجموعة باحثين
* من قلب يحس بالمأساة وعظمها أتكلم اليوم، من حنين وشوق إزاء أصدقاء وأهل
وأبناء يبتعدون بالجسم، يتوارون عن النظر أتطرق للبحث الذي اخترت بمحض إرادتي،
وبرغبة جامحة في النفس.
من حرقة قلب، وفكر يحلق أبداً إلى الأراضي البعيدة، إلى ما وراء البحار، مما
أسمع ومما أرى ومما أحس، أنطلق اليوم وإياكم ببحث لعله يلبي مشاعر الحضور
الكريم وشيئاً من أفكاره أسعى في هذه الأمسية أن أكون مرآة لصفاء قلوب أخوة
وأصدقاء. أقول انعكاساً لما يراود النفس لدى الكثيرين...
يخال إلي اليوم أن المجتمع الذي أنا فرد منه، أنتمي إليه، يلهج حالماً بما يدعى
"البطاقة الخضراء"
Green Card.
يخيل إلي أن هذا المجتمع انقسم بين من حصل على البطاقة تلك وبين من سيحصل عليها
عاجلاً أو آجلاً. أما هذا الذي لم يفكر فيها أو لم تخطر على باله، فغدا على
هامش بيئة معينة.. أو مجتمع مختار.
هذا الحلم، يراه بعضنا جميلاً، يتحقق لدى بعضهم، يبقى مجرد حلم لدى أناس
كثيرين.
هذه السعادة، البطاقة الخضراء، العنقاء، أسطورة الأساطير، خرافة الجمال،
العجيبة الخارقة، إنها الحبيب المنتظر، لؤلؤة في قاع البحر.
على الأرصفة مع بدء ساعات النهار الأولى، ننتظر بزوغ الفجر، وإطلالة الشمس إلى
الظهيرة غالباً، أمام الأبواب الموصدة حيناً والمستقبلة بحذر أو بتردد أحياناً،
ننتظر أياماً طوالاً، سنوات عجافاً.. لم لا؟ هي حديث الأحاديث، جائزة
المتسابقين، إنها تقليعة العصر.. العدوى سارية لا محال..
هي مصدر السعادة، إذا حصل عليها المرء فقد قبض على ربة الجمال والعز. البطاقة
الخضراء... بها نقطع البحار فنستقر.. نحلق في الأجواء ونحل، بل نترك المعلوم...
لندرك المجهول..
لكن! هي ليست دائماً للسفر والابتعاد...
هنا وضعت في أدراج محكمة الإغلاق، هناك في صندوق حديدي مع قطع المجوهرات، هناك
هناك تشكل للحفاظ عليها، حجة مشروعة لإقناع النفس والغير، بالذهاب والإياب..
رحلة سنوية إلى ما وراء البحار، لا بد منها..
هي تصبح سبب زواج أقول (مهر أو نقد)، موفق تارة، موصل إلى الطلاق طوراً، هي سبب
ابتعاد مؤقت للزواج عن زوجه وللأم أو للأب عن أطفالهما..
كيف تصبح الحقيقة وهماً؟ والاستقرار قلقاً؟ يا إلهي إلى أين نسير؟ وإلى متى
نواصل السعي؟ كيف يصبح المجهول أقرب إلى النفس وأحب إلى القلب من المعلوم؟ لعل
لهذا أسباباً حقيقية واقعية حيناً وأسباباً وهمية أحياناً تدفع بالإنسان إلى
التخلي عما يعرف ويحب، واللجوء إلى ما لا يعرف، قد يحب وقد يكره. إذ لا يمكن
لأي منا أن يحب مسبقاً ما لا يعرف.
مع ذلك فالحصول على البطاقة الخضراء هي بشرى سعيدة نبثها للنفس وللغير. نبثها
أحياناً بشيء من السرّية ـ بفرح عظيم.
لست اليوم بصدد العودة إلى التاريخ القديم ولا إلى الهجرة بكل أنواعها... فمن
أرض إلى أرض قريبة،منتقلين رحلاً بحكم ظروف حياتية زراعية، من مجتمع البداوة
إلى المجتمع الحضري، من القرية إلى المدينة، من مدينة إلى مثيلتها، من بلد إلى
بلد عربي مماثل، أكثر غنى، من هنا إلى ما وراء البحار، لست بصدد إيجاد حل
لمشكلة مستعصية منذ أقدم الأزمنة.. ولا التحري عن أسباب الهجرات المتلاحقة عبر
التاريخ.
هل الهجرة طابع يختص بنا نحن؟
إن التنقل نزعة طبيعية لدى كل إنسان، بل إنه غريزة من غرائز المرء. يحب الجديد
يتوق إلى الاكتشاف، ويفتش عن المجهول.
"سافر ففي الأسفار خمس فوائد"
وعلم وآداب وصحبة ماجد
تفرّج هم واكتساب معيشة
سبقنا اليونانيون، فهم أول من هاجر من بلادهم للاستقرار بعيداً، ولم يتردد
الإسبانيون في ولوج أنحاء أوروبة، أما الأمة الأرمنية فقد زحفت إلى أراضي الله
الواسعة.
هناك في القارة البعيدة في أوستراليا، أو في "فان كوفر" غربي كندا أو في أميركا
الشمالية تجد أعداداً لا يستهان بها من الرعايا اليونانيين، ولا بد من ناد
هيلليني في كل مكان وفي كل مدينة من مدن أوستراليا أو غيرها، يتجمع الرعايا
اليونانيون فيه يبعثون عادات اليونان وتقاليده، ترضع الأم ابنها مع حليبها
اللغة اليونانية والتراث التاريخي والشعبي.. والأرمن أيضاً وأيضاً، لا يختلفون
عن اليونان بهذه الأمور.. فالشعوب تتماثل وتتشابه.. وغريزة التنقل والهجرة
طبيعية لدى كل إنسان. ونحن لماذا نكون على نحو آخر.
إنني والكلمة العربية "هجر" ضدان. فلا أحب ترك الشيء أو الإعراض عنه، ولا
أستسيغ هجر الزوج لزوجه، مهما كانت الأسباب، ولا هجر الأرض ولا مشتقات هذا
الفعل، كهجرة الأدمغة وغير ذلك.. كما وأنني أنفر من فعل غرب ومشتقاته اغترب
وتغرب، حبذا لو لم أجدهما في المعاجم اللغوية، حبذا لو يبطل استخدامهما..
وينزعا عن ألسنة الناس.
يحن المرء إلى بيت أجداده، إلى البيت الذي ولد فيه، نشأ وترعرع، مهما أحب
الجديد، فإنه يتكلم بشغف عن بيت الطفولة.. يحن إلى الحي القديم الذي نشأ فيه.
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبداً لأول منزل
تحضرني هنا قصة ميسون الكلبية، شاعرة من شواعر العرب تزوجها معاوية بن أبي
سفيان، نقلها من البدو إلى دمشق وأسكنها قصراً من قصور الخلافة فكانت تكثر
الحنين والتذكير بمسقط رأسها. سمعها معاوية تنشد قصيدة أقتطع منها الأبيات
التالية:
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إليّ من لبس الشفوف
وبيت تخفق الأرياح فيه
أحب إليّ من قصر منيف
وأكل كسيرة من كسر بيتي
أحب إلي من أكل الرغيف
فما كان من معاوية إلا أن أطلقها وطلب منها أن تلتحق بأهلها..
إذا كانت قصة شاعرة العرب قديمة ألا يطالعنا كتاب المهجر وشعراؤه بما يشبهها من
بعيد أو من قريب؟
مهما طال ابتعاد الإنسان عن بيته، عن وطنه، ومهما اندمج في مجتمعه الجديد فإن
هذا لا يحول دون الحب والحنين والإخلاص والوفاء للبلاد.
فالمسافات البرية الشاسعة، البحرية، الأجواء الواسعة التي تفصل بين جسم الإنسان
وبين قلبه العالق في تربته، وبين فكره المحلق أبداً إلى أرضه، هذه المسافات
إنها لعمري تزيد المرء تعلقاً وتؤجج فيه عواطف وأحاسيس متميزة، لأنها امتزجت
بحضارات وثقافات متنوعة.
لماذا الهجرة؟ ما هي أسبابها؟
بدأت الهجرة في بلادنا في النصف الثاني أو الربع الأخير من القرن التاسع عشر
وكان لها أسبابها في بلاد الشام قاطبة. إذ ابتليت هذه البلاد باحتلال عثماني
خلال خمسة قرون ذاق فيها الشعب العربي ما ذاق، من صنوف العذاب والتجهيل
والإفقار والتشريد. يضاف إلى ذلك التمييز الذي فرض من قبل العثماني بين الجنسية
وبين التبعية بين دين وبين دين آخر.
فلم تخل مدينة ولا قرية ولا حتى بيت من الهجرة ـ هذه لا خيار بينها وبين حل آخر
ـ إما هي وإما تحمل ما لا يُحمل من استبداد وقمع وجور.. كم وكم من أهلنا غادر
البلاد هرباً من الخدمة في الجيش العثماني من "السوق" هذا علاوة على فرض
الضرائب الباهظة التي كانت تجبى من فئة دون أخرى وعن طريق "متعهدين" همهم
الإثراء.
كم عانى هؤلاء للحصول على "الناولون" بطاقة السفر في باخرة شحن غالباً، أربعون
يوماً من العذاب للوصول إلى شاطئ السلامة.. إلى أرض "كريستوفوروس كولومبس.
لم تكن البطاقة الخضراء ولا ننسى "سفر برلك" واسطة لجنسية أو إقامة.
عبّر جبران خليل جبران عن انسلاخ الإنسان من جذوره، بغناء شعبي حزين يدور حول
"وصف المركب الجاثم على الميناء، ينذر صفيره بالرحيل، فتتمزق القلوب مع صوت
الصفير، والفراق الذي لا خاطر للمغترب فيه".. إنه مرغم على الرحيل.
أما معاناة المغترب لدى وصوله وصعوبة الحصول على سبل العيش و"الكشة" التي كانت
حلاً لا مفر منه لغالبية المغتربين في بدء حياتهم، فقد تركت في نفوس أكثرهم
أثراً ذكر في جل عطاءاتهم.
كذلك لم يقف المهاجر مكتوف الأيدي في بلاد الغربة بل كافح هناك إلى جانب أخيه
الذي بقي على أرضه. بنى كياناً لنفسه. أنشأ المنظمات والمؤسسات، والصحف،
المجلات، النوادي ومراكز لقاءات وتجمعات.
تمسك الإنسان السوري بشدة بلغته العربية، كان فخوراً بغناها وفعلها كوسيلة
للتعبير عن الفكر و قد جاء في كتاب الأستاذ فيليب حتي "السوريون في أمريكا" ما
يلي:
"ما زال الجيل الأول من السوريين ينظر إلى اللغة العربية نظرة تقرب من التقديس
ونفوسهم لا تهتز إلا لدى سماعها. وهم يتطلعون بشغف إلى خطيب عربي يخطب بينهم
بلغتهم الأم وما فيها من غنى وموسيقى، ولا يجدون مبرراً أن يحاضر خطيب بأية لغة
أخرى".
أريد أن ألفت الحضور الكريم إلى قول "حتي" هذا يشمل المغتربين المغادرين من
سورية الطبيعية، لا سورية كما هي اليوم في حدودها الجغرافية المصطنعة.
تحضرني قصة من الواقع جرت في أقصى جنوب الشيلي، نشرت في مجلة المسرة الصادرة في
بيروت.
حين وصل البطريرك مكسيموس الخامس حكيم إلى تلك البلدة النائية في جنوب الشيلي
في يوم أحد، راح يقيم قداساً في كنيستها الصغيرة. ولم يكن هناك مصلون قط.
ما أن أنهى الصلاة حتى شاهد في زاوية الكنيسة رجلاً مسناً يجهش بالبكاء. اقترب
منه وسأله باللغة الإسبانية عما به. أجابه الرجل باللغة العربية قائلاً:
"أصلي سوري، اغتربت منذ ستين عاماً، وانتهى بي الأمر إلى هذه القرية الصغيرة،
واليوم ما أن علمت أن قسيساً عربياً يقيم قداساً هنا حتى أتيت ليسرّ قلبي بسماع
اللغة العربية، التي فقدتها منذ اغترابي.. غمرني الفرح إلى درجة البكاء بهذه
الصلاة، وأنا مسلم"..
إنها لعمري قصة تعني ما تعني من التعلق باللغة كوسيلة حب وحنين للأرض.
قبل أن يلج الولايات المتحدة أبناء سورية، استقبلت الشعوب الأوروبية التي هاجرت
تحت ضغط الاضطهاد الديني، الضيق الاقتصادي، كبت الحريات وقساوة العيش.
بالنسبة إلى بلادنا حدثت هجرة واسعة إلى الأمريكيتين علاوة على مصر وإفريقيا
وآسيا وبقاع غيرها من بقاع الأرض. قدّر عدد المهاجرين بمليون شخص أي بثلث سكان
سورية في أواخر القرن التاسع عشر.. عدد لا يستهان به.
لم أعثر على القوانين الأميركية السائدة آنئذ والناظمة لاستقبال الغرباء
وإقامتهم.. لم تكن بكل الأحوال البطاقة الخضراء، كما قلت. أجهل جهلاً تاماً كيف
حصل هؤلاء بسهولة على الإقامة والجنسية والعمل إلى ما غير ذلك.. لكن لا بد من
الاعتراف بفضل تلك البلاد التي أتاحت البقاء للمهاجرين أذكر على سبيل المثال لا
الحصر، أميركا الشمالية، كندا، الأرجنتين، البرازيل، كولومبيا.. إلخ، وكانت هذه
البلاد إضافة إلى تدني نسبة الكثافة السكانية لديها، قدرت الأوضاع السائدة
وفتحت صدرها للمظلومين. لم يكن ثمة حل بديل.
بيد أنه في عام 1921 عقد اتفاق فيما بين فرنسا بوصفها دولة منتدبة ممثلة
بالجنرال
Gouraud
وبين الولايات المتحدة الأميركية ممثلة بقنصلها
Knabenshue
حول الاعتراف بالجنسية الأميركية الممنوحة لرعايا الدول تحت الانتداب، مفادها
أن الجنسية الأمريكية لا تمنح إلا بعد إقامة خمس سنوات في الولايات المتحدة،
ولا يعترف بها إذا ما حصل عليها بطريق الغش. وأن مفعول الحماية الأميركية ينتهي
مبدئياً إذا ما أمضى المشمول بها سنتين في بلده الأصلي، إلا إذا كانت هنالك
ظروف خاصة وقاطعة تقبلها ـ نادراً تزيل الحكومة الأميركية، قرينة الهجرة (من
أميركا). يعرف هذا الاتفاق باسم "اتفاق
Knabenshue Gouraud".
بكل الأحوال، فإن الظروف المحيطة بتلك الآونة، والشكل الذي خرج به أهل البلاد،
وأحوال المهاجرين المادية جعلت عودة المغتربين إلى بلادهم متعذرة بل مستحيلة.
جلهم قضى دون أن يطفئ جذوة الحب والحنين، ومنهم من تحققت أمنياتهم بالجيل
الثاني. كثيراً ما تردد على مسامعي في يفاعتي، بل كثيراً ما تساءلت؟ لماذا لا
يزورنا من أميركا إلا المسنون؟ كنا نضحك لهذه الظاهرة.. لقد فاتنا في تلك
الآونة أن ندرك ما حل بالمغتربين، العذاب الذي عانوه والشدة التي حلت بهم
لإدراك ما وصلوا إليه، فاتنا أن في شبابهم كانت العودة لزيارة بلادهم متعذرة بل
مستحيلة.
إننا نعرف حق المعرفة أن أغلبية المغتربين، من بسطاء الناس إلى المتعلمين، إلى
الأدباء والشعراء، إلى الفنانين العازفين، حملة الناي والعود والقانون، إلى
الأطباء والمهندسين والعلماء.. حملوا أبواقهم منشدين نشيد الحب، بعثوا بكلمات
الحنين، ذرفوا دموع الشوق، عبّر كل حسب هواه.
منذ مدة وجيزة عاد طبيب سوري معروف رجلاً مسناً شبه مقعد، كان هاجر من مدينة
حمص منذ زمن بعيد وقطن في إحدى الولايات الأميركية.
ما أن سأله الطبيب عن أحواله حتى أجابه: تعال وانظر من هذه النافذة.. كل ما
تراه حولي ملك لي.. هذه الأطيان والأبنية والسيارات.. وأنا على استعداد
للاستغناء عنها برمتها لقاء نظرة ألقيها على الحجر الأسود في حمص ـ وأجهش
بالبكاء..
بهذه البساطة عبّر رجل الأعمال الغني.
ما الفرق بين هذا التعبير البسيط وبين ما أنشده الشاعر نسيب عريضة في قصيدته
"أم الحجار السود" مما قال:
يا دهر قد طال البعاد عن الوطن
هل عودة ترجى وقد فات الظعن
عد بي إلى حمص ولو حشو الكفن
واهتف أتيت بعاثر مردودِ
واجعل ضريحي من حجار سودِ
شعراء المهجر وأدباؤه تطرقوا إلى الأجناس الأدبية المتنوعة واستحقوا اهتماماً
كبيراً من كتابنا وأدبائنا الذين أفردوا لهم دراسات عديدة. فصدرت الكتب
والمجلات التي قومت الشعراء ونتاجهم والأدباء وكتاباتهم. أذكر على سبيل المثال
لا الحصر سلسلة قبسات من الأدب المهجري للأستاذ نعمان حرب الذي اهتم بشعراء
البرازيل بصورة خاصة. ومجلة الثقافة التي صدرت بأعداد خاصة بالأدب المهجري
المعاصر وكان هدف الأستاذ مدحت عكاش صاحبها ورئيس تحريرها في إصدارها دحض
الافتراءات التي أنكرت على أدباء المهجر أدبهم ورفض الاتهامات التي ألصقت بهم
كالعقم والبعد عن الأصالة، وكتاب "التجديد في شعر المهجر" تأليف محمد مصطفى
هدّارة و"العروبة في شعر المهجر" لفريد جحا و"الأدب المهجري" و"نظرة إجمالية في
الأدب المهجري" لعيسى الناعوري و"أدب المغتربين" لإلياس قنصل "المغتربون العرب
في أمريكا الشمالية" للدكتور جورج طعمة. يخصص فصلاً فيه لأدباء المهجر، يعتبرهم
ظاهرة فذة.
ولست بصدد تعداد ما كتب عن جبران بشكل خاص، ما هي رسائله إلى مي جمعتها الأديبة
السيدة سلمى الحفار الكزبري.. بجهد كبير يستحق منا وقفة وتأملاً، ويكفينا أن
نطلع على كتاب "جبران في آثار الدارسين" للأستاذ يوسف عبد الأحد.. لندرك حجم ما
كتب جبران وما كتب عنه فكتاب عبد الأحد أشبه ما يكون بمعجم يحتوي كل ما كتب عن
هذا الفيلسوف لعام 1981.. ومن أهم الكتب التي صدرت عن جبران مؤلف ضخم في
الإنكليزية "خليل جبران حياته والعالم" تأليف جان جبران و"خليل جبران" تزينه
مائة صورة في حياة جبران.
أما مؤلف جورج صيدح "أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية" فقد أعيدت طباعته
مرات عديدة، وهو سفر ضخم أرّخ حياة المهاجرين العرب، والأدباء والشعراء،
الأحداث الوطنية، النكبات التي حلت بالبلاد.. فلكل هؤلاء الفضل في إبراز الحركة
الأدبية ولهم منا الولاء والشكر.
إذا كان بعض الكتاب والنقاد قسموا الشعر المهجري إلى شمالي وجنوبي وجعلوا لبعضه
خصائص وامتيازات عن البعض الآخر، من حيث الشكل والبنية الشعرية والأصول
والقواعد، والوزن والبحور والبيان والبلاغة، فإنني أرى أن الموضوع والمعنى
والعمق لا تختلف كثيراً من مغترب إلى آخر في الشمال عاش أم في الجنوب، فالحنين
واحد وإن اختلف الشكل، والحب أبدي وإن اختلف الوزن، أليس الشعر المهجري وأدب
الحنين خلقاً، إبداعاً منحى جديداً في الأجناس المعروفة قديماً وحديثاً؟
فالمسافات البرية، البحرية، والأجواء الواسعة التي تفصل بين جسم الإنسان وبين
قلبه العالق في تربته وبين فكره المحلق أبداً إلى أرضه، وأهله، هذه، إنها لعمرى
تزيد المرء تعلقاً وتؤجج فيه عواطف وأحاسيس متميزة. ألا يذرفون الدموع لكل
كارثة تلم في بلادهم؟ في أوطانهم؟ ألم تستحق فلسطين منهم صفحات بل دواوين؟
وكما قال صيدح "توخّى أديب المهجر أن يهز القلوب قبل أن يهز العقول أما أنا
فأرى أنه بالبعد تتجلى المحبة الكامنة الحقيقية فتنجلي بأشكال عديدة، محبة
منزهة عن المصلحة والمسايرة، لا شائبة فيها، المنزهة عن السعي لولوج مراكز
ومناصب فيها المغريات والعطاءات.. محبة إنسانية صافية...
أنشأ أبناء بلاد الشام ما أنشؤوا من رابطات وجمعيات: فمن "الرابطة القلمية"،
عميدها جبران خليل جبران إلى "رابطة مينرفا" في نيويورك إلى "العصبة الأندلسية"
في الجنوب مؤسسها ميشيل معلوف وتولى رئاستها، ثم خلفه الشاعر القروي ـ لا بد من
وقفة قصيرة عند هذه العصبة، فاسمها يدل عليها إذ تأثرت بالأدب والشعر
الأندلسيين وقد فسر حبيب مسعود معنى تسمية العصبة الأندلسية بقولـه "إنها
التيمن بالتراث الغالي الذي تركه العرب في الأندلس"...
أما في عالم الصحف والمجلات، فإنها تعد بالعشرات في الأمريكيتين.. أذكر منها
على سبيل المثال، صحيفة "كوكب" أول صحيفة يومية تصدر بالعربية في نيويورك وكان
ذلك عام 1892 أنشأها الدكتور نجيب عربيلي، تلتها "مجلة الثقافة"، "الفنون"،
"مجلة الرابطة"، "جريدة السائح"، "مجلة المواهب"، "العلم العربي"، "مجلة العصبة
الأندلسية"، "المراحل"، "النشرة الأرثوذكسية" إلخ...
كانت كلها بلا شك الناطق السياسي الأدبي العاطفي الوطني لشعرائنا وأدبائنا، كما
ساعدت على المحافظة على اللغة العربية وأدبائها. علماً أنه كانت لها سلبياتها..
أيضاً. فقد عكست الفردية والأنانية لدى بعض المغتربين وتعذر التعاون فيما بين
أبناء الوطن الواحد وقد قيل إنها كانت سبباً لإثارة مشاعر طائفية، وعائلية
وإقليمية، أدت إلى خلق فتنة بين أفراد الجالية في نيويورك عام 1904.
وقع على أثرها عدد من الجرحى، تطلب ذلك تدخل البوليس الأميركي ونشرت الصحف
الأميركية الكبرى أنباء الحادث.
وقد علق المؤرخ الأب قرطباوي على سلبيات تعدد الصحافة بما يلي: "غير أن صحافتنا
السورية نظير تجارتنا وسائر أحوالنا الأخرى يوجد فيها محل للإصلاح والرقي. ولو
لم نكن نكتب للتاريخ لكنا نتحاشى ذكر الأمور المحزنة التي حدثت بين السوريين
عام 1904. وقد أضرّت بأحوالهم وأشغالهم، وكبّدتهم من النفقات التي لو صرفت في
سبيل معهد علمي أو أي مشروع آخر لكانت أبقت لهم ذكراً حسناً خالداً... "ويوقع
الأب قرطباي اللوم على أصحاب الجرائد وأرباب القلم، فهم أول من أوقد جذوة تلك
الخصومات والقلاقل بين أبناء الوطن الواحد بينما هم أحوج ما يمكن إلى النظام
والتكافل في ديار غربتهم...
أدباؤنا وشعراؤنا وصحفيونا كثر، فمهما عددت ومهما ذكرت لا يمكنني أن أحيط بهم
وأن أوفي أياً منهم بعض حقه.
لم يتعدّ بحثي هذا محاولة إبراز التشابه أو المقارنة فيما بينهم في الحنين إلى
الأهل والوطن وفي الحب لديهم الذي هو نبع لا ينضب وبهذا لست مع التسلسل الزمني
لهجرة كل منهم لبقائه، لبدء إنتاجه، وعطاءاته.
* إذا ما أنشد المطران فيليب صليبا على متن الطائرة التي حملته إلى دمشق،
قالوا: تحب الشام؟ قلت جوانحي
مقصوصة فيها وقلت فؤادي
* فإن جورج صيدح قد أنشد:
وطني ما زلت أدعوك أبي
وجراح اليتم في قلب الولد
هل درى الدهر الذي فرقنا
أنه فرّق روحاً عن جسد؟
* أما إيليا أبو ماضي فيقول بهذا الصدد:
أنا في نيويورك بالجسم وبالـ
ـروح في الشرق على تلك الهضاب
أنا في الغوطة زهر وندى
أنا في لبنان نجوى وتصابي
قال أيضاً أبو ماضي:
اثنان أعيا الدهر أن يبليهما
لبنان والأمل الذي لذويه
نشتاقه والصيف فوق هضابه
ونحبه والثلج في واديه
وطني ستبقى الأرض عندي كلها
حتى أعود إليه أرض التيه
سألوا الجمال فقال: هذا هيكلي،
والشعر: قال بنيت عرشي فيه
* وشاعر الثورة الفلسطينية حنا جاسر بنفس الموضوع: بعنوان "من خلف البحور"
قلبي إلى وطني يحن... ينوح.... من خلف البحور.
يبكي بكاء اليائسين، فلا عزاء.. ولا سرور.
أواه... لو يصل النحيب إلى مسامع قريتي..
لشكوت أحزان النوى، وبثثت جمرة لوعتي..
لكنما شكوى الغريب تذوب في صخب الهدير..
* وميخائيل نعيمة، أنشد في شبابه قصيدة بعنوان أخي، يقول فيها:
أخي، من نحن لا وطن ولا أهل ولا جار
إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار
فقد خمت بنا الدنيا، كما خمت بموتانا
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقاً آخر
نوارى فيه أحيانا"
* أما فوزي المعلوف فقد أنشد:
قسماً بأهلي لم أفارق عن رضا
أهلي، وهم ذخري، وركن عمادي
لكن أنفت بأن أعيش بموطني
عبداً وكنت به من الأسياد
سبب هذا الرفض هو المعاناة الشديدة من جراء الاحتلال.
* وقال الشاعر زكي قنصل في الحنين أيضاً:
حتام أخنق غصاتي وأنتظرُ
طال الطريق وأوهى عزمي السفرُ
جارت عليّ النوى واستنزفت كبدي
فكيف يضحك في قيثارتي وترُ؟
أنّى التفت رأيت الأفق معتكراً
أفي سمائي، أم في مقلتي الكدرُ؟
رأى قنصل أفق الغربة معتكراً، هل بسبب اعتكار النفس لبعده عن وطنه وأهله؟
* ومما قال عبد اللطيف يونس حول ذكرياته المغردة في رحاب بيته:
أيها البيت لا عدمتك بيتا
كنت ملجأ الضعيف في الحر والقر
كنت مأوى الصفاة في الليلة النكراء
تأويهم ولا تتنكر
* والشاعر القروي، وما أدراك ما الشاعر رشيد سليم الخوري، فما ترك مناسبة ولا
جنساً من أجناس الشعر إلاّ وغنى به عن عوده الذي رافقه حتى الموت:
ناء عن الأوطان يفصلني
عمن أحب البر والبحر
في وحشة لا شيء يؤنسني
إلاّ أنا والعود والشعر
حولي أعاجم يرطنون، فما
للضاد عند فصيحهم قدر
ناس ولكن لا أنس بهم
ومدينة لكنها قفر
* وفي المآسي التي حلت فقد كُتب الكثير وأنشدت الملفات، أنّى لي أن أحيط بكل
ذلك.. قال صيدح:
واهاً فلسطين، كم غاز قهرت وكم
جيش رددت عن الأسوار منهزم
حتى لُطمت بكف لا سوار لها
شعب بلا وطن، جند بلا علم
* أما خوف الشاعر مما يمكن أن يحل بالأمة العربية من مصائب، لا يمكن ردها من
غزو وهجومات قال:
رُدَّهم، لا ثبتتْ أقدامهم
قبل أن يقضي قضاء لا يُرد
من صلاح الدين خذها عبرة
ومن الجيش العرابيّ المدد
لا تُطِل عمري إلى يوم به
تحكمَ الجرذان في غاب الأسد
* أما المطران فيليب صليبا، متروبوليت الطائفة الأرثوذكسية العربية في الولايات
المتحدة الأميركية فتهتز مشاعره لكل حدث يلم في بلاد الشام. وقد أنشد الكثير
ونشر الكثير ويعتبر من الشعراء الشباب، أقتطع بعض ما قال في جنوب لبنان، دفعه
إلى ذلك استشهاد سناء محيدلي:
يا جنوب انتفض على الأعداء
واملأ الكون من نجيع الدماء
فجّر الأرض بالبراكين واكتب
في سجل الخلود سفر الفداء
إلى أن يقول:
كل يوم تغيب عنا سناءٌ
تنبت الأرض ألف ألف سناء
كل يوم يموت منا شهيدٌ
تتمنى قوافل الشهداء..
أن تكون الشهيد فالموت فخرٌ
وقفة العز شيمة العظماء
صور.. يا صور.. يا حبيبة قلبي
يا طريق المسيح والأنبياء
لن يكون الجنوب إلا لشعب
عربي وليس للعملاء
أريد أن أشير إلى أن "ديوان العماد مصطفى طلاس "شاعر وقصيدة" قد حوى مما حوى في
جزأيه، قصائد لشعراء المهجر.. ومنهم الشاعر القروي وإيليا أبو ماضي وزكي قنصل
والمطران فيليب صليبا وخليل فرحات وغيرهم.. إنها لفتة تستحق التقدير والشكر..
أحب أن أشير إلى أن الأدب المهجري وشعره لم يكتفيا بما سردت من "الحنين والحماس
الوطني" فما ترك جنساً أدبياً إلاّ وتطرق إليه.. الغزل، الهجاء، الرثاء، النقد،
الفخر بالشرق والعرب، الابتهال إلى الله، تقديس أنبيائه، وصف الطبيعة والتأمل
والألم.. وقد أوجد أدباء المهجر مدارس أدبية لذواتهم. وإني في هذه الأمسية كمن
يغرف كوباً من الماء من بحر خضم واسع يزخر بالعطاءات أردد ما قال حنا جاسر عن
شعر الرابطيين
"لم تلد المحبة الإنسانية أرقى منه"
كما أذكر بمقولة جورج صيدح:
"أدب المهجر أدب عربي البذار، عربي الجنى، فرع عريق من دوحة العروبة، حملته
الرياح إلى مشاتل العالم الجديد فزكا في كل تربة، وأينع تحت كل سماء. طبعت شمس
الغرب ألوانها على أوراقه، أما لبه فيحيا على إشعاع الشرق، وقلبه يختلج بنسمات
الصحراء".
فمنذ أن ألف الريحاني أول كتبه عام 1905 وصوت أبنائنا يدوي في حقل الشعر
والنثر. يعتبر صيدح أن أمين الريحاني، أب الأدب المهجري، ويصف كيف غذّى الوليد
الهزيل بمداد القلم وبعصير الروح، ويقال أن الممثلة العالمية "اليونور دوزي"
حين دعته إلى مأدبة، وكان حاضراً الموسيقي "رافايل" والفنان "جان رونوار"
والشاعر "روستان" وغيرهم، جثت المضيفة أمام الريحاني وخاطبته قائلة: "إن سقف
بيتي أحقر من أن يظللك يا فيلسوف الشرق. أخبرني بالله عليك كيف يتفتح الورد في
جنائن بلادك، كيف تحرقون البخور في معابدكم القديمة، إنني أريد أن أعبد الإله
الذي تعبدون".
لم يكتف المهاجرون من بلاد الشام بالغناء والإنشاد بل سعوا وجاهدوا وتبوأوا
مناصب علمية كبيرة. أساتذة في الجامعات، مدراء مراكز علمية، أطباء بارعون
وجراحون ذوو شهرة عالمية، يقصدهم أبناء المعمورة، لإجراء عمليات تستعصي على
كبار جراحي العالم.
وبانصرافهم إلى العلم كأني بهم قد تحولوا من العالم الأدبي إلى البحث العلمي.
هاهم أيضاً يتبوؤون مراكز سياسية ودبلوماسية كبيرة. من رئاسة الجمهورية إلى
الوزارة إلى أعضاء في مجالس النواب والشيوخ، فحضورهم كبير فيما وراء البحار.
وقد فطنت السلطات السورية إلى ناحية أدبية فيها الكثير من اللياقة والاعتراف
بالجميل لهؤلاء العلماء.. والسياسيين. فدعت مرات إلى مؤتمرات تعقد في سورية
للأطباء وللبرلمانيين من أصل عربي.. وخصتهم
بالتكريم والتقدير.
لن أتطرق إلى ما كتب المهجريون في اللغة الإنكليزية والإسبانية فأغوص والحضور
في بحر خضم جديد. ولكن لهم الفضل الكبير في التعريف ببلادهم وبقضاياها. أنشؤوا
منظمات للعرب الأميركيين، ولخريجي الدراسات العليا العرب الأميركيين، يعقدون
الاجتماعات والمؤتمرات الدورية، ويهيئون برامج تبث من الإذاعة وتعرض على
التلفزيون الأميركي.
ومنهم من يزور سورية من آونة إلى أخرى وغيرها من البلاد المجاورة فيتزودون
بالجديد من الأوضاع الاجتماعية، السياسية، الثقافية، فيحملون معهم التقدم
والتطور في بلادنا. أذكر على سبيل المثال لا الحصر، الصحفي الدكتور خليل
سكاكيني، السيدة كارول خوري، المؤرخ الدكتور نجيب صليبا وغيرهم كثر. ميخائيل
مشوح، المختص بتاريخ العلوم، د. جورج عطية مدير مكتب الكونغرس وغيرهم كثر.
يتعلمون ويعلمون بمحبة وحماسة رغم الظروف المحيطة هناك.. فلسطين في قلوبهم
قضايانا الكبرى يناضلون لها من موقع منطقي، عاطفي، بحماسة يفوق حماسة شبابنا
القاطنين هنا.
تجدر الإشارة إلى أن دليلاً
Almanach
للعرب الأميركيين "Arab
American"
يصدر مرة كل سنتين في أميركا، باللغة الإنكليزية يشكل مرجعاً يتضمّن معلومات
ودراسات عن حاضر الجالية العربية وماضيها، فيه الإحصاءات الموثقة والتحقيقات
التاريخية مبوبة تحت عناوين مختلفة من مؤسسات دينية، ثقافية، سياسية، وجمعيات
وأجهزة إعلام وشخصيات بارزة، هذا علاوة عن صفحات إعلامية عن العالم العربي.
والجالية العربية اليوم تقدر، حسب الدليل المذكور بثلاثة ملايين نسمة. منهم
مليون وثمانمائة ألف من العرب الأميركيين يتمتعون بحق التصويت.
إنهم سفراء لنا، سفراء من دون تكليف، بلا سفارة، يحرصون على إِبراز الشخصية
العربية بعاداتها، بتقاليدها، حتى لو كانوا من الجيل الثاني أو الثالث. لقد
توارثوها عن أجدادهم وحافظوا عليها. طيّب الله ثرى الأوائل، تحية منا للأحياء،
تحية محبة وشكر وولاء لكل من أنتج وأعطى، لكل من رفع صوته في خدمة بلده.
مع كل ما في هذا التغريب من إيجابيات ومن سلبيات ألا نتساءل اليوم ما هي
الأسباب التي تؤول إلى الاغتراب؟ أولها الدراسة.. متابعة الدراسات العليا
والحصول على اختصاصات غير متوفرة هنا. وبعد الاختصاص يتعرض شبابنا إلى مغريات
تبقيهم بعيدين عنا، ويدخل في المجال الخدمة الإلزامية التي قد يتردد بعضهم في
العودة إلى الوطن لتأديتها وبالتالي خسارة مراكز حصلوا عليها في المهجر... أما
بعض العوائل التي تلجأ إلى البطاقة الخضراء... فليست غالباً فريسة عوز أو
حاجة.. بل على العكس تماماً، إذ قبل حصولها على الهجرة عليها أن تبرهن أنها
مليئة تملك عقارات أو مبلغاً من المال تستطيع بها أن تؤمن معاشها فترة ما..
أهم من كل ذلك، العدوى السارية من بيت إلى بيت، من حي إلى آخر، من مدينة إلى
مدينة.. والأخطر من كل ذلك، أن بعض العوائل أخذت تعمد إلى جعل نسائها يلدن في
البلاد التي يمنح قانونها للمواليد فيها جنسيتها بصورة آلية عملاً بما يعرف بـ
JusSoli
قانون الأرض الذي يمنح الجنسية لمن يلدون في أرض البلد.
إذا كانت البطاقة الخضراء وجنسية الطفل المولود في بلاد الغربة موحية بالسعادة
لدى الفرد، وتشكل هماً جزئياً في بلدي اليوم، وتنحصر بعائلات محدودة، فإنها
لعمرى في بعض البلدان المجاورة بدأت تشكل كارثة اجتماعية حقيقية تتطلب الإسراع
بمعالجتها.
لست بصدد إيجاد الحل ولكني أرى أن سورية التي طالعتنا بأنظمة جديدة للمغتربين،
تشدهم إلى أوطانهم، وعت إمكانية وقوع هذه الكارثة وشرعت تحول دون وقوعها..
حبذا لو تلحقها بما يشد، على الأقل بعض الجامعيين من مهندسين وأطباء وعلماء
ومفكرين لعودة الأدمغة لخدمة هذه البلاد.
حبذا أيضاً وأيضاً لو تعمد القنصليات التابعة للدول الكبرى، أقول الديمقراطية،
العاملة في بلدنا، إلى تلافي عملية إبقاء الناس على الأبواب والأرصفة والشوارع،
فتستقبل هذه الأسراب من المواطنين، تعطي وترفض طبقاً لقوانينها السارية مع
المحافظة على كرامة الطالب.. أي طالب تأشيرة الدخول أو البطاقة الخضراء.
إذا كان لا يحق لأحد أن يتدخل بأمور لا تعنيه، لكن المعاملة بالمثل معروفة
دبلوماسياً وأدبياً.
إنني وقد قاربت على وداع الحضور الكريم اسمحوا لي بالتذكير أنني لا أدعي إيفاء
الموضوع حقه وأن ما ذكرت من الشعراء والأدباء كاف.. إذ انتقيت حسب الأهواء،
ورويت بعض ما رأيت أكثر تعبيراً وأحب إلى القلب. أقول بصراحة تامة: انتقائي لم
يكن موضوعياً بشكل كاف.. لعبت أهوائي ونشأتي واتصالاتي في هذا الانتقاء.
سئل جبران: ما هي أعظم قصيدة نظمتها؟ فأجاب: "الحنان في قلب أمي الذي لا أستطيع
التعبير عنه".. فما أكثر الأشياء المحببة إلى القلب والتي يتعذر على المرء أن
يعبر عنها..
أستودعكم أيها السيدات والسادة مع التذكير لشبابنا بالبيت الذي قد يترك الأثر
في النفس.
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وقومي وإن ضنوا عليّ كرام
وبالمثل القائل: "أهلك ولو تهلك".
أضيفت في24/05/2006/ خاص
القصة السورية /
أدباء مكرمون ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق - 2005
أوراق مهجرية
بقلم الكاتب:
د.عبد الكريم الأشتر
مقدمة:
تضم هذه الأوراق مجموع ما تلقيته أو سمعته من أعلام المهجريين، مما يتصل خبره
بالمهجر ورجاله وأدبه. فإني عُنيت زمناً بدرس النثر المهجري وفنونه، وأتيح لي،
في هذه المناسبة، أن ألقى بعض أعلام الكتّاب الذين عادوا من المهجر واستقروا في
الوطن، مثل الأستاذ ميخائيل نعيمة أو الشاعر القروي (رشيد سليم الخوري)، أو
الذين دُعوا إلى زيارة الوطن فلبوا الدعوة، مثل الأستاذ عبد المسيح حداد صاحب
(مجلة السائح) منبر الرابطة القلمية الأول، أو الشاعر إلياس فرحات أو إلياس
قنصل. فاغتنمت الفرصة وجلست إلى من أتيحت لي مجالسته، أو مَن رحلت إليه، وسألته
أو حاورته وكتبت ما سمعت منه. ثم إني تلقيت منهم أو ممن عاشوا إلى جانبهم في
المهجر، رسائل ضمنّوها بعض أسرار هذه المرحلة أو بعض صورها أو آرائها النادرة،
مما لم يُنشر من قبل، ولم يحدّثوا به أحداً، حتى إننا لو أغفلناه اليوم ضاع
منّا إلى الأبد.
جمعت هذه المواد الثمينة إلى بعض ما كنت تلقيت من ملاحظاتهم العامة، بعد أن
قرؤوا كتابي (النثر المهجري) و (فنون النثر المهجري) ، والمادة الجامعة التي
كتبتها بطلب من المستشرق الفرنسي (ch.
Pellat)،
وقوّمت فيها الحركة المهجرية من نواحيها جميعاً، في شمال القارة الأمريكية
وجنوبها، مع أطراف من الأحاديث والمحاورات والبحوث والمقاربات التي نُشرت
أصولها الأولى في بعض الصحف والمجلات، داخل القطر وخارجه، فضممتها جميعاً في
هذه الأوراق.
إن أثر الأدب المهجري، نثراً وشعراً، في أدبنا الحديث وأدبائه، ما يزال حياً.
وما يزال أدبهم مطلوباً، لأن الحاجة إليه، فيما يبدو، ما تزال قائمة. والقيم
الفنية أو الروحية أو الإنسانية العامة التي طالعونا بها ما تزال نافعة. ولعلها
أحياناً، فيما نعاني اليوم من تمزق، في عالم يهجس بالعدل والسكينة والسلام،
ضرورية. ثم إن ما دونته عنهم وما تلقيته منهم يضيء كثيراً من الحقائق في حياتهم
أو في نتاجهم، فيعين على تعميق فهمنا للحركة المهجرية التي لابست حياتنا يوماً،
ورمت في بركتها حجراً ضخماً ما تزال مياهها، إلى اليوم، تفور من حوله.
فمن حيث الصدى العميق لهذه الحركة، في حياتنا ونتاجنا الأدبي، ومن انفعال
أجيالنا بها، كتّاباً ومتلقّين، لعمق صلتها بالحياة والإنسان. وصدق كلمتها،
وتجديد أكسيتها، وتحرير لغتها أحياناً كثيرة، من التبعية والاجترار والتقليد،
من هذا كله كان الحرص على تتبع آثارها وأخبارها وأحوال مبدعيها، والاحتفال بما
نتلقى من رسائل رجالها وأعلامها، وما نسمع من أسرار مواقفهم وصِلاتهم بمن
خالطوا من الناس، وصِلاتهم بعضهم ببعض، وما تأثروا به من ألوان الثقافات في
الوطن والمهجر، وتعرّضوا له من صور المعاناة في مراحل غربتهم الطويلة.
تبقى الغاية الأخيرة من كتابة هذه الأوراق إذن: أن نحفظ للحركة المهجرية، عند
أبرز من يمثلها، ما تصل إليه أيدينا من حقائقها. فهذا يعين، كما قلت، على حسن
تقويمها، وفهم مواقف أصحابها من الله والإنسان والكون.
والله الموفق... د.عبد الكريم الأشتر حلب 12/6/1422هـ الموافق لـ 1/9/2001م
تقويم: الحركة المهجرية (في الشمال والجنوب)
- 1 -
المهجر اسم يطلق على المواطن التي هاجر إليها اللبنانيون والسوريون
والفلسطينيون وبعض العرب الآخرين، من القارة الأمريكية شمالها وجنوبها ووسطها.
وقد يجمعونها فيسمونها (المهاجر). أكثر ما يتردد ذكره، من هذه المواطن، في
تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، نيويورك شمالاً، وساو باولو وريو دي جانيرو
وبيونس آيرس جنوباً.
وهي الحواضر التي ازدهرت فيها، في النصف الأول من هذا القرن، حركة أدبية وفكرية
ممتازة بخصائصها.
ما تزال بقاياها تتلاشى مع الزمن. يضاف إلى هذه الحواضر حواضر أخرى في دول
القارة الأمريكية استوطنها المهاجرون العرب أيضاً، وأصدروا فيها نشرات وصحفاً
ودوريات وكتباً بالعربية أو بلغات أهلها (الإنجليزية أو الإسبانية أو
البرتغالية) تعرّف بالعرب وتراثهم، وتدافع عن بعض قضاياهم الراهنة.
كانت الهجرة إلى أمريكة (العالم الجديد) شاعت في لبنان وسورية وفلسطين (سورية
التاريخية) في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن. حيث بلغت ذروتها في الشمال
سنة 1913م، وخفت بعد الحرب العالمية الأولى بسبب قيود الهجرة الأمريكية، وتحديد
أعداد المهاجرين، وقانون الجنسية الذي صدر سنة 1924م فكاد ينهيها تقريباً، في
حين استمر تدفق الهجرة إلى الجنوب.
أسباب الهجرة اقتصادية في الدرجة الأولى، فقد ضاقت رقعة الأرض الزراعية على
اللبنانيين، ومنهم معظم المهاجرين، من سكان الجبل، بعد قيام نظام المتصرفية فيه
1861م وتعديلاته 1864م إثر حوادث سنة 1860م الطائفية، وتدخل بعض الدول الأوربية
فيها، وعلى رأسها فرنسة. فقد منح هذا النظام الجبل، بموارده المالية الضعيفة،
استقلالاً إدارياً، بعد أن قطعه عن سهوله الخصبة وموانئه البحرية. فاضطر بعض
أهله، في أول الأمر، إلى الهجرة للعمل في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية. ثم
غادر بعضهم لبنان إلى مصر وبعض البلدان الإفريقية.
ثم لما انفتحت أبواب الهجرة إلى أمريكة رحل منهم إليها جماعات قليلة. ثم اتسعت،
ابتداء من سنة 1881م، حركة الهجرة، بفضل الطموح إلى الغنى الذي كانت أخباره
المضخمة تصل إليهم على لسان من سبقوهم إلى الهجرة، وبتشجيع السياح وشركات
الملاحة وسماسرتها، حتى شبّهت حركة الهجرة، في مطلع هذا القرن، بالوباء
المنتشر، وهجر لبنان نصف سكانه تقريباً. وامتدت العدوى إلى مدن سورية الداخلية
(حمص ودمشق وحلب) وجبال العلويين فيها، فهجرها سُبع سكانها تقديراً.
وكان بعض الفلسطينيين سبق اللبنانيين إلى الهجرة، ورافقهم أيضاً. فبلغ عدد
المهاجرين إلى القارة الأمريكية، من سورية كلها، في آخر مراحل الهجرة، ما يزيد
عن نصف المليون في الشمال، الولايات المتحدة وكندا، وما يقرب من ضعف هذا العدد
في مدن أمريكة الجنوبية والوسطى.
ساعد على اشتداد حركة الهجرة آنذاك، في صفوف المسيحيين من السوريين بعد العامل
الاقتصادي الذي يضاف إليه أيضاً تسلط الإقطاع على الفلاحين، واحتجان رجال
الأديرة الأراضي والأموال، وفداحة الضرائب، وتفشي الآفات في المحاصيل الزراعية،
وكساد سوق الحرير الطبيعي بسبب الإقبال على الحرير الصناعي الياباني الرخيص،
وتحول طرق التجارة الدولية بعد شق قناة السويس سنة 1860م عوامل نفسية تتمثل في
الإحساس بسوء الأوضاع الاجتماعية والسياسية: كره السلطة الحاكمة التي تنظر
إليهم دائماً بعين الريبة، والفتن الطائفية التي انتهت إلى أحداث سنة 1860م،
وفشو التعصب الدائم، وفساد الإدارة، وانتشار الرشى، وسيطرة رجال الدين على
أتباعهم، وتحالفهم، مع الإقطاع، على إذلالهم وحرمانهم، وكبت الحريات العامة،
وأخذ الناس بالشبهات في العهد الحميدي، وسوق الشباب العرب إلى ساحات الحروب
البعيدة، وسيطرة الجهل على العقول، وتحكم الفوضى في جوانب الحياة كلها.
يقابل هذه العوامل، في الجانب الآخر، عوامل جذب: الغنى الموعود، وتوفير فرص
العمل، وما سمعوا عن شيوع الحريات العامة، وترحيب المجتمع هناك بالطموح الفردي،
وقياس الناس بأعمالهم وقدراتهم لا بوراثاتهم وأسرهم، والغيرة على كرامة
المواطنين وحقوقهم العامة دون تفريق بينهم، وسيادة النظام والقانون.
وقد كان اللبنانيون بصورة خاصة، والسوريون بصورة عامة، على اتصال بالغرب
وثقافته، منذ أيام الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801م) وقيام المؤسسات
العلمية فيها أيام محمد علي. قوّى هذا الاتصال البعثات الدينية التي بدأت تصل
إلى لبنان منذ أيام حكم إبراهيم باشا لسورية (1832 - 1841م)، واتسعت أعمالها
بعد قيام نظام المتصرفية 1861م، فافتتحت الكليات، وأسست الجمعيات العلمية
والخيرية، وجلبت المطابع، وترجمت الكتب ونشرتها. وقوى هذا الاتصال أيضاً
الاحتكاك بالسياح ورجال الحملة الفرنسية التي أقامت في لبنان سنة كاملة، إثر
حوادث 1860م. فكان هذا الاتصال المستمر بالغرب وتعلم لغاته، إضافة إلى وحدة
الدين التي تجمعهم به لدى أكثر المهاجرين، يقوّي إعجابهم به وبمبادئه، وبمبادئ
الثورة الفرنسية وشعاراتها الشائعة بصورة خاصة، ويزيد من تطلعهم إليه.
فإذا أضفنا إلى هذا كله موقع لبنان وبلاد الشام الجغرافي في مواجهة الغرب، على
الساحل الآخر، وميل اللبنانيين، أحفاد الفينيقيين، الموروث إلى التجارة
والأسفار، والطموح إلى اغتنام الفرص البعيدة، فهمنا واقع هذه الهجرة شبه
الجماعية إلى (العالم الجديد) وانتشار هذا الشعب في كثير من بقاع الأرض.
- 2 -
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تجذب إليها أنظار المهاجرين في أول الأمر. ثم
اتجهت الأنظار إلى الجنوب الأمريكي البكر الذي تتوافر فيه فرص للعمل لا يتوافر
مثلها في الشمال، لفراغ الجنوب واتساع أراضيه الزراعية التي تتطلب الأيدي
العاملة، ونشأة الصناعة فيه، وانفتاح آفاق التجارة. واتسعت فرص الهجرة إليه بعد
أن زار إمبراطور البرازيل بطرس الثاني سنة 1877م و1887م فلسطين ولبنان، وعقدت
سنة 1892م معاهدة بين الحكومة العثمانية وحكومة البرازيل نُظمت بموجبها الهجرة
إليها.
كان هذا الإمبراطور يعرف العربية، فدعا الناس إلى الهجرة إلى وطنه ليشاركوا في
تعميره واستثمار أراضيه الزراعية. ومنّاهم العون والرعاية. وكانت الأرجنتين
أيضاً تملك هذا الإغراء، فأراضيها الزراعية شاسعة، وثرواتها مهملة، فاتجهت سيول
الهجرة إلى الجنوب، اختار بعض المهاجرين، من الفلسطينيين خاصة، بعض دول أمريكة
الوسطى أو التشيلي أو المكسيك، حتى بلغ عدد المهاجرين إلى الأرجنتين وحدها ثلاث
مئة ألف. وزاد في البرازيل على نصف المليون.
- 3 -
كانوا، بعد أن تلقيهم البواخر في الموانئ الأمريكية، ينزلون الأحياء الفقيرة من
المدن التي يختارونها لوجود أقاربهم فيها على الأغلب، ويعرضون على أرصفتها
بضائعهم الرخيصة، أو يجوبون أحياء المدن والأرياف وهم يحملون على أكتافهم
صندوقاً يملؤونه بالعروض والأقمشة الرخيصة (الكشة
CAISHA)
ليبيعوها لربات البيوت. ثم ينتقل المحظوظ منهم، ونسبته ضئيلة جداً، فيؤسس
متجراً صغيراً قد يفلح مع الأيام في توسيعه، وينتهي أحياناً إلى أن يكون من
أصحاب المصانع أو المتاجر الكبيرة.
كان الناس من حولهم لا يقدرونهم، ويطلقون عليهم اسم (تركو
TURCO)
باعتبار أنهم قدموا من بلاد كانت جزءاً من دولة الأتراك العثمانيين. وقد حسبوهم
حيناً من جنس المغول، السلالة الصفراء، فكانوا يحسون بالحاجة إلى أن يصححوا
صورتهم في أذهان الأمريكيين.
كانوا يعتقدون، في أول الأمر، أن هجرتهم مؤقتة، ريثما يجمعون من المال ما يسد
حاجتهم وحاجة أسرهم في الوطن، وريثما تتغير أحوال الحياة فيه. ثم لما استقروا
وألفوا الحياة في مهاجرهم، ونمت مصالحهم فيها، ونشأ أولادهم في محيطها الجديد،
وتعلموا لغاتها وارتبطوا بها، وجدوا أنفسهم يفكرون في الإقامة فيها، برغم ما
كانوا يعانون من قسوة الاغتراب وحرقة الحنين إلى الوطن والأهل.
ولا بد أن يكون الإحساس بالحاجة إلى تواصل المهاجرين في مهاجرهم بعضهم ببعض، من
ناحية، وإلى تتبع ما يجري في الوطن من ناحية أخرى، استدعى إنشاء بعض الصحف
العربية الصغيرة منذ استقرار موجات الهجرة الأولى، في السنوات الأخيرة من القرن
الماضي، في الشمال والجنوب معاً.
ففي نيويورك صدرت الصحيفة الأولى (كوكب أمريكة) سنة 1892م. وتبعتها صحف أخرى:
(العصر) سنة 1894م و (الأيام) سنة 1897م و(الهدى) سنة 1898م و(مرآة الغرب) سنة
1899م.
وفي البرازيل صدرت الصحيفة الأولى (الفيحاء) سنة 1894م، وتبعتها أربع صحف أخرى:
(الرقيب) 1897م و(البرازيل) سنة 1898م و (المناظر) سنة 1899م و(الصواب) سنة
1900م.
ثم استدعت الحاجة إنشاء النوادي والجمعيات الأدبية التي تعمل لخدمة قضايا
المهاجرين، وتجميع طاقاتهم ورعاية مؤسساتهم الاجتماعية. ففي نيويورك تأسست
(الجمعية السورية المتحدة) سنة 1907م، و (الحلقات الذهبية) التي تعرف أنها كانت
قائمة بعد الحرب العالمية الأولى. وتبعتهما جمعات أخرى. وفي البرازيل تأسست
نواد كثيرة كان أكبرها (النادي الحمصي). ثم قامت التجمعات الأدبية من بعد.
أضيفت في24/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن الموقف الأدبي
فرنسيسكو فيلاسباسا
على بساط
فوزي المعلوف
بقلم الكاتب:
د. سهيل الملاذي*
بمناسبة مرور خمسة وسبعين عاماً على وفاة الشاعر المهجري فوزي المعلوف، عدت إلى
ما كتبه فرنسيسكو فيلاسباسا (Francisco
Villaespesa)
أمير الشعراء الإسبان في العصر الحديث، في تقديم ملحمته الشعرية "على بساط
الريح".
وهي مقدمة مسهبة، استغرقت ستاً وخمسية صفحة من الكتاب "لعلّها أروع وأبلغ ما
صاغته الأفكار النيّرة من مقدمات، وأدق وأصدق وأعمق ما خطته الأقلام الجبارة من
دراسات تتناول بالنقد والتحليل الشعر والفن والتجديد، كما تتناول قومية الشاعر،
والبيئة التي عاش فيها، والمؤثرات التي أرهفت حسّه وحركت مشاعره"(1)، ومن أهم
الدراسات النقدية المقارنة في الأدب الحديث، وأكثرها إنصافاً للعرب واعتزازاً
بالثقافة العربية.
كتب فيلاسباسا هذه المقدمة بالعربية، في ريودي جانيرو ـ عاصمة البرازيل آنئذ ـ
حيث كان يقيم. ويعود تاريخها إلى آذار عام 1930، بعد شهرين من وفاة المعلوف.
ففي 19/11/1929، حين كان المعروف عاكفاً على طبع ملحمته في كتاب، دهمه ألم
مفاجئ، نقل على أثره إلى المستشفى القائم على رابية فاتنة في ريودي جانيرو،
وأجريت لـه عملية جراحية، ظل بعدها ثمانية وأربعين يوماً يصارع الموت، إلى أن
استسلم إليه فجر الثلاثاء السابع من العام الجديد 1930(2).
تداعى أصدقاؤه بعدئذ لنشر الكتاب، بعد أن أضافوا إليه المقدمة التي وضعها
فيلاسباسا.
قد آمن صاحب المقدمة بأنّ "على بساط الريح" من أجود منتوجات فوزي المعلوف
الشعرية، ولهذا نقلها شعراً إلى الإسبانية، تقدمة منه إلى أبناء لغته
ووطنه(3).
وفي عام 1935، وبمناسبة مرور خمس سنوات على وفاة الشاعر، أصدرت مجلة "الضاد"
الحلبية عدداً ممتازاً خاصاً به(4). ساهمت في تحريره نخبة من أكابر الكتاب
والشعراء، وزيّن بملحمته "على بساط الريح"، وطبعت أناشيدها الأربعة عشر
بالألوان، في خمسة آلاف نسخة(5).
في هذا العدد نقرأ مقالة لعيسى اسكندر المعلوف ـ والد الشاعر ـ بعنوان: "قصيدة
شاعر في طيارة"، ومقالات أخرى لأخويه شفيق ورياض، ولخالة قيصر المعلوف. في
مقالته: "ضمة زهور" اعتبر عبد الله يوركي حلاق أنّ فوزي المعلوف "قد فتح في
الأدب العربي الحديث فتحاً مبيناً، ورفع شأننا في عيون مفكري الغرب. وأنّ
الآداب العالمية قد استمدت من شعره مثل ما استمدّ أدبنا منه، ذلك لأنّه ابتكر
التجديد الطموح، واستنبط الوصف الرائق، وأحدث التفكير القويَّ الوثاب"(6).
أما أمين هلال فاعتقد في مقالته: "الشاعر العبقري فوزي المعلوف" أنّ لنبوغه
وأدبه مقومات مستمدة من البيئة الطبيعية والاجتماعية، إضافة إلى الخواص
الوراثية، وأنّ أجمل شعره وأعرقه في الخلود هو ذاك الذي نظمه وهو في ديار
الهجرة(7).
البيئة الاجتماعية والثقافية:
ولد فوزي المعلوف في زحلة في 21/5/1899. "وهو زهرة منتقاة من الطبعة النبيلة في
أمته، إذ يمتُّ بنسبه إلى أسرة عريقة في القدم، أنجبت الشعراء والمؤرخين
والكتبة"(8). فوالده عيسى اسكندر المعلوف هو العالم المؤرخ والعضو في ثلاثة
مجامع علمية، منها المجتمع العلمي العربي بدمشق. ووالدته عفيفة كريمة إبراهيم
باشا المعلوف. وأخواه شفيق صاحب "ملحمة عبقر" ورياض، وهما شاعران.
أما أخوالـه الثلاثة: قيصر وميشيل وشاهين، فهم شعراء مجيدون، ساهموا في الحركة
الأدبية والصحافية العربية الحديثة.
كان قيصر المعلوف المولود عام 1874 رائد الصحافة العربية في أميركا الجنوبية،
حين أصدر في سان باولو عام 1898 جريدة عربية باسم "البرازيل".
وكان ميشيل المعلوف مؤسس "العصبة الأندلسية" في سان باولو عام 1932، وهي رابطة
أدبية ضمت عدداً من كبار الشعراء والأدباء المهجريين، وأصدرت في العام التالي
لتأسيسها مجلة ناطقة باسمها هي مجلة "العصبة".
في وسط هذه البيئة الثقافية الراقية تجلّى نبوغ فوزي المعلوف، وظهرت عليه علائم
العبقرية في سنٍّ مبكرة، فقد بدأ القراءة في الثالثة، وأحسنها في الخامسة،
وراسل أباه من زحلة إلى دمشق في الثامنة.
درس في الكلية الشرقية بزحلة، ثم انتقل في الرابعة عشرة من عمره إلى بيروت
ليتابع دراسته في مدرسة الفرير. واشتغل بالتجارة متنقلاً بين لبنان ودمشق. وفي
الوقت نفسه كان يكتب في الصحف اللبنانية والسورية والمصرية.
وفي يوم السبت 17/9/1921، أبحرت به سفينة الغربة من بيروت، قاصداً أخواله في
البرازيل، وحط به الرحال في سان باولو (صنبول)، يمارس فيها وفي ريودي جانيرو
أعمالاً صناعية وتجارية.
في المهجر "رأى حوله نخبة من أدبائنا الشباب، وكلُّهم يحنّون إلى الوطن العربي
الأم، ويتألمون لما كان يعانيه من جور المستعمرين وطغيان الحاكمين، فتأججت
مشاعرهم، وثارت فيهم الحمية العربية، وفاضت قرائحهم الخصبة بنفثات أدبيّة حيّة،
وبشعر قومي فيه الجزالة وفيه الحنين وفيه النقمة والثورة على الغاصبين"(9).
فغلبت عليه نزعته الأديبة، وانغمس في الأجواء الثقافية السائدة، وظهرت آثاره
الشعرية في كبريات الصحف العربية في الوطن والمهجر. كما نشر معظم أعماله
مترجماً في الصحف الأجنبية. ودعي لإلقاء شعره في المحافل الأدبية.
العلاقات الثقافية والتاريخية بين العرب والإسبان:
منذ مطلع القرن العشرين استيقظت في الشرق العربي رغبات عظيمة في معرفة كل ماله
علاقة بإسبانيا. فقد وصفت بعض روايات جرجي زيدان الفترة
العربية الزاهية في الأندلس. كذلك فإنّ روائع كتب الفكر والفلسفة والأدب والشعر
في الأندلس، التي طبعت في الشرق، أعادت إلى الخواطر صوراً مشرقة عن الحضارة
التي أقامها العرب في تلك الربوع.
وقد بدا الاهتمام بالعلاقة بين العرب والإسبان أشدَّ وضوحاً في المهاجر
الأمريكية وخصوصاً الجنوبية. حيث كوّنوا معاً معالم العالم
الجديد، وجمعهم شعور واحد هو "أنّهم إخوان في شوقهم إلى أوطانهم البعيدة، وفي
ذرف دموع الحنين إليها، فتعارفوا وتحابّوا على نغم القيثار الذي هو أبينُ لغات
الشعر. وهذا التآخي لـه صداه في أوطانهم، حيث تزداد عراه توثقاً يوما بعد
يوم"(10).
وجمعهم أيضاً اعتزازهم بانتمائهم إلى الأندلس، حيث قامت حضارة أندلسية راقية
تحمل بصماتهم جميعاً. وقد تجلّى ذلك في إطلاق اسم "العصبة الأندلسية"
على الجماعة الأدبية التي كوّنها المهاجرون العرب في سان باولو عام 1932(11).
وفي إطلاق اسم "الأندلس الجديدة" على المجلة التي أنشؤوها في البرازيل. وفي
عشرات الصحف والمنتديات الأخرى التي أنشؤوها في مهاجرهم، لتعبّر عن نزعاتهم
الأدبية والإنسانية والقومية.
وقامت الجاليات العربية في المهجر بدورها في إحكام عرى التقارب بين العرب
والإسبان. ففي الشيلي والأرجنتين كان داود مجاعص والدكتور صوايا مع حبيب اسطفان
من أشدّ المبشرين بهذا التقارب والداعين لـه.
وفي البرازيل كان مشاهير الشعراء المهجريين أمثال رشيد سليم الخوري (الشاعر
القروي) وشفيق المعلوف وشكر الله الجرّ والياس فرحات يترنمون بتآلف العنصرين
العربي والإسباني. وكان الكتّاب عقل الجرّ وتوفيق قربان
وتوفيق حنعّون وبشارة وموسى كريم وغيرهم يبرزون في محاضراتهم ومقالاتهم ما
أبدعه الشعراء العرب في الأندلس، ويتحدثون عن عصورها المزدهرة وما طرأ على
تاريخها وآدابها من تطور. ولا تكاد تجد
بين هؤلاء جميعاً من لا يعرف كبار المستشرقين الإسبان: لافوينتي وكونده واسحق
مونوز.
وكان فوزي المعلوف نفسه ـ قبيل وفاته ـ يهيئ خطة السفر إلى إسبانيا وزيارة
غرناطة، تلك المدينة الخلاّبة التي شوّقه صديقه فيلاسباسا إليها، فكتب عنها
وازداد تعلقاً بها وحنيناً إليها، لكنّ القدر لم يمهله. ولهذا فقد آلى صديقه
على نفسه أن ينصب بيديه بعد عودته إلى بلاده غرسة ورد في حديقة قصر الحمراء،
كان فوزي يحلم أن يغرسها هناك بيديه اللتين افترسهما الموت(12).
فوزي المعلوف والتجديد:
مازها الشعر العربي في كل الأقطار التي اكتسحها العرب زهوته في الأندلس، وما
تهيأت لأسباب التجديد تربة أصلح من تربتها(13). "وهو تجديد عزف شعراؤه المبدعون
على أوتاره الستة عشر المعروفة، ولكنّهم تفننوا في العزف والإيقاع، وتحرروا من
جمود السلفية والاتباع، ونوّعوا قوافي القصيدة الواحدة، وابتدعوا الموشحات.
فعلوا كل هذا ضمن نطاق لم يتعدّ عمود الشعر ولا أصالة الفن، فزادوا بذلك شعرنا
رقة وطلاوة"(14).
وفي ظلال هذا التجديد جمعت الأندلس في المهجر شاعرين مجددين: أحدهما أمير شعراء
الإسبان فرنسيسكو فيلاسباسا، والآخر رمز من رموز التجديد في الشعر العربي
الحديث فوزي المعلوف. وقد ألّف بينهما حنين كل منهما الجارف إلى موطنه. أولهما
إلى جذوره في إسبانيا، وثانيهما إلى أصوله في زحلة بلبنان، كما إلى إسبانيا
أندلس أحلامه.
توفي المعلوف شاباً في الثلاثين، لكنّه كان من أغزر الشعراء الحديثين مادة
وأنقاهم لغة وأكثرهم ميلاً إلى التجديد، الذي كان النزوع إليه قد برز في الأدب
المهجري ـ بسبب احتكاكه المباشر مع ثقافات الغرب ـ بصورة أوضح من بروزه في
الآداب العربية في المشرق العربي(15).
بدت نزعاته التجديدية في الروايات والمسرحيات التي ألّفها أو عرّبها، ومن أهمها
"مسرحية ابن حامد" أو "سقوط غرناطة"، وفي دواوينه الشعرية الأربعة وهي: "تأوهات
الروح" و"من قلب السماء" و"أغاني الأندلس" و"شعلة العذاب".
وكانت هذه النزعات أكثر وضوحاً في ملحمته الشعرية "على بساط الريح".
في هذه المؤلفات تجده متشائماً حيناً، يلتقي في تشاؤمه مع أبي العلاء، وتجده
حيناً آخر يلتقي مع عمر الخيام في تحليل فلسفة الوجود وأسرار الحياة، وتراه
أحياناً يشبه عمر بن أبي ربيعة في غزله الحلو اللطيف. وفيها يمتزج الحنين
بالكبرياء والإباء، فهو لم يهجر وطنه إلاّ لأنّه أنف العيش في كنف الأجنبي.
وتبدو النزعة الوطنية والقومية واضحة لديه، إذ تجده في كثير من شعره يتغنى بمجد
العرب ويدافع عن قضايا أمته دفاعاً صادقاً.
أعمال فوزي المعلوف:
ـ "مسرحية ابن حامد" أو "سقوط غرناطة":
مأساة تمثيلية ذات فصول خمسة. "وإنّها لدرّة في جيد المسرح العربي"(16)، وتقدمة
قيّمة يزفُّها فوزي المعلوف إلى التآخي بين العرب والإسبان، "وجزية إعجاب و
تحبٌّب إلى المدينة الخالدة غرناطة"(17).
"لقد درس فوزي المعلوف لغة الإسبان وآدابهم، وأمعن في تمحيص تاريخهم، فأبرز تلك
المأساة التي ما هي غير مرثاة لعظمة غرناطة العربية، وهزَّة تحمُّس لما تحلى به
آخر أبطالها من الإباء والفروسية والنبل"(18). هذا البطل الذي قال فيه نظير
زيتون:
"ما أعظمه حينما يدعو العرب للذبّ عن الأندلس والدفاع عن سياج الإسلام، بأبيات
شعرية يهتز لها الجماد، وترقص لها القلوب. ما أكبر وطنيته وأقوى جنانه، إذ يقف
بين العاملين الكبيرين: الحبّ والدفاع عن الوطن، فيضحي ابن حامد بحبّه ليخلّص
بلاداً يحاول الأعداء دوسها بسنابك خيولهم"(19).
ـ "من قلب السماء":
ديوان شعري "أشبه بيوميات شعرية، فيها يسجل المعلوف نبضات قلبه الخافق، ويلتقط
ما يتطاير من غبار ذهبي في الحياة العامة، مما لـه أثر في الحياة الخاصة،
فينتزع منها كل مبتذل تافه، ليلبسها بقلمه حلّة جديدة خلاّبة"(20).
"وفي هذا الكتاب تحية الشاعر إلى غبريال دانتزيو، وكأنّما الشرق يطالب فيه على
لسان أحد ممثليه الفتيان بحقه في أن يضم إليه أعظم شعراء البحر المتوسط: مهد
جميع البطولات وأرض كل الأديان".
"وإنّك لتسمع في قصائده لحناً شجياً، يربطها واحدة واحدة على رغم ما فيها من
اختلاف الموضوعات وتباين الموحيات، وتحسُّ أنّ كلّ ما فيها مؤتلف في روح واحدة،
كما لو كانت الطبيعة الفنانة توقع لك خليطاً من الأنغام، لكل واحد منها أثر في
تنويع رغبات الحياة في أعماق كيان الناس".
"إنّ فوزي المعلوف صهر بنار عاطفته التخيلات التي سخرها لنفسه في كتابه، بل عمل
بها ما تعود عمله الخزافون القدماء بالأواني القيّمة الغالية، ينفخونها بلهاث
أرواحهم، ليزيدوها حياةً وجمالاً"(21).
ـ "أغاني الأندلس":
كتاب آخر عمد فيه المعلوف إلى تصوير كل جميل في الحياة، ناسجاً فيه على منوال
شعراء الأندلس الأقدمين في الرقة وتنويع الأوزان والقوافي.
"هكذا تغنّى شعراء البلاط الأموي في قرطبة وشعراء بني الناصر في غرناطة، وبمثل
هذا الشدو الشجي تغنى المعتمد آخر ملوك إشبيلية وهو في منفاه في إفريقيا، فحمّل
الحمام الزاجل بقية ما في صدره من تنهدات، ليجتاز بها البحر ويدفنها في
المقاصير الزاهرة، حيث تبسط القصور أظلال قبابها في مياه الوادي الكبير". وليس
لأخفّ الفراشات جناحاً ما لهذه الموشحات من رشاقة تداعب بها مسامعنا، لتهمس
إلينا بكلمة الإطراب والمؤاساة. وما هي غير أغاني الحب تتصاعد إلى الشرفات في
سكون الليل، "حيث أميرات الأساطير الشرقية يتتبعن بأبصارهن خطى السعادة الهاربة
أو الحب القادم"(22).
ـ "شعلة العذاب":
النتاج الشعري الأخير للمعلوف، إذ توفي قبل أن يكتمل، ويبدو أنّه طبع بعد
وفاته. وهو "مجموعة قصائد عميقة المغزى مرتبطة بفكرة واحدة وشعور واحد، يغلب
فيها التأمل على الفلسفة، فترى فيها روح الشاعر الحالمة متنبهة لأجمل مظاهر
الطبيعة وأعمق العواطف الحيّة، كل ذلك في شعر غنائي جلّي"، يخلق فيه خيال
الشاعر وشعوره صوراً تتكشف عن جمال ساحر ونبرات رشيقة(23).
ـ "على بساط الريح":
ملحمة شعرية في أربعة عشر نشيداً، حرص المعلوف على إظهارها في كتاب، فقد كان
يشعر في أيامه الأخيرة. وهو في أوج الشباب وعلى قمة السعادة، بشبح الموت
الغدّار يتسلل إليه، وقد بدا هذا الشعور واضحاً في منظوماته الأخيرة المحزنة،
وفي شوقه الجموح إلى طباعة هذه الملحمة.
كانت الملحمة ـ وهي وليدة القرن العشرين ـ كأنّما نظمها "أحد أولئك الشعراء
العظام الذين كانوا منذ أجيال زهواً وفخراً لكل بلاط في بغداد ودمشق وقرطبة
وإشبيلية وغرناطة"(24).
"هي صوت يتراءى لنا جديداً لفرط إغراقه في القدم. صوت متوحد متعدد، متصاب
روحاني، مشعّ منعكس، تتلاءم فيه المتناقضات بأعجوبة خارقة، ورشاقة شعرية رائعة،
وتلاحم إلهي بليغ"(25). "خالقاً لنا عالماً جديداً مملوءاً بالعجائب. وبخارقة
من الخوارق نشعر أنّنا عائشون على الأرض وخارج الأرض، بحياة مزدوجة يستوي لديها
الألم والسعادة"(26).
فنتنشق حتى النشوة الكاملة روح الشرق النيّر المقدس، حاضن الآلهة والشعراء
والأبطال. "وتنسحر أرواحنا المعوزة الزاهقة من النثر، بهذه الموسيقا اللابسة
وشاحاً خلاباً من ألف ليلة وليلة. موسيقا شاعر فتي هو في هذا العصر من أصدق
ممثلي روح أمته الخالدة، ومن أوفى أبناء الشرق حماسة واندفاعاً"(27).
إنّه يطلق صرخة تأوّه حزينة "على الحكايات الأخيرة من ألف ليلة وليلة، وعلى
القصور والجوامع والحدائق المسحورة التي دمرتها إلى الأبد قنابل طيارات
المتمدنين، ونثرتها رماداً وخرائب في حضن دمشق المقدسة أمّ مدن الشرق"(28).
وهو "لا يمجّد انتصار القوة المادية، وإنّما يمجّد القوة الروحية وانتصارها
الهادئ المستمر". وهو لا يبغض الارتقاء، ولكنّه يزدري مظاهر المدنية الحالية
الفخمة".
فالمرء لم يستثمر الاختراعات القيّمة التي أبدعها العباقرة لإحياء البشرية
ومنفعتها، بل توسّل بها ليقتل الشعوب بيد آمنة، ويدك بفظاعة معالم الجمال التي
صانتها القرون لتروّح بها عن نفوسنا، وتملأ بزهوتها قلوبنا(29).
بقدر ما نجد في روح المعلوف من جدة وقدم، نرى فيها البساطة والتركيب في آن
واحد. وهو الذي ولد في ظلال أرز لبنان، وترعرع بين أنوار الكتب الإسلامية
القديمة، وتعرّف بعدئذ على الثقافات الحديثة في جامعة فرنسية في بيروت. ثم أبحر
إلى الأرض الأمريكية العجيبة، متعطشاً إلى المتناقضات، يجابه بفطرته الصلبة
المتمسكة بآداب قومه كلّ ما في المدنية الغربية من تغلب الحركة والمادة.
لم يختل توازنه لهذا التصادم الفجائي بين عالمين متعاكسين، بل أبدع هذه
الملحمة، معبراً بها عن مباهاته القومية، وعن أروع ما في روح الشرق الخالدة من
جمال وقوة وخيال.
"إنّ فلسفة الاعتقاد بالقدر، والشهوة المهذّبة، والتخيُّل النقي المتصل
بالألوهة، نجدها كلَّها شاخصة في هذه الأبيات المستوفية شروط الكمال ببلاغة
تراكيبها وغنى قوافيها وتألُّق معانيها"(30). كما أنّ لكل نشيد من الأناشيد
الأربعة عشر قيمة كبيرة في لفظه ومعناه، "وتعمُّها جميعاً وحدة شعرية عجيبة،
يتفق فيها سمو الخيال ورقة الشعور وطهارة القلب". "وتوازن القوى المبدعة هذا
بارز في الشكل الظاهر أيضاً، حيث الكلمات والأوزان والقوافي تكوّن الموضوع
الباطن تكويناً حياً كاملاً".
قراءة في الثقافة العربية:
يتحدث فرنسيسكو فيلاسباسا في نحو أربعين صفحة من المقدمة عن العرب وفنونهم
وآدابهم، وعن تأثير ذلك ـ وخصوصاً الشعر العربي ـ على الثقافات الغربية. فهو
يعتقد بأنّ شعباً من الشعوب لم يصب من موهبة الشعر الإلهية مقدار ما أصاب منها
الشعب العربي، لأنّ تفانيه في الانصباب على الشعر، وثقافته التواقة إلى الحرية
والبطولة، واتسامه بطابع خاص كان شعاره منذ فجر التاريخ(31). وما كان انتصار
الإسلام الباهر إلاّ انتصاراً للشعر العربي أيضاً، ولهذا أثّر في شؤون العرب
الظاهرة(32).
فالشعب العربي عرف ـ أكثر من أي شعب آخر ـ كيف يمحّص مواضيعه الشعرية بدقة
صارمة وإيمان حار، بما أوتيه من خيال حسّاس مخصب، وذكاء متوقد مدقق، وعاطفة
متعمقة متثبتة، وبسبب لغته المفتوقة بتشاكل الكلم مع الأصوات والمعاني، الغنية
بسهولة الاشتقاق ومرونة التعبير ونقاوة الصقل. فنراها تخرج من دائرة الفن
لتتحوّل إلى دين صرف لا يتطرق إليه تطور، ولا يؤثر فيه زمان أو مكان(33). فقد
"ظلت القصائد العربية القديمة سليمة لم يتطرق إليها فساد القلوب، ولا تصرفت بها
الألسنة على هوى الهواة، فكانت كالإرث الثمين يتناقلها الناس جيلاً بعد
جيل"(34).
إنّ الفنون العربية بأصلها استنبطت للرفاهة واللذة والبحران، يروّح بها العربي
عن مشاعره المحلاة بفضائل، هي شعلة روحه المتوقدة وضميره الأوحد.
والشعر العربي كفنون الهندسة العربية. فبينما يلبي الشعر في جملة العصور حاجة
لجوجة لدى العربي إلى اندماج باطن في كل مشاعره المتحولة إلى روح، وفي كل روحه
المتحولة إلى مشاعر، ترى أبنيته بسيطة عادية في مظهرها، ولكنّك ما إن تجتاز
عتباتها الوضيعة وقبابها الحدباء، حتى تخرَّ على وجهك مذهولاً، حين تراها تخلع
عنها كلَّ مبتذل نافر، لتتوشح بحلل الأبهة الخلاّبة والبذخ الذي لا مثيل لـه،
كأنّك في مهرجان يختلط فيه النور بالظل واللون بالتخطيط، بحيث ما من ريشة في
العالم منذ أبلّس إلى ليورناردو دي فينشي، ومنه إلى جوليو روميرو دي تورس أخرجت
مثيلاً لتلك الألوان المتناسقة في الخزف المموّه والفسيفساء المرصعة والنقوش
الساحرة التي خلّفها العرب. وكأنّ الطبيعة بكل ما فيها من مناظر وأشكال تجلو
كوامن الجمال، فتبدو أبهى جمالاً وأنضر منظراً(35).
"أما الانفعال في الشعر فمبرقع أبداً، استفزازاً للرغبات وزيادة في التشويق.
وأما الجمال فيتخلل في حجبه الشفافة تخلّل أجسام الغواني في شفوف المآزر
المهلهلة"(36).
إنّ الشعر العربي لم يتعرّض لما تعرّض لـه الشعر الغربي في مختلف الأزمنة من
شلل، وما مني به من أوبئة وخلل ناتج عن العفة القسرية والتشبث بالعادات
المسيحية مدى عشرين قرناً. فقد تحرر العرب من مثل هذه القيود، وارتووا بكل ما
في الحب من متع حسيّة. وكان يختلج في نفوسهم مع ذلك عفاف أبيّ جعل شعرهم أسمى
روحاً. "وإنّها لمميزات في روح الشعر العربي رفعته إلى أسمى الذروات، وجعلت
الغرب مديناً للعرب بأرق ما في شعره وأنقاه".
"فمنذ عهد امرئ القيس إلى عصر المتنبي إلى أيام المعلوف، لم تفسد الشعر العربي
بادرة عنيفة ولا عاطفة فظّة. فما زال والغلبة فيه للجلال على التبجّح، وللطبع
على التطبّع، وللكآبة على التوجّع"(37).
إنّ الأدب العربي هو فوق كل فنّ. وهو دين يخضع لقواعد شرعية أكثر منها بيانية.
وليس ما نراه فيه من إجادة في الصنعة، إلاّ استجلاء للعاطفة والفكر، ورغبة في
إبرازها على شكل دقيق وواضح، لا رغبة في الصنعة نفسها. وهيهات أن تفقه البربرية
الغربية معنى هذه الروح لدى الإنسان العربي(38)، الذي "حنكت خبرته أجيال ثقافة
روحية حقّة، فأدرك كلّ الإدراك أنّ ما في الغرب من أبّهة وغرابة لن يزيد الناس
عدلاً ونبلاً، ولا حياة الناس طولاً وجمالاً"، "وأنّ جميع اكتشافاته العجيبة
ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا بخلق ابتسامة واحدة"، وأنّه حين يشيّد
المعامل ويصطنع المحركات تحت ضاغط جنونه بالمال، فهو يتوخى من وراء ذلك أن يطحن
كلّ ما في الحياة من بهجات وأماني بين فكيه الحديديين.
"لقد حجب الغرب أضواء قرون المسيحية الأولى، وبدّل بالأدب المستحدث ما في شعر
المسيحية السامي من مؤاساة، وحوّل فلسفتها إلى أحاجي ومعميات، وقضى باسم
الديمقراطية الكاذبة على طبقات الاجتماع، ليستبدلها بتقسيم هو دون ما في
الأقطار الهمجية من تقسيم، وجعل من المصارف كنائس، ومن الخزائن المالية هياكل،
وصيّر الحب صكاً مجونياً، واتخذ الفن للشهوة دافعاً، وألقى بفظاظة على ميزان
العدل سيف برينوس القاطر دماً، والباعث في القلوب جزعاً وهولاً.
إنّ أمم البحر المتوسط، التي تحتفظ بالثقافة الشرقية، هي الأجدر على "وضع الحدّ
الأخير لتدهور الغرب المشؤوم إلى هوّة هذا التوحش الاقتصادي"(39)، وإنّ الشعر
الرائع الذي تغنى به الشعراء الأندلسيون والإسبانيون والعرب، لهو واسطة العقد
وآصرة الروح بين تلك الأمم. وهو الذي يدمج خيالها في خيال واحد، ويوحد أمانيها
في أمنية واحدة(40).
الثقافة العربية في الأندلس:
منذ بدايات الفتوحات العربية للأندلس نشر القواد العرب الثقافة العربية فيها،
وتبعهم في ذلك الخلفاء والأمراء والأشراف، فأمرعت أرضها بعلوم الإسلام وآدابه،
وفاضت منها على العالم، ونمت رياض الأدب الغنائي وازدهر الشعر، بعد أن ليّن
شعراؤها أوزانه، ونوّعوا قوافيه، وانطلقوا من قيوده ذهاباً مع خوالج الصدور
ولواعج النفوس، مما أتاح للنفوس التواقة إلى العرفان في أقاصي البلدان أن تترشف
ينابيع الحب والسلام المتفجرة منه(41). "وما روح الفروسية التي سادت القرون
الوسطى، وأنتجت من الحب أدباً عالياً، ومن المرأة صنماً معبوداً، إلاّ روح
خلقها الشعر العربي وحملها إلى العالم على أجنحة موشحاته، فعم العالم الأدب
المنمق الذي سبق الرومانطيقية ببضعة أجيال"(42).
وما إن ينبش الإسبان هذه الآثار الغنائية القيّمة من مدافن الأندلس حتى يعرفوا
أنّ العصر الذهبي لآدابهم هو على جانب من المسكنة إزاء العصور العربية الزاهرة
في قرطبة وطليطلة وإشبيلية وغرناطة، حتى في بلنسية ومالقة والمريّة ومرسية.
وعندئذ يحق لهم أن يفخروا بهذه المدائن، فخر الإيطاليين بأنضر عصور نهضتهم.
"فالنهضة في إسبانيا العربية ترعرعت وبلغت أوجها قبل ظهورها في شبه الجزيرة
الإيطالية بأجيال"(43).
في ذلك العهد تفشت عدوى الاشتغال بالأدب بين الأساقفة المسيحيين المستعربين،
الذين راحوا ـ في ظاهرة فريدة في التاريخ ـ يقرضون الشعر بلغة عربية عالية. فها
هو سلفستر الثاني بابا رومية يترقرق دمعه، وهو يصغي بين خرائب (الكوليزة) وعند
نصب (تراجان) إلى الأناشيد المترعة حنيناً إلى جنائن الزهراء وقصورها الساحرة.
فينظم قصائد عربية لها أوزانها وقوافيها(44).
وفي كل من صقلية وبروفنسا وإيطاليا وبيزنطة. وحتى في قلب الإمبراطورية
الألمانية، ظلت اللغة العربية اللغة التقليدية للحب والعلم والشعر. وما جلّ
أناشيد توسكانة القديمة، وكثير من أغاني شعراء الولايات الجوالين، غير قصائد
عربية لشعراء الأندلس، أُدخل عليها بعض التطوير، دون أن يزول عنها أثر الروح
الشرقية. حتى أنّ فريدريك الثاني عاهل صقلية راح ينظم مقاطيع ممتعة باللغة
العربية، ويجمع في بلاطه رهطاً من علماء الإسلام وشعرائه، "ليبعث في ملكه ما
كان للأدب العربي من زهوة و أبهة في دمشق وبغداد وقرطبة وإشبيلية، وهي المدائن
الأربع التي كانت آنئذ قبلة أنظار النهضة الأدبية في العالم أجمع". كما ويذهب
بعض المحققين المعاصرين إلى أنّ في شعر دانتي مآخذ صريحة مردودة إلى الأدب
العربي.
لقد وازت مدائن الأندلس مراكز أنوار التمدّن في العهد القديم كأثينة
والإسكندرية، بل بزّتها، إذا ازدهى الطب فيها بابن زهر، والجغرافيا والتاريخ
بالمقري وابن الخطيب، وعلم الفلك والرصد والكيمياء والجبر والفلسفة إلى غير ذلك
من نتاج الجهاد العقلي بسواهم.
ونقل العرب إلى العالم اكتشاف البوصلة والورق والبارود، وحملوا إليه أتقن أدوات
الري، وأشهر التقاويم الفلكية المعروفة في ذلك العهد. وحفظوا لـه آثار
اليونانيين ونتاجهم الفكري.
وفي تلميحاته التاريخية القيّمة أكّد المؤرخ كونده أنّ الأسطول الملكي العربي
كان أول من مزّق الحجب عن المناطق المجهولة في الأوقيانوس الأطلنطيقي، حين أبحر
في الجيل العاشر من ميناء لشبونة مكتشفاً جزر آسورس وبعض جزر الأنتيل(45).
وفي شبه الجزيرة الإسبانية ما برحت روح اللغة العربيّة تمدُّ معجم الإسبان بما
يزيد عن ربع مفرداته، وما زالت أنوار آدابها تلهب مخيلتهم بأشعتها. ترى ذلك
ماثلاً في حكايات دون كيشوت وأضرابه من الفرسان. وفي جلّ الأدب الروائي والشعر
الإسباني المتأثرين بالروح العربية المحضة، حتى أنّ وزن الشعر الثماني التفاعيل
هو في أصله بحر نظم به الشعراء الإسبان على قافية واحدة تتكرر في جملة الأبيات،
على نحو ما هو مألوف في الشعر العربي. كذلك فإنّ بعض مواقف البطولة في قصيدة
(السيد) تبدو كأنّها مأخوذة أو مترجمة عن مواقف وردت في مقامات الحريري
المشهورة. وما الروح الانتقادية التي تجدها في الآثار التي خلّفها كبار الكتاب
الإسبان الأقدمين، منذ كتاب (كونده لوكانور) للدون خوان مانويل، وحتى كتاب (كالستينا)
الذي ألفه روخاس، مروراً بمؤلفي (اللمح) وغيرهم، إلاّ بتأثير المعارف العربية
التي بسطت نورها على اللغات الحديثة(46).
إنّ جميع القصائد المجموعة في كتب الأغاني الإسبانية هي انتحال لما في الدواوين
الشرقية من شعر، فإنّك ترى ناظميها وقد رافقوا في أناشيدهم الإيقاع المتكرر في
ألحان الرباب. وإنّ قصيدة (المقاطعي) المشهورة لجورج مانريكه هي ترجمة إسبانية
لمدائح الشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي(47). أما غونغوراً أنقى شعراء
الإسبان روحاً فهو شديد الشبه بكبار الشعراء في بلاط الأمويين في قرطبة، وقد
تملت الروح العربية من نفسه إلى حدٍّ لم يجد معه في مفردات لغته الإسبانية ما
يؤدي بها إلى ألوان معانيه الشرقية.
وكذا فإنّ نفوذ الأدب العربي ظاهرة في كتابات هّريرا الإلهية، وبخاصة في كتابه
(ريوخا)، وفي أناشيد الشاعر رود ريجوكارو على خرائب إيطاليا، وفي كتابات
كالدرون، وتآليف جلّ الروائيين في العصر الذهبي، ومنها كتابات لوبي دي فيجا،
وهو أعظم قدراً(48).
وهذا القول ينطبق كلّ الانطباق على معظم مشاهير الأدباء في ذلك العهد، ومنهم
آرولاس وجارسيا جوتييرس وبدرو أنطونيو وآلاركون(49).
وحين بدأت النهضة الأدبية الإيطالية تنتشر في إسبانيا في الجيل السادس عشر، على
يد بوسكان وجارسيلاسو، وبدأ الأدب الإسباني يتسم بسمة وطنية جديدة، نشأت حرب
شعواء بين القيثار والرباب، امتدت إلى ما بعد العصر الذهبي، إذ زاد وقيدها
بظهور الرومانطيقية وتطور الأدب الحديث وميله نحو التجديد(50).
لقد ظلت المقاعد الشرقية المزركشة مؤثرة في روح جويتي أول المبشرين بالمذهب
الرومانطيقي، وبقي الأدب العربي مؤثراً في أعظم أعمدة الرومانطيقية كالدون دي
ريفاس وايسبرونسيدا وفرناندس وغوتزالر، وخصوصاً زويجا، الذين ما هم غير شعراء
يفكرون بالعربية ويكتبون بالإسبانية(51).
امتد تأثير العرب في الأدب الإسباني حتى العصر الحديث، فإنّ للشعراء الإسبان
الحديثين مؤلفات عديدة لنا أن نعدّها بين نخب الدواوين العربية، نذكر منهم:
سالفادور رويدا، ومتشّادو، وغيلييرمو فالنسيا في كتابه (الغرانيق والنياق) الذي
يعدّ من جواهر الشعر العالمي، وغارسيا لوركا، وجوليو هيريرا ريسيغ، وجوان
جيمنيز، وألفريدو بلانكو، وألبرتو. أ. سيانغويغوس، وبيريز فاليينتي، وأنجل
غانيفت، وإسحق مونوز، ورافايل ماريا لوبز، وكانسينوس أسينس، وغابرييل ميرو،
وغارسيا سانشيس، وكثيرين سواهم(52).
حتى إنّك لتجد في قصائد روبن داريو ـ وهو أعظم شعراء عصره ـ بقية تشابيه شرقية.
وقد نظم قصائده بالعوامل الإرثية الراسخة في روحه والمتسربة من عروقه، ويمكنك
أن تضمها إلى أجود منظومات الشعر العربي. ولا غرو فهو ينتسب إلى أسرة عربية
أندلسية من البخارى في أوهانس إحدى قرى مقاطعة المرية.
وتجد هذا التأثير بادياً أيضاً في الأناشيد الشعبية الإسبانية، إلى درجة أن
فيلاسباسا لم يلحظ فارقاً بين النشيدين الغرناطي والبغدادي، حين أداهما فريق من
المنشدين الأندلسيين والسوريين في محلة براز في سان باولو، مما يشفّ عن إخاء
الأمتين المجيد(53).
وهكذا يخلص فيلاسباسا إلى القول: "ليس في طاقتنا نحن الأندلسيين المعتنقين
بإيمان ثبت دين المسيحية، أن نجحد دين أسلافنا المسلمين. فلئن كان الأول دين
ضمائرنا، فالثاني ما برح نتاج خيالنا القومي المزدان ببدائع التصور"(54).
وإنّه يتعذر على الإسبانيين إتمام أبحاث تاريخهم وآدابهم، ما لم يستعن مؤرخوهم
ونقادهم بلغة المعتمد بن عباد وأبي البقاء الرندي، وبالمخطوطات العربية
المبعثرة في أنحاء العالم(55).
وينتهي إلى القول: "إنّ قوميتنا الغربية ما هي غير العرض الظاهر، وأما القومية
الشرقية فهي حقيقتنا الخالدة. وإنّ كل ثوراتنا الأدبية القديمة والحديثة لم تكن
في الغالب غير أثر للروح العربية التي تطفو من أعماقنا محتجة ناقمة". وإنّنا
"لو خدشنا بالأظفار بشرتنا الأوربية الصفراء، لبرز لنا من تحتها لون بشرة العرب
السمراء"(56).
*المؤلف د. سهيل الملاذي
هو
باحث، وأكاديمي. مدير مديرية الثقافة السابق بدمشق له مؤلفات عديدة.
الحواشي:
(1) ـ"من أعلام العرب في القومية والأدب" لعبد الله يوركي حلاق
(منشورات مجلة الضاد بحلب) 1978: 95 ـ 96.
(2) ـ مقدمة فيلاسباسا: 53.
(3) ـ م. س: 35.
(4) ـ وهو العدد (6 ـ 8) من السنة الخامسة (حزيران وتموز وآب
1935).
(5) من أعلام: 99.
(6) ـ "الضاد" 5/6 ـ 8 (1935): 245 ـ 246.
(11) ـ كانت "العصبة الأندلسية" تجاري في نشاطها وأهدافها
"الرابطة القلمية" التي تكوّنت في نيويورك في نيسان 1920 من عشرة أعضاء: جبران
خليل جبران عميدها، وميخائيل نعيمة مستشارها،
ووليم كاتسفليس خازنها، وعبد المسيح عبده حداد صاحب جريدة
"السائح" نصف الأسبوعية التي تأسست في 22/4/1912، ونسيب عريضة صاحب "الفنون"،
وإيليا أبو ماضي صاحب "السمير"، والشاعران رشيد أيوب وندرة حداد، إضافة إلى
وديع باحوط وإلياس عطا الله. توفي جبران عام 1931و وعاد نعيمة إلى بسكنتا في
9/5/1931، فقلّ نشاطها.
أضيفت في24/05/2006/ خاص
القصة السورية / عن الموقف الأدبي
مقاربة أولية لدور الاغتراب
في الأدب العربي السوري المعاصر
بقلم الكاتب:
أ. د. عبده عبود*
1ـ حجم الظاهرة
يقول مثل شعبي عربي: «الغربة مضيعة الأصول» ويقول مثل شعبي آخر«غربة وكربة»،
ولكن مثلاً شعبياً ثالثاً يقول:«اترك بلادك تنول مرادك»، ولكأن المثل الأخير
ترجمة لقول الشاعر :
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
أما الشاعر العربي القديم الحكيم أبو تمام فله بهذا الخصوص بيت مشهور تحول إلى
قول مأثور أو مثل سائر يقول فيه:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديبا جتيه فاغترب تتجدد
فأي من هذه الأقوال والمواقف المتضاربة ينطبق على تلك الظاهرة الاجتماعية
والثقافية التي نطلق عليها تسميات مختلفة، كالاغتراب، والغربة، والهجرة
والمهجر، والنفي والمنفى وغير ذلك من تسميات ؟ لست الآن بصدد بيان الفوارق
الدلالية بين هذه الدوالّ، التي تلتقي دلالتها في الخروج من الوطن والابتعاد
عنه إلى بلد آخر، فموضوع مقالتي هو دور الاغتراب في الأدب العربي السوري
المعاصر.
من هم أبرز أعلام هذا الأدب في النصف الثاني من القرن العشرين؟ إنهم: نزار
قباني، وأحمد علي سعيد الملقب بـ (أدونيس)، ومحمد الماغوط في الشعر، وحنا مينه
وغادة السمان وزكريا تامر وحيدر حيدر وياسين رفاعية ونبيل سليمان وهاني الراهب
وعبد السلام العجيلي وحسيب كيالي وألفة إدلبي في القصة والرواية، وسعد الله
ونوس في المسرح، هؤلاء هم الأدباء الذين تتوارد أسماؤهم إلى الذهن عندما يذكر
الأدب العربي السوري المعاصر، فإذا أنعمنا النظر في سير هؤلاء الكتاب، يلفت
انتباهنا وجود قاسم مشترك بين حيوات كثير منهم، إن لم نقل معظمهم، الا وهو أنهم
قضوا قسماً من حيواتهم خارج وطنهم سورية،في الغربة أو المهجر أو المنفى، فحنا
مينه وهو أشهر روائي سوري معاصر، أمضى قرابة عشر سنوات في الصين وأوروبا
الشرقية ومحمد الماغوط أبرز ممثلي قصيدة النثر في الأدب العربي الحديث، والكاتب
المسرحي والمقالي المعروف قد وجد نفسه في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين
مضطراً لأن يغادر وطنه سورية، ولم يعد اليه ليحط رحاله في دمشق، إلا بعد أن
انهكه المرض والغربة والفقر، وغادة السمان، القاصة والروائية والشاعرة والكاتبة
الصحافية اللامعة، التي تعد من أبرز أعلام الأدب النسوي العربي الحديث (رغم
أنها لا تعترف بأدب كهذا)، قد غاردت سورية في منتصف الستينيات، لتقيم في بيروت
والقاهرة ولندن، وتستقر في باريس، حيث ما زالت تقيم إلى اليوم، وغادر أحمد علي
سعيد، أدونيس، الشاعر والمفكر المعروف، سورية بعد أنهى دراسة اللغة العربية
وآدابها في جامعة دمشق، إلى لبنان في أول الأمر، ثم إلى أوروبا الغربية، حيث
استقر في باريس وهو يعيش هناك ويعمل ويكتب ويمارس نشاطه الأدبي والفكري الحثيث،
وزكريا تامر، الذي سماه محمد الماغوط« أمبراطور القصة القصيرة» في الأدب العربي
الحديث، غادر وطنه سورية، ومدينته دمشق، في أوائل الثمانينيات من القرن
العشرين، إلى لندن، واستقر هناك حيث يعيش ويكتب قصصاً وزوايا صحافية، ويطل من
حين لآخر على دمشق زائراً، ليتأكد مما إذا كان كل شيء هناك ما زال على ما يرام،
وياسين رفاعية، ذلك القاص والروائي والصحافي المعروف، الذي تحول بفضل موهبته
وجهوده العصامية، من عامل فرن إلى أديب كبير، اضطر أيضاً لمغادرة سورية إلى
بيروت، ثم إلى لندن، وما زال يعيش هناك، رغم حنينه الشديد إلى دمشق ورغبته
القوية في العودة إليها، تلك الرغبة التي عبر عنها في الحديث الذي أجراه مع
الأديب عادل أبو شنب، ونشرته حديثاً مجلة (المعرفة) السورية ( العدد 498، آذار
2005)، ولا تقتصر قائمة الأدباء السوريين المغتربين على الأدباء الذين أوردتهم
أسماءهم، بل هي قائمة طويلة جداً، نجد فيها أسماء حيدر حيدر، وسعيد حورانية،
وسليم بركات، وحسيب كيالي، وهاني الراهب، وحميدة نعنع، وغيرهم، ناهيك عن النقاد
كمال أبو ديب ومحيي الدين صبحي وخلدون الشمعة، إنهم أدباء تجمعهم، على اختلاف
اتجاهاتهم الفنية والفكرية، تجربة الغربة، منهم من اغترب ولم يعد إلى وطنه
سورية، إلى أن توفي، كالشاعر نزار قباني، الذي غادر بيروت إلى لندن بعد مقتل
زوجته بلقيس، وتوفي هناك عام 2000، لقد أعيد جثمانه إلى دمشق حيث وري الثرى في
موكب جنائزي حاشد، بعد أن رفض إمام أحد مساجد لندن أن يصلي عليه صلاة الميت،
بحجة أنه قد خرج بشعره الاباحي عن الاسلام، لقد حدثت تلك المهزلة المبكية لأمير
الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي قال عن نفسه إنه ينام
ومئتا مليون عربي في غرفة واحدة، حقاً، لقد صدق المثل الشعبي القائل «الغربة
مضيعة الأصول»، أما حسيب كيالي أبو القصة الساخرة في الأدب السوري الحديث فقد
هاجر إلى دولة الامارات العربية المتحدة ورفض حتى أن يدفن بعد وفاته في سورية
وكان له ما أراد ومن هؤلاء الأدباء من لم يزل مقيماً في المغترب كغادة السمان،
وأدونيس، وزكريا تامر، وسليم بركات وحليم بركات إلا أن قسماً من أولئك الأدباء
المغتربين عاد إلى سورية بعد أن قضى جزءاً من حياته في المغترب أو المنفى، كحنا
مينه ومحمد الماغوط وحيدر حيدر وهاني الراهب، الذي توفي بعد فترة قصيرة من
عودته من الكويت وبينما واصل القسم الأعظم من الأدباء السوريين المغتربين
الكتابة باللغة العربية أخذ بعضهم يكتب بلغة البلد الذي اغترب إليه، كالشاعر
عادل قرشولي، والقاصين رفيق شامي وسليمان توفيق الذين يكتبون بالألمانية.
وعلى أية حال ثمة في الأدب العربي السوري المعاصر ظاهرة تسترعي الانتباه،
وتستحق الدراسة، ألا وهي ظاهرة اغتراب هذا العدد الكبير من الأدباء الكبار عن
وطنهم جزئياً أو كلياً، وان قسماً كبيراً من ذلك الأدب لم يكتب ولم ينشر داخل
سورية بل خارجها، ماذا نسمي ذلك الأدب؟ هل نسميه أدباً مهجرياً جديداً، ونتحدث
عن «أدب المهجر الثاني» تمييزاً له عن « أدب المهجر» الأول الذي نشأ في
الامريكيتين إبان النصف الأول من القرن العشرين؟ أم نطلق عليه تسمية « أدب
المنفى» انطلاقاً من حقيقة أن قسماً كبيراً من أولئك الأدباء كانوا على علاقة
تناقض مع الأوضاع السياسية القائمة في وطنهم، الذي غادروه مضطرين لا مختارين؟
أم نسميه «أدب الاغتراب» وهي تسمية محايدة يمكن أن تطلق على أعمال كل أديب سوري
يغادر وطنه إلى بلاد أجنبية ليعيش فيها مغترباً، بصرف النظر عن أسباب الاغتراب
ودوافعه؟ إنها أسئلة أكتفي اليوم بأن أثيرها، وذلك على الرغم من اعترافي بأهمية
الشأن المصطلحي فالأمر الأهم هو، في رأيي، كيف ندرس هذه الظاهرة ونفسرها ونعي
ما يترتب عليها من نتائج؟
2ـ رزمتان من الأسئلة
تطرح ظاهرة الاغتراب في الأدب العربي السوري المعاصر عدة أسئلة، أبرزها: ما
أسباب هذه الظاهرة؟ لماذا اغترب هذا العدد الكبير من الأدباء السوريين عن
وطنهم، وآثروا العيش في بلدان الاغتراب الأجنبية والعربية؟ هل اغترب أولئك
الأدباء بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي عاشها المجتمع السوري منذ أواسط
الستينيات من القرن العشرين وتمثلت في أزمات معيشية خانقة؟ أم اغتربوا لأسباب
سياسية تتلخص في تناقضهم مع نظام الحكم ومنطلقاته الإيديولوجية وممارسته
السياسية؟ أم ترجع ظاهرة اغتراب الأدباء السوريين إلى افتقار مجتمعهم إلى القدر
الكافي من حرية الرأي والتعبير والنشر بسبب وجود رقابة إعلامية وسياسية على كل
ما يطبع أو يوزع في بلادهم من كتب ومطبوعات؟ أم ترجع ظاهرة الاغتراب في الأدب
السوري المعاصر إلى حاجة الأدباء إلى درجة عالية من الحرية الشخصية، ومنها حرية
السفر والعمل والحياة الخاصة؟ أم كانت للاغتراب أسباب إيديولوجية، جعلت
الليبراليين يسافرون إلى الغرب واليساريين إلى دول أوروبا الشرقية، الاشتراكية
سابقاً، والاسلاميين إلى السعودية ودول الخليج العربي؟ أم اغترب أولئك الأدباء
السوريون رغبة منهم في التعرف إلى البلدان الأجنبية ومجتمعاتها وثقافاتها
وأساليب حياتها ولغاتها؟ ولماذا فضل القسم الأكبر من الأدباء السوريين أن
يغتربوا إلى أقطار أجنبية غربية، كبريطانيا وفرنسا، بينما فضل آخرون الاغتراب
إلى دول أوروبية شرقية، تنتمي إلى ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي، واغترب
آخرون إلى دول عربية كلبنان ودولة الإمارات، والسعودية؟ ولماذا عاد قسم من
الكتاب إلى وطنهم سورية، بينما لم يعد آخرون فضلوا مواصلة العيش في المغترب؟
تلك هي الرزمة الأولى من الأسئلة التي تثيرها ظاهرة الاغتراب في الأدب السوري
المعاصر أما الأجوبة فنعثر عليها في سير الأدباء المغتربين وتصريحاتهم
الصحافية، وفي التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لسورية في النصف
الثاني من القرن العشرين، وتطرح تلك الظاهرة رزمة أخرى من الأسئلة التي لا
تتعلق بالمقدمات بل بالنتائج الإبداعية والاستقبالية، ماذا كانت نتائج اغتراب
الأدباء السوريين على صعيد الموضوعات والأغراض الأدبية؟ هل أدى ذلك الاغتراب
إلى ظهور موضوعات وأغراض جديدة مرتبطة به وببلدانه؟ وهل كانت للاغتراب نتائج
على صعيد المضمون الفكري للأعمال التي انتجت في تلك البلدان؟ وهل كان للاغتراب
تأثير في الشكل الفني لتلك الأعمال نتيجة تفاعل الأدباء السوريين المغتربين مع
آداب البلدان التي اغتربوا إليها؟ وماذا كانت نتائج الاغتراب على الصعيد
اللغوي؟ هل تأثرت لغة أولئك الأدباء بلغات البلدان المضيفة؟ ومن الملاحظ أن
قسماً من الأدباء السوريين المغتربين قد أخذ يضطلع بدور الوسيط النقدي والترجمي
بين أدبه الوطني وبين آداب الأقطار المضيفة ما أهمية هذا الدور وما حجمه، وهل
كان على حساب الدور الابداعي الأصيل لأولئك الأدباء في لغتهم الأم؟ وماذا كانت
نتائج الاغتراب وآثاره على صعيد تلقي أعمال الأدباء المغتربين؟ هل حافظ أولئك
الأدباء على جمهورهم الأصلي الذي يتلقى أعمالهم، أم ضعفت أو انقطعت الصلة بينهم
وبين ذلك الجمهور؟ أم كونوا جمهوراً جديداً غير سوري يتلقى أعمالهم ؟ وهل واصل
أولئك الأدباء نشر مؤلفاتهم داخل سورية، أو وجدوا منابر ودور نشر خارج سورية؟
تلك هي الحزمة الثانية، أو الثالثة من الأسئلة التي تطرحها ظاهرة الاغتراب في
الأدب السوري المعاصر، إنها أسئلة كثيرة وكبيرة، لا يتسع المجال لتقديم إجابات
وافية عليها وجل ما يستطيع المرء أن يفعله في هذه العجالة هو أن يعبر عنها وأن
يعرض إحدى الحالات الدالة أو النموذجية، محاولاً أن يقدم من خلال عرضها أجوبة
على قسم من تلك الأسئلة، أما الحالة التي اخترتها فهي حالة الأديب السوري حنا
مينه، الذي يعد واحداً من أبرز أعلام الرواية العربية المعاصرة ومما لا جدال
فيه أن لهذه الحالة خصوصياتها وتفردها، وبالتالي لا يجوز تعميمها أو إسقاطها
على الحالات الأخرى، إلا أن لها على الرغم من ذلك أبعاداً وجوانب عامة ومشتركة
مع غيرها من الحالات، فالخاص ، حسب تعبير هيجل، لحظة لحظات العام.
3ـ حنا مينه نموذجاً
في سنة 1959 غادر حنا مينه وطنه سورية إلى لبنان حيث أقام سنة ونصف السنة
متخفياً، ومن هناك توجه إلى جمهورية الصين الشعبية التي يندر أن يقصدها
السوريون، أما الأسباب فهي سياسية صرف وتتلخص في أن حياة هذا الأديب الماركسي
المحسوب على الحزب الشيوعي السوري والعضو المؤسس في «رابطة الكتاب العرب»، قد
كانت في خطر حقيقي على ضوء حملات الاعتقال والتعذيب التي شنتها سلطات دولة
الوحدة ضد الحزب المذكور، بسبب موقفه المعارض للوحدة السورية- المصرية، ورفضه
حل نفسه لصالح التنظيم السياسي الموحد الذي أقامه النظام، أما اختيار الصين
بلداً للجوء فقد تم بناء على علاقات الحزب الشيوعي السوري بحكومات الدول
الاشتراكية والأحزاب الشيوعية الحاكمة فيها لم يغترب حنا مينه طلباً للمال ولا
سعياً إلى مغامرة ولا رغبة في التعرف إلى شعب أجنبي وحضارته، بل طلباً للحياة
والحرية، كتب حنا مينه في مقالة جديدة بعنوان« الحرية أثمن من الخبز»: «إن
تجارب حياتي ككاتب لا تخلو من أذى السلطة، في عهد الانتداب الفرنسي، والعهد
الوطني بعد الاستقلال ، وفترة الوحدة السورية- المصرية أيضاً .. ففي تلك الفترة
اعتبرت رابطة الكتاب العرب التي كنت من مؤسسيها خارجة على القانون، فسجن
أعضاؤها، وتشتتوا في المنافي، وبقيت في المنفى قرابة عشر سنوات، قضيتها مشرداً
بين أوروبا والصين، والمفارقة أنني بكيت بعد هزيمة حزيران عام 1967، وكنت في
المجر،.. وعدت بعد ذلك مباشرة إلى وطني سورية» (جريدة تشرين، 7/12/2004) وكان
لتلك السنوات تأثير كبير في أدب حنا مينه الروائي، وهو تأثير ظهر بوضوح في
ثلاثية الصين الروائية «حدث في بيتاخو» و« عروس الموجة السوداء» و «المغامرة
الأخيرة»، وفي رواية المجر «الربيع والخريف»، أما ثلاثية الصين التي تقع في
1200 صفحة، فهي على الرغم من أنها كتبت في وقت لاحق، مستمدة من إقامة حنا مينه
في جمهورية الصين الشعبية من سنة 1960 إلى سنة 1965، تلك الأعوام التي شهدت
تفاقم الخلاف الايديولوجي الصيني- السوفييتي الذي شق الحركة الشيوعية العالمية
بأكملها، يصور حنا مينه في تلك الثلاثية على لسان الراوي- الأنا، زبيد الشجري،
الحياة في مدينة صينية قضى فيها عدة سنوات، يدرّس اللغة العربية ويدقق
المطبوعات الصينية المكتوبة باللغة العربية.
إنها حياة شعب يبذل جهوداً مضنية لتطوير بلاده اقتصادياً وتكنولوجياً، بمساعدة
خبراء من الدول الاشتراكية الأخرى، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي. إلا ان مصاعب
الصينيين تضاعفت إثر قيام الأخير بسحب خبرائه من الصين دفعة واحدة، اعتقاداً
منه انه يستطيع بذلك ان يركع الصينيين ويجبرهم على التخلي عن مواقفهم
الايديولوجية وعن نقدهم لسياسته الخارجية، ولكن الصين الشعبية لم تركع ولم
تتراجع، وواصلت عملية البناء بالاعتماد على قواها الذاتية، وهذا ما تطلّب من
الصينيين ان يضاعفوا جهودهم، وان يمارسوا تقشفاً أكبر، وان يؤجلوا أمورهم
الشخصية، كالحب.. وهذا ما عايشه السوري المنفي الى الصين زبيد الشجري عن كثب.
ولأول مرة في تاريخ الأدب العربي الحديث تصبح الصين موضوعاً لعمل روائي، بعد ان
كانت صورة الآخر الأجنبي في هذا الأدب متمركزة اوروبياً وغربياً. إلا ان حنا
مينه الذي أقام في الصين خمس سنوات، لم يكن ملماً باللغة الصينية، ولا مطّلعاً
على تاريخ الصين وحضارتها، بل كان مثقفاً ماركسياً عربياً أجبرته ظروف سياسية
قاهرة على الاقامة في الصين والعمل فيها.
لقد ظلت نظرته الى الصين نظرة خارجية، واقتصر تعامله مع الصينيين على عدد قليل
من الأشخاص، وفي مقدمتهم مرافقه المترجم عبد القادر، ومرافقته تشين لاو، أما
القسم الأعظم من الأشخاص الذين تعامل معهم زبيد الشجري فهم أجانب غير صينيين:
بريطانيون وفرنسيون وايطاليون وألمان، لكل منهم دوافعه التي جعلته يأتي الى
الصين، لذا فإن ثلاثية الصين تشكل منجماً لدراسة صورة الآخر في أدب حنا مينه،
وتشكل من المنظور الصورائي حالة فريدة في الأدب العربي الحديث. لقد عبرت هذه
الثلاثية عن حالة مركبة من الغربة، شملت الجوانب والأبعاد اللغوية والثقافية
والاجتماعية والانسانية، ولم تقتصر على البعد الجغرافي.
ولا ينطبق ذلك إلا بصورة جزئية على رواية «الربيع والخريف» التي قدم فيها حنا
مينه صورة أدبية لهنغاريا وعاصمتها بودابست وشعبها، وللمرأة المجرية على وجه
الخصوص. لم يعبّر الكاتب عن موقفه من قضية المرأة والعلاقات الجنسية بالوضوح
الذي نجده في هذه الراوية، فقد عد وضع المرأة في المجتمع معياراً للرقي الحضاري
والانساني، ولم يخف انحيازه للموقف الاوروبي في قضية المرأة، فالعلاقة بين
الرجل والمرأة في الغرب أسلم من مثيلتها في الشرق، إن رواية الربيع والخريف
تعدّ واحدة من اهم الروايات العربية الحديثة التي تقارن الشرق العربي بالغرب
الاوروبي على صعيد موقف المجتمعين والحضارتين من المرأة والعلاقات الجنسية، وهي
تصور المرأة الاوروبية تصويراً ايجابياً ، وذلك خلافاً لتلك الاعمال الادبية
العربية التي درستها الباحثة الألمانية روتراود فيلاندت، وتوصلت نتيجة لذلك الى
ان صورة المرأة الاوروبية في الادب العربي الحديث سلبية ومشوهة «صورة
الاوروبيين في الادب القصصي والمسرحي العربي الحديث».
4- الغربة أم السجن؟
وقف حنا مينه في رواياته موقفاً رافضاً ومنتقداً للغربة، وما اكثر ماوردت في
تلك الروايات عبارات تعبر عن رفض الغربة واخلاقها، ففي راويته المبكرة «الثلج
يأتي من النافذة» يهرب المثقف اليساري السوري «فياض» الى بيروت تجنباً للملاحقة
السياسية، ولكنه يتعرض لتجربة الغربة، رغم انه في بلد عربي شقيق له فيه رفاق،
لذلك قرر فياض ان يضع حداً لغربته وان يعود الى وطنه سورية ومدينته دمشق،
فالبرد الذي شعر به عندما دخل الثلج الى غرفته من النافذة «كان من الغربة،
والتجربة تمت في الغربة، والآن وداعاً للغربة» «ص372»، وهكذا عاد فياض الى
سورية قاطعاً الطريق نفسه الذي قطعه قبل عامين، وانما بالعكس، وعندما وطأت
قدماه ارض الوطن غمر نفسه مزاج حماسي جعله يهتف: سلاماً ياارضي! وانحنى فقبل
التراب.. ووقف فاستقبل دمشق بوجهه: يامدينتنا التي لا احلى.. في مدينته سيعيش
وفي مدينته سيكتب، وفيها سيكافح وشعر بسعادة غامرة ، بسعادة من يستقبل الدنيا
بصدره وهتف وكأنه يقسم: ابداً لن أهرب بعد الآن! «ص273» وبهذا العهد الذي قطعه
فياض على نفسه تختم رواية الثلج يأتي من النافذة، فهل بر الكاتب بعهده؟ لقد لجأ
فياض الى لبنان لأن الرجعية الحاكمة في سورية قد فتحت معركة ضد الشعب.. وهي
تطارد التقدميين(ص23) ولكن سنتين من الغربة في لبنان كانتا كافيتين لإقناعه
بالعودة الى الوطن، وهناك زالت «السلطة الرجعية» التي كانت تلاحقه وحلت مكانها
سلطة تقدمية وطنية قامت بعمليات تأميم وتحالفت مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر
الاشتراكي الا ان حنا مينه وجد نفسه مرة اخرى مضطراً لانه يهرب من سورية الى
لبنان ومن هناك الى الصين، وان يخوض تجربة جديدة ومختلفة نوعياً من الغربة، ومع
ان الصينيين عاملوا زبيد الشجري معاملة لائقة وقدروا جهوده التعليمية واللغوية
افضل تقدير ومع انه تمتع في بيتاخو بمغامرات نسائية لا يستطيع في وطنه حتى ان
يحلم بها، فإنه لم يكن سعيداً بتلك الغربة وكثيراً ما وصفها بأنها اسوأ من
السجن «شيء اخر كان يضايقه يشعره بالذنب، يؤلمه بايجاع لانه في مجاراته لاخلاق
الغربة كان يتخلق بها فاقداً على هذا النحو انبل المشاعر التي كانت له يوم كان
مناضلاً في وطنه...الغربة بيئة قذرة وهذه هي اليوم بيئتي وهي تشد بي الى تحت
لاغراقي(حدث في بيتاخو ص114) ويقول زبيد في معرض التعقيب على ما آلت اليه اوضاع
بعض الشيوعيين العرب اللاجئين الى الصين: «لم افاجأ كثيراً عندما وجدت بعضهم
يزعم لنفسه في بلده الاصلي مكانة لم تكن له ومقدرة لغوية ليس هو صاحبها ومرتبة
حزبية ادنى بكثير مما يدعي وعزوت ذلك كله الى أخلاق الغربة وما فيها من لغو
كاذب ومهاترات غير لائقة وانتفاخات ورمية فارغة ومضحكة (عروس الموجة
السوداء(ص49) ويواصل زبيد نقد حياة الغربة قائلاً: «حياتنا مع الاسف مستنقعية
هنا.. أننا نغوص في مستنقع اخلاق الغربة، وشيئاً فشيئاً ستسوء هذه الاخلاق الى
درجة التفسخ والنتن»(نفسه ص96) ويفاضل زبيد بين المنفى والسجن قائلاً: «يا
للمنفى من مهنة شاقة كما قال ناظم حكمت تراه كان يفضل السجن على المنفى؟ السجين
في وطنه ليس رقماً، اما خارجه وفي المنفى فانه ليس اكثر من رقم(المغامرة
الاخيرة ص210) أليست هذه ترجمة للمثل الشعبي القائل« الغربة مضيعة الاصول»، وفي
العاصمة المجرية بودابست كانت معاناة(كرم) من الغربة اقل من معاناة زبيد في
الصين وذلك لان المجتمع المجري مجتمع اوروبي متقدم ومنفتح تسوده علاقات
اجتماعية جميلة وعلاقات جنسية متحررة، رغم ذلك ظل (كرم) ينوء تحت وطأة
الغربة:«لا اقوى على احتمال هذه الغربة التي طالت ومهما عرفت من نساء يبقى هناك
داخلي فراغ يبقى حنين وما أدري اذا كانت المجر ستخطفني من نفسي، ستنسيني انني
غريب، واني في منفى ألجأتني اليه الظروف وان الوطن يناديني(الربيع والخريف ص35)
ويقول كرم عن غربته: «من الداخل أتألم.. اعيش واقع الغربة بأعمق ما تكون
الغربة.. أتألم وحيداً صامتاً» (نفسه ص 270) وعندما حدثت هزيمة الخامس من
حزيران 1967 قرر كرم ان يعود الى وطنه سورية مهما يكن الثمن: «صحيح انني لا
اعود بشهادة علمية لكنني اعود بتجربة هناك ربما سأجد بعض المتاعب، بعض المصاعب،
لكن الغربة اقسى من كل شيء، هناك ارضي وبيتي وهناك اهلي وهناك سأكتب» وبالفعل
كانت المتاعب بانتظاره حتى قبل ان يصل الى بيته ويرى اهله: ففي مطار دمشق « جاء
من ادخله الى احدى الغرف واغلق الباب وعندئذ ادرك انه موقوف في الساعة الثانية
بعد منتصف الليل أركب سيارة جيب، وضعوا القيد في يديه واركبوه سيارة جيب ولم
يقل احد شيئاً ولم يسأل هو عن شيء»، لقد اغترب عن وطنه قبل عشر سنوات خشية ان
يعتقل، وها قد عاد الى الوطن المرزوء الذي يعيش ابناؤه تحت صدمة الهزيمة، وقد
اعتقل بمجرد ان وطأت قدماه ارض الوطن.. الا ان كرم اغمض عينينه، على سعادة لم
يعرفها من قبل (نفسه ص328) أليس المنفى اسوأ من السجن؟ وكان حنا مينه نفسه قد
عاد الى وطنه، واعتقل بالفعل في المطار، ولكنه مالبث ان خرج من السجن ورأى بيته
واهله ولاسيما امه المسنة المقعدة، التي اصرت على ان تفي بعهد قطعته على نفسها
بأن تزحف الى السيارة التي نقلته اليها وتقبل دواليبها(لماذا حملت القلم ص169)
وفي الوطن استأنف حنا مينه نشاطه الابداعي وانتج ما يربو على ثلاثين كتاباًَ
وكان ذلك النشاط قد توقف طوال سنوات الغربة التي شلت جهوده الابداعية الا أن
حنا مينه عاد من الغربة بتجربة انسانية قيّمة وكتب من وحيها ثلاثية الصين
ورواية بوابست وهي روايات ماكان ليكتبها لولا تجربة الغربة، لقد وسعت تلك
التجربة افقه واغنته ،واكسبته بعداً عالمياً وادخلت الى رواياته تنويعات جديدة
من صورة الاخر الاجنبي كصورتي الصين والمجر، وهما صورتان ما كانتا لتظهرا لولا
اغتراب الكاتب الى هذين البلدين الاجنبيين.
لا جدال في ان لتجربة الغربة والاغتراب لدى حنا مينه خصوصيتها، ولكن تلك
التجربة تتقاطعه مع تجارب العديد من الكتاب السوريين في مقدماتها ونتائجها
فأسباب اغتراب اولئك الكتاب كانت سياسية واقتصادية وثقافية بالدرجة الاولى،
ونتائجه على الصعيدين الفني والمضموني كانت اثراء لابداع الكتاب السوريين
المغتربين . صحيح ان «الغربة مضيعة الاصول» وان«الغربة كربة»، ولكن صحيح ايضاً
ما قاله الشاعر العربي الحكيم ابو تمام:
وطول
بقاء المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
*المؤلف
أستاذ الأدب المقارن في كلية الآداب بجامعة دمشق
أضيفت في24/05/2006/ خاص
القصة السورية / البعث 5/4/2005
وقفة مع الحب السماوي
بين
مي زيادة
وجبران خليل جبران
بقلم الكاتبة:
د. ماجدة حمود
إذا كان يحق لتراثنا العربي أن يفخر بأنه أنجب شعرا يتناول قصص الحب
العذري ("قيس وليلى" "جميل بثينة" "قيس ولبنى") فإننا اليوم نعايش امتداد هذه
الظاهرة في أدبنا الحديث بفضل الحب السماوي الذي بزغت أنواره بين قلبي الأديبين
مي زيادة وجبران خليل جبران، رغم أنهما لم يلتقيا أبدا، فقد كانت الرسائل
المتبادلة بين القاهرة حيث تقيم (مي) ونيويورك حيث يقيم (جبران) هي وثيقة هذا
الحب الفريد!
ولكن مع الأسف ضاعت معظم رسائل المرأة في الثلاثينيات وبقيت رسائل
الرجل (كما ضاعت في الستينيات رسائل غادة السمان وبقيت رسائل غسان كنفاني) رغم
أن (جبران) كان يعيش في أمريكا، حيث تتمّ العناية بكل ما يتركه الأديب، وفعلا
هذا ما حصل إثر وفاة جبران، إذ حافظت سكرتيرته وأخته على أعماله الأدبية
والفنية وأشيائه!!
هنا لابد أن نتساءل: هل المرأة أكثر حرصا على رسائل حبها من الرجل؟
أم أن ميراث جبران قد تعرض لعملية سطو إثر وفاته، كي لا نظلم الرجل؟
نعتقد أن التساؤل الأول يخفي تعصبا نسويا يهاجم وفاء الرجل، لذلك
نميل إلى التساؤل الثاني، فقد ذكر مخائيل نعيمة في كتابه عن حياة جبران أنه رأى
تلك الرسائل لديه، لهذا من الأرجح أن تكون تلك الرسائل قد سرقت من قبل امرأة
لبنانية أرادت أن تكون حبيبة جبران الوحيدة.
مهما تكن الإجابة فإن النتيجة واحدة، وهي غياب صوت المرأة في هذا
الحب! كما غاب صوتها في الحب العذري الذي خلّده لنا الشعراء! وقد آلمني أن يضيع
صوت المرأة في هذا العصر كما ضاع في الماضي، فحاولت نسج خيوط هذه العلاقة في
"رواية الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران" لعلي أقدّم معاناة المرأة
عبر تخيل صوتها والاقتراب من تجربة حب فريد تعيشه المرأة معاناة يومية منذ
تفتحها وحتى موتها!
لم تكن مي امرأة عادية، فقد امتزجت في ملامح شخصيتها الريادة
الأدبية بالريادة الاجتماعية في بداية القرن العشرين، لهذا كانت أولى خطواتها
في هذا المجال هي الإقبال على التعليم والتفرغ للكتابة، وقد دفعها حبها للغة
العربية أن تفتح بيتها، بتشجيع من والديها، لرجال الأدب، فكانت تحاورهم وتستمع
إلى إبداعاتهم في صالونها الذي كانت تعقده كل يوم ثلاثاء، مما أثر إيجابيا على
عملها الصحفي والأدبي، فقد عملت مع أبيها في صحيفته "المحروسة" التي افتتحها في
القاهرة، كل ذلك في زمن لم تكن المرأة العربية تجرؤ على الخروج من المنـزل
وحدها.
لم تحاول مي الخروج من الأغلال الخارجية التي تقيد المرأة فقط، بل
وجدناها تحاول الخروج من أغلال الذات، فكانت رائدة في محاولة التعبير عن
أعماقها عبر الأدب (الرسائل، المقالة، الخاطرة الوجدانية التي وجدناها في
كتبها) أي عبر أجناس أدبية تظهر صوت (الأنا)صريحا واضحا، وبذلك استطعنا أن
نعايش أعماقها بكل ما يعتلج فيها من عواطف وأحلام وصراعات، إذ من المعروف أن
الكاتبة العربية لم تجرؤ على الخوض في هذا المجال إلا بعد (مي) بأكثر من خمسين
سنة، وهي، غالبا، حين تريد أن تعبر عن ذاتها تتخذ قناع الشخصية الروائية (وهذا
ما فعلته الأديبة غادة السمان في روايتها "الرواية المستحيلة فسيفساء دمشقية"
(1997) والتي إلى الآن لم تصدر الجزء الثاني المتعلق بمرحلة الشباب، وتوقفت عند
مرحلة الطفولة والمراهقة!!)
هنا يجدر بنا أن نوضح أن (مي) لم تكن في بداية علاقتها بجبران امرأة
منطلقة في التعبير عن ذاتها، فقد اكتفت في البداية بالعلاقة الفكرية، بل دعت
جبران للالتزام بحدودها، فاتسمت لغتها بالحذر، وتحصنت باللهجة الرسمية في
الخطاب، فأخفت مشاعرها بألف قناع، حتى وجدنا جبران يتساءل مستغربا شدة ترددها
وحذرها: "أ هو الخجل أم الكبرياء أم الاصطلاحات الاجتماعية؟" لعله كان يقارنها
بالمرأة التي التقى بها في الغرب، والتي تتمتع بحرية التعبير عن أعماقها! دون
أن يغفل عن خصوصية المرأة الشرقية وضغط القيود الاجتماعية عليها، مما تضطرها
إلى الاحتماء بالخجل تارة وبالكبرياء تارة أخرى!
من المؤكد أن (مي) في البداية سعت إلى توظيف المراسلة بينها وبين
أديب مشهور، كي تجعلها عاملا في تطورها الفكري والأدبي، ولم تتوقع أن تقع أسيرة
كلماته، لكنها حين أحست أنها بدأت تحرك عواطفها وتمتّع ذائقتها الفنية معا،
بدأت بالتهرب منها!
هنا لا نستطيع أن نفصل بين مي الإنسانة والأديبة، فقد عشقت مي
الأديبة كلماته ربما قبل المراسلة، وازدادت عشقا لها بعدها، فانقلب العشق الفني
إلى عاطفة متأججة يأباها عقلها، لهذا ملأ التردد ذاتها، وشاعت لديها الصرامة في
محاسبة الذات ومحاسبة الطرف الآخر (المرسل) على كل كلمة، لهذا وصفها جبران في
إحدى الرسائل بـ(الموسوسة) التي لا تعرف سوى التردد، من هنا لن نستغرب تكرار
هذه الأفكار والمواقف التي نستشفها من رسائل جبران، فهي محبة يعجبها الاستمرار
مع جبران في مثل هذه المغامرة، لكن سرعان ما يؤرقها صوت العقل الذي يذكرها
بالواقع الاجتماعي الذي يعلي قيمة الأسرة والزواج في حياة المرأة، ولم يعتد مثل
هذه علاقات الصداقة والحب بين المرأة والرجل دون رابط شرعي! كما يذكرها صوت
العقل بوقع الزمن الذي لا يرحم المرأة، فكانت تنقطع عن مراسلته أشهرا طويلة، ثم
تعود، ومع عودتها كانت تضطر لمعاودة الحوار مع ذاتها لإقناعها بضرورة علاقتها
مع جبران، وقد كانت تعيش صراعا دائما مع ذاتها، فتتكرر محاسبتها لها، لهذا كانت
تتكرر أسئلة جبران مستفهما أسباب الانقطاع، فكانت تدافع عن وجهة نظرها بترداد
حججها نفسها، التي تزداد مع الأيام وجاهة وإقناعا! إذ تنطق باسم العقل الذي لا
ينفصل عن المشاعر كما يعتقد الكثيرون!! كما نجدها تنطق باسم المجتمع حيث كانت
أمها أحد الأصوات القوية التي تردد على مسامعها أن الزمن لا يحرم وأن الاستقرار
ضروري للمرأة!
لهذا كله انتظرت حوالي اثنتي عشرة سنة لتصرح بعواطفها كتابة لجبران،
ولتبين له أن الورق هو الذي منحها الجرأة، وأنه لو كان يشاركها العيش في بلدها
لما جرؤت على ذلك! لكن يبدو أن التصريح لم يجلب لها الراحة المتوخاة، أو الأمل
بعرض للزواج يأتيها من جبران! لذلك تعود إلى ترددها وتهربها خاصة بعد أن غزا
الشيب مفرقها! لكن عاطفتها القوية تلح عليها بالكتابة، يضاف إلى تلك العاطفة حس
إنساني مرهف بآلام الآخرين، لهذا كان قلقها على صحة جبران من أسباب عودتها
للكتابة إليه أحيانا!
لعل هذا التردد في قبول مثل هذه العلاقة الاستثنائية أحال حياتها
إلى مأساة، فعاشت القلق والمعاناة في علاقة كان عزاؤها فيها هو الخيال والرحلة
عبر الكلمة إلى عوالم مدهشة، تنأى بها عن الواقع واحتياجاته الطبيعية.
لم تستطع (مي) الركون إلى هذه العلاقة سوى لحظات تحلق بها بعيدا، ثم
ترتطم بالأرض، فالمرأة المثقفة والأديبة كانت تبحث عن علاقة طبيعية، تعيش فيها
عواطفها وأمومتها! وفي الوقت نفسه تحلق روحها فيها بعيدا عن المألوف في علاقة
أقرب إلى الاستثناء!
أعتقد أن روعة شخصية (مي) تجلت في كونها أنهت صراعها الداخلي حين
تأكدت في النهاية من مرض جبران، فبدت لنا امرأة عاشقة وأما حانية، تسعى للوقوف
إلى جانب جبران في محنته! فتحيطه بعواطف الحب والأمومة معاً!!
إن المتأمل في قصة الحب هذه، لابد أن تدهشه قدرة المرأة على الحب
العطاء، فقد منحت رجلا لم تره أبدا كل حياتها ، حتى أصبح هذا الحب مأساتها
وعزاءها معاً! فقد أحبت جبران عبر كلماته، وأخلصت له، حتى إنها عاشت تستمد
القوة منها سواء في حياة جبران أم بعد وفاته!
للوهلة الأولى تبدو لنا (مي) امرأة تعيش حياة منطلقة بالقياس إلى
نساء عصرها الشرقيات، إذ استطاعت أن تجمع في صالونها أبرز أدباء عصرها (طه
حسين، العقاد، الرافعي...) وذلك بفضل سماتها الشخصية (الثقافة واللباقة والروح
المرحة والإخلاص والصدق) مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنها أسهمت في تطوير الحركة
الثقافية في تلك الفترة، خاصة أنها خلقت جوا تنافسيا بين الأدباء، فكل واحد
منهم كان معنيا بكسب ودها، بل عاطفتها! لكنها رغم ذلك ظلت امرأة شرقية متحفظة
في علاقتها مع الرجل، إلى درجة أن العقاد قال لها يوما: أنت تعيشين كراهبة في
صومعة! فهي من الناحية الشعورية ظلت أمينة لعادات الشرق وتقاليده، لهذا استطاعت
أن تنال احترام مجتمعها رغم اختلاطها بالرجال هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان ذلك
خير دليل على إخلاصها لجبران!!
لقد تجاوزت مي المألوف حين وجدت في كلمات الحب ملاذا عاطفيا لها،
فسجنت حياتها فيها، فاختارت حبا أشبه بالخيال على حياة عادية، فحرمت نفسها من
دفء العائلة وضحت بسببها بالأمومة التي هي حلم كل امرأة!
ولعل خير دليل على أهمية تلك الكلمات في حياة (مي) أنها عاشت متألقة
في حياتها الاجتماعية والأدبية على وقع رسائل جبران، ولم تتدهور حياتها النفسية
إلا بعد وفاة جبران (1931) إذ عدّت نفسها أرملته، فارتدت السواد عليه، ومما
فاقم بؤسها وفاة أمها في إثره (1932) لعلها في تلك الفترة بدأت تشعر بعدم الرضى
عن نفسها، واكتشفت أن قرارها بعدم الزواج لم يكن صائبا! وبدأت تحاسب نفسها
بقسوة، فقد أحست بمدى الظلم الذي ألحقته بحياتها حين تعلقت بكلمات جبران، ووهبت
شبابها لحب سماوي لا علاقة له بالواقع وبطبيعة البشر!
لا يمكننا أن نحمّل الكلمة المجنحة المسؤولية عن تدهور حالتها
النفسية وإغراقها في الكآبة، لأننا نلغي إرادتها في استمرار تلك العلاقة، التي
جلبت لها الفرح والألم معا! لكننا نستطيع أن نحمّل أقاربها في مصر ثم في لبنان
تلك المسؤولية، إذ بدؤوا بإزعاجها منذ وفاة أبيها (1930) فطالبوها بالإرث، بل
وصل بهم الطمع حد مطالبتهم بنصف ثروتها التي كوّنتها مع أبيها! وحين رفضت زاد
إزعاجهم لها، حتى وصل شرهم حدّ تدبير مكيدة إدخالها مشفى المجانين في لبنان!
ولولا مساعدة أهل المروءة من الأدباء (أمين الريحاني) والشرفاء من أمثال أولاد
الأمير عبد القدر الجزائري وغيرهم من الصحفيين والمحامين لما خرجت من محنتها!!
المدهش أن (مي) حملت رسائل جبران معها، في كل مكان رحلت إليه،
ورافقتها في مأساتها في مشفى الأمراض العقلية، وحين انتقلت منها إلى المشفى (ريفز)
في بيروت أطلعت عليها جارتها في الغرفة المجاورة، فقد شكلت لها عزاء في مأساتها
الرهيبة!
إننا أمام امرأة غير عادية أخلصت لحب رجل، يعيش بعيدا عنها، ويعترف
لها، في إحدى رسائله، أن حياته موزعة بين امرأتين، (امرأة الحلم وامرأة الواقع)
فكان نصيب (مي) دور الملهمة التي تحمل روح الشرق الذي يحلم بالعودة إليه دون أن
يستطيع، فيرسل لها تلك الكلمات المجنحة، الذي تعبر عن عواطفه لها، فتشدّها إليه
كلما حاولت فكّ أسرها! في حين كانت امرأة الواقع (ماري هاسكل) تقف إلى جانبه
فتسانده ماديا ليكمل رحلته في عالم الفن، كما ساندته معرفيا، حين كانت تصحح له
نسخ كتبه التي كان يكتبها بالإنكليزية! وتعترف ماري هاسكل أنه عرض عليها الزواج
لكنها رفضت، ربما بسبب الفارق الكبير في السن، وربما بسبب علاقاته النسائية
المتعددة! المهم أن صداقتها بجبران تستمر رغم زواجها، كما استمرت (مي) في حبها
له رغم عدم زواجه بها! فقد أسرتها كلماته المدهشة، التي تستلب الروح والإرادة
بعنفوانها وصدقها "أنت تحيين بي وأنا أحيا بك" كما أسرتها صراحته، فقد وجدناه
يكشف لها عيوب نفسه فهو يعيش في سجن طموحاته، يلاحقه إحساس أنه لم يقل شيئا
خالداً بعد، وأنه مؤرق بهاجس الإبداع الذي يحتاج تفرغا كليا، لعله يستطيع أن
يقول كلمته، وهكذا يوضح لها أنه يعيش أسير مشروعاته الفنية والأدبية، وأن
المرأة في حياته ملهمة ورفيقة إبداع بعيدا عن الأطر المألوفة!
لقد عاش جبران في الغرب كما يروي صديقه مخائيل نعيمة حياة منطلقة
دون أية قيود، فعرف العديد من النساء، وطمح إلى أن يعيش حياة خيالية مع امرأة
شرقية، تغذي إبداعه بنبض خاص، كانت هذه الازدواجية تريحه وربما مصدر إلهام له،
في حين كانت العلاقة بالنسبة إلى (مي) حياتها بأكملها رغم أنها خيال أقرب إلى
الحلم! فبدت كلماته تسري في عروقها لتمنحها دماء الحياة وألقها، لقد كانت (مي)
ضحية علاقة رسمها الرجل كما يريد له طموحه الإبداعي بمعزل عما تريده المرأة أو
تحلم به.
إذاً لو كانت مي امرأة عادية لرفضت تلك العلاقة التي كانت عبءأً
عليها!! هنا نتساءل: هل طغت على (مي) رهافة حس الأديبة، فعاشت مخلصة للكلمة في
حياتها الشخصية وفي حياتها العامة! هل رأت في الخيال جمالا يفوق الواقع؟ هل
كانت كلمات جبران حلما لاذت به يعوضها عن بؤس الواقع؟ هل حياتها في مصر أي في
بيئة غريبة عن بيئتها في الشام سببا في تعلقها بجبران، الذي رأت فيه وطنا تنتمي
إليه!؟ هل أحست بأن هذه البيئة العربية قد عجزت عن إنجاب كفء لها؟ فكان الخيال
أرحم بها من الواقع!
ربما افتقدت في محيطها الرجل الند لهذا عاشت قصة حب ترضي ذاتها، ولو
كان ذلك عبر الوهم والخيال، مادام الواقع لم يطرح أمامها من يراه قلبها مناسبا
فعاشت الصدق والإخلاص لعلاقة أشبه بالحلم، بل دعاها فيها جبران بامرأة الحلم.
لقد أدهشتني تضحية المرأة بشبابها من أجل حب سماوي، كما آلمني ضياع
صوتها الخاص بضياع معظم رسائلها، رغم أنها ضحت بحياتها من أجل هذا الحب! لهذا
تجرأت في كتابي "الحب السماوي بين مي زيادة وجبران خليل جبران" على تجسيده عبر
الخيال مستعينة برسائل جبران، كي أستطيع استشفاف ردود فعل مي، وأبيّن أن الكلمة
لم تكن محور حياتها الأدبية فقط، وإنما محور حياتها الشخصية! لهذا يمكنني القول
بأن أبطال هذا الحب السماوي ثلاثة (مي وجبران والكلمة المجنحة)
ولكن ألم تكن الكلمة والخيال أحد أسباب كآبة (مي) التي ملأت الغصة
حياتها؟
أضيفت في05/06/2006/ خاص
القصة السورية / المصدر الكاتبة
|