أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

دراسات أدبية - الأدب الفلسطيني / الكاتب: د. نضال الصالح

نشيد الزيتون

إلى صفحة الكاتب

لقراءة الدراسات

 

 

الدراسات

الفلاح 

رجل دين

   قضية الأرض

قضية فلسطين

مقدمات أولى 

نشيد الزيتون 

المختار 

المرأة

المقاتل 

الإنسان والأرض

تطور علاقة الأرض 

في رواية الارض 

 الإقطاعي

الصهيوني

تركيب 

تجربة الشكل الفني

جماليات المكان

الرمز 

 

نشيد الزيتون قضية الأرض في الرواية العربية الفلسطينية

أنا الأرض..

يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها

احرثوا جسدي!

***

أيّها العابرون على جسدي/ لن تمرّوا

أنا الأرضُ في جسدٍ/ لن تمرّوا

أنا الأرض في صحوها/ لن تمرّوا

أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها

لن تمرّوا

محمود درويش

 

مقدمة

 

 

تستأثر الرواية العربية الفلسطينية، الصادرة بعد النكبة خاصة، بموقع مميّز بين مجمل النتاج الروائي العربي، ليس بسبب توجه أكثرها إلى قضية الصراع مع مغتصبي الأرض الفلسطينية فحسب، بل بسبب كفاءتها أيضاً في إعادة إنتاج هذا الصراع بأدوات فنية متقدمة جمالياً، وقلما تبدو حاضرة في الرواية العربية المعنية بالصراع نفسه، على تعدد أقطار الأخيرة، واختلاف اتجاهاتها الفنية، وتنوع رؤاها.

 

وعلى الرغم من أنه لا يمكن الادعاء بأن هذه الرواية تشكّل جغرافية إبداعية مستقلة بنفسها عن فضاء الرواية العربية، فإن ثمة خصائص تميزها من مكونات هذا الفضاء. ومن أبرز تلك الخصائص إلحاح مبدعيها على قضية بعينها من قضايا الصراع، أي: "الأرض"، وإلى حد تكاد تبدو معه سجلاً تاماً ودقيقاً للمراحل المختلفة التي مر بها نضال الفلسطيني من أجل تشبثه بأرضه قبل النكبة، ومن أجل استعادة هذه الأرض بعدها.

 

ومسوغ ذلك دعوى "الحق التاريخي" أو "الوعد التوراتي" اللذين تذرعت بهما الحركة الصهيونية، ولا تزال، لإنشاء "دولة يهودية" فوق أرض فلسطين، في مواجهة الحق الطبيعي، والتاريخي أيضاً، لأصحاب الأرض الشرعيين، العرب الفلسطينيين، الذين سكنوا تلك الأرض منذ أقدم حقب التاريخ، وعمروها بجهدهم وكفاحهم، وناضلوا للتشبث بها والدفاع عنها ضد ما تعرضت لـه من غزوات استعمارية متلاحقة كانت تتقنع بمزاعم مختلفة لنهب خيراتها من جهة، وللاستفادة من موقعها الجغرافي المميّز من جهة ثانية، ولفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه من جهة ثالثة.

 

تحاول هذه الدراسة تبيّن القضيّة/ الظاهرة المشار إليها آنفاً في النتاج الروائي الفلسطيني الصادر ما بين انطلاقة الكفاح الفلسطيني المسلّح سنة 1965 وبداية الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982. وغير خافٍ أنّ هذين الحدّين الزمنيين للدراسة ليسا افتراضيين، بل ينهضان من طبيعة هذا النتاج، ومن طبيعة الحركة التي كانت تحكم مسيرته وتطوّره وعلاقاته بأشكال الواقع الفلسطيني كافّة: السياسية، والثقافية، والاجتماعية.

 

فكما كانت الانطلاقة حدّاً فاصلاً بين مرحلتين في النضال الوطني الفلسطيني، كانت في الوقت نفسه منعطفاً مهمّاً في مسيرة الأدب الفلسطيني، ويتمثّل هذا المنعطف في تأثير المقاومة في الذات الفلسطينية، فبعد أن كان الفلسطيني مصاباً بحال الذهول من النكبة الفادحة التي حلّت بوطنه، وبحياته داخل هذا الوطن وخارجه، حوّلته المقاومة إلى إنسان جديد يرى في المقاومة خلاصه الوحيد من الشتات، وأعطت لنضاله الذي كان يتّسم ببعثرته معنى متطوّراً، يضيف إلى اندفاعته الفطرية من أجل العودة إلى فردوسه المفقود قيمة للفعل الجماعي، تنظيمياً وسياسياً.

 

لقد كان من الطبيعي أن تلقي الانطلاقة بظلالها تلك على الرواية الفلسطينية، على خطابها بمستوييه المضموني والبنائي، واتجاهاتها الفنية، ورؤى منتجيها. ولم تكن هذه الرواية بمنأى أيضاً عن الآثار الكثيرة التي خلّفها الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، والتي كان منها المذابح الوحشية التي ارتكبها الغزاة في مخيّمي صبرا وشاتيلا، ثمّ دفعُ فصائل المقاومة الفلسطينية إلى شتات جديد، لا يمكّنُ سلطات الاحتلال من ابتلاع مساحات جديدة من الأرض العربية فحسب، بل يخلّصه أيضاً من أهمّ قواعد المقاومة الفلسطينية التي كانت تهدّد مؤسساته العسكرية، ومستوطناته، ومنشآته في عمق الأرض المحتلّة.

 

تتوزّع الدراسة بين مدخل وأربعة فصول، أملتها عليّ طبيعة المادة التي وفّرتها لي مصادر الظاهرة. تناولتُ، في المدخل، نشأة الرواية الفلسطينية وتطوّرها حتى سنة 1965، والموضوعات التي عالجتها، والسمات الرئيسة التي ميّزت خطابها. وصحّحتُ، في الوقت نفسه، الخطأ الذي وقعت فيه الدراسات التي أرّخت لها، والذي يتعلّق بتحديد أول عمل روائي فلسطيني يستوفي أدوات هذا الفن وعناصره.

 

وفي الفصل الأول قدمت موضوعين يتصلان بالظاهرة. تحدثت، في الأول، عن قضية الأرض في الرواية العربية، وتوقفت، بشيء من التوسع، عند أعمال الروائيين الجزائريين لما وجدته من تشابه بين هذه الأعمال والرواية الفلسطينية، وأعدت هذا التشابه إلى مرجعه الواقعي، أي إلى تعرض الجزائر وفلسطين لشكل استعماري واحد يقوم على الاستيطان وابتلاع الأرض من أصحابها الشرعيين. وفي الثاني، عرضت لثلاثة نماذج روائية عربية تصدت للحديث عن قضية فلسطين، وعلى نحو خاص عن علاقة الفلسطيني بأرضه، وحرصت على أن تمثل هذه النماذج أقطاراً عربية متعددة واتجاهات فنية متغايرة.

 

وفي الفصل الثاني، المتن الذي يشكل مادة الدراسة، تناولت قضية الأرض في الرواية الفلسطينية من انطلاقة الكفاح المسلح إلى بداية الغزو الإسرائيلي للبنان. وقد خصصت الجزء الأول منه لاستجلاء الظاهرة في رواية ما قبل الانطلاقة، وفرقت فيما بعد بين مستويين لها في الرواية التي تلت ذلك. دعوت الأول: "رواية الشتات الفلسطيني"، أي الرواية التي كتبها فلسطينيون يقيمون خارج وطنهم فلسطين، والثاني: "رواية الأرض المحتلة"، أي الرواية التي كتبها فلسطينيون يرزحون تحت وطأة الاحتلال الصهيوني. ودرست في الجزء الثالث تطور الظاهرة ما بين المرحلة التي سبقت انطلاقة الكفاح المسلح والمرحلة التي تلتها.

أما الفصل الثالث فقد تناولت فيه علاقة الفلسطيني بأرضه كما قدمتها مصادر الدراسة، وحاولت تغطية أكثر قطاعات المجتمع الفلسطيني على اختلاف الانتماءات الطبقية والمعرفية التي تكوّن شخصياته، والتي حددتها بـ: الفلاح، والإقطاعي، والمختار، ورجل الدين، والمقاتل، والمثقف، والمرأة، والصهيوني، وأجريت في خاتمة الفصل تركيباً لتجليات تلك العلاقة.

 

وخصصت الفصل الرابع لدراسة الشكل الفني فيما سأصطلح عليه في تضاعيف الدراسة بـ: "رواية الأرض الفلسطينية"، وقد قسمت هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام أو موضوعات رأيت أنها تشكل التجربة الفنية لهذه الرواية. تناولت، في الأول، وسائل التعبير الفني التي لجأ إليها الروائيون لصياغة محكيات نصوصهم، ولا سيما ما يتصل بقضية الأرض، ودرست، في القسمين الثاني والثالث، الجماليات الخاصة التي ميزت تلك النصوص من الرواية العربية، والتي تتمثل في عنصرين رئيسين هما المكان والرّمز. ثمّ ألحقتُ هذه الفصول بثَبَت بالرواية الفلسطينية حتى عام 1982، وبمعجم للروائيين الفلسطينيين الذين شكّلت أعمالهم مصادر الدراسة.

 

وبعدُ، فلقد كنت أنجزت هذه الدراسة قبل نحو أحد عشر عاماً، ولئن كانت ثمة ظروف حالت دون صدورها آنذاك، فثمّة الآن ظروف جديدة ألحّت عليّ في دفعها إلى النشر. من أهمّها: حمّى التحوّلات العربية والعالمية التي تهدّد بإبادة اسم فلسطين من الذاكرة وليس من الجغرافية فحسب، من جهة، وفعاليات النهب التي طالت أجزاء متفرقة من مخطوط الدراسة، من جهة ثانية.

وبعدُ أيضاً، فإذا كنت أهديتها آنذاك، أي خلال سنوات الانتفاضة الأولى وأنجزتها بدافع منها، إلى "أطفال الحجارة الذين يصنعون مستقبل فلسطين: الإنسان، والأرض، والجذور"، فإنني أدفع بها إلى النشر الآن ولمّا يزل أبناء فلسطين يقارعون الاحتلال، ويؤكّدون، يوماً بعد آخر، أنّ استعادة الحقّ الفلسطيني لا تتمّ بغير المقاومة، وأنّ التشبّث بالأرض هو "الطريق" الوحيدة لقيامة فلسطين من رماد الموت.

 

 

مدخل إلى الرواية العربية الفلسطينية

 

لم تكن الطباعة في الوطن العربي فعلاً ثورياً يكسر احتكار الثقافة التي كانت وقفاً على أبناء الفئات الميسورة فحسب، بل كان في الوقت نفسه إيذاناً بظهور فن تثقيفي جديد لم يعرفه العرب من قبل، أي: الصحافة، التي نهضت، مع بواكيرها الأولى، بدور مهم على المستويين السياسي والثقافي، في مرحلة من أشد مراحل التاريخ العربي الحديث غلياناً. فعلى المستوى السياسي بنت جسراً معرفياً بين العربي وواقع أمته السياسي، واستطاعت، على المستوى الثقافي، أن تعرفه إلى فنون أدبية جديدة.

 

وقد احتضنت الصحافة العربية، الصادرة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، البذور الأولى لفني القصة القصيرة والرواية، اللذين تعرف القارئ العربي إليهما عن طريق الترجمة من آثار الغرب الأدبية. ومع أن تلك الترجمات كانت تعاني، ولا سيما في المرحلة الأولى منها، مجموعة من العيوب والأخطاء، إلا أنها سرعان ما لقيت قبولاً وانتشاراً واسعين بين جماهير القراء، ومهدت، في الوقت نفسه، لظهور قصة قصيرة ورواية موضوعتين.

نشأت الرواية العربية الفلسطينية، شأن مثيلاتها في أقطار الوطن العربي الأخرى، في أحضان الصحافة، وعبر الترجمة التي كانت مزدهرة إلى حد كبير في ذلك الجزء من الجغرافية العربية، فلسطين. بسبب تعرضه للغزو الأجنبي المتعدد الأشكال والجنسيات، وبسبب الإرساليات التبشيرية الكثيرة التي عرفت الأدباء الفلسطينيين إلى ثقافات شعوبها، وفتحت أعينهم على روافد جديدة لأدبهم آنذاك.

 

وعلى الرغم من أن ترجمات خليل بيدس، الذي يعد من أوائل الرواد في هذا المجال، لم تكن وفية للنصوص الروائية كما هي في الأصل، فإنها نهضت بمهمّة الكشف المبكّر عن الدور الذي يؤدّيه فنّ الرواية في الحياة والمجتمع. وتجدر الإشارة هنا إلى جهود: أحمد شاكر الكرمي، وجميل البحري، ونجاتي صدقي، التي اتسمت جميعاً، كترجمات بيدس، بتصرّف أصحابها "في النصوص المترجمة على هواهم، بالزّيادة والنقصان، والحذف والتغيير، وأحياناً إدخال الأبيات الشعرية"(1)، وبحفاوتهم الواضحة برواية المغامرات العاطفية والبوليسية خاصة.

 

ومهما يكن من أمر الخلاف بين مؤرّخي الأدب الفلسطيني الحديث حول أوّل رواية عربية فلسطينية موضوعة، أي أنّ رواية يوحنا دكرت: "ظلم الوالدين: (1920) هي "أول رواية عربية فلسطينية"(2)، أو أنّ رواية خليل بيدس: "الوارث" (1920) هي "أوّل رواية فلسطينية أيّاً كان الخلاف حول مستواها الفنّي"(3)، فإنَّ هاتين الروايتين لم تكونا الوحيدتين اللتين صدرتا سنة 1920، بل ثمّة رواية ثالثة لاسكندر الخوري بعنوان: "الحياة بعد الموت"، وتلك الروايات الثلاث لم يتيسّر لأحدٍ من الدارسين الاطلاع عليها سوى ما عَلِق بذاكرة قرّائها الأوائل. وغيرُ خافٍ أنّ الذاكرة لا تكفي وحدها للجزم بأوليّة إحداها على الأخريين، زمناً ومستوى فنياً.

وعامة، فإنّ المحاولات الروائية التي صدرت بين عامي 1920 و1943، التي لم تلق خطّتها من الدرس النقدي، بسبب عدم توفرها في المكتبة العربية من جهة، وبسبب عدم وجود كتابات نقدية عنها في مرحلة صدورها أو ما بعدها من جهة ثانية.

 

وباستثناء رواية محمّد عزة دروزة: "الملاك والسمسار" الصادرة سنة 1934، "تصف وسائل الصهيونية لإغراء الفلاّحين الفلسطينيين، الملاّك منهم، لبيع أراضيهم للمنظمات الصهيونية"(4)، فإنّ الدراسات التي تناولت بواكير النتاج الروائي الفلسطيني اكتفت بالإشارة إلى عناوين تلك المحاولات، وإلى أسماء مؤلّفيها، وسنيّ صدورها من غير أن تتعرض لموضوعاتها، أو لمستواها الفني.

 

وتشكل "مذكرات دجاجة" (1943)، للدكتور إسحق موسى الحسيني، منعطفاً مهماً في تاريخ الرواية الفلسطينية، حسب فاروق وادي، بوصفها "النص الروائي الوحيد، من أعمال تلك المرحلة، الذي حقق رواجاً استثنائياً وقت صدوره"(5). ولعل من أبرز ما ميز تلك الرواية معالجتها، بأسلوب رمزي، الواقع الفلسطيني في المرحلة التي شهدت فيها البلاد تدفق الهجرات الصهيونية، فهي تسرد يوميات دجاجة تتعرض، مع أترابها، بعد موت مالكهن الجديد لمتاعب كثيرة، تبدأ برؤيتهن وجهاً غريباً يقترب من المأوى الذي يقمن فيه، ثم يختفي بعد أن لحقت به الدجاجة التي تروي المذكرات وهي تردد: "لا أطيق أن أرى غريباً في هذه الديار"، وتشتد المتاعب أكثر صبيحة اليوم التالي، عندما يقتحم المأوى كائن عملاق في وجهه شر مروع، ثم تفجأ الدجاجة وأترابها بحركة غير مألوفة فإذا بمخلوقات غريبة تحتل مجالسهن في المأوى: "ففزعت وصحت: من هنا؟، فردت علي أنثى قائلة: لا تجزعي أيتها الأخت، نحن مخلوقات مثلكم حملنا إلى هذا المأوى". وأمام ذلك الخطر الداهم تجتمع الدجاجة بأترابها فيتخذ الجميع قراراً بمقاومة الدخلاء، باستثناء الدجاجة العاقلة جداً، كما وصفها طه حسين في مقدمة الرواية، التي ترفض قرار المقاومة بدعوى أنه "لا يحل الخلاف، ولا يلتئم مع المثل العليا". أما ما ينسجم مع المثل، في رأيها، فهو "أن تنتشروا في الأرض، وتبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده، وتقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه".

 

ومهما يكن صحيحاً أن الحسيني "لجأ.. إلى هذا الأسلوب لعدم تمكنه من إيضاح الحقائق التي يعيشها وطنه"(6)، فإن الأكثر صحة أن مقولات دجاجته تلك لم تكن تمثل أي تنظيم، أو فئة، أو جماعة، في الأربعينات التي كانت تشهد مداً ملحوظاً ومتعاظماً في مقاومة الأطماع الصهيونية في أرض فلسطين. وبهذا المعنى، فإن المذكرات تمثل وعياً شائهاً بالمرحلة التاريخية التي ترصدها، وهي، بالإضافة إلى ذلك، تعاني ترهلاً في بنائها، ليس بسبب افتقارها إلى بنية ترتقي بالمذكّرات من حقل المرويّة إلى حقل الفنّ فحسب، بل بسبب إلحاحها أيضاً على "الجوانب النظرية ـ الروحيّة لحياة الإنسان، بشكل يجعلها في مجملها مجموعة تنظيرات"(7) تبدو الدجاجة من خلالها "مفلسفة تدرس شؤون الاجتماع في كثير من التعمق وتدبّر الرأي"(8)، من دون أن تفلح في تدبّر ما يحدق بها وبأترابها من أخطار.

وفيما بعد رواية الحسيني شهدت سنوات ما قبل النكبة صدور ثلاث روايات فلسطينية. ففي سنة 1946، أصدر محمّد العدناني رواية بعنوان: "في السرير"، عرض فيها لمسيرة المرض الذي لازم صدره لسنوات عشر. ولعلّ من أهمّ ما اتّسمت به تلك الرواية امتلاءها بالمصادفات، وبمفردات غريبة، واصطناعها أبياتاً شعريّة تناسب الحدث، ثمّ غلبة المعلومات التي كانت تشغل الكاتب عن الاهتمام بالبناء الفنّي لعمله(9)، الذي يمكن وصفه بأنّه مذكّرات شخصيّة أكثر منه رواية.

وفي سنة 1947 أصدر اسكندر الخوري رواية بعنوان: "في الصميم"، عالج فيها موضوعاً أثيراً لدى جماهير القرّاء في تلك المرحلة. وقد اتّسمت تلك الرواية بعدم تمكّن كاتبها من تحرير نصّه من الإطار التقليديّ الذي تناول تلك الموضوعات، بالإضافة إلى استرساله في الحديث عن عاطفة الحبّ، ليس بين الشابّ والفتاة فحسب، بل بين عددٍ من الشخصيات التاريخيّة المعروفة أيضاً، وفي استرساله في النّقل عن كتب علم الاجتماع، وفي الاتّكاء على أقوال عددٍ من المشاهير، دون أيّ مسوّغ فنّي، ولذلك كلّه بَدا عمله "بحثاً لـه ملامح روائية، وليس رواية فنيّة خالصة"(10).

وفي السنة نفسها صدر للمؤرّخ عارف العارف رواية بعنوان: "مَرْقص العميان" عرض فيها لسيرة شابّ كفيف استطاع على الرّغم مما كان يضطرم في حياته من شدائد ومشاق أن يحقق عدداً كبيراً من النجاحات، وأن يتغلب على عاهته الخلقية، وعلى الرغم من أن الرواية حملت بعضاً من خصائص التجارب التي سبقتها، فإنها أنجزت "تقدماً نسبياً في مجال تحقيق بلورة واضحة للبناء الفني في الرواية"(11)، إذ استطاع الروائي تحرير محكيها من النوافل السردية من جهة، كما تمكن من تشييد بناء روائي لـه خصائصه المميزة من جهة ثانية.

وباستجلاء الروايات السابقة، وسواها مما صدر قبل النكبة، يمكن القول إن المشهد الروائي الفلسطيني حتى سنة 1947 لم يكن سوى محاولات سردية مبعثرة لم تستطع "أن تشكل إرثاً وجذراً تتنامى منهما المحاولات الروائية الفلسطينية في السنوات اللاحقة"(12)، بسبب عدم قدرة كتابها على الإمساك بأدوات الكتابة الروائية، وبسبب ابتعادهم عن معالجة الواقع الذي كان يواجه محاولات مسعورة لنفي الفلسطينيين خارج أرضهم، ولتشويه حقائق وجودهم التاريخي على هذه الأرض.

في التاسع والعشرين من تشرين الأول سنة 1947، وبضغط من الصهيونية العالمية والقوى الاستعمارية، أصدرت هيئة الأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية(13)، ولم تمض ستة أشهر على ذلك القرار حتى تم الإعلان عن قيام دولة "إسرائيل" على أرض فلسطين، وعلى الرغم من فورة جيوش الإنقاذ العربية والحركة الوطنية الفلسطينية آنذاك، فإن الشعب الفلسطيني وجد نفسه في مواجهة قرارين: التقسيم وإعلان الدولة، مكنا المنظمات الصهيونية من متابعة ابتلاعها للأرض الفلسطينية، وغطيا في الوقت نفسه جرائمها الوحشية التي كانت تمارسها ضد سكان هذه الأرض الشرعيين.

أما على المستوى الثقافي فقد "أدت ظروف النكبة وما أعقبها من تشتت الشعب العربي الفلسطيني وكتابه خارج أرض وطنهم.. إلى ضياع المكتبة الفلسطينية بشقيها العامّ والخاصّ"(14)، إذ تعرّضت المكتبات العامّة لعبث المستوطنين الصهاينة الذين قاموا بسرقة الثمين من تلك المكتبات، وأتلفت سلطات الاحتلال ما رأت أنّه يتضادّ وادّعاءاتها "التاريخية" في أرض فلسطين، ونهبت المكتبات الخاصّة للفلسطينيين الذين نزحوا عن بيوتهم إثر النكبة(15).

وعلى الرغم من صواب ما انتهى غسّان كنفاني إليه من أنّ البنية الاجتماعية للعرب الفلسطينيين الذين لم يغادروا أرضهم رغم ظروف الاحتلال مارست دوراً في نحول الحركة الثقافيّة الفلسطينية في المرحلة التي تلت النكبة، لأنّ أكثر "من ثلاثة أرباع الـ 200 ألف عربي الذين بقوا يومذاك.. كانوا من سكّان القرى"(16)، فإنّ ذلك لم يكن وحده ما يعلّل حال العطالة التي اتسمت بها تلك الحركة آنذاك، ومن أبرز العوامل المؤثرة في هذا المجال: مواجهات الفلسطينيين الدائمة مع العصابات الصهيونية التي كانت تحاول سلب أراضيهم بالقوّة أحياناً، وبالإغراء والدّهاء أحياناً أخرى، ثمّ قسوة الواقع التي عاناها المثقّف الفلسطيني، داخل الأرض المحتلّة وخارجها، والتي أتت، أو كادت تأتي، على أيّ رغبة لديه في الإنتاج الثقافي.

ويمكن عدّ رواية جبرا إبراهيم جبرا الأولى "صراخ في ليل طويل"

(1955) منعطفاً واضحاً بين ما كان محاولات روائية ورواية بالمعنى الدقيق للجنس الروائي، كما يمكن عدّها أوّل رواية عربية فلسطينية، بسبب استيفائها شروط الفنّ الرّوائي وامتلاكها لموضوعها من جهة، ومقاربتها لهذا الموضوع بأدوات متقدّمة جمالياً من جهة ثانية.

وليس دقيقاً أنّ خطاب الرواية "لا يدخل في إطار الاتجاه السائد في روايات الروائيين العرب الفلسطينيين، ولا يعبّر إلاّ عن ذوات خاصة مشغولة بمسائل ذاتية"(17)، ليس لأنّه "ما مِنْ عمل فنّي يمكن أن يظلّ كتيماً تجاه البيئة التاريخية والسياسية التي كُتب فيها"(18) فحسب، بل لأنّ الموضوع الفلسطيني فيها أيضاً يتطلّب غوصاً على ظلال النص، التي تؤكد أن الماضي الذي تتمرد عليه شخصيات الرواية هو ماضي فلسطين المقنع بماضي هذه الشخصيات التي تحيل، في علاقتها بهذا الماضي نفسه، إلى نموذجين: الأول سكوني يرى في الماضي كل شيء ويتعلق لذلك به، والثاني متحرك يثور عليه ويطمح إلى تجاوزه. وبين تناقض هذين النموذجين يقف "أمين"، الشخصية الرئيسة في الرواية، بوصفه حاملاً جمالياً لتصوير حركة هذا التناقض وتصاعده.

ومن القرائن الدالة على أن الرواية هي أول رواية عربية فلسطينية توفر لنفسها شروط الجنس الروائي بالمعنى الذي أرسته تقاليد الكتابة الروائية في الغرب تحررها من السمات التي ميزت المحاولات السابقة لها، وتجاوزها ذلك إلى بنية سردية تقوض المفهوم الخطي للزمن، وتستثمر ضمير المتكلم على نحو معبر عن وعي الروائي بأن هذا النوع من ضمائر الخطاب هو الأكثر ملائمة للغوص على الأعماق النفسية للشخصيات، ودال أيضاً على تمكنه، أي الروائي، من قول ما يخص بطله "على نحو يسمح بأن يكون ذلك خاصاً بالآخرين أيضاً"(19).

وفيما بين رواية جبرا السابقة وانطلاقة الكفاح المسلح شهدت الحركة الثقافية الفلسطينية نقلة واضحة في النتاج الروائي على المستوى الكمي، وكان من أبرز ما ميز ذلك النتاج أن عدداً غير قليل منه كتبه روائيون يقيمون داخل الأرض المحتلة، لكنه بقي أسير الحصار الذي فرضته سلطات الاحتلال على الكتاب العربي، ولذلك لم يتيسر لأحد، خارج فلسطين، الاطلاع عليه. وإذا كان ثمة دراسات كتبت حوله، فإنها هي الأخرى لم تستطع القفز فوق الحواجز لتمكن الباحث من الوقوف على موضوعاته، أو مستواه الفني.

وباستثناء رواية غسان كنفاني الأولى "رجال في الشمس" (1963)، فإن النتاج الروائي الفلسطيني الذي كتبه فلسطينيون يقيمون في الشتات لم يكن يعكس تطور أدوات الرواية الفلسطينية السّابقة لانطلاقة الكفاح المسلّح، ويشير في الوقت نفسه إلى تخلّف الكثير منه عن قضية الصّراع مع مغتصبي الأرض، وإلى حفاوته بقضايا اجتماعيّة منبتة الصلة بالواقع الفلسطيني ومثيراته السياسيّة والاقتصادية، ثمّ إلى غلبة الاتجاه الرّومانسي عليه. فرواية عوني مصطفى: "شقاء إلى الأبد" (1962)، على سبيل المثال، تتحدّث عن رجل فقير يتعلّق بامرأة لعوب، تدفعه إلى طلاق زوجته والارتباط بها اتّقاء للفضيحة وطمعاً بالمال الذي تملكه، ثمّ عن علاقته بأخيه الذي يتزوّج امرأته بعد طلاقها منه، والذي يطلّقها هو الآخر، ثمّ يتزوّجها من جديد ليعقد صفقة غير أخلاقية مع مدير الشركة التي يعمل فيها، إلى أن ينتهي الأمر بالكثير من هذه الشخصيات إلى الانتحار، دون أن يكون ثمة بناء فنيّ يحاول تحرير تلك الحكاية من كونها حكاية إلى كونها أدباً يوفّر لنفسه أبسط عناصر الفنّ الروائي.

"رجال في الشمس"(20):

تُعدّ رواية غسّان كنفاني الأولى "رجال في الشّمس" منعطفاً مهمّاً في مسار التجربة الروائية الفلسطينية، لأنها أول رواية فلسطينية استطاعت أن "تستوعب شروط تاريخها، محاولة رصد حركة جوهره والإجابة عن أسئلته"(21) من جهة، ولأنها تمثّل بداية رؤية متطورة للشخصية الفلسطينية التي أصرّت الروايات السّابقة لها على رثائها والتعاطف معها من غير أن توضح معنى ضياعها، أو الأسباب التي دفعتها إلى جحيم موت جديد كانت تسوق نفسها إليه راضية، من جهة ثانية.

يتوزّع محكيّ الرواية بين سبع لوحات: (أبو قيس، أسعد، مروان، الصّفقة، الطريق، الشّمس والظلّ، القبر) ينتظمها حدث واحد هو هجرة الشخصيات الثلاث الأولى فيها إلى الكويت بحثاً عن عمل بعد عشر سنوات من النكبة، ثمّ موتهم في خزّان الشّاحنة التي يقودها أبو الخيزران عند الحدود.

ولئن كان "من الطبيعي افتراض أن المشهد الأول في كل عمل ينطوي على غزارة ومعنى خاصين"(22)، فإن هذه الرواية تفصح عن مقولتها منذ اللوحة الأولى فيها: "أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته. ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه. في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال، منذ أن استلقى هناك أول مرة يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم".

إن الأرض التي يتوحد أبو قيس بها إلى حد التداخل، أو إلى ما يشبه حال الوجد التي تذيب الفرع في الأصل، وتدغمهما في ذات واحدة، تشكل المقولة الرئيسة للرواية، التي ترى أن ابتعاد الفلسطيني عن أرضه يعني تهديداً لـه بالعجز والضياع، وضرباً من الوهم والخداع، أو بداية الطريق إلى موت مجاني. فاندغام أبي قيس بالأرض وولهه بها، جعله ينتظر عشر سنوات، بعد النكبة، محتملاً الفقر والمذلة دون أن يفكر في الابتعاد عنها أكثر من المسافة التي كانت تفصل بين قريته ومستقره الجديد في فلسطين نفسها، لأن حلم العودة إلى تلك الأرض ظل هاجسه الدائم، والمتجذر في دمه، وهو نفسه الذي جعل مفردات حياته اليومية تتصل بها: "كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد"، وهو نفسه أيضاً الذي جعله يحسد الأستاذ "سليم"، لأنه قضى فوق ترابها قبل أن يطأها المستوطنون الصهاينة: "أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟ صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك، ولكنك على أي حال بقيت هناك".

وعلى الرغم من أن الرواية لا تقدم مادة ما عن علاقة أسعد ومروان بالأرض، فإن النهاية الفاجعة التي تودي بهما إليها، تعني إدانتهما بسبب اختيارهما طريقاً معلقاً في الفراغ، منقطعاً عن الأرض، توهّما السعادة في نهايته. وتجعل، من بعدُ، حتفهما مع أبي قيس ينتهي في خزّان الشاحنة، الذي يمثّل هو الآخر "انقطاعاً كاملاً عن الأرض، عن نبضها ورائحتها"(23). أمّا أبو الخيزران الذي كان يؤمن بأنّ القرش يأتي أولاً ثمّ الأخلاق، فإنّ ما يقوم به من فعل في خاتمة الرواية، أي عندما يرمي جثث الرجال الثلاثة فوق أكوام الزبالة ويسرق نقودهم، لا يستمدّ مسوّغه من جنونه بالمال كيفما كانت الوسيلة إليه، بل لأنّ الرواية تطمح إلى التأكيد بأنّ "مَنْ يتقن الكذب والخداع حدّ الخيانة هو ذاك الذي أمعن في القطيعة مع الأرض مكانياً وزمانياً"(24).

وغير خافٍ أنّ التباين بين هذه الشخصيات على المستوى الجيلي يُضمر، فيما يضمره، القول إنّ حال العطالة التي ميّزت الواقع الفلسطيني في المرحلة التي تلت النكبة لم تكن سمة جيل بعينه، بل سمة الأجيال الثلاثة التي مثّلتها تلك الشخصيات، والتي كان لا بدّ من أن يفضي بها انقطاعها عن الأرض إلى ذلك الموت المجانيّ، وهي تمشي على "الصراط" الذي مثّله أبو الخيزران لها.

ومهما يكن من أمر النتائج النقدية التي انتهى إليها دارسو الرواية، اتفاقها أو اختلافها أو إضافات بعضها، ولا سيّما الرموز فيها(25)، فإنّ عدداً منها حمّل الرواية في تقديرنا ما لم تقله. وإذا سلّم المرء ببعضٍ من تلك النتائج، فإنّ أيّة رواية، مهما كانت درجة اتصالها بالواقع ومطابقتها له، تتخيّر ما هو جوهريّ فيه، من غير أن يعني ذلك إحالة كلّ شيء فيها إلى رمز أو أكثر. وتأسيساً على ذلك يبدو تفسير سامي سويدان للرقم (8) في الرواية، الذي يلعب، في رأيه، "لعبة الموت الفلسطيني بامتياز"(26)، ولعاً بالمنهج البنيوي الذي يلوي عنق النصّ، أحياناً، لقول ما لم يقله أحد من قبل.

ويمكن وصف الرواية بأنّها مزيج من ثلاثة اتجاهات فنيّة، يقف الاتجاه الواقعيّ على رأسها، وتتوزّع بنيتها العامّة بين الاتجاهين: الرّمزي والرّومانسي، ويتجلّى حضور الأخير من خلال علاقة شخصياتها بعنصرين رئيسين: الأرض من جهة، والحلم بالخلاص الفردي من جهة ثانية. فعلاقة أبي قيس، على سبيل المثال، بالأرض لا تتجاوز حنين الشخصية الرومانسية التي يدفعها عجزها عن التكيف مع الواقع إلى التفكير بالأرض بقصد السلوى، وليس بسبب وعيها لمعنى الارتباط بهذه الأرض. أما العنصر الثاني فيتطابق تماماً مع حرص الرومانسية على تصوير "تجربة الفرد الذي يقف وحيداً في مواجهة العالم"(27)، أو على تغني هذا الفرد بالماضي المجيد للوطن بوصفه عزاء عن الحاضر ليس غير. ولعل كنفاني تعمد ذلك رغبة منه في إدانة شخصياته أكثر، وفي القول إن حلم هذه الشخصيات بالخلاص من واقعها لم يتجاوز أنواتها الفردية، ولذلك فهو "محكوم بالفشل، محاصر داخل أسوار غربة الذات"(28).

وبهذا المعنى الذي قصد كنفاني إليه، فإن الاتجاه الرومانسي، في الرواية، لا يبدو بمعطاه السلبي لأن الكاتب يتخير منه ما يحقق رغبته في كتابة "قصة تغير من شعور كل قارئ. قصة إنسان فلسطيني بسيط عادي يتملكه فجأة إحساس لا يقهر هو إحساس العودة"(29) إلى الأرض، وبه أيضاً يمكن اعتبار "مضمون الرواية ثورياً بالمعنى التاريخي للكلمة، لأنه يكشف أن الهرب حل خاطئ يؤدي إلى الطريق المسدود"(30).

ولئن كانت الحكاية في الرواية المغلقة تكتفي بنفسها، ويشرح فيها كل شيء(31)، فإن غسان كنفاني تجنب ذلك تماماً، إذ جعل روايته "مشرعة، مفتوحة، غير مكتملة، وأبعد من أن تستدعي جواباً"(32). وإذا كان ثمة من جواب قد حرضت على التفكير فيه، فليس سوى ذلك الطريق الذي يعيد الفلسطيني إلى أرضه، طريق المقاومة الذي يخلصه من الانشغال بـ "أناه" إلى الوطن: الرحم، والأصل، والجذور.

هوامش وإحالات:

(1)ـ أبو مطر، د. أحمد. "الرواية في الأدب الفلسطيني". ص (27).

(2)ـ ياغي، عبد الرحمن. "في الأدب الفلسطيني الحديث". ص (63).

(3)ـ أبو مطر، أحمد. "الرواية في الأدب الفلسطيني". ص 49). وتجدر الإشارة إلى أنّ رأي أبي مطر ومؤيديه لا يسلم من الطّعن، فالكثيرون ممّن تناولوا نشأة هذا الفنّ في فلسطين، يَرَوْنَ أنَّ رواية بيدس من ترجماته، وليست من إبداعه.

(4)ـ أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (51).

(5)ـ وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية". ص ( ).

(6)ـ أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (43).

(7)ـ المرجع السابق. ص (36).

(8)ـ مقدّمة د. طه حسين للرواية.

(9)ـ انظر: أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (42).

(10)ـ المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(11)ـ المرجع السابق. ص (46).

(12)ـ وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينية". ص (33).

(13)ـ اتُخِذ القرار بأغلبية 33 صوتاً مقابل 13 وامتناع 10 دول عن التّصويت. ونصّ، بالإضافة إلى قرار التقسيم، على قيام اتحاد اقتصادي بين الدّولتين، وخضوع القدس لنظام دوليّ خاصّ.

(14)ـ أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (48).

(15)ـ روى لي القاصّ الفلسطيني محمّد البطراوي، الذي كان معتقلاً في سجون الاحتلال إبان قيام "الدولة"، قائلاً إنّ سلطات السجون الإسرائيلية كانت تستخدم المعتقلين الفلسطينيين في إحراق المكتبات الخاصّة للفلسطينيين الذين غادروا أرضهم بعد النكبة.

(16)ـ كنفاني، غسّان. "أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة". ص (9).

(17)ـ النسّاج، سيّد حامد. "بانوراما الرّواية العربيّة الحديثة". ص (141).

(18)ـ هالبرين، جون. وآخرون. "نظريّة الرّواية". ص (514).

(19)ـ ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل، ديالكتيك الواقعيّة في الإبداع الفنّي". ص (88).

(20)ـ آثرت مقاربة هذه الرّواية بشيء من التفصيل لاتصالها بموضوع الدراسة.

(21)ـ وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية". ص (36).

(22)ـ هالبرين، جون. وآخرون. "نظرية الرواية". ص (72).

(23) سويدان، سامي. "أبحاث في النص الروائي العربي". ص (78).

(24)ـ المرجع السابق. ص (73).

(25)ـ للتوسع في هذا المجال، أي فيما يعني الرمز خاصة، يمكن العودة إلى:

ـ مقدمة د. إحسان عباس للأعمال الكاملة لغسان كنفاني، المجلد الأول.

ـ زين الدين، أمل. باسيل، جوزيف. "تطور الوعي في نماذج قصصية فلسطينية". ص (222).

ـ البحوري، رفيقة. "الأدب الروائي عند غسان كنفاني". ص (37)، (39).

ـ سويدان، سامي. "أبحاث في النص الروائي العربي". ص (103).

ـ أبو مطر، أحمد. "الرواية في الأدب الفلسطيني". ص (235).

ـ صالح، فخري. "في الرواية الفلسطينية". ص (19).

ـ خليل، إبراهيم. "في القصة والرواية الفلسطينية". ص (112).

(26)ـ سويدان، سامي. "أبحاث في النص الروائي العربي". ص (79).

(27) فيشر، إرنست. "الاشتراكية والفن". ص (83).

(28)ـ عاشور، رضوى. "الطريق إلى الخيمة الأخرى". ص (63).

(29)ـ البحوري، رفيقة. "الأدب الروائي عند غسان كنفاني". ص (7).

(30)ـ القاسم، أفنان. "غسان كنفاني، البنية الروائية لمسار الشعب الفلسطيني". ص (114).

(31)ـ انظر: البيريس، ر. م. "تاريخ الرواية الحديثة". ص (255).

(32)ـ سويدان، سامي. "أبحاث في النص الروائي العربي". ص (110).

 

 

 

الفصل الأول: مقدمات أولى قضية الأرض في الرواية العربية

 

تمثل "الأرض"، بوصفها فضاء واقعياً ورمزياً، مكوناً أساسياً من مكونات الخطاب في معظم المنجز الروائي العربي، لسببين: بنية المجتمع العربي الذي يشكل الفلاحون الأغلبية وقاع السلم الطبقي فيه أولاً، وانتماء معظم الروائيين العرب إلى أصول فلاحية ثانياً.

 

وغالباً ما يتردد هذا الفضاء في الأعمال الروائية المعنية بالحديث عن الهجرة من الريف إلى المدينة، إما هرباً من جور علاقات الإنتاج التي تحكم مجتمع القرية أحياناً كثيرة، أو طلباً للرفاه الذي يوفره مجتمع المدينة أحياناً أقل. وعلى الرغم من غلبة الاتجاه الرومانسي على بدايات تلك الأعمال، فإن الواقعية سرعان ما "وجدت في الريف العربي وحياة أهله ما يغريها بالتوجه إليه"(1)، ومنطلقاً للكشف عن علل الواقع العربي، ولا سيما بعد هزيمة حزيران التي دفعت المثقفين العرب إلى إعادة استقراء ذلك الواقع، ومن ثم إلى اكتشاف مرجعيات العطب والإهمال التي يعانيها مجتمع الريف خاصة، وتعد الأعمال الروائية الواقعية في هذا المجال "الأكثر نضجاً من الناحية الفنية، و.. الأكثر عدداً من الناحية الكمية"(2).

 

1ـ في الرواية المصرية:

مهما يكن صحيحاً أن رواية محمد حسين هيكل(3): "زينب" (1914) ليست أول رواية عربية فنية فحسب، بل هي أيضاً أول رواية تتناول الريف العربي(4)، فإنها لا تنتمي إلى الرّواية المعنية بالأرض، لسببين رئيسيين: لاكتفاء الروائي بالخارجي فحسب من الريف المصري، ولانشغاله بوصف الطبيعة الأخّاذة للقرية المصرية عن العلاقات الاقتصادية القائمة فيها.

فالطبيعة في الرواية "لا تعبّر عن أوضاع اجتماعية واقعية"(5)، ودورها في الأحداث لا يتجاوز "العزاء الذي تقدّمه للشخصيات حينما يلجئون إليها"(6). وعلى الرّغم من أنّ ثمّة إشارات في الرواية تتحدّث عن علاقة الفلاّحين الأجراء وصغار الملاّك بالطبقة الإقطاعية، فإنّ تلك الإشارات تبدو معزولة عن السياق العامّ للخطاب الروائي من جهة، ولا تنهض من استقراء الروائي لحركة الواقع، أو من وعيه بالقوى الفاعلة في هذا الواقع من جهة ثانية.

تُعدّ رواية عبد الرحمن الشرقاوي(7): "الأرض" (1970) أوّل رواية مصرية تُعنى بصراع الفلاّح ضدّ مستغلّيه، ولئن كان من أبرز ما ميّز تلك الرواية حفاوة القراء بها وقت صدورها، فإنّ من أبرز ما ميّزها أيضاً رصدها لذلك الصراع دونما ادّعاء بأطروحات أيديولوجية كبرى، ودونما سقوط في شَرَك الخطابة، أو التبشير، أو المقولات الناجزة، أيضاً.

 

تعالج الرّواية مرحلة الثلاثينات من تاريخ مصر الحديث، أي مرحلة الانتداب البريطاني. وتتعرّض على نحو خاص لحكومة إسماعيل صدقي الذي كان يحكم مصر "بالحديد والنار"، بعد أن ألغى الدستور رغبة منه في كسب ودّ سلطات الانتداب. ومن الطبيعي أن يكون الرّيف المصري، في تلك المرحلة، أكثر البنى الاقتصادية ـ الاجتماعية اكتواءً بنار الأحداث التي كانت تعصف بالبلاد، وأكثرها تعرّضاً أيضاً لجحيم حكومة صدقي التي كانت تمارس أسوأ أنواع التنكيل بمعارضيها، والتي كانت من نتائجها، في مجتمع الرّواية، نقل الشيخ حسّونة، ناظر المدرسة، إلى مكان قصيّ عن القرية، وفصل محمد أبو سويلم عن مشيخة الغفر، ونزع نصف فدان من ملكية الشيخ يوسف، لمقاطعة هؤلاء وغيرهم انتخابات حزب الشعب الذي كان صدقي يتزعمه آنذاك.

 

تتحرك أحداث الرواية في قرية غارقة في العوز والاضطهاد، يسوطها جشع الإقطاع من جهة، وقرارات الحكومة الجائرة من جهة ثانية. "فالقطن يباع بالتراب، والفلاحون يسقطون في أيدي المرابين، والذين يملكون أرضاً تحجز عليها الحكومة"، معظم سكانها تقذف بهم الحاجة إلى "المدينة باحثين عن عمل، ليعودوا من بعد صفراً مهزولين"، وآخرون "يشتغلون أنفاراً لحساب مالك الأرض، الذي يملك أحياناً أراضي عدة قرى".

 

والرواية تمجد ارتباط الفلاح بالأرض، ولذلك "تبرز الأرض، أو ملكية الأرض كقيمة ثابتة"(8) فيها. وتتجلى تلك القيمة من خلال المواجهة الضارية التي تنشب بين فلاحي القرية والحكومة، بعد أن أنقصت الأخيرة مدة فتح السواقي التي كانت تروي أراضيهم من عشرة أيام إلى خمسة، ثم من خلال المكانة التي تحوزها الأرض داخل منظومة القيم المكونة لوعي هؤلاء الفلاحين، الذين كانوا يرددون دائماً أن من "لا يملك في القرية أرضاً لا يملك فيها شيئاً على الإطلاق حتى الشرف".

 

والشخصيات في الرواية، وفي هذا المجال، تتوزع بين ثلاثة نماذج: أول يقاوم الحكومة، وثان يعمل لصالحها، وثالث يبدو بمعزل عن الأحداث. ففي اجتماع القرية الأول لمواجهة قرار الحكومة يطلب الشيخ الشناوي، إمام القرية ومفتيها، إلى الناس قراءة "عدية يس" لينتقم الله للفلاحين ممن قصر مواعيد الري، ويقترح الشيخ يوسف، بقال القرية، الاستغاثة بالعمدة. ولكن كيف يثق أهل القرية بهذا العمدة إذا كان قد عرف قرار الحكومة قبل أن يصل الأخير إلى القرية، ولم يقل لأحد؟، وإذا "كان هو الذي ساعد الحكومة في الانتخابات بعد أن قاطعتها الدنيا كلها"(9). وعلى الرغم من أن رأي محمد أفندي، معلم القرية، لم ينل موافقة أحد في البداية، فإن الفلاحين يفوّضونه أخيراً، كما اقترح، بكتابة عريضة إلى وزير الأشغال عن طريق العمدة ومحمود بك نائب القرية، وكانت المفارقة التي قصمت ظهور هؤلاء في استبدال عريضة الزراعية بعريضة الرّي، فالعمدة "ضحك على القرية باتفاق مع محمود بك، وجمع أختامها وأختام القرى المجاورة، ووضع كلّ هذه الأختام على عريضة جاء فيها أنّ الأهالي الموقّعين يحتاجون إلى شقّ سكّة زراعية".

 

وعامّة، فإنّ هذه الشخصيات تبدو، على امتداد الرّواية، نامية، متحرّكة، متمايزة فيما بينها. والصّراع الذي يصوغ الروائي عبره ومن خلاله الأحداث المكوّنة لعالمه التخييلي ليس واحدياً، بمعنى أنه لا ينهض بين فلاحي القرية من جهة والحكومة وذيولها من جهة ثانية فحسب، بل بين الفلاحين أنفسهم أيضاً. وتُعَدّ شخصيتا عبد الهادي ومحمّد أبو سويلم أكثر شخصيات الرّواية تمثيلاً للعلاقة الحميمة التي تربط بين الفلاّح والأرض. فالأوّل يشارك في مواجهة الحكومة على الرغم من أنّه لا يملك أرضاً من حوض الترعة التي سيطولها مشروع السكّة الزراعية، لثقته بأنّهم "حين يعتدون على رجل واحد في القرية فكأنما ضربوا القرية جميعاً.. وإذا سكت هو اليوم وأرض محمّد أبو سويلم ودياب تنتزع، فسيرمونه هو غداً". أمّا الثاني، فيواجه فرقة الهجّانة التي أرسلتها الحكومة لتأديب القرية بالتشبّث بأرضه وبرفضه مغادرتها على الرغم من أنه يلقى من رجال الهجانة ما لا يحتمله رجل في مثل سنّه.

 

وعامّة أيضاً، فإنّ الرواية لم تسلم من أذى المزالق نفسها التي تعرّضت لها رواية "زينب"، والتي غالباً ما كان الرّاوي يوجّه نقداً لاذعاً لها في أكثر من موضع من الرواية، فالروائي يسترسل في وصف الطبيعة من غير أن يكون لذلك الوصف ما يسوّغه فنياً، وعلى الرغم من تلك الواقعيّة الآسرة والنابضة بالبساطة والحياة(10) التي وفّرها لمحكيّه، ومن حرصه على أن يبدو الفلاح عامة لديه رجلاً حقيقياً "بضعفه وقوته، بحبّه الرّومانسي وآلامه المريرة"(11)، فإنّه لم يستطع تحرير ذلك المحكيّ من أذى التفاصيل والجزئيات، ومن الوصف الفائض للملامح الخارجيّة للشخصيات، كما لم يستطع إقناع قارئه بواقعية عدد من تلك الشخصيات، عبد الهادي خاصة، الذي غالباً ما كان يمنحه صفات خارقة تضعه خارج حدود الواقع، وليس على حوافّه فحسب.

 

2ـ في الرواية السورية:

على الرغم من أنّ نشأة الرواية الفنية في سورية ترتدّ إلى ثلاثينيات القرن العشرين، أي إلى رواية شكيب الجابري: "نهم" (1937)، فإنّ اهتمام الروائيين السوريين بالمجتمع القرويّ السّوري جاء متأخراً إلى حدّ ما، ولذلك عرفت الرواية السورية قضية الأرض في أحضان الاتجاه الواقعي فوراً، وانصرف أكثرها إلى الحديث عن القحط وآثاره في علاقات الإنتاج التي كانت تحكم مجتمع القرية السّورية آنذاك.

 

ولئن كان الرّيف ونمط معيشة الفلاحين ومآسيهم قد أتاحت للرواية الأوربية "مناسبة لتقديم لوحات أخّاذة، وسرد عذب مفجع"(12)، فإنّ الرّواية السورية التي تناولت حياة الريف تبدو شديدة الاتصال بهذه السمة، ليس لأنها صوّرت الظلم الذي كان سكّان هذا الريف يعانونه بسبب الإقطاع والمرابين فحسب، بل لتميّزها أيضاً من الرّواية العربية بتصوير قسوة الطبيعة التي كان الفلاّح السّوري يكابد آثارها دائماً.

 

ولعلّ رواية فارس زرزور(13): "المذنبون" (1974) أكثر النتاج الروائي السوري اتصالاً بتلك السمة، بسبب رصدها لقسوة الطبيعة من جهة، ولضراوة الإقطاع الذي كان يلتهم أراضي الفلاّحين بالرّبا والمداهنة في بداية الأمر ثمّ بعقود الرّهن المودعة لديه بعد أن يحلّ الجفاف بالقرية من جهة ثانية. ومع أنها، أي الرّواية، لم تكن تجعل "من علاقة الفلاح بأرضه، وكفاحه في سبيل الاحتفاظ بها.. مرتكزاً لها"(14)، إلا أنها عنيت بتصوير تلك العلاقة من خلال صلتها بغيرها من العلاقات الأخرى التي تسود مجتمع القرية، والتي تستبدّ بجانب كبير وطاغٍ من محكيّ الرواية.

 

تدور أحداث الرواية في قرية "الميرة"، إحدى قرى الجنوب السّوري، التي تخالف القاعدة القائلة "إنّ القرية توجد حيث يوجد الماء والشجر، أو أنّ الشجر والماء يوجدان حيث توجد القرية"، فهي تقع "في منخفض.. من الأراضي الشديدة الوعورة، ذات المرتفعات والأغوار الحجرية البركانية المنخورة ". يعيش سكّانها على رغيف جافّ، مصنوع من الخليط "شعير وحنطة وذرة مجتمعة.. وفي فصل الربيع ربّما تغيّر الحال قليلاً. فإمّا أن يغمسوا لقمتهم بالبرغل، أو بما يفيض من خضخضة اللبن الرّائب عندما يصنعون منه السّمن.. الذي يبيعونه ليكتسوا بثمنه". وَفَد إليها "ذات يوم شخص غريب يرتدي ملابس خاصّة، ونزل بضيافة فلاح ميسور الحال، ولكنه سيئ السمعة.. اسمه (صالح الذياب). وقد استطاع هذا الغريب أن يستولي على أراضي القرية الصالحة للزراعة مستغلاً سذاجة وفقر الساكنين، وبعدها صار ذلك الغريب يسمّى شوكت بك".

ويتجلّى موضوع الأرض في الرّواية من خلال شخصيتها المحورية جدعان العبد الله، الفلاّح الشّاب الذي مات أبوه ولم يكن قد تجاوز طفولته بعد، مخلّفاً لـه أختاً جميلة "ممشوقة القوام بيضاء البشرة مورّدة الخدّيْن يحيط جبينها الناصع شعر أنيق لامع السواد. في عينيها سحر نائم أو نعاس ساحر"، اسمها "فرحة"، وأمّاً عمياء "مزنة"، وأرضاً صغيرة ينتفع بزراعتها.

 

كان جدعان "يدّخر أخته إلى يوم سيأتي في حينه"، مؤملاً تزويجها مقابل مبلغ كبير من المال، أو ثلاثة فدادين أرض، أو مئتي رأس ماشية، يمكّنه واحد منها من زواجه أيضاً، ومن سداد ديونه للإقطاعي شوكت بك. غير أنّ قبوله بمقايضة "فرحة" بابنة صالح الذياب، "فهدة"، لأخيها "قاسم"، ورضاه ببقرة وأربع نعاج بسبب العَرَج الذي كانت "فهدة" تشكو منه، وبسبب التباين بين جمال الفتاتيْن، جعلا أمله في الخلاص من ملاحقة الدرك، الذين يستخدمهم شوكت للتنكيل بالفلاحين العاجزين عن إيفاء قروضه الجائرة، فاتراً وربّما مستحيلاً، ولذلك اضطُرّ، مع كثيرين من أولئك الفلاحين، إلى مغادرة القرية لبيع قوّة عمله مع جموع "البروليتاريا" الرّثة الزاحفة إلى المدن اتقاءً للجفاف والاضطهاد.

 

وعلى الرّغم من أنّ جدعان أمنَ في المدينة الدرك والجوع، فإنّ علاقته بأرضه التي سلبها الإقطاعي شوكت بك منه لم تنقطع قطّ، فقد ظلّ دائم التفكير بجمع النقود للعودة إلى القرية، ولتحرير أرضه من براثن الإقطاعي.

 

والرواية، من حيث بناؤها الفنّي، تنتمي إلى الرواية التقليدية، فالروائي يصوغ عالمه التخييلي وفق مواضعات السرد المألوفة، أي المحكومة بمنطق المقدّمات والنتائج، وبتدخّل "الكاتب القسريّ في المجريات ولوْيها وإنطاق الشخصيات"(15)، وعلى الرّغم من انتمائها إلى الاتجاه الواقعي، فإنّ الروائي لم يكن يقدّر، كما يبدو، أنّ الواقعية تعني النفاذ إلى الواقع بصورة مبدعة "تسقط الممارسة الاجتماعية الشاملة الواسعة.. على القوى التي تحرّك التطوّر الاجتماعي"(16)، وليست مرآة جامدة لهذا الواقع فحسب. إنّ الرّواية تسجّل الواقع الذي تقاربه، ولا تعيد صياغته جمالياً، ولذلك تبدو شخصياتها خارج إطار شرطها التاريخي، من غير أن يعني ذلك سلباً للمكانة التي شغلتها بين مثيلاتها في المشهد الروائي السوري. لسببيْن: لريادتها المبكّرة في الحديث عن المجتمع القرويّ السّوري(17) من جهة، ولكفاءة مبدعها في وصف الملامح القاسية التي كانت تضبط إيقاع الطبيعة والناس في هذا المجتمع، آنذاك، من جهة ثانية.

 

3ـ في الرواية المغربية:

تتميّز قضية الأرض في الرّواية العربية المغاربية عامة وليس المغربية وحدها، وفلسطين كما سنرى، من مجمل النتاج الروائي العربي بتصدّيها لقوّتيْن بآن: الإقطاع والاستعمار الاستيطاني. وتُعدّ رواية المغربي أحمد زياد(18): "بامو" (1974)، أوّل عمل روائي مغربي، وربّما مغاربيّ أيضاً، في هذا المجال، فهي ترصد نضال الفلاحين في ذلك الجزء من الجغرافية العربية ضدّ الاستعمار الفرنسي الذي كان يلتهم أراضي أربعة أقطار عربية من الشمال الإفريقي في وقت واحد، وعبر محكيّ يتداخل الواقعي فيه بالمتخيّل. وإذا كان من أبرز ما ميّز تلك الرواية ريادتها المبكّرة، فإنّ من أبرز ما ميّزها أيضاً توثيقها لأسماء حقيقية ولوقائع حقيقية في تاريخ النضال الوطني المغربي، ثمّ وعي مبدعها بجدل البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعضها ببعض، في مرحلة تُعدّ من أشدّ مراحل كفاح المغرب صموداً وإصراراً على الاستقلال.

وتمثّل رواية المغربي أيضاً مبارك ربيع(19): "الرّيح الشتوية" (1979) أكثر الأعمال الروائية المغربية حفاوة بالظاهرة التي تعالجها هذه الدراسة، ولا سيّما المرحلة التي عنيت بها، أي الأعوام الثلاثة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية. وتتجلّى الظاهرة/ القضية فيها في القسم الأول منها خاصة، أي مع قيام سلطات الاحتلال الفرنسي بالاستيلاء على أراضي الفلاحين بالإكراه حيناً وبالخداع والتزوير حيناً آخر، ثمّ بوصول عمليات الاستيلاء هذه إلى أرض "العربي الحمدوني" الذي حمل السلاح دفاعاً عنها، والذي دفعته مطاردة الفرنسيين لـه إلى مغادرة القرية، (لا يسميها الكاتب)، إلى مدينة الدّار البيضاء، ليجد نفسه مع كثيرين من الفلاحين أمثاله فريسة هاجسيْن: الفقر والبؤس في المدينة من جهة، والحنين الجارف إلى الأرض من جهة ثانية.

 

كانت الأرض، بالنسبة إلى الحمدوني، الحياة نفسها، وكان يُخيّل إليه أنه كذلك بالنسبة إليها أيضاً، ولذلك كان يسأل أقرباءه القادمين من القرية عنها: "يودّ.. أنْ يعرف كيف يستثمرها الأجنبي، كيف يخطو فوقها، كيف.. تتحرّك رجلاه عليها.. يودّ أن يعرف، لو يستطيع، مشاعر أرضه إزاء.. الدخيل، ألا تزال تجود بالخير أم جفّت غيظاً وكمداً". وعلى الرّغم من ثقته بحربائية القانون الفرنسي الذي يحكم بلاده فإنه ما لبث أن لجأ إليه، قائلاً لمحاميه الجزائري الأصل: "ـ الأرض. وبَدَت على المحامي حركة تدلّ على أنه لم يفهم خلاصة الموضوع، فيسأل من جديد: ـ أرض مَنْ؟ ـ أرضي يا سيّدي، أرض جدودي".

 

وعامة، فإنّ الرواية، وفي هذا المجال خاصة، تبدو نسيج وحدها في الرّواية العربية، بسبب تثمينها للمستوى الفطري لعلاقة الإنسان بأرضه، وتأكيدها، على نحو غير مباشر، أنّ هذا المستوى أشدّ تأثيراً وفعالية في معركة النضال الوطني من أي كمٍّ معرفيّ عن الفداء والتضحية من أجل الأرض. فالحمدوني، الفلاح البسيط، يهزّ بإصراره على التمسّك بأرضه الحسّ الوطني لمحاميه، الذي كان منقطعاً عن قضية بلده المستعمَر من سلطات الاحتلال نفسها، ويدفعه رفض الحمدوني للتعويض الذي حصل لـه عن هذه الأرض إلى التوجّه نحو وطنه الجزائر للمشاركة في المعارك التي يخوضها شعبه لنيْل حريّته واستقلاله، قائلاً للحمدوني: "قضيتك.. أصبحت صغيرة".

 

4ـ في الرواية الجزائرية:

لم تشكّل قضية الأرض في النتاج الرّوائي الجزائري "تيّاراً واضح المعالم إلاّ بعد الحرب العالميّة الثانية"(20)، ويمكن تقسيم ذلك النتاج وفي هذا المجال إلى قسمين: الأوّل يعالج القضية كما تتجلّى في المرحلة التي سبقت الاستقلال الوطني، والثاني يتناولها في ظلّ الثورة الزراعية التي تلته. ولئن كان من الممكن التمييز بين اتجاهيْن رئيسين يطغيان على النتاج المعني بالمرحلة الأولى: الاتجاه الرّومانسي والاتجاه الواقعيّ النقديّ، فإنّ من أبرز ما يسم النتاج المعني بالمرحلة الثانية غلبة الاتجاه الواقعي الاشتراكي إلى جانب الرّومانسية والواقعيّة النّقدية.

 

ويمكن التمثيل للاتجاه الأوّل برواية محمّد صادق حاجي: "على الدرب" (1977) التي تعدّ من الأعمال الرّوائية الجزائرية المبكّرة التي تنتمي إلى ذلك الاتجاه، والتي تتصدّى للحديث عن الإقطاع الجزائري في الفترة التي سبقت الاستقلال الوطني، والفترة التي رافقت البدايات الأولى لانتصار الثورة التحرّرية.

 

ينهض محكيّ الرّواية على شخصيتين رئيسيتين: الحاجّ طاهر الإقطاعي، والفلاّح مسعود، ويمكن تلخيص ذلك المحكيّ بمصادرة الإقطاعي لأرض مسعود بعد التحاق الأخير بالثورة، وبعد أن استطاع الأوّل الحصول على وثيقة مزوّرة تثبت ملكيّته لأرض مسعود الذي لم يجرؤ على المطالبة بها بسبب ملاحقة سلطات الاحتلال الفرنسيّ لـه. وبدلاً من أن تكفل حكومة الثورة المنتصرة لـه هذا الحقّ، عزّزت سلطة الإقطاعي، فلم يكن أمام مسعود سوى القبول بالعمل أجيراً في أرضه مؤمّلاً استعادتها في يوم ما. غير أنّ الحاج طرده منها بدعوى اشتغاله بالسياسة. وعلى الرّغم من أنّ المدينة التي هاجر مسعود إليها كانت قد آوته من مطاردة حكومة الثورة له، فإنّ حلمه بالعودة إلى أرضه ظلّ يقضّ هناءته الطارئة في المدينة. أمّا الاتّجاه الرّومانسي في الرّواية فإنه لا يتجلّى من خلال نظرة الروائي التي تبدو "قاصرة عن إدراك جوهر العلاقات الاجتماعية"(21) فحسب، بل من خلال ذلك التفاؤل السّاذج الذي طرحه الروائي في خاتمتها، أي الأمل الذي ستحقّقه الثورة الزراعية للفلاحين، ثمّ من خلال تفسيراته المتناقضة وغير الواقعية التي يقدّمها لسلوك شخصياته أيضاً.

 

وممّا ينتمي إلى الاتجاه الثاني من الأعمال الروائية الجزائرية رواية عبد الحميد بن هدوقة(22): "ريح الجنوب" (1971) التي تُعدّ من بواكير الاتجاه الواقعي النقديّ في الرواية الجزائرية المعنية بقضية الأرض كما تتجلّى بين مرحلتين بآن: المرحلة التي سبقت الاستقلال والمرحلة التي تلته بفترة قصيرة. وتتجلّى القضية/ الظاهرة فيها، والاتجاه الواقعيّ النقدي خاصة، من خلال رصدها لتعاون الإقطاع الجزائريّ مع سلطات الاحتلال الفرنسي، ولتملّقه الثورة التحرّرية التي أنجزت الاستقلال لتنجو من قوانينها. والرواية، في هذا المجال، من أبرز النتاج الروائي الجزائري الذي مجّد ارتباط الفلاح الجزائري بأرضه، وذلك من خلال شخصية بطلها "مالك"، أحد مناضلي الثورة، الذي كانت الأرض بالنسبة إليه حلماً عزيزاً لم يبرحه خلال مقاومته للاحتلال، وطموحاً للتوحّد معها بعد انتصار الثورة. وهي لا تفترق عن سابقتها، "على الدرب" من خلال مغايرتها لها على مستوى الاتجاه الأدبيّ الذي تنتمي إليه فحسب، بل من خلال قدرة مبدعها أيضاً على إبراز الصلات بين انفعالات شخصياته والأحداث المحيطة بها، ثمّ ربطه مصير تحرّر المرأة الجزائرية، كما تمثّلها "نفيسة" ابنة الإقطاعي "عابد بن القاضي"، بتحرّر الوطن، على نحو غير مباشر.

 

أمّا الاتجاه الواقعي الاشتراكي في التجربة الروائية الجزائرية فيمكن التمثيل لـه برواية الطاهر وطار(23): "الزلزال (1974)، التي تتناول قضية الأرض من وجهة نظر مغايرة للنتاج الذي سبقها. فعلى حين كان ذلك النتاج يرى أنّ ملكيّة أراضي الإقطاع مزوّرة، تتحدّث "الزلزال" عن ملكية حقيقية صغيرة  تعود إلى ما قبل الاحتلال الفرنسي وتوسّعت معه.

 

وهي، على الرغم من إقرارها بتلك الملكية، فإنها لا تبرّئ الإقطاع من سلبه جهود الفلاحين، ومن طمعه الدّائم في الاستيلاء على أراضيهم، وتدين موقفه المعادي للإصلاح الزّراعي، الذي يُعد بنظره، مخالفاً لقيم الإسلام وتعاليمه، ويصف القائمين عليه بالزّنادقة، ولا يكتفي بمعارضته بل يتجاوز ذلك إلى تعويق التغيير الاجتماعي الذي أحدثته قوانين الإصلاح أيضاً.

 

وتتجلّى الواقعية الاشتراكية في الرّواية من خلال مقاربتها للثورة الزراعية التي تلت الاستقلال بوصفها تعبيراً عن فعلين معاً: إعادة توزيع الملكيّات الزّراعية من جهة وتغيير الحياة الاجتماعية في الرّيف الجزائري من جهة ثانية، ثمّ من خلال أطروحتها المركزية التي ترى أنّ زوال الإقطاع ليس مرتبطاً بالثورة فحسب، بل بإحداث تغييرات جذرية تعيد بناء علاقات الإنتاج في الريف الجزائري أيضاً.

 

هوامش وإحالات:

(1) ـ عبد الله، محمّد حسن. "الريف في الرّواية العربيّة".ص(62).

(2) ـ المرجع السابق، ص(63).

(3) مواليد: الدقهلية سنة 1888، وتوفي سنة 1956. صحفي، وباحث، وروائي.

(4) ـ انظر: محسب، حسن. "قضية الفلاح في القصّة المصرية". ص(5).

(5) ـ عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". (ص27).

(6) ـ مرعي، فؤاد. "في تاريخ الأدب الحديث". ص(69).

(7) ـ مواليد: شبين الكوم/ مصر 1920، وتوفي سنة 1987. شاعر، ومسرحي، وباحث، وقاص، وروائي. من أعماله الروائية: "الأرض"، و"قلوب خالية"(1956)، و"الشوارع الخلفية"(1958).

(8) ـ عبد الله، محمّد حسن. "الريف في الرّواية العربيّة". ص(115).

(9) ـ المرجع السابق، ص(95).

(10) ـ انظر: سالم، جورج. "المغامرة الرّوائية". ص(56).

(11) ـ محسب، حسن. "قضية الفلاّح في القصّة المصريّة". ص(87).

(12) ـ البيريس، ر. م. "تاريخ الرّواية الحديثة". ص(88).

(13) ـ مواليد: دمشق 1930، وتوفي سنة 2003. قاص، وروائي، من رواياته: "حسن جبل"، و"لن تسقط المدينة"، و"آن لـه أن ينصاع".

(14) ـ الفيصل، سمر روحي. "ملامح في الرّواية السورية". ص(198).

(15) ـ سليمان، نبيل. "الرواية السّورية". ص(317).

(16) ـ ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل"، ديالكتيك الواقعية..". ص(84).

(17) ـ يشير زمن كتابة الرّواية إلى سنة 1965، أي إلى ما قبل عشر سنوات تقريباً من تاريخ صدورها.

(18) ـ مؤرّخ وروائي، ومن رواياته: "ولد ربيعة".

(19) ـ مواليد: الدار البيضاء 1935. باحث، وقاص، وروائي. من رواياته: "الطيبون"، و"رفقة السلاح والقمر"، و"بدر زمانه".

(20) ـ قحّام، حسين. "صورة الأرض في الأدب القصصي العربيّ في الجزائر". ص(46).

(21) ـ المرجع السابق. ص(194).

(22) ـ مواليد: المنصورة/ الجزائر 1925. شاعر، وقاص، وروائي، ومترجم. من رواياته: "نهاية الأمس"، و"بان الصبح"، و"الجازية والدراويش".

(23) ـ مواليد: الجزائر 1936. قاص، وروائي، ومسرحي. من رواياته: "اللاز"، والحوّات والقصر"، و"عرس بغل".

 

 

 

قضية فلسطين في الرواية العربية

 

ألهبت قضية فلسطين، منذ بداية الصرّاع مع الحركة الصهيونيّة، مشاعر العرب على اختلاف انتماءاتهم القطرية. وليس أدل على ذلك من أن المرء يجدُ في تاريخ الثورات الفلسطينية "السوري والمصري والعراقي والمغربي واليمني كتفاً إلى كتف الفلسطيني في معركتهم المصيريّة الواحدة"(1)

 

وقد بلغت تلك المشاعر ذروة تعبيرها الأدبي في مرحلة الخمسينيات التي "سادت فيها المسألة الفلسطينية بحيث غَدَا الأدب العربي أدباً فلسطينياً إلى حدٍّ ما"(2). ولعلّه من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ تأثير القضية بالنسبة إلى أدباء الأقطار العربيّة المحيطة بفلسطين كان أشدّ كثافة وغنى من تأثيرها بالنسبة إلى أدباء الأقطار العربية الأخرى(3)، وإلى أنّ كتّاب سورية كانوا أسبق من غيرهم من الكتّاب العرب في التنبيه إلى المخاطر التي كانت تحدّق بالقطر الفلسطيني، وفي تعرية دعوى الحقّ التاريخي لأبناء الديانة اليهودية في أرض فلسطين(4).

 

ولئن كان الشعر أكثر فنون ذلك الأدب تفاعلاً مع القضية حتّى نهاية الخمسينيات تقريباً، فإنّ الرواية العربية سرعان ما أبدت اهتماماً بها، وسرعان ما وجدت فيها أيضاً وسيلة للتعبير عن إحساس المثقّفين العرب عامة بضياع جزءٍ غالٍ ومقدّس من الأرض العربية، ولهجاء الواقع العربي بتجلياته كافة، وإلى حد يمكن القول معه "إنه ما من قطر عربي إلاّ وقد شارك برواية أو أكثر في هذا المجال"(5). وقد تجلّى ذلك الاهتمام عبر مظهرين: أوّلهما مثّلت القضية معه ومن خلاله متناً في المحكي الروائي، وثانيهما بدت القضية فيه ومن خلاله مكوّناً من مكوّنات هذا المحكي.

 

ومهما يكن صحيحاً أنّ ثمّة تبايناً بين كتابات الروّائيين العرب عن القضية وكتابات الروائيين الفلسطينيين، وأنّ الكاتب العربي كان "يكتب من منطلق التعاطف والمشاركة(6). وأنّ فلسطين لم تكن بالنسبة إليه سوى "شيء مجرّد، قضية أو مشكلة.. أمّا الكاتب الفلسطيني فإنّه يصوّر القضية من خلال الناس، المجتمع، الحياة اليوميّة(7)، فإنّ الأكثر صحّة هو أنّ هذه السمة التي تميز الرواية العربية في هذا المجال تمتدّ لتشمل عدداً غير قليل من المنجَز الروائي الفلسطيني نفسه. فكما ثمّة نتاج روائي عربيّ تبدو القضية فيه مشكلة فحسب ثمّة في هذا المنجَز أعمال روائية واهية الصلة بالقضية، كأعمال عوني مصطفى وباسم سرحان وسمير القطب، التي تبدو فلسطين فيها مجرّد حاضنة للأحداث والشخصيات ليس غير.

 

وعامّة، فإنّ معظم النتاج الروائي العربي الذي عني بقضية فلسطين يتسّم بخصائص تكاد تكون واحدة في الأغلب الأعم منه، من أبرزها حضور القضية فيه بسبب حضورها في الوجدان العربي، وربّما بسبب العزف على الوتر نفسه الذي ضرب عليه الكثير من الرّوائيين العرب، ثمّ نحول أدواته الفنية، وقصور الوعي لدى كتّابه بالواقع. فمن بين الأعمال الروائية العربية الواحدة والخمسين التي صدرت ما بين النكبة والهزيمة "لم يرتفع إلى مستوى القضية الفلسطينية، أو ما يمكن أن نسميه برواية القضية الفلسطينية إلاّ ما يقرب من خمس هذا العدد(8)، كما لم يستطع سوى القليل منه تقديم رؤية واضحة للواقع العربي الذي أدّى إلى الهزيمة(9).

ولئن كانت رواية اللبناني جورج حنّا: "لاجئة"(1952)، أوّل رواية عربية تتناول قضية فلسطين(10)، فإنه لمن اللافت للنظر أنّ النتاج الروائي العربي المعني بالقضية نفسها، الذي تلا هذه الرواية، لا يعكس اطّراداً في الكمّ يتناسب والسنوات التالية لصدورها حتّى الهزيمة الحزيرانية، واطّراداً أيضاً في وعي الأسباب التي أدّت إلى هذه الهزيمة.

 

ومهما يكن من أمر الدّور الذي نهضت به هزيمة حزيران في خلخلة البنى المكوّنة للمجتمع العربي، ومن أمر المواقف المتباينة بين النقّاد العرب حول هذا الدور وأهميته، فإنّ الرّواية العربية المعنيّة بقضية فلسطين، التي تلت الهزيمة، استطاعت أن تحقّق نقله واضحة على المستويين الكمّي والنوعي، ولم تعد الوفرة في الكمّ وقفاً على الرّوائيين العرب الذي ينتمون إلى الأقطار المجاورة لفلسطين، كما استطاعت، بآن، أن "تقدّم تنوّعاً في العوالم الرّوائية وتعدّداً في الرؤى"(11) لحركة الواقع العربي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المحتوى الإنساني للقضية، ولا سيّما بعد هزيمة حزيران، دفع عدداً من كتّاب الرّواية في أكثر من جزء من الجغرافية الإنسانية إلى التفاعل مع الموضوع الفلسطيني، داخل الأرض المحتلّة وفي الأقطار العربيّة المجاورة لها، في أعمال روائية متفاوتة فيما بينها على المستوى الفنّي، تُرجم بعضها إلى العربية ولا يزال بعضها الآخر طيّ اللغة التي كُتب بها. وقد اتّسمت تلك الأعمال جميعاً بسمتين رئيستين: المعايشة الواقعية لمبدعيها للنضال الوطني الفلسطيني، وصدورها عن طرف فحسب من طرفي الجنس البشري، المرأة.

 

وتُعدّ‍ الإنكليزية "ايثيل مانين" في طليعة هؤلاء الرّوائيين العالميين، بل لعلّها أقدمهم أيضاً، فقد خصّت القضية بثلاث روايات: "الطريق إلى بئر السبع"، والفدائي"، و"الليل والعودة". تناولت، في الأولى، مأساة النزوح الفلسطيني عشية النكبة، وفي الأخيرتين انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلّحة. كما كتبت الأمريكية "فبداهارت نِبْكي" رواية بعنوان: "أمل لا يموت"، صوّرت فيها حنين الفلسطيني المشرّد إلى أرضه، وأمله في العودة إليها.

أمّا النتاج الروائي العربي الذي عني بالقضية الفلسطينية، ولاسيّما ما يتصّل بالظاهرة، والذي ينصرف هذا الجزء من الدراسة إليه، فسأكتفي بالتمثيل لـه بثلاثة نصوص، ينتمي كتّابها إلى أكثر من قطر عربيّ، وتترجّح بين أكثر من اتجاه فنّي.

 

ويمكن التوقّف بداية عند رواية السوري حليم بركات: " ستة أيام" (1961) التي تنتمي إلى الرّواية الرّمزية الخالصة(12)، والتي تستمدّ سمتها تلك من اتكاء الرّمز فيها على عنصرين رئيسيين: المكان والإنسان.

تتحرّك أحداث الرّواية في بلد متخيَّل اسمه "دير البحر"، غارق في "الخوف والفقر والجهل والتناحر والفوضى والتكالب"، وسكّانه مجموعة من البشر هم "حصيلة التعفّن في التاريخ". بيوتهم متراكمة تحجب عن نفسها نور الشمس، منقسمون على أنفسهم، حياتهم ممتلئة "بالعفن والأصنام، والوجوه المبتسمة بفراغ، والبطون المندلقة إلى الأمام، والرؤوس المقبوضة بالخرافة والوهم". ويتلخّص السؤال الرئيس الذي تطرحه الرّواية في كيفية مواجهة هؤلاء السكّان لتهديد العدوّ الذي يطلب إليهم اختيار واحدٍ من أمرين في مهلة لا تتجاوز أسبوعاً: إمّا الاستسلام لـه ومغادرة البلد، أو الهلاك.

في اليوم الأول، يتّصل سهيل، الشخصية الرئيسة، وصديقه عبد الجليل بدولة شقيقة مجاورة لطلب العوْن منها. وفي الثاني، يشتبك عدد من الشباب العائدين من المغارة التي تسلّموا فيها الأسلحة من تلك الدولة مع العدوّ فيفقدون تسعة شهداء. وفي الثالث تشيّع القرية شهداءها التسعة وهي أكثر إصراراً على التحدّي. وفي الرابع، يقوم عدد من المتحمسين بإحراق بيوت الفارين من لقاء العدو وفي الخامس، يعتقل الأعداء سهيلاً بعد وشاية من صديقه عبد الجليل. وقبل يوم من انتهاء المهمة المحدّدة يهاجمون البلد، فيتصدّى لهم السكّان ببسالة منقطعة النظير.

 

والرواية لا تؤكّ‍د الحسّ الفطري لارتباط الإنسان بأرضه من خلال سهيل وأصدقائه فحسب، بل أيضاً من خلال مجموعة من الشخصيات الأخرى التي يؤكّد أكثرها: "لم يعد لنا غير التحدّي، لم يعد لنا غير الموت.. قد لا ننتصر في هذه المعركة، ولكنّنا نترك لأبنائنا أسطورة". فأبو فريد، المُقْعَد، يقول لابنه: "لن أترك البيت. هل تفضّل أن أموت دون مقاومة"، ثمّ يوصيه: "أطلبُ منك شيئاً واحداً، لا تهرب". وخالد لا يبكي صديقه لأنه استشهد، بل "لأنه سبقني إلى الشهادة". وعلى الرغم من أنّ أمّ عامر تمانع، في البداية، في اشتراك ابنها الوحيد في مواجهة الأعداء، فإنها تباركه في النهاية.

 

ولئن كانت الرواية، وقت صدورها، نذيراً غريباً بهزيمة حزيران(13)، وتمكّنت من استشراف الواقع العربي وآفاقه آنذاك، وتوسّلت لذلك بالرمز، بل بمجموعة من الرموز، فإنّ هذه الأخيرة لا تبدو بدائل لأفكار الروائي، أو مقولاته، أو تجاربه الذاتية(14)، وليست أيضاً "حالة افتراضية تجريدية"(15)، بل هي أكثر ما تكون التصاقاً بالواقع، لأنها لا تعلّق دلالاتها في مطلق تتوهّمه، بل تجادل هذا الواقع وتعبّر عنه في آن.

 

وشخصيات الرّواية، عامة، تتّسم بتنوّعها وغناها، ومع أنّ شخصية سهيل "تستقطب في قلقها وتطلّعها إلى أرض الحقيقة التي تستقرّ فوقها حركة الرّواية"(16). إلاّ أنّ ذلك لا يعني ضمور سواها من الشخصيات التي تبدو، على امتداد الرواية، نماذج يُحيل كل منها إلى رمز إنساني في المرحلة التي ترصدها، فشخصية سهيل تمثّل المثقّف العربيّ وتمزّقه بين الواقع والطموح، بين الكائن والممكن، بين المحبّة والأنانية، بين اليأس والأمل، والرّواية برمّتها تحمل من خلال هذه الشخصية بعداً وجودياً(17).

لكنّها، على الرغم من تلك الثنائيات المتضادة التي تؤجّجها داخلها، تؤكّد أن ثمة هاجساً يستبدّ بها، هاجس الدّفاع عن أرض دير البحر: "هذه أرضنا.. فيها نجوع ونشبع. فيها نعيش على هامش الوجود وفيها يمكن أن نعيش في قلب الوجود"، ولذلك فإنّ أفعالها لا تعني انتماء للمجتمع الذي تعيش فيه، بل انتماء للأرض التي يعني ضياعها، بالنسبة إليها، مزيداً من ضياع إنسانها.

 

وإذا سلّم المرء بأنّ تلك الشخصية رمز للعقل الثوريّ الذي يحرّض على المواجهة ويُعدّ لها(18)، فإنّ شخصية فريد تمثّل الفعل الثوري في أقصى تجليّاته قداسة، كما يمثّل انتماؤها إلى دير البحر انتماءً كاملاً يجمع طرفي المعادلة بآن: الأرض والناس.

وعلى النقيض من هاتين الشخصيتين، سهيل وفريد، تبدو شخصيتا عبد الجليل ولمياء. الأولى تمثّل الزّيف الثّوري، والثانية تمثّل الشخصية الهروبيّة المشغولة بأناها، فعبد الجليل الذي كان يردّد دائماً: "أحب أن أموت في سبيل دير البحر.. سأخوض المعركة بكل دمي" لا يرعوي عن سرقة ثمن الأسلحة التي جمعها أهل الدير، والهرب بعد أن وشى بصديقه سهيل للأعداء. ولمياء، لا تعود إلى بلدها من لندن حيث تقيم بدافع الشوق إليه، بل للحصول على ميراث أبيها الذي سيفارق الحياة بعد أيّام كما تظن، وبذلك تبدو نموذجاً فريداً للتحلّل من الجذر، الوطن والأهل.

 

وعامة، فإنّ معظم الشخصيات يتحرّك في زمان ومكان محدّدين، وإذا كان هذا التحديد شرّاً أكثر منه ضرورة في العمل الرّوائي(19)، فإنّ الروائي يتجاوز ذلك بتقويضه الفواصل القائمة بينهما من جهة، والقائمة داخل كلٍّ منهما من جهة ثانية، ويبدي كفاءة واضحة في شدّ جميع خيوط الرواية "نحو نقطة واحدة، و(في) وصل شخصياتها بحدث رئيسي.. ومن ثمّ فإن التفصيلات لا وجود لها، والأوصاف السطحية الخارجية معدومة"(20).

والمعمار الفنّي الذي يحقّق ألقه على امتداد حركة السّرد في الرّواية، واللغة الشاعرية الحارّة التي لم يفقدها المجاز والتشبيهات معنى نثريّة الواقع، ثمّ الأفكار التي تمكّنت من الإفصاح عن نفسها عبر ما هو فنّي/ جمالي، تدفع إلى القول إنّ "ستة أيام" واحدة من أهمّ الأعمال الرّوائية العربيّة التي عنيت بقضية فلسطين، بل لعلّها أرفع تلك الأعمال على المستويين: الفكري والفنّي.

 

ومن الأعمال الروائية التي تنتمي إلى الاتجاه الرومانسي رواية المصري فتحي سلامة: "المزامير"(1968)، التي تغطّي قطاعاً زمانياً طويلاً نسبياً من التاريخ الفلسطيني الحديث، يمتدّ ما بين بدايات الاستيطان الصهيوني وهزيمة حزيران، ولذلك فهي تقدّم ثلاثة أجيال يمثّل كلٍّ منها مرحلة محدّدة من ذلك التاريخ. وهي تُعنى، بشكل رئيس، بتصوير المرحلة الممتدّة ما بين النكبة والهزيمة، أي المرحلة التي يمثّلها الجيل الفلسطيني الثاني، بلال في الرّواية، وتعرض للجيلين الآخرين، الجيل الذي سبق بلالاً والجيل الذي تلاه، بإشارات سريعة بوصفهما استكمالاً للدائرة التي تشكّل حركة النضال الوطنيّ الفلسطيني.

 

كان بلال قد شَهِد وهو طفل في قريته القريبة من يافا طلائع الهجرات الصّهيونية الاستيطانية في أرض فلسطين، أسرة راشيل العرجاء في الرّواية، التي أقامت في طرف المدينة تصنع السّلال في البداية ثمّ امتلكت متجراً لبيع الحلوى والخمور، وانضمّ إليها، فيما بعد، مستوطنون جدد "تاجروا في أشياء كثيرة، منها ما يُباع همساً، لا نسمعه نحن الصغار، وسرعان ما أصبحوا أغنياء يملكون بيّارة وسيّارة وخمّارة"، ثمّ استشروا كالسّرطان في أرض فلسطين كلّها، وأخذوا يطردون أهلها العرب تحت رصاصهم الذي كان يحصد، دون تمييز، الكثير من الأطفال والنساء والعجائز، ويلقي بِمَن نَجا منهم إلى الجوع والعطش، والبحث عن مأوى يقيه غائلة التشرد والحرمان.

وفي غزّة، التي يهاجر إليها مع أخته بعد نجاتهما من رصاص المستوطنين الصهاينة وفقدهما والديهما، يتعرّف إلى فاطمة الفتاة المشرّدة مثله. وعلى الرّغم من أنّ الأخيرة كانت قد حاولت ثنيه عن السفر إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، فإنه يدعها وأخته وحيدتين ويسافر. وفي طريقه إلى مصر، يتعرّف في مدينة الإسماعيلية إلى رجال المقاومة الشعبية الذين كانوا يتصدّون للعدوان الثلاثي سنة 1956، وعندما يُصاب "عم برعي"، سائق سيّارة التموين، يأخذ بلال مكانه إلى أن يُجرح في إحدى المعارك، فيعود إلى غزّة ليجد أخته وفاطمة قد تزوّجتا. ولم تخمد تلك المفاجأة رغبته المتأجّجة في متابعة طريق الكفاح الذي آمن به سبيلاً وحيداً لتحرير أرضه، ولذلك يطلب إلى صديقه "برهان" الذي تعرّف إليه في الإسماعيلية الحضور إلى غزّة لإشعال فتيل المقاومة فيها. وبعد أن يصل برهان، ويونس ابن قرية بلال الذي التقاه الأخير، مصادفة، في أحد مقاهي غزّة وتبدأ المجموعة عملها الكفاحي، يُصاب بلال بجرح جديد فيعود إلى المخيم ليجد أنّ زوج أخته قد توفّى، حتّى تقضي أخته أيضاً في غارة صهيونية وثمّة أمانة معلقّة في شفتيها: "انتقمْ يا بلال، السلاح وابني".

 

وسرعان ما يقع أسيراً في قبضة الصهاينة الذين اقتحموا المدينة بعد أن بُترت ذراعه خلال مواجهتهم. وعندما يقضي على حارسه في السجن ويستولي على سلاحه ولباسه يفرّ هارباً. وفي طريقه إلى الضفّة الغربيّة يُصاب في فخذه خلال عبوره الحدود، فيسعفه رجال إحدى القرى وينقلونه إلى إربد في الأردن. ومنها يسافر إلى القاهرة، ثمّ إلى غزّة ليلتقي حبيبته فاطمة التي كانت قد فقدت زوجها في عدوان 1956، وابن أخته الذي رعته بعد وفاة أمّه. وعلى الرّغم من أنّه يتزوجها وتلد لـه طفلاً، وينصرف إلى العمل     بعضاً من الوقت، فإنّ شوقه الجارف إلى متابعة الكفاح يدفعه إلى تقديم طلب للانضمام إلى صفوف جيش التحرير الفلسطيني، غير أنّ طلبه يلقى معارضة القيادة، ولذلك يندفع بنفسه إلى الاشتراك في مواجهة العدوان الجديد سنة 1967 إلى أن يقضي شهيداً.

 

كان بلال يرهن حياته كلّها من أجل عودته إلى قريته التي اقتُلع منها، وكان يعي تماماً أنّ هذه العودة لن تتحقّق "إلاّ بمعركة مصيرية ضارية بيننا وبينهم، نخوضها في بحور الدّم". وتتجلّى خصائص الاتجاه الرومانسي في الرواية من خلال هذه الشخصية خاصة، كالفروسية، والمشاعر النفسية الدّفّاقة، ثمّ الخيال الجامح الذي يبدو منبتّ الصلة بجذوره الواقعية، وأخيراً الفرد في أعلى درجات تمثيله لمعنى الفرديّة. ولعلّه غيرُ خافٍ أنّ تلك الصفات تتقاطع مع شخصية بلال مؤذّن الرسول، الذي يمثّل في التراث العربي أقصى حالات الفرد صموداً على الشدائد وعلى تحمّل المشاقّ دفاعاً عن القضية التي آمن بها.

 

والرواية، عامة، وثيقة الصلة بتقاليد السرد المحكوم بمنطق التراتبية الزمنية، وإذا كان صحيحاً أنّ اللغة الشعرية في العمل الرّوائي تنظّم وتشدّ مصادر اللغة اليومية، وتنتهكها أحياناً في سعيها إلى وضع القارئ قسراً في حالة من الوعي والانتباه(21)، فإنّ هذه اللغة في "المزامير" لا تبدو كذلك، بل تقف على النقيض من تلك السمات، لأنّها تضع قارئها في مواجهة استرسالات بلاغية متكلفة يتمّ إنطاق الشخصيات بها، وعلى نحو لا يتّسق وسوياتها المعرفية.

ومن الأعمال الروائية العربية التي عنيت بالقضية، والتي تنتمي إلى الاتجاه الواقعي، بل الواقعي المؤسطر على نحو أدقّ، رواية أديب نحوي: "عرس فلسطيني"(1970)، التي يصدّرها الروائي بالمقبوس التالي، الذي يضع القارئ في مواجهة سؤالين معاً: المعنى الكامن وراء زواج فهد البصّاوي على الطريقة البصّاوية، ومعناه على الطريقة المخيّمية، اللذين يشكّلان محكيّ الرواية من جهة، وأطروحتها المركزية من جهة ثانية:

"الليلة عرس فهد البصّاوي. أبوه النّمر. وأصل عائلتهم من جبل البصّة، على مسافة يوم واحد من المشي عن عكّا الشريفة.. كتبوا كتابه على فاطمة بنت ضيعته منذ سنتين، وكانا مخطوبين لبعضيهما قبل ذلك بسنوات. والليلة، بعد أن ظلّ الفهد يعاند ويكابر ولا يقبل أن يتزوّج.. يزوّجونه في حفلة عرس دقّاقة رنّانة.. قالوا لأنّ الفهد قد استأذن.. بطريقة بصّاوية، بعد أن ظلّ يرفض الزواج على الصورة القديمة المخيّمية".

تتحرّك أحداث الرّواية في مخيّم فلسطيني يشبه مخيّمات اللاجئين جميعاً. بيوتُه من صفيح صدئ، تتلاصق "كأنّها متآخية في بؤس الغربة"، رجاله يسحبون الآه من أظافر أقدامهم "بالفطرة ودون صنعة، بعشرين سنة من العذاب" قضوها بعيداً عن أرضهم. تشتهي النّسوة فيه "من زمان، أن يزغردن من القلب مرّة واحدة في العمر"، وأطفاله تعلّموا الرّكض على يديّ السّيل الذي يدهمه بين وقت وآخر.

 

وتتحدّد الإجابة عن السؤالين المشار إليهما آنفاً بأنّ "الأصل.. أن يتزوّج البصّاوي في البصّة. فإنْ تزوّج في مخيّم اللاجئين، فلا أقلّ من أن يكون ذلك حسب الأصول والعادات المعروفة في الجبل. وأهمّها، أن يستأذن. فإنّ إذن والد العروس دليل على رضاه. فبذلك تكون العروس قد خرجت من عند أهلها وهي مرتاحة".

كان فهد أقسم برأس فاطمة ألا يتزوّج قبل أن يستأذن أباها الذي استُشهد على أبواب قريته "البصّة" في فلسطين، وقبل أن يعود من قبره بالعلامة التي تدلّ على رضاه. وقد برَّ الفهد بقسمه، فذهب وبيده قطعة من ثوب فاطمة المقصوص الذي كانت ترتديه ليلة التهم السّيل أمّها، ولم تكن فاطمة قد تجاوزت الخامسة من عمرها آنذاك. وعندما أخبر الفهد أباه بوصوله إلى العلامة المدفونة على بعد مترين، يساراً، من قبر أبي فاطمة كما قالت عمّة الأخيرة، استعدّ المخيّم لاستقباله وأقام طقوس الفرح لإتمام زفافه، وذهبت فاطمة بثوب عرسها إلى قبر أمّها لتستأذن هي الأخرى أيضاً: "الليلة، يا أمّاه عرسي من فهد ابن ضيعتنا.. وقد وكّلته أن يذهب إلى أبي ليخبره، ويستأذنه. فَمِنْ شدّة ما يحبّني، فإنه ذهب.. فهل إنّك يا أميّ كذلك، تأذنين؟ فتفكّين أصابعك عن ذيل ثوبي، لأعرف أنك راضية عن زواجي به؟"، أمّا "فهد" فيعود إلى المخيّم محمولاً على نعش وبيده بندقية أبي فاطمة، العلامة التي وجدها مدفونة إلى جوار قبره.

 

وغير خافٍ أنّ ما تودّ الرواية الانتهاء إليه هو أنّ البندقية هي المنارة الوحيدة التي تضيء لفلسطينيي الشتات طريق عودتهم إلى الأرض التي اقتلعوا منها، وهي بهذا المعنى الذي تحاول تعزيزه لدى القارئ، وعلى امتداد حركة السّرد فيها، تؤكّد أنّ انبثاق المقاومة قد تمّ من رحم الطبقة الفلسطينية الكادحة، التي كانت أكثر فئات المجتمع الفلسطيني اكتواء بنار النكبة، وبلعنة الغربة عن الأرض.

 

والرّواية، وهي تصوّر حنين الفلسطيني المشرّد إلى أرض وطنه، وتعبّر عن هذا الحنين بلغة شافّة، موحية، تستجمع لنفسها سحر الواقع ودهشة الأسطورة، وتستمدّ ألقها من تلك الطبيعة الآسرة التي تميّز أرض فلسطين، والتي تبدو حاضرة في عناصر الرّواية جميعاً، السّرد والحوار والوصف: "كل بحر البصّة، وكلّ الوادي واسعين، عميقين.. وشبابيك البصّاويين من فوقهما، على قمّة الجبل، مطلّة، مفتوحة للفجر، تستقبل عناق الموج وشعاع الشمس وعطر الزهر وخضرة الزيتون".

يقول أهل البصّة: "تصعد لعندنا، فترى البحر كلّه، تحت عينيك، أزرق.. أزرق.. هناك في أعلى الجبل، كانت بيوتنا. تسطع الشمس من الشّرق، فَمِن أين تمرّ وهي في طريقها إلى البحر؟ من شبابيك بيوتنا تمرّ. فلو أغلقناها، لحجبنا الشمس عن المراكب في قلب البحر.. ينزل الغيم من عند الربّ، فمن أين يحمل مطره؟.. من كرومنا على قمّة الجبل، ومن بيّاراتنا يتزوّد غيم الربّ". لقد كانت الأرض، بالنسبة إليهم، المعنى الحقيقي الذي يشكّل وجودهم في الحياة، ولذلك كانوا يرون أنّ الدنيا من دون هذه الأرض "لا تساوي حتّى أن يلقي عليها الإنسان مجرّد نظره". ومن فرط حبّهم لها وشغفهم بها، رفعوا علم وطنهم خلال الاحتفال بعرس فهد على رأس عمود ووضعوا تحته خارطة فلسطين.

 

ولعلّ أبرز ما يميّز المبنى الحكائي في الرّواية إحكامه وتماسكه، وتقويضه لخطية الزمن، فالروائي يضع قارئه في مواجهة المفصل الرئيس الذي يحرّك أحداث محكيّه، لكنّه لا يقدّم لـه هذه الأحداث، بعد ذلك، كما تتابع في الواقع، بل يعيد تشكيلها على نحوٍ يوفّر لها عنصر التشويق من جهة، ويكسر الحدود الفاصلة بين الأمكنة والأزمنة فيها من جهة ثانية. وعلى الرّغم من أنّ ثمة تبايناً كبيراً بين زمنيها الواقعي والتخييلي، فإنّ هذا التباين لا يبدو نافراً في حركة السرد، لأنّ الشكل الفنّي الذي استخدمه الروائي في صوغه لتلك الحركة استطاع أن يقلّص الفجوة القائمة بين الزمنين، وقد مكنته من ذلك تقنيتان: تعدّد ضمائر الخطاب، وتقنية المشهد المسرحي.

 

والشخصيات عامة تتّسم بأنها "واقعية على نحو معين، وليست واقعية على نحو آخر"(22)، بمعنى ترجّحها بين مستويين: واقعي وأسطوري. بسبب تداخلها مع غيرها من مكوّنات المحكي الروائي، ولاسيّما الطبيعة التي تمثّل حاضناً لما هو أسطوريّ عادة. إنّ أسطرة الواقع سمة شديدة الوضوح في الرواية، فالكاتب يستنهض فهداً من موته ليحدّث عروسه فاطمة، ويدع السّيل الذي يلتهم المخيّم يعبّر بنفسه عن قسوته وجبروته، وهو، بالإضافة إلى ذلك، يصوّر الطبيعة الفلسطينية وكأنّها جزء من عالم أسطوري، شديد الصلة بما هو آسرٌ، ومدهش، وخلاق.

 

هوامش وإحالات:

(1) ـ أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرواية العربية" ص(15).

(2) ـ عبّود، حنّا. "النزوحات الكبرى ومعالم الأدب العربيّ بعد الحرب العالميّة الثانية". ص(21).

(3) ـ انظر: اليافي، نعيم. "التطوّر الفنّي لشكل القصّة القصيرة في الأدب الشّامي الحديث". ص(304).

(4) ـ انظر: الدقّاق، عمر. "تاريخ الأدب الحديث في سورية". ص(65).

(5) ـ عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربيّة". ص(247).

(6) ـ المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(7) ـ المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(8) ـ أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربيّة". ص(19).

(9) ـ انظر: ماضي، شكري عزيز. "انعكاس هزيمة حزيران على الرّواية العربية".

ص(39).

(10) ـ انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربيّة". ص(97).

(11) ـ ماضي، شكري عزيز. "انعكاس هزيمة حزيران..". ص(13).

(12) ـ انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربيّة". ص(129).

(13) ـ انظر: النساج، سيّد حامد. "بانوراما الرواية العربية الحديثة". ص(201). ومن اللافت للنظر أنّ عبد الكريم الأشتر، في كتابه "تعريف بالنّثر العربي الحديث". ص(263)، ينقل هذه المقولة عن النساج، ويكتفي بتعديل اسم شهر "يونيو" الوارد لدى النساج باسم "حزيران"، من غير أن يحيل إليه!

(14) ـ انظر: الأشتر، عبد الكريم. "تعريف بالنّثر العربي". ص(272).

(15) ـ الخطيب، محمّد كامل. "الرواية والواقع". ص(57).

(16) ـ الأشتر، عبد الكريم. "تعريف بالنّثر العربي". ص(273).

(17) ـ انظر: الفيّومي، إبراهيم حسين. "الواقعية في الرّواية الحديثة في بلاد الشام". ص(102).

(18) ـ انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرواية العربيّة". ص(160).

(19) ـ انظر: هالبرين، جون. "نظرية الرّواية". ص(133).

(20) ـ النسّاج، سيّد حامد. "بانوراما الرّواية العربيّة الحديثة". ص(101).

(21) ـ انظر: ويليك، رينيه. وارين، اوستن. "نظرية الأدب". ص(23).

(22) ـ ماضي، شكري عزيز. "انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية". ص(61).

 

 

 

الفصل الثاني: قضية الأرض في الرواية العربية الفلسطينية

 

التمييز بين رواية الشتات الفلسطيني ورواية الأرض المحتلة ليس فعالية إجرائية تقتضيها طبيعة الدرس النقدي، بل هو تمييز منبثق من داخل المنجز الروائي الفلسطيني نفسه، وله مسوّغاته الكافية التي تجعل كلاً منهما تجربة تكاد تكون مستقلّة بنفسها، ومن تلك المسوّغات ما يتّصل بالقضية التي تعنى بها هذه الدراسة، ولاسيّما علاقة الفلسطيني بأرضه.

فعلى حين تصوّر رواية الشتات، في الأغلب الأعمّ منها، حنين الفلسطيني إلى الأرض التي اقتلع منها، وتتغنّى بماضيه فيها، تدعو رواية الأرض المحتلة، في الأغلب الأعمّ منها أيضاً، فلسطينيي الداخل إلى التمسّك بهذه الأرض، وإلى الإصرار على البقاء فيها رغم محاولات الاحتلال لنفيهم خارجها.

وتجدر الإشارة، قبل البدء بتفكيك تجلّيات تلك العلاقة في كلّ من الروايتين، إلى أنّ فعاليات التفكيك هذه تنصرف إلى جزئية فحسب من النصوص الروائية التي تشكّل مصادر الدراسة، أي إلى ما هو معنيّ بالقضية/ الظاهرة أولاً، وإلى ما يعبّر عن تلك العلاقة ثانياً.

 

 

في رواية الشتات الفلسطيني:

 

"ما تبقى لكم":

لم تنل رواية فلسطينية، وقت صدورها وبعده، وممّا صدر في الستينات خاصة، من حفاوة القرّاء والنقّاد ما نالته رواية غسان كنفاني الثانية: "ما تبقّى لكم"(1966)، وكان من مرجعيات تلك الحفاوة التوضيح الذي صدّر كنفاني به الرواية، أي قولـه: إنّ الأبطال الخمسة "حامد ومريم وزكريا والساعة والصحراء لا يتحركون في خطوط متوازية أو متعاكسة.. ولكن في خطوط متقاطعة تلتحم أحياناً إلى حد تبدو وكأنها تكوّن في مجموعها خطّين فحسب"، واقتراحه "لتعيين لحظات التقاطع والتمازج والانتقال.. تغيير حجم الحروف"، الأمر الذي دفع عدداً من الدارسين إلى مشابهة التجربة بما قدّمه "وليم فولكنر" في روايته الذائعة الصيت: "الصخب والعنف"(1)، وإلى وصف التجربة نفسها بالافتعال مرّة(2)، وبالفجاجة مرة ثانية(3).

ترتبط التجربة، في تقديرنا، بطبيعة التحوّلات الحادة التي كانت تطارد الفلسطيني داخل الأرض المحتلة وخارجها، والتي كانت تستلزم ما يمكن وصفه بمحاولة إبداعية مكافئة، تحقّق مقاربتها لتلك التحولات على نحو مغاير لما قدّمه المنجز الروائي الفلسطيني من جهة، وتؤكّد كفاءة المبدع الفلسطيني في التعبير عن قضيته بفنيّة عالية من جهة ثانية.

والرواية لم تثر اهتمام القرّاء والنقّاد بها بسبب شكلها الفني الجديد أو استجابتها الجمالية لتلك التحولات فحسب، بل بسبب إثارتها لوعي جديد أيضاً، وعي يستمدّ تحقّقه وحضوره وتعبيره عن الذات الفلسطينية من خلال الارتباط بالأرض، والتشبّث بها، بوصفها الحاضنة الأساس، والوحيدة بآن، لبقاء الفلسطيني واستمراره في الحياة أولاً، ولانتصاره على الواقع الغاشم الذي دفعه مغتصبو تلك الأرض إليه ثانياً.

ويتجلّى ذلك الوعي من خلال ثلاث شخصيات إنسانية رئيسة: حامد، ومريم، وزكريا، التي يتنازع حركتها في الأحداث خطّان متوازيان أحياناً، ومتعارضان أحياناً ثانية، وعلى نحو دالّ على تمثّل الروائي تمثّلاً تاماً لإنجازات الرواية الحداثية التي تحرّض قارئها على إعادة صوغ محكيّها، بل على إعادة بناء ذلك المحكيّ كما لو أنه منتج ثان له: حامد والصحراء من جهة، ومريم وزكريا من جهة ثانية.

 

في الخطّ الأول، تنقل الرواية وجود الفلسطيني من حال العطالة التي تنتهي بموت مجّاني محقّق إلى حال أخرى لها معنى مغاير، من أهمّ سماته الفعل والمواجهة اللذان يستمدّان قوّتهما من ارتباط الفلسطيني بأرضه، واللذان يحوّلان حساب الخسائر لديه إلى حساب أرباح، كما يجعلان الزمن رفيقه بعد أن كان خصمه حسب كنفاني نفسه(4)، فـ"حامد"، على النقيض من شخصيات كنفاني في روايته الأولى، يستبدل بطريق الوهم طريقاً آخر يتوجّه إلى الأرض ـ الحقيقة، بحثاً عن الطهر الذي يغسل عار أخته "مريم" التي حملت سِفاحاً من "زكريا"، النتن بتعبير حامد، كما يغسل عاره هو أيضاً لتأخره في اختيار هذا الطريق.

 

وعلى الرّغم من أنّ القارئ يميّز صورتي الأرض نفسيهما، الجنّة والصحراء، اللتين قدّمتهما "رجال في الشمس"، فإنّ هاتين الصورتين في "ما تبقى لكم" لا تبدوان متناقضتين، بل "تسعيان نحو بعضهما البعض، حتّى تكاد الواحدة.. تمتزج في الأخرى"(5). وعلى الرّغم، أيضاً، من أنّ كنفاني يمنح لهذه الأرض الصفات نفسها التي قدّمها لها في روايته الأولى، فإنه يضيف إليها صفات جديدة تضارع سواها من مكوّنات الحدث الروائي، فهي تبدو لحامد "مخلوقاً يتنفّس على امتداد البصر، غامضاً ومريعاً وأليفاً في وقت واحد". عندما يستلقي فوقها، يحسّ بها تحته ترتعش كعذراء"، يغرس أصابعه في لحمها، فتسيل حرارتها إلى جسده. ومع أنّ علاقته بها تتوزّع بين قطبيّ الحبّ والكراهية، إلاّ أنه يختار حبّها لأنها، وحدها، تحنو عليه وتمدّه بالقوّة، ولأنّ "حامد" نفسه كان، بالنسبة إليها، حبيباً وابناً بآن: "وكنتُ مبسوطة أمامه، مستسلمة لشبابه بلا تردّد ولخطواته وهي تدقّ في لحمي". ولمن اللافت للنظر، وعلى الرغم من  هذه الصفات كلّها التي يمنحها الروائي للأرض، ما انتهى إليه أحد دارسي الرواية من أنّ هذه الأرض ليست "رمزاً لفلسطين بقدر ما تبدو مجرد أرض، أية أرض، أو الأرض بمطلقيتها وتجريدها"(6)، وأنّ مصير حامد والجندي الصهيوني في خاتمة الرّواية "كان معلّقاً"(7).

 

صحيح أنّ الرّواية لا تجهر بذلك، لكنّها تشي به. بل إنّها تؤكّده لأنّ كلاً من النقيضين، حامد والصهيوني، يهدّد أحدهما الآخر بالقتل. ومن الطبيعي أن يبادر حامد إلى ذلك، ليس لأنه كان يمتلك ما يمكّنه من المبادرة فحسب، بل لأنّ الرّواية تطمح إلى القول، وعلى نحو غير مباشر، إنّ مواجهة الفلسطيني لعدوه هي الطريق الوحيدة التي تكفل لـه استمرار وجوده في الحياة، أو بداية عودته إلى الأرض التي اقتلعه هذا العدوّ منها.

 

أمّا في الخطّ الثاني من حركة الرواية، مريم وزكريا، فإنّ الروائي يقدّم وجهاً آخر لصلة الفلسطيني بالأرض، وجهاً نقيضاً لحامد، ملوّثاً بالعار والخيانة. العار الذي تحمله مريم في بطنها، والخيانة التي تتسرطن في رأس زكريا، الذي يمثّل صورة الفلسطيني الجاحد بأرضه، فهو يدلّ الضابط الصهيوني على الفدائي سالم، ويغتصب مريم في غياب أخيها حامد عن البيت. ولا يرعوي، بعد ذلك كلّه، عن الطلب إليها إسقاط الجنين. والروائي، بالفعل الذي تختتم به مريم الرّواية، أي قتل زكريا، يؤكّد أنّ المرأة الفلسطينية ليست صورة لفلسطين فحسب، بل هي رمز لأرضها عندما تثور على مغتصبيْها: الفلسطيني الخائن والصهيوني المحموم لامتلاكها.

 

ولعلّ أبرز ما تتّسم به الرواية، في هذا المجال، المكانة التي يحوزها الزمن في الحدث الروائي، فعلى الرّغم من أنّ الساعتين اللتين تمثّلانه، ساعة الحائط وساعة حامد، تبدوان في مطلع الرواية تعبيراً عن "صوت الرّكود الفلسطيني على المستوى النفسي والعسكري والسياسي لأكثر من خمسة عشر عاماً"(8)، فإنهما تتخليان عن هذا المعنى، في خاتمتها، وتغدوان معاً عاملاً مبشّراً بالتغيير وبالتوجّه نحو المستقبل الذي يبدأ بالخطوات الأولى لخلاص الفلسطيني من ضعفه وعاره، فحامد يطرح ساعته أرضاً عند مواجهته للجندي، وساعة الحائط تدقّ عندما تقتل مريم زكريا.

 

"الكابوس":

على الرّغم من أنّ رواية أمين شنّار: "الكابوس"(1968) لا تتضمّن ما يشير إلى فلسطين، فإنها تبدو معنية بها وتؤرّخ لها من بداية الهجرات الصهيونية الاستيطانية الأولى إلى الإعلان عن قيام دولة الاحتلال سنة 1948. وهي تجهر برؤيتها لتلك القضية عبر إيديولوجية صارخة، ترى في الابتعاد عن الدِّين السبب الرئيس الذي أدّى إلى نكبة الوطن الفلسطيني، وإلى ضياع أرضه وإنسانه بآن.

 

تتحرّك أحداث الرّواية في قرية صغيرة ـ لا يسمّيها الكاتب ـ "تتكوّن من بيت واحد كبير يتربّع على جبل.. ويعلوه القرميد الأحمر، ترتمي أمامه مجموعة من الأكواخ.. المبنية من الطين والتبن"، يعيش سكّانها "على حفنة من القمح.. يجود بها.. حقل ورثه أهل القرية عن آبائهم بأنصبة متفاوتة"، ويدينون بالولاء والطاعة للشيخ "نجم" الذي كان يسكن ذلك البيت القرميدي، والذي حلّ مكانه شيخ جديد لم يكن أحد من أهل القرية ليصدّق بأنّه قد أخذ الولاية عن نجم حقاً. وكان لهذا الشيخ الجديد خمسة خفراء "يسمعون.. كلّ كلمة تقال ويسجّلونها في دفاترهم وينقلونها إلى الشيخ، فيعاقب قائلها وأهله دون أن يحسّ بهم أحد". ولم يكن ثمّة ما يعكّر صفو القرية، على الرغم من ذلك كلّه، إلى أن نبت بين أزقّتها رجل غريب، قادم من وراء الجبل "كان يتكلّم بلساننا ويتقن لهجتنا إلاّ أنّه ليس منّا. يزعم أنّ اسمه موسى. لكن ما اسم أبيه؟ وما اسم جدّه؟ ولماذا لا يعرف المسنّون من أهل القرية أباه وجدّه، إذا كان ما يزعمه حقاً أنّه من مواليد قريتنا وسافر منها مهاجراً ثمّ عاد". وقد حظيَ موسى هذا بتأييد الشيخ، حتّى تكاثر عدد "الخواجات من أمثاله.. ولم يكتفوا ببيع القماش بل تسلّلوا إلى شؤون القرية كلّها، وصار أحدهم خفيراً".

 

والرواية لا تقارب علاقة الفلسطيني بأرضه على نحو مباشر، لكنّها تقدّم مظاهر لتلك العلاقة من خلال مجموعة من الشخصيات، يتصدّرها الجدّ المتوفّى، الذي يسرد مذكّرات القرية لحفيده فرحات درويش، والذي يرمز إلى القوى الفلسطينية الرائدة التي أحسّت بالخطر الصهيوني الدّاهم، وواجهته بوسائلها البدائية ووعيها العفوي: "الخواجة موسى سيأكلكم أجمعين، سيلد في أرضكم آلاف الشياطين يفقأوون عيونكم ويقلونها في الزيت"، ثمّ من خلال الخوف الدفين الذي كان يستبدّ بسكّان القرية من انهدام الجبل بين قريتهم والعالم، والذي يكتسب دلالة أبعد ممّا تشي لـه صورته الظاهرية. فعلى الرّغم من أنّ هذا الخوف يبدو معنيّاً بالحرص على تقاليد القرية وإرثها الديني، فإنه يتجاوز ذلك إلى الخوف من استيلاء الخواجات القادمين من خلف هذا الجبل على أرض القرية كلّها.

 

وتبدو شخصيّة فرحات درويش أكثر شخصيات الرواية تعبيراً عن علاقة الفلسطيني بالأرض، التي يمكن عدّها رمزاً للقوى الثورية الانفعالية(9)، والتي تصدر ردود أفعالها عن وعي ارتجالي يؤثر عذاب النفس على عذاب الجسد. والرواية تؤكّد أنّ اندغام تلك القوى بالأرض هو  المطهر الوحيد الذي يغسل آثامها، ويحرّرها من ضعفها، ويعيد إليها القوّة لمواجهة عدوّها من جديد.

 

لقد تجنّب "فرحات" السقوط في الخيانة مرّة ثانية، عندما دفعه توحدّه بالأرض إلى البحث عن فعلٍ يكفّر به عن خيانته الأولى، أي عندما قبل بالعمل جنائنياً في حديقة الشيخ الكبير المزعوم. فاختياره السنديانة العتيقة مكاناً للقاء صديقيه عصام الفاخوري وعلي عودة لم يكن بدافع ذكرياته الأثيرة عن ذلك المكان من أرض القرية فحسب، بل لأنّ هذا المكان نفسه كان يمنحه القوّة على مواجهة خطّة الخواجات الجديدة، الرّامية إلى بسط نفوذهم على القرية بشكل واضح بعد الإعلان عن موت الشيخ رمز القرية: "هنا، قبل زمن بعيد، كان لي عمر آخر.. كنّا كلّ صباح نحمل الندى على رؤوسنا الصّغيرة، في طريق الكرم الأنيس، ونتناغم بلغة ابتكرناها وسميّناها (لغة العصفور).. ونأخذ في تجميع الثمرات الذابلة التي فرشتها يد الصيف تحت شجرات التّين، ثمّ نسطّحها تحت ذاك الجدار، ونسرع من بعد إلى السنديانة العتيقة نتسلّق فروعها الشداد، يطارد بعضنا بعضاً. منّا مَنْ يسقط، لكنّه يفز ضاحكاً، وهو يزيل التراب عن جلبابه، ونحفر أسماءنا الصغيرة بالأمواس على جذع الشجرة العجوز، ثمّ نركض إلى عين لوبيا، نلقي في حوضها العميق بالحصى ثمّ نغطّ روؤسنا فيه، ونتسابق، أيّنا يقدر أن يلتقط بفمه الغارق في الماء عدداً أكبر من الحصوات الصغار؟ يا أيّام الصّبا الجذلى".

ولأنّ ذلك الإحساس المفعم بحب الأرض كان يمارس حضوره في وعي فرحات على ذلك النّحو، فإنّه يستمرّ إلى ما بعد اللقاء، وإلى الحدّ الذي جعل حواسّه كلّها تتجه نحو الأرض، التي يُخيّل إليه أنّها تتحدّث، فتلامس انفعالاته، وتعكس ما يضطّرم في نفسه من تمزّق: "ـ يا عودة، ألا تسمع الأرض..؟ أعاتبة هي أم راضية؟.. أتعرف الأرض وطء أقدامنا فتأنس به، أم تراها تستنكره فتبكي؟"، وتدفعه من ثمّ لكي يكون "ابن القرية الوفي، الذي يترجم وفاءه إلى عمل يفضي إلى حياة حقيقية أو إلى موت شريف" كما يقول.

 

"أم سعد":

حقّق غسّان كنفاني في روايته الثالثة: "أم سعد"(1969) تطوّراً ملحوظاً في وعيه وظيفتيْ الأدب الفكرية والفنيّة، وفي تعزيزه أيضاً أطروحة "فونتانيه" القائلة إنّ الكاتب البليغ هو ذلك "الذي يبدّل أسلوبه باستمرار تبعاً للمادّة التي يعالجها"(10)، ثمّ أن يؤكّد محاولته الدائمة في "الوصول إلى الشكل.. الأكثر فعالية والأكثر قدرة على أداء الدّور الذي كتب. من أجله"(11)، وعلى الرّغم من تراجع تلك الرّواية عن الإنجاز الفني المميّز الذي تجلّى في روايتيه: "رجال في الشمس" و"ما تبقّى لكم"، فإنها تُعدّ امتداداً للكتابة الجادّة التي شغلته منذ أوّل عمل أدبي له، بسبب تعبيرها عن مرحلة مهمّة و"ناضجة من مراحل الكفاح من أجل التحرّر الوطني الفلسطيني، في مجمل وجوهها الثقافية والاجتماعية والسياسية"(12).

 

تقدّم الرواية وقائع يوميّة قصيرة لامرأة فلسطينية، وترسم، من خلالها، حياة الفلسطيني في المخيّمات "بكلّ همومها وأدقّ جزئياتها"(13). ولئن سلّم المرء بالنتيجة القائلة إنّ الوعي الطبقي كان غائماً في معظم نتاج كنفاني الرّوائي(14)، فإنّ من أبرز ما يميّز هذه الرواية إفصاحها عن ذلك الوعي، وتعريتها للمفارقة الطبقية بين سكّان المخيّم الذين يبيعون قوّة عملهم، والأثرياء الذين يمتصون تلك القوّة دون وازع أخلاقي أو إنساني. فالرّواية تنتصر للفلسطيني الكادح الذي يطارده شقاء الواقع في مخيّمات لجوئه مضافاً إلى قسوة الغربة. وتؤكّد، في الوقت نفسه، أنّ هذا الفلسطيني وحده الجدير، بل المؤمن، بحمل البندقية من أجل استعادة الأرض التي اغتصبت منه.

وبالمعنى الذي يرسمه كنفاني لشخصية أمّ سعد في الرواية تبدو المرأة الفلسطينية المعادل الجمالي للأرض، وهو ينمذج تلك الشخصية إلى حد يبدو الاثنان معه، أمّ سعد والأرض، وجهين لشيء واحد هو فلسطين، أو الطريق إليها.

 

كانت أمّ سعد تعي بحسّها العفويّ أنّ الخطوة الأولى في هذا الطريق، إنّما تبدأ بالكفاح المسلّح، وليس بحرب الأنظمة العربية، كما حدث في حزيران 1967، التي "بدأت بالرّاديو وانتهت بالرّاديو"، فهي تزغرد لالتحاق ابنها "سعد" بصفوف الفدائيين، وتودّ لو أن لها عشرة مثله لتتخلّص من وطأة سنواتها العشرين التي قضتها بعيداً عن أرض قريتها "الغبسيّة" في فلسطين، وتجتاحها غبطة عارمة عندما يستثير ابنها الصغير "سعيد" إعجاب سكّان المخيّم بقدرته على استخدام السلاح خلال التدريب، ثمّ تستبدل بحجابها القديم رصاصة تعلّقها في صدرها، لأنّ هذه الرّصاصة كانت تعني، بالنسبة إليها، رقية الفلسطيني من حال التشرّد، وتعويذته في طريق عودته إلى الأرض.

 

"عائد إلى حيفا":

يتناول غسّان كنفاني في روايته الثالثة "عائد إلى حيفا"(1970) جزئية مميّزة من الواقع الفلسطيني في الفترة التي تلت إعلان سلطات الاحتلال الصهيوني عن سماحها لفلسطينيي الأرض المحتلّة بين قسمي هذه الأرض، أرض ما انتهت إليه نكبة 1948، والأرض الجديدة التي أضافتها تلك السلطات إلى "دولتها" في عدوان 1967.

والرواية، عبر تلك الجزئية، تنتهي إلى أطروحة شديدة الثراء، تتجاوز حدود المحكي إلى الهمّ الفلسطيني في أوّل تجليات انعكاسه على الذات الفلسطينية، أطروحة: الانتماء إلى الوطن. وهي تعرّف هذا الانتماء بالالتصاق بالأرض، وتدعو الفلسطيني إلى أن يعي ذلك عندما يكون فوق أرضه، وليس بعد نزوحه عنها، وتهدّده، في حال تأخره عن إدراك ذلك، بخسارة فادحة لا تكتفي بفقده الأرض فحسب، بل تتجاوزها إلى ما هو أفدح، إلى خسارته لمعنى وجوده، أو إلى امتداده في هذا الوجود. وعلى الرّغم من أنّها لا تغلق الأبواب في وجهه عندما يريد استرداد ما فقده، فإنها تحدّد لـه معبراً واحداً فقط إلى ذلك، هو الكفاح المسلّح.

 

إنّ الرواية تنبئ، منذ صفحاتها الأولى، بأنّ طريقاً آخر غير طريق البندقية من أجل العودة إلى الأرض ليس سوى وهم أو مذلّة جديدة. فبوّابة "مندلبوم"، التي فتحها الاحتلال بين شطري الأرض الفلسطينية، أمر مرعب، وسخيف، ومهين في آن، لأنّ "كلّ الأبواب يجب ألا تُفتح إلا من جهة واحدة، وإنّها إذا فُتحت من الجهة الأخرى فيجب اعتبارها مغلقة لا تزال".

 

لقد كان "سعيد.س"، الشخصية الرئيسة في الرّواية، يدرك منذ مطلع الرواية أنّ العودة إلى الأرض عن طريق لا يعمّده الدّم تعني الذلّ. ولأنّه يكتشف أنّ هزيمة من هذا النوع ستقود إلى هزائم، كانت تراوده رغبة في العودة إلى "رام الله" قبل رؤية ابنه خلدون، الذي تركه في مدينته "حيفا" قبل عشرين عاماً وقام المستوطنان الصهيونيان "ايفرات كوشن" وزوجته "مريام" اللذان تسلّما منزله من الوكالة اليهودية بتربيته بعد أن استبدلا باسمه اسماً آخر عبرياً هو "دوف": "كان علينا ألا نترك شيئاً. خلدون، والمنزل، وحيفا؟ ألم ينتابك(15) هذا الشعور الرهيب الذي انتابني وأنا أسوق سيّارتي في شوارع حيفا؟ كنت أشعر أنّني أعرفها وأنّها تنكرني. وجاءني الشعور ذاته وأنا في البيت هنا. هذا بيتنا! هل تتصوّرين ذلك؟ إنّه ينكرنا! ألاّ ينتابك هذا الشعور؟ إنّني أعتقد أنّ الأمر نفسه سيحدث مع خلدون".

وإمعاناً من الروائي في إدانة سعيد الذي ترك أرضه دون مقاومة يصوّر "دوف" فظاً، قاسياً، وتتمثل هاتان السمتان، الفظاظة والقسوة، في عطالة الحسّ الإنساني لديه، أو غيابه، أو الزعم بحضاريته حسب تعبير "دوف" نفسه، الذي يردّ على سؤال أبيه: "أنت في الجيش؟ من تحارب؟ لماذا" قائلاً: "ليس من حقّك أن تسأل". لكنّه، في الوقت نفسه، يثير في سعيد معنى الارتباط بالوطن، الذي يتحدّد بمواجهة مَنْ يحتلّه، وليس بالبكاء عليه أو الحنين إليه: "لقد مضت عشرون سنة يا سيّدي.. ماذا فعلت خلالها كي تستردّ ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح.. لا تقل لي إنكم أمضيتم عشرين سنة تبكون".

 

هكذا، دفعة واحدة، تمضي الرّواية إلى تأكيد أنّ الالتصاق بالأرض والتوحّد  بها يعنيان الحقّ بصفة المواطنة، وإذ يكتشف سعيد أن "الوطن هو ألا يحدث ذلك كلّه"، يضع خطوته الأولى في الطريق الصحيح والوحيد الذي يؤدّي إلى الوطن، طريق المقاومة المسلّحة. فعلى حين كان يعارض التحاق ابنه "خالد" بالعمل الفدائي، ينتهي محكيّ الرواية برغبة عارمة تستبدّ به  طوال طريق العودة إلى رام الله: "أرجو أن يكون خالد قد ذهب أثناء غيابنا". وبالدلالة التي يحملها اسم خالد(16)، تعلن الرواية أنّ خلود الفلسطيني لا يتحقّق بغير اختياره طريق الكفاح المسلّح، وأنّ اتجاهه نحو المستقبل يبدأ بخطوته الأولى فوق هذا الطريق.

 

"السفينة":

كما تبدو رواية جبرا إبراهيم جبرا: "السفينة"(1979) نصّاً إبداعياً عن العراقيّ "عصام السلمان"، وعن البنى الاجتماعية والسياسية لمدينة بغداد في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، تبدو بآن نصّاً إبداعياً عن الفلسطيني "وديع عساف"، وعن القضية الفلسطينية، وإلى حد يمكن القول معه إنّها رواية الفلسطيني بامتياز، كما هي رواية العربيّ على اختلاف انتماءاته القطرية  بامتياز أيضاً.

 

تتناول الرواية مفصلين رئيسيين من تاريخ القضية الفلسطينية: إضراب الشهور الستّة الذي بدأت به ثورة 1936، والمقاومة الباسلة التي أبداها الفلسطينيون قبل الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الصهيوني سنة 1948.

 

في المفصل الأول، يتحدّث وديع عسّاف عن مظاهرات الاحتجاج الغاضبة ضدّ حكومة الانتداب البريطاني لسماحها بتدفّق الهجرات الصهيونية، وفي الثاني، يعرّي تواطؤ تلك الحكومة مع المنظمات الصهيونية الإرهابية، ويدين حال الفوضى والارتجال لدى جيوش الإنقاذ العربية، كما يمجّد مقاومة الفلسطينيين واستبسالهم في الدّفاع عن أرضهم والتشبّث بها.

 

وبين المفصلين، وفي كليهما، وفي ركام من الموت والدّمار الذي يرسمه جبرا للحياة التي عاشها الفلسطينيون قبل النكبة وخلالها، يبدو "الحب هو لحظة الحنان الوحيدة في.. الرّواية، إنّه الوجه الآخر للأرض الفلسطينية التي يحدّثنا وديع عنها"(17)، والتي "نحسّ أنّها مزروعة في أعماق نفسه وكأنّها تلاحقه كمسيح يحمل صليبه أينما ذهب"(18).

ولا يتجلّى ذلك الحبّ من خلال الذكرى التي كان يحملها لمدينته القدس بعد رحيله عنها إلى الكويت والتي ظلّت مقيمة في القصيّ من أعماقه وكانت معادل النبض الذي يخفق به قلبه فحسب، بل من خلال الحضور الطاغي لمفردات الأرض على كلّ شيء في وجوده. هذه المفردات التي كانت أنيسه في الغربة، ودافعه الدّائم الذي يستثير رغبته الجارفة والمستمرة في العودة إلى هذه الأرض.

 

والتصوير الخلاّق الذي يرسمه جبرا لتلك المفردات، لا يكتسب ألقه من لغته الحارّة فقط، بل من مقدرته الفائقة على جعل تلك المفردات الخلابة تتحرّك أمام عيني القارئ وكأنها تتابع كمشهد من الصور التي تطهّر نفس الناظر إليها، وتذيبها "في قصيدة شعريّة لا تُقال إلاّ في أجمل نساء العالم"(19)، حتّى لتبدو تلك الأرض كما لو أنّها جنّة الله، ولكن على الأرض نفسها: "هل جلست مرّة.. تحت زيتونة هرمة، على الأرض الحمراء، والشّوك يكاد يحيط بك. وكذلك الزهرات.. من الشقائق، أو ذلك الحنّون الأصفر.. في تلك الأرض الصخرية الحمراء التي تلقّت قدميْك كقبلات عاشق، وبانت كأنها تنتشر تحت جنبك إذ تضّطجع عليها كأرائك الجنّة".

 

وكما في معظم المنجز الروائي الفلسطيني تتحدّ صورة الأرض في الرواية مع صورة المرأة، بل مع هواجس وديع عساف وانفعالاته، وإلى حدّ أمله باحتضانهما معاً، أو الغرق في متعة اندغام بهما لا تعدلها متعة، ورعشة لذّة تتجاوز المألوف إلى متخيّل تذوب النفس في ملكوته.

 

"أيام الحبّ والموت":

تغطّي رواية رشاد أبو شاور: "أيام الحبّ والموت"(1973) قطاعاً زمنياً طويلاً نسبياً من تاريخ فلسطين الحديث، يمتدّ ما بين نهاية الاحتلال العثماني وقرار التقسيم. ومع أنها تبدو معنية بمفاصل كبرى من ذلك التاريخ، إلاّ أنها تلتقط إشارات عابرة منه، وعبر الناس العاديين الفاعلين فيه، وإلى حد يجعلها وثيقة الصلة، بمصطلح الرواية التاريخية التي تصوّر "تحوّلات التاريخ.. بوصفها تحوّلات الحياة الشعبيّة"(20).

 

تتحرّك أحداث الرّواية في قرية فلسطينية من قرى الخليل، تواجه بعد الإعلان عن تقسيم الوطن الفلسطيني قوّتين: استبداد الإقطاع وسطوته، ومحاولات المستوطنين الصهاينة معه لالتهام أراضيها.

 

وعلى الرّغم من أنها، في الأغلب الأعمّ من محكيّها، تمجّد نضال الفلسطيني في الدّفاع عن أرضه ومواجهته لمستغلّيه، فإنها تقدّم صورتين متضادتين لعلاقته بالأرض: الارتباط بها والتوحّد معها إلى حدّ العشق، وخيانتها والتفريط بها إلى حدّ العمالة.

ينتمي إلى الصورة الأولى الفلاّح العجوز "سلمان"، الذي يبلغ ولعه بالأرض حدّ الإقامة فيها ليل نهار، ثمّ ابنه "عبد الله" الذي لم يكن حبه لها ليقلّ عن ولع أبيه بها، بل لعلّه كان أكثر جرياناً في دمه وأشدّ التصاقاً بخلايا جسده، لأنه يتحوّل لديه إلى فعل نضالي يجسّد إيمانه بها، ويعبّر عن خوفه من افتقادها أو وقوعها تحت أقدام المستوطنين الصهاينة وفي قبضتهم، وقد أهّله ذلك الحب ليكون من أوائل الذين يهبّون لنجدة القرية، وليكون وحده الجدير باستلام قيادة فصيلها المقاتل بعد استشهاد "محمّد المرابع"، أحد فلاّحيها، الذي يمثّل هو الآخر نموذجاً لتوحّد الفلسطيني بأرضه في أقصى تجلياته قداسة، فعلى الرّغم من مغادرته القرية، بعد أن نهب "العواونة" الإقطاعيون أرض أبيه، وبعد موت أمّه، فإنه يؤثر العودة إليها ويختار الموت فوق أرضها التي يرخص الذهب والمال من أجلها، كما كان يقول.

 

وتضيف الرّواية إلى تلك الشخصيات الثلاث شخصية محمّد أبو عمران، الرجل الذي كان معروفاً في القرية بسيرته الحميدة، والذي كان يستنهض همم الفلاحين لمواجهة أطماع "العواونة" في امتلاك المزيد من أراضي القرية، ويستثير حبّهم للأرض والانصراف إليها بدلاً من الاستسلام لرغبة "هاجم"، زعيم العواونة، ببناء بيت كبير لـه بعرق الفلاحين وجهدهم، ومن ثمّ يدفع حياته ثمناً لحبّه لتلك الأرض، بعد أن يقتل "هاجم" الذي حاول النًيْل من أخته "حلوة"، أجمل فتيات القرية وأكثرهن فتنة.

وفي الطرف النّقيض من هذه الشخصيات الملتصقة بأرضها، والتي يتجاوز الكاتب، من خلالها، دور الفرد إلى الجماعة(21)، يتجلّى "العواونة" بوصفهم نموذجاً للقوى المضادة للقيم الإنسانية والوطنيّة، والغارقة في مستنقع العمالة للمحتلّ بوجهيه: البريطاني والصهيوني.

 

والرواية، بالإضافة إلى ذلك، تدين جيوش الإنقاذ العربيّة، وتصفها بالعجز وباعتمادها قيادات فلسطينية من الوجهاء والإقطاعيين المعروفين بخيانتهم. لكنّها، في الوقت نفسه، تقدّم صورة مشرقة للمقاتل العربي في صفوف هذه الجيوش، من خلال شخصيتي الشاويش المصريّ حسن والجندي السّوداني مجيد، اللذيْن اختارا البقاء في القرية للدفاع عن أرضها بعد انسحاب وحدتهما العسكرية منها.

 

والروائي لا يغلق محكيّه على نفسه، بل يشرعه باتجاه المستقبل الذي يستمدّ قيمته من الماضي الكفاحي لفلاّحي القرية، مؤكّداً استمرار ما قام به الآباء من دور في مواجهة الاستيطان، إذ عندما كانت النسوة غارقات في ندب شهداء القرية، أخرجت مريم، زوجة الشهيد عبد الله، مفتاح بيتها ثمّ وضعته في كفّ صغيرها محمود الذي دقّ به بندقية أبيه، فسكتت النسوة "أخذن يمسحن دموعهن، وهنّ يراقبن الطفل والبندقية والمفتاح"، الأقانيم الثلاثة التي تبدأ بها خطوات العودة إلى الأرض المفقودة.

 

"صيادون في شارع ضيّق":

يرصد جبرا إبراهيم جبرا في روايته: "صيادون في شارع ضيّق"(1980) فترة ساخنة من حياة بغداد أواخر الأربعينيات، ويلتقط منها ما رأى أنّه يمثّل شرطها التاريخي، أو ما ينمذج هذا الشرط بوصفه جزءاً من واقع عربي كان يمور بالمتناقضات والصراعات السياسية والطبقية آنذاك.

 

وعلى الرّغم من أنّ ما هو فلسطيني في الرّواية لا يشغل سوى مساحة ضئيلة جدّاً من مادّتها الحكائية، فإنه يضارع المكانة التي يحوزها ما هو عربي. وفي مواضع غير قليلة من هذه المادّة يستمدّ الأخير مكانته من تلك المفاصل التاريخية التي كانت تحكم مسيرة الأول، وإلى الحدّ الذي يمكن القول معه أنّ جبرا لا يفصل بين ما هو سياسي في القضية الفلسطينية وما هو طبقي في أقطار الوطن العربي الأخرى، ويرى أنّ الاثنين معاً محكومان بطبيعة البنى السياسية ـ الاجتماعية القائمة في الواقع العربي وأنّهما سيؤولان إلى ما هو أفدح ممّا وصلا إليه، آنذاك، إنْ لم تتم إعادة النظر، من المثقّفين العرب على نحو خاص، بمكوّنات الوعي العربي التي أدّت إلى ضياع الوطن الفلسطيني من جهة، وإلى تسيّد القوى الهجينة من بقايا الإقطاع والبرجوازية واجهة الفعل في المجتمعات العربية بعد أن أنجزت هذه المجتمعات استقلالها الوطني من جهة ثانية.

 

يرتدّ الزّمن الواقعي في الرّواية، على المستوى الفلسطيني، إلى أيّام الغضب والألم كما يصفها "جميل فرّان"، الشخصية الرّئيسة في الرّواية، أيّام الإضراب الستّيني المشهور الذي شهدته فلسطين قبل اندلاع الثّورة الكبرى سنة 1936 احتجاجاً على تدفّق الهجرات الصهيونية على مسمعٍ ومرأى من حكومة الانتداب البريطاني، وعلى قيام المستوطنين بتسليح أنفسهم لتنفيذ عمليات وحشية ضدّ العرب الفلسطينيين، تمكّنهم من ابتلاع الأرض ومن طرد سكّانها وأصحابها الشرعيين. كما ترتدّ إلى أيّام "من عام 1946، حين أزيحت الأجسام المهشّمة لمئة رجل وامرأة من تحت أنقاض جناح من أجنحة فندق الملك داوود نسفه الإرهابيون الصهاينة، وسارت الجنائز في موكب تلو موكب عبر الشوارع الحزينة في المدينة المنهكة"، ثمّ إلى الأيّام القليلة التي سبقت الإعلان عن قيام "الدولة"، لتصوّر أساليب السيطرة على معسكرات الجيش البريطاني التي اتّبعها المستوطنون. الذين كانوا "يلقون براميل الـT.N.T في الأسواق ويقتلون حوالي خمسين شخصاً في كلّ مرّة"، والذين وجّهوا حقدهم، فيما بعد، إلى بيوت الفلسطينيين لتدميرها أولاً، ولخلق الرّعب والفوضى بين سكّانها لإجبارهم على مغادرة أراضيهم ثانياً. لكنّها، أي الرّواية، لا تنسى في غمرة ذلك تصويرها للمقاومة الباسلة التي أبداها  الإنسان الفلسطيني في الدّفاع عن بيته وأرضه، وفي تصدّيه للمحاولات المسعورة التي كانت تستهدف اقتلاعه منهما.

وتتجلّى قضية "الأرض" في الرّواية من خلال بطلها الفلسطيني جميل فرّان الذي غادر مدينته القدس، بعد نكبة وطنه سنة 1948، إلى بغداد للتدريس في جامعتها، والذي ظلّ مولعاً بالماضي البهيّ والمؤلم للأرض التي أنفق فيها طفولته وجزءاً من شبابه.

 

كانت القدس، بالنسبة إليه، المدينة الوحيدة التي تستحقّ أن يحمل الإنسان صورتها في أقصى مكان من أعماق نفسه، ولذلك فقد ظلّت هذه الصورة مقيمة في تفاصيل حياته، لم تنل قسوة الغربة شيئاً من بهائها، ولم تصرفه ظروف الحياة الجديدة عن التعلّق بها والحنين إليها دائماً.

وعلى عادة الكثير من النتاج الرّوائي الفلسطيني تدين الرواية جيوش الإنقاذ العربيّة التي دخلت فلسطين بعد قرار التقسيم، والتي أسهمت، في رأي جميل فرّان، في تحويل الفلسطينيين إلى لاجئين في خيام. وتصف كيف تحوّلت قضية أولئك من قضية سياسية إلى قضية "إعاشة" فقط تستهدف تصنيفهم في فئات، ليتمّ منحهم "بطاقات مؤن" ينال كلّ لاجئ بموجبها "بعض الدقيق ومسحوق الحليب وبضعة (أونسات) من السمن النباتي".

 

"العشاق":

إذا كانت رواية رشاد أبو شاور "أيّام الحبّ والموت" قد انتهت باحتلال المستوطنين الصهاينة لقرية "ذكرين" الفلسطينية عشية قرار التقسيم، وبنزوح فلاّحي هذه القرية، فإنّ روايته الثالثة" "العشاق"(1977) تعاين حياة أولئك الفلاّحين في المخيّمات التي استقرّوا فيها حول مدينة "أريحا"، وترصد نضالهم الوطني في مرحلة ما قبل الهزيمة الحزيرانية بقليل وخلالها، كما تصوّر مفردات الحياة الشعبيّة الفلسطينية في أدقّ تفاصيلها غنىً وخصوبة.

 

والرواية تشكّل لوحة تكاد تكون مميّزة من النتاج الرّوائي العربي عامة، وليس الفلسطيني وحده، عن علاقة الفلسطيني بالأرض، وتستمدّ تلك اللوحة جمالياتها الخاصّة من خلال محورين: السّرد والشخصيات، اللذين يندغمان معاً في وحدة عضوية متماسكة تسمح للمرء بوصفها بأنها "رواية أرض" بالمعنى التامّ للمصطلح.

تقدّم الرّواية ثلاثة أجيال فلسطينية تبدو علاقتها بالأرض شكلاً من أشكال التوحّد بالمطلق أو بالمثال الذي رفعته الطبيعة فتجذّر في دماء الجميع وخلاياهم، والذي لم يكن يعني لهم ماء وتراباً وأشجاراً، بل كائناً حيّاً يتحرّك ويفيض بالأحاسيس والمشاعر.

 

ينتمي إلى الجيل الأول الذي شهد النكبة واكتوى بأوارها، والذي تعلّم بخبرته الطويلة أنّ الأرض وحدها هي المعادل الحقيقي للحياة، ثلاث شخصيات: أبو خليل، وأبو نعمان، والأب الياس. وإذا كان عزاء تلك الشخصيات في غربتها هو وجودها، بعد النكبة، داخل الأرض الفلسطينية نفسها، فإنّ هذا العزاء هو الذي دفعها إلى إعمار الأرض الجديدة التي استقرّت فوقها بعد أن فقدت هذه الأرض نضارتها بسبب ما تعاقب عليها من غزاة، كانوا يحصدون كلّ ما هو أخضر في طريقهم.

أمّا محمود وحسن فينتميان إلى الجيل الفلسطيني الثاني الذي غادر أرضه يافعاً، لكنّ ذكرياته فوق هذه الأرض كانت تشدّه إليها دائماً، كما كانت زاده في غربته عنها، ودافعه النّضالي لمقاومة الاحتلال الذي اقتلعه منها.

 

والرواية، وهي تؤكّد علاقة الأجيال الفلسطينية الثلاثة جميعاً بالأرض وتعبّر عنها على نحو يكاد يكون خاصاً بها من مجمل النتاج الرّوائي الفلسطيني، تتميّز من ذلك النتاج بتثمينها لعلاقة الفنّ بالمقاومة ولدوره في معركة الفلسطيني من أجل عودته إلى الأرض التي اغتصبها الاحتلال منه. وهي تطرح تلك العلاقة من خلال الجيل الفلسطيني الثالث كما يمثله الشابّ محمّد، الذي كان الفّن بالنسبة إليه "الصراط الذي سأسير عليه إلى الوطن"، والذي كان يغنّي على عوده أغنيات شعبية فلسطينية ليذكّر الناس بأرضهم، وليدعوهم بها إلى النضال من أدجل العودة إليها، مؤمّلاً أن يغنّي يوماً في عرس فلسطين الكبير "يوم تعود واحدة".

وممّا تتّسم به الرواية أيضاً عرضها الواقع الفلسطيني في الضفّة الغربية بعد الاحتلال "بحياد يكاد يكون موضوعياً.. فللمرّة الأولى تقريباً نجد الفلسطيني المستغَلّ، والفلسطيني المتعاون مع المخابرات، والفلسطيني المتخاذل"(22). وإذا كانت الشخصيات التي عرضنا لها تمثّل الجانب الأوّل من هذا الحياد، فإنّ المختار يمثّل جانبه الثاني، على حين يمثّل باسم العارف وأبوه جانبه الثالث. باسم، لانشغاله بقضاياه الخاصّة عن المقاومة، وأبوه لأنّه لم يكن يفكّر سوى بإضافة المزيد إلى بيّارته الكبيرة وبيته الأنيق اللذين امتلكهما في أريحا.

 

"الباشا":

يثقل أفنان القاسم روايته: "الباشا"(1977) بحشد من الأحداث والشخصيات(23)، رغبة منه كما يبدو في تقديم صورة جامعة مانعة  للمجتمع(24) الذي تتحرّك فيه تلك الأحداث والشخصيات، والذي يُواجه سكّانه الانتداب البريطاني والقوى الرّجعية الفلسطينية الهجينة من الإقطاع والبرجوازية، خلال مرحلة تمتدّ من الأيّام القليلة التي سبقت قرار التقسيم إلى النكبة.

 

تقدّم الرّواية ثلاث صور متضّادة ومتنافرة لعلاقة الفلسطيني بالأرض: أولى تمثّل الشخصية الفلسطينية المتمسكة بأرضها والمدافعة عنها حتّى الموت، وثانية تمثّل الشخصية الجاحدة بهذه الأرض والباحثة عن ابتلاع المزيد منها حيناً، وعن المزيد من ذهب المستوطنين الصهاينة مقابل بيعها لهم حيناً آخر، ثمّ الشخصية المنعزلة عمّا يعصف بمجتمعها من نكبات متسارعة وضاربة.

 

ينتمي إلى الصّورة الأولى ثلاث شخصيات فلاّحية: عوّاد، وحمدان، وأبو زينة، تبدو الأرض بالنسبة إليها تعبيراً عن القوّة التي تمنح الفلسطيني ثقة عارمة بالانتصار على أشدّ الأعداء عتيّاً، حتّى لو كان هؤلاء هم الشياطين أنفسهم. والرّواية تدحض، من خلال تلك الشخصيات، دعوى الحقّ التاريخي الذي تذرّعت به الحركة الصهيونية لقيام دولتها فوق أرض فلسطين. تلك الأرض التي وقفت إلى جانب أصحابها الشرعيين، العرب، وقت المحن على امتداد التاريخ  لأنّها كانت تحبّهم كما يحبّونها، ولأنّها كانت أرض أجدادهم مثلما هي أرضهم الآن.

 

والرواية لا تكتفي بإضاءة الصّورة الأولى، أي التي تجسّد ارتباط الفلسطيني بالأرض، من خلال مكوّن الشخصيات فقط، بل توسّع قطر الدائرة التي تغمرها تلك الإضاءة من خلال مكوّن السّرد أيضاً، وهي تتفوّق أحياناً، عبر هذا المكوّن، في تعبيرها عن ذلك الارتباط، لأنّها تدغم بوساطته طرفي العلاقة، الفلاّح والأرض، إلى الحدّ الذي تجعل معه من الطرف الثاني كائناً يتحرّك ويتعاطف مع نظيره بمشاعر وأحاسيس فيّاضة بما هو إنساني، فالأرض تتنفّس و"تخفق كالبدن" حزناً على إعدام الشهيدين أبي سنّة وعبد اللطيف، وتتنهّد مواسية لتعب الفلاّحين، وتبدو "نشطة كجسد خارج من الماء"، لفرحهم، و تشعر بالأسى والمرارة وهي تودّع بقرات الفلاح العجوز عوّاد التي سرقها رجال الباشا.

 

وممّا ينتمي إلى الصورة الثانية، أي الفلسطيني الجاحد بالأرض، شخصيتا الباشا والبيك الهاشمي الإقطاعيتان، وعلى الرّغم من أنّ هاتين الشخصيتين تبدوان متنافرتين، فإنّهما تلتقيان في استغلال الفلاّحين واستعبادهم وفي خيانتهما للأرض والتفريط بها.

وكما تبرع الرّواية في وصف الطبقة الإقطاعية وفي إدانتها أيضاً، تبرع بآن في وصف التناحر الفارغ الذي كان ناشباً بين زعامات الرّجعية الفلسطينية في المرحلة التي ترصدها، فالباشا والبيك لا يتخاصمان من أجل مصلحة البلد، بل تحقيقاً لمكاسب خاصّة. الباشا يلهث من أجل الاحتفاظ بمنصب الباشاوية، والبيك يطأطئ رأسه للخواجة الصهيوني الذي يعده بحيازة هذا المنصب له.

 

ولعلّ الرواية هي أوّل رواية فلسطينية تقدّم نموذجين متعارضين للشخصية اليهودية: الأوّل يمثّل هذه الشخصية بوصفها إنساناً تضغطه التناقضات الطبقيّة مثلما تضغط الفلاّح الفلسطيني ويعيش إلى جانب هذا الفلاّح دون عداء لـه أو كراهية أو طمع بأرضه، والثاني يمثّلها بوصفها حاقدة، طامعة بأرض الفلسطيني، وممتلئة بأفكار الصهيونية ومعبّرة عن دعاواها وسياساتها بدقّة تامّة.

 

والشّخصيات النضالية في الرّواية عامّة لا تقنع القارئ كثيراً بوصفها كذلك، فالأسطى حسن الذي يقف في طليعة تلك الشخصيات يبدو عاجزاَ عن تنفيذ مهمة مأمور اتصال في البلد، كان الشهيد أبو سنّة قد أوكلها إليه قبل إعدامها بشهرين، ليس لأنّه ينخدع بمن يعتقد أنهم عناصر جيّدة ثمّ يكتشف عمالتهم فحسب، بل لأنّه يدعو الفلاّحين إلى التجمّل بالصبّر دائماَ حتّى في أقسى حالات تعرّضهم للاستغلال والقمع، وينظر إليهم بوصفهم قطيعاً من الجهلة، لا شيء يصلهم بقضية بلدهم سوى المصلحة الخاصّة لكلّ منهم: "يجب أن ندغدغ أحلام عمّال المصنع وعمال الأرض بإمكانية تحسين ظروفهم المعيشية.. هكذا يفهمك القرويّ من خلال مصلحته". وغير خاف أنّ الثّورة التي تكون مواربة على هذا النحو لا تحمل بذور فنائها في داخلها فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى قصور في وعي قادتها لمعنى الثورة أيضاً، التي تحرص عادة على كسب الفئات الكادحة جميعاً مهما كانت درجة وعيها، و التي تستطيع تحويل "الجهلة" إلى قوّة حقيقية حيّة ونشطة في مجتمعها، من خلال تحويل وعيها العفويّ بالظلّم الذي تعانيه إلى وعي منظّم أو إلى وعي واعٍ بالظلم إذا جاز التعبير.

 

والروائي لا يقع فريسة ذلك التوّهم السابق وحده، بل فريسة المفارقة الكبيرة أيضاً بين الإهداء الذي يصدّر به روايته والذي يتوجّه به إلى الفلاحين المناضلين والدّور الانفعالي الذي يرسمه لهم على امتداد الرّواية، إذ يجعلهم يهتفون بحياة عدّوهم الباشا ويصدّقون أكاذيبه، ويفعلون الأمر نفسه مع البيك الهاشمي في زمنين لا يفصل بينهما سوى دقائق معدودات، ولذلك تبدو المواجهة التي يضرمها بين هؤلاء الفلاّحين وأعدائهم في خاتمة الرّواية مثقلة بالتفاؤل الساذج. إنّ حفاوة الروائي، كما يبدو، بتقديم مقولات أكثر من اهتمامه برسم شخصيات روائية تجسّد هذه المقولات أو تعبر عنها من خلال فعلها في حركة المجتمع الذي تنتمي إليه أربكه كثيراً في جعل شخصياته كائنات حيّة من لحم ودم، كما أوقعه في التناقض بين ما تطمح إليه هذه الشخصيات وما هي عليه في الواقع.

 

" البحث عن وليد مسعود":

بتتبّع النتائج النقدية للدراسات التي عنيت برواية جبرا: "البحث عن وليد مسعود" (1978) يخلص المرء إلى أنّ الأغلب الأعمّ من تلك النتائج لم يلامس سوى السطوح الخارجية للمحكي الروائي، وقلّما استبصر ظلاله أو غاص على الجوهريّ فيه. فعلى الرغم من أنّ الرواية، في الظاهر من ذلك المحكيّ، توهم بقطيعتها مع القضية الفلسطينية، فإنّها، في العمق منه، تنفي تلك القطيعة، بل تؤكّد صلتها الوثيقة بالقضية لسببين: يتعلّق الأول بمعنى اختفاء بطلها وليد مسعود، والثاني بما تثيره هذه الشخصية من إشكاليات داخل وسطها الاجتماعي، والتي لا يمكن دراستها إلاّ بوصفها شخصية فلسطينية أساساً، تفقد معنى انتمائها إلى الحياة باقتلاعها من أرضها، وتعاين الوجود الإنساني، أو تفلسف نظرتها إليه من خلال علاقتها بوطنها، فتعي حركة هذا الوجود باقترابها من الوطن، وتفقد ذلك الوعي بابتعادها عنه(25).

ولئن كان ثمّة ما يوحّد تلك الشخصية مع شخصيات جبرا الفلسطينية السابقة، فإنّ ثمة ما يميزها منهما، هو فائض القلق والتمرّد(26) الذي يجعل منها شخصية فلسطينية بامتياز، ومع أنّ الرواية لا تقدّم مادة وافية عن علاقة تلك الشخصية بالأرض، إلاّ أنّ ثمّة ما يجعل منها نصّاً إبداعياً مميّزاً من النتاج الرّوائي العربي عامّة، والفلسطيني خاصة، إذ تتجاوز الأرض في الرواية معناها المألوف لتصبح "مفهوماً " يتصل ببحث عن معنى الحياة نفسها، أو عن معنى وجود الإنسان في الحياة. فاختفاء وليد مسعود وما يثيره من أسئلة داخل وسطه الاجتماعي، يستمدّ قيمته ومعناه من كونه توجّهاً إلى وجود حقيقي، أو من كونه مواجهة للقوى التي تضطرم داخل النفس، والتي لا يمكن الخلاص منها بغير الاتصال بالجذر، أي الأرض.

 

وبهذا المعنى، فإنه يمكن عدّ اختفاء وليد مسعود صورة من صور الانبعاث التمّوزي الذي يعني قيامة الحياة من الموت، والذي تظلّ النفس بغيابه معلّقة بوهم الحياة وليس بالحياة نفسها، وتستعيد بحضوره غيابها المؤّقت لتتشكّل من جديد أكثر قدرة على مواجهة هذه الحياة. فوليد الذي كان "يحاول أن يجد الأرض التي يعيد فيها غرس جذوره" بعد أن فقد وطنه، لم يكن يفعل ذلك إلاّ لأنه كان يؤمن بأنّ الانتصار على القوى التي تضغط الفلسطيني في غربته لا يمكن أن يتحققّ بغير التوحّد مع الأرض، مع جبال القدس التي تمتلك "قوى تستطيع تغيير العالم" كما يقول.

 

لقد كانت فلسطين حاضرة في نفس وليد على الرّغم من ابتعادها عنها، ففي إيطاليا، البلد الغريب، لم يكن ثمّة ما يشدّه إلى روعة الفنّ الذي يخلب نظر الرّائي إليه، إلاّ ما "يشير إلى بلدي، إلى بيت لحم والقدس وطبرّيا، إلى فلسطين بسهولها وجبالها وينابيعها"، التي كان يعرفها " شبراًَ شبراًَ، كما لم يعرف أيّ أرض أو أيّ جسد" بتعبير مريم الصفّار عنه، والتي كان مستعداً لدفع حياته من أجلها إن كان لها أن تحيا بموته، بتعبيره هو. وإذا كانت علاقته بالأرض تستمدّ قيمتها من بحثه عن معنى الحياة، فإنّ علاقة ابنه مروان "الفلسطيني حتّى جذور شعره" تعبر عن حضورها في الرّواية من خلال تشبّث مروان بالبقاء فوق هذه الأرض، ومن ثمّ الانخراط في صفوف المقاومة المسلّحة التي تكفل للفلسطيني معنى ما يبحث وليد عنه.

 

ولعلّ أبرز ما يميز هذه الرواية من روايات جبرا السابقة، التي عنيت بـ"الانتلجنسيا" الفلسطينية فحسب، تجاوزها ذلك إلى الطبقة الفلاّحية:"ثوّار القرى الفلسطينية.. الذين في النهاية سيغيّرون كلّ شيء"، والذي يمنحهم جبرا مكانة لافتة للنظر في الرواية،من خلال حفاوته الواضحة بمنطوقهم، وبعاداتهم الاجتماعية وتقاليدهم بآن.

 

"بير الشؤم":

تتابع رواية فيصل حوراني:"بير الشؤم" (1979) ما دأب عليه معظم النتائج الروائي الفلسطيني من حفاوة واضحة بفترة بعينها من التاريخ الفلسطيني الحديث، أي الأيّام القليلة التي سبقت الإعلان عن قيام دولة الاحتلال الصهيوني.

 

وعلى الرّغم من أنّ الروائي لا يسمّي القرية التي تتحرك فيها الأحداث والشخصيات، فإنّ القارئ لا يحتاج إلى عناء كبير ليكتشف أنها قرية الروائي نفسه القريبة من غزّة، ليس لأنّه "يصدر عن خبرة مباشرة"(27) بالمكان فحسب، بل لأنّ المادّة الحكائية التي يقدّمها، تُسرَد من خلال راوٍ تبدو صلته بالأحداث وشيجة للغاية.

 

والرواية لا تتحدّث عن علاقة الفلسطيني بالأرض على نحو مباشر، لكنّها تمجّد هذه العلاقة من خلال تصويرها موقفين متناقضين من الأرض: يتمثّل الأوّل بمواجهة فلاّحي القرية للمستوطنين الصهاينة الطامعين في أرضها وفي غيرها من أراضي القرى المجاورة لها، والثاني بالموقف النقيض الذي كان يتجّنب هذه المواجهة ويؤثر سلامته على ضياع الأرض والوطن. وهي تغلّب الموقف الأول، أي الجانب النّضالي المشرق من حياة الشعب العربي الفلسطيني في تلك المرحلة. فعلى الرّغم  من حال الفقر التي كانت تستبدّ بفلاّحي القرية، الذين كانوا يعانون الضرائب الباهظة وكانوا "بالكاد يجدون الخبز"، فإنّ ذلك لم يثنهم عن بذل القليل الذي كانوا يملكونه لشراء الأسلحة استعداداً للدّفاع عن أرضهم ووجودهم.

 

ويستخدم الروائي للتعبير عن ذلك مكوّنين: الشّخصيات والسّرد. وتُعدّ الرواية، من خلال المكّون الأول الرواية الفلسطينية الأولى التي تصوّر رجل الدّين مناضلاً عملياً، يقف إلى جانب قضية وطنه ويدافع عن أرضه. فالشيخ حسن، إمام القرية يواجه خوف المختار من تعريض القرية للخطر بتلبية النجدة التي طلبتها "بيت دارس"، القرية المجاورة، دون أن تثنيه تهديدات المختار الذي كان يقول له: "يا معي، بتخسر كلّ شيء".

 

وعبر المكوّن الثاني تبدو الأرض المطهر الوحيد الذي يخلّص هذا الإنسان من قلقه، ويعيد إليه صفاءه، فـ"بارعة" التي تلوك ألسنة القرية سمعتها تحسّ، عندما تلتصق بالأرض"إحساساً غير واعٍ بأنّها طاهرة متحرّرة، وتسمع وشوشات السنابل البريئة فتندمج فيها، وهناك كانت تطلق العنان لعواطفها الأنثوية التي عودّتها حياتها المضّطربة القاسية أن تكبتها وراء مظهرها السّاخر".

 

والرواية لا تكتفي برصد أطماع المستوطنين الصهاينة في أرض فلسطين فحسب، بل ترصد أحياناً جانباً من همجية أولئك ووحشيتهم وتشير، بآن، إلى الدّور الذي لعبته قوّات الانتداب البريطاني في حمايتهم وفي الصمت عن جرائمهم التي كانوا يرتكبونها بحقّ سكّان القرى الفلسطينية.

 

وعلى عادة الكثير من النتاج الرّوائي الفلسطيني تغمز الرّواية من جيوش الإنقاذ العربيّة التي دخلت فلسطين بعد قرار التقسيم، فالوحدة العسكرية التي أرسلتها الهيئة العليا لهذه الجيوش إلى القرية لنجدتها تصل متأخرة، وعندما يسيطر المجاهدون على معسكر "وادي الصّرار" تنسحب هذه الوحدة" فجأة وبغير ما سبب مفهوم"، وتقوم فيما بعد، بجمع سلاح المجاهدين منبّهة: " عمليات بدناش". أمّا قيادة الجهاد في القدس، أي الجانب الفلسطيني من تلك الهيئة، فلم تكن هي الأخرى أحسن حالاً، فالأستاذ أحمد، أحد مسؤولي القيادة، لا يصدر قراراً بتعيين المختار قائداً لفصيل المجاهدين في القرية لضرورات كفاحيّة، أو بدافع الوطنّي الغيور على مصلحة بلاده، بل لغاية تخصّه، فقد كان مركزه في القيادة مزعزعاً " ويريد أن يثبته بتقديم مزيد من الخدمات" لمن يستطيعون في تقديره تعديل هذا المركز.

 

"عصافير الشّمال":

تتميّز رواية علي حسين خلف: " عصافير الشّمال (1980) من مجمل النتاج الروائي الفلسطيني بتغطيتها لمساحة زمانية طويلة، تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، زمن الحملة التي قادها إبراهيم باشا على بلاد الشّام لتوسيع إمبراطوريّة أبيه محمّد علي، وتصل إلى النصف الثاني من سبعينيات هذا القرن. وهي تشير، في تضاعيف تلك المساحة، إلى عدد من المفاصل التي كانت تحكم سيرورة التاريخ  الفلسطيني بشكل خاصّ وتاريخ المنطقة بشكل عام، والتي تتمثّل، كما يرى الكاتب، في الاحتلال العثماني وظروف الفقر و الجفاف التي كانت تفتك بسكّان فلسطين آنذاك، ثمّ الانتداب البريطاني والغرامات الباهظة التي كان يفرضها على هؤلاء السكّان بعد كلّ ثورة يقومون بها احتجاجاَ على الصّمت الذي كانت تبديه سلطاته حيال الهجرات الصهيونية، وبيع الأسر الإقطاعيّة العربية، آل سلام اللبنانيين في الرّواية، أراضي فلسطين للمستوطنين الصهاينة ومنظماتهم، ثم قيّام دولة الاحتلال سنة 1948، إلى الإعلان عن ملء الفراغ في الشرّق الأوسط، وحرب السويس.

 

تتحرّك أحداث الرّواية في قرية فلسطينية، يسميّها الروائي: "عبّاد شمس"، تطلّ على المتوسط بالقرب من حيفا، بيوتها طينية واطئة تبدو "كأنها فزّاعة عصافير في أرض امتلأت بالبساتين وحقول القمح"، ويعتمد سكّانها على ما تنتجه هذه الأرض :" منها يأكلون ويصبّون قوالب اللبن ويفتحون مقالع الحجارة".

 

والرواية تُعنى بمواجهة سكّان تلك القرية لسلطات الاحتلال الصهيوني الطّامعة بتحويل أراضي قريتهم إلى مستوطنة صهيونية، بعد ثمان وعشرين سنة من ابتلاع هذه السلطات الكثير من أراضيهم سنة 1948. وغير خاف ارتباط تلك المواجهة بانتفاضة الثلاثين من آذار سنة 1976، أي :"يوم الأرض"، على الرّغم من أنّ الروائي لا يشير إلى هذه الانتفاضة الشعبيّة الباسلة.

 

ومن أبرز السمات المميزة للرواية، في هذا المجال خاصة، انتماؤها إلى تعبير "رواية الأرض الفلسطينية" انتماء تاماً ، وكونها بآن "إضافة موضوعية"

(28) ومهمة له، ووثيقة شاملة لما ارتكبته سلطات الاحتلال الصهيوني، في عقد السبعينيات من تدمير وإبادة جماعية وتهجير بحقّ عرب الشّمال الفلسطيني الذين كانت تطمح إلى جعلهم " في عداد السّواح وغير المقيمين".

 

ومع أنّها، أي الرواية، تضمّ شخصيات وفيرة العدد، تختلف انتماءاتها الاجتماعية والمعرفية والدّينية، إلاّ أنّها تصوّر علاقة الفلسطيني بالأرض من خلال الطبقة الفلاّحية فحسب، ثمّ تحوّل الحسّ الفطريّ الذي يجسّد علاقة هذه الطبقة بالأرض إلى وعي مقاوم، يؤثر الموت فوق تراب الأرض على الحياة بعيداً عنها.

إنّ الأرض، في الرّواية، لا تبدو شيئاً جامداً، بل تعبيراً حيّاً عن الكيان الجسدي والانفعالي للشخصيات المرتبطة بها، فهي تشكّل بمفرداتها قامات هذه الشخصيات إلى الحدّ الذي يصبح فيه أحدهما تمثيلاً للآخر، أو كناية عنه، ففلاّحو القرية " كالحشائش كلّما يقصفونها ـ أي الصهاينة ـ تنمو مرّة أخرى"، وحواجبهم تبدو كأجمة من شجر الصنوبر تشتعل بينها " ثنيّات الغضب كأثلام الأرض" عندما يدهم جنود الاحتلال قريتهم لاقتلاعهم منها.

 

لقد كان توحّدهم بالأرض تعبيراً عن إيمانهم المطلق بأنّ التفريط بحفنة واحدة من ترابها، يعني بداية الطريق إلى حياة لا طعم فيها ولا رائحة، وربّما إلى موت محققّ، ولذلك لم يكن غريباً أن تكون هذه الأرض وحدها الحاضرة في هتافاتهم عندما يشيّعون جثمان شهيدهم توفيق السعيد: " الليلة عرسك.. الأرض اتحنّت.. الأرض بنرويها بالدمّ"، وأن تكون دافعهم إلى رفض الإغراءات التي يقدّمها لهم "نعيم الجرس"، المرشّح في الانتخابات، للسكن في أرض أخرى أكثر عطاء كما يزعم:" لا نريد بيتاً في تلّ أبيب أو عبّاد شمس بل. سنبقى في القرية حتّى لو أكلنا التراب"، وأن تدفع أيضاً "طارق أبو وردة"، حلاّق القرية، وزوجته إلى القول:" لن نخرج من هنا إلاّ جثّة هامدة" عندما رفضت سلطات الاحتلال منحهما رخصة لإتمام البناء الذي كانا يشيّدانه فوق أرضهما.

وتتعرّض الرّواية للتمييز العنصري الذي تمارسه سلطات الاحتلال الصهيوني، ليس بين العرب والمستوطنين الصّهاينة فحسب، بل بين هؤلاء المستوطنين أنفسهم أيضاً:"في الأسفل نحن، وفوقنا الطوائف الشرقية، وفوق الكلّ الاشكناز"(29)، كما تصف وحشية تلك السلطات وهمجيتها ضد‍ العرب الفلسطينيين الرّافضين لمشاريعها التوسعية، الذين تسميّهم وسائل إعلامها: "مجموعة من المشاغبين"،و تناهض دعوى الحقّ التاريخي الذي زعمته الحركة الصهيونية في أرض فلسطين، وتكشف عن أساليبها الأفعوانية التي كانت تتبعها لتهويد هذه الأرض.

 

هوامش وإحالات:

(1) ـ انظر، على سبيل المثال:خوري، الياس. "تجربة البحث عن أفق، مقدّمة..". ص(54)،و:اليوسف، يوسف سامي."رعشة المأساة..".ص(39).

(2) ـ انظر: الأشتر، عبد الكريم. "تعريف بالنثر العربي الحديث".ص(285). ومن اللافت للنظر أنّ الباحث ما يلبث، بعد عدة صفحات، أن يؤكد أنّ الخطين اللذين يتنازعان حركة السرد في الرواية يحيل كل منهما إلى الآخر "بأسلوب محسوب بمقدار، موصول على أساس، متناغم تناغم ساحراً"‍‍!!

(3) ـ انظر: خوري، الياس. "تجربة البحث عن أفق..". ص(54).

(4) ـ انظر : أبو مطر، أحمد. " الرواية في الأدب الفلسطيني". ص(250).

(5) ـ القاسم ، أفنان. " البنية الرّوائية لمسار الشعب الفلسطيني".ص(61).

(6) ـ اليوسف، يوسف سامي. "رعشة المأساة". ص(28).

(7) ـ المرجع السابق. ص(33).

(8) ـ عاشور، رضوى. " الطريق إلى الخيمة الأخرى". ص(76)

(9) ـ يرى أحمد أبو مطر أنّ " فرحات " يمثل الطبقة البرجوازية الفلسطينية. انظر كتابه :"الّرواية في الأدب الفلسطيني". ص(314). من دون أن يقدّم مسوّغاً واحداً لِما ذهب إليه. وغنِّي عن البيان أنّ مجتمع القرية الفلسطينية لم يعرف هذه الطبقة، كما لم يعرفها أي مجتمع قروي عربي آخر.

(10) ـ ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل".ص(63).

(11) ـ  زين الدّين، أمل. "تطور الوعي" .ص(219).

(12) ـ القاسم، أفنان ."البنية الرّوائية لمسار الشّعب الفلسطيني". ص(187).

(13) ـ البحوري، رفيقة. "الأدب الرّوائي عند غسّان كنفاني". ص (92).

(14) ـ انظر: زين الدّين، أمل "تطوّر الوعي". ص(79).

(15) ـ كذا في الرواية، والصواب: " ألم ينتبك".

(16) ـ  انظر: اليوسف، يوسف سامي. "رعشة المأساة". ص(44).

(17) ـ  خوري، الياس. " تجربة البحث عن أفق".ص(71).

(18) ـ أبو مطر، أحمد. " الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (323).

(19) ـ عودة، علي محمّد علي. "الفن الرّوائي عند جبرا إبراهيم جبرا". ص (49).

(20) ـ لوكاش، جورج. " الرواية التاريخية". ص(56).

(21) ـ انظر: زين الدّين. أمل. "تطور الوعي في ..".ص (234).

(22) ـ صبحي، محيي الدّين. "أبطال في الصيرورة". ص(175).

(23) ـ تمتد الرّواية على 461 صفحة من القطع الكبير، مطبوعة بأحرف صغيرة. وللكاتب رواية أخرى بعنوان "المسار" تعالج المرحلة ذاتها و الأحداث نفسها. وقد أثرت دراسة " الباشا" لأسبقيتها في الصدور.

(24) ـ يسمّي الروائي المكان الذي تدور في أحداث الرّواية قرية أحياناً، وبلداً أحياناً أخرى..

(25) ـ ينفي محمّد كامل لخطيب صفة "الفلسطيني" عن شخصيّة وليد مسعود، ويرى  أنّها " لا تعني شيئاً"!!. انظر كتابه: " الرّواية والواقع". ص (46) ومن حقّ المرء أن يسأل ما الذي يتبقّى من هذه الشخصية إذا حذفنا منها تلك الصفة، ثمّ ما الذي يتبقى للرّواية، بعد ذلك، لتقوله؟

(26) ـ يرى محسن جاسم الموسوي أنّ هذا التمرّد" : "يقع في اتجاهه العامّ ضمن صنوف من حالات التمرّد التي تزخر بها الرّواية العربية". انظر كتابه: " الرواية العربية، النشأة والتحوّل". ص (136). وغير خاف أنّ هذه السمة، أي التمرّد، جزء ممّا يؤكّد صفة الفلسطيني بامتياز كما أشرت إلى ذلك في المتن.

(27) ـ عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربيّة ". ص (269).

(28) ـ المرجع السابق . ص (280).

(29) ـ "الاشكناز" يهود أوربة الشرّقية، الذين يتكلّمون لغة " اليديش" المختلطة من العبرية ولهجاتٍ ألمانيّة مختلفة. انظر: سعد، الياس. " الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلّة".ص (10). 

 

 

 

في رواية الأرض المحتلّة

 

لم يكن الاحتلال الصّهيوني لأرض فلسطين مجرّد حلقة متصلة في سلسلة الغزو الاستعماري الذي تعرّضت لـه هذه الأرض، ولم يكن أيضاً مجرّد عدوان عسكري استيطاني، وإنّما كان شكلاً جديداً " من أشكال الوجود العدواني القائم على نفي الآخر بشرياً واجتماعياً واقتصادياً وحضارياً وثقافياً" (1).

 

وعلى الرغم من النجاح الذي حققه فيما يتّصل بالثقافة الفلسطينية، فإنه لم يستطع تكبيلها عن مواجهة ما يحدق بوطنها من أخطار وما يهدّدها من ضياع، فقد تصدّت تلك الثقافة لمحاولات النّفي والإبادة، وغنت آلام الفلسطيني وآماله، واستطاعت أن "تقدم لتواريخ الأدب المقاوم في العالم نموذجاً متقدّماَ.. وعلامة جديدة نادراً ما استطاعت آداب المقاومة في العصور الحديثة أن تحقّق ما يوازيها(2)، كما استطاعت أن تشكّل بآن "إضافة هامّة إلى الأدب العربي المقاوم"(3).

ولعلّه من المهمّ الإشارة هنا إلى أنّ هذه السمات التي وفرتها ثقافة الأرض المحتلّة لنفسها لا تشمل مجمل الأدب الفلسطيني، أو مختلف فنون القول فيه، وإلى أنها تكاد تكون خاصّة بالشّعر كثيراً وبالقصّة أقلّ. فعلى الرّغم من أنّ سنوات الخمسينيات شهدت ولادة الأدب المقاوم داخل الأرض المحتلّة، ومن أنّ أدباء ذلك العقد نهضوا بدور تحريضي بارز في الحياة السياسية، فإن الرّواية لم تقم بالدّور نفسه الذي نهض به الشعر والقصّة إلاّ بعد انطلاقة الكفاح المسلّح، وربّما إلى ما بعد الهزيمة الحزيرانية بشكل أدقّ.

 

غير أنه مهما يكن صحيحاً ما ذهب إليه محمّد البطراوي من أنّ أدب ما بعد الهزيمة في فلسطين لم يُبدِ استجابة كافية لأشكال الحياة جميعاً داخل المجتمع الفلسطيني (4)، وما انتهى محمود شقير إليه من أنّ مستوى ما كُتب " لا يوازي حجم المشكلات التي يواجهها الناس في الأرض المحتلّة"(5)، فإنّ ذلك لا يعني سلباً للجهود التي نهض بها الأدب الفلسطيني الرّازح تحت الاحتلال، والرّواية على نحو خاص، في مقاربة الواقع الفلسطيني بأشكاله المختلفة: السّياسية و الاجتماعية والاقتصادية، لأنّ مشكلات ذلك الواقع كانت " الدافع إلى الكتابة وهي الغاية من الكتابة"(6) عند معظم روائيي الأرض المحتلّة  في المرحلة التي تلت الهزيمة، ولأن قضية الأرض، خاصة، كانت السمة الرئيسية التي ميزت نتاجهم، الذي بدا من خلالها وكأنّه "أناشيد في حبّ الأرض والارتباط بها، كلاً وأجزاء، حتّى لا تتحول الأرض وأصحابها إلى مجرّد ذكرى"(7).

وتجدر الإشارة أخيراً، في هذا المدخل، إلى أنّ نفي عمل اميل حبيبي "سداسية الأيّام الستة" (1968) خارج مصادر هذا الجزء من الدراسة ينطلق من ترجيحي بانتمائه إلى الجنس القصصي، على الرّغم من عدّ الكثيرين لـه عملاً روائياً (8)، ومن توفيقية آخرين بوضعه في مكان وسط بين جنسي القصّة القصيرة والرّواية (9)، لسببين: الأول لاستقلال كلّ لوحة من لوحاته الستّ عن غيرها من اللوحات الأخرى، والثاني لعدم احتوائه أيّاً من عناصر الفنّ الرّوائي، حتّى بالمعنى الحدائي لهذا الفنّ.

 

"حارة النصارى":

تطمح رواية نبيل خوري الأولى :" حارة النّصارى " (1969) (10) إلى ما يشبه التوثيق لتاريخ فلسطين الحديث: ما بين الإضراب الستّيني قبل الثورة الكبرى  سنة 1936 وما  بعد الهزيمة الحزيرانية بقليل، من غير أن يعني ذلك صلتها بالرّواية التاريخية، لأنّها تلتقط من التاريخ مفاصله الكبرى التي كانت تضبط إيقاع الصراع الفلسطيني/ الصهيوني، و التي تجهر برغبة الكاتب المسبقة في التعبير عن الأفعال التي تميّز بطله "يوسف راشد"، أحد أبناء حارة النصارى المعروفة في الجزء القديم من مدينة القدس، الذي رافق الصراع منذ يفاعته، وخاض غماره إلى أن قضى شهيداً في عدوان حزيران 1967.

 

تُعنى الرواية بالدور الذي نهضت به الصّحافة الفلسطينية، مع مطلع الثلاثينيات، في إلهاب مشاعر العرب الفلسطينيين وإثارة نقمتهم ضدّ سلطات الانتداب البريطاني لسماحها بتدفّق الهجرات الصهيونية، ثمّ بالمظاهرات التي عمّت مدن فلسطين وقراها، آنذاك وعرائض الاستنكار التي رفعتها القيادات الوطنية الفلسطينية إلى الهيئات الدّولية احتجاجاً على قيام المستوطنين بتسليح أنفسهم على مسمع ومرأى البريطانيين. وتتوقّف بشيءٍ من التوسّع، عند القرار الذي اتخذته قيادة الثّورة الكبرى ضد‍ّ العرب الذين كانوا يبيعون أراضيهم لأولئك المستوطنين، أو الذين كانوا يقومون بدور الوسيط بين الطرفين، وتُثْبتُ نصّ النداء الذي وجهّه الزعماء العرب، صبيحة الثالث عشر من تشرين الثاني سنة 1936، إلى الثّوار الفلسطينيين لوقف الكفاح المسلّح بدعوى حقن الدّماء وإتاحة الفرصة للتشاور مع الحكومة البريطانية ذات النيّات الحسنة، كما ورد في نصّ النداء، ولا تنسى في غمرة ذلك كلّه إدانة الحكومات العربية، وهجاءها لأنّها ظلّت، كما ترى، بعيدة عن معارك الفلسطيني مع عدوّيه: البريطانيون والصهاينة. وهي تقدّم تلك الإشارات جميعاً من خلال سرد حكائي يتسم بالتقريرية والمباشرة، ويتحوّل في مواقع كثيرة إلى "مقالات خطابية يلقيها الكاتب إلقاء"(11)، ومن دون أن يوفّر لها سوى القليل من خصائص الفنّ الرّوائي.

 

وتتجلّى القضية/ الظاهرة في الرواية من خلال بطلها يوسف راشد، ولكن على نحو نمطيّ وثيق الصلة بالقصّ الشعبي، إذ يغدق الروائي عليه من الصفات، بالإضافة إلى صفة المقاومة، صفات خارجية كالطّول، والقوّة، والبهاء، واجتذاب الآخرين، من غير ما عناية بمكوّناته النفسية والمعرفية التي تجسّد علاقته بالأرض، أو الوطن.

والرّواية، وعلى الرّغم من العيوب الفنية التي تعانيها، تمجّد حبّ الأرض، وتحاول تعزيزه في القارئ الذي تتوجّه إليه، وإن كانت تقدّم لـه مستوى واحداً فحسب، هو المستوى العفوي أو الفطري. وهي كما تمنح شخصية يوسف بطولتها المطلقة، تجعلها بآن الممثلة الأولى والأهمّ في التعبير عن ذلك الحب، وفي وقت مبكّر من حياتها.

لقد كانت أوّل كلمة تسمعها " أسمى" من يوسف": " يجب أن نقاوم" ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره. ولم يكن أيضاً قد تجاوز العشرين عندما أثار حماسة الناس، في حارته للإضراب الستيّني وعلى الرّغم من انقطاعه الطوّيل عن المقاومة، فإن حبّه للأرض ظلّ مقيماً فيه، والدافع لـه إلى الاحتفاظ ببندقيته، مؤمّلاً أن يحين الوقت لاستخدامها في معركة التحرير.

 

ومن الشخصيات التي تجسّد القضية/ الظاهرة في الرواية والد أسمى، وعلى نحو أشدّ رومانسية من يوسف. فعلى الرّغم من أنّه يقول لابنه سمير خلال الإضراب:"أنا وقريتي وكلّ فلسطيني اليوم يدافع عن أرضه وكرامته ومستقبله"، فإنّه لا يحوّل ذلك القول إلى فعل يؤكد من خلاله إيمانه بانتصار الحقّ الذي يثق به :"لا شيء أقوى من الحقّ يا بنيّ".

هذا وطننا. وهذه أرضنا. ولن ينتزعها منّا أحد"، بل يبقيه طيّ الكلام فحسب.

 

" الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل":

حظيت رواية إميل حبيبي الأولى :" الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "(1974)، فور صدورها في كتاب واحد 12)، باهتمام النّقاد العرب وبتقديرهم الكبير أيضاً، فقد عدّها كثيرون عملاً روائياً يكاد نسيج وحده في الرّواية العربية عامة، والفلسطينية خاصة(13)، ودفع إعجاب أحدهم بها إلى القول إنّها: "معجزة روائية، لا رواية فحسب"(14).

 

ومن اللاّفت للنظر أن تقدير أولئك جميعاً للرّواية انطلق من سمة وحيدة فيها لا غير، هي العناصر التي استخدمها الكاتب في بنائها الفنّي، وأنّ عدداً قليلاً منهم تنبّه إلى ما تزخر به من رموز تقف في مقدمتها الظاهرة التي تتناولها هذه الدراسة، أي الأرض في النتاج الروائي الفلسطيني، ولكن على نحو مفارق لمجمل هذا النتاج.

ومن أبرز سمات تلك المفارقة إيغال الرواية في التاريخ الفلسطيني عامة، واكتفاؤها بمفصلين فحسب من ذلك: نكبة 1948، وهزيمة 1967، وتقديمها نموذجاً فلسطينياً جديداً، وعبر منطق سردي جديد أيضاً يتجلّى الأول من خلال السيّرة الذاتية لبطل الرواية "سعيد أبي النحس" في أتون دولة الاحتلال الصهيوني التي كانت تستخدمه عيناً لها، داخل جهازها الاستخباراتي، على أبناء قومه الفلسطينيين، ويعبّر الثاني عن نفسه من خلال استدعاء الروائي لمختلف تقنيات السرد التراثي. ولعل ّ أبرز ما يميّز ما هو سيري في الرواية تجاوزه ما هو خاص في حياة المتشائل إلى ما هو عام، وإلى حد تبدو الرّواية معه وثائق لحياة الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال والمكتوين بجحيمه.

وبتحرير تلك الشخصية، المتشائل، من صورتها المنفّرة والغوص على أعماقها النفسية، يخلص المرء إلى أنّ الفلسطيني في أقصى لحظات ضعفه وأكثرها تجسيداً للخيانة شديدُ الارتباط بأرض وطنه(15)، فالمتشائل يذكر أسماء ما يزيد على سبعين مدينة وقرية فلسطينية، والكثير من أسماء الشوارع والأحياء العربية، ومن تفاصيل الجغرافية الفلسطينية، وإلى حدّ نعاين معه على امتداد الرّواية "التراب الفلسطيني، ونستنشق الهواء الفلسطيني، ونرى البحر والشاطئ، ونتلّمس صلابة الأسوار في عكّا وجمال المراكب في ميناء حيفا، وجلال الحواري العتيقة في القدس القديمة ومهابة الناصرة التاريخية (16)، وعلى نحو يضمر في داخله تعرية لما يُضادّ عروبة الأرض الفلسطينية، التي حاولت سلطات الاحتلال الصهيوني، وما تزال، طمسها، إمّا بإطلاقها أسماء عبرية على قرى ومدن ومواقع مختلفة، كما في تحويلها اسم مرج ابن عامر إلى سهل "يزراعيل"، وعين جالوت إلى " عين حارود"، ونابلس إلى "شخيم"، وإما بإبقائها على ما كان لـه أصل توراتي من تلك المواقع.

 

والرواية تعرّي، على لسان المتشائل نفسه، الممارسات الوحشية التي تقترفها سلطات الاحتلال بحقّ عرب الأرض المحتلّة، الذين كانت تستولي على أراضيهم وتهدم بيوتهم وتشردّهم، وتُلقي بهم مجموعات على الحدود، ثمّ تهددّ كلّ مَن يحاول العودة إلى أرضه بالموت، ثمّ تقوم بقصف مخيمات لجوئهم في الدول العربية المجاورة، سورية ولبنان. أمّا مَن تبقى منهم في فلسطين، فتعاملهم بوصفهم سجناء داخل وطنهم، وعندما يشمّ أحدهم رائحة سجونها الحقيقية يصبح ضيفاً دائماً، "داخل خارج"، وأقلّ ما يواجهه هذا السجين هدم بيته في الخارج، وأقسى أشكال التعذيب وأحطّها خسّة في الداخل، ولا يفلت من ذلك المتشائل نفسه، على الرّغم من تاريخه "الأبيض" في الولاء لتلك السلطات.

 

إنّ الصورة المنفّرة التي ترسمها الرّواية لشخصية المتشائل تؤكّد في وجهها الآخر إحساس تلك الشخصية بالصّغَار كلما سنحت مناسبة ما لتذكيرها بعار الخيانة، كما تؤكّد تَوقْها للخلاص من ذلك العار والتطّهر من آثامه عندما تجد نفسها في مواجهة الصّورة النقيضة لها . لقد أحسّ المتشائل بالعار الرجيم الذي يجلّل حياته عندما التقى الفدائي في سجن "شطّة"، وحار كيف يجيب عندما سأله عن هويته: "كيف أنتسب أمام هذا الجلال المسجّى الذي حين يتكلّم لا يئنّ، ويتكلّم حتّى لا يئن".

 

ومن أبرز ما يميز الرواية فيما يتّصل بعلاقة الفلسطيني بأرضه تأكيدها ذلك الإيمان العارم الذي يغمر الذات الفلسطينية بالعودة إلى الأرض مهما طالت فترة النزوح عنها، فالمرأة اللدّاوية العجوز ثريّا عبد القادر تخبّئ، عند نزوحها سنة 1948، مفتاح بيتها في شقٍّ من الجدار لأنّها كانت "تؤكد لنفسها: غداً أعود"، أمّا "يعاد" الثانية التي يعتقلها جنود الاحتلال من بيت المتشائل فتناديه قائلة :"لا يهمّك، فإنّني عائدة". ويبلغ ولع الفلسطيني بأرضه حدّاً يسوّغ معه فلاّحو قرية "الطوق" عملهم في أراضي "الكيبوتس"(17) الصهيوني بقولهم: " لأنّها كانت حقولنا. أنبتناها وسوف نُنبتها. تحنو علينا كما نحنو عليها. وأمّا هذا الحنّو فقد عجزوا عن مصادرته". ولعلّ ما يعزّز قيمة الرواية، في هذا المجال خاصة، إدانتها غير المباشرة للفلسطيني الجاحد بأرضه والمستسلم لواقع الاحتلال، والذي يتحوّل إلى عامل خَدَمي في قطاعات الدّولة التي تسلبه تلك الأرض، ولا يخجل من استبداله باسمه العربيّ آخر عبرياً، ومن استخدام المفردات العبرية في منطوقه اليومي، ثمّ سخريتها من أولئك الذين يعبّرون عن انضوائهم تحت لواء الاحتلال علانية: "فأنت في كلّ سنة في عيد الاستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدّولة ابتهاجاً، أسبوعاً قبل العيد وأسبوعاً بعد العيد. وتتزين النّاصرة بأكثر ممّا تتزين به تلّ أبيب من أعلام خافقات. وفي وادي النسناس، بحيفا.. يُعرف بيت العربي من بيت جاره اليهودي بأعلام الدّولة الخفّاقة فوق بيت العربي فحسب".

 

"الصبّار":

تُعنى رواية سحر خليفة الثانية(18): "الصبّار (1978) بالحياة اليومية لعرب الضفّة الغربية بعد خمس سنوات من هزيمة حزيران التي مكّنت الاحتلال من ابتلاع ما تبقّى من أرض فلسطين، وكما تصوّر شظف الواقع الذي يعانونه، تدافع، بآن، عنهم وعن سواهم من فلسطينيي الداخل الذين يصفهم فلسطينيو الشّتات وقياداتهم السياسية بالتخلّف عن الرّكب الثّوري وبالاندماج في المجتمع الجديد الذي أفرزته الهزيمة حتّى أنوفهم، بتعبيرهم. وتسّوغ انصراف أولئك عن قضيتهم الوطنية بالضغّوط القاسية التي يعانونها، وبالتعبير الطّارئ على بنية الاقتصاد الذي قلبته سلطات الاحتلال في مجتمعهم رأساً على عقب.

تتتبّع الرواية حياة أسرة إقطاعية غارقة في وهم المكانة التي كانت تتمتع بها قبل الاحتلال ومنقسمة خلاله بين ثلاثة اتجاهات: الأب الذي يمثّل تفسّخ الطبقة الإقطاعية الفلسطينية وتعلّقها بما تدّعي إنجازه من فعل في حركة النضال الوطني، والابن الأكبر عادل الكرمي الذي يهجر مزرعة الأسرة إلى العمل في المصانع الصهيونية، بدعوى أن " للصورة أكثر من بعد واحد"، وليست مسألة وطن أو قضية، ثم الشّابان باسل الكرمي وأخته نوّار اللذان يحاولان التمرّد على انتمائهما الطبقي: الأول بانخراطه في صفوف المناهضين للاحتلال، والثانية بحبّها لصالح، شقيق صديقتها لينة، المعتقل بسبب انتمائه الثوري.

وما يميز هذه الرواية، وفيما يتّصل بالقضية/ الظاهرة، من نتاج الأرض المحتلّة خاصة، ومن النتاج الروائي الفلسطيني عامة، تقديمها لثلاثة نماذج: الفلسطيني المؤمن بأرضه وبقدرتها على النّهوض من الرّماد لمواجهة مغتصبها، وثانياً الفلسطيني الذي ذوّبه الاحتلال في أتون المعيشي ـ اليومي بعيداً عن الأرض وقضيتها، وثالثاً الفلسطيني الجاحد بهذه الأرض، و اللاهث وراء ما هو خاصّ به فحسب.

 

يتجلّى النموذج الأول في الرواية من خلال بطلها " أسامة الكرمي"، الشاب المثقّف العائد إلى وطنه فلسطين بعد خمس سنوات من اغترابه عنه بمهمّة كان تنظيمه السياسي المقيم خارج الأرض المحتلّة قد كلّفه بها. والرواية تفصح عن علاقة أسامة بالأرض، وبوطنه عامة، من الصفحات الأولى فيها، أي مع وصول أسامة إلى مدينة نابلس التي حاول أحد الجنود الصهاينة، عند مشارفها، تغيير أسمها العربي إلى آخر عبري، وهو يستجوب أسامة عن سبب مجيئه إليها :" ـ ولماذا انتقلت أمّك إلى شخيم؟ ـ تعجبها نابلس ـ ولماذا تعجبها شخيم ؟ـ تعجبها نابلس لأنها مليئة بالأقارب ـ ... وماذا ستعمل في شخيم؟ ـ سأبحث في نابلس عن وظيفة".

ولم تكن تلك المواجهة مع الجندي الصهيوني، التي تمسّك فيها أسامة بانتماء نابلس إلى جذرها العربي الذي عرفته منذ أقدم حقب التاريخ الإنساني، الفاتحة الوحيدة التي أكّدت علاقته المخلصة بوطنه فحسب، بل إنّ الأرض نفسها، أيضاً، التي جرّدها الاحتلال الصهيوني من الأغطية الخضراء، والتي أخذت تشغل مساحة الرّؤية كلّها في عينيه، كانت تستنفر توقه العارم إلى تنفيذ المهمّة الموكلة إليه. وعلى الرغم من رفضه اقتراح أمّه العمل مزارعاً كأبيه الذي " جعل من الأرض جنّة"، فإنّ ذلك الرفض كان لـه ما يسوّغه، بل ما يعزّز صلته بالأرض على نحو آخر، كان قد اختاره لنفسه، وأصرّ على تنفيذه، أي : استنهاض الحسّ الوطني الذّابل في الشعب المستكين لما هو معيشي، لأنّه كان يثق بأنّ الأرض التي أنجبت أسلاف هؤلاء اللاهثين وراء خاصّهم فقط لن تضنّ بحبّها المعتاد لهم، و"سيظل فيها أناس يؤمنون بالمستحيل".

وقد دفعه إيمانه هذا بالأرض، وبقدرة شعبه على التطّهر من حال الذوبان في اليومي والطّارئ، إلى قتل أحد الضبّاط الصهاينة، وكانت الأرض وحدها ملاذه عن العيون التي لاحقته، حيث و جد نفسه، دون إرادة منه، بين أحضانها وهو يعبّر لها عن اشتياقه وفرحه العارم بلقائها: "فأنا هنا. وقد عدت. لهذي الصخرة. لهذي الحفرة.. فلتهتزّ الأرض لوقع قدميّ إذا مشيت".

 

"إلى الجحيم أيّها الليلك":

تمتدّ رواية سميح القاسم "إلى الجحيم أيّها الليلك "(1978) على ستّ لوحات يمثل كلُّ منها مرحلة محدّد ة من تاريخ القضية الفلسطينية "(الانشطار ـ الهاويةـ المواجهة ـ المستحيل ـ القتل ـ القيامة)، ويتكوّن بعض تلك اللوحات من مقاطع عدّة، يستقلّ الواحد بحدث بنفسه أحياناً كثيرة، ويرتبط بسواه من أحداث المقاطع الأخرى أحياناً أقلّ، ويخضع عرض بعضها لمنطق التراتبية الزمنية مرّات، ويتجاوز بعضها الآخر هذا المنطق مرّات أخرى.

تتحرّك أحداث الرّواية في منطقة من الشّمال الفلسطيني، بين " البحر المتوسّط غرباً، بحيرة طبريا.. شرقاً، جبل حزّور والكمّانة جنوباً"، وفي مساحة زمنية تمتدّ ما بين النكبة وانطلاقة الكفاح المسلّح. وتتجلّى قضية الأرض فيها من خلال الرموز التي تحيل إليها شخصياتها الرّئيسة الأربع: الرّاوي أو "سمير" و"دنيا" الفلسطينيان من جهة، و "أوري" و"إيلانة" الصّهيونيان من جهة ثانية.

 

وتمثل علاقة الحبّ التي تربط بين الشخصيتين الفلسطينيتين، أو بين الفلسطيني وأرضه كما تطمح الرّاوية إلى القول، حقائق التاريخ الإنساني، على حين يعبّر الحبّ بين أوري وإيلانة عن العلاقة الزّائفة التي لا تستند إلى أيّ معطى واقعي بين الشخصية الصهيونية وهذه الأرض، التي يتوهّم أوري أنّها أرض إسرائيل، إيلانة في الرّواية، وأنّ لـه حقّاً تاريخياً فيها.

 

لقد أحبّ سمير دنيا منذ طفولته، غير أنّ النكبة التي حلّت بوطنه نفته خارجه، فوجد نفسه في مواجهة مزاعم أوري القائلة بأنّ: " دنيا .. لا وجود لها البتّة. الحقيقة الوحيدة هنا هي إيلانة"، واصطبغ وجوده كلّه بـ"الليلك"، اللون الخليط من المتضادات حيناً، والمتشابهات العصية على التفريق فيما بينهما حيناً آخر: " الاشتباه، الظنّ، التوقّع، التطلّعات، الشكّ.. التشوّف، الحدس.. التحفّز، الرّغبة، الوهم، الاعتقاد.. التحسّب، التخيّل، الانتظار.."، الذي دفعه إلى اختيار طريقة المواجهة المسلّحة مع أوري، بوصفها الطريق الوحيدة، كما تؤكّد الرّاوية، التي تكفل  لـه استعادة "دنيا" المشرّدة والصّفاء الذي افتقده إلى حياته ووجوده :"أنا لم أقتل أوري، .. نحن العرب لم نقتل أوري.

رصاصة حملها أوري عبر البحار.. أوهموا أوري أنّه لا يمكن أن يعيش إلاّ بموتي.. فمات هو قبل أن يستوعب استحالة موتي".

ومن أهم ما يميز الرّواية، ولعلّه يمنحها خصوصية في المنجز الروائي الفلسطيني، هو أنّ الأرض الفلسطينية نفسها تؤكّد انتماءها إلى ما هو حقيقي في التاريخ، أي إلى ما هو فلسطيني. لقد فوجئ أوري، وهو يتوسّط مجموعة من الجنود الصهاينة في معسكر للاجئين الفلسطينيين، بنور ساطع من نافذة صغيرة، وخُيّل إليه أنّ وجه إيلانة يطلّ منها، فاندفع يسألها عمّا تفعله في المعسكر، غير أنّ الفتاة صرخت :"ـ أهذا أنت يا سمير؟ بأيّة لغة تتكلم؟ . ـ إيلانة ! أنا أوري.. بأيّة لغة تتكلّمين؟ ـ أنا دنيا "،ومع أنّه ضمّها " بكل قوّته حتّى تفيق إيلانة من غيبوبتها. حتّى تخرج إيلانة من دنيا. حتّى تنفصل عن قميصها .. الغريب" كما توهّم، إلاّ أنّ الفتاة ظلّت متشبّثة بانتمائها إلى ماضيها الذي عرفته منذ أقدم حقب التاريخ.

 

هوامش وإحالات:

(1) ـ الخطيب، حسام. " الثقافة والتربية في خطّ المواجهة". ص (48).

(2) ـ كنفاني، غسّان. "أدب المقاومة في الأرض المحتلّة". ص(50).

(3) ـ أبو بكر، وليد ."الواقع والتحدي في رواية الأرض المحتلّة. ص(7).

(4) ـ زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطور الوعي.." .ص(66).

(5) ـ المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(6) ـ النّساج، سيّد حامد. "بانوراما الرّواية العربية الحديثة". ص(139).

(7) ـ أبو بكر، وليد ."الواقع والتحدّي في رواية الأرض المحتلّة".ص(7).

(8) ـ انظر على سبيل المثال: خوري، الياس. " تجربة البحث عن أفق". ص(50). وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينية". ص(102).

(9) ـ انظر على سبيل المثال أيضاً: ماضي ، شكري عزيز، "انعكاس هزيمة حزيران على الرّواية العربية". ص(172). أبو اصبع، صالح. " فلسطين في الرّواية العربية". ص(216).

(10) ـ الجزء الأول من "ثلاثية فلسطين"، التي تضم أيضاً :" الرّحيل " (1974)، و"القناع" (1974). وقد اكتفيت بدراسة هذا الجزء لمعالجة الثانية الأحداث نفسها التي عني بها سابقه، و لانشغال الثالث بتصوير حياة الفلسطيني في الغربة.

(11) ـ  الأشتر، عبد الكريم. " تعريف بالنّثر العربيّ الحديث" .ص (311).

(12) ـ تتألف الرّواية من ثلاثة كتب، نُشرت في مجلة "الاتحاد" التي تصدر داخل الأرض المحتلّة في حيفا. الكتاب الأول بعنوان : "يعاد" نُشر مطلع 1972، و الثاني بعنوان:"باقية" نُشر أواخر العام نفسه، والثالث بعنوان: "يعاد الثانية" نُشر

أواسط 1974.

(13) ـ للتوسّع، انظر: أبو مطر، أحمد. " الرّواية في الأدب الفلسطيني .ص(296) وما بعد.

(14) ـ الخليل، إبراهيم. "في القصّة والرّواية الفلسطينية". ص(90).

(15) ـ صالح، فخري. "في الرّواية الفلسطينية".ص (39).

(16) ـ الخليل،إبراهيم." في القصة والرّاية الفلسطينية". ص(89).

(17) ـ الكيبوتس: تجمّع استيطاني صهيوني يعتمد بشكل رئيس العمل الزراعي، ولا توجد فيه ملكية خاصة، ويلعب دوراً كبيراً في وظائف الأمن والدفاع. للتوسع، انظر: قهوجي، حبيب. "استراتيجية الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتلة".ص(141).

(18) ـ للكاتبة رواية أولى بعنوان :"لم نعد جواري لكم"(1974) تعالج مشكلات المرأة العربية: الحبّ، الزواج، الشرف.. وعلى الرّغم من أنّ روايتها الثالثة: "عبّاد الشمس"(1980) تُعد تتمة لرواية " الصبّار"، فقد اكتفيت بالصبّار لسببين: لغياب الظاهرة في عبّاد الشمس من جهة، ولسقوطها في الثرثرة الكلامية التي جعلتها معرضاً للأفكار أكثر منها رواية من جهة ثانية.

 

 

 

تطوّر قضية الأرض في الرّواية الفلسطينية:

 

لم تكن انطلاقة الكفاح المسلّح سنة 1965 نقطة تحوّل بارزة في النّضال الوطني الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني فحسب، بل منعطفاً مهماً أيضاً في مسيرة الأدب الفلسطيني على اختلاف فنون القول فيه.

 

وعلى الرغم من أن تقسيم التطوّر الأدبي حسب المفاصل التاريخية لا يمتلك ما يعللّه دائماً، أو ما يسوّغه على نحو كاف دائماً، فإنّ المتتبّع لتلك المسيرة لا يمكنه إغفال تأثير المقاومة في وجدان الفلسطيني ومشاعره، وفي نظرته لصراعه مع مغتصبي أرضه، ومن ثمّ في أدبه كمّاً ونوعاً.

ويمكن تلمّس تجلّيات ذلك التأثير في النتاج الروائي خاصة، الذي شهد تطوّراً واضحاً على أكثر من مستوى، فعلى حين لم يكن المتوسط العددي لذلك النتاج يتجاوز ثلاث روايات في العام الواحد قبل الانطلاقة، تراوح بعدها بين خمس وثماني روايات، وعلى حين كان ثمّة تفوّق لرواية الشتات على رواية الأرض المحتلّة من الناحيتين العددية والفنيّة، بسبب الظروف القاسية التي عاناها مثقّفو الدّاخل والقوانين التي أصدرتها سلطات الاحتلال بهدف طمس الهوية الثقافية الفلسطينية أو تذويبها في بوتقة مخطّطاتها المحمومة لتهويد كلّ ما ترى أنّه يخرج على أطماعها أو مشروعاتها التوسعية في أرض فلسطين وما يجاورها، مارست الانطلاقة دوراً في تجسير المكانة بين الروايتين، وفي الإفصاح عن تجارب إبداعية في الداخل مميّزة على أكثر من مستوى.

 

والكمّ الروائي المتزايد الذي تلا انطلاقة الكفاح المسلّح يعكس تطوراً في رؤى المثقّف الفلسطيني إلى صراعه مع الحركة الصهيونية، وإلى معنى اقتلاعه من أرضه والطرائق الكفيلة بعودته إليها، فعلى حين كانت رواية ما قبل الانطلاقة" أقرب إلى النّواح والبكاء، والبطل فيها منفيّ.. وتائه تنتابه مشاعر التمزّق واليأس والشعور بعار اللامقاومة... فإنّ الشعور بالتفاؤل حلّ محلّ اليأس إضافة إلى الشعور بالفرح المستند إلى رؤية ثورية نابعة من دخول البندقية(1) إلى مخيّمه الذي يقيم فيه، سواء أكان هذا المخيّم  داخل الأرض المحتلّة أو خارجها.

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه السمة لا تشمل مجمل النتاج الرّوائي الذي تلا الانطلاقة، فعلى الرّغم من حضورها في عدد غير قليل منه، فإنّ عدداً آخر كان غارقاً في رؤاه الفردية، وفي حنينه الرّومانسي الخالص، ولم تكن طاقاته التعبيرية " تساير الفعل النامي بسرعة على الصعيد الواقعي" (2).

 

فكتابات سمير القطب، على سبيل المثال، الصّادرة مع مطلع السبعينيات " متأخرة فنّاً، على الأقل سبعين سنة.. كتابات تعليمية، لا يمكن أن يصدّق القارئ أنّها من نتاج،(3) المرحلة التي صدرت فيها، وظلّت روايات عوني مصطفى وباسم سرحان تصور الشخصية الفلسطينية السليبة التي "تلجأ إلى الانتحار خلاصاً من.. الواقع، أو الهرب منه "(4). ومن أنّ بعض نتاج هؤلاء كان قد عني بالواقع الفلسطيني إلا أنه لم يفلح في دمج المشكلات الاجتماعية بأرضيتها السياسية، ولم يتمثّل بآن عناصر الفنّ الرّوائي أو يتملّك أدواته، وكانت الشخصيات فيه نمطية ومستقرّة انفعالياً و" ليست إلاّ صدى للأحداث السياسية والعسكرية"(5).

 

وباستجلاء تأثير هزيمة حزيران في الأدب الرّوائي العربي عامة، والفلسطيني خاصة، يخلص المرء إلى مواقف متباينة في هذا المجال، فعلى حين رأى أحدهم  أن الهزيمة ليست "حداً فاصلاً بين مرحلتين.. فالأدب العربي لِمَا بعد الخامس من حزيران هو امتداد طبيعي لأدب ما قبل حزيران"(6)، رأى آخر أنها " كانت منعطفاً خطيراً من شتّى الأبعاد، وكانت أشدّ تأثيراً في الأدب من الأحداث السابقة"(7)، وإذا كان الأغلب الأعمّ من القائلين بالرأيين المتعارضين كليهما لم يوضّح معنى الحد أو المنعطف، فإنّ فريقاً ثالثاً حدّد تأثير الهزيمة بالتصاعد المذهل في معدّل الروايات " الذي وصل بعد النكسة إلى ثمانية أمثال العدد في الفترة السابقة عليها" (8)، ورأى أنّ ما يثير انتباه الباحث في ذلك الكمّ الوفير ارتباط مضامينه "بالتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبعد شيء من الإمعان، لا بدّ أن يتوصّل ( الباحث) إلى ما هو أبعد من ذلك إلى وجود رابطة قوية بين الشكل الفنّي الذي تتخذه الرّواية العربية وبين المناخ السياسي والاجتماعي حولها"(9).

 

لم تثر الهزيمة، في تقديري، أسئلة حول طبيعة البنى الاجتماعية والاقتصادية و السياسية المكوّنة للواقع العربي آنذاك فحسب، بل ساءلت المثقّف بآن عن دوره في الكشف عن أمراض المجتمع وعلله التي قادت إلى الهزيمة، ومن ثمّ في التصدّي لها و البحث عن الوسائل الكفيلة بالتخلّص منها، وإذا كان عدد من الأعمال الرّوائية قد وَعى ذلك، فإنّ عدداً آخر ظل ّ بعيداً عن التأثير الذي مارسته الهزيمة في الواقع والأدب العربيين. فكما لا يمكن التسليم تماماً بتأثير الهزيمة في النتاج الرّوائي العربي، لا يمكن نفيه، أو التقليل من شأنه. من غير أن يعني هذا توفيقاً بين الآراء التي عرضت لها، بقدر ما يعني وضع ذلك التأثير في موضعه الصحيح. فعلى الرّغم من أنّ المرء يلاحظ تطوّراً في الكمّ الرّوائي الذي  تلا الهزيمة، فإنّ هذا الكمّ لم يعكس في مجمله بنية الواقع العربي وطبيعة العلاقات القائمة فيه، كما لم يعكس بأن تطوّر أدوات الرّواية. لقد ظلّ عدد غير قليل منه أ سير ما يمكن وصفه برواية عاطفية تتحدثّ عن حبّ منقطع عن جذره الاجتماعي، وما يمكن وصفه أيضاً برواية سياسية تعلّق شخصياتها على مشجب الأحداث الفاعلة في الواقع العربي، دون أن تستقرئ حركة هذا الواقع، أو تعي الأسباب المكوّنة له، كما ظلّ بعضه محكوماً بتقاليد السرد، ومنّبت الصلة بجماليات الرّواية المعاصرة. بمعنى أن تأثير الهزيمة الحزيرانية لم يرمِ بظلاله على مجمل النتاج الرّوائي العربي، بل على جزء غير طاغٍ منه.

 

أمّا على صعيد الرّواية الفلسطينية، فثمة نقلة واضحة في الكمّ الذي أعقب الهزيمة، ومن اللاّفت للنظر أنّ السنة التالية لعام 1967 شهدت صدور ثلاث عشرة رواية، على حين لم يتجاوز هذا الكمّ، في حدوده القصوى سنة 1962، أكثر من أربع روايات. وتشير ثبوت الرّواية الفلسطينية إلى توزّع شبه متساوٍ، في العدد بين رواية الشتات الفلسطيني ورواية الأرض المحتلّة، الصادرتين بعد هزيمة حزيران، ولئن كان عدد من النقاد رأى أنّ الهزيمة عكست ظلالها على النتاج الإبداعي الفلسطيني في الأرض المحتلّة وعممّ آخرون ذلك على مجمل هذا النتاج داخل فلسطين وخارجها، فإنّ ما أشرت إليه عن تأثير الهزيمة في الرّواية العربية ينطبق في تقديري، تماماً على تأثيرها في الرّواية الفلسطينية، من غير أي تباين في هذا المجال  بين رواية الشتات  الفلسطيني ورواية الأرض المحتلّة. فعلى الرغم من الخصوصية التي ميزت النتاج الرّوائي الفلسطيني، فإنّ تلك الخصوصية لم تكن تعني قطيعته مع مثيله في أقطار الوطن العربي الأخرى، كما لم تكن تعني أنّ توجّه معظمه إلى قضيته الوطنية وفرّ للهزيمة تأثيراً أوضح فيه، فقد ظلّ بعضه مشغولاً بالحديث عن مشكلات لا صلة لها بالواقع، وعن تاريخ لا معنى لـه في الرّاهن، وظلّ بعضه الآخر بمنأى عن أدوات الرّواية المعاصرة.

 

لقد كان تأثير انطلاقة الكفاح المسلّح أبرز في تطوّر الرّواية العربية الفلسطينية من تأثير الهزيمة، وعلى الرّغم من أنّ الباحث لا يستطع أن ينكر الظلال التي ألقتها الأخيرة على مسيرة هذه الرّواية وتطوّرها، فإنّ تلك الظلال تعود إلى الانطلاقة أساساً، إذ ظلّت الرواية الفلسطينية، على الرّغم من فجيعة الهزيمة التي أصابت منتجها والقارئ الذي تتوجّه إليه وحال السوداوية والتشاؤم التي كانت تستبدّ بالاثنين معاً، تستمدّ نسغ إيمانها ببقاء الفلسطيني وبقدرته على قلب الفجيعة إلى فعل نضالي من جذور الانطلاقة التي أكّدت أنّها الخيار الوحيد الذي يكفل لهذا الفلسطيني تطّهره من النكبة والهزيمة وعودته إلى أرضه التي اغتصبت منه.

 

وبهذا المعنى، فإنه يمكن القول إنّ الرّواية التي تلت الانطلاقة حققت معظم إنجازات الرّواية الفلسطينية بمستوييها المضموني والجمالي. فعلى المستوى الأول، حوّلت قضية الأرض من معطى مادّي يتكوّن من مفردات الطبيعة فحسب إلى آخر معنوي يجسّد وعي الفلسطيني بالمفصل الأوّل الذي يحرّك صراعه مع مغتصبي هذه الأرض، ولم يعد الحنين الذي يعتمل في دواخل شخصياتها إلى الوطن مجرّد معادل روحي لواقعهم في الشتات، بل تعبيراً عن حاجة واقعية إلى المقاومة التي تستردّ الكرامة والأرض في آن. أمّا على المستوى الجمالي، فقد تمكّنت من استيعاب تقنيات الرّواية الحديثة وتيّاراتها، وتعدّد طرائق تعبيرها، وتنوّع اتجاهاتها، و استطاع عدد غير قليل منها أن يحوز لنفسه مكانة متقدّمة بين مثيله من الأدب الرّوائي العربي، وأحياناً بين مثيله في الأدب العالمي.

 

وبهذا المعنى أيضاً، ومن خلال استجلاء المنجز الروائي الفلسطيني من بداياته إلى مطلع الثمانينيات، يخلص المرء إلى أنّه على الرّغم  من حفاوة ذلك المنجز بقضية الصراع مع الحركة الصهيونية، فإن قضية الأرض لم تشغل مكانة مميزة فيه بالمعنى الذي يجعل منها ظاهرة قبل انطلاقة الكفاح المسلّح سنة 1965، كما يخلص إلى أنّ ثمّة خصائص اتسمت رواية ما بعد الانطلاقة عامة في هذا المجال، يمكن إيجازها فيما يلي:

1 ـ تناولت تلك الرواية معظم مراحل التاريخ الفلسطيني، منذ الألف السابع قبل الميلاد حتّى النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وتوقّفت بشيء من التوسع عند المفاصل الكبرى التي كانت تحدّد  حركة هذا التاريخ وتشكّل مساره، وعني أكثرها بالحديث عن المرحلة الممتدة ما بين قرار التقسيم والنكبة.

2ـ غطّت معظم الجغرافية الفلسطينية، من نهر الأردن شرقاً إلى ساحل المتوسط غرباً، ومن أقصى الشّمال الفلسطيني إلى أقصى الجنوب.

3 ـ أدانت سلطات الانتداب البريطاني التي مكّنت الحركة الصهيونية من ابتلاع أرض فلسطين، والإقطاعيين الذين باعوا مساحات واسعة وخصبة من هذه الأرض إلى المستوطنين الصهاينة والمنظمات والجمعيات الصهيونية التي أنشئت لهذا الغرض، ثمّ الدّور الذي قام به الوسطاء في عمليات انتقال ملكية تلك الأراضي إلى هؤلاء، ولم يكن هذا الوسيط لديها يهودياً دائماً، بل هو عربي في بعض الأحيان.

4 ـ على الرّغم من أنّ أكثرها ألقى أسباب النكبة وقيام "الدولة" على القيادات السياسية العربية آنذاك، وعلى جيوش الإنقاذ على نحوٍ خاص، فإنّ عدداً منها ألقى تلك الأسباب على الفلسطينيين أنفسهم، قيادة وشعباً.

5 ـ مجّدت ارتباط الفلسطيني بأرضه، ودعته إلى اختيار الطريق الصحيح الذي يسترد هذه الأرض من مغتصبيها، أي طريق المقاومة المسلّحة.

6 ـ إمعاناً منها في إيقاد جذوة الحنين التي تعتمل في نفس الفلسطيني المشرّد عن أرضه، صوّرت التناقض الحادّ بين حياته قبل نزوحه عن هذه الأرض وحياته بعده، وتعرّضت لحياة الفقر والعوز التي عاناها في الشتات، وتجاهلت إلى حدٍّ ما الحديث عن الفئات الاجتماعية الفلسطينية التي تقع في أعلى السلّم الطبقي.

7 ـ عرّت دعوى الحقّ التاريخي الذي تذرّعت  به الحركة الصهيونية لقيام دولتها فوق أرض فلسطين، وفضحت الأساليب التي اتّبعها قادة هذه الحركة بعد قيام الدّولة في مصادرة الأراضي، وهدم البيوت والقرى، وإبادة السكّان، وتغيير معالم الجغرافية الفلسطينية لإزالة الشخصية العربية المميزة لأرض فلسطين.

8 ـ أدانت ملاحقة بعض الأنظمة السياسية العربية للفلسطيني في الشتات بهدف مصادرة قراره، وصوّر بعضها معتقلات هذه الأنظمة وسجونها، كما أدانت تنازع القيادات السياسية الفلسطينية واختلاف أساليب عملها، ودعت هذه القيادات إلى توحيد جهودها في المعركة المصيرية الواحدة.

 

هوامش وإحالات:

(1) ـ ماضي، شكري عزيز، "انعكاس هزيمة حزيران..".ص (13).

(2) ـ زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطور الوعي..".ص(59).

(3) ـ أبو مطر، أحمد."الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص(94).

(4) ـ المرجع السابق .ص(95).

(5) ـ أبو اصبع، صالح."فلسطين في الرّواية العربية". ص (29).

(6) ـ دكروب، محمّد. " الأدب الجديد والثورة".ص(51).

(7) ـ عبّود، حنّا."النزوحات الكبرى".ص(39).

(8) ـ ماضي، شكري عزيز ، " انعكاس هزيمة حزيران..".ص(28).

(9) ـ المرجع السابق، ص(24).

 

 

الفصل الثالث: علاقة الإنسان بالأرض في الرّواية الفلسطينيّة

 

 

" قضيتُ هذه السنين كلّها مصرّاً على الزواج منها. أعني، الأرض. أجمع الفلْس إلى الفلس.. من أجل نور عينيها .. لقد نقلتُ أموالي إلى القدس، واشتريت أرضاً واسعة.. وسأشتري أرضاً أخرى.. وسأبني بيتاً كبيراً.. وأزرع البندورة والتّفاح، ولو أنني لست فلاّحاً.. سأهشّم الصّخر، وأفرش عليه تراباً من تربتنا الحمراء الخصبة الجميلة.. وسأتزوج حالماً أرجع، لكي أجمع بين المرأة والأرض".

وديع عساف/ " السفينة"

 

 

مدخل

 

تستمدّ الشخصية الحكائية أهميتها ومكانتها في دراسة العمل الرّوائي من كونها الأداة الأولى التي يعبّر الكاتب بوساطتها عن الفكرة أو مجموعة الأفكار التي تعيّن حركة الواقع الذي يقاربه، ومن كونها أيضاً الحامل الرئيس الذي يبني عليه أحداث عمله ومقولاته ورؤاه.

 

ولئن كانت البدايات الأولى لفنّ الرّواية عنيت بالشخصية الفروسية التي تنتمي إلى طبقة النبلاء بسبب طبيعة القوى الطبقية المسيطرة آنذاك، وبالشخصية التي تمثّل قيم الخير والجمال المطلقيْن، فإنّ الرّواية المعاصرة تخلت تماماً أو كادت عن ذلك النّمط الإنساني، وأصبحت الشخصية فيها "مختلطة بدلاً من أن تكون بطولية أو نبيلة أو فاضلة نقية"(1)، كما أصبحت " تمثل مجتمعاً كما تمثّل نظامه ومراتبه المختلفة(2)، ولم تعد بمعناها الملحمي ذات أثر أو حضور طاغٍ فيها، كما لم يعد "من أهمية في شيء أن تكون.. غريبة أو عجيبة أو مخالفة للعرف"(3)، بل حلّت عوضاً عنها الشخصية المتناقضة والممتلئة بغناها الإنساني، والتي "تجمع الصفات الإيجابية والسلبية معاً"(4)، وتنتمي إلى شرطها التاريخي بوصفها شخصية "قيد التطوّر وتربية الحياة" (5).

 

لقد نظرت الرّواية المعاصرة إلى موضوع حذف التناقض من الشخصية الرّوائية ورسمها ككيان لا يعتوره نقص على أنّها "نفي عام لكلّ تحديد مادّي للشخصية ومتابعة لأسطورة الإنسان الفاضل الذي هو تجسيد لميثولوجيا الخير المطلق"(6)، وعني، التاريخي منها خاصة، بالشخصيات التي تنتمي إلى قاع المجتمع، أو التي تعيش على حوافّه نظرياً، وتبدو أكثر فاعلية في حركة الواقع من تلك التي كان بعض الرّوائيين يعتقدون بأنّها تحكم قبضات فولاذية على مجتمعاتها وتوجّه سيرورتها(7). وقد مكّن تطوّر العلوم الإنسانية، ولا سيما علم النفس، هذه الرّواية من صوغ شخصيات أدبية تمتلئ بصخب الحياة وعنفها، وتتوافر فيها سمات الإنسان المعاصر بقلقه واغترابه وتمرّده، وبانعكاس حركة المجتمع الذي ينتمي إليه على ردود أفعاله تجاه ما هو خاص وعام بآن. وكما اغتنت الرّواية المعاصرة بمنجزات علم النفّس، فقد استطاعت في الوقت نفسه أن تفتح أمامه آفاقاً رحبة لدراسة النفس البشرية، واستطاع الرّوائي المعاصر أن يُعلم قارئه عن تلك النفس بالقدر الذي يقدّمه عالم النفس عنها، وربّما أكثر نفاذاً وعمقاً في بعض الأحيان(8). ويمكن القول إنّ بروز مفهوم النمذجة الذي قدّمه الاتجاه الواقعي قد نهض بدو خلاق في تطوّر الشخصية الرّوائية، إذ أتاحت الدراسة النظرية التي عالجت هذه المفهوم لكتّاب الرّواية وعي طبيعة الأدب ووظيفته في الحياة، ودفعتهم إلى اختيار شخصيات تتسم بفعاليتها وتأثيرها في الوسط الذي تنتمي إليه، وينعكس من خلالها "المجموع في الفرد، والفرد في المجموع"(9) بوصفهما تمثيلاً لواقع يندغم فيه ما هو ذاتي بما هو موضوعي.

 

يُعنى هذا الجزء من الدراسة باستجلاء السمات المميزة لعلاقة الشخصيات الرّوائية الفلسطينية بالأرض، وباستقراء الطريقة/ الطرائق التي عالج بها الرّوائي  الفلسطيني هذه الشخصيات، ومن ثمّ مدى وعيه بمفهوم "النمذجة" بوصفه الأداة التي تمكّنه من مقاربته لحركة التّاريخ الفلسطيني، وللقوى التي أدّت دوراً فاعلاً في تطوّر تلك الحركة.

 

وتجدر الإشارة بداية إلى أنّ الشخصيات التي سأقاربها هنا ليست الشخصيات جميعاً التي قدّمتها الرّواية الفلسطينية، بل هي نماذج تبدو أكثر حضوراً من سواها في النتاج الرّوائي الفلسطيني، وتُعدّ قاسماً مشتركاً بين معظمه، إن لم يكن مجمله. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ تقسيمي لها على هذا النحو إجراء نقدي فحسب، ولا يعني أنّ الرّواية الفلسطينية قد فعلت ذلك، إذ قد تتداخل في هذه الرّواية، صورة الفلاّح بصورة المختار، أو رجل الديّن، أو المقاتل، وإلى أنّ هذا التقسيم يستند أساساً إلى تغليب الرّوائي الفلسطيني نفسه لجانب في الشخصية على غيره، ولسمة بارزة فيها على غيرها أيضاً، يشكّلان معاَ معبراً لتبيّن الخصائص التي تميّز علاقتها بالأرض من جهة، وبقضيتها الوطنية من جهة ثانية.

 

هوامش وإحالات :

(1) ـ هاليرين، جون، وآخرون ."نظرية الرّواية". ص(354).

(2) ـ زيرافا، ميشال. " الأسطورة والرواية". ص(11).

(3) ـ البيريس، ر.م."تاريخ الرّواية الحديثة". ص(139).

(4) ـ باختين، ميخائيل، "الملحمة والرّواية".ص(28).

(5) ـ  المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(6) ـ درّاج، فيصل، "حوار في علاقات الثّقافة والسياسة". ص(28).

(7) ـ انظر: لوكاش، جورج. "الرّواية التاريخية".ص(51).

(8) ـ انظر: ويليك، رينيه. بالاشتراك. " نظرية الأدب". ص(33).

(9) ـ ريديكر، هورست. " الانعكاس والفعل..".ص(88).

 

 

 

"الفلاح" :

 

دفعت المكانة المميزة التي شغلها الفلاّحون الفلسطينيون في حركة النضال الوطني ضدّ الحركة الصهيونية معظم النتاج الرّوائي الفلسطيني إلى الاهتمام بالدّور الذي أدّاه هؤلاء في التصدّي للمحاولات الضّارية التي كانت تستهدف اقتلاعهم من أراضيهم، وتحويل وطنهم فلسطين إلى دولة يهودية خالصة، وخالية تماماً من أصحابها الشرعيين.

ويمكن تقسيم النتاج الرّوائي الفلسطيني في هذا المجال إلى قسمين: الأوّل: تبدو الشخصية الفلاّحية فيه مكوّناً مركزياًَ من مكونات المحكي الروائي، والثاني: تتجلى فيه على نحو عارض، وطارئ.

تًعدّ أعمال رشاد أبو شاور الرّوائية أكثر النتاج الرّوائي الفلسطيني حفاوة بالشخصية الفلاّحية الفلسطينية، وبتصوير علاقتها بالأرض. ويمكن تبيّن أولى تجلّيات تلك الحفاوة في روايته:"أيام الحبّ والموت"، التي تبدو نموذجاً إبداعياً مميزاً لعلاقة الفلاّح الفلسطيني بأرضه، ولما تمنحه هذه الأخيرة من قيمة لمعنى وجوده، ومن قوّة عندما يلتصق بها ويتوحّد معها. فالفلاّح العجوز سلمان كان "يعبد الأرض يصلّي لها، يؤمن بها كأنّها ربّه"، كما كان يقضي فصول السنة، أغلبها، بين جنباتها. يفيء إلى ظلّ أشجارها صيفاً، ويتنشّق عبير ورودها ربيعاً، ويكحّل عينيه بمرأى أثلامها خريفاً، ولولا قول الناس " مجنون لأنام في الكَرْم أيّام الشتاء، وأتمرّغ على التراب وهوّ بيشرب نعمة السماء".

لقد ظلّ سلمان متشّبثاً بالبقاء فوق أرضه "كأنه شجرة.. قدماه في التراب، بدنه مثل جذع زيتونة"، وعندما اشتدّ حصار المستوطنين الصهاينة للقرية، حدّث حفيده الصغير محمود، بعد أن قرّرت أمّه اللجوء إلى قرية أخرى اتقاء لوحشية أولئك المستوطنين، قائلاً:"شايف هالشجر، هالتين والزيتون والعنب هالأرض اللّي مثل الحنّون. هاذي إلك، يوم ما ترجع إلهاً اتّذكرني. اتطلّع مليح فيها.. شمّ ريحة التراب خلّيها ما تروح من بالك، خلّيك ما تنساها، خلّي ريحتها تذكّرك فيها وفي عظامي اللّي بدها تذوب فيها".

أمّا الفلاّح محمّد أبو عمران، الذي قضى في مواجهة "هاجم" الإقطاعي وأعوانه، فقد كان يؤمن، هو الآخر، بأنّ الأرض وحدها تعني الحياة أو الموت بالنسبة إلى الفلاّح الفلسطيني. الحياة عندما يلتصق بها ويمنحها عرقه وجهده، والموت عندما يبتعد عنها أو يهجرها: "باطل يا رجال، لازم نهبّ في وجه هاجم وارجاله، يا موت، يا حياة".

وإذا كانت تلك الرواية قد عبّرت عن "تقديس الفلاّح الفلسطيني للأرض"

(1) على نحو مميز من سواها من النتاج الرّوائي الفلسطيني، فإنّ رواية "العشّاق" وصلت بتلك القداسة حدّاً جعلت من الفلاّح والأرض معه كائنين في جسد واحد وروح واحدة أيضاً. فأبو خليل، الفلاح الذي كان ولوعاً بالبيّارة التي يعمل فيها، وبشجرة الزيتون التي يستظلّ بفيئها دائماً، كما وصفه المناضل محمود، لم يهدّد صاحب البيّارة بقطع يده لو امتدّت إلى اجتثاثها، لو لم يكن يحس بأنه هو تلك الشجرة حقاً، ولما قال له: "لو زرعتني.. لنَمَوْتُ فوراً". أمّا الفلاّح أبو نعمان الذي "لم يعرف قلبه الفرح منذ الخروج من الوطن"، فقد رفض مغادرة المخيّم عندما اقتحمه الصهاينة في حزيران 1967، معلّلاً بقاءه بحراسة البيوت حتّى يعود الناس، إلى أن استشهد وهو يسقي زهور الأرض الذابلة.

وتجدر الإشارة إلى الطريقة التي قتل بها هذا الفلاّح الخواجة الصهيوني داوود الذي كان يدّعي أنّه عالم آثار وأنّ قبائل عبرية مرّت بأريحا، والتي يمكن عدّها رمزاً للردّ على مزاعم الصهيونية بحقّ تاريخي لليهود في أرض فلسطين، فـ "العظمة" التي استلّها أبو خليل من جوف شجرته دليلٌ على أنّ مواجهة تلك المزاعم لا تتحقّق بغير ما يعني الالتصاق بالأرض، أو بما يتّصل بمفرداتها التي تمنح الفلسطيني القوّة على مواجهة عدوه.

وتمثّل رواية أفنان القاسم: "الباشا" إضافة مهمّة إلى الروايتين السابقتين في هذا المجال، ولا تتحدّد تلك الإضافة بتوجّه عناصر الرّواية جميعاً إلى تمجيد نضال الفلاحين الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال وأدواته فحسب، بل بالقيمة التي تمنحها للأرض ولعلاقة الفلاّح الفلسطيني بها أيضاً. فكما تؤكّد أنّ هذه الأرض تعبير عن شرف الفلاّح الفلسطيني وكرامته، تؤكّد بآن أنها رمز للقوّة التي تحقق لـه الانتصار على أكثر أعدائه شراسة. فالفلاح العجوز عوّاد يقول لصديقه الشابّ حمدان عندما سأله الأخير عمّا يريد فعله لمواجهة رجال الباشا الإقطاعي، الذين خيّروه بين أمرين: بقراته الثلاث أو بيع أرضه للباشا سداداً لثمن البذار الذي اقترضه منه لمواسم ثلاثة ماضية: "اسمع يا حمدان اعمل للأرض، بكلّ قواك. تشبّث بها، بكلّ قواك، إذا فعلت، فزعت منك الأبالسة"، وهو إذ يختار التمسّك بأرضه والدّفاع عنها "ما دمت حيّاً"، فإنّما يفعل ذلك لثقته بأنّ أيّة قطيعة مع الأرض تعني السقوط في مستنقع العار: "الأرض شرفنا وعزّنا وكرامتنا وكلّ شيء.. إنّها نحن".

ولم يكن حمدان نفسه أقلّ تشبثاً بالأرض من عوّاد، فقد كان "يحبّ أمّه والأرض"، وسعدية معهما، لأنهم جميعاً كانوا يعنون بالنسبة إليه خصوبة الحياة وتدفّقها وقوّتها بآن، ولذلك كان، كلّما رأى سعدية أو فكّر بها، يحسّ بأنّه "أكثر.. قرباً من الأرض. كانت الأرض تخفق في عرقه، وهو يخفق في عرقها... ينبت في عمقها، وهي تنبت في عمقه"، ولذلك أيضاً لم يكن يفرّق، عندما أجبرت سعدية على الزّواج من المأمور، بين أولئك الذين سرقوا سعدية منه وأولئك الذين يحاولون سرقة أرض البلد، فيجب "لكي تعيد سعدية إلى ذراعيك، أن تناضل في كلّ صوب. ضدّ الخواجة، وبالقدر ذاته ضدّ الباشا والإنكليز".

 

وممّن ينتمي إلى تلك الشخصيات أيضاً "أبو زينة" الذي يمكن عدّه رمزاً آخر للفلاح الفلسطيني الذي أبلى في مواجهة مشروعات الاستيطان الصهيوني التي كانت تستهدف تهجير الفلاحين الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم، واقتلاعهم من أرض وطنهم فلسطين. فقد تصدّى أبو زينة، الذي كانت الأرض بالنسبة إليه قطعة من كبده، كما كان يردّد، للهاث المستوطن الصهيوني المستعر لشراء حصّته منها بعد أن باعه أخوه يوسف نصفها، بنبضه وعينيه ودمه. ليس لأنّه "أذاب لحم أصابعه في لحمها.. وحفظ عن ظهر قلب عدد الذّرات في ترابها" فحسب، بل لأنّها كانت تعني لـه الشّرف أيضاً: "سأدفع عنكِ الشرّ، وسأحميكِ.. يا نبضي! سأدفع عنك العار، وسأرويك.. عهدي معك أن أبقى بك، وتبقين لي.. إذا حاولوا نزعك من عينيّ، نزعتُ من عيونهم ضوء العين. وإذا حاولوا نزعك من قلبي، نزعتُ من قلوبهم خفق القلب. وإذا حاولوا نزعك من دمي، نزعتُ من دمائهم لون الدّم. وإذا حاولوا نزعك من رئتيّ، غرستُ في حناجرهم سكّيني".

 

غير أنّ تلك الصور الآسرة التي يقدّمها الروائي للفلاح الفلسطيني، ولا سيما لعلاقته بأرضه، لا تقنع القارئ كثيراً في أنّ شخصياته تلك كائنات حية من لحم ودم، فعلى الرغم من ذلك الامتلاء كلّه بحبّ الأرض الذي يعبّر الفلاّحان عوّاد وأبو زينة عنه، فإنّ الأول ينتحر حزناً على بقراته الثلاث التي سطا عليها رجال الباشا الإقطاعي، ويغيب الثاني عن المواجهة المسلّحة التي دارت بين الفلاّحين والمستوطنين الصهاينة!

ولا تسلم رواية علي حسين خلف: "عصافير الشمال"، المعنيّة بتمجيد نضال الطبقة الفلاّحية الفلسطينية أيضاً، من الوقوع في الشرك نفسه الذي انتهت رواية القاسم إليه، فالروائي، في زحمة إصراره على تمجيد ذلك النضّال، يحمّل شخصياته الفلاّحية ما يتجاوز وعيها السياسي ويُنطقها، في أحيان كثيرة بمقولاته ووجهات نظره، ولعلّ ذلك ما أفقد روايته بعضاً من الجماليات الخاصّة المميزة لها من النتاج الرّوائي الفلسطيني الذي رصد تحوّلات البنية الاقتصادية لمجتمع القرية الفلسطينية في سنوات السبعينيات، ذلك أن "أيّة إضافة.. خارج منطق الحركة الدّاخلية للشخصيات وللعمل الفنّي تسيء إلى تماسك هذا العمل.. حتّى.. لو كانت هذه الإضافة تقدّمية"(2).

وعامة، فإنّ الأغلب الأعمّ من أعمال غسّان كنفاني الروائية ينتمي إلى النموذج الثاني من النتاج الروائي الفلسطيني في هذا المجال، أي ما تبدو الشخصية الفلاّحية الفلسطينية فيه عرضيّة، وطارئة. فالمتتبع لنتاج كنفاني لا ينتهي إلى أيّ ملمح يشير إلى علاقة الفلاّح الفلسطيني بالأرض، ومسوّغ ذلك طبيعة الفضاء الجغرافي الذي تتحرّك فيها أحداث رواياته، والتي تنتمي إليها شخصياته. وعلى الرّغم من أنه يقدّم في روايته القصيرة: "أمّ سعد" شخصيات ذوات أصول فلاّحية، فإنه لا يعنى بتصوير علاقة تلك الشخصيّات بالأرض من خلال أصولها الطبقية، بل من خلال الجانب الكفاحي الذي يعبّر عن تَوْق فلسطيني المخيّمات إلى البندقية بوصفها الطريق الوحيدة المؤدّية إلى الأرض التي اقتلعوا منها. وعلى الرّغم أيضاً من أنّ أمّ سعد نفسها تبدو تمثيلاً دقيقاً وبارعاً لعلاقة الفلاّح الفلسطيني بالأرض، فإنّ الروائي يكتفي بتقديمها بوصفها نموذجاً للمرأة الفلسطينية عامة، أكثر منها رمزاً للفلاّحة الفلسطينية.

 

والسمة نفسها تتجلّى في الأغلب الأعم أيضاً من أعمال جبرا إبراهيم جبرا الرّوائية، فجلّ ما يمكن الانتهاء إليه من قراءة "السفينة" قول وديع عساف: "سَلِ الفلاّح الفلسطيني الذي يذكر تجرّح قدميه على.. الأرض كأنّه يقول لك إنّ حياته، بعد أن أُبعد عن أرضه، ما عادت حياة"، وعلى الرغم من تأكيد الروائي، في "البحث عن وليد مسعود"، بأنّ "ثوّار القرى الفلسطينية هم الذين في النهاية سيغيّرون كلّ شيء"، فإنّ ذلك يبدو غائماً في الرواية، كما يبدو غائماً في رواية "صيّادون في شارع ضيق"، ومسوّغ ذلك إلحاح جبرا على طبقة بعينها من المجتمع الفلسطيني، أي: "الأنتلجنسيا"، مع أنّ عدداً من شخصياته التي تنتمي إلى تلك الطبقة ينحدر من أصول فلاّحية.

ولا تغادر السمة المشار إليها آنفاً صورتها في رواية الأرض المحتلّة الصّادرة حتّى سنة 1982 أيضاً، فـ "أبو أسمى"، في رواية نبيل خوري: "حارة النّصارى"، الفلاّح أصلاً، لا يعبّر عن علاقته بالأرض أو بالقرية التي تحدّر منها إلاّ مرّة واحدة فقط، و اميل حبيبي، في: "الوقائع"، لا يشير إلى الصلة بين فلاّحي فلسطين وأرضهم إلاّ من خلال جملة واحدة تبدو طارئة في الرّواية، هي التي يعلّل فلاّحو قرية "الطوق" فيها عملهم في أراضي "الكيبوتس" المجاور لقريتهم. وتخلو رواية "الصبّار" من ذلك تماماً على الرغم من وجود شخصية فلاّحية فيها، "أبو شحادة"، تمتلك ما يؤهلها للتعبير عن تلك الصلة، ولا سيما أنها لم تهجر العمل في الأرض بعد الاحتلال، في الوقت الذي اندفع فيه الكثير من أبناء مجتمعها إلى العمل في قطاعات الخدمات في دولة الاحتلال. أمّا سميح القاسم، في روايته: "إلى الجحيم أيّها الليلك"، فإنه هو الآخر لم يلتفت إلى ذلك إلا على نحو عرضيّ، وفي موقعين فحسب: الأول عندما أشار إلى دور السماسرة في انتقال ملكية الأرض من أيدي الفلاّحين الفلسطينيين إلى المستوطنين الصهاينة، والثاني عندما صوّر تدفّق أفواج الفلاّحين النازحين من قراهم على بلدة "الرامة" التي يتحرك فيها معظم أحداث الرّواية.

هوامش وإحالات:

(1) عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص (264).

(2) دكروب، محمّد، "الأدب الجديد والثّورة" ص(23).

  

 

 

"الإقطاعي":

 

لم تنلِ الطبقة الإقطاعيّة الفلسطينية قدراً كافياً من الاهتمام في الدراسات التي عنيت بالمجتمع الفلسطيني، ومسوّغ ذلك حفاوة تلك الدراسات بتمجيد نضال الشعب الفلسطيني وإغفال قطاعاته التي مكّنت المنظمات الصهيونية من ابتلاع أرضه.

بَرَز الإقطاع الفلسطيني إلى الوجود و التمايز عن غيره من باقي فئات المجتمع الأخرى وفعالياته الاقتصادية مع بداية السنوات المئة الأخيرة للاحتلال العثماني، فقد مكّنت القوانين المتتابعة والمتناقضة التي كانت الدّولة العثمانية تصدرها بقصد تنظيم الملكيّات الزراعية كبار الملاّك الفلسطينيين، وغيرهم من الملاّك في الأقطار العربية المجاورة لفلسطين، سورية ولبنان خاصة، من تملّك مساحات واسعة من الأرض الفلسطينية. وتشير إحصاءات المرحلة الممتدّة ما بين الربّع الأخير للقرن التّاسع عشر والرّبع الأول من القرن العشرين إلى أنّ الأسر الإقطاعية الفلسطينية تمكّنت من حيازة "قرى بكاملها، فأسرة عبد الهادي كانت تمتلك 17 قرية، وأسرة الجيّوسي 24 قرية، وأسرة البرغوثي 39

قرية"(1)، وإلى أنّ الأسر الإقطاعية العربية، غير الفلسطينية، تملّكت مساحات واسعة تفوق ما تملكته الأسر الإقطاعية الفلسطينية(2)، فعلى سبيل المثال، كانت أسرة "سرسق" اللبنانية تمتلك وحدها "أراضي سهل مرج ابن عامر التي تبلغ مساحتها 400 ألف دونم"(3).

والإقطاعان معاً، الفلسطيني وغير الفلسطيني، وعلى اختلاف ملكيّات كل منهما، لم يكونا يوفران ما يمكّنهما من إضافة مساحات جديدة إلى ما كان يقع تحت قبضتيهما من أراضٍ، كما لو يوفّرا أيّ جهد في امتصاص عَرَق الفلاّحين الفلسطينيين، وفي شراء الأراضي من أصحاب الملكيات الصّغيرة بغية تحويل الجميع إلى أجراء لديهما.

وقد عانى الفلاّحون، نتيجة لأطماعهما وممارساتهما الطبقية الجائرة، الكثير من حالات الفقر والعوز، ووصلت معاناتهم حدّها الأقصى عندما بدأ الإقطاعان معاً أيضاً باللهاث وراء المال الصهيوني، حيث وجد أولئك الفلاحون أنفسهم بمنأى عن الوسيلة الوحيدة، الأرض، التي كانت توفّر لهم أدنى حدود الكفاف.

ولئن كانت الدّراسات المعنية بالبنية السكّانية- الاقتصادية لفلسطين في المرحلة التي سبقت النكبة أهملت الحديث عن الإقطاع الفلسطيني أو عرضت لـه بشكل طارئ، فإنّ الرّواية الفلسطينية أولته الكثير من اهتمامها، وإلى الحدّ الذي يمكن القول معه إنّها تكاد تشكّل وثائق شاملة عنه، وربّما دقيقة تاريخياً أيضاً.

 

وتعدّ روايتا: "أيّام الحبّ والموت" لرشاد أبو شاور و "الباشا" لأفنان القاسم أكثر النتاج الرّوائي الفلسطيني تفكيكاً للطبقة الإقطاعية الفلسطينية، وتعرية للدّور الخياني الذي كانت تضّطلع به تلك الطبقة تجاه الزّحف الصهيوني المدمّر، ولتواطئها أيضاً مع سلطات الانتداب البريطاني التي مكّنت الأخير من ابتلاع أرض فلسطين.

فالإقطاعي "داهم"، زعيم قبيلة العواونة، في رواية "أيام الحبّ والموت"، لم يكن يكتفي بابتلاعه أراضي قرى بكاملها، بل كان يعمد إلى الاستيلاء على المزيد منها، وإلى جزّ أعناق الفلاّحين الذين كانوا يحاولون التمرّد على سيطرته، ويدفع رجاله "الغلاظ" إلى ملاحقة الفارّين منهم والتنكيل بهم. وعندما يلقى حتفه على يدي الفلاّح محمّد أبو عمران تعقد قبيلته لواء الزعامة لابنه "هاجم"، الذي كان أكثر دهاء وقسوة من أبيه، وأكثر طمعاً أيضاً في حيازة أراضٍ جديدة، والذي قادته خيانته، الموروثة أيضاً، إلى بيع تلك الأراضي للمستوطنين الصهاينة تحت حماية أصدقائه البريطانيين ومعونتهم، ثمّ إلى فراره، فيما بعد، من القرية عند مواجهة فلاّحيها لهؤلاء المستوطنين على الرّغم من أنّه كان المشرف على فصيلها المقاتل بتكليف من جيش الإنقاذ!!

ولعلّ أبرز ما يميّز تلك الرواية في هذا المجال مماهاة الروائي بين الخطرين اللذين كانا يهدّدان الفلسطيني آنذاك: الخطر البريطاني- الصهيوني من جهة والخطر الإقطاعي من جهة ثانية، وتأكيده أنّ "العدو القومي والعدو الطبقي هما في خندق واحد وهما وجهان لعملة واحدة"(4)، ثمّ محاولته تبرئة دمه الفلسطيني من ذلك الإقطاع الذي كان يبيع أرض فلسطين للغرباء(5)، وذلك من خلال حديثه عن أصل قبيلة العواونة، الذي اختلفت روايات الفلاّحين حولـه: "فبعضهم يقول إنّ العواونة وفدوا من بلاد الحجاز، والبعض يقول إنّهم هبطوا من مصر".

 

وتقدّم رواية "الباشا" شخصيتين تمثّلان الإقطاع الفلسطيني في السنوات التي سبقت الإعلان عن قرار تقسيم فلسطين: الباشا الذي يحوز منصب رأس السلطة الاجتماعية والاقتصادية في البلد، والبيك الهاشمي اللاهث وراء ذلك المنصب. وإذا كان ثمّة ما يسوّغ لتلك الرواية العيوب الفنيّة التي تغصّ بها، فإنَّ ذلك يتجلّى من خلال تصويرها الدقيق، والمفصّل أيضاً، للإقطاع الفلسطيني وللتناحر الذي كان ناشباً بين زعاماته في المرحلة التي سبقت النكبة.

 

لقد كان الباشا صديقاً مقرّباً للمستر "كلارك"، ممثل حكومة الانتداب البريطاني في مجتمع الرّواية، يستولي على أراضي الفلاّحين بالدّهاء والخديعة حيناً، وبالقروض ذوات الفوائد الباهظة حيناً آخر. ويملك، فوق ذلك كلّه، مصنعاً كبيراً يستغلّ جهود العاملين فيه. يدّعي حرصه على البلد وسكّانه في العلن، ويبيع الأراضي للمستوطنين الصهاينة في السرّ. أمّا البيك الهاشمي، فلم يكن هو الآخر يرعوي عن ارتكاب أكثر الأساليب خسّة من أجل تحقيق مكاسب خاصة، تتناقض تماماً مع مصلحة الوطن، بل تؤدّي به إلى الضياع والدّمار. فهو الصديق الشخصي للخواجة الصهيوني المحموم لشراء أراضي الفلاّحين في البلد، ويده الطولى لتحقيق ذلك في كثير من الأحيان.. يدفع رجاله إلى قتل أحد الفلاحين ليلصق التهمة بعدوّه الباشا الذي ينافسه على منصب الباشاوية، ويحشو رؤوس الفلاحين بكلام خادع عن تاريخ أسرته النضالي، ويعدهم بالتصدّي للمستوطنين الصهاينة ولأعوانهم البريطانيين، لكنّه يفرّ بأمواله التي جمعها من بيع الأراضي للخواجة عندما تبدأ المواجهة المسلّحة بينهم وبين أعدائهم.

 

أمّا الصّورة التي يرسمها الروائي للباشا الصغير، سامي، الذي ورث هذا المنصب عن أبيه الباشا الإقطاعي بعد مقتله، فإنها لا تقنع القارئ كثيراً، وربّما لا تقنعه قطّ، فمن غير المعقول أن يتحوّل سامي، فجأة ودونما مقدّمات، من اللهاث المستعر وراء غرائزه الجنسية، الثعبانية تماماً، ومن إدمانه الخمر والحشيش، وانقطاعه عن الأحداث التي كانت تعصف بمجتمعه إلى شخصية كفاحية تتصدّى للخواجة الصهيوني، وتلتصق بقضايا الفلاّحين وتعيد إليهم ما سلبه الباشا الكبير. إن الروائي لا يقدّر، كما يبدو، أنّ تطورّ الحدث في العمل الروائيّ يتبع طبيعة الشخصيات التي تجسّده(6)، ومن اللافت للنظر تصدّي أحد دارسي الرّواية للدفاع عن تلك الطبقة الإقطاعية، آخذاً على القاسم تصويره "الإقطاع الفلسطيني حليفاً استراتيجياً للاستعمار وللصهيونية في مواجهة.. الفلاّحين"(7)، ومن اللافت للنظر أكثر تبرئته ذلك الإقطاع من امتصاص دماء الفلاّحين، وانتهاؤه إلى أنّ التناقض بين الإقطاع الفلسطيني والحركة الصهيونية كان "أقوى وأوضح وأكثر حسماً من التناقض القائم بينه وبين الطبقة الفلاّحية"(8)!!

وباستثناء رواية "الصبّار"، فإنّ نتاج الأرض المحتلّة لم يلتفت كثيراً إلى الإقطاع الفلسطيني، ومسوّغ ذلك، في تقديري، توجّهه إلى المرحلة التي تلت قيام دولة الاحتلال، والتي فقدت فيها تلك الطبقة المكانة المميزة لها قبلها. ورواية "الصبّار" نفسها لا تعنى بذلك كثيراً، فهي تكتفي بالإشارة إلى أنّ أسرة الكرمي ذات أصول إقطاعية فقدت انتماءها إلى هذه الطبقة(9) مع دخول الاحتلال الصهيوني إلى أرض الضفّة الغربية في حزيران 1967، وأنّها كانت تمتصّ جهود الفلاّحين الذين كانوا يعملون في مزرعتها قبل الاحتلال كما يعبّر الفلاّح أبو شحادة عن ذلك. وعلى الرّغم من أنّ الروائية أدانت غرق تلك الطبقة في أوهامها الماضوية، كما يمثّلها رأس أسرة الكرمي الذي كان يدعو الصحفيين إلى منزله دائماً ويمطرهم بما تجود به أوهامه تلك عن الاحتلال ومواجهته، فإنّ زعمها أنّ المقاومة تلد من رحم الإقطاع تقلب حقائق النضال الوطني الفلسطيني على رأسها، بل إنّها تتجاهل الدّور الحقيقي لباقي فئات المجتمع الفلسطيني، التي تنتمي إلى قاع الهرم الطبقي على نحو خاص، في ذلك النضّال.

هوامش وإحالات:

(1)النّحال، محمّد سلامة. "سياسة الانتداب البريطاني..". ص(41).

(2)انظر: صايغ، روز ماري، "الفلاّحون الفلسطينيون". ص(38).

(3)النّحال، محمّد سلامة. "سياسة الانتداب البريطاني". ص(41).

(4)أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص(210).

(5)انظر: عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص(263).

(6)انظر: لوكاش، جورج. "دراسات في الواقعية". ص(43).

(7)أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (280).

(8)المرجع السابق، الصفحة نفسها.

(9)من اللاّفت للنظر أنّ محمّد حسن عبد الله يرى، في معرض دراسته لهذه الرواية، أنّ أسرة الكرمي تمثّل بقية البرجوازية الفلسطينية‍! انظر كتابه: "الرّيف في الرّواية العربية". ص(285).

 

 

"المختار":

 

يتميز المجتمع العربي من سواه من المجتمعات الأخرى بوجود قوى تواضع الناس على مكانتها، ومنحوها بأنفسهم صلاحية صناعة القرار فيما يخصّ مشكلاتهم ويحفظ لهم أعرافهم وتقاليدهم. وقد كوّن المخاتير ورجال الدّين قمة الهرم داخل تلك القوى، وبرزت الفئة الأولى من أولئك بوصفها قوّة فاعلة في المجتمعات القروية خاصة.

وقد حظيت شخصية "المختار" بمكانة بارزة فيما يمكن الاصطلاح عليه بـ "رواية الرّيف العربي"، وبدت في الأغلب الأعمّ منها قوّة كابحة ومعوّقة لتلك المجتمعات لانشغالها الدّائم بخاصّها عن العام من جهة، ولتعاونها وتواطئها مع القوى الماصّة لجهود الفلاّحين والمحمومة لابتلاع أراضيهم من جهة ثانية.

 

ومن أبرز السمات المميزة لتلك الرواية عامة، وفي هذا المجال خاصة، إدانتها لتلك الشخصية، وتعريتها لدورها المثبّط لنموّ المجتمع الرّيفي وتقدّمه، ولتطوّر علاقات الإنتاج فيه، ولتمكينها المستعمر من إحكام قبضته على بلادها، ومن نهب أراضي الفلاّحين ومصادرتها، ومن ملاحقة الثوّار أحياناً.

 

وبتتبّع تجليات تلك الشخصية في النتاج الروائي الفلسطيني يخلص المرء إلى ثلاثة نماذج لها: أوّل يتناول صورتها في مرحلة الانتداب البريطاني والسنوات القليلة التي سبقت الإعلان عن تقسيم فلسطين، وثان يُعنى بها كما تجلّت في مرحلة ما بعد قيام "الدّولة"، أمّا الثالث فيحيل إلى صورتها في مخيّمات الشتات، كما يخلص إلى أنّ النموذج الأول هو الأكثر حضوراً من سواه بسبب توجّه معظم ذلك النتاج إلى المرحلة السابقة لقرار التقسيم.

تنتمي رواية غسان كنفاني: "أمّ سعد" إلى النموذج الثالث، وهي الوحيدة من مجمل نتاجه الرّوائي التي قاربت شخصية المختار، ولعلّها الوحيدة أيضاً من مجمل النّتاج الرّوائي الفلسطيني على مستويين بآن: مستوى الفضاء الجغرافي/ الاجتماعي الذي عالجت تلك الشخصية من خلاله وفيه، أي مخيّمات الشتات، ومستوى الدّور القمعي الوسيط الذي صوّرته. فبدلاً من أن يدافع المختار، في الرواية، عن شباب المخيم، السجناء بسبب رغبتهم في الانضمام إلى صفوف المقاومة، يطلب إليهم التوقيع "على ورقة يتعهّدون فيها أن يكونوا أوادم"، لكي يتوسّط لدى السلطات للإفراج عنهم.

 

وعلى الرغم من أنّ رواية رشاد أبو شاور: "العشّاق" انفردت بتصوير شخصية المختار في مجتمع الضفّة الغربية التي ضمّتها حكومة الأردن إلى سلطاتها الإدارية بعد النكبة، فإنّ الصورة التي قدّمتها لها لا تفارق صورة المختار في رواية كنفاني المشار إليها آنفاً، كما لا تفارق الصورة المستقرّة عن تلك الشخصية في المجتمعات العربية وفي النتاج الروائي العربي عامة. فالمختار "الصّديق الحميم للشرطة والمخابرات"، كان "كلّ الناس أعداءه، وَشَى بالكثيرين. شَهِد زوراً، فرّق أزواجاً عن زوجاتهم"، ولم يكن يقدّر مشاعر الناس، أو يحترم المضطهدين منهم في السجون.

 

وتابعت رواية أفنان القاسم: "الباشا" ما دأب عليه النتاج الروائي الفلسطيني في هذا المجال، إذ عرّت دور تلك الشخصية في تمكين الإقطاع الفلسطيني من إحكام قبضته على الفلاّحين، ثمّ ذوبانها وموت كرامتها لديه، وتحوّلها إلى بوق دعاوة له. فالمختار يسقط على يد سيّده الباشا، ويقبّلها، ويدعو لـه بطول العمر، ويحذّر الناس من متابعة إضرابهم الذي قاموا به احتجاجاً على إعدام الشهيدين أبي سنّة وعبد اللطيف، بدعوى أنّ هذا العمل سياسة، و "نحن أناس لا دخل لنا بالسياسة، للسياسة رجالها، وقد وعد الباشا أن يقوم بالواجب على أتمّ وجه".

والسمة نفسها تجلّت في رواية فيصل حوراني: "بير الشّوم" التي تابعت تعرية تلك الشخصية، وأدانت تخاذلها تجاه الأحداث التي كانت تعصف بوطنها، وفضحت أساليبها في تملّك الأراضي، وتواطآتها مع المستوطنين الصهاينة ومنظماتهم الإرهابية. فوليد أبو حامد، المختار في الرواية، سطا على الكثير من أراضي القرية عندما "أشرف بنفسه على إنهاء شيوع الأرض"، واستخدم دهاءه حتّى آلت أرض الفلاّح أبي جواد إليه. وعندما اشتعلت ثورة 1936، تصرّف بحكمة الخائن الذي يفعل في السرّ ما يقول نقيضه في العلن. ومع أنّ أنباء تهجير السكان العرب من قراهم في الشمال الفلسطيني، والفظائع الوحشية التي ارتكبها الصهاينة بعد التقسيم "قد هزّت قناعاته بعض الشيء، إلا أنّه كان يتمسّك بأمل السلامة"، مؤثراً مصالحه الخاصّة على مصلحة بلاده، ومعلّلاً نفسه بما قاله لـه مختار المستوطنة الصهيونية المجاورة لقريته: "إذا قعدتوا بحالكوا، بنهاجمكوش"، ومهدّداً الشيخ حسن بسحب الإمامة في مسجد القرية منه وباسترجاع الحقل الذي منحه له، إذا بقي مصرّاً على المشاركة في الثورة الفلسطينية التي كانت تشغل البلاد من أقصاها إلى أقصاها إبّان قرار التقسيم، وإذا ظلّ الشيخ متمسّكاً بتلبية "مفزّع" قرية "بيت دارس" التي طلبت النجدة لمواجهة عصابة "الهاجاناه" الصّهيونية التي كانت قد دهمتها منذ الفجر. وعندما أرسل ابنته الشابّة "زكية" لإخبار الرجال الذين هبّوا لنجدة "بيت دارس" أنّ الجنود البريطانيين يترّبصون بهم في طريق العودة، فإنه لم يفعل ذلك بدافع الوطني الغيور على مصير أبناء قريته، بل لأنّ البريطانيين لو أمسكوا بأولئك الرجال "بننفضح في البلاد.. وكلّ الناس بتقول مسكّهم وليد أبو حامد" كما قال لزوجته، محوّلاً ذلك، في الوقت نفسه، لمصلحته: "إذ إنَّ الفلاّحين سيعدّون ذهابها تضحية منه، ويحسبونها له". ومع أنّ قيادة الجهاد، في القدس، كانت قد كلّفته برئاسة اللجنة القومية في القرية!! إلاّ أنّه كان يطمع بقيادة فصيل المجاهدين أيضاً، وبسرقتها من المناضل الحقيقي أبي جهاد، مستعملاً لتحقيق ذلك كافّة الوسائل التي كانت تثير شهية بعض ممثلي القيادة. والرواية لم تصوّر موقف تلك الشخصية من قضية فلسطين بمعزل عن مواقف مخاتير القرى الفلسطينية الأخرى آنذاك، بل أكّدت أن أولئك جميعاً كانوا على شاكلته، يؤثرون سلامتهم الخاصّة على سلامة الوطن، وإذا كانوا قد أذعنوا، مثله في نهاية الأمر، لمواجهة المستوطنين الصهاينة، فإنّهم لم يفعلوا ذلك محبّة بالأرض أو خوفاً عليها من الضياع، بل "أمام تمسّك الفلاّحين بضرورة الجهاد واستجابتهم لداعي الدفاع" عن الأرض المهدّدة بابتلاع الصهاينة لها.

 

وعنيت رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" بشخصية المختار في المرحلة التي تلت قيام "الدّولة"، ولا سيّما في عقد السبعينيات الذي شهد محاولات مسعورة جديدة من سلطات الاحتلال لمصادرة ما تبقّى من أرض فلسطين. وكان من أبرز سماتها في هذا المجال عدّها تلك الشخصية، عاشور عبد الهادي مختار "عباد شمس" قبل النكبة ورئيس مجلسها المحلّي بعدها، في طليعة الجاحدين بالأرض والمتعاونين مع الاحتلال الأجنبي لأرض فلسطين بمرحلتيه: البريطاني والصهيوني. ففي المرحلة الأولى، كان عاشور يستفيد من مجمل القرارات التي أصدرتها حكومة الانتداب بشأن الأرض، فضمّ بموجبها مساحات جديدة إلى ملكيته، واستولى على أراضي الفلاّحين المعوزين بمبالغ زهيدة. وفي المرحلة الثانية كان صاحب الصّهاينة بتعبير الحلاّق طارق أبو وردة، يمالئ ضابطهم "كاتسمان" ضدّ أهل قريته، ويراكم نقوده في حيفا استعداداً للهرب من "عبّاد شمس" بعد أن أتت المستوطنة الصهيونية على معظم أراضيها.

 

أمّا رواية الأرض المحتلّة، فإنها لم تلتفت كثيراً إلى تلك الشخصية، ومسوّغ ذلك توجّه الكثير منها إلى المرحلة التي تلت الإعلان عن قيام "الدّولة" التي قضت سلطاتها على الأشكال التقليدية التي كانت قائمة في البنية الاجتماعية الفلسطينية، وأحلّت محلّها أشكالاً جديدة فقد المخاتير بقيامها مكانتهم.

 

 

"رجل الدِّين"(1):

 

شغل رجل الدّين، وما يزال، مكانة بارزة في المجتمع العربي، وقد استمدّ مكانته من الحضور الطاغي للعاطفة الدينية في الأغلب الأعم من الوعي الجمعيّ العربي، وبسبب ذلك، مارس دوراً لافتاً للنظر في تحديد شكل مؤسسات الدّولة وعملها، وفي توجيه سياساتها في كثير من مراحل التاريخ العربي الحديث، وغالباً ما كان ذلك الدّور يترجّح بين مستويين: الأول نصّي لا يتجاوز الأصول الرّئيسة لمصادر التشريع في الديانة الإسلامية ولتعاليم الكنيسة الأولى في الدّيانة المسيحية، ويعلّل مصائب الإنسان والاضطهاد الطبقي الواقع عليه بلعنات السماء لانصرافه عن الدين وانهماكه في حياة فانية زائلة. والثاني تنويري يتّصل بروح العصر الذي ينتمي إليه، ويتفاعل مع تحوّلاته.

 

وعلى حين كان الأول معوّقاً لحركة الواقع العربي، أسهم الثاني في تطوّر تلك الحركة وفي دفعها إلى الأمام دائماً، كما حدث في عصر التنوير، أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الذي أدّى رجال الدين فيه دوراً مميزاً في يقظة العرب القوميّة والحضارية.

 

ولعلّ من أكثر ما يثير انتباه المتتبّع للتجربة الروائية العربية ذلك التعارض بين صورة تلك الشخصية في الأغلب الأعمّ من النتاج الروائي العربي ومثيلتها في الرواية الفلسطينية بشكليها: رواية الشتات، ورواية الأرض المحتلة. فعلى حين اكتفى الأول، بل معظمه على نحو أدقّ، بالصورة الشائهة لرجل الدين، أي ما ينتمي إلى المستوى الأول(2)، تحرّر معظم المنجز الروائي الفلسطيني من ذلك، وقدّم نماذج مضيئة ممّا ينتمي إلى الثاني، أي الذي يتجلّى رجل الدين فيه بوصفه قوّة محرّكة للواقع، وتنويرية، وذات صلة وشيجة بمشكلات مجتمعها وقضاياه.

 

فباستثناء رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" حفلت الرّواية الفلسطينيّة بأكثر من نموذج يمثّل الصّورة المشرقة لرجل الدّين، التي تجسّد انتماءه إلى عصره ومشاركته الإيجابية في تحوّلات مجتمعه، ولا سيّما تلك التي تُعيد إليه اعتباره الوطني بعد أن أصرّ معظم النتاج الرّوائي على تصوير عزلته عن أحداث وطنه، وخيانته لـه في كثير من الأحيان. ففي رواية أمين شنّار: "الكابوس" يحرّض إمام القرية الفلاّحين على مواجهة المستوطنين الصّهاينة الطامعين في أراضيهم: "ولقد طال استعبادهم إيّاكم، وآن الأوان لترفعوا رؤوسكم. هم يريدوننا أن نكتفي بالهمس في زوايا أكواخنا الحقيرة. لكنّنا لن نستسلم بعد اليوم. هذه الأرض لنا، وهم غرباء".

وفي رواية رشاد أبو شاور: "العشّاق" لم يكن الأب "إلياس" أقلّ من الفلاّحين شغفاً بالأرض، فقد كان يتشمّم رائحتها في كلّ شيء في حياته، ولطالما كان يردّد اعتزازه بالانتماء إليها: "لو خُيّرت في أن أكون في وطن من الأوطان لاخترت فلسطين"، وإلى حد كان الإيمان لديه معه البوصلة التي تشير إلى الوطن، أو طريق الكفاح الذي يقود إليه" وكأنّ هذا الإيمان في نفسه فعلٌ يتجسّد في الشعب ويتألّه في الوطن"(3).

 

وقدّمت رواية فيصل حوراني: "بير الشّوم" نموذجاً مضيئاً آخر لتلك الشخصية، نموذجاً لا يكتفي بتحريض أبناء مجتمعه على الدفاع عن الأرض، بل يتجاوز ذلك إلى المشاركة في مواجهة أعداء هذه الأرض. فالشّيخ حسن لا تثنيه تهديدات المختار لـه عن إثارة حماس الرّجال في قريته لنجدة بيت دارس التي دهمها المستوطنون الصهاينة، كما لا تثنيه عن القتال إلى جانب هؤلاء الرّجال حتّى إصابته بجرح عميق في كتفه.

 

وانفردت رواية علي حسين خلف: "عصافير الشمال" من النتاج الرّوائي الفلسطيني الصّادر حتى سنة 1982 بتقديم صورة مفارقة لسابقاتها في هذا المجال، ولعلّ أبرز ما ميّز تلك الصورة جمعها بين شخصيتين معاً: إسلامية يمثّلها الشيخ عبد النّور إمام القرية، ومسيحية يمثّلها الأب سمعان خوري الكنيسة، وانتهاؤها إلى أن الشخصيتين كلتيهما، كانتا على قطيعة تامة مع الواقع حولهما، وتقدّمان امتيازاتهما الخاصة على القيم الدينية والوطنية التي كان من المفترض أن يصدرا عنها. فالشّيخ حسن لم يكن لديه "ما يقوله للناس سوى تكرار فرائض الوضوء" وهم يستفسرونه عن البساتين التي سيبتلعها جنود الضّابط الصّهيوني "كاتسمان"، والأب سمعان كان يصرف وقته في تناول الخمرة مع الشّيخ في أحد البساتين، كما أقسم "عبّورة" حارس المقبرة ذات يوم.

هوامش وإحالات:

(1) على الرغم من أنّ الديانة الإسلامية لا تعرف هذا التعبير كما هو شائع في الديانة المسيحية، فإنني آثرت استخدامه لكفاءته في اختزال القوى الدينية كافة.

(2) انظر على سبيل المثال النتاج الرّوائي السّوري: الشيخ نوّاف في رواية "المذنبون" لفارس زرزور، والشيخ جوهر في رواية "ينداح الطوفان" لنبيل سليمان، والشيخ حسين في رواية "الخيول" لأحمد يوسف داوود.

(3) زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطوّر الوعي..".. ص(128).  

 

 

"المقاتل":

 

ما من رواية فلسطينية، ممّا صدر بين عامي 1965 و 1982، لم يكن "المقاتل" جزءاً من مكوّن الشخصيات فيها من جهة، وليس لـه دوره المميّز في حركة السرد، بنسب متفاوتة بين رواية وأخرى، من جهة ثانية، ويمكن القول إنّ ثمة ما يشبه المواضعة بين الأغلب الأعم من نتاج تلك المرحلة فيما يتصل بتلك الشخصية، أي الإلحاح على صورة واحدة، تكاد تكون نمطية، يتجلّى المقاتل عبرها ومن خلالها شخصية مكتملة الوعي، وخالصة من الشوائب الانفعالية، كما لو أنها نموذج منجز على نحو سابق للكتابة أكثر منها شخصية حيّة تعبّر عن الواقع بما فيه من قيم مختلطة.

 

ولعلّ من أبرز السمات المميّزة لنتاج غسان كنفاني الروائي في هذا المجال، ليس تعزيزه لتلك المواضعة، أو الإفصاح عنها فحسب، بل حرص الروائي نفسه على تعبير شخصياته عن أكثر من جيل أيضاً، رغبة منه، كما يبدو، في تأكيد أنّ روح المقاومة لم تكن سمة جيل بعينه، بل سمة الأجيال الفلسطينية جميعاً، بدءاً من المحاولات الصهيونية الأولى لاحتلال فلسطين. ففي رواية "ما تبقّى لكم" ثمّة: سالم الذي لقيَ مصرعه على يد ضابط صهيوني بعد أن وَشَى به الخائن زكريا، وفتحي الذي قضى شهيداً وهو "يحضّر بصمت وكبرياء مهراً يليق بابنة أبي حامد"، مريم، أي مهر فلسطين كما تطمح الرّواية إلى قول ذلك.

 

وثمّة في "أمّ سعد": "فضل" الذي ينتمي إلى جيل المقاومة الفلسطينية قبل النكبة، والذي، في ثورة 1936، "طلع إلى الجبل. كان حافي القدمين، وحمل مرتينته وغاب طويلاً"، و "سعد" الذي ينتمي إلى الجيل الذي بدأ مع انطلاقة الكفاح المسلّح سنة 1965 وما بعدها بقليل، والذي كان يقف في ساحة المعركة "ثابت الساقين.. كأنّه شجرة، كأنّه صخرة"، و "سعيد" الذي ينتمي إلى جيل المقاومة الذي ولدته الهزيمة الحزيرانية، الجيل الذي كان قيد التكوّن استعداداً لمعركة التحرير القادمة.

 

وتنتمي الشخصيتان المقاومتان في "عائد إلى حيفا" إلى الجيلين نفسيهما اللذين قدّمتهما رواية "أمّ سعد": "بدر اللبدة" الذي "كان.. أوّل من حمل السلاح في منطقة العجمي.. عام 1947" في مدينته يافا، والذي جِيء به إلى داره بعد سنة من ذلك التاريخ "محمولاً على أكتاف رفاقه، كان مسدّسه ما زال في وسطه، أمّا بندقيته فقد تمزّقت مع جسده بقذيفة"، و "خالد" الذي ولدته هزيمة 1967، فحمل السلاح بحثاً عن فلسطين المستقبل الذي ستنهض لا بدّ من رمادها، والذي يمكن عدّه رمزاً لأمل فلسطينيي النكبة بعودة كريمة، ممهورة بالدّم، إلى الأرض.

 

وعلى الرغم من أنّ المتتبّع لنتاج جبرا إبراهيم جبرا الرّوائي لا يعثر على غير شخصيتين كفاحيتين في مجمل ذلك النتاج: فايز عطا الله في "السّفينة"، ومروان في "البحث عن وليد مسعود"، فإنّ هاتين الشخصيتين تتميزان من سواها في مجمل النتاج الروائي بتعبيرها عن طبقة اجتماعية محدّدة. ففايز عطا الله، كالأغلب الأعم من شخصيات جبرا الروائية، ينتمي إلى "الأنتلجنسيا" الفلسطينية، إذ ما إن يتعرّف المرء إليه حتّى يكتشف فيه شخصية مثقّفة، لكنّها الشخصية التي تجسّد انتماءها إلى الثقافة انتماء حقيقياً. فقد شارك، منذ يفاعته وهو طالب، في مظاهرات الاحتجاج على حكومة الانتداب البريطانية لسماحها باستمرار الهجرات الصهيونية، ودفع بحياته، قبل يوم واحد من قيام "الدّولة"، قرباناً لعدالة القضية التي آمن بها، وكانت عيناه "تحدّقان في أسوار القدس كحجريْن متلألئين".

 

ويمثّل مروان في "البحث عن وليد مسعود"، نموذجاً للجيل الشابّ في صفوف المقاومة الفلسطينية العاملة داخل الأرض المحتلّة، كما يمثّل تعبيراً عن الصّوت الخفيّ الضّارع في شخصية أبيه وليد مسعود إلى الالتصاق بأرض فلسطين البعيد عنها، وعن إيمانه بأنّ المقاومة المسلّحة هي الطريقة الوحيدة من أجل العودة إلى هذه الأرض. لقد كان مروان فلسطينياً "حتّى جذور شعره"، يعبّر عن حبّه للأرض في كلّ ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وفي أقسى لحظات مواجهته للموت: "الليل الفلسطيني ساكن، فيه قرصة برد طيّب، وراء الزيتون أرى النّوار مكوّماً على أشجار التّفاح وهو يلتمع فضيَّاً أخضر بضوء القمر. رائحة التراب الندي أتلذذ بها، والسماء الصافية لا يخفي القمر المتناقص كلّ نجومها. أسندت رأسي على سلاحي بطمأنينة.. جاءتنا إشارة بالاقتحام.. اشتعل الليل دفعة واحدة.. وفجأة انبهرت عيناي، وأطبق صوت يزن أطناناً على رأسي.. يصيح: مروان أصيب.. وامتلأ الفضاء العريض بوجه واحد هائل. وصحت: أبي.. أبي.... ولم يسمعني أحد".

 

وعلى الرّغم من أهمية الشخصيات الكفاحية الفلسطينية التي قدّمتها روايتا رشاد أبو شاور: "أيّام الحب والموت"، ورواية سحر خليفة: "الصبّار"، فإن ما ميز تلك الروايات من سواها من النتاج الروائي الفلسطيني، الصادر ما بين انطلاقة الكفاح المسلّح والاجتياح الإسرائيلي للبنان، تقديمها لشخصيات مقاومة من العرب، غير الفلسطينيين، التي شاركت في مقاومة الاحتلال الصهيوني: الشاويش المصري حسن والجندي السوداني مجيد في رواية "أيام الحبّ والموت"، والفدائي السّوري أبو نضال في رواية "الصبّار"، وعلى نحو دالّ على العمق القومي للقضية من جهة، وعلى المستوى الشعبي لذلك العمق من جهة ثانية.

لقد اختار المقاتلان العربيان، في رواية أبو شاور، البقاء في القرية، ورفضا الانسحاب مع وحدتهما العسكرية العاملة ضمن جيش الإنقاذ الذي دخل فلسطين عشية قرار التقسيم. أمّا الفدائي السّوري، في "الصبّار"، فقد انضمّ إلى صفوف المقاومة الفلسطينية بعد انطلاقة الكفاح المسلّح، وشارك في عملياتها القتالية خلال عدوان حزيران 1967، إلى أن اعتقلته سلطات الاحتلال الصهيوني.

 

وعني فيصل حوراني، في روايته "بير الشّوم"، بشخصية المقاتل أبي جهاد عناية خاصة ومميّزة من مجمل الشخصيات الكفاحية الأخرى التي قدّمها في تلك الرواية، والتي نهضت بأحداث المواجهة ضدّ المستوطنين الصهاينة ومنظماتهم الإرهابية في المجتمع الذي تتحرّك فيه تلك الأحداث والشخصيات. وعلى الرّغم من أنّه سمى نضال تلك الشخصية عملاً سياسياً، فإنّ المكانة التي منحها لها جعلها تتجاوز ذلك لتجسّد تماماً شخصيّة المقاتل الحقيقي الذي لا يفرّق بين النظرية والممارسة. فعلى المستوى الاجتماعي كان أبو جهاد مثار إعجاب الناس وتقديرهم، منَحه أهل قريته الخيّام "احتراماً يستحقّه عن جدارة.. عنده تنتهي مشاكل أهل الخيّام وإليه يأتي المتنازعون من سكّان القرى المجاورة"، وعلى المستوى النّضالي شارك في ثورة 1936 منذ بدايتها، ثمّ تولّى قيادة الفصيل المقاتل في قريته، ومع أنّ قيادة الجهاد في القدس، سنة 1947، عيّنت المختار قائداً للفصيل بدلاً منه، إلاّ أنّ إيمانه بأرضه وبقضية وطنه ظلّ مقيماً في وعيه، وهو ما دفعه إلى الاستمرار في المقاومة من غير أن يلقي بالاً للمكانة التي كان يحب أن يشغلها في صفوفها.

 

وقدّم أميل حبيبي في روايته: "الوقائع.." أكثر من شخصية مقاتلة لكنّه عني بشخصية "ولاء" خاصة، ذلك الشابّ الحيّي الضئيل الذي كان القطّ يأكل عشاءه كما كان أبوه المتشائل يصفه، والذي "أصبح فدائياً وأعلن العصيان المسلّح على الدّولة".

وولاء، في الرّواية، لا يمثّل امتداداً فيزيولوجياً لأبيه، بل شكلاً من أشكال التكفير عن خيانة المتشائل للأرض، أو هو صوته النازع، بين وقت وآخر، إلى الخلاص من إثم العمالة للمحتلّ. فقد آمن بأنّ السّلاح وحده هو مطهر الفلسطيني من عار السكون والاستسلام للواقع، وهو طريقه إلى الحرية التي ستتحقّق يوماً ما دام الجيل الفلسطيني يثق بأنّ الزمن لم يعد كفيلاً بحلّ المشكلات جميعاً، كما كان بعض الأسلاف يقولون، بل البندقية التي أورثها أولئك لهم بعد أن أنجبوا شباباً ما استطاع الصهاينة "إخراجهم من أرض إلاّ إلى زنزانة، وما هدموا عليها بيتاً إلاّ بعدما هدموا عليهم أسطورة".

 

وثمّة في رواية سميح القاسم: "إلى الجحيم أيّها اللَّيْلك" شخصيتان: سمير الذي ترك دراسة الاقتصاد السياسي في جامعة موسكو ليلتحق بصفوف المقاومة، وحسن الذي يمثّل نهوض الفلسطيني، بل نهوض الكفاح المسلّح بعد فترة "كساح" هيمنت على الذات الفلسطينية لفترة طويلة نسبياً من الزّمن بعد النكبة. وإذا كان الروائي أشار إلى الأولى عَرَضاً، ومنح الثانية مساحة واسعة من السرد، فلأنّها تنهض بالمقولة الرئيسة التي تطمح الرواية إلى تأكيدها وتعزيزها لدى القارئ الذي تتوجّه إليه. مقولة أنّ الكفاح المسلّح هو الدّواء الوحيد الناجع لشفاء الفلسطيني من لعنة الغربة التي تبدّد حياته بعيداً عن الأرض، وهو تلك الشمس الهائلة التي "تكتسح فضاء هائلاً مكتظّاً بالظّلام".

 

لقد كان أهل "الرّامة"، التي لجأ إليها حسن مع المئات من النازحين سنة 1948، يعتقدون بأنّه مُقْعَد ومجنون، ولذلك كان أطفال البلدة الأشقياء يعابثونه، غير أنّ "حسن" يثبت لهؤلاء، بعد خمسة عشر عاماً من النكبة، أنّ الكساح كان "في عقولنا وقلوبنا"، وأنّ موته الذي توهموه، بل موت الفلسطيني عامّة، كان مؤقتاً ليُبعث من جديد، مع انطلاقة الكفاح المسلّح، مزيّناً بالبندقية، شارةِ الطّريق إلى الحياة.

 

"المثقّف":

لم تكن قوافل الشهداء من المثقفين الفلسطينيين الذين قضوا دفاعاً عن وطنهم، أمثال: عبد الرّحيم محمود وغسّان كنفاني وكمال ناصر وماجد أبو شرار، تعبيراً عن عمق الاتصال بين النظرية والممارسة لدى الأغلب الأعمّ من المثقفّين الفلسطينيين فحسب، بل تعبيراً أيضاً عن دور المثقّف الفلسطيني في معركة تحرير الأرض من الاحتلال، ومن ممارساته القمعية المحمومة والمستمرة لإبادة الشعب الفلسطيني، ولاقتلاع جذوره من أرض وطنه، ولطمس تاريخه على هذه الأرض.

وقد شغلت شخصية المثقّف الفلسطيني مكانة مميزة في معظم الأعمال الرّوائية الفلسطينية، واستمدّت مكانتها تلك من الواقع الفلسطيني نفسه، الذي برزت فيه هذه الشخصية بوصفها نموذجاً للوعي المبكّر بالمخاطر التي كانت تهدّد الأرض الفلسطينية بالضياع، وللإيمان بالمقاومة وحدها جسراً إلى التحرير، وإلى استعادة الهوية العربية التي ميّزت تلك الأرض منذ أقدم حقب التاريخ الإنساني، وقبل ذلك كلّه بوصفها نموذجاً للمثقّف العضوي المندغم بمشكلات وطنه، والمعبّر عن آلام شعبه وآماله بصدق، والمستعدّ لفدائهما معاً، الوطن والشعب، بدمه وروحه.

 

وعلى الرغم من ترجّح تجلّيات هذه الشخصية في الأغلب الأعم من تلك الأعمال بين نموذجين رئيسين: مثقّف الأرض المحتلّة، قبل النكبة أو بعدها، ومثقّف الشّتات، فإنّ هذا الترجح نفسه ليس مطلق الدّقة دائماً، ولا سيّما في روايات جبرا إبراهيم جبرا، التي يتداخل فيها النموذجان معاً.

وكما يمكن التمييز بين نموذجين لتجليّات تلك الشخصية يمكن التمييز أيضاً بين مستويين لعلاقتهما بالأرض، يرتبط كلّ منهما بالنموذج الذي يحيل إليه: مستوى الصلة بالقضية أو القطيعة معها، ثمّ مستوى الوعي بطبيعة الصّراع مع الحركة الصّهيونية من جهة، وبمستقبل هذا الصراع من جهة ثانية.

 

ولعلّ أبرز ما يميّز نتاج غسّان كنفاني الروائي في هذا المجال خلوّه ممّا ينتمي إلى ذلك النوع من الشخصيات: أي: المثقّف. فباستثناء الرّاوي في: "أمّ سعد"، الذي يكتفي بسرد الأحداث ولا يشارك في صنعها ولا يتيح بذلك مجالاً لمقاربته بوصفه شخصية مثقفّة، فإنّ المتتبّع لذلك النتاج لا يعثر على شخصيات متمايزة فيما بينها على المستوى المعرفيّ، أو شخصيات لها خصوصياتها الفكرية، سواء أكان ذلك في الرّواية الواحدة أو في روايات الكاتب الأربع. وعلى الرّغم من أنّ لغة السّرد التي تنتجها شخصيتا حامد في "ما تبقّى لكم" وسعيد في "عائد إلى حيفا" تشي بانتماء هاتين الشخصيتين إلى حقل ثقافي ما، فإنّ المرء لا يمكنه تصنيفهما بوصفهما كذلك، لأنّ تلك اللغة تبدو نتاج الروائي وليست لغة شخصياته. ومسوّغ هذه السمة في روايات كنفاني إلحاح كنفاني نفسه على إنجاز أفكار أكثر من إلحاحه على إنجاز شخصيات لها وجودها المستقلّ عن منتجها، شخصيات تحقّق بدقّة مفهوم "النموذج الأدبيّ".

 

وبسبب الأيديولوجية الظلامية المهيمنة في رواية أمين شنّار: "الكابوس" يقزّم الروائي شخصية المثقّف عصام الفاخوري في حركة السرد، ولا يمنحها "حياة طويلة، أو فرصة للتعبير عن آرائها"(1)، لأنّها تمثل القوى الثورية "العلمية البعيدة عن الارتجال"(2)، والتي ترى أنّ التخطيط والتنظيم، وليس التعلّق بأضرحة الشيوخ، هما ما يكفلان للفلسطيني انتصاره في مواجهة الغرباء الطّامعين في أرضه. على حين يمنح شخصية علي سعد الدّين مكانة أرحب، بوصفها نموذجاً للمثقف الفلسطيني المنبتّ الصلة بقضية وطنه، والذي تبدو علاقته بالأرض طارئة وهامشية.

 

وتشغل شخصية المثقّف، العربيّ عامّة والفلسطيني خاصة، مكانة مميّزة في مجمل نتاج جبرا إبراهيم جبرا الرّوائي، ومكانة مميّزة أيضاً من مجمل النتاج الرّوائي العربي. وإلى الحدّ الذي يمكن القول معه إنّ جبرا فنّان الشخصية العربية المثقّفة بكلّ تناقضاتها وصراعاتها مع ذاتها من جهة، ومع الوسط الذي تنتمي إليه من جهة ثانية.

وتمثّل روايته: "السفينة" أولى نتاجه الروائي الصادر بعد انطلاقة الكفاح المسلّح إفصاحاً عن ذلك، وهي على الرغم من امتلائها بشخصيات عدّة ممّا ينتمي إلى ذلك القطاع الاجتماعي العربي، أي: قطاع المثقفين، فإنّ شخصية الفلسطيني وديع عساف فيها تمتلك ما يميزها من سواها من تلك الشخصيات، وما يمثّل نموذجاً دالاً على مهارة الروائي في بناء شخصيات إنسانية وثيقة الصلة بمفهوم "النموذج الأدبي"، بسبب ما وفّره لها من خصائص مادية ومعنوية جعلتها مثار إعجاب الآخرين واهتمامهم، وحوّلتهم أحياناً إلى أدوات تتحرّك في فلكها أو تسعى إلى الدّوران في مجرّته.

 

لقد كان وديع "يتكلّم بحرارة" ويضحك بحرارة.. تنحني كتفاه انحناءة المتحمّس لما هو أمامه، وشعره الأسود الكثّ مصفّف بعناية المتأنّق بمظهره.. حديثه.. ينهمر دائماً كالمطر"، لا يؤمن بأن ثمّة حقيقة مطلقة، أو ثابتة على الدّوام، فما "عرفته قبل يومين وما تعرفه اليوم ليس واحداً. الحياة تسيل، تجري، تسابق البشر. وهي كلّ يوم تغيّرك. تأكل منك، تقضم من حواشيك، توسّع رقعة الخدر في قلبك. وكلّ يوم تضيف إليك". أمّا الصدق، فهو "شحّاذ، ناسك، كافر، طاغية، ابن كلب، لا نريده".

ولم تكن النتيجة التي انتهى إليها عن الصدق بسبب تجربة خاصّة عاشها، بل بسبب تجربة وطنه الذي أفاق صبيحة الخامس عشر من أيار 1948 ليجد نفسه غريب الوجه واليد واللسان: "قلنا الصّدق حتّى بُحّت حناجرنا، وأضحينا لاجئين في خيام. توهمنا الصّدق في أمم العالم، وإذا نحن ضحية سذاجتنا". والصدق الوحيد الذي ظلّ مقيماً في داخله هو حبّه للأرض التي نزح عنها بعد النكبة، والتي ظلّت طوال حياته نقطة الدّائرة التي تتحرّك حولها أحلامه وهواجسه، وأحياناً معنى وجوده في الحياة: "قضيتُ هذه السنين كلّها مصرّاً على الزواج منها. أعني، الأرض. أجمع الفلْس إلى الفلس من أجلها من أجل نور عينيها... لقد نقلتُ أموالي إلى القدس، واشتريت أرضاً واسعة.. وسأشتري أرضاً أخرى.. وسأبني بيتاً كبيراً.. وأزرع البندورة والتّفاح، ولو أنّني لست فلاّحاً.. سأهشّم الصّخر، وأفرش عليه تراباً من تربتنا الحمراء الخصبة الجميلة.. وسأتزوج حالما أرجع، لكي أجمع بين المرأة والأرض".

 

وقد بلغت علاقته بالأرض ذروتها مع حضور الأخيرة دائماً في فلسفته عن الحياة والوجود، فحريّة الإنسان، هي: "في أن ترفض الهرب، في أن تجابه.. حرّيتك هي أن تكون مهندساً في أرضك"، ومع حضورها أيضاً في الحوارات الساخنة بينه وبين الشخصيات المحيطة به على ظهر السفينة، إلى الحدّ الذي دفع تلك الشخصيات معه إلى الاعتقاد بأنّه عضو في منظمة سياسية فلسطينية، فحديثه عن الأرض على ذلك النحو الذي لم يكن ينقطع، لم يكن مجرّد هَوَس صوفي، كما وصفه عصام السلمان، الذي أضاف: "وديع عسّاف لن يكون نفسه.. إلاّ إذا عاد إلى الله والأرض معاً. فإذا احتلّ اليهود الأرض، فقد احتلّوا إلهه".

 

ومهما يكن صواباً أنّ وديع عسّاف رمز للشّعب الفلسطيني(3)، أو نموذج لأبناء الطّبقة البرجوازية(4) الفلسطينية، فإنّ الأكثر صواباً، في تقديري، أنّه رمز لقطاع محدّد من ذلك الشعب، ولئن كانت ثمّة خصائص تجعله واحداً من أبناء الطبقة البرجوازية الفلسطينية، فإنّه ثمّة خصّيصة تجعله مغايراً لهم، هي علاقته العملية بوطنه، بينما الأغلب الأعمّ من البرجوازية الفلسطينية، في الشّتات خاصة، مستغرق في أوهامه النظرية المثخنة بكلام إنشائي عن النضال والأرض، وفي إطار تنظيمات سياسية خالصة لم يُثبت تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية تحوّلها إلى فعل نضالي مقاوم.

إنّ وديع عساف نموذجٌ منتقى بقصد من "الأنتلجنسيا" الفلسطينية، التي حاول جبرا الدّفاع عنها في مجمل نتاجه الرّوائي، كما حاول دحض الاتّهام الذي وصف ممثّليها باندماجهم في المجتمعات التي أقاموا فيها بعد النكبة وبانشغالهم بقضاياهم الخاصّة وانصرافهم، بقصد أو بغيره، عن قضيتهم الأساس، قضية فلسطين.

وعلى الرّغم من خفوت صوت فلسطين في رواية: "صيّادون في شارع ضيّق"، بالمقارنة مع مثيله في "السّفينة"، فإنّ الرواية تقدّم مادة لاستجلاء نموذج آخر للمثقّف الفلسطيني في نتاج جبرا الروائي، بل لمثقّف الشّتات خاصة.

 

وعامة، فإنّ شخصية المثقّف الفلسطيني جميل فرّان، الشخصية الرئيسة في الرواية، تطابق إلى حدّ كبير شخصية مواطنه وديع عسّاف في "السفينة"، مع فارقيّ المكانة العلمية والوظيفة الاجتماعية بينهما، ومع فارق اهتمام جبرا نفسه بتحديد السّمات الانفعالية لكلّ منهما، فعلى حين عني بشخصية وديع بما يكفي لعدّها نموذجاً أدبياً، لم تنل شخصية جميل منه العناية نفسها، ومن غير أن يعني ذلك أنّه لم يوفّق في رسمها(5)، فثمّة خصائص تميّز تلك الشخصية وترسّخ حضورها في ذاكرة القارئ، ولا سيّما علاقتها بالجذر الذي تنتمي إليه، أي: فلسطين.

 

وقد أفصحت تلك الخصائص عن نفسها منذ مطلع الرّواية، فبعد وصول جميل إلى بغداد التي أدهشته وهو يبدأ تقرّي شوارعها الرئيسة كانت صورة مدينته القدس هي الصورة الوحيدة التي تتجذّر في رأسه، صورة الماضي البهيّ والمؤلم معاً: "لقد نسيتُ أسفاري وما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أيّة مدينة في العالم سوى مدينة واحدة. مدينة واحدة أذكرها. أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءاً من حياتي مدفوناً تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرّحة وسقوفها المهدّمة، وقد أتيت إلى بغداد وعيناي ما زالتا تتشبّثان بها، القدس". وعندما كانت عيناه تجوسان نهر بغداد خيّل إليه بأنّ وجه حبيبته ليلى يطلّ فوق مائه، وحلم في الليلة نفسها بأنّ ليلى ترتدي عباءة سوداء مثل فتيات بغداد وهي تضحك ضحكتها المعهودة "قبل أن يضع لغم الديناميت اليهودي حدّاً لضحكها وضحكي". وعلى الرّغم من أنّ سُلافة، طالبته الخاصة في بغداد، كانت قد شغلته لفترة من الوقت، فإنّ "ذكرى الرّكام الذي دُفن في القدس" ظلّت تطارده، وإلى حدّ أنّه خاطب سلافة، مرّة، باسم ليلى من غير أن ينتبه لذلك.

وشغف كهذا بالوطن يجعل من الطبيعي أن تظلّ القصيدة التي كتبها عن القدس، أيّام الصّبا، حاضرة في ذاكرته دائماً، ولا تبدّد أحوال الزمن الفاجعة شيئاً من ألقها، المدينة التي تبدو سماؤها "ياقوتة لا تنتهي، صدفة غسلتها مياه البحر ورفعتها، لتولد فيها كلّ صباح أفروديت جديدة.. أرض التربة الحمراء والحجارة بلون الورود، أرض الزيتون بخضرته التي منذ الطّوفان ما حالت"، كما تجعل من الطّبيعي أيضاً أن تستبدّ صورة تلك المدينة بكلّ خالجة منه، وأن تنفذ إلى أيّ شيء يذكّره بها، أو يجلو صدأ الغربة عنها، فـ "باريس"، التي كانت ضيوف "سلمى الرّبيضي" يتحدّثون عنها بإعجاب شديد، لم تكن ذكرياته عنها تحرّضه على المشاركة في الحديث، "بل عوضاً عن ذلك، راحت شوارع القدس تنسرح كلّها أمام عينيّ، صاعدة، نازلة، منعطفة، وبناياتها بحجرها الأبيض تذرّ ذرّ الأشعّة، وتسكب وهج الفضّة والذّهب الذي يتلألأ في خيال العشّاق جميعاً حين يطول بهم الفراق".

 

ومع أنّ رشاد أبو شاور لم يمنح، في روايته "أيام الحبّ والموت"، شخصية المثقف الفلسطيني، التي يمثّلها الأستاذ خليل معلّم القرية، سوى مساحة صغيرة من الرّواية، إلاّ أنّه قدّم، من خلالها، صورة للمثقف الفلسطيني المؤمن بعدالة قضية وطنه، والذي يحوّل ذلك الإيمان إلى فعل نضالي يعزّز به ومن خلاله مفهوم المثقّف العضوي الذي تتماهى لديه النظرية بالممارسة. فالأستاذ خليل، الشابّ الطيّب الذي كان أهل القرية جميعاً يجلّونه ويعبّرون عن تقديرهم لـه و "يجلسونه في صدر المكان بين الوجهاء وحوله الوسائد وتحته الفراش الذي لا يوضع إلاّ تحت الضيوف"، لم يغره ذلك كلّه بالبقاء في القرية عندما اندلعت المواجهات بين المستوطنين الصهاينة والفلسطينيين عشية قرار التقسيم، بل عوضاً عن ذلك قرّر: "أنا راحل لقريتي، رايح أحارب هناك".

 

وتقدّمَ رشاد أبو شاور في روايته "العشّاق" خطوات واضحة في التعبير عن علاقة المثقّف الفلسطيني بأرض وطنه، فبطله "محمود" لم يكن يفكّر وهو خارج لتوّه من السجن بالحريّة، بل بما يعني الطّريق إليها. أي بالمقاومة المسلّحة التي ستعيده مع الآخرين إلى الأرض التي اقتلعوا منها، وبدلاً من أن تثيره تلك الطبيعة السّاحرة التي كانت تكلّل طريق عودته إلى البيت، كان يفكّر بمدينته "أريحا" التي كانت تبدو لـه "نهاية الوطن وبدايته، منكِ يدخل كلّ آتٍ، أو غازٍ لفلسطين، ومنكِ يخرج أيضاً"، كما لم يكن حبّه لـ "ندى" ليستمدّ ألقه أو معناه إلاّ من مفردات الأرض، وممّا يجعلهما معاً جزءاً منها. قلبه شجرة موز، وندى الماء الكثير الذي يحتاجه هذا الشجر: "فهاتي ماءَكِ، وتعالي نركض في البساتين تحت قمر أريحا".

 

وتوحّده بالأرض لم يكن يعني لـه صموده فقط أمام محاولات الصّهيونية الجديدة لابتلاع ما تبقّى من أرض فلسطين في حزيران 1967، بل عَجْزها أيضاً عن تحقيق رغباتها المسعورة في إبادة الشعب العربي الفلسطيني: "يظنّون أنّ باستطاعتهم كشطنا عن أرضنا، نحن لسنا هذه البيوت الطينية التي يسهل هدمها، نحن التراب، فكلّما كشطوا طبقة، واجهوا طبقة أخرى. وكلّما أزاحوا صخرة، جوبهوا بصخرة".

 

وعلى الرغم من أنّ علاقة "حسن"، الشخصية المثقفّة الثانية في "العشّاق"، بالأرض لا تفصح عن نفسها سوى مرّة واحدة من بداية الرواية إلى نهايتها، أي عندما يعبّر عن ولعه بفصول أريحا المتطرّفة دائماً: "صيفُكِ قاسٍ يا أريحا، لكنّه حلو، جهنّمي، وحادّ، وشرس، ولكنّي أحبّكِ"، فإنّ ظلال السرد تنهض بمهمّة تصوير تلك العلاقة على نحو يذكّر بصنيع غسان كنفاني في روايته "أمّ سعد"، فقامة حسن "الرّبعة، تنبثق من الأرض انبثاقاً"، والأرض نفسها تحقّق لـه غايتين في طريق عودته إلى المخيّم بعد الاشتباك مع الدّورية الإسرائيلية: تخفيه عن عيون الإسرائيليين، وتفتح شهية رئتيه الدائمة للامتلاء برائحة ترابها.

 

وعلى نحو مغاير تماماً للشخصيات المشار إليها آنفاً تبدو شخصيتا خليل السيلاوي ونهى عابدي في رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال"، فبدلاً من أن ينهض خليل، المدرّس في ثانوية القرية للذكور، بدور المثقّف الذي ينبّه إلى المخاطر التي تحدق بمجتمعه، ويسهم في مواجهتها، يتردّد إلى منزل المختار عاشور عبد الهادي المفرط في أنانيته والمتعاون مع سلطات الاحتلال، ثمّ يقبل بالعمل مديراً لـ "البار" الذي افتتحه الضّابط الصّهيوني "كاتسمان" في "عبّاد شمس ب"، أي المستوطنة. ولم تكن "نهى"، المدرّسة في ثانوية الإناث، أحسن حالاً منه في هذا المجال.

 

وتتميّز رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة.." من سابقاتها في هذا المجال أيضاً بتقديمها لشخصيتين مثقفّتين متناقضتين تماماً، فعلى حين تمثّل شخصية أستاذ المتشائل في المرحلة الابتدائية الانتماء القومي للمثقّف الفلسطيني، وإيمانه بالدّور الحضاري لأجداده العرب، وبالرّسالة الإنسانية التي حملها أولئك الأجداد إلى العالم، تبدو شخصية مدير مدرسة عكّا الثانوية متحلّلة من ذلك تماماً. فهي تسوّغ هدم المحتلين الصهاينة للقرى الفلسطينية وتشريدهم لأهلها بعودتهم "إلى وطنهم (كذا) بعد غيبة ألفي سنة"، وترى أنّ "في قلوبهم لرأفة لم يحظ بها.. الغزاة الذين سبقوهم" على الرّغم ممّا ارتكبوه من جرائم، وأنهم فوق ذلك كلّه "لا يدنّسون حرمة دور العبادة". ومن المثير للانتباه أنّ "حبيبي" لا يضع المقولات الزائفة لتلك الشخصية في سياق الأسلوب السّاخر لسرده، بل بوصفها مسلّمات تجري على لسان المدير بطريقة أفعوانية توهم القارئ غير المزوّد بوعي كاف بتقنيات الجنس الروائي بصوابها‍!

وأكّدت سحر خليفة في: "الصبّار"، من خلال الصّورة التي رسمتها لشخصية أسامة الكرمي، أنّ النظرية والممارسة يجب أن تكونا متلازمتين في وعي المثقّف الفلسطيني خاصة، وأنّ غياب الثانية يجعل من النظرية ادّعاء، ومن القول زيفاً، فأسامة يضع طموحه الشخصي، أي متابعته لدراساته العليا في جامعة دمشق، وراء ظهره، ويؤثر العودة إلى أرضه لينخرط في صفوف المقاومة، محققاً بذلك ما كان يردّده دائماً من أنّ الفعل النضالي الذي ينطلق من داخل الأرض المحتلّة هو الفعل الوحيد الذي يجسد الاندغام التامّ بين ما يقوله المثقّف الفلسطيني وما يفعله، وهو الذي يتجاوز أيضاً وهم الشعارات التي يلوكها بعض مثقفّي الشّتات عن الأرض، والوطن، والقضية.

 

وتتجلّى شخصية المثقّف الفلسطيني في "أوتوبيوغرافيا" سميح القاسم: "إلى الجحيم أيّها الليلك" من خلال شخصية الراوي خاصة، التي تطغى على ما عداها من الشخصيات المثقّفة الأخرى في الرّواية، بل على الشخصيات جميعاً أيضاً. وتفصح الرواية عن علاقة تلك الشخصية بالأرض منذ اللّوحة الأولى فيها، أي عندما يكشف الراوي، في حديثه لحلقة "أبناء سام" التي تديرها صحفية دنمركية والتي تضمّ كما يبدو مثقفّين صهاينة يساريين، عن المفارقة القائمة في الفكر الصهيوني بين ما يزعمه من حقّ تاريخي في أرض فلسطين وحقائق التاريخ نفسه، ثمّ عن المفارقة بين ما يجيزه قادة هذا الفكر لأنفسهم وما يمنعونه عن أصحاب الأرض الشرعيين: "قلتم إنّكم لم تفقدوا الحنين إلى هذه البلاد، رغم غربة ألفي عام، فكيف تتوقّعون أن يفقد شعبنا الحنين.. بعد غربة ربع قرن فقط؟. سام أو حام أو يافط. هذه الأمور الأثنولوجية لا تعنيني كثيراً، المهمّ أنني فقدت وطناً كاملاً وحقيقياً". وتجهر تلك العلاقة بنفسها، وعلى نحو رمزيّ دالّ، في الحوار الذي نشب بينه وبين الجندي الصهيوني "أوري" في ساحة القتال، أي عندما أكّد أنّ "دنيا" التي أحبّها منذ طفولته ثم شرّدتها النكبة، والتي تبدو رمزاً لفلسطين في الرّواية، هي الحقيقة الوحيدة التي عرفها تاريخ المنطقة، وليست "إيلانة" التي يحبّها "أوري" والتي تبدو لديه رمزاً لإسرائيل: "-تكرهني لأنّني أحب إيلانة!/ قلت: -أنا لا أعرف إيلانة. أعرف دنيا وأحبها، ولا تنسَ أنّك دمّرت حبّنا../ صاح أوري ساخراً: -دنيا هذه التي تتحدّث عنها، لا وجود لها البتّة. الحقيقة الوحيدة هنا هي إيلانة!../ -في البدء كانت دنيا، وستبقى دنيا إلى الأبد، يجب أن تفهم ذلك". ولم يكن ثمّة حاجة لمزيد من الحوار، فقد قالت الأرض الحقيقة بنفسها عندما انقضّ فرع شجرة ضخمة، تمدّ جذورها عميقاً في التراب، على "أوري" ومزّق جسده.

هوامش وإحالات:

(1) ماضي، شكري عزيز. "انعكاس هزيمة حزيران..". ص(64).

(2) أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربية". ص(141).

(3) انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربية". ص(236)

(4) انظر: أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص(226).

(5) انظر: الفيّومي، إبراهيم حسين. "الواقعية في الرّواية الحديثة في بلاد الشام". ص(170).

 

 

 

"المرأة":

 

على الرغم من أنه ليس مسوّغاً قطّ، في أيّ من حقول الحياة، التّفريق بين قطبي الحياة الإنسانية: الرّجل والمرأة، فإنّ مقاربة شخصية المرأة في الرواية الفلسطينية بوصفها مكوّناً مستقلاً ومميزاً من سواه من الشخصيات، لا تعدو كونها إجراءً نقدياً فحسب، أملته تلك الرواية نفسها، التي تحوز المرأة فيها مكانة لافتة للنظر، بوصفها معادلاً جمالياً للأرض من جهة، وقوّة فاعلة وحيّة في النّضال الوطني الفلسطيني من جهة ثانية.

وباستثناءات قليلة جداً، وفيما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، تبدو هذه الشخصية، في الأغلب الأعم من النتاج الروائي الفلسطيني الصادر ما بين عامي 1965 و 1982، لصيقة بمشكلات وطنها وقضاياه، ورمزاً لأرض فلسطين، أو لفلسطين نفسها.

ومن أكثر التجارب السردية الفلسطينية جهراً بذلك روايات غسان كنفاني الصادرة بعد انطلاقة الكفاح المسلّح، التي تتّرجح مكانة المرأة وصورتها فيها بين مستويين: أوّل تضارع المرأة فيه ومن خلاله الشخصيات الذكورية حضوراً في الحدث الروائي، كما "مريم" في: "ما تبقّى لكم"، وثان تتقدّم فيه ومن خلاله عليها، كما أم سعد في الرواية الموسومة باسمها. وفي المستويين معاً تمثّل المرأة في تلك الروايات معادلاً جمالياً لفلسطين، وتعبيراً عن مرحلة محدّدة من تاريخ الصراع الفلسطيني/ الصهيوني.

فـ "مريم"، في "ما تبقّى لكم"، رمز للواقع الفلسطيني الذي تلا النكبة، وهي رمز لفلسطين التي لوّثها الخونة بالعار، كما يمثّلهم زكريا النتن، الضئيل البشع كقرد حسب وصف حامد له، في لّجة ضياعها وإحساسها بافتقاد "فتحي" الذي أحبّها في صباها واستشهد قبل أن يتوّج حبّه بالزّواج منها، والذي يرمز إلى المقاومة المسلّحة التي دفعت مريم، بغيابها، إلى الإثم، إلى الحمل سفاحاً من زكريا الذي كان يُردّد مسعوراً: "أنتِ أرض خصبة أيّتها الشّيطانة". وما انطلاقة أخيها حامد باتجاه أمّه، التي ترمز هي الأخرى إلى أرض فلسطين، سوى رمز لانطلاقة الكفاح المسلّح التي مكّنته من الثأر لشرف أخته المهدور.

 

وتجهر تلك السمة بنفسها في شخصية "أمّ سعد" أيضاً، التي برع كنفاني في نمذجتها وأسطرتها، ولكن على نحو دالّ على "الأسطوريّ العادي الكامن في البشر"(1)، والتي تبدو وجهاً آخر للأرض، واختزالاً بآن للمرأة الفلسطينية في المرحلة التي شهدت انطلاقة الكفاح المسلّح، ولـ "الحالة الشعبية العامّة في الزمن الفلسطيني الجديد"(2)، الذي كانت المرأة الفلسطينية خلاله، مثل أمّ سعد، "تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلّف وفلسطين تأخذ".

لقد كان كلّ شيء في وجود أمّ سعد يستمدّ ألقه من توحّدها الدّائم بالأرض، كأنّهما، أمّ سعد والأرض، كلّ واحد لا يمكن التفريق فيه بين الأصل والفرع: "وفجأة رأيتها قادمة من رأس الطريق المحاط بأشجار الزيتون.. مثل شيء ينبثق من رحم الأرض.. هذه المرأة تجيء دائماً. تصعد من قلب الأرض وكأنّها ترتقي سلّماً لا نهاية له"، تجيء "مثلما تنفجر الأرض بالنبع المنتظر منذ أوّل الأبد".

 

ولأنّها كذلك، فقد كانت معرفتها بما لـه صلة بالأرض تتجاوز حدود الجذر الاجتماعي الذي تنتمي إليه، وتمثّله، فهي تعرف أنّ "الدّالية.. لا تحتاج إلى كثير من الماء"، لأنّ عرقها "يعتصر حبّات التراب في عمق الأرض ويشربها"، وأنّ الزيتون لا يحتاج إلى ماء أيضاً، لأنّه "يمتصّ ماءه عميقاً في بطن الأرض. من رطوبة التراب". ويبلغ توحّدها بالأرض ذروته في التعبير عن نفسه في الرّواية من خلال المعادلة التي يشكّلها كنفاني بين مفردات جسدها والأرض، فساعدها "الأسمر القويّ.. يشبه لونُه لونَ الأرض، وراحتاها "تشبهان جلد أرضٍ يعذّبها العطش".

 

وعلى النقيض من ذلك تبدو "صفية" في "عائد إلى حيفا"، أي بوصفها استكمالاً لدائرة العلاقات الإنسانية في مجتمع الرواية أكثر منها نموذجاً للمرأة الفلسطينية، ولعلّ ذلك هو ما جعلها شخصية نمطية مسطّحة(3)، ولا تمتلك أيّة خصوصية.

 

والمتتبّع لنتاج جبرا إبراهيم جبرا الرّوائي لا يعثر على أكثر من شخصيتين نسويتين فلسطينيتين: ليلى شاهين في "صيّادون في شارع ضيّق"، وأمّ مروان زوجة وليد في "البحث عن وليد مسعود". لم تنل الثانية سوى مساحة ضئيلة من حركة السرد الروائي، ولم يُعن الروائي بنمذجتها، على حين فعل ذلك فيما يخصّ الأولى، أي ليلى شاهين التي تبدو في الرواية المعادل الجمالي لمدينة بطله جميل فرّان، القدس(4). واللتان يمكن اعتبارهما معاً، ليلى والقدس، رمزاً للوطن الفلسطيني المغتصب الذي ظلّ حاضراً في حياة جميل وملازماً لنبضه في الغربة.

 

وقدّم رشاد أبو شاور، في روايتيه: "أيّام الحبّ والموت" و "العشّاق"، أكثر من صورة للمرأة الفلسطينية، وعني بشكل خاص بالصورة التي تجسد علاقة هذه المرأة بالأرض، أو بالوطن الفلسطيني عامّة. ففي روايته الأولى تمثل "حلوة" المرأة الفلسطينية الفلاّحة التي تساوي الأرض بالشرف: "أرضكو راحت عرضكو راح"، والتي لم توافق على الزواج من الفلاّح سلمان إلاّ لأنّه رجل يحبّ الأرض، وشهم، كما قالت له. أمّا "أمّ حسن"، في روايته "العشّاق"، فتمثّلُ معادلاً لفلسطين نفسها(5)، فهي تزغرد لانطلاقة أبنائها عندما يتصدّون للمستوطنين الصهاينة الطامعين بابتلاع المزيد من الأرض، وتخلع ثياب حدادها على الشهداء عندما يحوّل هؤلاء الأبناء إيمانهم بالثورة إلى فعل كفاحي يستردّ الأرض والكرامة معاً.

 

وإذا كانت رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" أدانت المرأة الفلسطينية المثقّفة من خلال الصّورة التي رسمتها لشخصية نهى عابدي، فقد تجاوزت تلك الصورة إلى نقيضها من خلال المرأة الفلاّحة، وعلى نحو يشي برغبة مضمرة لدى الروائي في تأكيد الصلة التي كانت تربط القاع الاجتماعي الفلسطيني بأرض وطنه، فعلى الرّغم من السعادة الغامرة التي ملأت نفس "جميلة" لنجاة ابنها من بطش الجنود الصهاينة الذين دهموا القرية، فقد صرخت في وجهه غاضبة عندما علمت منه بأنّهم استولوا على سيّارته في طريق عودتهم: "اخس على البزّ اللي رضّعك! اخس على تربايتي فيك". أمّا "أمّ عيسى" فقد كانت تعبّر عن رفضها لتهويد الأرض الشمالية من القرية بمفردتها الأثيرة: "فشروا"، وكرّرت المفردة نفسها عند عودة الجنود لاقتلاع الناس من بيوتهم، مستمدّة قوّتها على مواجهتهم ممّا يرمز إلى الأرض، إذ يتوحّد جسدها بساق شجرة الزيتون وهي تناجي ابنها: "عيسى يمّا! إحنا هون على صدورهم دبشة كبيرة ما بتنهّد! إحنا هون قاعدين على فشّتهم.. بلادنا وإحنا حرّين فيها".

 

وترمز "باقية"، في رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة.."، إلى الصوت النقيض للمتشائل، أي صوت الفلسطيني الملتصق بأرضه والمؤمن بقدرة هذه الأرض على النهوض من رمادها، إذا ما أحبّها وأخلص لها وحاول استعادة الكنز الثّمين الذي خلّفه لـه الأجداد، كنز المقاومة المسلّحة. كانت تحدّث ابنها الوحيد ولاء دائماً عن أولئك اللصوص الذين اغتصبوا أرض فلسطين، كما كانت تحمّله دائماً أيضاً سرّ الصناديق المخبوءة في البحر، وأملها في الوصول إليها يوماً، وعندما يكتشف ولاء تلك الصناديق تؤثر الانضمام إليه، ليس خوفاً عليه من بطش الجنود الصهاينة، بل لأنّها كانت تعرف بأنّ ما يخبّئه الصندوق هو الوسيلة الوحيدة الكفيلة بحمايته، وبحماية أرض الوطن الفلسطيني كلّه من الضياع أكثر: "آتية أنا إليك.. ففي الصّندوق رشّاش آخر".

 

وتبدو شخصية "أسمى" في رواية نبيل خوري: "حارة النصارى"، على النّقيض من شخصية "باقية" في رواية "حبيبي" المشار إليها آنفاً فهي متناقضة ومسطّحة وبعيدة عن العمق تماماً، على الرّغم من أنّها الشخصية النسوية الوحيدة في الرواية. ومن قرائن تناقضها أنها تحبّ يوسف لأنّه بطل، ثمّ تتضايق لأنّه استشهد. تتمنّى، مرّة, لو أنّها شاركته حمل السلاح دفاعاً عن القدس، ومرّة أخرى تعتبر استشهاده رعونة وطيشاً. ولأنها كذلك، فلم يكن غريباً قولها: "يحبّ الإنسان وطنه.. يقدّسه، ولكن ليس إلى درجة الموت"، كما لم يكن غريباً أيضاً وصفها لما كان يوسف يردّده عن الأرض، والوطن، والفداء، والتضحية، بأنه "كلام فارغ".

وقدّمت سحر خليفة في روايتها: "الصبّار" نمطين متعارضين للمرأة الفلسطينية داخل الأرض المحتلّة: "نمط خرج مع الثّورة إلى دنيا المغامرة الواعية والفعل الثّوري، ونمط عتيق جفّف التقليد والاتّباع نسغ الفكر والفعل فيه"(6). وعلى الرغم ممّا كانت توفّره لها هاتان الشخصيتان النسويتان اللتان تنتميان إلى النمط الأول، نوّار ولينة، واللتان كانتا لا تدخران جهداً في الوقوف إلى جانب قضايا وطنهما السياسية والاجتماعية، فإنهما لم تنالا منها الاهتمام الكافي الذي يجعل منهما نموذجين أدبيين، على حين حظي صوت النمط الثّاني، أمّ أسامة وأمّ صابر وسعدية، بمساحة أكبر من اهتمامها، فضيّعت، بذلك، على نصّها فرصة التعبير عن الدور المشرق للمرأة الفلسطينية المثقّفة في حركة النضال الوطني الفلسطيني.

هوامش وإحالات:

(1) عاشور، رضوى، "الطريق إلى الخيمة الأخرى". ص(120)

(2) وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينية". ص(65).

(3) انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربية. ص(309)

(4) انظر: الخطيب، محمّد كامل. "الرّواية والواقع". ص(26).

(5) انظر: زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطوّر الوعي..". ص(148)

(6) فرّاج، عفيف. "الحريّة في أدب المرأة؟". ص(258)

 

 

 

"الصّهيوني":

 

شغلت الشخصية الصهيونية مساحة واسعة في معظم النتاج الرّوائي الفلسطيني، ولا سيّما الصادر منه بعد انطلاقة الكفاح المسلّح، وإلى حد يمكن القول معه إنّه ما من رواية من ذلك النتاج إلاّ وقدّمت شخصية، أو أكثر، تجسّد طبيعة الفكر الصهيوني، وتكشف عن سياساته وأساليبه ومطامعه في أرض فلسطين.

وباستجلاء أعمال غسّان كنفاني الروائية يخلص المرء إلى ثلاث ممّا ينتمي إلى تلك الشخصية: الجندي الصهيوني في "ما تبقّى لكم"، و "إيفرات كوشن" وزوجته "مريام" في "عائد إلى حيفا"، يترجّح حضورها في الروايتين بين مستويين: الأوّل: تتجلّى الشخصية معه ومن خلاله بمنأى عن التفكيك والتركيب الفنّيين اللازمين، كما في الرواية الأولى، وآخر تحظى الشخصية معه ومن خلاله أيضاً بهذين معاً، كما في الرواية الثانية.

 

فعلى حين لم يُعنَ الروائي برسم الملامح المميزة لشخصية الجندي الصهيوني الذي يلتقيه حامد في الصحراء، على الرّغم من أهمية تلك الشخصية ودورها في استكمال أطروحته القائلة بأنّ توحّد الفلسطيني بأرضه يمنحه القوّة الكافية لمواجهة أعدائه الطّامعين في هذه الأرض، يضيء بتفصيل دالّ شخصيتي "إيفرات" و "مريام" اللذين تسلّما منزل الفلسطيني "سعيد، س" من الوكالة اليهودية بعد أيّام من وصولهما إلى حيفا. ولعلّه من المفيد، قبل البدء باستجلاء الخصائص المميزة لهاتين الشخصيتين كما قدّمها الروائي، ردّ توهمين: الأول ما انتهى إليه شكري عزيز ماضي من أنّه "لأول مرّة في أدب غسّان كنفاني تظهر شخصيات إسرائيلية"(1)، والثاني ما وصف به أحمد أبو مطر هاتين الشخصيتين بأنهما "يهودية وليست صهيونية"(2).

 

ولنفي الأول نكتفي بالإحالة إلى رواية "ما تبقّى لكم" السابقة لهذه الرواية، إذا شئنا تجاهل تجربة كنفاني القصصية. ولا يحتاج المرء لدحض الثاني، إلى أكثر من القول إنّ مجرد إضافة كلمة "مستوطن" إلى أيّة شخصية يهودية، تجعل منها "صهيونية" بالضرورة، حتّى لو بَدَت تلك الشخصية فائضة بما هو إنسانيّ.

 

لقد صوّر كنفاني "إيفرات" و"مريام" بدقّة وموضوعية تامتين، فمن الطّبيعي أن ترتجف الثانية لمرأى الطفل العربي الذي ألقاه جنديان صهيونيان ميتاً في شاحنة "كأنّه حطبة"، ومن الطبيعي أيضاً أن تبدو حضارية في تعاملها مع سعيد قبل أن يأتي ابنه خلدون، أو "دوف" كما سمته هي وزوجها. ولعلّ هذين الموقفين هما اللذان أوهما أبو مطر بصفة اليهودية في هذه الشخصية، وينفي صفة الصهيونية عنها، وهما موقفان تفرضهما طبائع المرأة العاقر كما كانت مريام، التي كانت مستعدّة لتقديم أغلى ما تملك من أجل أن تمنحها السماء طفلاً. وغير خاف أن اشتراك "إيفرات" في العدوان الثلاثي سنة 1956 كاف لتأكيد سمة الصهيونية في تكوين هذه الشخصية أيضاً.

وبرع أمين شنّار، في روايته "الكابوس"، بتصوير الأساليب الأفعوانية التي لجأ المستوطنون الصهاينة الأوائل إليها لابتلاع أرض فلسطين، فالخواجة موسى يمنّي شيخ القرية، السلطة العثمانية كما يبدو في الرّواية، قائلاً: "إذا انهدم الجبل، بين قريتكم والعالم، ودخل أولادي وأحفادي بيوتكم، فسيكون لكَ المجد والسلطان جزاء عونك وتأييدك"، ثمّ يأتي بخواجات آخرين "من أمثاله.. لم يكتفوا ببيع القماش، بل تسلَّلوا إلى شؤون القرية كلّها، وصار أحدهم خفيراً" لدى الشيخ الجديد، الذي لم يكن أحد من أهل القرية يثق بأنّه كذلك، والذي يرمز إلى الانتداب البريطاني، إلى أن أعلنوا عن موته، وعن قيام سلطتهم المطلقة على القرية، أو عن قيام دولة الاحتلال الصهيوني كما تريد الرّواية أن تقول.

 

وعلى الرغم من أنّ جبرا إبراهيم جبرا لم يقدّم، في رواياته الثلاث، شخصيات صهيونية، فإنه عرّى الممارسات التي كانت تقوم بها منظمات هؤلاء لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم. ففي روايته "صيّادون في شارع ضيّق" صوّر كيف كان الإرهابيون الصّهاينة "يقتلون البريطانيين.. وينسفون دوائر الحكومة ومعسكرات الجيش ونوادي الضّباط" من أجل إثارة الفوضى في البلاد، وإجبار البريطانيين على الانسحاب منها ليتسنّى لهم بسط نفوذهم على أرض فلسطين، كما صوّر وحشية أولئك الإرهابيين الذين كانوا ينقضّون على بيوت العرب، ليجعلوا منها "خرائب.. تتعاقب في صفّ طويل، كما في حلم مخيف"، وكيف "كان القرويون العرب يُذبحون في الظلام الغادر" على أيديهم.

 

وعلى حين اكتفى رشاد أبو شاور، في روايته "أيّام الحب والموت"، بوصف المستوطنين الصهاينة بالقول: "ملاعين غدّارين، بتلبّدوا عالسّكت في الليل مثل الحيايا"، دحض، في "العشّاق"، المزاعم التاريخية للحركة الصهيونية في أرض فلسطين، وذلك من خلال شخصية الخواجة اليهودي العراقي داوود الذي ادّعى أنّه عالم آثار، وأنّ قبائل عبرية سكنت مدينة أريحا منذ آلاف السنين. وقد وفّق أبو شاور في الردّ على تلك المزاعم بأسلوب رمزي بارع، إذ جعل أرض أريحا تنفر بنفسها من مزاعمه تلك ومنه أيضاً، ويلقى حتفه بإحدى عظام الجثث التي نبشها من الأرض وهو يلهث وراء ما يتوهّم أنّه يؤكّد ادّعاءاته.

وإذا كانت الرّوايات السّابقة أصرّت على تقديم صورة واحدة للشخصية الصهيونية، فإنّ أفنان القاسم، رغبة منه في القول إنّ الحركة الصهيونية لم تستطع التغلغل بين صفوف اليهود جميعاً كما لم تستطع إقناعهم بأنّ الدّيانة اليهودية تشكّل قومية لها عوامل ارتكاز تاريخية وأنثربولوجية، قدّم في روايته "الباشا" صورتين متناقضتين لتلك الشخصية: واحدة تمثّلها بوصفها إنساناً مسالماً تضغطه التناقضات الطبقية ويعيش إلى جانب العربي دون عداء أو كراهية له، وثانية تمثّلها حاقدة على هذا العربي وطامعة بأرضه.

 

تنتمي العجوز اليهودية أمّ سارة إلى الصورة الأولى، فهي تبكي حزناً لإعدام الفلاّحين أبي سنّة وعبد اللطيف، وتصف سلطات الانتداب البريطاني التي أعدمتهما بالقَتلة، وتحذرّ الفلاّح الشابّ حمدان، الذي كان يبهرها بحبّه لأمّه وأرضه، من أن تقوم هذه السلطات برفع لواء الموت بين العرب واليهود. على حين ينتمي الخواجة الذي لا يسميه الروائي إلى الصّورة النقيضة، أي الصهيوني الذي يسلك لتحقيق أغراضه ومطامعه أكثر الأساليب حربائية ووحشية، فهو يعفي عمّال مزرعته من العمل عندما يُضرِب الفلاّحون احتجاجاً على إعدام الشهيدين، ويدفع لهم أجورهم كاملة. يدّعي محبّة الباشا والبيك الإقطاعيين، كلٌّ منهما على حدة، للاستيلاء على أراضي الفلاّحين التي يسيطران عليها، ويقتل السائق هادي الخضرجي عندما يكتشف الأخير أنّ صناديق اللّوز التي نقلها إلى مزرعته تخفي عدداً هائلاً من البنادق، ويحقّق، من بعد ذلك كلّه، أهدافه جميعاً طالباً من الباشا الجديد سامي على لسان أحد الجنود البريطانيين "تسليم القصر خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، وسيُعنى بنقلكم إلى البلد العربي الذي تختارونه".

والصّورة الأولى التي قدّمها الروائي عن الشخصية الصهيونية، لا تقنع القارئ بوصفها شخصية نقيضة للخواجة، ليس لأنّه لا يمنحها القدر نفسه من المكانة التي تشغلها الشخصية الثانية في السرد فحسب، بل لأنّه يكتفي بوصفها، ولا يدع لها فرصة التعبير عن نفسها، ولذلك تبدو في تقديرنا شخصية ذهنية، مسبقة الصنع في وعي الروائي أكثر منها شخصية واقعية.

 

ومن أبرز ما ميّز رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" في هذا المجال، عدم تفريق الروائي بين ممارسات الفكر الصهيوني على المستويين الفرديّ والسلطويّ، إذ رأى أنّ هذين المستويين وجهان لعملة واحدة مسكونة بوحش مسعور لافتراس الأرض الفلسطينية كلّها، بدعوى الاحتراز الأمنيّ حيناً، وبدعوى التطوير حيناً آخر. وحش يمصّ حتّى دم الدّجاج، بتعبير الروائي، ولا يرعوي عن تحويل بيوت الفلسطينيين "إلى خرائب وعقارب.. ولو احترق العالم" كلّه، ولا يرفّ لـه جفن لمرأى طفل يموت.

وبهذا المعنى، فإنه يمكن القول إنّ الروائي قدّم صورة دقيقة، وتكاد تكون كاملة، للشخصية الصهيونية دون تزيّد، أو مبالغة، كما يفعل الأدب الصهيوني الذي يقوم على "الكراهية والسخرية والتشويه الفظّ لشخصية.. العربيّ لمجرّد كونه عربيَّاً"(3).

 

وعنيت سحر خليفة، في روايتها: "الصبّار"، بتصوير الشخصية الصهيونية كما تتمثّل في ممارسات دولة الاحتلال، والتي عرّت الروائية من خلالها وحشية تلك "الدّولة" وأساليبها القمعية في إرهاب الفلسطيني وإبادته، أو دفعه إلى النزوح عن بيته وأرضه في أحسن الأحوال.

 

ولعلّ أبرز ما ميّز رواية خليفة في هذا المجال تأكيدها، على نحو غير مباشر، أنّ علاقة الصهاينة بالأرض لا تتجاوز كون الأخيرة مادة للتملّك فحسب، فهم لا يتعاملون معها بحسّ الإنسان الذي أفنى عمره في خدمتها، كانوا يجرّدونها "من أغطية الربيع خوفاً من اندساس ما ليس مرغوباً فيه. وخوفاً من تسلّل مخلوقات تسعى للإطاحة بأمن" سلطاتهم. ينتزعون بصمات الفلسطيني عنها ليلغوا حقائق وجوده الموغل في عمق التاريخ فوقها. ينسفون منازل المُشتبه بتعاملهم مع الفدائيين، ويصفون الأخيرين بقولهم: "مخرّبين عرافيم ملوخلاليم"، أي مخرّبون عرب قذرون. لا يمنحون الفلسطينيين العاملين في مؤسساتهم أي ضمان ضئيل، ويميّزون بين هؤلاء الفلسطينيين وعمّالهم. الفرق شاسع، في أعرافهم، بين العامل الفلسطيني والعامل الصهيوني: "الشغلة الثقيلة لمحمّد والخفيفة لكوهين.. للعمّال اليهود غرف طعام.. أمّا نحن فنجلس على الأرض لنتناول طعامنا تحت الشّمس أو في الكراج بين الخردة والزيت والشحمة".

 

وتبدو الشخصيتان الصهيونيتان اللتان قدّمهما سميح القاسم في روايته "إلى الجحيم أيها الليْلك": أوري وإيلانة، أداتين للتعبير عن خطاب الرّواية أكثر منهما تمثيلاً للشخصية الصهيونية، ولذلك لا تمكن مقاربتهما إلاّ بوصفهما رمزين فحسب، الأوّل يمثّل الفكر الصّهيوني الذي يتوهّم دعاته تنفيذهم الوعد الإلهي المزعوم، القائل بعودتهم إلى ما يسمّونه "أرض الميعاد"، والثاني يمثّل هذه الأرض كما تعنيه إيلانة. وما علاقة الحبّ التي تصل بين هاتين الشخصيتين إلاّ محاولة لتأكيد ذلك الوعد، والتي يستحيل بغيابها بقاء أوري على أرض فلسطين. إنّ القاسم يكشف، في روايته هذه، عن ركيزة رئيسة في الفكر الصهيوني، أي الركيزة القائلة بأنّ تحقيق الوعد الإلهي لا يمكن أن يتمّ بغير الاتصال الرّوحي بين الصهيوني وأرض فلسطين.

هوامش وإحالات:

(1)-ماضي، شكري عزيز، "انعكاس هزيمة حزيران". ص (135).

(2)-أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (219).

(3)-شلحت، أنطوان. "شخصيّة العربيّ في الأدب العبريّ". ص (10).

 

 

 

تركيب:

 

لم يكن اهتمام الرّواية الفلسطينية، فيما يتّصل برصدها لعلاقة الفلسطيني بأرضه وبقضية وطنه، وقفاً على قطاعات اجتماعية أو معرفية معيّنة، بل توزّع اهتمامها بهذه العلاقة بين مختلف مكوّنات المجتمع الفلسطيني، وكان من أبرز القطاعات التي حرصت على تصوير علاقتها بالأرض وبقضية وطنها عامة: الفلاّح، والإقطاعي، والمختار، ورجل الدِّين، والمقاتل، والمثقّف، والمرأة، والصّهيوني.

وقد اتسمت مقاربتها لتلك العلاقة بالخصائص التالية:

1-أكّدت التصاق الفلاح الفلسطيني بأرضه، وإيمانه المطلق بأنّ هذه الأرض هي ما تمنح الإنسان المخلص لها، والمتوحّد معها، القوّة على مواجهة أعدائه، وهي ما يعني وجوده وشرفه بآن، كما صوّرته مكافحاً عنيداً، ومثّلت لعلاقته بالأرض بالشجرة التي تمدّ جذورها عميقاً في التراب، كما صوّرت الطبيعة الآسرة التي كان يعيش بين ظهرانيها قبل اقتلاعها منها.

2-استطاعت أن تسدّ نقصاً بيّناً في الدراسات التي عنيت بالتركيب الطبقي للمجتمع الفلسطيني قبل النكبة، وأن تملأ بآن فراغات تلك الدراسات فيما يتصل بالإقطاع خاصة. ومن أبرز الخصائص التي ميّزتها في هذا المجال تعريتها لأساليب هذا الأخير في ابتلاع أراضي الفلاّحين، عن طرائق التزوير والقروض حيناً، والسلب حيناً آخر، وإدانتها، غير المباشرة، لتعامله مع سلطات الاحتلال العثماني، والبريطاني، ثمّ مع المنظمات الصهيونية التي كانت تتولّى عمليات شراء الأراضي ونقل ملكيتها إلى المستوطنين الصهاينة، فتفريقها بين شكلين له: الإقطاع الفلسطيني، والإقطاع العربي غير الفلسطيني، وإلحاح أكثرها على أنّ الثاني هو الذي باع هذه الأرض للمنظمات الصهيونية. ثمّ تصويرها التناحر الفارغ الذي كان ناشباً بين زعاماته، وتأكيدها أنّ ذلك التناحر أسهم بدور بارز في تمكين المستوطنين الصهاينة من شراء الأراضي، ومن ثمّ الإعلان عن قيام "الدولة" وضياع الوطن الفلسطيني.

3-قدّمت ثلاثة نماذج لشخصية المختار: الأوّل يمثّل هذه الشخصية كما تتجلّى في المرحلة الممتدّة ما بين نهاية الاحتلال العثماني والأيّام القليلة التي سبقت النكبة، والثاني يمثّلها في مرحلة ما بعد قيام "الدّولة"، أمّا الثالث فيحيل إلى صورتها في مخيّمات اللجوء الفلسطيني. وقد عني الأغلب الأعم منها بالنموذج الأول، بسبب توجّه أكثره إلى تلك المرحلة، وانتهى الأغلب الأعمّ منها أيضاً إلى أنّ شخصية المختار آنذاك مكّنت الإقطاع من إحكام قبضته على أراضي الفلاّحين، وإلى ذيليتها وتبعيتها له، وقيامها بدور الوسيط في كثير من الأحيان بينه وبين أولئك الفلاّحين الذين كانوا يضطّرون إلى بيع أراضيهم تحت ضغط الحاجة، أو الضرائب الباهظة، أو قروض الإقطاعيين الجائرة لهم، وكما أدانت تخاذلها حيال الأحداث التي كانت تعصف بوطنها، عرّت بآن أساليبها في سرقة الأراضي أيضاً. أمّا الرّواية التي عنيت بالنموذج الثاني، أي شخصية المختار في المرحلة التي تلت قيام الدولة، أو شخصية رئيس المجلس المحلّي كما أصبح المختار يسمّى في هذه المرحلة، فقد كشفت عن تواطؤ تلك الشخصية مع سلطات الاحتلال الصهيوني، وعن ممالئتها لها، وتمكينها من ابتلاع ما تبقّى من أراضي الفلاّحين الفلسطينيين. على حين تناولت الرّواية التي عنيت بالنموذج الثالث الدّور القمعي الوسيط الذي قام به مخاتير المخيّمات الفلسطينية ما بين الأنظمة السياسية العربية وأفراد المخيّم، وعلى نحو خاص الأنظمة التي لم تكن تسمح للفلسطينيين اللاجئين بالعمل السياسي، وتمنع التحاق الشباب منهم بحركة المقاومة الوطنية الفلسطينية.

 

3-باستثناء أعمال قليلة جدّاً، فإنّ معظم ما ينتمي إلى رواية الأرض الفلسطينية أكدّ انتماء رجل الدِّين الفلسطيني إلى قضية وطنه ودفاعه عن أرضه. ولم يكتفِ عدد منه بهاتين السمتين اللتين ميزتا تلك الشخصية فحسب، بل أضاف إليها سمة ثالثة تبدو على قدر كبير من الخصوصية في المنجز الروائي العربي عامة، أي علاقة القداسة التي تربط بين رجل الدّين وأرضه، وإلى حدّ بدت تلك العلاقة معه صورة للإيمان الحقيقي بالله، أو شكلاً من أشكال التوحّد به.

4-اتسمت صورة المقاتل في رواية الأرض الفلسطينية بخصائص كثيرة، منها: تعبيرها عن أجيال عدّة، يمثّل كلّ منها مرحلة بعينها من مراحل الكفاح الوطني ضدّ الحركة الصهيونية، والجيل الأكثر حضوراً فيها هو جيل الأمل الذي بدأ مع انطلاقة الكفاح المسلّح سنة 1965. وغالباً ما تجلت هذه الشخصية فيها مكتملة الوعي، وخالصة من شوائب الواقع واختلاطاته، وغالباً أيضاً ما عني الروائيون بتصوير اللحظة الأخيرة من حياتها، وبلغة حارّة مؤثرة تتّجه، في الأغلب الأعمّ، إلى التعبير عن العلاقة الحميمة التي تصل المقاتل بأرضه، والتي تبلغ ذروة اكتمالها وتعبيرها عن نفسها في بذله دمه وروحه من أجلها، مجسداً بذلك وعي شعبه بأنّ الطريق الذي اختاره هو الطريق الوحيدة المؤدية إلى الوطن. وغالباً ثالثاً ما تجلّى المقاتل في تلك الرواية صنواً للشجر أو الصخر المشدودين إلى الأرض دائماً. وعلى الرّغم من أنّها قدّمت شخصيات عربية مقاتلة، عاملة في صفوف جيش الإنقاذ أو العمل الفدائي الفلسطيني، فإنّها لم تعنَ بها إلى الحدّ الذي تجسّد من خلاله المعطى القومي للنضال ضدّ الحركة الصهيونية.

5-قدّمت نموذجين لشخصية المثقّف، عبّر كلّ منهما عن الفضاء الجغرافي الذي تتحرّك تلك الشخصية فيه ومن خلاله: مثقّف الشّتات، ومثقّف الأرض المحتلّة، وقد اتسّم هذان النموذجان فيها بسمات كثيرة، من أهمّها: تداخلهما في بعض الروايات، وانتماؤهما، على الأغلب الأعمّ، إلى الطبقة البرجوازية الفلسطينية، وعلى الرغم من أنّ عدداً منهما بدا معزولاً عن أحداث وطنه، فإنّ أكثرهما أكّد التصاقه التام بالأرض، كما أكدّ إيمانهما معاً بأنّ البندقية هي المنارة الوحيدة التي تضيء طريق العودة إلى الأرض المغتصبة.

6-مثّلت المرأة في رواية الأرض الفلسطينية مكوّناً مركزياً في الخطاب الروائي، ورمزت فيها عامة إلى أرض فلسطين أو فلسطين نفسها دائماً، وبدا أكثرها ملتصقاً بالأرض، ومعادلاً لشرف الفلسطيني، ليس بوصفها امرأة فحسب، بل بوصفها تعبيراً أو تمثيلاً للأرض أيضاً.

7-لم تفرّق رواية الأرض الفلسطينية، في معرض رصدها للشخصية الصهيونية، بين الأفراد والسلطة اللذين يمثّلانها. وعلى الرّغم من أنّ عدداً منها قدّم نماذج إنسانية لتلك الشخصية، فإنّ معظمها أكدّ طغيان صورتها الوحشية. ويمكن إجمال الخصائص التي تجلّت من خلالها في تلك الرواية بما يلي: أساليبها الأفعوانية التي اتبعتها مع الاحتلالين العثماني والبريطاني والإقطاع الفلسطيني لابتلاع الأرض الفلسطينية من أصحابها الشرعيين، وممارستها العنصرية، ليس بين اليهود والعرب فحسب، بل بين اليهود أنفسهم أيضاً، ثمّ تدميرها القرى العربية الفلسطينية، واقتلاعها سكّان هذه القرى من أراضيهم، وإطلاقها أسماء عبريّة عليها، وانتهاكها حرمة المقدّسات الدّينية ودور العبادة الإسلامية والمسيحية.

 

 

 

الفصل الرّابع: تجرَبة الشّكل الفنّي

وسائل التعبير الفنّي:

 

باستثناء أعمال قليلة، فإنَّ "الأدب الفلسطيني حتى منتصف الخمسينات.. لا يعدو كونه أدب حنين رومانسي"(1)، ومسوّغ ذلك في الرّواية خاصة "مسيرة الآلام الطويلة التي عاشها المثقّف الفلسطيني منذ بداية الاحتلال البريطاني حتى نكبته الفادحة. سنة 1948"(2).

 

ومن الزعم تماماً القول إنّ الأعمال الروّائية التي تنتمي إلى ذلك الاتجاه، أي: الرومانسي، كانت ملتصقة بالجماهير و"مشدودة دوماً إلى عالم الواقع"(3)، ليس بسبب قطيعتها مع القضية المركزية للفلسطيني الذي تتحدّث عنه، والذي كان يواجه محاولات مسعورة لنفيه خارج أرضه، ولتشويه حقائق وجوده التاريخي على تلك الأرض فحسب، بل بسبب قصورها أيضاً في إدراك جوهر العلاقات التي كانت تحكم مسار الواقع الفلسطيني من جهة، وبسبب انصراف كتّابها إلى حالات اجتماعية لا علاقة لها بذلك الواقع أو بمثيراته السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية من جهة ثانية.

ولئن كانت انطلاقة الكفاح المسلّح منعطفاً في مسيرة النّضال الوطني الفلسطيني ضدّ الاحتلال الصهيوني، فقد كانت بآن بداية رؤية جديدة أثرت الأدب الفلسطيني بأساليب تعبير متطوّرة، استطاعت أن تستقرئ واقعها، وأن تعي الجوهري فيه. وعلى الرّغم من بروز ثلاثة اتجاهات رئيسة في الأعمال التالية لتلك الانطلاقة: الرّومانسي، والرّمزي، والواقعي، فإنّ رواية الأرض الفلسطينية كانت أكثر النتاج الرّوائي الفلسطيني اتصالاً بالأخير، كما كانت أكثره وعياً لأطروحة "البيريس" القائلة إنّ رواية الأرض، من وجهة النظر الواقعية، تمتلك وسائل التفوّق جميعاً، لأنها تستفيد من إطار فتّان وأصيل أبداً(4).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه لم يكن ثمّة واقعية خالصة في تلك الرواية، فقد تلوّن بعض خصائص الرّومانسية، أو الرّمزية، أو كلتيهما معاً هذا الاتجاه الفنّي في النصّ الروائي الواحد، وبنسب متفاوتة بين رواية وأخرى.

 

لقد تمكّنت الرّواية الواقعية الفلسطينية، ورواية الأرض مكوّن أساسي فيها، من مقاربة أكثر جوانب الواقع الفلسطيني تأثّراً بقضية الصّراع مع الحركة الصّهيونية، ولا سيّما الاجتماعي والسياسي منها، فرصدت التحوّلات الجذرية التي خلخلت البنية الاجتماعية الفلسطينية، قبل الاحتلال الصهيوني وفي أتونه، وربطت تلك التحوّلات بمرجعيتها السياسية ربطاً محكماً للغاية. وتتمثّل أكثر الإنجازات التي حقّقتها، على المستوى الجمالي في عنصرين: البنية الروائية، واللغة.

وتُعدّ أعمال غسّان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا الروائية أكثر روايات الشّتات تمثّلاً للعنصرين معاً. فإذا كانت كلّ رواية عظيمة تدين بجمالها إلى صيغة(5)، فإنّ ممّا وفّر لرواية كنفاني "ما تبقّى لكم" تلك الصيغة هو التداخل والتّقاطع ما بين موضوع الرّواية وشكلها الفنّي، أي ما بين مادّتها الحكائية ومبنى هذه المادّة، ثمّ تعددّ مستوياتها السّردية التي تنتقل من الوصف إلى الحياة الدّاخلية للشخصيات إلى أنسنة الجمادات، السّاعة خاصة، التي كانت تعبّر عن الوضع النفسي المأزوم لبطليها: حامد ومريم، فتنوّع ضمائر الخطاب ما بين السّارد والمتكلّم والمخاطب، وتوازي هذه الضّمائر حيناً، وتقاطعها حيناً آخر.

 

غير أنّ ذلك الإنجاز الجمالي الذي حققه الروائي لم يتابع مسيرته في: "أمّ سعد"، التي يغيب فيها الصّراع عن الحدث تماماً، وينهض الحوار بمهام العناصر الأخرى جميعاً، ومع أنّ مبناها الحكائي الذي ينهض على تسع لوحات يوحّد بينها زمن واحد وفضاء واحد في الغالب أيضاً يشي باختراقها تقاليد السّرد الرّوائي، إلاّ أنّ ذلك لا يعبّر عن نفسه إلاّ في مواقع قليلة فحسب.

 

ومهما يكن صحيحاً أنّ "عائد إلى حيفا" كانت رواية "محدودة فنيّاً مكتوبة على عجل.. تجنح لنقل الواقع بشكل ذهني"(6)، وأنها ذات بناء تقليدي(7)، يتحوّل في قسمها الثّاني إلى محاورة نظريّة خالصة تفتقد الكثير من عناصر الفنّ الرّوائي(8)، فإنها ليست كذلك في مكوّنات شكلها الفنيّ جميعاً، ولا سيّما مكوّن الوصف الذي تمكّن كنفاني من خلاله من تحرير حركة السّرد من هيمنة الرّاوي العالم بكلّ شيء، وحققّ بدقّة من خلاله أيضاً الحدّين الرهيفين اللذين عدّهما "ريكاردو" شرطاً لنجاح الرّوائي في استخدام ذلك المكوّن: الحدّ الذي يرى أنّ الوصف الخلاّق سابق، وفي اتّجاه معاكس للمعنى، والحدّ الذي يعني أنّ التزيّد فيه يمعن في تجميد الشخصيّات(9) ويلغي حركتها وفاعليتها داخل الأحداث.

 

فالوصف في الرواية، الموجّه في الأغلب الأعمّ منه إلى ردود أفعال الشخصيات تجاه الأحداث المحيطة بها، أتاح للروائي مجالاً لاستبطان الدّواخل النّفسية لتلك الشخصيات، ومن أمثلة ذلك ما عبّر به "دوف" عن قلقه عندما "عرّفته "مريام" إلى والديه الحقيقيين، أي تجواله داخل الغرفة، وعن هروبه من نشيج أمّه "صفية" بارتداده إلى الوراء كأنّ شيئاً ما قد دفعه بقوّة، ثمّ عن خوف "مريام" من افتقادها لـه بحركة يديها المرتجفتين.

وعامة، فإنّ تجربة كنفاني الروائية تترجّح بين اتّجاهين فنّيين: واقعي ورمزي، وغالباً ما يبدو هذان الاتّجاهان حاضرين لديه في الرّواية الواحدة. والتغيّر الأسلوبي الذي يلاحظه الباحث بين نصّ روائي وآخر في أدبه يرتبط بصورة واضحة بتغيّر الوعي وتطوّره عنده، كما يرتبط بطبيعة التحوّلات السياسية المتلاحقة في الواقع الفلسطيني، من غير أن يتحوّل ما هو سياسي إلى خطاب إيديولوجي مباشر.

 

وعامة أيضاً، فإنّ روايات جبرا إبراهيم جبرا تتّسم بانتمائها المطلق إلى الرّواية الجديدة فـ"السفينة" رواية أصوات أكثر منها رواية أحداث، وهذا البناء الذي شيّد جبرا معماره الروائي عليه لم يكن لعبة شكليّة(10)، لأنّه البناء الوحيد والملائم لرواية تعتمد أساساً ما يُعرف بتيّار الوعي الذي ينهض أساساً على تعدّد الأصوات، وتنوّع ضمائر الخطاب، وانتقال هذه الضمائر من المتكلم، إلى المخاطب، فالغائب، ثمَّ مناجاة النفس(11). إنّ المبنى الحكائي في "السفينة" يحطّم الحدود الفاصلة بين عنصري المكان والزّمان، ويقوم على تداخل هذين العنصرين وتقاطعهما حيناً، وتوازيهما حيناً آخر.

 

ولم يحفل جبرا في روايته التالية: "صيّادون في شارع ضيّق" بتلك التقنيات، كما لم يحفل بعنصر الصراع الذي يُعدّ محركاً أساسياً للأحداث. وعلى الرغم من تجلّي هذا الأخير في أجزاء من حركة السّرد، فإنّه في الأغلب الأعمّ بدا صراعاً فكريّاً وليس واقعياً، بمعنى توجهه "لخدمة حاجة فكرية، شخصيات فكرية"(12) أكثر منها واقعية. ومع أن جبرا كان يبدي محاولات عدّة لمماهاة ما هو فكري بما هو واقعيّ، إلاّ أنّ ذلك لم يكن يفصح عن نفسه دائماً، وما يلبث أن ينقطع بين موقع وآخر في الرّواية، ويظلّ صوت الشخصية هو الطاغي وليس فعلها. ولعلّ ازدحام الرواية بالمقولات هو ما جعل شخصياتها كائنات ذهنية يستبدّ بها قلق نافر بسبب الواقع حولها من دون أن تفعل شيئاً ما لتغييره، أو لتجاوز سكونيته ودفع علله الاجتماعية والسياسية التي تؤرّقها. إنّها، بمعنى ما، كائنات "قوّالة" تثرثر عن ذات تتوهّم صلتها بما هو جماعي، ولذلك فإنّ حركة السّرد في الرّواية لا تنهض من حركة الواقع الذي تقاربه، بل ممّا هو خاص في حياة تلك الشخصيات. غير أنّ ما تقدّم كلّه لا يعني أنّ الرّواية في مجملها لا تمتلك ما يميزها على المستوى الفني، فالمقدرة الفائقة التي صوّر فيها جبرا النّوازع الدّاخلية لشخصياته عبر أساليب فنّية متعددّة، كالاسترجاع غير المباشر والرّسائل والحوار والحلم، تجعل منها مؤشراً واضحاً لاستفادة الكاتب من تقنيات الرّواية الجديدة.

 

ولا يختلف المبنى الحكائي في "البحث عن وليد مسعود" عن مثيله في "السّفينة"، فهو ينهض على تعدّد الأصوات، وعلى تقاطع الزّمنين الواقعي والتخييلي بعضهما ببعض أحياناً، وتوازيهما أحياناً أخرى، اللذين، في الحالين، معاً كانا يسلبان المكان أهميته وحضوره في الرّواية(13). وعلى الرّغم من أنّ صوت الشخصية الرّئيسة، وليد مسعود، لا يشغل سوى مساحة ضئيلة من السّرد، فإنه يشدّ أصوات الشخصيات الأخرى نحوه، ويستبدّ بحركتها، من

غير أن يعني ذلك أنه "شخصية.. باطشة.. وحده الغاية، وكلّ مَنْ حوله

وسائل"(14)، لأنّ تقنية تعدّد الأصوات هي ما جعل السرد متمركزاً حول هذه الشخصية، وهي ما استدعت بالضّرورة توجّه الشخصيات الأخرى نحوها، وليس أيديولوجيا الروائي. ومع أنّ الرّواية قدّمت صورة مجتزأة للواقع، لأنّها تناولت قطاعاً محددّاً منه، أي: "الانتلجنسيا" العربية، إلاَّ أنّ ذلك لا يعني عجز جبرا عن تملّك فنّ الرواية(15)!، فثمة قرائن عدّة تنفي ذلك، بل تؤكّد مقدرة جبرا الفائقة على صوغ فنّي مثير للإعجاب، ومن أمثلة ذلك حفاوته الواضحة بالرّوح الخاصة بالبيئة الفلسطينية، أو بما يمثّل طقوسها الشعبية، فهو يصوّر عادات الفلسطينيين وأعرافهم، ويوثق عدداً من أهازيجهم وأغانيهم، ويرسم مشاهد حيّة لصلاتهم الإنسانية بعضهم ببعض. ويمكن القول إنّ الأسئلة الوجودية المؤرّقة لشخصياته ليست سوى تلك الأسئلة التي تعبّر عن أزمة الوجود الفلسطيني وتذوب فيها، وإنّ أسئلة وليد مسعود خاصة عن الرّوح المطلق، والإيمان، ومعنى الوجود والعدم، ليست سوى أسئلة الفلسطيني الذي وجد نفسه بعد النّكبة معلّقاً بوهم الحياة وليس بالحياة نفسها.

وعلى الرغم من بروز صوت الأيديولوجية في رواية أمين شنّار: "الكابوس"، فقد تميزت بقدرة كاتبها على صوغ محكيّه بلغة عالية من الرّهافة والاقتصاد، وبأسلوب فنّي تتمازج تقاليد السّرد فيه بحداثته، وتيّار الوعي بمناجاة النفس، وما هو إبلاغي في اللغة بما هو مجازي واستعاريّ، ولعلّ هذه السّمات، وربّما سواها، هي ما سوّغ منحها جائزة الملحق الأدبي لصحيفة "النّهار" اللبنانية سنة 1967. غير أنّ ذلك كلّه لم يكن ليشفع لمنتجها بقول الحقيقة مقلوبة على رأسها، فالروائي، وبسبب من أوهامه الإيديولوجية، قدّم شخصيات لا تمثّل حركة النضال الوطني الفلسطيني، ودفع بها إلى الواجهة، وألحّ على الاستثنائي في الواقع بدلاً من النّموذجي فيه(16).

وتميّزت رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة".. من مجمل المنجز الروائي الفلسطيني بلجوئها إلى أسلوب السخرية، وقد ردّ محمّد حسن عبد الله استخدام الروائي لذلك الأسلوب إلى كونه الطريقة الوحيدة التي كانت ممكنة أمامه للحديث عن تجارب محظورة أو محفوفة بالصّعاب(17)، ورأى فيصل درّاج، في هذا المجال، أنّ "حبيبي" لم يكن معنياً بإنتاج لعبة فنيّة، بل إنتاج شكل أدبيّ موائم ومقاتل للتعبير عن الواقع الفلسطيني الرّازح تحت الاحتلال(18)، على حين علّل فاروق وادي ذلك بأنّ السّخرية، هنا، تعويض عن الضحكة الغائبة عن حياة الفلسطيني بسبب وطأة الأحداث(19)، أمّا فخري صالح فقد انتهى إلى أنّ الضحكة التي يبحث "حبيبي" عنها في هذه الرّواية "ليست بديل النّضال، ولكنّها الفتيل الذي يشتعل أوّلاً مُشْعِلاً معه كافّة النقائص.. على الأرض الفلسطينية"(20).

 

وبحقّ، فإنّ السخرية في الرواية هي ما تقدّم كلّه، وهي بالإضافة إلى ذلك رمز للتناقضات أو المفارقات القائمة داخل المؤسسة الصّهيونية وداخل المجتمع الذي تحاول هذه المؤسسة إحكام قبضتها عليه، ولعلّها أيضاً رمزٌ لتَوْق الفلسطيني إلى نصّ أدبي يقارب واقعه في الأرض المحتلّة بكلّ ما فيه من "كوميديا" سوداء.

والرواية، عامة، نموذج مميّز لاستلهام الموروث السردي العربي، كالإسناد في تدوين الخبر، والنّوادر، والسجع. ولكنّ على نحو غير مقنع بصدور فعاليات الاستلهام تلك عن المتشائل، بل عن الروائي الذي حمّل المتشائل الكثير من ثقافته. ولعلّ ذلك ما جعل الرواية نفسها "أشبه ما تكون بحكاية أو توبيوغرافية مقلوبة أو محرّفة لإميل حبيبي"(21)، من غير أن يعني هذا أنّ المتشائل شخصية "لا قوام لها بل.. مسخّرة للبرهنة على وجهة نظر المؤلّف"(22)، وأنّ الرّواية في مجملها "بناء ذهني، تجريدي"(23)، لا صلة به بالواقع، لأنّ الروائي أبدى كفاءة واضحة في مقاربة تناقضات الواقع الفلسطيني الذي بدا، معه هزيمة حزيران خاصة، مثخناً بالمفارقات على أكثر من مستوى.

 

والرواية، عامة أيضاً، وعلى الرّغم من تلك السمات التي ميزتها، لم تتحرّر من شرك الدّعاوة لتنظيم سياسي بعينه، فالروائي يقرّر في أكثر من خمس عشرة صفحة متفرّقة أنّ الحركة الشيوعية الفلسطينية هي صانعة النضال الوطني ضدّ الاحتلال الصّهيوني، أو هي التي كانت تقف وراء حركته داخل الأرض المحتلّة.

وإذا كانت النصوص الرّوائية السّابقة قد حقّقت لنفسها إنجازاً جمالياً متقدّماً، فإنّ ما تبقّى من مصادر الدراسة يترجّح بين مستويين فنّيين: الأوّل: يحقق النصّ معه ومن خلاله بعضاً من إنجازات الرّواية المعاصرة، لكنّه لا ينأى بنفسه عن تقاليد السرد، والثاني: يوغل النص معه ومن خلاله في تبعيّته لتلك التقاليد ويبدو لصيقاً بها.

تنتمي روايتا رشاد أبو شاور: "أيام الحبّ والموت"، و"العشّاق" إلى المستوى الأول، فعلى الرّغم من تميّز الرّواية الأولى في صياغتها الملحميّة لنضال الشعب الفلسطيني وفي استلهامها لمأثوراته(24)، فإنّ المبنى الحكائي فيها لم يسلم من أذى تشكيله وفق إرادة سابقة لعملية الكتابة، وليس وفق حركة الكتابة نفسها، على حين تنجو الرّواية الثانية، "العشّاق"، من ذلك، فقد تمكّن الروائي من صوغ محكيّها على نحو متقدّم فنيّاً نسبياً، وقد أعانه توظيفه الطقوس الشعبية الفلسطينية على تلوين ذلك المحكيّ بخصائص الرّواية المعاصرة. والرّوايتان معاً تنتميان، في مجملهما، إلى الاتّجاه الواقعي. و"العشّاق" تنتمي على نحو أدقّ إلى الاتّجاه الواقعي الاشتراكي، فهي تعرض الواقع الفلسطيني، في المرحلة التي سبقت عدوان حزيران 1967، بمستوياته كافّة(25)، وتنتهي إلى أنّ "حركة المقاومة إنّما.. تتجدّر في صفوف الطبقة الفلسطينية الكادحة، وأنّ جهود الفقراء هي التي حرّكت مسيرة المقاومة باتجاه الفعل الحقيقي"(26)، وتقدّم في خاتمتها تفاؤلاً ثوريّاً غير مباشر يؤكّد متابعة الجيل الفلسطيني الجديد مسيرة الكفاح التي بدأها الآباء والأجداد من أجل تحرير الأرض والإنسان بآن.

 

ويبدو البناء الفنّي في رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" متماسكاً، ويستجمع لنفسه بعض إنجازات الرّواية الحديثة من جهة، كما يحاول أن يبني لنفسه سرده الخاصّ به من جهة ثانية. لكنّ الرّواية لا تسلم مع ذلك من الوقوع في شرك الدّعاوة بشكل مباشر للتنظيم الشّيوعي الفلسطيني، إذ غالباً ما كان الروائي، كما فعل إميل حبيبي في "الوقائع.."، يوهم بأنّ ذلك التنظيم هو ما كان يحرّك فعاليات النضال الوطني جميعاً داخل الأرض المحتلّة، وأنّه وحده، من بين التنظيمات السياسية الفلسطينية الأخرى، يتصدّى لممارسات الاحتلال الصهيوني.

 

ولم يكتفِ سميح القاسم في روايته "إلى الجحيم أيّها الليلك" بصوغ محكيّه من خلال مبنى حداثي فحسب، بل تجاوز ذلك أيضاً إلى استخدام عدد غير قليل من تقنيات الرواية الحداثية، كالتّداخل والتقاطع بين عنصري الزّمان والمكان، وتعدّد مستويات السّرد، وتنوّع ضمائر الخطاب، والاستفادة من عناصر الأسطورة. ولكن، ومهما يكن صحيحاً أنّ الشكل الذي لجأ الروائي إليه يتماهى في نسيج فنّي خاص"(27)، فإنّه لا يمتلك ما يعلّله على نحو كاف داخل الرّواية، ولا يحمل في نفسه ما يسوّغ مجيئه على تلك الصّورة دون غيرها من الصور أو الأشكال الفنيّة الأخرى(28)، ليس لأنّه لا ينهض من داخل حركة السرد فحسب، بل لأنّه في مواضع منه "يعاني.. التشتّت وعدم التماسك"(29) من جهة، وتبدو ثمة "مشاهد وحكايات نافلة وغير ضرورية"(30) فيه من جهة ثانية. ومهما يكن من أمر الجدل الذي أثاره العنوان الجزئي له، "حكاية أوتوبيرغرافية"، أي من أمر انتمائه إلى فنّ الرّواية، فإنّه يبدو رواية بالمعنى الدّقيق للكلمة(31)، لأنّه يتملّك مقوّمات الجنس الروائي كافة، ومن تلك المقوّمات تعدّد ضمائر الخطاب الذي دفع به قدماً نحو موضوعية الفنّ الرّوائي، وحجّم الأوتوبيرغرافي فيه(32).

 

وتنتمي نصوص أفنان القاسم ونبيل خوري وسحر خليفة، مصادر هذه الدراسة، إلى الأشكال الرّوائية التقليدية. فعلى الرغم من اعتماد القاسم في روايته: "الباشا" طريقة المشاهد السينمائية، أي الانتقال بين عدّة أمكنة في زمن واحد، واستخدامه لها لعقد المفارقات القائمة بين حدثين متضادين في القيم الإنسانية والوطنية، فإنّ تلك الطريقة تبدو محكومة بمنطق الروائي وليس بمنطق الرواية.

 

وغالباً ما كان الروائي يسرف في وصف الملامح الخارجية لشخصياته، وفي وصف الأثاث والمكان، من غير أن يصطفي من ذلك ما يخدم البناء الفني لروايته، ولذلك بدت الأخيرة مهمومة بقول الواقع وليس بإعادة إنتاجه جمالياً، ولذلك أيضاً جاءت وثيقة الصلة بالواقعية الشكليّة أكثر من صلتها بالواقعية بمعناها الفنيّ /الجمالي، أي ما يعني أنّ العمل الأدبي "مجموع عدد كبير من القرارات الانتقائية(33)، وليس مجموع التفاصيل والجزئيات التي تشكّل الواقع الماديّ للجذر الذي ينطلق منه(34).

والخاتمة في الرواية لا تنجو من شرك المباشرة والغنائية الملصقة بالنصّ وليست المنبثقة منه، فهي تقول طموح الروائي لنهوض الواقع الفلسطيني من النّكبة الفادحة التي ألّمت به سنة 1948، ولا تبدو نتاج الأحداث في الرواية: "أصداء حوافرهم في كلّ مكان. وهم آتون. في الطريق مع الفجر. بالبنادق والغيوم. سيصبّ الرّصاص والمطر. من أجل القمح. وسيأتون كلّما هبّت الرّيح من إحدى الرّوابي.. وهم يرفعون إلى أعلى البنادق. وهم يرفعون الجباه. سيأتون من كلّ صوب. كالشّمس.. سيأتون دوماً".

 

وتنتمي رواية نبيل خوري: "حارة النّصارى" إلى الرّواية الدائرية المغلقة، فهي تبدأ بما تثيره صورة بطلها يوسف في نفس أرملته أسمى وتنتهي به. وعلى الرّغم من أنّ الأحداث فيها تتقاطع أحياناً وتتوازى أحياناً ثانية، فإنّ ذلك لا يعني تجاوزها مواضعات السرود التقليدية، لأنّ تلك السمة المميزة لها غالباً ما تكون نتاج منطق التداعيات، وليست نتاج حركة السرد نفسها، ولأن الأغلب الأعمّ من مقولات المحكي الروائي يتّسم بالتقريرية والمباشرة، ويتحوّل في مواضع كثيرة إلى "مقالات خطابية يلقيها الكاتب إلقاء"(35)، وبغنائية طاغية "لا تتناسب مع عقلية القارئ العربي بعد (يونيو) 1967، ولا مع القضية التي لم تعد لغة الانفعالات والعواطف السطحية تساعد على الاقتناع بها، وتبنّيها، والانحياز لها"(36). ويتميز زمن الخطاب فيها بقطيعته التّامة مع زمن الحكاية(37)، فعلى حين لا يتجاوز الأول ساعات قليلة تمثّل الليلة التي تقضيها أسمى في تذكّر مواقف يوسف من أحداث الوطن الفلسطيني، يمتدّ الثاني على مساحة أربعين عاماً. ومع أنّ الروائي يوهم قارئه باستخدامه أكثر من ضمير خطاب، فإنّ حركة السرد ترتهن إلى صوت واحد طاغ، هو صوت الرّاوي الذي يستبدّ بتلك الحركة، ويصوّر ردود أفعال الشخصيات تجاه الأحداث المحيطة بها بمنطق الراوي العالم بكلّ شيء الذي غالباً ما يتم اللجوء إليه لإقناع القارئ بواقعية ما يروى له(38).

 

والرواية تغصّ بوقائع التاريخ الفلسطيني الحديث، وعلى نحو تبدو معه تلك الوقائع بوصفها وثائق ليس غير، بمعنى أنّ الروائي لم يكن يعيد إنتاجها جمالياً. وإذا ما صحّ وصف الرواية بأنّها رواية تاريخية، فإنّها لا تتضمّن في داخلها ما يشير إلى وعي الروائي بأنّ "ما يهمّ في الرّواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية. بل الإيقاظ الشّعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث"(39).

 

ويتميّز المبنى الحكائي في رواية سحر خليفة: "الصبّار" بانتمائه المطلق، بل بتبعيته المطلقة للأشكال الرّوائية الأولى، فحركة السّرد ترتهن إلى منطق الأحداث المتتابعة والأزمنة المتعاقبة والأمكنة المنفصلة، وإلى استقلال كلّ من العنصرين الأخيرين، الزّمان والمكان، عن الآخر. وعلى الرّغم من أنّ الروائية كانت تلوّن نصّها بوفرة من الأمثال والأهازيج الشعبية الفلسطينية، فإنّها لم تكن تصطفي منها ما يعبّر عن روح الحدث المتضمَّنة فيه، أو عمّا يعبّر عن الجوهري في هذا الحدث نفسه. وغالباً ما تبدو الشخصيات لديها أدوات صوتية تؤدّي أفكارها(40)، وغالباً أيضاً ما تخفق في رسم عالم تخييلي مواز للعالم الواقعي(41) الذي كانت تحاول تفكيكه وتعريته، والذي يبدو، في الرواية، منقولاً ووثيق الصلة بالواقعية بمعناها الساذج، أي الواقعية التي يبدو العمل الأدبي من خلالها "انعكاساً بسيطاً للواقع يمكن أن تقوم به المرآة الميّتة"(42).

ولا تنجو رواية فيصل حوراني: "بير الشّوم" ممّا اتسمت به سابقاتها، "الباشا"، و"حارة النصارى"، و"الصبّار"، ولا سيّما المتواتر السردي، أو تقاليد السرد الروائي وأعرافه والقارّ والثابت فيه. وعلى الرّغم من محاولات الروائي، في مواقع منها، للاستفادة من تقنيات الرّواية المعاصرة، كانقطاع السّرد والانتقال من الرّاوي إلى الشخصيات إلى المذكّرات والوثائق، فإنه لم يستطع تحرير نصّه من أغلال الرّواية التقليدية التي يبدو النصّ من خلالها منتمياً إلى سواه وليس منتمياً إلى نفسه، أي بوصفه امتداداً لما سبقه وليس بوصفه إضافة له.

 

وباستجلاء جماليات اللغة في رواية الأرض الفلسطينية يخلص المرء إلى أنّ ثمّة ثلاثة مستويات لهذا المكوّن في تلك الرواية: إبلاغي يؤدّي الوظيفة الأولى للغة، أي الإيصال، وتخييلي يجمع بين مفهومي الأدبيّة والواقعية بقدر كبير من التوازن والوعي بالحدود الفاصلة بينهما، وعامّي وثيق الصلة بالمتداول الشعبي والمستغرق فيما هو محلّي. وغالباً ما يتجلى أكثر من مستوى من هذه المستويات الثلاثة في النصّ الرّوائي الواحد.

ومن النصوص التي تنتمي إلى المستوى الأول في هذا المجال روايتا غسّان كنفاني: "ما تبقّى لكم"، و"عائد إلى حيفا"، اللتان أفقدتهما واحدية التشكيل المهيمنة على لغة الشّخصيات والسّرد معاً بعضاً من خصائصهما الجمالية، فالروائي لم يكن يدع شخصياته تتحدّث بلسانها، وإنّما غالباً ما كان يتحدّث بلغته عنها، ولذلك لم تكن لغة هذه الشخصيات معبّرة عن المستوى المعرفي لكلّ منها، ولا تشير إلى وظيفتها الاجتماعية، وتتطابق بآن مع لغة السّرد التي هيمنت، على الأغلب الأعم منها، سمة الإبلاغ، فبدت أفقية، ومستقيمة، ووحيدة الدلالة.

 

وعلى الرّغم من تراجع رواية "أمّ سعد" عن الإنجاز الجمالي الذي كان الروائي قد حقّقه في روايتيه هاتين، ولا سيّما معمارهما الفنّي، فإنّه وفّر لهذه الرواية سمة جديدة تتميّز بها منهما، ودّالة على رغبته الدّائمة في البحث عن أسلوب تعبيري يستطيع التّواصل مع أوسع فئات المجتمع الفلسطيني تبايناً معرفياً، وقد عبّرت تلك السمة عن نفسها في لغتي السّرد والحوار خاصة، اللتين ما إن كانتا تتباعدان حتّى كانتا تلتقيان من جديد، وعلى نحو يجمع بين المستويين الأول والثاني: الإبلاغي والتخييلي، وقد جهر الثاني بنفسه من خلال تصوير الروائي للعلاقة بين أمّ سعد والأرض خاصة.

 

وتمثّل أعمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية أكثر المنجز الرّوائي الفلسطيني الصادر حتى عام 1982 صياغة جمالية للغة، فالأخيرة في مجمل تلك الأعمال تحمل طاقة تخييلية خصبة في التعبير عن دواخل الشخصيات، وتحقّق حسب تعبير "زيرافا" عن الرّواية المعاصرة "الصّراع بين شعر القلب ونثر العلاقات الاجتماعية"(43)، وهي بالإضافة إلى ذلك تقول رؤية مبدعها لقضيّته الوطنية دون دعاوى، أو هتاف. وقد تجلّت إمكانات جبرا اللافتة للنظر في هذا المجال، كما فعل كنفاني في "أمّ سعد"، عبر تصويره لعلاقة شخصياته الفلسطينية بأرض وطنهم وشغفهم بها خاصة، ولذلك بدت ظلال المفردة في رواياته الثلاث أشدّ تأثيراً في القارئ من المفردة نفسها.

وعلى الرّغم من غنائية اللغة في رواية علي حسين خلف: "عصافير الشّمال" فإنها لم تكن تمارس نفوذاً سالباً لحركة الأحداث وتطوّرها، ولصلة الرواية نفسها بالواقع، ولانبثاقها منه، ولعلّ أبرز ما ميّزها في هذا المجال إضفاؤها "جوَّاً خاصّاً من تنشيط المتلقّي والإحساس بخصوصية المكان وعمق ارتباط البشر بالأرض"(44)، وتحقيقها بآن أطروحة "باختين" القائلة إنّ "الخطاب الرّوائي خطاب شعري، إلاّ أنّه عملياً لا يندرج ضمن التّصور الرّاهن للخطاب الشعري"(45). غير أنّ لغة الحوار فيها لا تسلم من أذى الترجّح غير المعلّل جمالياً بين مستويين متضادين: المنطوق المغرق في شعبيتّه، بل لهجويته على نحو أدقّ، والمنطوق المحلّق في أجواء الشّعر الخالص، ومن أمثلة ذلك المقبوس التالي الذي تنتجه شخصية فلاّحية، رضوان الدّيراوي في الرّواية، غالباً ما كان الروائي يدير حواراتها مع الآخرين عبر العاميّة الفلسطينية الممعنة في محلّيتها: "لماذا نعشق السّرو؟ لأنّه مثلنا. يعيش ثلاثة آلاف سنة ولا يملك جواز سفره الخاص. من يُثبت ملكيّته للريح، يثبت ملكيته للسرو".

وتترجّح اللغة في رواية "إلى الجحيم أيها الليلك" بين مستويين: وقائعي يومي، يقترب أحياناً من المنطوق الشّعبي الفلسطيني، لكنّه لا يسفّ إلى العاميّ، ويتجّلى في الحوارات خاصة، وآخر تخييلي شعري، يُثري ما هو واقعي في الرّواية بما هو أسطوري، ويخصب دلالات الرّموز المتعدّدة فيها، ويصوغها في تشكيل جمالي يثير طاقة التصوّر في مخيّلة القارئ ليعيد الأخير تركيب الأحداث والشخصيات والرموز من جديد.

وإذا كانت النصوص الرّوائية السابقة قد حقّقت لنفسها مكانة واضحة في هذا المجال، فإن اللغة في روايتي رشاد أبو شاور تقع في مكان وسط بين المستويين الثاني والثالث. فعلى حين يسقط الحوار في "أيّام الحبّ والموت" في شرك المتداول العامي، الذي لم يكن لـه ما يسوّغه مضمونيّاً أو جمالياً، والذي بَدا على امتداد الرواية "متكلّفاً"(46)، وعلى قطيعة تامة مع لغة السّرد التي كانت تصل في بعض المواقع إلى حدّ الغنائية، يحرّر الروائي "العشّاق" من تلك السمة، ويمنح لغة السّرد، في القسم الأول من الرّواية خاصة، ظلالاً شاعرية تمتزج فيها البلاغة، دون إنشاء، بنثر الحياة.

وتكتفي اللغة في رواية "الصبّار" بدلالتها المعجميّة فقط(47)، والروائية لم تكن تفرّق بين ما هو سردي وما هو حواريّ في هذا المجال، وغالباً ما تبدو الحوارات لديها مغلولة إلى أصفاد المنطوق الواحد لشخصيات الرّواية جميعاً، من دون تمييز للسوية المعرفية بين شخصيّة وأخرى. وإذا كان ثمّة ما يميز اللغة في رواية "الباشا" فهو سقوطها في شرك الأخطاء الأسلوبية أحياناً، والأخطاء النحويّة أحياناً أخرى.

هوامش وإحالات:

(1)-عبّود، حنّا. "النّزوحات الكبرى.". ص (26).

(2)-أبو مطر، أحمد: "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (65).

(3)-المرجع السابق. ص(105).

(4)-انظر: البيريس، ر. م. "تاريخ الرّواية الحديثة". ص (104).

(5)-انظر: المرجع السابق. ص (464).

(6)-عاشور، رضوى. "الطّريق إلى الخيمة الأخرى". ص (144).

(7)-انظر: أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربية". ص (38).

(8)-انظر: زيد الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطوّر الوعي.". ص(292).

(9)-انظر: ريكاردو، جان. "قضايا الرّواية الحديثة". ص (137، (245).

(10)-انظر: الخطيب: محمّد كامل. "الرّواية والواقع". ص (36).

(11)-للتوسّع، انظر: همغري، روبرت. "تيّار الوعي في الرّواية الحديثة". ص (42).

(12)-خوري، إلياس. "الذّاكرة المفقودة". ص (132).

(13)-انظر: عودة، علي محمّد علي. "الفنّ الرّوائي عند جبرا..". ص (60).

(14)-هلسا، غالب. "فصول في النّقد". ص (70).

(15)-انظر: الخطيب، محمّد كامل. "الرّواية والواقع". ص (47).

(16)-للتوسّع حول الاستثنائي والنموذجي، انظر: لوكاش، جورج. "دراسات في الواقعية". ص (68).

(17)-انظر: عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص (255).

(18)-انظر: درّاج، فيصل. "حوار في علاقات الثقّافة والسياسة". ص (120).

(19)-انظر: وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينية". ص (122).

(20)-صالح، فخري. "في الرّواية الفلسطينية". ص (48).

(21)-السّواحري، خليل. "زمن الاحتلال، قراءة في أدب الأرض المحتلّة". ص (138).

(22)-هلسا، غالب. "فصول في النّقد". ص (34).

(23)-المرجع السّابق. ص (40).

(24)-للتوسّع، انظر: بسيسو، عبد الرّحمن. "استلهام الينبوع..". ص (128) وما بعد.

(25)-انظر: صبحي، محيي الدّين. "أبطال في الصيرورة". ص (175).

(26)-زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطوّر الوعي..". ص (82).

(27)-انظر: سليمان، نبيل. "وعي الذّات والعالم". ص (73).

(28)-انظر: هالبرين، جون. وآخرون. "نظرية الرّواية". ص (45).

(29)-السّواحري، خليل. "زمن الاحتلال..". ص (145).

(30)-المرجع السّابق، ص (150).

(31)-ينفي فخري صالح هذه الصفة عن "ليلك" القاسم، ويرى "أنّها لم تستطع أن تبني صرحها الرّوائي في إطار هذا الجنس"، انظر كتابه: "في الرّواية الفلسطينية".

ص (60).

(32)-انظر: سليمان، نبيل: "وعي الذّات والعالم". ص (74).

(33)-هالبرين، جون. وآخرون. "نظرية الرّواية". ص (196).

(34)-انظر: ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل..". ص (21). ريكاردو، جان. "قضايا الرّواية الحديثة". ص (26).

(35)-الأشتر، عبد الكريم. "تعريف بالنّثر العربي الحديث". ص (311).

(36)-النّساج، سيّد حامد. "بانوراما الرّواية العربية الحديثة". ص (140).

(37)-يميّز البنيويون بين ثلاثة أزمنة للرواية: زمن القصّة (أي زمن المادّة الحكائية) وزمن الخطاب (أي تجليات تزمين القصّة)، وزمن النّص (أي زمن القراءة). انظر: يقطين، سعيد. "تحليل الخطاب الرّوائي". ص (89).

(38)-انظر: بوتور، ميشال. "بحوث في الرّواية الجديدة". ص (65).

(39)-لوكاش، جورج. "الرّواية التاريخية". ص (46).

(40)-انظر: فرّاج، عفيف. "الحريّة في أدب المرأة". ص(258).

(41)-صالح، فخري. "في الرّواية الفلسطينية". ص (86).

(42)-ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل..". ص (17).

(43)-زيرافا، ميشار. "الأسطورة والرّواية". ص (35).

(44)-عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص (280).

(45)-باختين، ميخائيل. "الخطاب الرّوائي". ص (43).

(46)-أبو مطر، أحمد: "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (208).

(47)-انظر: صالح، فخري. "في الرّواية الفلسطينية". ص (86).

 

 

جَماليّات المكان:

 

يبدو "المكان" في الأغلب الأعم من النتاج الرّوائي الفلسطيني وحدة بنائية مركزية، ليس بسبب وعي الروائي الفلسطيني بأنّ هذا المكوّن يمثّل العمود الفقريّ الذي يربط أجزاء أيّة رواية بعضها ببعض(1) فحسب، بل بسبب وعيه أيضاً بالدّور الذي يمكن أن ينهض به في تعميق الموضوعات التي يعالجها، والمعنية، في أكثرها، بعلاقة الفلسطيني بأرضه، أو على نحو أكثر شمولاً بمفردات بيئته الفلسطينية، التي يجسّد من خلالها صلته بقضيته الوطنية من جهة، ووعيه لطبيعة صراعه مع عدوّه من جهة ثانية.

 

وقد دفع اهتمام الرّوائيين الفلسطينيين بالمكان إلى تغطية الخارطة الفلسطينية جميعاً، من نهر الأردنّ شرقاً إلى ساحل المتوسّط غرباً، ومن أقصى الشّمال الفلسطيني إلى أقصى جنوبه، وإلى الحدّ الذي يمكن القول معه إنّ الرّواية الفلسطينية تشكّل ثبوتاًً تكاد تكون تامّة لجغرافية وطنها، وذاكرة أمينة تحفظ للأجيال القادمة ملامح الهوية العربيّة المميّزة لأرضها التي استهدف الاحتلال الصّهيوني، وما يزال، مَحْوها وإزالتها من الوجود.

ومن اللاّفت للنظر أنّ عدداً غير قليل من الأعمال الرّوائية الفلسطينية عبّر عن حفاوة كتّابها اللافتة للنظر بهذا المكوّن، أي: المكان، من خلال عناوين تلك الأعمال أيضاً، وليس من خلال السّرد فحسب(2).

وعامة، فإنّ ثمّة ثلاثة فضاءات جغرافية مركزية في النّتاج الرّوائي الفلسطيني: الرّيف، والمدينة، والمخيّم. ولعلّه من المهمّ، قبل البدء بتفكيك تجليّات كلّ من تلك الفضاءات في هذا النتاج، الإشارة إلى أنه قد يتداخل أكثر من فضاء في النصّ الروائي الواحد، وإلى أنّ ما سنقاربه هنا، في هذا المجال، معنيّ بالجغرافية الفلسطينية فحسب، وليس بسواها كما في روايات جبرا إبراهيم جبرا على سبيل المثال.

الرّيف:

تبدو مفردات البيئة الرّيفية أكثر مفردات المكان حضوراً في النتاج الرّوائي الفلسطيني، ومسوّغ ذلك أنّ هذا النتاج غالباً ما كان يجد مرجعه الواقعي، للتعبير عن ارتباط الفلسطيني بالأرض، في الرّيف خاصة، لأنّ الأخير كان أكثر مكوّنات الحياة الفلسطينية تعرّضاً لمخطّطات الحركة الصهيونية التي كانت ترمي، منذ نشأتها، إلى انتزاع الأرض من أصحابها الشرعيين، وإلى جعلهم "في عداد السّوّاح وغير المقيمين"(3) في تلك الأرض، أو خارجها.

ومن أبرز ما يميز الرّيف الفلسطيني في مصادر الدراسة، بل في النصّ الروائي الواحد منها أحياناً، ترجّحه بين صورتين: قاتمة تعبّر عن الحياة المعيشية لسكّانه، والثانية مشرقة تمثّل طبيعته الفاتنة حيناً، وطقوسه الاجتماعية الثرّة حيناً آخر. وعلى حين لا تحوز الصّورة الأولى سوى مساحة ضئيلة من حركة السرد في أية رواية، توشّي الثانية معظم تلك الحركة، وإلى حدّ تبدو الطبيعة الفلسطينية معه كما لو أنّها جنّة الله على أرضه. ومسوّغ هذه المفارقة بين الصورتين إلحاح الرّوائيين على إيقاد الحنين في نفوس شعبهم إلى تلك الأرض التي كانوا، وما يزالون، يحبّونها "بطريقة خاصّة جدّاً.. يلمسونها ويشمّونها ويعرفونها قطعة قطعةَ وحجراً حَجراً"(4).

إنّ الطبيعة، في الرّواية الفلسطينية، مكان خلاّق حسب وصف "باشلار" للمكان الذي يتّسم بوحدته وتفرّده(5)، ولذلك كان الرّوائيون الفلسطينيون غالباً ما يعمدون إلى الاستفادة من الطّاقات الجمالية التي توفّرها البلاغة (التّشبيه، الاستعارة، المجاز..) للتعبير عن مفردات تلك الطبيعة الآسرة. فالقرية في رواية أمين شنّار: "الكابوس"، على الرّغم من بيوتها الطينية الواطئة وأزقّتها الضيّقة المقرّحة الأجفان التي تنزّ منها روائح العفن، تغفو كأنثى فاتنة بين أحضان جبل شاهق، وقمرها يظلّل الناس بعباءته الناعمة، وأنسامها الطّرية ترطّب أحاديثهم، و"في أيّام الحصاد تصبح القرية في عيد، فيدور الأطفال بطواقيهم على البيادر، ليملأها لهم الرّجال قمحاً". وعبّاد شمس، في "عصافير الشّمال": "تجمع.. أطرافها وتنحني أمام الشّمس وكأنّها تصلي. تفرد كفّها في الليل فيتطاير سكّانها ويتسامرون" وتبدو "حلّة من الوهج تنضج على أطرافها مروج القمح".

 

وعامة، فإنه لا يمكن الفصل في رواية الأرض الفلسطينية بين ما اصطلح "بوتور" عليه بالمكان الواقعي والمكان الرّوائي(6)، لأنّهما معاً لا يبدوان في هذه الرّواية متداخلين فحسب، بل متطابقين أيضاً، ويسعيان في الوقت نفسه إلى رسم الصّورة الحقيقية الحيّة لأرض فلسطين التي تجعل أبناءها "كلّهم.. شعراء بالفطرة"(7)، وتدفع غيرهم إلى القول: "الله، ما أسهل الوصول إلى الفردوس"(8).

 

وعلى الرّغم من أنّ التعبير عن المكان، الأرض خاصة، يتّسم بخصائص تكاد تكون واحدة في معظم إنجازات تلك الرواية، فإنه في أعمال غسّان كنفاني الروائية يكتسب أهمية مميّزة، ليس بسبب المكانة التي شغلتها الأرض في حركة السرد في تلك الأعمال فحسب، بل يسبب تعبيرها أيضاً عن حركة النضال الوطني الفلسطيني. فإذا كانت الأرض في روايته الأولى "رجال في الشّمس" قد عبّرت عن عدائها للفلسطيني بسبب قطيعته المكانية معها بعد عشر سنوات من النكبة، تمثّل في مجملها حال الرّكود في الواقع الفلسطيني، فإنّها في رواياته التّالية بدت على النقيض من ذلك، لأنّها في كلّ منها كانت وثيقة الصلة بمرحلة بعينها من التّاريخ الفلسطيني الحديث، ولأنها كانت تشكّل رمزاً لتطوّره، ومعادلاً جمالياً لحركته الناهضة بعد انطلاقة الكفاح المسلّح.

 

فالأرض في "ما تبقّى لكم" تتجاوز معطاها الواقعي، أي بوصفها مكاناً فحسب، إلى معطى إنساني برع كنفاني من خلاله في تقديم صورة مميزة من معظم النتاج الرّوائي العربي الذي قابل كتّابه بين المرأة والأرض، أو المرأة والوطن. إنّ الأرض، في تلك الرواية، تتخلّى عن القسوة التي ميزتها في "رجال في الشمس"، لتصبح أنثى عامرة بالمودّات ومكتنزة بالحنان، تمنح الكائن الملتصق بها القوّة على مواجهة عدوّه، مغتصبها بآن، كما تطّهره من عار انقطاعه عنها سنوات طويلة.

وهي فوق ذلك كلّه، تتحرّر من السّمة المتواترة في أكثر النتاج الرّوائي العربي، أي سمة التّلقي التي تبدو صدى فحسب لعواطف الشّخصيات، لتجمع بين السّمتين الإنسانيتين معاً، الانفعال والتفاعل، أو التأثير والتأثّر، فتقترب من "حامد" بمدى اقترابه منها، وتبتعد عنه بمدى ابتعاده عنها. وهو إذ يختار حبّها بعد تردّد وخوف، فلأنه كان يثق بأنّ نصال العالم كلّه تتكسّر فوق صدرها، ولا تستطيع أن تحصد عرقاً واحداً منها.

 

والمتتبّع للنّتاج الرّوائي الفلسطيني يطالعه كمّ لافت للنظر من أسماء القرى الفلسطينية التي تتصل بالواقع اتّصالاً وثيقاً للغاية، بمعنى أنّها أسماء معروفة في الجغرافية الفلسطينية، وليست علامات لفضاءات متخيّلة. ففي ثلاث روايات فقط على سبيل المثال. هي "العشّاق"، و"عصافير الشّمال" و"الوقائع الغريبة.."، يطالع القارئ أسماء ما يزيد على مئة قرية. وغير خافٍ أنّ هذه السّمة التي ميّزت ذلك النتاج تعني تصدّيه للمحاولات المسعورة للاحتلال الصهيوني في طمس الشّخصية العربية لأرض فلسطين، ولمحاولاته المحمومة التي استهدفت، وما تزال، تدمير عدد كبير من القرى وإزالتها من الخارطة الفلسطينية كما استهدفت تغيير الأسماء العربية لما تبقّى منها إلى أخرى عبرية وإبقاء ما رأت أنّه ذو أصل توراتي، لتأكيد دعوى الحقّ التاريخي المزعوم في أرض فلسطين.

 

المدينّة:

على الرّغم من أن الريف أكثر مفردات المكان حضوراً في الأغلب الأعم من رواية الأرض الفلسطينية، فإنّ المدينة تحظى بقدر أوفر من اهتمام كتّاب تلك الرواية بتصوير جماليات المكان الفلسطيني، وتبدو في عدد غير قليل من أعمال أولئك نسيج وحدها في التجربة الرّواية العربية. ليس بسبب صدور تلك الجماليات عمّا هو واقعيّ فحسب، بل لأنّ تشكيلها الفنّي يمتلك تميّزه وخصوصيته بآن في تلك التجربة أيضاً. إنّها، بمعنى ما، ترتبط بشكل وثيق للغاية بما اصطلح "باشلار" عليه بالمكان الذي "عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز"(9)، والذي يبدو نادر الوجود في الرّواية العربية(10).

تتحرّك الأحداث والشخصيات في أكثر نتاج غسّان كنفاني الرّوائي في بيئة مدينية خالصة، وأحياناً في أكثر من مدينة فلسطينية في الرّواية الواحدة كما في: "ما تبقّى لكم"، و"عائد إلى حيفا". وإذا كان كنفاني لم يُعنَ بالسّمات المميزة للمدينة الفلسطينية في الرّواية الأولى، بسبب المكانة التي شغلتها "الصّحراء" فيها من جهة وفي تجسيد مغازي السرد من جهة ثانية، فإنه أبدى عناية واضحة بها في الثانية، أي: "عائد إلى حيفا"، وإلى الحدّ الذي بدا معه وكأنّه يصدر عن خبرة مباشرة بتفاصيل حيفا، وعلى نحو ينشّط مخيّلة القارئ معه لإعادة تركيب تلك التفاصيل بنفسه(11)، فهو يضع هذا القارئ أمام عدد غير قليل من شوارع المدينة وأحيائها وساحاتها، وادي النّسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحلّيصة.. ويتيح لـه بآن تخيّل طبوغرافية المكان/ الأمكنة جميعاً.

إنّ المدينة عند كنفاني ليست حاضناً للأحداث والشخصيات، أو مكوّناً من مكوّنات النصّ الروائي، بل كائناً حيّاً، ومتحرّكاً، وفيّاضاً بالأحاسيس والمشاعر المرهفة تجاه الشّخصيات التي تنتمي إليه، وهو فاعل ومنفعل بآن، يصوغ تلك الشخّصيات بقدر ما يكون هو أيضاً من صياغتها. فحيفا، في الرّواية السّابقة، لا تبدو لسعيد العائد إليها بعد تسعة عشر عاماً مباني وشوارع فحسب، بل أنثى "آخذة بالبكاء الصّامت" لانقطاع أبنائها عنها كلّ تلك السّنوات الطويلة، ولعودتهم إليها أذلاّء عبر بوّابة "مندلبوم" التي فتحها لهم الاحتلال الصهيوني بعد هزيمة حزيران.

 

ويمثّل المدخل الذي صدّر به رشاد أبو شاور روايته: "العشّاق" عن مدينة أريحا الفلسطينية "صورة إنسانيّة باهرة ومتحررّة ومفعمة بقوّة الإرادة وعظمة الإيمان بالمستقبل، وقوّة نداء الحياة"(12):

"في الألف السابع قبل الميلاد بُنيت مدينة أريحا، فهي أقدم مدينة في التاريخ. وفي الألف الثالث قبل الميلاد، أعاد الكنعانيون العرب تشييد أسوارها وأبراجها لحمايتها من الغزاة.. ارتفعت أسوار أريحا واحداً وعشرين قدماً، وعند زوايا السّور جثمت الأبراج"، يحتضنها جبل "التّجربة" الشّامخ، المتوّج بحجارة بيضاء، الذي يبدو "جليلاً، إلهياً، أسطورياً"، تعلّم أهلها الكنعانيون من النّكبات التي ألّمت بهم أنّ "الأسوار لا تحمي النّاس، وأنّ النّاس يجب أن يكونوا هم الأسوار التي تحمي الأرض، والزّرع، والأبناء". وأريحا الحاضر "أنيقة، خضراء، تختفي بيوتها القرميدية وسط غابة أشجار.. أريحا، مدينة جهنّمية، غريبة، خصبة، أريحا ليست مدينة، إنّها تاريخ. في تربتها تمتزج الأساطير بالواقع الحقيقي، الحيّ".

وفي الصّورة التالية لأريحا، أي التي تتخلّل سرد الرّواية، حقّق أبو شاور إنجازاً فنيّاً متقدّماً في التعبير عن جماليات المدينة، التي تبدو كما لو أنّها خاصّة، بالمكان الفلسطيني فحسب. ففي تلك الصّورة تتوحّد روح الشّعر بنثر الحياة، وهذان معاً يندغمان في تشكيل لغوي رهيف للغاية، يلامس شّغاف الذات القارئة، ويبلغ حدّاً من القوّة تدفع بالقارئ إلى التوقّف، في أكثر من موضع، عن القراءة ليعيد في مخيّلته تشكيل تلك الصّورة الآسرة التي رسمها الروائي لتلك المدينة: "أريحا مدينة القمر، حين يطلع القمر من وراء جبال مؤاب، ويأخذ في الصّعود، ببهائه الفضّي المشّع، وحين يرشّ أنواره بين أغصان وأوراق أشجار أريحا، يشعر الناس وكأنّ القمر لا يشرق على بلاد أخرى.. في تلك الليالي يخرج الناس للسّهر. فيحملون الدّربكات، وينقرون على جلدها المشدود، ويأخذون في الرّقص، وتدور أكواب الشّاي المنعنع، والبعض يشرب، ويدور في الشّوارع مطلقاً الغناء، والمواويل الحزينة العتيقة، والنّخيل يتطاول، حتّى لكأنّه ينمو وينمو ليبلغ القمر، والسعف تتمايل ببطء مع النسمات الطرية في آخر الليل. والقمر ينخفض، ويزداد تألّقاً.. يقول البعض. أريحا مدينة القمر. ويقول البعض. أريحا مدينة الشمس. ولكن، في كلّ الأحوال، أريحا بوّابة فلسطين، منها دخل الغزاة، ومنها خرجوا. أرضها ارتوت بالدّم، وامتلأت بأجساد الرّجال الشجعان".

 

وتتّسم الصّورة التي قدّمها على حسين خلف لمدينة "عكّا" في روايته: "عصافير الشّمال" باتّصالها الوثيق بالتاريخ، وعلى الرّغم من أنّ ما هو تاريخي في تلك الرّواية لا يضارع مثيله في "عشّاق" رشاد أبو شاور، فإنه يتابعه في تأكيد سمتين ميزتا معظم أجزاء الجغرافية الفلسطينية: المقاومة ضد الاحتلال، والمشاركة في بناء الحضارة الإنسانية: "عكّا مدينة خلقها التّاريخ للحرب، وابتدعت الحرب لتدافع عن نفسها. ومع عكّا نَبَت آدم، وكان أوّل من زرع الزيتون وصنع الزجاج واستخرج الأرجوان".

ويمتلك المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا: "السّفينة"، و"صيّادون في شارع ضيّق"، و"البحث عن وليد مسعود"، حضوراً مؤثِّراً في حركة الأحداث والشخصيات. وليس من المبالغة القول إنّ التشكيل الجمالي الذي أبدعه جبرا في هذا المجال، المدينة خاصة، يتّسم بخصوصيته في الأغلب الأعم من النتاج الروائي العربيّ. ففي "السّفينة" يتداخل المعطى المادي للمكان، أي بوصفهِ حيّزاً، بمعطاه العاطفي الذي يبدو خلاّقاً إلى حدّ جعل نفس وديع عسّاف معه "تذوب في قصيدة شعرية لا تُقال إلاَّ في أجمل نساء العالم"(13).

 

يتوزّع المكان الفلسطيني، في "السّفينة"، بين موقعين: القدس والبحر المتوسط. ويحوز الأول مكانة خاصّة في حركة السّرد، وهو في بعض مفاصلها يشكّل مركز الدّائرة التي تستقطب عناصر الرّواية جميعاً نحوها، التي تجسّد بآن علاقة وديع عسّاف بالحياة، أو صلته بأكثر معاني الوجود قداسة: الحبّ، والإيمان، والحرّية، والحقيقة.

لقد كانت القدس بالنسبة إليه "أجمل مدينة في الدّنيا على الإطلاق"، بيوتها "من حجر أبيض وحجر وردي وحجر أحمر، بيوت كالقلاع تعلو وتنخفض مع الطرق الصّاعدة النازلة كأنّها جواهر منثورة على ثوب الله. والجواهر تذكّرني بزهور وديانها، فأذكر الرّبيع. وأذكر التماع زرقة السّماء بعد أمطار الرّبيع. والرّبيع في القدس كان هو الرّبيع لأنّك تراه يحلّ في البلد.. فالجبل البلقع في الشتاء قد اخضوضر فجأة أمام عينيك.. لأنّ زهوراً كعيون الأطفال قد نبتت بين الحجارة". صخورها البركانية الزرقاء "نحتت" مغاور وصوامع وجوامع، معلنة ديمومة المدينة عبر الحقب الطوال. لعلّ في باطن الصّخر ناراً ترفض أن تخمد".

 

والروائي لم يكتفِ بتلك الصّورة الفاتنة لمدينة القدس، بل أبدى حرصاً واضحاً على تدوين التفاصيل التي تكوّنها أيضاً: الأحياء والشّوارع والأبنية، وإلى حدّ أتاح للقارئ معه التطواف في أرجائها، والتنقل بين مواقعها: من السور إلى بركة السّلطان، فسوق العطّارين، والطّالبية، والقطمون، والمصلّبة، وجورة العنّاب، والشمّاعة، وسويقة باب الخليل، والبقعة الفوقا، وغيرها كثير. وعلى الرّغم من أنّ ثمّة قصدية واضحة في ذكر بطله لتلك التفاصيل، هي "أن شعراء العرب القدامى كانوا يعشقون أسماء الأماكن ويكرّرونها في شعرهم كأنّها أسماء الأحبّة" كما كان يقول وديع نفسه، فإنّ ثمّة قصداً أكثر عمقاً، هو حرص جبرا على توثيق تلك التفاصيل للأجيال الفلسطينية التي ولدت خارج أرضها، والتي يخشى الكاتب أن تعود إلى تلك الأرض فلا تجد شيئاً من معالمها القديمة التي يحاول الصهاينة إزالتها من الوجود، أو تغيير أسمائها العربيّة إلى أخرى توراتية.

وقد بلغ ولع جبرا بمدينته القدس حدّاً جعل من المرأة معه معادلاً تامّاً لبهاء تلك المدينة وفتنتها، كما جعل منهما معاً، القدس والمرأة، رمزاً لشيء واحد هو الجمال في أقصى درجات خصوصيته وتميزه المطلقين، كما بلغ حداً بدت القدس معه "أفضل من ألف امرأة" حسب بطله وديع عسّاف الذي كان يردّد بما يشبه الوجد: "الأرض.. الأرض هي كلّ شيء".

وكما لا تبدو المدينة في رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" حاضناً للأحداث والشخصيات، أو حيّزاً فحسب، يبدو البحر، في "السّفينة"، عنصراً جمالياً "متحركاً، محسوساً، مؤثّراً"(14) في الأحداث والشخصيات، وحاملاً بآن للتعبير عن صلة وديع بأرض وطنه فلسطين التي كان يركض باستمرار في اتّجاهها: "أنا أحبّ البحر المتوسّط، وأركب السّفينة فيه، لأنّه بحر فلسطين، بحر يافا وحيفا، وبحر هضاب القدس الغربيّة وقراها. فأنت إذا صعدت هضاب القدس ونظرت غرباً، لن تعرف أين تنتهي الأرض وأين يبدأ البحر وأين يلتقي الاثنان بالسماء".

 

ومع أنّ جبرا لم يُعن، في روايته التالية "صيّادون في شارع ضيّق"، بالتفاصيل نفسها التي قدّمها للقدس في "السّفينة"، إلاّ أنه حفظ لقارئه صورتها الآسرة التي ميزتها، وقد صاغ تلك الصورة عبر قصيدة شعرية لبطله جميل فرّان، بدت القدس من خلالها بالنسبة إلى جميل نفسه مدينة من "الزمرّد والبنفسج.. سماؤها ياقوتة لا تنتهي، صدفة غسلتها مياه البحر ورفعتها، لتولد فيها كلّ صباح أفروديت جديدة.. أرض التّربة الحمراء والحجارة بلون الورود، أرض الزّيتون بخضرته التي منذ الطّوفان ما حالت، والشقائق بحمرة الدّم".

واستعادت تلك الصورة حضورها في رواية "البحث عن وليد مسعود"، وعلى الرّغم من أنّها لم تتجاوز السمات التي ميزتها في "السّفينة" و"صيّادون.."، أي بوصفها جوهرة، فإنّها بلغت حدّاً من السّحر دفع بالعراقية مريم الصفّار التي زارت القدس مع وليد مسعود إلى القول: "لو لم يبقَ لي من وليد إلاَّ ذكرى القدس وأسوارها، ذكرى وديانها وتلالها، لكان ذلك حسبي.. ما إنْ حطّت الطائرة.. حتّى أردت البكاء. هذه الطبيعة الفاتنة، هذا الهواء، هذه الألوان.. والطريق العريضة بين التلال الخضراء والبنفسجية، ترصّعها منازل الحجر البيضاء. الله، ما أسهل الوصول إلى الفردوس".

 

وتكاد رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة.." تشكّل ثبتاً جغرافياً/ تاريخياً لفلسطين(15)، فهي بالإضافة إلى توثيقها أسماء عدد كبير من قرى فلسطين وبلداتها تبدي حفاوة واضحة بوصف الجغرافية التي تكوّن المدينة الفلسطينية أيضاً. ويمكن القول إنّ إبداع الروائي في هذا المجال يتجاوز تعريفه قارئه إلى شوارع عكّا، وأحيائها، وساحاتها، وإلى ما يكوّن تفاصيل كلّ شارع وحيّ وساحة، فحسب، إلى بثّه إحساساً في هذا القارئ كما لو أنه ينتقل بنفسه من شارع النّاصرة إلى حارة الخرّابة، ومن الثانية إلى الفاخورة، ثمّ إلى جامع أحمد باشا الجزّار ويكتشف، بنفسه أيضاً، من الأوابد الباقية، كم تصدّت تلك المدينة لجحافل الطامعين بافتراسها: "صمدت للصليبيين. وردّت نابليون، ولم يدخلها التتار"، كأنّها تاريخ من المقاومة التي تتردّد أصداؤها في كل جزء منها.

 

المخيّم:

على الرغم من أنّ فضاء "المخيّم" لا يشغل سوى مساحة صغيرة في رواية الأرض الفلسطينية، فإنّه يبدو فيها وحدة مكانية شديدة الثراء للتعبير عن علاقة الفلسطيني بأرضه. ومن قرائن ذلك أنه يبدو، في الأغلب الأعم من تلك الرواية، معادلاً جمالياً للتعارض الحادّ بين حياة الفلسطيني قبل اقتلاعه من أرض وطنه والحياة الغاشمة الجديدة التي انتهى إليها بعد النّكبة، ولذلك تحتشد الصّورة التي تقدّمها لـه بالفقر والبؤس والمرض دائماً، فالبيوت من

الصّفيح، أو الطّين في أحسن الحالات (16)، وسكّانه "أبناء.. التراب، وسوء التغذية (17)، يهاجمهم البعوض "أسراباً أسراباً، فتتورّم الوجوه، وتسخن، وتبرد، وترتجف، وتصفّر، وتموت أحياناً" (18). غير أنّ تلك الصّورة القاتمة ما تلبث أن تتلاشى لتحلّ مكانها صورة نقيضة، مشرقة، تعبّر عمّا يموج داخل المخيّم، أو عمّا يضّطرم في قاع حياته البائسة، وعن عملية إعادة بناء الذات الفلسطينية التي تنتمي إليه، والتي "علّمها الفقر والأحوال السيئة والنكسات المتلاحقة والخيانات المتكررة، ألاّ تعتمد إلاّ على نفسها، وأنّ الطريق إلى فلسطين يتمّ عبرها (19)، بوصفها المهاد الأول للثورة الفلسطينية المسلّحة كما رأى بطل جبرا إبراهيم جبرا في رواية: "البحث عن وليد مسعود".

هوامش وإحالات:

(1)-انظر: مجموعة مؤلفين. "الرّواية العربية، واقع وآفاق". ص (210)

(2)- من هذه العناوين، على سبيل المثال، الرّوايات التالية: "عائد إلى حيفا"، و"بير الشّوم"، و"عصافير الشّمال"، و"حارة النّصارى".

(3)-خلف، علي حسين. "عصافير الشّمال". ص (75)

(4)-صايغ، روز ماري. "الفلاّحون الفلسطينيون..". ص (16)

(5)-انظر: باشلار، غاستون. "جماليات المكان". ص (40)

(6)-للتوسّع في العلاقة بين المكانين، انظر: بوتور، ميشال. "بحوث في الرّواية الجديدة". ص (40)

(7)-جبرا، جبرا إبراهيم. "السّفينة". ص (17)

(8)-جبرا، جبرا إبراهيم. "البحث عن وليد مسعود". ص (232)

(9)-باشلار، غاستون. "جماليات المكان". ص (31)

(10)-انظر: مجموعة مؤلّفين. "الرّواية العربية، واقع وآفاق". ص (224)

(11)-للتوسّع، انظر: باشلار، غاستون. "جماليات المكان". ص (41)

(12)-عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص (265)

(13)-عودة، علي محمّد علي. "الفنّ الرّوائي عند جبرا.." ص (49)

(14)-عودة، علي محمّد علي. "الفنّ الرّوائي عند جبرا..". ص (54)

(15)-انظر: عبد الله، محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربية". ص (255)

(16)- انظر، على سبيل المثال، روايتي: "أمّ سعد"، "والعشّاق".

(17)-أبو شاور، رشاد. "العشّاق".

(18)-المصدر السابق.

(19)-زين الدّين، أمل. بالاشتراك. "تطور الوعي.." ص (166)

 

 

 

الرمز:

 

فرّق صالح أبو اصبع، في معرض دراسته للرمز في الرّواية العربيّة المعنية بقضية فلسطين، بين شكلين له: "الرّواية الرّمزية الخالصة"، أي التي "توصلت بأسلوب رمزي خالص للتعبير عن مضمونها" (1)، و"رمزية الدّلالة"، أي "تلك المعالجات الجزئية التي استخدمت الرّمز، من خلال ما يمتلكه من قوّة إيحاء، ليعمل على توضيح فكرة أو موقف للمساهمة في تفسير الرّمز

العام" (2) للرّواية.

 

وعلّل نَدْرَة النصوص الروائية التي تنتمي إلى المستوى الأول بقوله: "إنّ الرّوائيين.. كانوا يضعون في حسبانهم أنّ راوية القضية الفلسطينية.. رواية مناضلة، بمعنى أنّها هادفة وملتزمة، ولذا فإنّها يجب أن تؤدّي دورها الجماهيري. الذي قد لا يتمّ حينما تصبح الرّواية ذات رموز غامضة أو مستغلقة الفهم، وحيث تصبح برمزيتها غير قادرة على توصيل الفكرة إلى أذهان الجماهير" (3).

 

وعامة، فإنّ الرمز في رواية الأرض الفلسطينية يتّسم بالسّمات نفسها التي ميّزت مثيله في الرّواية العربية المعنية بقضية فلسطين، أي بترجّحه بين شكلين: الرّمز المهيمن على مجمل الوحدات المكوِّنة للمحكي الروائي: الأحداث، الشّخصيات، البيئة أو البيئات، الزّمن أو الأزمنة، وربّما اللغة أحياناً، والرّمز الذي يتخلّل بعض تلك الوحدات، ثمّ بندرة المستوى الأول للسبب نفسه الذي دفع الرّواية العربية المعنية بقضيّة فلسطين إلى الابتعاد عنه، والذي يبدو أشدّ وضوحاً في رواية الأرض الفلسطينية.

 

والشكلان معاً لا ينتميان إلى مفهوم "الرّمزية الموضوعية" كما رأى أحمد أبو مطر الذي علّل ذلك باقتراب الرواية الرمزية من الواقع ومعالجته، بقصد بنائه وتغييره نحو الأفضل (4)، ليس لأنّ الرمزية الموضوعية تعني نقيض ما انتهى إليه، أي "تجسيم أفكار مجرّدة، وتحريكها في أحداث.. مصطنعة" (5) فحسب، بل لأنّ الرّوائيين الفلسطينيين لم يستخدموا الرمز بمعناه الموضوعي أيضاً، فهو لم يكن في نصوصهم الروائية موضوعاً "يشير إلى.. آخر.. فيه ما يؤهله لأن يتطلّب الانتباه.. إليه لذاته" (6)، بقدر ما كان أداة توسّلوا من خلالها تعميق تعبيرهم عن المرحلة التاريخية التي يقاربها كل نص من نصوصهم من جهة، وعن علاقة الفلسطيني بأرضه من جهة ثانية، ولذلك لم يكن هذا الرّمز ليربك قارئه في فهم دلالته أو دلالاته، وفي إحالة تلك الدلالات إلى مرجعها الواقعي بسهولة بآن.

 

والنتاج الرّوائي الفلسطيني الصّادر حتّى منتصف الثمانينيات لا يتضمن في داخله أكثر من أربعة نصوص تنتمي إلى الشكل الأول: "مذكّرات دجاجة" للدكتور اسحق موسى الحسيني، و"الكابوس" لأمين شنّار، و"ونزل القرية غريب" (1977) لأحمد عمر شاهين، و"الخيوط" (1980) لوليد أبو بكر. وما يعينا في هذه الدراسة من تلك النصوص روايتا المذكّرات والكابوس، اللتان لجأ الحسيني وشنّار فيهما إلى الرمز الخالص لسببين مختلفين شكلاً، متلاقيين مضموناً.

 

الأول لخوفه من إيضاح الحقائق التي كانت تعصف بالوطن الفلسطيني في مرحلة الأربعينيات وما قبلها، والثاني لحساسية المقولة التي طمح إلى تأكيدها في وعي قارئه، أي أنّ ابتعاد الفلسطيني عن الدِّين هو ما أدّى إلى ضياعه أولاً، ثمّ إلى ضياع أرضه ووطنه ثانياً، وأنّ العودة إليه، كما فعل فرحات درويش وعلي عودة عندما لاذا بمقام الشيخ نجم، تكفل لـه نهوضه من جديد لمواجهة مغتصبي أرضه. وبهذا المعنى، فإنّ الروايتين لم تستخدما الرمز لحاجة جمالية، بل لحاجة أيديولوجية لا تمتلك مشروعيتها، لأنها في الرّوايتين معاً تقول حقائق النّضال الوطني الفلسطيني مقلوبة على رأسها.

 

ولعلّ أبرز ما يميز الرمز في الرواية الأولى، "الكابوس"، سذاجته من جهة، وعدم تحريضه القارئ على اكتشاف مرجعيّاته، فالقرية التي تتحرّك أحداث الرّواية داخلها هي فلسطين، وأهلها هم الشّعب العربي الفلسطيني، والخواجة موسى والخواجات الذين جاؤوا بعده هم المستوطنون الصهاينة، أمّا الشيخ نجم الذي كانت القرية تدين بالطّاعة لـه وتستظلّ ببركاته ولا تصدّق موته، فهو الخلافة العثمانية التي كانت تزعم حملها راية الإسلام، على حين يرمز الشّيخ الجديد إلى الانتداب البريطاني الذي ادّعى أخذه "الولاية" عن الشيخ نجم بعد أن تعرّض الأخير "لما يتعرّض لـه الناس العاديون في أواخر أعمارهم من نوبات الخرف والهذيان" كما تقول الرواية (7).

وعلى الرّغم من أنّ الشكل الرّمزي الثاني من رواية الفلسطينية لم يتجاوز حدود الرّمز الذي تحوّل بحكم التكرار والتقاليد إلى نوع من التقرير المباشر، فإنّ عدداً من الروائيين الذين لجؤوا إليه تمكّن من أن يوفّر لرمزه أو رموزه سمات تكاد تكون خاصّة بنصه، ومن أن يملأ هذا الرمز /هذه الرموز بإيحاءات عدّة.

فأمّ سعد في رواية كنفاني الموسومة باسمها رمز، كما هي شخصية واقعية، يستجمع لنفسه ثلاث دلالات بآن: الأرض، والوطن، والشعب. تتجلّى الأولى من خلال توحّد أمّ سعد المطلق بالأرض، ليس لأنّ مفردات جسدها كانت تستمدّ معادلها من مفردات الأرض نفسها فحسب، بل أيضاً، لأنّ حضور أمّ سعد وغيابها وتكوينها الانفعالي والوجداني يبدو لصيقاً بالأرض على نحو وثيق للغاية، فهي تضوّع رائحة الرّيف أينما حلّت، وتتعهد تربية ابنها الفدائي سعد "مثلما تتعهد الأرض ساق العشبة الطرية"، فتتحوّل بالفعل الأخير إلى رمز للوطن الفلسطيني بأجمعه، و"لشعب بأكمله وهي مدرسة يتعلّم فيها الإنسان الصّمود والثبات رغم كلّ المحن" (8).

 

وليست أمّ سعد الرّمز الوحيد في الرّواية، بل ثمّة أكثر من رمز آخر (9)، فالدّالية التي تقدّمها أم سعد للراوي، وتقوم هي بزراعتها، رمز للمقاومة المسلّحة التي بدأت غرسها قبل الهزيمة الحزيرانية، وبرعمت بعد أن أكّدت الأنظمة السياسية العربية، آنذاك، عجزها وغرقها في أوهامها التي سترمي باليهود إلى البحر في غمضة عين!!، والوحل الذي يغوص فيه المخيّم ليلة سقوط المطر رمز للغرق في عار الاستسلام للهزيمة، ولاستنفاد قوّة الفلسطيني اللاجئ الذي سيجد نفسه ذات ليلة ملوّثاً به تماماً إذا لم يحمل السلاح ويلتحق بالثّورة "ليسدّ ذلك المزراب" الذي يدلف الشقاء والعَوَز والموت دون معنى إلى الذات الفلسطينية في مخيمات الشتات.

والرمز الوحيد في رواية "عائد إلى حيفا"، الذي يتمثّل في صورة المقاتل "بدر اللبدة"، يتضمّن في داخله دلالة شديدة الثراء، ووثيقة الصلة بما يمكّن الفلسطيني من استعادة أرضه التي اقتلع منها، فكما تبدو الصورة معادلاً روحياً لإحساس سعيد بالقهر الذي انتابه بعد اكتشافه أنّ الوطن يعني أن يتشّبث المرء به حتّى الموت، تبدو بآن رمزاً للطريق الوحيدة التي تكفل لسعيد وأمثاله استرداد أراضيهم وبيوتهم بكرامة وليس عبر بوّابة "مندلبوم". يقول الفلسطيني الذي سكن منزل "اللبدة" بعد  نزوح أصحابه أيّام النكبة، والذين عادوا إليه بعد هزيمة حزيران لاسترداد صورة شقيقهم الشهيد: "كان يتعيّن عليكم، إن أردتم استرداده، أن تستردّوا البيت، ويافا، ونحن. الصّورة لا تحلّ مشكلتكم، ولكنّها بالنسبة لنا جسركم إلينا وجسرنا إليكم".

وكما كانت الدّالية في رواية "أم سعد" رمزاً للمقاومة المسلّحة، فإنّ أشجار النّخيل في رواية رشاد أبو شاور "العشّاق" تحمل الدلالة نفسها. فهي تبدو لمحمود وهو خارج لتّوه من السجن عارية إلاّ من قطوف صغيرة: "ولكن ذات يوم ستنضج هذه القطوف وتحمل الثمار الحمراء والصفراء، وسيأكل الناس رطباً جنّياً، والشرط الوحيد لتحقيق ذلك أن يعبّد الرّاغبون بالوصول إلى تلك الثّمار طريقهم بالدّم، والكفاح، والصبّر أيضاً: "لا بدّ من الصّعود على السلالم الشاهقة، وبعدئذ مواصلة الصعود بمهارة ورشاقة على النتوءات التي تحيط بالجذوع الضخمة الباسقة".

 

وتبدو شجرة الزيّتون عنصراً دائم الحضور في رواية الأرض الفلسطينية، بل في النتاج الروائي الفلسطيني عامة، وهي تمثل في مجمل ذلك النتاج رمزاً "يدلّ على رسوخ جذور الشّعب في أرضه، وعلى استمراره في الزّمن" (10)، كما تمثّل انتماء أرض فلسطين إلى جذرها العربيّ الذي عرفته منذ أقدم حقب التاريخ.

ومن أمثلة ذلك في رواية الأرض الفلسطينية رواية "العشاق" المشار إليها آنفاً، التي يؤكّد الروائي فيها، من خلال العلاقة التي يصوغها بين أبي خليل والزّيتونة، أنّ الفلاح الفلسطيني وشجر الزيتون وجهان لشيء واحد، فأبو خليل "هو شجرة الزّيتون.. يعطي الحياة أكثر ممّا يأخذ"، وهي بالنسبة إليه الحقيقة الوحيدة الكفيلة بمناهضة مزاعم الخواجة الصّهيوني داوود الذي أراد اقتلاعهما معاً من أرض فلسطين، بدعوى أنّ قبائل عبرية سكنت تلك الأرض قبل ألف سنة من الميلاد: "لو جاءت شجرة.. وقالت لهذه الشجرة، أنا كنت مكانك هنا قبل ثلاثة آلاف عام، عليكِ أن ترحلي.. لأنّ هذا المكان لي، فماذا سيكون جواب هذه الشجرة؟.. لن تقول لها شيئاً، ستضرب بجذورها عميقاً في الأرض وستعطي زيتوناً وزيتاً وظلاً.. اللّحم والدّم، أقوى من العظام النخرة التي يبحثون عنها، والتي هي ليست لهم أيضاً. هذه العظام، هي بعض جذورنا التي تحجّرت، وتآكلت لتُنبت جذور غيرها".

 

وتعدّ رواية إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة.." أكثر النّتاج الرّوائي الفلسطيني حفاوة بالرّمز، غير أنّ رموزها جميعاً، وعلى تعدّدها أيضاً، لا تحرّض قارئها على اكتشاف دلالاتها، لأنها في الأغلب الأعمّ منها، تسلم تلك الدلالات لـه بسهولة. ومن أبرز تلك الرموز أسماء الشخصيات، فسعيد أبو النّحس المتشائل يكثّف اسمه "قدراً هائلاً من واقع عرب الأرض المحتلّة، فهو سعيد وأبي النّحس في الوقت ذاته، وهو المتشائل.. لأنّه لم يعد يميّز التفاؤل من التشاؤم" (11)، كما يكثّف تنازع شخصيته بين موقفين متعارضين: الحبّ للأرض والخيانة لها. ولئن كانت البنية العامّة لخطاب الرّواية تؤكّد غلبة الموقف الثّاني فإنّ الرّموز التي تحيل إليها أسماء الشّخصيات الأخرى، يعاد وباقية وولاء، تنتصر للموقف الأول وتجلو صدأ الصّورة الحقيقية المستقرّة في أعماق المتشائل، ليس لأنّ ما تحيل تلك الأسماء إليه من دلالات تمثّل الهواجس الأولى للفلسطيني فحسب، بل لأنّ الشخصيات نفسها كانت تشكّل الوجود الحقيقي للمتشائل أيضاً، فـ "يعاد" التي أحبّها في صباه تمثّل الحنين الجارف الذي يعتمل في نفس الفلسطيني إلى الأرض التي اقتُلع منها، كما تمثّل إيمانه الأكيد الذي لم تضعفه قوة الغربة بالعودة إليها. أمّا "باقية"، التي تزوّجها، فترمز إلى الفلسطيني الذي آثر البقاء في أرضه على الرّغم من المحاولات التي كانت تستهدف نفيه بعيداً عنها، ويرمز "ولاء"، ابن المتشائل، إلى ولاء الفلسطينيين معاً، داخل الأرض المحتلّة وخارجها، للمقاومة المسلّحة بوصفها الأداة الوحيدة التي تستردّ الأرض من مغتصبيها، والتي تؤكّد ولاءهم لهذه الأرض التي أنبتتهم كما أنبتت، من قبلهم، آباءهم وأجدادهم.

 

والرّواية، عبر رمز شافٍّ للغاية، تؤكّد لهاث الاحتلال الصهيوني لتغييب الشّخصية الفلسطينية وإزالتها من الوجود، وتجذّر هذه الشخصية في أرضها على الرّغم من ذلك. ويتجلّى ذلك من خلال السؤال الذي وجّهه الحاكم الصّهيوني لنفسه بعد أن طلب إلى المرأة الفلسطينية العائدة إلى قريتها "البروة" مغادرة المكان والتوجّه شرقاً، أي خارج الأرض المحتلّة: "فقامت المرأة وقبضت على يد ولدها وتوجّهت شرقاً.. وهنا لاحظتُ أولى الظواهر الخارقة.. فكلّما ابتعدت المرأة وولدها.... ازداد طولاً حتّى اختلطا بظّلْيهما في الشّمس... فظلّ الحاكم واقفاً ينتظر اختفاءهما.. حتّى تساءل مذهولاً: متى يغيبان".

 

ولا يمكن وعي مغزى المحكي الروائي في "إلى الجّحيم أيّها اللّيْلك بمنأى عن وعي الدّلالات لرموز الشّخصيات الرّئيسة الأربع فيها: "الرّاوي أو سمير ودنيا الفلسطينيان، وأوري وإيلانة الصّهيونيان. فالراوي أو سمير رمز للفلسطيني، ودنيا رمز لفلسطين، وأوري رمز للفكر الصهيوني، وإيلانة رمز لأرض إسرائيل المزعومة. والتّعارض الحادّ الذي ينشب بين الشّخصيتين الذّكوريتين ينبثق من أنّ لكلٍ منهما عشيقة واحدة، ولكنّها تحمل اسمين مختلفين، الأوّل حقيقي موغل في انتمائه إلى حقائق التّاريخ، والثّاني وهمي، وزائف، ومنبتّ الصلة بتلك الحقائق نفسها.

 

هوامش وإحالات:

(1)-أبو اصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربية". ص (129)

(2)-المرجع السابق، ص (165)

(3)-المرجع السابق، ص (128). وانظر: أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (298)

(4)-انظر:أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (297)

(5)-مندور، محمّد. "الأدب ومذاهبه". ص (135)

(6)-ويليك، رينيه. بالاشتراك. "نظرية الأدب. ص (196)

(7)-رأى صالح أبو اصبع وأحمد أبو مطر أنّ الشيخ الكبير يرمز إلى الدّين. انظر: "فلسطين في الرّواية العربية". ص (133). "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (316). على حين عمّم شكري عزيز ماضي رموز الرّواية على الواقع العربي، فرأى أنّ القرية ترمز إلى الوطن العربي، وأهلها إلى جماهيره، والخواجات إلى الغرب الرأسمالي. انظر: "انعكاس هزيمة حزيران على الرّواية العربية". ص (61). وغير خافٍ أنّ إحالات الأخير قسرية تلوي عنق الرواية لتناسب الظاهرة التي يدرسها.

(8)-سالم، جورج. "المغامرة الرّوائية". ص (110)

(9)-ينفي شكري عزيز ماضي وجود "أي رمز" في الرّواية انظر كتابه: "انعكاس هزيمة حزيران..". ص (175)

(10)-بسيسو، عبد الرحّمن. "استلهام الينبوع.." ص (53)

(11)-أبو مطر، أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ص (271) وكلمة "أبي" كذا في المرجع.

المصَادر والمراجع

1-المصَادر:

أبو شاور، رشاد 1973 "أيام الحبّ والموت". ط1. دار العودة، بيروت.

1977 "العشاق". ط1. دار العودة، بيروت.

جبرا، جبرا إبراهيم     1978 "البحث عن وليد مسعود" ط1. دار الآداب، بيروت.

1979 "السفينة". ط2. دار الآداب، بيروت.

1980 "صيّادون في شارع ضيّق". ط2. دار الآداب، بيروت.

حبيبي إميل 1974 "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النّحس المتشائل". ط2. دار ابن خلدون، بيروت.

حوراني، فيصل 1979 "بير الشّوم". ط1. دار الكلمة، بيروت.

خلف، علي حسين. 1980 "عصافير الشّمال". ط1. دار ابن خلدون، بيروت.

خليفة، سحر. 1984 "الصبّار". ط3. دائرة الإعلام والثّقافة في م، ت، ف. دمشق.

شنّار، أمين. 1968 "الكابوس". ط1. دار النّهار، بيروت.

القاسم، أفنان. 1977 "الباشا". ط1. وزارة الإعلام، بغداد.

القاسم، سميح. 1978 "إلى الجحيم أيّها الليلك. ط1. دار ابن رشد، بيروت.

كنفاني، غسّان. 1972 الآثار الكاملة، المجلّد الأول، "الروايات". ط2. دار الطليعة، بيروت.

2-المراجع:

أ-المراجع العربية:

أبو إصبع، صالح. "فلسطين في الرّواية العربيّة". ط1. مركز الأبحاث، بيروت 1975.

أبو بكر، وليد. "الواقع والتحدّي في رواية الأرض المحتلّة". ط1. دائرة الثقافة في م، ت، ف. دمشق 1988.

أبو مطر، د. أحمد. "الرّواية في الأدب الفلسطيني". ط1. المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت 1980.

الأشتر، د. عبد الكريم "تعريف بالنّثر العربي الحديث. ط1. جامعة دمشق 1982.

بركات، حليم."ستة أيام". ط1. دار مجلّة شعر، بيروت 1961.

البحوري، رفيقة. "الأدب الرّوائي عند غسّان كنفاني". ط. دار التقدّم، تونس 1982.

بسيسو، عبد الرّحمن. "استلهام الينبوع، المأثورات الشعبية وأثرها في البناء الفنّي للرّواية الفلسطينية". ط1. المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت.

جبرا، جبرا إبراهيم."صراخ في ليل طويل". ط2. اتّحاد الكتاب العرب، دمشق 1974.

الحسيني، د. اسحق. "مذكّرات دجاجة". ط1. دار المعارف، القاهرة 1943.

الخطيب، د. حسام. "الثقافة والتربية في خطّ المواجهة". ط1. وزارة الثّقافة، دمشق 1983.

الخطيب، محمّد كامل. "الرّواية والواقع". ط1. دار الحداثة، بيروت 1981.

خليل، إبراهيم "في القصّة والرّواية الفلسطينية". ط1. دار ابن رشد، عمان 1984.

خوري، الياس. "تجربة البحث عن أفق، مقدّمة لدراسة الرّواية العربية بعد الهزيمة". ط1.

مركز الأبحاث في م، ت، ف. بيروت 1974.

"الذاكرة المفقودة، دراسات نقدية". ط1. مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1983.

دراج، فيصل. "حوار علاقات الثّقافة والسياسة". ط1. دائرة الإعلام في م، ت، ف. دمشق 1984.

الدقاق، د. عمر. "تاريخ الأدب الحديث في سورية". ط1. جامعة حلب 1983.

دكروب، محمّد. "الأدب الجديد والثّورة". ط1. دار الفارابي، بيروت 1980.

ربيع، مبارك. "الريح الشّتوية". ط1. مكتبة المعارف، القاهرة 1979.

زرزور، فارس. "المذنبون". ط1. اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق 1974.

زين الدّين، أمل. "تطوّر الوعي في نماذج قصصّية فلسطينية". ط1. دار الحداثة، بيروت 1980.

سالم، جورج. "المغامرة الرّوائية". ط1. وزارة الثّقافة، دمشق 1973.

سلامة، فتحي. "المزامير". ط1 ؟، القاهرة 1968.

سليمان، نبيل. "الرّواية السّورية". ط1. وزارة الثقافة، دمشق 1982.

"وعي الذّات والعالم، دراسات في الرّواية العربيّة". ط1. دار الحوار، اللاّذقية 1985.

السواحري، خليل. "زمن الاحتلال، قراءة في أدب الأرض المحتلة". ط1. اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق 1979.

سويدان، د. سامي."أبحاث في النّص الرّوائي العربيّ". ط1. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1986.

الشرقاوي، عبد الرّحمن. "الأرض". ط2. دار الشّعب، القاهرة 1970.

شلحت، أنطوان. "شخصية العربي في الأدب العبري" ط2. دار ابن رشد، عمان 1986.

صالح، فخري. "في الرّواية الفلسطينية". ط1. دار الكتاب الحديث، بيروت 1985.

صبحي، محيي الدّين. "أبطال في الصيّرورة" ط1. دار الطلّيعة، بيروت 1980.

عاشور، د. رضوى."الطّريق إلى الخيمة الأخرى دراسة في أعمال غسّان كنفاني". ط2. دار الآداب، بيروت 1981.

عبد الله، د.محمّد حسن. "الرّيف في الرّواية العربيّة". ط1. سلسلة عالم المعرفة (143)، الكويت 1990.

عبّود، حنّا."النّزوحات الكبرى، معالم الأدب العربي بعد الحرب العالمية الثّانية". ط2.

دار الحقائق، بيروت 1982.

عطّية، أحمد محمد. "البطل الثّوري في الرّواية العربيّة". ط1. وزارة الثّقافة، دمشق 1977.

عودة، علي محمّد علي. "الفنّ الرّوائي عند جبرا إبراهيم جبرا". رسالة ماجستير (مخطوطة)، جامعة الفاتح، ليبيا 1984.

فرّاج، عفيف. "الحرية في أدب المرأة". ط2. مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1980.

الفيصل، سمر روحي. "ملامح في الرّواية السّورية". ط1. اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق 1979.

الفيّومي، د. إبراهيم حسين"الواقعيّة في الرّواية الحديثة في بلاد الشام". ط1. دار الفكر، عمّان 1983. 

القاسم، د. أفنان. "غسّان كنفاني الرّوائية لمسار الشّعب الفلسطيني". ط1. وزارة الثّقافة والفنون، بغداد 1978.

قحام، حسين. "صورة الأرض في الأدب القصصي العربيّ في الجزائر".رسالة ماجستير (مخطوطة)، جامعة حلب 1987.

كنفاني، غسّان. "أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة". ط1. دار الآداب، بيروت 1966.

ماضي، د. شكري عزيز."انعكاس هزيمة حزيران على الرّواية العربيّة".

ط1. المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت 1978.

محسب، حسن. "قضية الفلاّح في القصّة المصرية". ط1. الهيئة المصرية العامّة، القاهرة 1971.

مرعي، د. فؤاد. "في تاريخ الأدب الحديث". ط1. جامعة حلب 1982.

الموسوي، د. محسن جاسم.   "الرّواية العربيّة، النشأة والتحوّل". ط2. دار الآداب، بيروت 1988.

مؤلفين، مجموعة. "الرّواية العربيّة، واقع وآفاق". ط1. دار ابن رشد، بيروت 1981.

مندور، د. محمّد "الأدب ومذاهبه". ط2. دار نهضة مصر، القاهرة.1979 

نحوي، أديب. "عرس فلسطيني". ط1. دار العودة، بيروت 1970. 

النسّاج، د. سيّد حامد. "بانوراما الرّواية العربيّة الحديثة". ط1. دار المعارف، القاهرة 1980.

هلسا، غالب."فصول في النّقد". ط1. دار الحداثة، بيروت 1984.

وادي، فاروق. "ثلاث علامات في الرّواية الفلسطينيّة". ط1. المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت 1981.

ياغي، د. عبد الرّحمن "في الأدب الفلسطيني الحديث". ط1. منشورات كاظمة، الكويت 1983.

ياغي، د. هاشم "الرّواية واميل حبيبي". ط1. دار الفجر، القاهرة 1989.

اليافي، د. نعيم "التطوّر الفني لشكل القصّة القصيرة في الأدب الشّامي الحديث". ط1.

اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق 1982.

يقطين، سعيد "تحليل الخطاب الرّوائي". ط1. المركز الثّقافي العربي، بيروت 1989.

اليوسف، يوسف سامي "غسّان كنفاني، رعشة المأساة". ط1. دار منارات، عمان 1985.

2-المراجع المترجمة:

البيريس، ر. م. "تاريخ الرّواية الحديثة، ترجمة جورج سالم. ط2. منشورات عويدات، بيروت 1982.

باشلار، غاستون. "جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. ط2. المؤسسة الجامعية، بيروت 1984.

باختين، ميخائيل. "الملحمة والرّواية". ترجمة د. جمال شحيّد. ط1. معهد الإنماء العربي، بيروت 1982.

"الخطاب الرّوائي". ترجمة محمّد برّادة. ط1. دار الفكر، القاهرة 1987.

بوتور، ميشال. "بحوث في الرّواية الجديدة". ترجمة فريد أنطونيوس. ط2. دار عويدات، بيروت 1977.

ريديكر، هورست. "الانعكاس والفعل، ديالكتيك الواقعيّة في الإبداع الفنّي". ترجمة د. فؤاد المرعي. ط1. دار الجماهير، دمشق 1977.

ريكاردو، جان. "قضايا الرّواية الحديثة". ترجمة صيّاح الجهيم. ط1. وزارة الثّقافة، دمشق 1977.

زيرافا، ميشال. "الأسطورة والرّواية". ترجمة صبحي حديدي. ط1. دار الحوار، اللاذقية 1985.

صايغ، روز ماري. "الفلاّحون الفلسطينيون من الاقتلاع إلى الثّورة". ترجمة خالد عايد. ط1.

مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت 1980.

فيشر، أرنست. "الاشتراكية والفنّ". ترجمة أسعد حليم. ط1. دار الهلال، القاهرة 1966.

لوكاش، جورج. "الرّواية التّاريخية". ترجمة د. صالح جواد الكاظم. ط1. وزارة الثقافة، بغداد 1978.

"دراسات في الواقعيّة". ترجمة د. نايف بلّلوز. ط3. المؤسسة الجامعيّة، بيروت 1985.

هالبرين، جون. "نظريّة الرّواية". ترجمة محيي الدّين صبحي. ط1. وزارة الثّقافة، دمشق 1981.

همفري، روبرت. "تيّار الوعي في الرّواية الحديثة". ترجمة د. محمود الرّبيعي. ط2. دار المعارف، القاهرة 1975.

ويليك، رينيه. وارين، أوستن   "نظرية الأدب". ترجمة محيي الدّين صبحي. ط3. المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت 1985.

أضيفت في 10/04/2006/ خاص القصة السورية / عن اتحاد الكتاب العرب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية