مجموعة "وخز الأماني"
لمحمد عطية
وصوت القصة القصيرة المنفرد
إن القصة القصيرة أقرب إلى الحالة التى يمثلها
قول بسكال " إن الصمت الأبدى لهذه الآماد اللانهائية يرعبنى ".
فرانك أوكونور فى " الصوت المنفرد " ص 14
القصة القصيرة هى الصوت المنفرد المتوحد فى هواجسه وتعبيره مع الذات
والعالم ، وهى فى كل مكان وزمان، تحتل مكانا متميزا من الفكر الإنسانى، كما
أنها تعتبر من الروافد الهامة لفن من الفنون ظل على مر الأزمان والسنين
حديث الناس وشاغلهم الأول والأخير سواء فى أمسياتهم أو فى أحاديثهم اليومية
أو فى جلسات السمر وتزجية الوقت، فالحكاية والقصة هى أحدى سمات الأنسان أيا
كان وفى أى مكان يحل فيه، هو دائما يحكى ويروى ويسرد ويثرثر، ودائما ما
يكون الحكى والقص والسرد الحكائى عنده له متعة مزدوجة، له وللمتلقى على
السواء، حيث يعيش الأثنان معا حالة من الوجد الخاص والتوحد المنفرد
والمتفرد مع الحكاية بكل ما تحمل من رؤى وفكر ومتعة خاصة تحتل العقل
والوجدان معا، وتترك فى نفسيهما أبعادا وهواجس خاصة تثير الأنفعال وتحرك
الراكد من الكوامن والمخزون من الهموم والتأزمات الخاصة . ولاشك أن فن
القصة خاصة فى مدينة مثل الإسكندرية يحظى دائما بظهور كتاب متميزين، هم
بإبداعتهم ونتاجهم دائما ما يتركون بصمة خاصة متميزة على هذا الفن ، واعتقد
أن لعبقرية المكان والزمن السكندرى الواقعى الذى له خصوصيته لهما تأثير
كبير وعميق على الكتاب الذين ينشأون على هذه الأرض، لما ما فى تاريخها
وعبقها من إشراقات كاشفة، وعبقرية مؤثرة، وتميز يجعلها بحق هى عاصمة الفن
والأدب، وأرض المكتبات والثقافات والفلسفات، ولا شك أننا نستطيع أن نقول
الآن أنه من المؤكد أن الساحة الأدبية فى مجال القصة القصيرة والرواية هنا
فى الأسكندرية قد بدأت تستقبل أصواتا جديدة تفرض سردها وقلمها على
خطوط هذه الساحة وأن تحقق على المستوى الشخصى والمستوى العام نجاحات
متوالية من خلال أعمالها الإبداعية المنشورة فى الدوريات، ومن خلال بعض
المجموعات التى صدرت فى هذا المجال، من هذه الأقلام التى حققت بعض التميز
والحضور الفعلى الكاتب محمد عطية .
صدر لمحمد عطية مجموعتين قصصيتين على نفقته الخاصة، المجموعة الأولى
جاءت تحت عنوان " على حافة الحلم " وقد صدرت بمقدمة تحليلية للمرحوم
الأستاذ الدكتور محمد مصطفى هداره تبرز العديد من الجوانب الإنسانية
والفنية فى قصص الكاتب من خلال طرح بعض فضاءات التوتر والأنفعال والترقب
وطرح العديد من الهواجس المتناثرة فى مضامينها، وايضا طرح بعض الأسئلة التى
تعتمد الذات الإنسانية فى رؤاها بكل ما تحمل من تأزمات ووقفات وممارسات من
خلال نسق خاص قال عنه الدكتور هداره فى مقدمته : " مما لاشك فيه أن فى هذه
المجموعة عناصر جديدة للأقصوصة الحديثة من حيث البناء الفنى والمضمون
واللغة . ولكن بنسب متفاوته بحيث تبقى للوسائل التقليدية فرصة الوجود . إذن
فهى مراوحة بين الوسائل الحديثة والتقليدية " (6) . أما المجموعة
الثانية التى صدرت للكاتب فهى مجموعة " وخز الأمانى " التى جاءت هى الأخرى
معبرة عن ذات الكاتب وعن عالمه الإبداعى الذى بدأ يتشكل وتظهر ملامحه
وظلاله الخاصة من خلال هاتين المجموعتين اللذان يمثلان البواكير والبدايات
الفنية له، وتعتبر مجموعة " وخز الأمانى " إمتدادا عضويا للمجموعة الأولى
فى نسقها وصيغتها وشكلها العام ولغتها وما تحويه من رؤى تعتمد الإنسان فى
توجهاتها وفى التعبير عن عالمه .
والقارئ لمجموعة " وخز الأمانى "، يجد أن الهاجس الذى يحكم ذات
الشخصية الراوية فى قصص المجموعة هو سرد الكاتب وقلمه ورؤيته الشخصية
لطبيعة الأشياء ، وحسبما يتشكل هذا الهاجس فى وعيه ونفسه، وعبر مكوناته
الثقافية والحياتية ينعكس ذلك على الهواجس التى تحيط بالشخصية، وتملئها
بالعديد من الرؤى والأفكار والدلالات، كما نجد أن الكاتب أيضا يستخدم فى
نسيج قصص هذه المجموعة بعض التقنيات الحديثة فى تشكيله لهذه النصوص مثل
تداعى الخواطر والفلاش باك وأحيانا تكنيك تيار الوعى وهى تقنيات تتناسب مع
الشكل الذى وضعت فيه هذه المضامين التى تبدو وكأنها مختبئة وراء ركام
الواقع و تحكمها فى نفس الوقت محكات نفسية وواقعية تطول الحدث كما تطول
الشخصيات فى نفس الوقت، والكاتب هنا أيضا يحاول أن يبحث حوله عن هويته
الآنية مع نفسه ومع الآخرين، ولاشك أن هذه الهوية الآنية هى التى تحدد
علاقته بواقعه المحمل بأقنعة عديدة، ربما هو يستحضر لها من الماضى أشياء
تتداعى لها خواطره ، ربما هو يتوجه فيها إلى الهاجس الواقعى ليحدد معالمه،
وإن كانت هذه الهواجس فى بعض الأحيان يغلفها الغموض ، وربما يبدو الحدث
أحيانا فى بعض اللقطات غير مبرر حكائيا بمعنى أن الحكاية لا تكتمل ويبتر
سردها وهى على وشك ظهور حبكتها، بل وبعضها ينتهى نهاية غير متوقعة كما فى
قصة " وخز الأمانى " على سبيل المثال . كما يحرك الحدث أحيانا كما قلنا فى
بعض قصص المجموعة هاجس سيكولوجى ينبع من التجربة الحسية وشواهدها المنقولة
من عقل الراوى وأزماته الواقعية فى هذه القصص، كما يتجسد جانب آخر مواز
لذلك يستمد خطوطه وإطاره من البعد النفسى للراوى الذى أخذ على عاتقه إبراز
تغييب الذات، والتصادم مع الآخر، والبحث عن الهوية والإنتماء، كما يبرز
جانب تجريبى آخر يتعامل مع الشكل كما يتعامل أيضا مع بعض التقنيات
المستخدمة فى القصة القصيرة الحداثية . كما تمثل شاعرية اللغة فى هذه
المجموعة كيانا منفصلا عن باقى الأدوات المستخدمة فى النصوص والتى تبدو
وكأنها محملة بمفردات خاصة تتآلف مع مناخ القصة والشحنة النفسية المسوغة
لواقع الشخصية وهواجسها الخاصة والمتداخلة فى صلب الحدث وما يجرى فيه من
واقعية مأزومة ومتهرئة فى بعض الأحيان .
ففى قصة " وخز الأمانى " التى أطلقت كعنوان للمجموعة، ومن خلال وخز
هذه الصدمة التى أيقظت الراوى من سباته والتى دفعت به فى نهاية النص إلى
الإحساس بشعور طاغ لخيبة أمل قاسية، ومحاولة الراوى فى هذه الحالة
التعبيرعن هذا الترقب الذى ينتظره فى مواجهة ساعى البريد الذى كان يؤدى
عمله بطريقة نمطية وفى مواجهة خيبة الأمل التى شعر بها الراوى عندما اكتشف
أن الخطاب الذى ينتظره لم يكن إلا خطابا مرتجعا إليه، وأن هذا الترقب الذى
ظهر فجأة فى الأفق لم يكن إلا سراب واجه به ومعه الواقع بكل ما يحمل من
تأزمات، ووخز للأمانى المنتظرة . القصة لقطة وامضة تنسج نفسها من الواقع
بطريقة قد تبدو عفوية ولكن الدلالة التى تحملها تجعل نهايتها محبطة للمتلقى
خاصة هذا البتر للحدث الذى جاء هو الآخر صادما لمشاعره وهواجسه وعلى غير
أنتظار .
وفى قصة " تداعيات " تبدو هذه العلاقة المتنافرة بين الراوى وأحد
أصدقاء الطفولة حينما تقابلا فجأة على غير إنتظار والتى تبدو فى علاقتهما
بأنها تشوبها أشياء غير ظاهره ولكنها تتكشف من خلال الممارسات واللقاءات
والذى كان منها هذا اللقاء المفاجئ . القصة تنقسم إلى مستويين يلعب بهما
الكاتب على مستوى الزمن . مستوى آنى يحمل لحظة اللقاء وما فيها من برود
ظاهر مستفز ومستوى ثانى يقع فى مرحلة الطفولة وما بعدها حيث يبدو تطور
العلاقة وتأزمها وصخبها فى بعض الأحيان من خلال العودة إلى الماضى ورؤية كل
منهما تجاه الآخر : " رغم ما اعتلج فى النفس توا ... إرتقيت درجة الرصيف ..
غاصت يدى فى يده المتضخمة .
1تفضل .
بدت عبارته المبتورة، وكأنما كانت محشورة فى فيه .. ثم انفلتت "
(ص 9 – 10) . القصة تتداعى فيها خواطر الذات عبر شريحة
نفسية تسبب فيه هذا اللقاء العفوى للراوى مع صديق الطفولة والذى أعاد إلى
تلك اللحظة تراكمات الماضى البعيد والذى جاء معبرا عن هواجسهما معا فبدا
اللقاء فاترا مهيضا باردا لا يحتمل سوى هذه الهواجس التى جالت بفكر كل
منهما تجاه الآخر .
وفى قصة " ترقب " استطاع الكاتب أن يجسد من هذه اللقطة الوامضة
المحملة فى ثناياها لحظات ترقب مرهفة من خلال هذا الراوى الذى يبحث عن
الزمن الضائع بالنسبة له فى تساؤل عجز هو عن الأجابة عنه بسبب عطل فى ساعته
: " على طوار المحطة .. الحت على رغب فى معرفة الوقت " ( ص 13 ) . وعجز هو
فى نفس الوقت فى البحث عن ماهية الوقت، كما عجز أيضا عن معرفة ذات هذا
الوقت حيث كانت هواجسه جميعها تتجه ناحية معرفة الواقع الآنى الذى تحالفت
عليه الظروف للحيلولة دون بلوغه معرفة الزمن وبالتالى كان الزمن بالنسبة له
هو السؤال الصعب، حتى إنه عندما لاح له عجوز فى نهاية القصة يحمل فى صدره
سلسلة تنتهى يقينا بساعة إنفلت منه الزمن وغاب العجوز وراء غلالة من ضوء
الشمس لاحت فى تلك اللحظة بالذات . القصة تحوى داخلها هواجس الغروب وهو
تعبير عن الزمن الضائع المترقب الذى ينتظره كل منا ناحية الجهة المعاكسة .
وفى قصة " خواء " يجسد الكاتب موقفا لعلاقة الألفة الهاربة التى
تجمعت عبر أزمان مضت ولكنها تنتهى إلى هذا الخواء الذى أحس به الراوى . هذه
اللقطة الوامضة الباحثة عن الألفة الهاربة وسط زخم الخواء قد جاءت فى
الإتجاه المعاكس للقطة التى جسدها الكاتب فى قصة " تداعيات " حيث استقرت
نفس لحظة اللقاء، وبنفس الطريقة التى رسم بها الكاتب قصة " تداعيات " من
خلال استخدام مستويين فى القص، ومن خلال اللعب على وتر الزمن ، مستوى زمن
القص ومستوى زمن مضى منذ فترة ليست طويلة : " أحتوت عيناى المقعد الخالى،
على الجانب الآخر من المنضدة تشممت عبقا يسكن ذاكرتى ..
منذ احتوانا ركن المقهى، ودنا كل منا من الآخر، لامست حواسنا شجوننا
.. اكتوينا بنار كلينا .. بات كل منا يلقى بهمومه، لتهوى فى بئر سحيق "
(15) .
وفى قصة " همس الظلال " يجسد الكاتب حالة خاصة من التقاطع مع الآخر
حيث الراوى فى صدام الظلال الذى يدور فى هواجسه يشعر وكأن العالم المحيط به
يضيق ويصبح مثل هذه الحجرة المحكمة الغلق التى تحميها القضبان الحديدية
المغلقة : " تدور عيناى فى المكان محدقة .. النافذة محكمة الغلق تحميها
قضبان حديدية متقاطعة .. أكوام السجلات الصفراء المتآكلة تحتل مكتبا، تشرع
قوائمه الصدئة فى السقوط .. الأبواب الصغيرة المكتنزة تتراص .. تكبلها
أقفال صدئة " (17) . الشخصية فى هذه القصة هى شخصية الراوى المتعبة الحائرة
التى لا تدرى ماذا تفعل تجاه هذا الهمس الذى تثيره الظلال من حولها، لذلك
فهى كثيرا ما تجد نفسها متقاطعة ومتداخلة مع الآخر، تشعر به لأقل همسة تصدر
عنه ولأقل إنفعال يصدر منه .
وفى قصة " وسط الأمواج " تبدو شخصية الراوى وكأنها وسط بحر متلاطم
الأمواج تعبث به الريح والأمواج العالية وتقذفه بصخبها وعنفوانها المقيت
وتحيط به الدوامات فى محاولة لطيه داخلها . أما الواقع الذى جسده الكاتب فى
النص فقد جاء على مستويين المستوى الأول هو هذا الصوت العنيف الطارد
للشخصية من عملها والمغلق لباب الرزق والحياة ، والمستوى الثانى المتمثل فى
واقع الحياة الدائرة فى شارع الكورنيش القريب من ذات البحر المتلاطم
الأمواج . إن الصوت الهادر والبحر الهادر كلاهما معا يحاصران الراوى فى
حياته وفى رزقه حتى ليكاد يغرقه ويزهق روحه وسط أمواج الحياة المتلاطمة .
من خلال هذه القصص وباقى قصص المجموعة التى تحمل نفس التجربة التى
عبر عنها الكاتب من خلال شخوص وأحداث تجاوزت الواقع إلى ما ورائه من آفاق
ورؤى، " سقوط الأوراق " " خطوط .. متقاطعة " " صدأ المشاعر " " الضوء
والإنكسار " ومن خلال استقراء قصص المجموعة كلها تبرز ظاهرة فنية مهمة يمكن
تحديدها من خلال هذا الإستقراء وهو ضمور الرؤية الخارجية للراوى العليم ،
إن كان هذا الراوى يقدم مادة القصة ، أو شخصية تقوم بالدور نفسه اعتمادا
على رؤية خارجية ، وطغيان الرؤية الداخلية للنص والمغلقة على عالم ضيق ذو
مكونات محدودة ، لذا نجد أن الكاتب فى هذه المجموعة اتكأ على واقع الشخصية
ومحورية ما يدور فى هواجسها وعبر المكونات الرئيسية للماضى والتقاطعات
المختلفة التى تتقاطع مع حاضره خاصة عبر الشخصيات المستدعاة من الماضى
والتى شكلت بالنسبة له تداعيات خاصة . وإذا كانت الشخصية فى الأدب القصصى
بصفة عامة قد نهضت وتكونت من خلال تعارضها مع بنية الواقع الإجتماعى ،
فإننا نجد أن الشخصية فى هذه المجموعة قد جاءت برؤية ضيقة فى بعض النصوص
ومستلبة مع واقعها فى البعض الآخر وقد أرادت هى الظهور على حساب المظاهر
الحسية المتواجدة داخل النص، إلا أن إنحسار الرؤية فى بعض قصص المجموعة قد
جعل هذه القصص تتوجه ناحية جانب واحد وهو جانب الهواجس الذاتية لذا كان
الشخصيات عبارة عن نماذج عامة لحالات مهيمنة فى البنية الإجتماعية .
كما نجد ذلك أيضا فى هذه اللقطات التى عنونها الكاتب تحت مسمى "
أبواب " وفيها يطل الواقع المستمد من الشارع والحارة المصرية الشعبية
والمعاملات والممارسات التى تمتلئ بها حياتنا الإنسانية فى لقطات بسيطة
معبرة أستطاع الكاتب أن يحيلها إلى مجموعة من الأبواب الواسعة التى من
الممكن الإطلال منها على الواقع الرحب الواسع وإن كنت لا أرى مبررا لهذه
التسمية فهى لقطات قصصية ربما تكون غير مكتملة الحدث ولكن نهايتها
المفتوحة تمتلك تأويلات ودلالات تركها الكاتب للقارئ ليجيب من خلالها على
الأسئلة التى تتراءى له من خلال القراءة
وفى هذه اللوحة القصصية التى جاءت تحت عنوان " تواصل " تبرز أمامنا
لقطة تجسد التوتر الحادث بسبب عبثية الإنسان فى زمن اللامبالاة . إن لحظة
التواصل المنقطعة عبر الشارع بين زميلين متباعدين ترمى بظلالها على هذه
اللقطة المعبرة لهذه الأقصوصة . يبدو ذلك من خلال هذا النداء الملّح
ومحاولة التواصل الدائبة بين الأنسان والأنسان فى هذا العالم المكتظ بالبشر
. ولعل الإستجابة الفورية بعد تصاعد لحظة الأزمة فى هذا النص كانت هى
المحطة الأخيرة الذى جسد فيها الكاتب رؤيته لإحتمال التواصل وحدوث شئ ما
على خريطة الواقع : " حينما لمح زميله يتباعد، توقف .. ارتقى باطرافه مرة
أخرى .. بعث بصفيره، متتابعا .. زاعقا بأقصى ما لديه .
من على الرصيف، ومن داخل المحلات، ومن خلف مقاود السيارات .. تدافعت
عليه الأصوات .. تدفق السباب .. لكن صفيره ظل يتصاعد بلا كلل حتى التفت
زميله، وتواصل صفيرهما معا ... " ( ص 58 ) .
وفى اللوحة الثانية التى جاءت تحت عنوان " فوق الرماد " نجد فى هذه
اللوحة تجسيد الكاتب للوحة واقعية حية ضفرها ببعض مظاهر الأنثربولوجى من
خلال بائع البطاطا المتوحد مع عمله وبضاعته حيث يسقط عليها من ذاته ومن
واقعه أشياء تحمل بعض دلالات الواقع المسيطر على فكره ورؤيته للحياة .
فالدخان المتصاعد من عنق ثلاث مداخن يشبهون الأهرامات الثلاث هو ما يمكن أن
يقدمه لزبائنه ليتنبهوا لبضاعته المعروضة . فهو يغطى الكفين المتصدرين
لمقدمة المعربة بهذا الدخان وكأنه يحاول إبعاد شبح الحسد على عربته وبضاعته
الرائجة، بينما هو يضع أيضا لفظ الجلالة فى مقدمة العربة وعندها يتفرق
الدخان المنبعث من المداخن فى شكل دلالى يعرف البائع إنه يخدم واقعه وواقع
بضاعته التى يقوم ببيعها : " فى مقابلة الريح .. يتحول الدخان ناحيته ..
يتفرق حول لفظ الجلالة المثبت أعلى الباب الصغير للفرن . يلفح وجهه، فيغمض
عينيه، تتابع دفقاته سباقها نحو رئتيه .. يسعل .. يحشرج بصوت مبحوح ..
يتنحنح .. ثم يعلو صوته مناديا على ( بضاعته ) المشوية " ( ص 59 ) .
وفى لقطة " طلة " يتراوح الواقع بين التلقائية ومحاولات الإطلالة
التى رسمها الكاتب من خلال المسكوت عنه الذى يمتلئ به واقعنا المعيش . حيث
تبدو العلاقة بين بائع السمك وهذه المرأة التى تطل عليه من شرفتها لشراء
بضاعته . إنها تتفاعل معه من عل بتلقائيتها الأنثوية المعهودة عند كثير من
النساء الذين يقومون بشراء حاجياتهم من نوافذ أو شرفات بيوتهم . ويقف
البائع يتحين الفرصة وهو فى خبيئة نفسه يطيل أمد عملية البيع حتى يستلب هذه
النظرات النهمة لإلتقاط عرّى هذه المرأة التى تقبع فى شرفتها العالية، وقد
جسد الكاتب هنا دونية البائع من خلال نظراته التى يختلسها ويوظف لها بضاعته
للحصول عليها ، بينما المرأة تجد فى ذلك بعض ما يرضى غرورها فتمنحه فوق
الثمن بعض الضحكات : " سيفرغ فى سلتها ما جهز .. لن تقنع به . سيتعلل بغلو
الأسعار .. سيظل يصعد برأسه .. ينزل بها، مرارا، حتى تتمكن عيناه من غزو ما
بين نهديها، ولو للحظة .. سيعطيها ما تطلب، ويزيد . ستمنحه فوق الثمن بعض
الضحكات ( ص 61 ) .
وفى هذه اللقطة أو هذه اللوحة التى جاءت تحت عنوان " إتجاه آخر "
يقف صاحب الدكان مع صبيه وقفة خاصة يشير فيها الرجل إلى إتجاه يعجز الولد
الصغير عن فهمه ، ولكن العجز فى حد ذاته يهيمن على واقع النص من خلال عدم
فهم الصبى لفكر الرجل، بجانب العجز العضوى الموجود فى قبضة الرجل اليمنى
والذى يضطر دائما إلى عدم الكشف عنها ووضعها فى جيبه ، ولكنه فى النهاية
يضطر إلى استخدامها عندما هيمن العجز على الفكر وعلى الرؤية التى تشير إلى
الإتجاه الآخر : " بلا وعى إنسلت يمناه من جيبه .. إنفلتت أصابعها الواحد
تلو الآخر – من أسر قبضتها – تنقصها ( سبابة ) .. إنضغطت رأسه أكثر إلى
صدره .. إمتدت زراعه – مرتعشة – لتلاصق رأسه، وتشغل يده – مفرودة ما بها من
أصابع – الحيز أمام عينى الصبى مصوبة نحو المكان " ( 63-64 ) .
وفى قصة " بصيرة " يجسد الكاتب من خلال هذه اللوحة الواقعية ملامح
رؤية خاصة تتناقض على ما جاء بقصة " الإتجاه الآخر " ، فالعجز هنا فى هذه
اللوحة القصصية واعى ومدرك لما هو يرى من خلال بصيرته الذاتية وليس من خلال
البصر ذاته . فهذا الكفيف يرى ببصيرته ما يعجز أن يراه المبصر بعينيه ، وهو
يدرك بهذه البصيرة الأشياء ويوظف حواسه الأخرى تجاه واقعه ونجد فى سخريته
تناقضا للواقع عندما ربط بين جنون البائع وجنون أسعار الطماطم . وهو فى هذه
القصة يذكرنا بقصة " الأعمى " لمحمود البدوى حينما وظف الأعمى بصيرته
النافذة فى لحظة شبقية وكانت بصيرته سببا فى السقوط وهدة المسكوت عنه بدلا
من توظيفها تجاه مواقف إيجابية .
وفى مجموعة اللقطات التى وضعها الكاتب تحت مسمى " نوافذ " وهو مسمى
آخر ليس له ما يبرره وهى لقطات استمد الكاتب خطوطها من داخل مدرسة من خلال
بعض المفارقات الحاصلة داخل الفصول أو الفناء أو حجرات المدرسين والأدارة .
مجموعة من اللقطات الناطقة بواقع العملية التعليمية بما تحمل من متناقضات
ومفارقات ، وبما يحمل زمنها ومكانها من ممارسات سلبية ، يبدو ذلك فى هذه
اللقطات المعنونة " عقاب " " مناقشة حرة " إقتحام " " الهدايا " .
لا شك أن العناوين التى أنتخبها الكاتب لقصص ولوحات هذه المجموعة
تتصدر محور البناء الفنى للنصوص و لقطات المجموعة بما ذلك العنوان الرئيسى
الذى تصدر الغلاف والذى جاء على شكل مجازى يضع فيه الكاتب رؤيته تجاه
الواقع والذى أختار له عنوان " وخز الأمانى " وكأنه بذلك يعبر عن دلالة
عامة تنحو نحو الواقع الإنسانى ، وقد جاءت باقى العنوانين كعتبة أولية
للنصوص ولكنها تحمل من الدلالات والرؤى ما يجعلها تشارك فى بنية النص ذاته،
وربما من يتأمل فى هذه العنواين يستطيع أن يجد الدلالات قابعة فى معانيها "
تداعيات " " ترقب " " خواء " " همس الظلال " " سقوط الأوراق " " خطوط
متقاطعة "" صدأ المشاعر " " الضوء والإنكسار " الخ من العنوانين التى ترصع
هذه المجموعة المتميزة .
كما تعتبر مشكلة اللغة من أهم الإشكاليات البنائية والجمالية فى
القصة القصيرة ، فلغة القصة يجب أن تكون قادرة على الأستحواذ على أهتمامات
القارئ شأنها فى ذلك شأن لغة الشعر وأيضا الإمساك بالموقف كله والتمهيد
للحدث وبلورة الفعل ورد الفعل فيه عند الشخصية وعبر الأزمة المتنامية داخله
. وفى القصة القصيرة لكل كلمة أهميتها ولكل جملة قيمتها داخل البناء الفنى
للنص . وكلما ضاقت المساحة فى نسيج النص أصبح الإختزال والتكثيف ضرورة
والإيحاء والكشف أمر لا بد منه . والكاتب الذى يمسك بناصية اللغة ويتعامل
معها فى صبر وإناة يستطيع أن يجسد منها موقف حكائيا بالغ التأثير وبالغ
الإبهار من خلال توصيل عالم حى وواقع له مكوناته . والصوت المتوحد فى القصة
القصيرة هو الصوت الرامى إلى إيحاء ودلالة تستند إلى فكر ورؤية ونسيج يعبر
عن الواقع ويقرأ فيه العالم ويسعى إلى تداخل الذات مع العالم فى منظومة
تتشكل من موتيفات بسيطة وأسئلة يجب إيجاد اجابات لها من خلال الواقع وما
يدور فيه من ممارسات وأفعال لها طبيعة خاصة .
لقد تعمدنا إنهاء البحث بهذه الكلمة عن اللغة لأن لغة المجموعة قد
جاءت متواءمة مع مقتضيات الحال ، فشاعرية السرد قد انتظمت حسبما جاءت
الرؤية ، والعرض اللغوى قد تطابق مع الحس المنتظم لسير الأحداث بحيث عبر
الكاتب عن الشخصية والحدث بلغة هى للمضمون منها للغة نفسها الذى عبر عنه
داخل النص والنماذج من النصوص كثيرة فى هذا الصدد . وقد استخدم الكاتب
لمستويات الكتابة فنية خاصة حيث استخدم بنط صغير للتعبير عن مستويات وبنط
كبير للتعبير عن مستوى آخر خاصة فى النواحى المعبر عنها عن الزمن كما جاءت
اللغة هى الأخرى رامزة ومعبرة عما يدور داخل هواجس وتداعيات الشخصية . وفى
هذا الصدد نستطيع أن نقول أن البطل الحقيقى لقصص المجموعة كانت هى اللغة
بجانب براعة الكاتب الذى استطاع توظيف هذه اللغة فى تشكيل هذه المجموعة
القصصية المتميزة .
|