وسط الأمواج
يستبد بي كل ما حولي . تعيث في صدري آلام الاختناق …
تدفعني دوامات .. تعبث بي .. تطوي صدري على تلافيف أحشائي المعتصرة
بألم حارق .
عبر الأزقة والشوارع المفضية إلى الكورنيش ، تتلاطم خطواتي ..
تتدافع .. تتخاذل .. تتراشق مع خفقات القلب المخلوع ، وضربات تقصم الظهر .
ينطلق الصوت الهادر من جوف مظلم .. يتردد صداه
" أخرج … "
يضرب بأناتي ، ونظراتي المصعوقة عرض الحائط .
تطمس حروفه الباطشة عقداً من الزمن ، التفعت فيه أيامي بشمس حارقة
.. تدثرت بزمهرير قارس ، وغرقت نفسي في شقائها العنيد.
يحطم أغلالا عاشت جزءا من كيان يسكنه التمرد .. تعجزه مرارة العيش
والارتزاق .
يوغل الصوت .. يتمادي في لفظ حممه الهادرة .
" لم يعد لك لدينا مكان … "
ينفث بها مع دخان سيجار غليظ ، محملا بأثير التأنق ، ووهج التكبر ،
وسط نسمات تنبعث من تكييف مكتبه الفخيم .. تقشعر لها نفسي .
الخطوات المضطربة تدفعني .. تزج بي وسط أمواج السيارات المارقة ،
الطاحنة لإسفلت طريق الكورنيش .. يتدحرج معها قلبي مذعورا .. يستجدى معها
جزيرة الطريق المتباعدة ؛ حتى تدركها .. ترسو بها .
يعاود الصوت اختراقي . تنهب موجاته أوتار ساقيّ المجهدتين
المشدودتين إلى الأرض في وهن .
على وجه الأسفلت الناعم ببحر الطريق أمامي ، تتوازى خطوط بيضاء
عريضة متآكلة الحواف .. تلازمها إشارات فسفورية معدنية مثبتة .. لا يتجلي
ضوءها الخافت لعينييّ المغبشتين مع دفقات السيارات المتسارعة .
يلفظ الصوت بقاياه ، ويتراجع .
" لم يعد لك لدينا .. "
تسعي قدماي بخطوات ملسوعة تارة إلى اليمين ، وأخري إلى الشمال ..
تتحين الانفلات في خضم التتابع ؛ فتقابل عينيّ أسهم دائرية غليظة .. تنسحب
إلى الخلف بخطوط عريضة أخري بمحاذاة الجزيرة ، التى تغطيها آثار زخات مطر
قد جفت ممتزجة بغبار الأرض .
على الجانب المقابل .. يبدو وجه مشدود على قالب معوج .. يتناثر حوله
رذاذ البحر . تسفر شفتاه الغليظتان المطبقتان على لفافة تبغ عن ابتسامة
صفراء مذمومة . تسعي سحيبات زفراته المتطايرة حول صقيع عينيه ، وصلعته
الباردة المجدبة . تتشكل قسماته ،
'e6تتحور
.. تجرني في ذعر إلى سراديب وجه تثقب نظراته المتحجرة خاطري . يفصله عن
ناظريّ على البعد خط أثيري متماوج .
تتخاطف عيناي نظرات إلى الخلف .. تلتقطان المساحات الخالية عن
اليمين ، وعن الشمال . تناوشني نظرة ذعر متوثب ، تحفر لها مكانا في قاع
رأسي المعترك .. ثم تتقاطر نظراتي تائهة في خضم بحر الطريق .
خطوط .. متقاطعة
(1)
تستقبلني نسائم الصباح الرطبة ، تدغدغ حواسي . يتلقفني الميدان
الفسيح ـ الغاص في حركات بشرية آلية مدهشة .. يلفظنى نحو الشارع التجاري
الطويل ؛ تواجهني واجهات عرض محلاته الموصدة .
" الموعد المتفق عليه لا يزال أمامه وقت حتى يحين ؛ لكن العجلة
تدفعني دائما إلى التبكير "
تنخرط خطواتي في مشي وئيد ،تتقدم .. تتأخر .. ترتاد ـ قافلة ـ خطها
المقطوع .. تعاود التوقف ـ حيث بدأت ـ عند ناصية تقاطع الشارع بآخر .
" الفتاة خمرية اللون ، متسقة الجسد ـ التي كانت تجلس قبالتي في (الباص)
.. تلفها نظراتي المتتابعة من خلف ضفتي الجريدة ـ حال بيني وبينها صعود
الركاب ونزولهم . اختفت قبل أن تودعها عيناي المتشاغلتان
الجريدة الصباحية منذ انفضت بكارة صفحاتها ، عناوينها الرئيسية ثم
أغلقت ، لم تبارح إبطي المستكين عليها "
تقحمني معدتي الخاوية في محل الوجبات السريعة . أعود بخطوات يحفها
الأمل ؛ أن تلحق بها خطواته نحو الناصية .
" لم يخبرني من أي اتجاهات التقاطع سوف يأتي ؛ حيث نبدأ إحدى
محاولاتنا الجادة ، لكن همسه بادرني :
•أن تعذر وصولي في الميعاد ؛ فسوف يكون لقاؤنا بالمقهى . "
تتحرك جبال الوقت ، كحركة قدميّ المقيدتين داخل حذائي . هاتفي
الساكن بجيبي يلازمه خرس لا يبارحه ، ولو للحظة . يأتيني فيها صوته ينبئ
بقرب مجيئه .
تتردد التفاتاتي نحو جهات التقاطع الأربعة .. ثم تأخذني قدماي نحو
المقهى ـ قليل الرواد ـ في مواجهة السور الحجري الواطئ للبحر .
(2)
تنساب النقوشات عبر جدارات المقهى اللامعة ، زجاجية الملمس .. تتوزع
بانتظام . تعترضها خطوط عريضة متقاطعة موشاة بأغصان ملتفة .. تتفاوت
الألوان ، وتتقارب .. تحيط بلون الخطوط الرمادي الرصين ، لا يقطع تواصلها
إلا حدود المربعات الفاصلة .
يوقف امتدادها من أعلى إطار خشبي ، يتنازع الأسود والبني الغامق لون
طلائه .
أعالج كوب الشاي بحفنة من السكر . أتناول رشفة منه .. أوقن حاجته
للمزيد . تبادر يدي بإخراج الهاتف من جيبي .
" ربما أدركه اتصال ، ولم تلتقط رنته أذناي "
يجثم الهاتف فوق المنضدة خاليا من أي محاولة للاتصال . يعيقني نفاد
شحنة عن المبادرة بتوصيل صوتي إليه
مع رشفات من كوب الشاي ، تجزعني الأولى ، يقل الجزع مع الثانية ،
يعتاد اللسان ميوعة المذاق في الثالثة . تعاود الأنامل اختراق صفحات
الجريدة . تفاضل عيناي ما بين التوغل فيما بعد العناوين ، والشرود فيما
وراء السور الحجري ، في انتظار قدومه .
صدأ المشاعر
(1)
أقعدوها ، منفطرة القلب .. ينتفخ جفناها .. تتورم ، وتتدلى شفتاها
القانيتان .. يصطبغ الوجه الأبيض الحليبي بسياط من لهيب أحمر ، وأشباح تعدو
بباطن جفنيها المثقلين بجبال من رمال تتحرك .
بين الوعي واللاوعي ، تواجهها صورة أبيها ـ الذي رحل توا ـ بكل
ملامحها .. تسرع ؛ لتلحق بسيل أشباحها .
يهيج الكيان المتمزق . يشتعل العويل . يتمرغ الجسد المكدود على
الأرض .
تعيي مرافقاتها محاولات انتشالها حتى تقوم . تعود ؛ لتقفز .. تلطم
.. تصرخ . تتكرر محاولاتهن لاحتوائها . تتملكها أعاصير داخلها المريرة .
يلتوي مفصل إحدى قدميها ؛ فتهوى عليها بكل ثقلها فاقدة الوعي .
(2)
حملوها ، بلا حراك منها ، ولا هوادة لتراتيل النواح والبكاء المعتصر
، وهنيهات غيبوبية ، يفصل بينها نشيج عنيف .
في صالة الانتظار بالمستشفى .. انبثقت من الأعين نظرات الإشفاق
والألم ؛ فالتفتت إحدى مرافقاتها ـ بعد أن مصمصت شفتيها ـ لإحدى المجاورات
المنتظرات ، ثم همست :
•عروس هي لم تزل ، لكن الفرح أيامه قليلة .
وراحت في حوار متبادل تسرد جوانب المأساة المزدوجة .
لم يزل سرادق عزاء أبيها منصوبا ، يرج أجوائه صوت المقرئ المجلجل ..
ينبعث صداه ؛ يصل إلى آذان مرتادي المستشفى .
(3)
على كرسي متحرك ، وفى ظل مرافقاتها المتشحات بالسواد .. خرجت من
حجرة الطبيب مدلاة الرأس على الصدر في وله ، ممددة القدم الملفوفة في جبيرة
من الجبس للانتظار حتى يسمح الطبيب بالمغادرة .
أمام الحجرة واجهها .. حليق الذقن ، وشعر الرأس .. لا آثار لغبار
على ملابسه المهندمة ، ولا إرهاق على ملامح وجهه المتكلسة .
همست المرافقة في أذن مجاورتها ، ناظرة إليه :
•هو زوجها …
ولوّت شفتيها قاطعةً سيل كلماتها .
سحب كرسيا ، وجاور زوجته .. يحقن آثار غضب مقيت .
لم يبادر بسؤالها عمّا آلت إليه حالتها . اكتفي بنظراته الخاطفة
نحو قدمها (المجبّرة) .
حاولت فك أقفال فمها ؛ فخرجت حروف كلماتها مخنوقة ، مجروحة ، محشورة
في أحبال صوتها الممزقة .
سبقت دموعها أي كلام ؛ فراحت تترع كخيوط منسابة على وجهها المتلطخ
بدماء بشرتها الحليبية .
بادرته إحدى المرافقات متسائلة :
•ما بك ؟
اعرض بوجهه ذي العينين الغائرتين مغمغما :
•لا شئ .
بادرته أخرى :
•زوجتك في حاجة إليك .
أشاح بيده .. موجها نظره إليها .. منفثاً لكلماته المحتقنة :
•خطيبك السابق ( … ) …
صمت .. ثم تابع :
•ما الذي أتي به إلى العزاء ؟ ! ما أن رايته مقبلا نحوي .. حتى
انفلتت من صف آخذي العزاء آتيا إليك .
تولته أعين النسوة المتحوطات بها بنظرات اختلط فيها الاستهجان ، مع
السخط ، والتعجب في صمت .
رغم ما ألمّ بها .. تناهي إلي مسامعها المشوشة صوت المقرئ بسرادق
العزاء واهنا .. ومن خلال عبراتها المترقرقة بعينيها المغبشتين ، طالعته
نظراتها العيية من أعلاه إلى أسفله ، ودارت بها الدنيا .. ثمّ راحت ـ مرة
أخرى ـ فاقدة الوعي .
|