أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: خليل بيطار

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

من مواليد محافظة السويداء جنوب دمشق عام 1946

صحفي وقاص وسياسي يكتب الدراسة والقصة القصيرة وقصة الأطفال حاصل على إجازة من قسم اللغة العربية بكلية آداب جامعة دمشق ودبلومي التأهيل التربوي والدراسات العليا في التربية.

 

الأعمال المنشورة

رؤى العاشق مجموعة قصصية للكبار إصدار خاص عام 2000

الغيمة المستكشفة قصص للأطفال صدرت عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 2001

شجرة الكينا قصص لليافعين صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 2003

وتصدر له قريبا مجموعة قصصية لليافعين عن وزارة الثقافة

يرى الكتابة أشبه بالسير على حافة

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

دهاء النعامة

السلحفاة والضب

الطائر الأبلق

الغيمة المستكشفة 

السلحفاة والنمر

الببغاء الرمادي

شال لدالية

كعب آخيل

 

الغيمة المستكشِفة

 

 

اختلف الناس جميعاً في إمكانية وجود صديق وفي، وكانت حكاياتهم لا تنتهي حول أهمية الصداقة وندرة الأصدقاء، لكن الغيمة ظلت تثق بالصداقة، وتحب أصدقاءها الكثيرين: الأطفال والأشجار والتلال والبحر والأمواج ورمال الشاطئ وأزهار الحدائق، فقد أتقنت لغاتِهم، وعرفت أمزجتهم، وصممت لكل منهم طريقة للتخاطب، كيلا تؤذي مشاعرهم، وكانت الأشجار والطيور والأزهار تحب الغيمة مثلما يحبها الأطفال أو أكثر قليلاً، فحين تُقبل تُستَقبل بمظاهر البهجة، وحين تمضي تُودّع بمشاعر الامتنان.

لكن الزمن لا يترك أي شيء وشأنه، فهو ما يفتأ يغير ويبدل، ويهز ويزعزع، ويفرق ويشتت، تسعفه في مهمته الرياح العاتية والعواصف الشديدة، والزلازل المدمرة، وسواها من العاديات، لكن الغيمة ظلت عصية على التغير، وفية لأصدقائها، دقيقة في مواعيدها وطقوسها ومعابثاتها، فهي تبدأ بمعانقة التلال، ثم تبلغ الأشجار آخر طرفة حول الأشجار الهرمة والشجيرات الصغيرة، أو حول الطيور المشاكسة والزرافات المدعية وفئران التجارب، وتتابع مصافحة الورود، ومراقصة الطيور، ومعابثة الأطفال، وتلوم أولئك الذين نسوا إنجاز واجباتهم البيتية، وتحثهم على الاجتهاد.

أحست الغيمة ذات يوم بالرتابة، ولاحظت أن حياتها تسير على نمط واحد، فهي تستيقظ باكراً، وتغادر سريرها البحري الوثير، ثم تتمشى قليلاً قبل أن تبدأ عملها، فتسقي البساتين والحقول، وتلتفت لمحادثة الفلاحين والسؤال عن أحوالهم، ثم تلقي التحية على الورود والأشجار، وتلعب وتدور مع الأطفال والطيور، قبل أن تعود أدراجها إلى البحر، وقد أخذ منها الجهد كل مأخذ، وتقطعت أوصالها، وتلاحقت أنفاسها، فتلقي متاعبها على الشاطئ، ثم تتابع تحليقات النوارس، وتصغي إلى حكايات البحر حتى تنام.

لم تشكُ الغيمة يوماً من أحد، بل كانت تصغي وتتعلم، وتفتح صدرها لشكوى الآخرين، وتقابل عتابهم ودعاباتهم بتفهم حكيم، وصبر بحار، ويقظة راع، وقلب محب، ولم تتخلف يوماً عن نثر هداياها بمناسبة أو دونها، واستطاعت أن تحوز على ثقة الجميع بمن فيهم الأطفال الذين يصعب إرضاؤهم، بعكس الكائنات كلها كما هو معروف.

سمعت الغيمة الأطفال يوماً يتحدثون بطريقة مختلفة، ويعرضون خططهم وطموحاتهم، وعرفت أن بعضهم يتمنى أن يقوم بجولة حول العالم، ويخطط لتنفيذ هذا الحلم منذ اليوم، وأدهشتها الفكرة فلم تنم ليلتها، وغرقت في سهوم صامت غامض يشبه سهوم الشعراء والعشاق، ولاحظ الأطفال صمتها، وقلقوا، وتشاوروا في حالها، وبحثوا عن إجابات صحيحة، لكن المسألة هنا كانت أعقد من مسائل الرياضيات، أو تدريبات النحو، أو موضوعات التعبير.

لم يهتدِ الأطفال إلى معرفة سر صديقتهم المخبأ، وانتظروا أن تصارحهم بما تخفيه- على غير عادتها- لكن صمت الغيمة وقلقها طال وأقلقهم، وفي اليوم الثالث من الأسبوع الثالث من ربيع الأول، فاجأت الغيمة الحقول والتلال والعصافير والأشجار والورود والأطفال بقرارها الخطير، وأبلغتهم أنها تنوي القيام برحلة حول العالم.

فوجئ الجميع بالنبأ، وحاولوا ثني الغيمة عن عزمها، ورجوها أن تعيد النظر في قرارها المتسرع، لأن التسرع يورث الهلاك، لكنها أجابتهم باعتداد وحسم، لم يتوقعوا سماعه منها، وقالت: من حقي الذهاب إلى أي مكان أريده.

قدّر الأطفال أن الغيمة تمر بظرف صعب، وودوا مساعدتها، كي تظل صديقة مؤنسة وجارة وفية، لكنهم شعروا بالخيبة أمام إصرارها على الرحيل، ونكسوا رؤوسهم حزناً، وخيم عليهم صمت أغبر، لم يخفف من ثقله اعتذارات الغيمة للحقول بأنها لن تستطيع إرواءها بانتظام، وللتلال بأنها لن تستطيع غسلها كما عوّدتها، وللأشجار والورود لأنها لن تستطيع حمايتها من حر الشمس، وللعصافير لأنها لن تستطيع معابثتها، ولم يعد لديها بعد اليوم وقت تضيعه في الرقص والدوران، أما الأطفال فقد قالت لهم: إن عليكم أن تعتمدوا على أنفسكم، لأنني لن أستطيع إفادتكم بأي شيء خلال غيابي الطويل.

أعدت الغيمة للرحلة عدتها، وأطلقت خيول عربتها المجنحة، وألقت نظرة على البحر واليابسة، وهمست للتلال بأحد أسرارها، ثم عبت ملء رئتيها من هوائها النقي، ومضت مبتعدة دون أن تثير ذرة من غبار، وانتابتها مشاعر متناقضة، امتزج فيها الحزن بالقلق والتشوّق: الحزق لفراق الأصدقاء وملاعب المرح، والقلق لخشيتها من الإخفاق والعجز عن المتابعة، فتغدو هدفاً لسخريات الجميع، والتشوق لرؤية مدن مضيئة، وتسلق جبال عالية، واكتشاف ورود نادرة.

كانت الغيمة تسعى إلى تأكيد حقيقة لم يؤكدها أحد قبلها هي أن الغيوم تستطيع أن تفعل أكثر من البكاء، وأن الوهم السائد عن الغيوم، بأنها لا تجيد شيئاً سوى ذرف الدموع والشكوى والتأود والسير المتثاقل، لا صحة لـه، فللغيمات، دور في الاكتشاف والتنقية والمساعدة والمؤانسة وكشف الزيف.

كثيرون عطّلوا رحلة المستكشفة الصغيرة، وكثيرون سخروا من أحلامها، وأسمعوها عبارات جارحة، وضحكوا من سذاجتها وجهلها مخاطر رحلات الاستكشاف، وراحوا يسجّلون قوائم طويلة بما يحتاجه المكتشف، وكادت بعض السخريات أن تثني الغيمة عن عزمها، لكن الأكثر إزعاجاً للغيمة كثرة المراهنين على إخفاقها، وتسلل خوف بارد إلى زوايا صدرها، وقد جعلها ذلك كله تعيد النظر في خطتها أكثر من مرة.

الريح الشديدة أخّرتها، ودفعتها بعيداً عن مسار الرحلة، فسألت العصافير: ماذا أفعل؟ "قالت العصافير: اصمدي، الريح تقترب من تغير اتجاهها، وسنساعدك على الصمود وفاء لما قدمته لنا من منافع.

وكلما واجهت الغيمة خطراً كانت تغوص في التساؤل: هل هذه هي الوجهة الصحيحة؟ "هل تتحقق تقديرات الساخرين؟.. كيف أواجه عيون الأطفال إذا أخفقت؟" وهل يحتمل أحد حكايات الإخفاق والهزيمة؟ لكنها كانت تغذ السير، وتوقظ عزيمتها بأغنيات ترددها، أو بإصغاء مرهف إلى أغاريد البلابل والزرازير وتهليلات أسراب القطا، وكان همها أن تؤكد لكل الساخرين والمشككين أنها حفيدة الغيمات الطموحات اللواتي مضين في رحلات بعيدة، لاكتشاف جزر جميلة ونباتات مفيدة، واكتشاف أعماق الغابات، وحمل رسائل رقيقة إلى قاطنين محتملين في الأجرام البعيدة.

تمزق رداء الغيمة وشالها، وتجرحت قدماها، وتاهت مرات كثيرة، لكنها تحملت آلامها بعناد هرّ محاصر، وبهمة سلحفاة مثابرة، وبشغف حمام زاجل ينطلق صوب هدفه.

لمحت الغيمة المستكشفة من نافذة عربتها طفلاً باكياً يجلس وحيداً فوق جسر على نهر دجلة من جهة الرصافة، فاستوقفها المشهد، ولم تشأ أن تبدأ رحلتها بلوحة حزينة، فسارعت إلى مواساة الطفل، ومسحت دمعه، وابتسمت له، لكنه لم يتعرّف عليها، فأهدته لعبة على شكل أرنب ناصع البياض، بعينين عسليتين، وقربت رأس الأرنب من كتف الطفل وهزته، فتحركت أذناه وداعبتا أذن الطفل، فأحس بدغدغة لطيفة، وحث نفسه على الابتسام، فهدأت مشاعر الغيمة ولوحت له بيدها، ثم مضت محلقة فوق النهرين الكبيرين المنحدرين من سلسلة جبلية عالية، وتذكرت الغيمة أن العرب وصلوا إلى منابعهما، وكسبوا ودّ الغيوم والجبال والأنهار والناس، لكنهم اليوم مترنحون كسالى، مضطرون لشراء كل شيء بثمن باهظ حتى المياه! ودارت الغيمة متجهة صوب الأرض السمراء وأطفالها سود الأعين.

لم تجد الغيمة صعوبة في قطع المسافات الطويلة، لكنها وجدت صعوبات في عبور نقاط التفتيش على الحدود، وطالبها المفتشون بإبراز أوراقها الثبوتية، أو تعود أدراجها إلى الجهة التي قدمت منها، فحسدت الغيمة الغجر لأنهم كانوا يعبرون مع حاجياتهم ودوابهم دون تفتيش، وصعب عليها أن يجري تجاهلها، وهي السخية المشهورة، واستطاعت أن تجد وسيلة تقنع فيها مفتشي الحدود بأن لها غاية إنسانية، وأن الجوع والعطش عدوّاها وعدوا الأطفال، وهي قادمة للمساعدة، ورسمت هلالاً أحمر فوق علم عربتها الفضية، وتمكنت من عبور حاجز التفتيش في نهاية المطاف.

رأت الغيمة على جانبي الطرق المتعرجة التي اضطرت لسلوكها أطفالاً سمر الوجوه، أيديهم قصبية، وأرجلهم مقوسة، وعيونهم جاحظة، توطن فيها الرعب والألم والاحتجاج، فمسحت شعورهم الجعدة، وقدمت لهم جرعات من الماء وعلباً من الحليب، ولم تنتظر سماع عبارات الشكر، وتركت عنوانها المؤقت لطالبي العون وهواة الرسائل منهم، ومضت باستقامة فوق الصحراء الممتدة، كان منظر الكثبان الرملية يشبه حزم حبال طويلة مرصوفة، أو ثياباً عسكرية صيفية منشورة في الشمس، وعجبت لامتزاج صفرة الرمال بحمرة قانية لم تتبين إن كانت آتية من حمرة الغسق، أو من نهر دم يتجه من أعالي الجبال صوب الصحراء الثكلى.

مالت عربة الغيمة بعد عبور المحيط الداكن صوب البلاد المضيئة، وعجبت لنظافة الشواطئ وجمال الحدائق، وصفاء الوجوه التي لوحتها الشمس بسمرة الزخارف المنمنة والأقواس البهية، والشرفات التي لم تر مثلها من قبل، فاقتربت من سطح القصر لتشهد المنظر، لكن الحراس أبعدوها قائلين: الزيارة ممنوعة هذا اليوم، عودي في الغد ومعك النقود، عندها بكت الغيمة، وسالت دموعها في وادي الدموع، الذي يحتفظ باسمه منذ غادر ساكنو القصر مرغمين هذه الديار، ولم يسمح لهم برؤيتها أبداً.

عبرت الغيمة المتعبة الحزينة قمم جبال ثلجية كأنها الحراب، وأطلت على مدن مضيئة أبنيتها شاهقة، مغمورة بالضباب، وقدرت أن هذا يساعدها على السير بحرية أكبر، ملتحفة الغيوم أو الضباب الكثيف، لكن لون الغيمة الأسمر ظل مميزاً، وسمعت من يشير إلى غرابتها أو إلى جمالها النادر، لكنها لم تجد من يدلها على الطريق، فتاهت عربتها في الطرق المتشابكة والمحطات المزدحمة، وصادفت غجراً سعداء، يقومون بألعابهم البهلوانية داخل خيمة سيرك كبيرة، ويؤدون حركات بارعة، ويلقي بعض المهرجين طرائف مسلية، وكان أطفال الغجر يؤدون الحركات نفسها ببراعة ذويهم، وراح بعضهم يطعم حيوانات السيرك أو يبيع الحلوى للمتفرجين.

لم تتعب الغيمة كثيراً، لكن الشوق هدّ قواها، فقررت أن تطفئه بكتابة رسالة إلى أصدقائها، لكنها عدلت عن الفكرة لئلا تثير أشجانهم، وفضلت أن ترسل إليهم بطاقات بريدية جميلة عليها طوابع نادرة، وتذكرت حكاية سمعها أحد الأطفال من جدته، تقول: كانت الغيمة خيمة غبراء حزينة، ساعدتها الريح، وعلمتها التجارب والمحن أن تفك قيودها وتنفض غبارها، وتتحول إلى بساط ريح. لم تؤكد الغيمة الحكاية أو تنفها، واكتفت بابتسامة رأتها أفضل من أي نفي أو تأكيد.

طافت الغيمة الباسمة فوق البحيرات والأنهار والغابات والجبال، والمدن المتربعة على الشواطئ المتعرجة، وتمنت أن يكون أصدقاؤها الأطفال بصحبتها، كي تشاركهم البهجة، وتتقاسم معهم سعادة المعرفة، وتنسى من خلال حكاياتهم ودعاباتهم متاعب الرحلة وألم الفراق، لكنها ما لبثت أن اكتشفت وسيلة جديدة ساعدتها على حفظ حكايات طريفة، من أجل أن تقصها على أصدقائها عند عودتها، فقد أعجبتها الحكايات الهندية والصينية والفارسية، مثلما أعجبتها الأبنية الشاهقة والزخارف الجميلة، وحرصت أن تجمع طرائف عن الأطفال والدمى والحيوانات، وتسجل قائمة بأسماء المكتبات الكبرى التي حوت أشهر المخطوطات العربية النادرة.

طافت الغيمة في الأسواق، وضايقها الزحام، وأوصلها إلى حافة الاختناق، وأعجبتها البضائع المعروضة والألوان الزاهية والواجهات والأضواء، والألعاب الخاصة بالأطفال، فقررت أن تملأ عربتها بالهدايا حينما تعود، وتجاهلها الناس، وسخر بعضهم منها قائلاً: غيمة في السوق، من يشتريها؟ ومن يحتاج إليها؟ وآلمتها سخرياتهم، فمضت إلى سوق الطيور، وعجبت من عددها الكبير المأسور في الأقفاص، وسمعت أناشيد حزن ومقطوعات شجية، لا يدرك ما فيها من الألم إلا من عانى مثله، وما ظنه بعض السامعين غناء وتغريداً، رأته الغيمة مراثي شرقية، وتذكرت حكاية قديمة قيل فيها إنه كان هناك سوق للنخاسة، يباع فيها رجال ونساء وأطفال، ودبت في أوصالها رجفة وخشية من إمكانية عودة تلك الأيام السوداء، وتمنت ألا تعود، لكنها تعلم أن الأماني لا تقلي بيضاً كما يقول المثل، وأن مواجهة الشر تحتاج إلى قوى خيرة موحدة.

عرض سكان مدن الضباب على الغيمة أن تبقى، فلم يعد هناك مبرر للرحيل، والريح غير مواتية، والإقامة ممكنة عندهم، فعقدوا اجتماعاً واسعاً دعوا إليه الغيمة، وتبارى متحدثون بارعون في امتداح جمالها وسرعتها ودورها في تقديم العون للناس، وللأطفال بخاصة، فأحست الغيمة بحرج شديد لأنها لم تقم إلا بجزء يسير من واجبها، وأشعرها الخطباء بالامتعاض لتلاعبهم بالألفاظ ولمبالغاتهم وصورهم واستعراضاتهم البلاغية المملة. وتوجت الكلمات باختيار الغيمة رئيسة فخرية لجمعية الغيوم الشاردة، وأُهدي إليها درع ثقيل، ودب بني يتأرجح ببالونات صفراء. فكرت الغيمة في كيفية التصرف إزاء هذا الكرم الزائف والمعاملة المحرجة، ثم وجدت مخرجاً ملائماً، وشكرت الحاضرين، ثم قالت: أما الهدايا فإني أقبلها، لأني أستطيع توزيعها على الأطفال المتفوقين الكثيرين الذين أصادفهم أينما توجهت، وأما الدرع فإني أتركه تذكاراً في جمعيتكم، وأما الرئاسة الفخرية فإني أعتذر عن قبولها لأني لا أحبذ الإقامة في مكان واحد، وأجد نفسي مشدودة لاختراق المسافات البعيدة واكتشاف الآفاق، وتقديم العون لأصدقائي الأطفال.

قصت الغيمة بعض حكاياتها التي جمعتها على أطفال صفر الوجوه ناحلي الأجسام، فأشرقت وجوههم بابتسامات عذبة، وأحبوا كثيراً حكاية "الأفعى والقنفذ"، وحكاية "الفأرة والزرافة"، وحكاية "الزهرة والفراشة والشمس"، وأعجبوا بحكمة القنفذ التي أنجته من خديعة الأفعى، كما سرهم طموح فأرة المختبر التي تريد أن تغير العالم، وتعلموا من براعة الشمس، إذ استطاعت أن تعطي الزهرة والفراشة ما تستحقانه، وأن تفهمهما أن لكل كائن في الطبيعة دوراً يقوم به، وعملاً نافعاً يميزه ويجعله جميلاً، حتى الغيمة أرادت دخول المنافسة مع الزهرة والفراشة، لكنها حين سمعت عبارات الشمس تراجعت خجلة، ومضت تكمل رحلتها.

جمعت الغيمة هداياها وحكاياتها، وأسٍرجت خيول عربتها، واتجهت صوب الأمازون، وأدهشتها الغابات الكثيفة والمياه المتدفقة، ورحبت بها الطيور والغزلان، ودعاها أطفال بصدور مكشوفة إلى اللعب، لكنها شكرتهم، واعتذرت عن المشاركة بسبب مشاغلها الكثيرة، ومضت تستطلع الوجوه والتماثيل، وتستنطق التواريخ المحفورة على الصخور وشاهدات القبور.

طالت غيبة الغيمة، ونسيت نفسها، وتغير لونها، وازداد شوقها إلى العودة، لكن شوق الأطفال والحقول والتلال كان أكثر، وهمست العصافير قائلة: اشتقنا للغيمة، ولصراحتها الجميلة وكرمها وطيبتها، وقالت الأشجار والورود وهي تنكّس رأسها حزناً: العطش والحزن ثقيلان لكن فراق الغيمة أثقل منهما، وقال الأطفال بعد انتهاء لعبتهم المفضلة "استر": طالت غيبة الغيمة، واشتقنا إلى ظلها ومطرها، وافتقدنا دعاباتها ولوحاتها المضيئة.

ولم تكن الغيمة أقل من أصدقائها شوقاً وحزناً، لكنها كانت مصرة على متابعة الرحلة حتى النهاية، إذ ليس من عادتها التراجع عن خطوة أعلنتها أمامهم، ولا تحب أن تُسأل عن مكان أو حادثة مهمة، وتجد نفسها عاجزة عن الإجابة.

تمشت الغيمة قرب صخور الشواطئ، ورأت المراكب الضخمة وحاملات الطائرات، ولمحت غواصات تغيب في الماء ثم تظهر مناقيرها الطويلة، وعجبت من حركاتها المخادعة، وداعبت النوارس ومسحت رؤوس الفقمات المستحمات في الضياء الساطع، ورأت أطفالاً سعداء يتبادلون الكرة فوق الرمل النظيف، أو يرسمون خطوطاً وأنفاقاً، وسرها أن يدعو كل منهم زميله كي يريه ما صنع، وأُعجبت بنشاط الأطفال، وحركتهم الدائبة وحيويتهم الفياضة، وإقبالهم على الحياة إقبال من يخطط كي يعيش ألف عام، وانتبهت إلى جلبة أطفال آخرين، يلعبون فوق حطام مركب قديم، ولم تعجبها صيحات النصر التي أطلقها فريق القراصنة، على الرغم من عدده الضئيل، وأسفت لرؤية فريق البحارة يبتعد عن المركب نحو الماء أو صوب الرمال، يختبئ بعيداً عن الخطر، وفي اللحظة التي اندفعت فيها الغيمة لمساندة فريق البحارة، أنهى الأطفال لعبتهم، واستلقوا ضاحكين فوق الرمال، وحزنت كثيراً لأن المساعدة تأتي غالباً متأخرة نصف خطوة.

لاحظ أطفال الأمازون أن الغيمة تغير اتجاهها، وتعدل سرعتها، وتبحر في الفضاء الأزرق الواسع، وراحوا يتبارون في تفسير ذلك، فلم يتبينوا بالضبط إن كان تغير اتجاه الريح، أم منظر المركب المحطم الذي يذكر بالنهايات غير السعيدة للرحلات الطويلة، أم انشغال الأطفال عنها باللعب، أسباباً كافية كي ترحل بعيداً، وقبل أن يلحظ الأطفال ابتعادها، وتنطلق حناجرهم بأغنية تدعوها إلى الإقامة، أو المكوث قليلاً عند الشاطئ، كانت الغيمة قد عبرت السلسلة الجبلية المحاذية لشاطئ البحر، مضت في طريق التعرف على هذا العالم العجيب وناسه وأشيائه، ومشاهدة الدلافين تمرح قافزة أو مندفعة نحو قلب الموجة، حتى إذا استشعرت خطراً يحيق بمخلوق ضعيف، أسرعت إلى نجدته، وقد رأت الغيمة بأم عينها دلفيناً يدفع طفلاً مشرفاً على الغرق نحو الشاطئ، فشكرته على فعلته.

كثرت تساؤلات الفضوليين للغيمة عن وجهة سيرها وغايتها ونوع عربتها، وهل تحمل مالاً أو أسفاراً، ودعاها بعض الناس إلى المكوث أو التوقف، فاكتفت بانحناءة خفيفة لهم على الطريقة الآسيوية، أو بتلويحة شاكرة على الطريقة العربية، وعند أحد المعابر الجبلية أُوقفت الغيمة، ووُجهت إليها تهمة تهديد الاستقرار وخرق المعاهدات، ثم أودعت قبل سماع حجتها أحد السجون الضخمة، ورأت هناك أناساً جفت عروقهم وضاعت ملامحهم، وأثقلتها الأغلال، وأنهكتها الرطوبة، فاستعانت بتعويذة سحرية ورثتها عن جدتها السحابة، وهربت من كوة صغيرة في جدار السجن دون أن يلاحظها الحراس، وتابعت رحلتها إلى الجزء الآخر من العالم، كي تبلّغ تحيات الأطفال التي تحملها إلى أقرانهم، ورغباتهم في أن يزوروهم ويتعرفوا عليهم.

وزعت الغيمة الهدايا التي حملتها في عربتها على أطفال القارات البعيدة، قائلة: هذه عربون محبة وصداقة، فشكروها قائلين: سنذكرك دائماً. وكان على الغيمة إنجاز كثير من الأعمال، لكن الحنين إلى أصدقائها استبد بها، وإن لم يثن عزمها على الوصول إلى جبال الجليد، وتجاهلت تحذيرات الناس والطيور بأنها ستتجمد هناك، ولن تستطيع العودة، وقيل لها: إن العناد يقود غالباً إلى عواقب لا تحمد.

رغبة الاكتشاف ومشاعر التحدي، ومتعة مواجهة الصعاب التي تمنح الحياة طعماً، قادت الغيمة إلى المنطقة القطبية، وهالها بساط الجليد الممتد كمرآة ضخمة، ولاحظت أطفالاً عيونهم صغيرة، يلبسون الفراء، ويحاولون بناء بيوت صغيرة من الجليد، وودت مساعدتهم، لكن يديها لم تسعفاها على تقديم أي عون، فاكتفت بإلقاء التحية عليهم، وتقديم قفازات صوفية وكتب حكايات ملونة وقطع حلوى.

حاولت الغيمة توجيه عربتها نحو طريق العودة، لكن العربة تعطلت، وصعب عليها المضي في المسار المتجمَد، فاستعانت بشوقها لأصدقائها ونشاطها المثابر، لإعادة الحياة إلى روحها المتحدية، وإلى عربتها المتمايلة، وانطلقت مبتعدة عن قارة الثلج والجليد، وأناسها المغلفين بالفراء، وأطفالها الذين يشبهون صغار الباندا.

ازداد قلق أصدقاء الغيمة لغيابها الطويل، فقال فياض: تأخرت الغيمة واشتقنا لمعابثتها، وقالت زهراء: ليتها تعود سريعاً فنسمع حكاياتها، وقال ماهر: أنوي أن أفعل مثلها حين أكبر، وقالت لمياء: لا تنتظروا عودتها، لأني أتوقّع أنها غضبت من تجاهلنا لها، وقال سعد: يعجبني طموح الغيمة، وأقدر أنها تنوي أن تعلمنا التحدّي وتحمّل الأخطار، وتعاهد الأطفال على أن ينتظروا ويروا.

وقالت الحقول والورود: إن لم تعد الغيمة هلكنا، وقالت الأشجار: حجة الغائب معه. وحافظت التلال على وقفتها المتأملة وانتظارها الذي لا يكل، وعلى صبرها الذي لا ينفد.

وفي اليوم الذي لم يتوقع أحد فيه رؤية الغيمة، أو عودتها، هبت ريح ناعمة نديّة، وأهدى البرتقال اليوسفي للشمس لونه، وزادت الطيور من تحليقاتها ومرحها، وتمايلت الأشجار وأفاقت الورود من نعاسها الطويل، وبدا أن خبراً سعيداً سيُزف قريباً إلى الجميع. صحيح أن الريح همست للتلال، وأبلغتها أن الغيمة ستصل بعد قليل، ورأت الطيور الريح تهمس، فعرفت أن أمنية جميلة ستتحقق، لكنّها لم تتبين حقيقتها، أما الأطفال فقد أصغوا لهمس الريح، بعد أن أوقفوا لعبهم، وتركوا أبصارهم ترعى التلال، وتتابع حركات الطيور وتشكيلاتِها البديعة، وتتملى ألوان الورود المستفيقة، وراحت مخيلاتهم ترسم وجه الغيمة الباسم، وعربتها المندفعة صوب ربوع الوطن.

وبينما كان الجميع في همس ومرح وأحاديث متشعّبة، وتوقّعات بعيدة عن التصور، أطلَّ موكب الغيمة محمولاً على عربات الريح، لم تكن مسرعة لكن الشوق دفع عربتها، وكأنها تحسّست شوق أصدقائها، وتابعت سيرها تخب بمشية المنتصر حتى بلغت وسط القبّة الزرقاء، واصطفت خلفها وحولها غيوم كثيرة سمراء وبيضاء، وبدت حائرة في شرح سر غيابها الطويل لأصدقائها، وتفسير أسباب تأخرها، مثلما حارت في انتقاء حكاية تبدأ بها حديثها، ولم تستطع أن تكتم مشاعرها التي اختلطت فيها البهجة بالتأثّر، وودت أن تمازح الأطفال، لكنّ دموعها طفرت دون أن تستطيع كبحها، واكتفت بنثر هداياها دون أن تسمّي أصحابها، وعرف الجميع أن الهدايا تخص كل فرد منهم، مثلما تخص الأشجار والورود والتلال والحقول والطيور والأطفال المشاكسين، وكانت الهدايا كتب حكايات مزينة بلوحات جميلة، وعلباً فضية ملفوفة بشرائط بيضاء، تحملها عربات مائلة إلى البياض، تجرها جياد بيض، ويقودها رجال بلحى بيضاء وقلنسوات فضية.

قالت الغيمة والابتسامة تضيء وجهها: العالم جميل واستكشافه أجمل، وقد وصلت إلى حدود الكوكب الأرضيّ، ورأيت مدناً مضيئة وجبالاً وأنهاراً وشلالات وسدوداً وأسلاكاً وسجوناً، ورأيت أطفالاً جياعاً وطفلات عليلات، وطفت في شوارع مزدحمة بالبضائع، وعبرت قمماً عالية، وزرت متاحف تضم كنوزاً نادرة، لكني عدت من رحلتي بحقيقة تساوي تلك الكنوز التي شاهدتها كلها، وهي أن العالم الفسيح قد استكشف، والبحار العميقة قد استكشفت، لكنّ زوايا كثيرة في أعماق الإنسان ما زالت غامضة تنتظر من يستكشفها! وقد أعادني الشوق ورغبة البحث إليكم، لأتابع رحلة الاستكشاف هنا بينكم، وعند ذلك غالبتها دموعها، وإن لم تفارقها الابتسامة!

لم ينظر أحد في عيني الغيمة الدامعتين، ولم يلحظوا إلا ابتسامتها الواسعة، لكنهم أدركوا بسهولة أنها تغيرت في رحلتها الطويلة كثيراً، وغدت أكثر شحوباً وكرماً، وأفرح الغيمة أنها وجدت أصدقاء ينتظرونها بشوق، وأدركت أهميّة إحساس الكائن أن هناك من يفكر فيه ويسأل عنه، وقطعت عهداً لأصدقائها ألا تغيب طويلاً، وأبلغت أصدقاءها المحتشدين أنها تعلمت من رحلتها أن تكون أكثر حرصاً على مواعيدها، وأكثر اهتماماً بأصدقائها.

فرح الأطفال بوعد الغيمة، وشكروها على هداياها الجميلة، وأهدوها طفل ثلج بعينين زجاجيتين، وأنف أحمر وقلنسوة بنية، وجعلوا في يده غصناً أخضر، وكانت يده الأخرى تلوّح محيّية الغيمة والتلال والريح، وعربات الغيوم السريعة، وكأنّه يودّ أن يصافحها، أو يتوقع أن تحمله إحداها بعيداً كي يطوف العالم، ويتعلّم ويستكشف ويعرف مثل الغيمة الشجاعة.

7/4/2000

 

 

الطائر الأبلق

 

 

شاهد أبو بليق- الطائر الرمادي المزهو بشرائطه البيضاء- العصافير تقفز سعيدة بين الأغصان، أو تدور وتتجمع، وتقف على الأسلاك، وتغرد بأصوات متناغمة عذبة، لكنه أحس أن غناءها الجماعي ممل وتقليدي، فاقترب منها، واستعرض أمامها جمال الخطين الأبيضين على جناحيه الرماديين، والدائرة البيضاء خلف منقاره اللامع، ثم قال للعصافير:

لدي أغنية جميلة لم تسمعوا مثلها من قبل.

أحبت العصافير أن تستمع إلى أغنية جديدة- وكل جديد محبب كما هو معروف- فتجمعت حوله ورجته أن يغني. ويسمعها صوته الجميل، فقال أبو بليق: الريح شديدة هذا اليوم. وهي تعيق قدرتي على الإنشاد.

وفي اليوم التالي استيقظت العصافير باكراً، كي تستمتع بمنظر الشروق الجميل، ولأنها تحب رؤية الزهور الجديدة المتفتحة، والاغتسال بماء الجدول. كما أنها متشوقة لسماع الأغنية الجديدة، لكن العصفور الأبلق اعتذر من جديد عن الإنشاد، لأن الحر شديد، وهو لا يستطيع الإنشاد في مثل هذا الطقس الحار، فقالت العصافير: يمكننا أن ننتظر يوماً آخر.

ظل الأبلق يؤكد أنه يجيد الغناء أفضل من الطيور جميعها، لكنه كان في كل مرة يجد سبباً يعيقه عن الغناء، وإن كان هذا السبب لا يقنع أحداً سواه، وانتظرت العصافير حتى قدوم الشتاء، ورجت الأبلق من جديد أن يسمعها أغنيته الفريدة وتغريده الجميل، كي تدفأ وتنسى الخطر والجوع. لكن الأبلق وجد في المطر والغيوم والبرد والثلج والبرق والرعد والريح أسباباً إضافية تعيقه عن الإنشاد.

أما العصافير فقد تابعت التغريد والتحليق والدوران، واكتشفت أن الأبلق المزهو بشرائطه البيضاء ورأسه المتوج لا يجيد شيئاً سوى النطنطة، وتحريك ذيله الطويل إلى الأعلى والأسفل، وأيقنت بعد انتظارها الطويل ومجاورتها الطويلة للأبلق، أنه لا يجوز انتظار الغناء الجميل أو الحكايات الممتعة من الثرثارين والمغرورين. ومضت ترسم في الفضاء لوحاتها الراقصة، وتتنعم بأصداء أغنياتها الجماعية والفردية البديعة، وتركت للأبلق ذي الشرائط البراقة فرصة البحث عن طيور أخرى تصدق مزاعمه.

 

 

السلحفاة والضب

 

 

وقف الضب فوق سياج الكرم الحجري،وهز رأسه كعادته، وتظاهر بالبهجة، وقال: أنا غني جداً، أغنى أغنياء هذه الناحية.

سمعته السلحفاة الباحثة عن طعامها، فتوقفت وسألته: إن كنت غنياً فأين ثروتك، وكيف جمعتها؟.. فقال الضب متابعاً هز رأسه: في مكان ما، وقد جمعتها بالكد والحيلة، وهز ضب آخر على السياج رأسه، وقال: صحيح وثروته في مكان ما…

قالت السلحفاة: إن كانت ثروتك كبيرة كما تدعي، فلماذا لا توزع قسماً منها على المحتاجين. قال الضب المتباهي، "في وقت لاحق"، وهز زميله الآخر رأسه وكرر العبارة نفسها..

ابتسمت السلحفاة  ساخرة من هذين الضبين الأحمقين، وأرادت أن تتابع سيرها، لكنها سألت الضب الأول قائلة: لم أرك تقوم بأي عمل، فكيف استطعت أن تجمع ثروة كبيرة؟.. فرد الضب محتجاً: أنا أعمل كثيراً، أليس هز الرأس عملاً؟.. والوقوف في الشمس  والقفز فوق سياج الكروم أليس عملاً؟…

قالت السلحفاة: لو كان هز الرأس والقفز فوق حيطان الكروم يكسب ثروة لما بقي محتاج واحد في هذا الكون، ثم أضافت: أنا جارتك منذ  زمن، ولم يظهر لي أنك صاحب ثروة..

قال الضب: انظري إلى تلك الجبال العالية، أترينها؟ إنها لي، وسأبيعها وأغدو غنياً جداً، وإن كنت تملكين منزلاً كبيراً أيتها السلحفاة فسأعينك على بيعه، وتصبحين غنية مثلي…

قالت السلحفاة:  ليس الغني من يبيع أرضه وبيته، ولن يكون غنياً في أي يوم. قال الضب: لا تضيعي هذه الفرصة فلن تتكرر كثيراً…

قالت السلحفاة: من أين أتتك هذه البراعة في التجارة؟.. فمنذ عرفتك لم أرك إلا مكتفياً بقشور الثمار اليابسة…

غضب الضب وقال: أنت لا تقدرين براعتي يا سلحفاة، وأضاف: ربما كانت إقامتك الطويلة في جحرك، أو داخل درعك، لا تسعفك على تمييز ما يجري حولك…

رأت السلحفاة أخيراً أنها تضيع وقتها، وأن تبجح الضب وأقواله المؤيدة من ضب مثله لن تنتهي، فتابعت رحلتها للبحث عن طعامها، لكن الضب ناداها قائلاً: فكري جيداً بما قلته لك، وأجيبي بسرعة.

قالت السلحفاة: امضِ أنت وأحلامك، وصفقاتك وفرصك، أما أنا فسأمضي إلى عملي، لأنه الحقيقة الوحيدة التي أعرفها..

قال الضب: ستظلين جائعة وحمقاء، لا يكترث بك أحد…

فأجابت السلحفاة ساخرة: أخشى أن يؤدي بك هز رأسك وادعاؤك إلى انهيار الجدار تحتك، وإني أفضل أن أبقى داخل جحري،  على أن أسمع خطاباتك ومشروعاتك الفارغة..

استمر الضب في هز رأسه، وحاول أن يقفز فوق السياج الحجري، فسقط حجر منه، واختل توازنه فوقع على الأرض، وشعر بدوار شديد، لكنه تماسك، وتذكر عبارات السلحفاة الصائبة، فنادى بصوت مستنجد: أين أنت أيتها السلحفاة‍.. توقفي، ساعديني، يا جارتي الحكيمة، أشيري علي وأوجدي لي عملاً نافعاً…

لكن الضب الآخر هز رأسه، وقال: ما أغرب الدنيا‍! غني، ويطلب المساعدة والمشورة من سلحفاة ضعيفة، أعتقد أنه أحمق وليس غنياً، ويحتمل أن تكون عادات هز الرأس والتبجح والقفز فوق حيطان الكروم قد أخذها عن ضب كسول آخر..

سمعت السلحفاة عبارات الضبين، وأرادت أن تهز رأسها، لكنها لم تفعل واكتفت بالابتسام. وتساءلت ماذا يحل بالكون إذا استمر عدد الحمقى في التزايد؟.. ثم مضت إلى عملها دون أن تلتفت…

آذار 2000

 

 

دهاء النعامة

 

 

تعاهدت النعامة والحمار الوحشي على أن يكونا صديقين متعاضدين، يدل كل منهما الآخر على الطرق المأمونة والمراتع المعشبة، ويتبادلان الحراسة ليتقيا هجمات ملك الغابة المفاجئة ونظراته النارية وعدوانيته وافتراسه..

كان أبو لبد دائم الزئير، في حالات جوعه وشبعه، أو غضبه ورضاه، مثل بعض الناس الذين تستمر شكواهم في أحوال الغنى والبؤس، أو الصحة والمرض، أو القوة والعجز…

وقد حرصت النعامة على حراسة الحمار الوحشي، مثلما حرص الحمار الوحشي على أن يظل متيقظاً لحماية النعامة حتى اتسعت عيناه، وبات قادراً على رؤية أبي لبد من مسافة بعيدة، وكان حرصهما مماثلاً لحرص ملك الغابة على تذوق لحم أحدهما أو كليهما بعد أن مل لحم الغزلان والأرانب والثعالب والثيران.

أخفق ملك الغابة  في اقتناص أحد الصديقين، لسرعتهما في توقع قدومه، وخفتهما في الجري، وكانت ملاحقاته عديمة الجدوى، تنتهي بنوبات من اللهاث والزئير، فيضطر إلى إطفاء جوعه بأرنب صغير، وإطفاء عطشه، بشرب ليترات كثيرة من ماء البركة، ويستذكر قصصاً قديمة تحكي عن جبن الحمار الوحشي وخوف النعامة، التي لا تكتفي برسم خطوط في الرمال، بل تدفن فيها  رأسها.

تساءل أبو لبد يوماً: كيف أكون ملك الغابة، ولا أستطيع اقتناص نعامة أو حمار وحشي؟ هذا أمر غير مفهوم، وغير منطقي، وهو يضر بهيبتي، ويذهب بسمعتي، ويجعل سائر حيوانات الغابة تسخر مني، وتتناسى حضوري، فلأعمد إلى حيلة تمكنني من أسرع حيوانين في الغابة، وعندها تتيقن   سائر الحيوانات من سطوتي، وتعرف أنه لا نجاة لأي حيوان من براثني…

تظاهر أبو لبد بالمرض، وأذاع إعلاناً للحيوانات، يدعو كلاً منها إلى عيادة ملك الغابة. واختيار حكاية تنسيه أوجاعه، فإن أعجبته أطلقه وإن لم تعجبه افترسه، وهدد الإعلان كل حيوان يمتنع عن تنفيذ طلب ملك الغابة بالويل والثبور، وأن الغابة على سعتها لن تحميه من عقاب الملك.

مضت الحيوانات زرافات ووحداناً  إلى عيادة ملك الغابة، وكان بعضها يعود ليخبر الآخرين عن طيبة أبي لبد، وحبه لسماع القصص الطريفة، وكان معظمها لا يرجع من زيارته، فيقدر زملاؤه أنه لم يحسن اختيار حكاية مشوقة وأنه وقع بسبب تقصيره. وظل الحمار الوحشي والنعامة  بعيدين عن الوقوع في مصيدة أبي لبد، وهو ينتظر قدوم أحدهما بصبر فارغ..

وإذا كانت الحيلة لا تداوى إلا بالدهاء، فقد قرر الصديقان المتعاضدان أن يسخرا من ملك الغابة المتمارض، فنسجت النعامة الحكاية، وطلبت من الحمار الوحشي أن يقصها على أبي لبد، ولأنها لن تعجبه كما هو متوقع فليقل أن النعامة روتها ـله، وهي مستعدة لتحمل مسؤوليتها والمجيء إلى عرين الملك..

تردد الحمار الوحشي قليلاً، فقد تسحقه البراثن قبل أن يقص حكايته أو بعدها، لكنه تشجع أمام نظرة النعامة الواثقة، ودخل على ملك الغابة فحياه، ثم قال:

ـ "كانت هناك غابة واسعة، لها ملك عادل اسمه أبو لبد، تحبه الحيوانات وتتمتع بحمايته، وذات صباح أبلغ أحدها الملك أنه سمع زميله يردد شائعة  تقول بوجود ملك آخر للغابة أكثر عدلاً في شطرها الشمالي، وإن الحيوانات جميعها ستتجه إلى هناك وتتركه وحيداً، فغضب ملك الغابة وزأر بشدة ومضى إلى الشطر الآخر من الغابة فلم يجد أحداً، لكنه امتلأ غيظاً، ومن يومها وهو يفترس كل حيوان يصادفه"…

تظاهر أبو لبد بالتفكير العميق، ثم أعلن أن الحكاية تقليدية لا نكهة فيها ولا تجديد، وعقوبة صاحبها معروفة، وتهيأ للانقضاض. فأسرع الحمار الوحشي إلى القول: يا مولاي لست ناسج هذه الحكاية، لكنها النعامة صديقتي التي تملأ أذني دائماً بهذه الحكايات السخيفة، وقد أبلغتني أنها مستعدة للمثول أمام الملك، إذا لم تعجبه حكايتها…

فرح ملك الغابة في سره، إذ يستطيع أن يظفر بالمتمردين معاً، وتظاهر بالامتعاض لكنه سمح بأن تمثل النعامة أمامه بصحبة الحمار الوحشي دون تأخير..

مضى الحمار الوحشي فرحاً بنجاته، وأبلغ النعامة ففرحت، وتابعت نوبة الحراسة بيقظة أكثر، وانتظر أبو لبد عودتهما طويلاً، ثم استبد به الغضب، واندفع بكل قوته يصدم الحجارة وجذوع الأشجار، ويلعن القصص وناسجيها ورواتها وينذرهم بعقاب شديد، وما زال إلى يومنا يتابع الزئير المخيف المدوي، ويرسل نظرات زائغة إلى المساحات المعشبة في الغابة بحثاً عن ريشة نعام أو جلد مخطط….

4/2000.  

 

 

السلحفاة والنمر

 

 

وقفت السلحفاة ذات الدرع العسلي بجانب الطريق الأسفلتي الضيق، وانتظرت أن يتوقف سيل السيارات المسرعة، حتى تتمكن من عبور الطريق لزيارة صديقتها الأرنب في الجانب الآخر…  وتستشيرها في بعض شؤونها، وكانت السيارات تنفث دخاناً كريه الرائحة، أو تطلق أصوات أبواقها الحادة، فاضطرت السلحفاة إلى احتمال ذلك كله، لكن سيل السيارات لم ينقطع، وتساءلت السلحفاة باستغراب: "من أين تأتي هذه السيارات كلها كأنها النهر؟…

تقدمت السلحفاة  بضع خطوات على الأسفلت فجاءت سيارة مسرعة، وقذفتها إلى جانب الطريق، ثم انتظرت قليلاً، وأعادت المحاولة ثانية. وعند بلوغها وسط الطريق، كان بغل مسرع قادماً من الجهة المقابلة، فقذفها بحافره، وأعادها إلى النقطة التي انطلقت منها.

تساءلت السلحفاة بائسة: ماذا أفعل الآن؟ هل أعود إلى بيتي أم أكرر المحاولة مرة أخرى؟… وظلت أصوات المحركات والأبواق تخيفها وتبقيها في مكانها…

وهمت بتكرار المحاولة، وعبور الطريق حين تقدم نمر عسلي العينين، فلاحظ ارتباكها، وقال لها: مالك أيتها الجارة السلحفاة؟ أراك مرتبكة حزينة؟ قالت السلحفاة: أريد عبور الطريق، لكن السيارات والبغال لا تمكنني من ذلك، فقال النمر: تقدمي إلى جانبي كي نقطع الطريق معاً..

تقدمت السلحفاة إلى جانب النمر مطمئنة إلى تشجيعه وحمايته، لكن سيارة مسرعة تقدمت من جهة الطريق اليمنى، فاستدار النمر ووقف في منتصف الطريق، ونظر بعينين ناريتين إلى جهة السيارة، فاضطر سائقها إلى التمهل والتوقف والانتظار حتى يعبر النمر والسلحفاة الطريق، وقبل أن يتابعا سيرهما، قدمت سيارة من الجهة اليسرى، فخافت السلحفاة وقالت: ما العمل الآن أيها النمر؟ قال النمر: لا تخشي شيئاً، إنها تقف عندما تراني…

توقفت السيارة الثانية عند رؤيتها النمر المرقط يعبر ببطء ويحمي السلحفاة الخائفة، ولم تتقدم السيارتان حتى وصل النمر والسلحفاة إلى الجهة الأخرى من الطريق.

شكرت السلحفاة النمر على صنيعه، ووعدت أن ترد لـه جميله في أقرب فرصه، ورد النمر قائلاً: لم أقم بأكثر من واجبي، وأنا مستعد لتقديم العون لك عند الحاجة، وما عليك إلا أن تنتظري مروري حين تريدين عبور الطريق، أو حاولي حفر نفق تحت الأسفلت..

قالت السلحفاة: أشكرك ثانية أيها النمر الطيب، واقدر أنه ليس من الحكمة الاتكال على الآخرين في كل شأن، وأضافت: فكرة النفق جيدة… سأطمئن على جارتي الأرنب أولاً، وأعرض عليها الفكرة، وبعدها أبدأ بحفر النفق.

زارت السلحفاة الأرنب، ففرحت بها كثيراً، وشعرت أنها ليست وحيدة في هذا البر الفسيح، وعرضت السلحفاة ما جرى لها عند عبور الطريق، والفكرة التي اقترحها النمر، فقالت الأرنب: النفق فكرة صائبة، وأنا مستعدة لتقديم العون في تنفيذه.

بدأت السلحفاة والأرنب في اليوم التالي حفر النفق بهمة وتصميم ورآهما النمر المرقط، فابتسم لأن فكرته وجدت من يصغي إليها، وعبر الطريق بقفزتين خاطفتين دون أن يأبه بالسيارات المسرعة!..

 

 

الببغاء الرمادي الساخر

 

 

كان أحمد صديقاً للطيور، محباً لها إلى درجة جعلته قادراً على تمييز أصواتها وأنواعها دون رؤيتها أحياناً، وقد اشترى له أبوه مجموعة نادرة منها مكافأة له على تفوقه الدائم، وهكذا غدا لديه بلبل وحسون وكناري وعاشق ومعشوق…

نجح أحمد إلى الصف الأول الإعدادي بتفوق كعادته، وأراد أبوه أن يقدم له هدية، وترك له حرية اختيارها، ومضيا معاً إلى محل بيع الطيور، وشاهدا أقفاصاً كثيرة منها طيور نادرة وسمعا تغريدها الجميل، لكن أحمد مال إلى قفص فيه ببغاوان: أحدهما أخضر سمين، يطلق صيحات مهللة، ويرحب مثل صاحب المحل بكل زبون،  ويقلد هذا ويمازح ذاك، ثم يلتفت كي يتأكد من جمال حركاته وتقليده، وصاحب المحل يثني على موهبته، ويهديه مزيداً من بذورعباد الشمس…

والببغاء الثاني رمادي أقرب إلى السواد، بأرجل منقطة ونظرة  متحفزة، وصمت  لم يكتشف صاحب المحل سببه..

راقب  الصبي الببغاء الرمادي الصغير الصامت داخل القفص، وتجاهل شروح البائع، ونظر بعينين حانيتين إلى الببغاء السجين، الذي قابلهما ببعض الاهتمام..

كان الأب يميل إلى شراء الببغاء الأخضر، لكنه لاحظ اهتمام أحمد بالببغاء الرمادي، فسأل البائع عن الحركات التي يجيدها، دون أي تصور لاقتناء طائر نحيف مكتئب مثله..

قال البائع: إنه ببغاء محير، لا ينفذ أي أمر يطلب منه، وهو دائم السخرية من بعض المارة. وقادر على اكتشاف اللصوص بمجرد رؤيتهم عن كثب، وحين يقترب واحد منهم أو أكثر نحوه يصيح: أمسكوا اللص، لص، لصان، ثلاثة …مغارة علي بابا.. وقد حاول بعض اللصوص سرقته، لكنه اكتشفهم وأنقذ المحل، ولم يعد اللصوص يمرون من هنا، وقد خسرنا بسببه عدداً من الزبائن…

وأضاف البائع: إنه يسخر حين يرى مشهداً عجيباً، أو مفارقة محزنة، وقد يشتم أحياناً، ويضعنا في مواقف حرجة..

تجاهل الأب شروح البائع منذ نطق جملته الأولى عن الببغاء الرمادي الساخر، وانصرف اهتمامه إلى تخيل ثمن الببغاء الأخضر السمين، وجمال وقفته عند الشرفة، أو في غرفة الجلوس، لكن أحمد، قال بحزم:  يعجبني هذا الببغاء الساخر، ولن أشتري سواه..

اضطر الأب إلى شراء الببغاء وقفصه، وأَلِفَ الببغاء الرمادي أهل أحمد، وبات يخرج من القفص، ويطير إلى الحديقة، ويراقب المارة، وينقل مفارقاتهم المضحكة إلى صديقه، الذي يرويها بدوره لأفراد الأسرة، فيغرقون في الضحك..

كان الطائر الرمادي يصيح أحياناً، "قذر" لمن يرمي القمامة في الطريق، و"غبي" لمن يلعب وسط الشارع، و"متطاول" لمن يقطف ورود الحديقة  و"بليد" لمن لا يقدم المساعدة للآخرين، و"مهمل" لمن يتأخر عن المدرسة و"منافق"، لمن يكثر المديح، وكان يردد مفردات كثيرة لا يعرف أحد كيف حفظها مثل: حديث فارغ، مراوغة، خنوع، غش، فساد، جبن….

وكان الصبي يسمع الكلمات ويبتسم، ويشجع الببغاء ويتعلم منه..

حاصرت النظرات الببغاء الرمادي، وأطلقت التحذيرات نحو الصبي وأهله قائلة: أسكتوا هذا الثرثار المخرف، لكن الببغاء ظل يتمتع بتشجيع أحمد وحمايته.

وصباح جمعة شتائي، تأخر الصبي في النوم، وحين استيقظ لم يسمع صوت الببغاء ودُعاباته، ولاحظ حزناً في العيون، ووجه نظرة متسائلة إلى أبيه، الذي قال: لقد رحل الببغاء…

وقبل أن يطلق أحمد احتجاجه الحزين، سارع الأب إلى القول: لا تحزن، فلا مانع عندي من شراء الببغاء الأخضر، فهو يحسن التقليد، ويبهج، ولا يؤذي مشاعر أحد.

قال الصبي: تريدني ببساطة أن أنسى صديقي، الذي ملأ البيت حبوراً، وكشف الحقائق المخبأة خلف الأقنعة، لقد كبرت، وتعلمت كثيراً، من صراحة صديقي الببغاء الرمادي الساخر المتمرد، ولم أعد بعد اليوم بحاجة إلى أي ببغاء!..

آب / 2000. (للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)

 

 

شال لدالية

 

 

لم يكن يدري إن كان حياً أو غير حي، لكنه كان يحتج كلما سمع من زملائه عبارة "نحن الموتى نرجو..."، ويحدق في المتحدث بنظرة عاتبة تجعله يصحح العبارة قائلاً: "نحن الشهداء نرى..."، وكل ما يعرفه أحمد بن حسين المقدسي أنه قادر على الحركة والقص والرؤية، وكان يباهي بحلقته الخاصة من شبان أكفانهم بلون الطحين ظهرت منها سواعد معروقة بلون القهوة المحمصة.‏

"لم يغادر الشهداء عاداتهم" قال المقدسي، فهم يجلسون في حلقة كبيرة وأحياناً في دوائر متجاورة، وكان يضيف هامساً لدالية: "يا لهؤلاء الشهداء، إنهم يخرجون على النظام الصارم الذي وضع للقبور المرصوصة في صفوف طويلة كأنها قوافل اللاجئين، وهم لا يطيقون الأوامر، ولا يحبون أن يكونوا قطيعاً يجمد بسوط ويتحرك بأمر.‏

حين رأته دالية في جادة الأقصى أسرتها نظرة عينيه، وقامته الفارعة وجبهته العالية، وظلت تقص لأمها أخباره: "أحمد المقدسي مزيج من الحكايات والترحيلات المفاجئة وسوء الحظ والأخطاء التي لا يعترف بها أحد. قادته إلى مخيم اليرموك. فعمل ماسح أحذية وخبازاً وعامل مقهى وموزع صحف، قبل أن يجرفه طوفان المعاناة وأخبار المجازر إلى جادة الأقصى. وهناك تعرف على الرفاق، ورأى وجه دالية الذي لازمه من يومها... كانوا مثله، كأنه ضحايا طوفان عارم، تركهم عراة ملطخين بوحول قذرة... لم يكن فيهم أي بريق، سوى عيون تحلق بعيداً، وكان شاباً تجلله سمرة خفيفة وابتسامة آسرة. "لم يكن متعجلاً لإطلاق وعود واتخاذ قرارات مصيرية. لكنه وعدني بأن يجلب لي شالاً من القدس، وقبضة بخور لوالده الشهيد ولزملائه" قالت دالية لأمها، فحدست الأم بخبرة أنثى محاصرة أن مصير ابنتها غدا على كف عفريت!‏

كانت مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك هادئة في النهار، تحلق فوقها طيور متعبة، وتتوقف قليلاً في الظل قبل أن تتابع طيرانها، أما في الليل فتنطلق الأرواح متهادية، وتتبارى في معرفة الأحجيات وتذكر أشعار القدماء وتبادل آخر الطرائف السياسية، وسماع حكايات بنهايات فاجعة:‏

أحمد بن حسين المقدسي غطى انسحاب زملائه بعد عملية ناجحة، وأصيب وترك في العراء، وعاد زملاؤه لسحبه بعد يومين في عملية ثانية، ثم أودع حفرة في نهاية صف القبور الطويل الرابع إلى اليسار، وبعد خطبة حماسية طويلة أثارت ملل المشيعين وامتعاضه، وضاعفت الحزن بدلاً من أن تراكم الغضب، قال: الصمت أبلغ فمتى نتعلمه؟‏

ولأنه لا ترد للشهيد طلبة، كان هم أحمد أن يزور الأقصى ليصلي ركعتين ويكتب جملتين ويجلب هديتين ويعود إلى زملائه، كان يستطيع أن يبقى هناك، ولكن الرفات من يعيده؟‏

تحلق حولـه الشهداء، وأحاطوه بنظراتهم المشجعة، ففي عالم الشهداء لا وجود للحسد أو الضغينة، وجاءته دعاباتهم مثل حصى صغيرة تحصب بمودة، قالوا له: سيعجبك الجو هناك وتبقى، فالمقدسيات مثل بنات الاسكندرية يخطفن عقول الشبان بنظرة، وكان يبتسم ويؤكد أنه سيعود ومعه الهدايا.‏

شد أكفانه البيضاء بحزام أسود، ومضى متجاهلاً حشود المصطفين على باب السفارة الأمريكية، وودعه سرب من الحمام الأبيض إلى الحدود الدولية، واستقبلته بعد عبور الحدود قبرتان هائمتان.‏

طافت بذهن المقدسي أسئلة كثيرة: هذه الجبال العالية والشجر المعمر والسهول الطافحة بالخضرة. وهذا الهواء المعطر والجداول الرقراقة ما سر بهجتها؟ هل تحتفي بي؟ وتذكر دالية ووجهها القمري. إنها مزيج من برتقال يافا وعنب السلط وتمر البصرة ومشمش الشام وفستق حلب، كأنها حملت طبيعة فلسطين معها إلى المخيم، وتساءل هل ترحل الأماكن معنا؟ هل نحملها معنا مثلما تحملنا؟ ودهمته ابتسامة.‏

مضى المقدسي عبر الجسر، ثم عبر من باب الشام، وأحس الحراس بثقل الهواء فتلفتوا كثيراً، وحين لم يلحظوا أي شيء أطلقوا زفرات متلاحقة. ثم دخل المسجد فصلى ركعتين، وطاف بأبوابه، وتملى جمال القبة وتناسقها، وصعد إلى المنبر وكتب عبارتين كما وعد:‏

"القدس في خطر، وإذا لم يستطع الأحياء حمايتها فسيحميها الشهداء" ثم نزل وأعاد قراءة ما كتب ليتأكد من وضوحه، ثم خرج إلى سوق حي الطالبية فاشترى هديتين، ولا داعي لتفسير كيفية حصوله عليهما وهو لا يملك نقوداً، فالمقدسيون يقدمون الهدايا مقابل الحكايات النادرة وقد قص عليهم حكاياته، فوجدوها أغرب من حكايات السندباد.‏

عاد أحمد المقدسي كما وعد، وحمل بخوراً للشهداء وشالاً لدالية وصورة للأقصى، وتحلق حولـه أهل الأضرحة وغمروه بالقبلات والأسئلة، أليس حاجاً؟ وأصغوا إلى أجوبته المقتضبة‏

والطويلة، كانوا يريدون معرفة كل تفصيل، وصورة كل حجر، وسألوه: هل تغير السور، والأبواب والساحة؟ وما حكاية النفق، هل أغلق؟ وهل يستمر الحفر تحت المسجد؟ وسعدوا كثيراً حين قص عليهم حكاية السطر المكتوب، فقال: اكتشفه الحرس الصهيوني قبل أن يكتشفه المقدسيون، فجن جنونه، وحاول الجنود طمسه فلم يفلحوا، وتبادلوا اللوم، إذ كيف يعبر إرهابي ويكتب سطراً استفزازياً يمكنه أن يشعل انتفاضة دون أن يلحظه أحد؟ ولاحظ المقدسيون ارتباك الجنود وقرؤوا العبارتين، فقال بعضهم: إنه أحمد المقدسي، وهو يطلع من تحت الأرض، "قال مات قال"، من كان مثله لا يموت، أبوه حسين صاحب كرامات مثله، صلبه الهاجاناه ورقصوا حوله، وقالوا: "إن كنت مقدسياً حقاً فخلص نفسك" لكنه لم يصغ إلى حماقاتهم، ورغم آلامه التي لا تطاق مضى يملأ عينيه من مشهد الغروب عند جبل الجرمق، ويقول: ربي اغفر لي ولأهلي لأننا لم نتعلم كيف ندافع عن بيتك، واغفر لهؤلاء الحمقى لأنهم لم يراعوا حرمتك؟ وحين مال رأسه إلى صدره كانوا قد شعروا بالملل فناموا، وحين استيقظوا فجراً لم يجدوا الجثة ولا الأخشاب، فتساءل أحد الجنود: هل كان حلماً؟ ورد آخر: حين تتزايد الأوهام تصبح الحياة بلا نكهة، وعلق ثالث: عسى أن يكون وهماً، فحقيقة أمس تنغصُ عيش عشرين جيلاً.‏

لم يتركه جيرانه حتى الفجر، إذ ليس للشهداء ما يشغلهم إلا التشاور فيما يمكن عمله لمساعدة الأحياء، وقبل شروق شمس أيلول بقليل داهمه نعاس ناعم فنام، ولم يستيقظ إلا على رعشة شعر بمثلها حين لامست جبهته أرض المسجد الأقصى. وكان يشعر بها كلما لامست جبهة دالية حجارة الضريح، دالية التي لم تتغير، ولم تغير مواعيدها، ولا يدري إن كان النحل قد استمدّ لون عسله من لون عينيها. كانت تزور ضريحه كل شهر فتضع آساً جديداً، وحين تلمس جبهتها حجارة القبر كان فرح يتسلل إلى قلبه، فقد كانت رقتها كافية لتخترق حجارة القبر وتشعل كيانه كله.‏

فوجئ الشهداء بقرار المجلس البلدي الجديد- المنتخب بأسلوب ديمقراطي- تخصيص مبلغ مليوني دولار من أموال وكالة الغوث من أجل إقامة سور مرتفع للمقبرة "للتخفيف من الفوضى السائدة فيها نهاراً وليلاً، وتنظيم الدخول والخروج بأوقات معلومة، فهذه مقبرة وليست حديقة للنزهات، وعلى البشر احترام سكينة الموتى". قرار المجلس، وعلق أحمد: تصوروا يعتبروننا موتى، ونظر إلى زملائه الذين ضحكوا طويلاً، وغمز بعضهم ساخراً "وغاية المجلس تأمين سلامة القبور ونظافة المقبرة من عبث العابثين وفساد المفسدين". ورسا العقد على شقيق رئيس المجلس الذي بدأ مقاولاته حديثاً، ويتوقع له أن يغدو مستثمراً كبيراً خلال وقت قصير.‏

لم ينم أحد من الشهداء ليلة أكمل السور، كانوا في حالة من الغضب والإحساس بالاختناق، لم ينتظموا في حلقة، ولم يفسحوا في المجال لقص الحكايات، ولم يتبادلوا النكات- على غير عادتهم- وكل ما فعلوه أنهم شدوا أكفانهم وأحزمتهم السوداء ومضوا تغسلهم قطرات مطر ناعم.‏

رأت دالية أسراباً من الحمام الأبيض المذعور تتجه غرباً، فتعلقت عيناها بجناحين متمايلين، ربما كانت تحية وداع لها، بكت طويلاً وأحست أن قلبها ينخلع من مكانه، وحاصرتها فجيعة لا يقوى النسيان على كبحها، ولم تعد تجد ما يشدها إلى زيارة المقبرة، وغدا المكان أشبه بسجن.‏

قالوا إنها شغلت نفسها بنسج شال يشبه الشال المقدسي وقالوا إنها ظلت تتأمل الشال الذي وجدته فوق القبر في إحدى زياراتها يحمل رائحة سوق حي الطالبية وعطر الأقصى، وكثرت الأقاويل حتى وصلت إلى الشهداء، فابتسموا وقالوا: إنها حية مثلنا، لأن هناك كثيرين مثلنا بين الأحياء.‏

وعندما جرى تحويل الجنازات إلى المقبرة المركزية، ولما نسي الأحياء اكتراثهم، وفقدوا القدرة على التذكر، تحول المكان تدريجياً ودون أي قرار موجب إلى حظيرة للماشية المهربة إلى الخارج.‏

 

 

كعب آخيل

 

 

 

تعود غالب الفارس أ ن يقضي معظم وقته في المنزل، غارساً رأسه في السجادة الإيرانية، قاذفاً رجليه إلى أعلى بمحاذاة الحائط، فقد مل جلسة المقهى، وسماع أخبار الانتصارات الإعلامية أو الهزائم الميدانية، وقصص الخيانات المحبوكة بطرائق مبتذلة، كما أنف صحبة رجال لم يعودوا يتقنون سوى الشماتة.‏

لم تكترث زوجته أول الأمر بالتغير الحاصل، وظنت أن وضعيته عند الحائط لا تعدو أن تكون ميلاً إلى التغيير أو رياضة مسلية، أو حركة إضافية من طقوس اليوغا، لكن صمتها خانها أخيراً، فسألت زوجها مستاءة: ما فائدة وقوفك هكذا طول الوقت؟ ومتى استساغ الناس رؤية المشاهد المقلوبة.‏

دارى غالب جهل الزوجة، واكتفى بإظهار ابتسامة مشفقة، لكن الزوجة تابعت رحلة الألف ألف سؤال، وقصفته بالمجموعة الأولى منها قائلة: ماذا ننتفع من وقوفك هكذا؟ ولم لا تكترث بمشاعري؟ وهل تبدو لك الأشياء أوضح وأنت على هذا النحو؟ ومن نصحك بأن تنقلب وتقلب حياتنا رأساً على عقب؟‏

أيقظه السؤال الأخير من عدم مبالاته، ونبهه إلى مسألة جديدة، فقد اعتقد أن الأمور مقلوبة في الخارج فحسب، أما أن تكون قد انقلبت هنا في البيت فهذا لم يخطر على باله قط، وقال:‏

إعلانك أن الأمور مقلوبة جيد، وأنا أقف هكذا كي أستطيع رؤية الأشياء على حقيقتها.‏

أضافت الزوجة باستغراب: كيف تستطيع الرؤية وأنا كلما نظرت إليك أحس أني أوشك أن أقع؟ فأجاب موضحاً: إنها موهبة كعب قدمي اليسرى، إنه لاقط ممتاز ونقطة ارتكاز، وهو أضعف جزء من الجسد وأقواه في الوقت نفسه، ألم تسمعي بكعب آخيل؟‏

همست الزوجة بعبارات امتزج فيها السخر بفروغ الصبر، قالت: "ياللقوي الضعيف! من هو آخيل هذا أيضاً؟ ومالنا ولكعبه أو لون عينيه؟‏

لم يجب غالب، وأغمض عينيه محاولاً النفاذ إلى الأعماق القصية، وكان كمن يستكشف الزوايا المعتمة.‏

تساءلت الزوجة في سرها: لابد أن أمراً جرى لعقله، وأخشى أن تقوده هذه الوضعية إلى الهلوسة، لكنها تابعت عدم اكتراثها بالأمر، ومضت فجلبت للزوج فنجاناً من القهوة التركية، وقالت:‏

اشربها بأية وضعية تختار، ولكن احترس أن تدعها تندلق على السجادة، وتذكرت سنوات زواجهما الأولى، حين كانت لؤلؤته وقنديله وحديقته الوضيئة وشمشه التي لا تغرب، وحين كان تغيير الوضعية في الفراش يكشف لهما أسرار اللذة ومفاتيح الوصال، ويضيء لهما عوالم ومنارات جديدة، ويقودهما إلى متع مضاعفة ويصوغ من جسديهما أبعاداً وتشكيلات جميلة لم يعهداها، أما اليوم فقد حاصرتها جحافل الرتابة وسدت الشكوك والحيرة منافذ روحها كلها.‏

دارت الغرفة بغالب، فغامت عيناه، ولمح خلال الستائر أطياف جيوش غازية تتدافع، ملأ غبار زحفها أنفه، فانتابته رجفة رعب، وهوت رجلاه إلى الأرض، فاندلقت القهوة، وهرعت الزوجة المجفلة إليه لتجد مشهد الفوضى والارتباك الذي توقعته، ولم تعثر على اسم شفيعها إبراهيم الخليل كي تطلب نجدته بفعل غيظها، فصاحت: ياكعب آخيل، ثم دهشت من ندائها. وأطلقت ضحكة مجلجلة.‏

بوغت غالب بالنداء، ودهش، كأنه في لحظة كشف صوفية، وتوقع أنه ناج، واكتشف فائدة إضافية للوضعية المقلوبة، فهاهي ذي الزوجة تشاركه اكتشاف معجزة كعب آخيل، وعاد إلى وضعيته بحماسة هذه المرة، ولم يستعن بكفيه كي يسند جسده الثقيل، بل دفعهما مسبلتين بالمقلوب أيضاً، وأغمض عينيه كي يفسح المجال لأحلام جميلة وأفكار عبقرية شعر أنها تتدافع، ومضت الزوجة كاسفة البال إلى العناية بزهور الحديقة، وحمايتها من الحشرات الغازية، بينما اندفع غزاة حقيقيون بأحذية ثقيلة وعيون خزرية في بناء مستوطنة جديدة، ومرروا حاجز الأسلاك فوق السجادة المزركشة.‏

 

أضيفت في 06/12/2004/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية