زائر مع سبق الإصرار
يوم دخل بيتنا.. يوم داس عتبة أعناقنا، كان النهار شاحباً، والوقت
غائماً. داهمنا بغته.. أقبل على عجل.
لم ننتظر مجيئه، ولم نفرد وجوهنا مساحة ودًّ لاستقباله، ولم نرفعْ
لأجل عينيه راية الودَّ والقبول.. حاربناه.
شهرنا ألسنتنا سياطاً عليه.. قلنا له بصريح العبارة:
- اخرج من هنا.. نحن لانريد يدك.
هذا ما حصل في البداية.. أمّا فيما بعد، وعندما تجاهل شعورنا، وضرب
عرض الحائط برضانا، واستشرى بيننا كهمّ ثقيل.. عندما فعل هذا كلّه أقمنا عليه
الحد، وقرّرنا بالإجماع- نحن أفراد الأسرة- محاربته دون خوفٍ أو خجل.
انقضت ساعات، تلتها أيّام، كبر فيها حقدُنا عليه..
حتىّ صار تلالاً لاتزحزحها ريح، ولا تنقصها، بل تزيدها جاماتُ الغضب
المتتالي صلابةً وصلفاً. إذ لم تنفع أشاحةُ الوجوه، ولا الترصّدُ، ولا
المباغتة، كان الزائرُ يدخل ويخرج على هواه.. يتوسّدُ الأرائك ويفترش الموائد،
ويرقّص شاربيه الأسودين كمن يترنّم بأغنيةٍ حديثةٍ عصيّةٍ على الهضم، ثمّ يلقي
تحيّة المساء ويمضي.
أهلُ المنزل جميعاً، يضعون رؤوسهم- كلَّ ليلة - على مخدّة الغد
وينامون، وهم يحلمون بصباح جميل خال من الغرباء.
أهل المنزل جميعاً ينادون الوسن، فيأتيهم طيّعاً أليفاً، دون تعب أو
معاناة...
وحدي فقط.. استجدي الراحة فلا تبين..
عاداني الرقاد، خاصمني.. صارت بيني وبينه جفوةٌ، وبيني وبين الأرق
صحبةٌ وحوار.. فأنا ومذ تعرّفته، تغيّرت أحوالي، وتبدّلت طباعي، وتعطلت
أعمالي..لا ليلي ليل، ولا نهاري نهار. أعصابي متشنجة.. نظراتي هائمة.. في قلبي
علّة، وبرأسي دوار.. سئمت الحياة، ونأيت عن الطعام، حتىّ هزلت، واختار الشحوب
صفحة وجهي مسكناً له.
- عصام.. إسمع.. الليلة بالتحديد يجب أن ننتهي من هذه المهزلة،
وإلاّ غادرت المنزل، ولن أعود حتىّ تجدّ حلاً لما يجري.
تأفّف زوجي. ضرب كفّاً بكفّ. صرخ بوجهي للمرّة ما بعد العشرين،
مؤكدّاً أنهّ أكثرُ قلقاً منيّ، وأنّه يتمنّى طردَ الغريب اليوم قبل الغد.
لكنّه عاد إلى هدوئه وحازماً أمره من جديد، آخذاً بعين الاهتمام
موضوع مغادرتي للمنزل إذا لم تحسم المشكلة المعلّقة.
ابتسمت لذاك لقرار.. فلا بدّ من وضع النقاط على الحروف، ولابدّ من
رفع الصوت أكثر، ليس الصوت فقط، فالكلامُ لم يعد يجدي..وإنّما العصا الغليظةُ
التي أُحضرتْ كدواءٍ ناجع لزائر البيت الثقيل، بالإضافة إلى عصيّ أخرى كانت
تمسكُ بخنّاقها قبضاتٌ صغيرةٌ أجبرت على ذلك الفعل بتأثير من الأب الذي لايريد
أن يأخذ أولادُه الجبنَ والخوفَ عن أمِّهم، والذي كان يردّد:
- ما دمتم تتبعون خطاها.. فلن تفلحوا!
ويقصدني أنا... وأنا لم أكن أتذمرُّ من كلامه، ولا أتأفّفُ، أو
أشكو.. فهي نقطةُ ضعفي، وعقدةٌ حمّلتني إيّاها الطفولةُ... ومعه الحقُّ، الحق
كلُّه في تأنيبي، ووصفي بالجبانة، ما دام الأولاد يتأثرّون بي، ويتصرّفون على
شاكلتي حيال الطواريء التي تداهم منزلنا بين حين وحين.. مثله، مثلُ أيّ منزلٍ
في الدنيا.
لزمت فراشي تلك الليلة، أغلقت بابَ غرفتي خوفاً من وصول الغريب
إليها، وإنْ كنت قد تأكدّتُ من وجوده في المطبخ. عرفتُ ذلك من صياح ابنتي الذي
ارتفعَ بما يشبهُ الزعيق.. فكأنَّ الدقائق الأخيرةَ له كانت تلفظُ أنفاسها،
وكأنّ ساعةَ النهايةِ قد أزفت.
فقد بات وجه الدخيل والعصيُّ في تقابل مباشر...
ضربةٌ من هنا، وأخرى من هناك صنعتْ جلبةً..
لم تكن الضرباتُ تصيبُ، لكنّها ترعبُ، تهوّلُ، تصدرُ ضجيجاً
وجعجعةً، وإن لم تصلْني بوادرُ الطحن بعد.
استطالَ الزمنً.. استطالَ كثيراً.. وهاهو موعدُ انبلاجِ الفجر على
أهبةِ المجيء.
معقول؟!.. حتى الآن لم يستطيعوا إخضاعه!...
إنّه واحدٌ، وهم أربعةْ..
نضبتْ الدماءُ في عروقي. جفَّ حلقي، واعترتْني رجفة..
فالمعركةُ لم تؤتِ أكلها، وزائرنا ما زال يناورُ، يخاتلُ، يشاكسُ
يراهنُ على مشروعيّة وجوده، يتشبّثُ بالمكان إلى حدِّ الاستماتةِ.. إنهُ يفضّلُ
الموتَ على أن يخرج مستسلماً.
" لماذا.. يامن اغتلت أماننا، واعتديت على هدوئنا، وشوّهت أقّانيمَ
حياتنا؟... يامن سمنتَ على حساب طعام أطفالنا، وسدتَ بتفريقنا، وأتيتَ على
هناءة عيشنا. قد يستطيعُ الباقون تجاهلك، وقد يتأقلمون مع طبيعة حضورك.. لكن
أنا.. لا.. إنّ القلق منكَ ومن أمثالكِ واشباهِك يشتّتُ طمأنينتي، وينغّصُ
راحتي، ويبعثُ في نفسي الكدر. لاتسعدُني رؤُيتكِ، ولا تروق لي تصرّفاتُك
الزئبقيّةُ، ولا أستطيعُ التعوّدَ عليك..".
ما زال المطبخُ عامراً بالعراك، ما زال أبطالُ المسرحيّة في تحفّز
وتوتّر. إنّني استشعرُ عن بعدٍ احمرارَ وجناتهم وأطرافِ آذانهم، ,أحسُّ
بالتهابِ حناجرهم، وازرقاقِ شفاهِهم، وارتعاشِ أهدابهم، وارتجافِ قلوبهم.
إنّني ألمحهُم، وقد وصل بهمُ اليأسُ حدّاً جعلني أتأكدُّ من
انحسامِ النتيجةِ لصالحِ الغريب، وفوزِه، وبقائهِ وتثبيتِ مواقعهْ. كيف أطمئنُ،
وأنا اسمعُ خبطَ الأبواب، واصطدامَ الكراسي، واحتضارَ الصحون والكاساتِ واحدةً
واحدة.
عقبَ تفاقمِ تلكَ الحالِ، وبعد أن بلغَ التشنجُّ منيْ مبلغه
التامَ، وكدتُ أصابُ بقنوطٍ كاملٍ سدَّ في وجهي سبلَ الانفراجِ... انتبهتُ أن
سكينةِ مريبة قد سيطرت على الجو، هي إلى سكينة المقابر أقربُ.
الصمتُ لم يطلْ، عقبهُ هرجٌ ومرجٌ وضحكٌ عالٍ، ودعاباتٌ متفرّقةٌ.
رفعت الغطاءَ عن وجهي.
رصدتُ أحاسيسي وجوارحي كلَّها لخدمةِ تلكَ اللحظةِ، وكان لي ما
أردتُ:
- ماما.. ماما.. لقد قضينا عليه.
فتحت البابَ، سرّبتُ من انفراجته البسيطة نظرةً فيها شيءٌ من الوجلِ
والترقّبِ.. رأيت وجوهاً صغيرةً أضناها العراكُ، ولمحت عصاماً وقد وضع" الجرذَ"
على محفّةٍ من الورق المقوّى قاصداً بابَ المنزل لرميهِ في الخارج، متشفّياً
منه بكلماتٍ تفوحُ منها رائحةُ الشماتةِ.
في تلك الأثناءِ.. كانت قدماي تؤوبان إلى السرير بخطا متهالكة،
تسترجعان ذكرياتٍ موجعةً لأيامٍ خلت.
آخر الهدايا
قالت... وسنواتها السبعون تجرّ خيطاً من ذكريات، والشيب يملأ الرأس والقلب،
والحديث عن الصبا له في الفم حلاوة السكرّ:
- لو تعلمين ..كم كنت جميلة أنيقة وفريدة الحضور ! لو تعلمين.. كم شغلت الحياة
بي، وشغلتُ بالحياة.. البهجة كانت رفيقتي، والزهو صنوي، والتألّق صديقي. كان يا
ماكان، في قديم الزمان، والعمر يذوي، والوقت قطعة ثلج تذّوب، تذوب، ثم تنتهي،
والشباب ربيع، والربيع أقصر الفصول.. آه.. تابعت حديثها عن ذكرياتها بشغف وتوق،
وتمنيّت ألاّ تصمت.. فكلّ كلمة كانت تخرج من بين شفتيها تشدّني كي أصغي أكثر،
واستمرئ الاستماع.. فمازال في نطقها بقية من براعة، وفي مخارج حروفها لكنة
محببّة، وفي حركة يديها صورة امرأة عاشت وعايشت، وعانقت الدنيا طولاً وعرضاً..
وإن بدت بيادر اليأس تتزاحم في عينيها العجوزين، فلأن سفنها أسلمت مراسيها
للريح، ولأنّ الزمن حطّاب نشيط، ولأنّ تخوم السنّ تلوّح لها بمنديل.
أطبقت جفنيها، وفتحتهما، ثم عادت تسردلي:
- " كنت أثيرة لدى زوجي.. يحبّني، ولا يرفض لي طلباً، ولا يتوانى عن تلبية أمر
لي رغبة به ..أقول للشيء كن فيكون.. كيف لا !.. وأنا أميرة زماني، وسيدّة وقتي،
والدمية المدللّة لديه.. زوجي كان إنساناً ذكيّاً، وشهماً، وكريماً، وسيّد
الرجال.. لكن !.
- لكن ماذا ؟
- كان فيه عيّب معيّن.
- ماهو ؟
- لم يقدّم لي خلال سني عمري معه سوى هديّة واحدة.
- ماهي ؟
- حذاء أحمر ... وكان ذلك في مستهلّ حياتنا الزوجيّة.
فقد عاد إليّ ذات يوم يضجّ بهجة وسعادة، يحمل بين يديه كيساً أنيقاً.. قال لي:
- افتحي الكيس، وشاهدي ماذا أحضرت لك.
وبشوق الأنثى ورغبتها وضعفها أمام هديّة الرجل، اندفعت لأرى ماذا أحضر لي
..وبسرعة خاطفة، وقبل أن أنعم النظر جيداً، ارتسمت على وجهي علامات غضب مفاجئ..
رميت مابيدي جانباً وأنا أغمغم:
- إنّه ليس جميلاً، ولا أنيقاً، ولا يناسب ثيابي .
بهدوء أجاب:
- لا بأس، لابأس.. إذهبي غداً، واستبدليه بما يلائمك ويرضي ذوقك.
في اليوم التالي..
ذهبت وجارتي إلى سوق الحميديّة ... توجهّت صوب المكان الذي دُللت إليه.. قلّبت
مافيه من أحذية، فلم يعجبني أي حذاء.. استعرضت دكاكين السوق من أوّله إلى آخره
أكثر من مرّة فلم أحظ بما أريد.
تفحصت عشرات المحلاّت.. جرّبت عشرات الموديلات.. تناولت عشرات الألوان.. ثم
عدّت في آخر النهار، وبصحبتي الحذاء الأحمر .
دخلتُ البيت.. حدّق زوجي إلى الكيس، ثمّ إلى وجهي.. وعلى عجل، قرأ على ملامحي
إشارات ودلالات تخالطها معان كثيرة. ابتسم..
ابتسمت..
وكان الحذاء الأحمر آخر هداياه لي.
وقد
لا يأتي
أتأمل .. أقف عند مفارق
النظرات وأتأمل .. تتقاذفني أروقة العمر ، أخبو ، ثم أعاود الاتقاد .. أتوه في
دوامة الزمن الجائع دوما لابتلاعي .. يهطل الرذاذ الشباطي علي ناعما لطيفا ،
أفتح له بعض أبواب قلبي ، وأوارب أبوابا،وأغلق أبوابا أخرى.ولأنني وكأي امرأة
في الدنيا ، يأخذني جموح الأمنيات إلى ملكوت السفر ،أتوسد وجهه الأسمر ، وقميصه
المشجر ،وأعبر معه نحو سماوات الفرح .ولأنه ،وكأي رجل في الدنيا تسرقه ذاكرة
الدروب إلى أمكنة اللقاءات ، فتضحك أغنية المروج وتمسح كل احتمالات متوقعة
لحضور الشتاء ينسج لي بيتا من أهداب الحكايا ويقول :
- إنه أجمل البيوت ..
نلتقي اليوم أنا وهو
وليس بيننا موعد ولا كلمات .. نلتقي في هذه الحديقة المتألقة ، لا عناق بيننا
ولا قبلات .. يهبط الفرح علينا فجأة والحزن أيضا .. في داخلي سكون مميت
اسطوانته تدور وتدور .. ثمة يدان تلوحان بدفء غريب ، وعينان تبثان رسالة فيها
وميض الاشتياق ..
ما زالت عيناه مسمرتين
علي ، مازالت نظراته تتوغل داخلي وتحرق جسدي وتحولني إلى مجرد رماد كرماد الذي
يذروه الهواء .. أرفع الرمش إليه ، فأرى النظرة نفسها ، وأرى أعوامي تتكدس من
ورائي هاوية كما تتساقط أوراق شجرة قاومت عبث الرياح .. وعندما تتلاقى عيناي
المختلستان مع عينيه الجريئتين أحس بالارتباك وتسري في قلبي رعشة مبهمة ..
الحديقة الصغيرة تحتويني
وحدي مع أمنياتي ومشاعري اليتيمة .. المقعد المقابل لي مشغول برجل يتأبط اللهفة
مثلي ويترقب أن يضيفه أحد ..
كان الوقت ربيعا ..
والعيد عيد الحب ،
والتاريخ هو الرابع عشر
من شهر شباط .
في هذا اليوم يضم
فالنتاين عشاق الدنيا بين ذراعيه ويقول لهم :
- أظهروا من العاطفة ما
تشاءون ، ولتتوهج لقاءاتكم بجمرة الوله المتقدة ، ولتتبارك عيونكم بالتنزه في
غابة الوجوه المشتاقة ولتستيقظ فيكم رغبة ابتكار اللغات لأحاديث لا تنتهي ..
فالنتاين هو الذي أبدع
هذه الحديقة المؤنسة ، كما أبدع حدائق غيرها في كل مكان من العالم ..
الأشجار تصلي
الزهرات وشاها الانتشاء
الأعشاب عرفت مقامها
والهواء سحر ربيعي
والشمس الشباطية اللطيفة
مشغولة بالأحبة المعيدين .
هي عادتي في كل عام ،
وفي مثل هذا اليوم المبتكر ،آتي إلى هنا لانتظاره .رجل يطل من الغيب علي ، أو
من الفراغ ، يربت على كتفي ، ثم نسير معا ..
في كل عام ، وفي مثل هذا
اليوم المتفرد أجلس على مقعدي الخشبي ، ألوح لوجه مريح يطل علي ، يلون صباحاتي
بالأرجوان وينثر على وسائد سريري قصائد الأقحوان .. ويسرق من نهاراتي أوجاعها
ويشعرني أن العالم ما يزال بخير ..
(( كلهن وجدن أنيسا إلا
أنت ))..
كلماتهم خنجر يذبح بدني
، وتقريعاتهم سم زعاف يعايش دمي .. صديقاتي مضين جميعا في دروب الحياة ، قبضن
على الحلم الهارب في لحظة قنص رائعة ، تشابكت أصابعهن بأصابع الأشرعة المهاجرة
إلى شواطئ الأمان ، وأنا ما زلت أقف على أطلال الغروب ، أعانق الأصيل وتتعلق
شفاهي ببقايا النهار وتصر شمسي على الأفول ، فيصبح الليل صديقي والوحدة صنوي
الذي لا يريد مفارقتي ، والابتعاد عني ..
- أقبل وشاركني مقعدي
وغربتي فاليوم لي ولك ..
أقبل لنغتنم نداء القلب
لأن أغنية الحياة سوف تصمت يوما.
إنه يتابع تمتماتي ،
يتابع حركاتي واختلاجاتي .. وأنا واثقة أنه وحيد مثلي يعاني الوحشة ورتابة
الأيام .. واثقة أنه يعيش دون شريك يؤنس لياليه الباردة ويلقي البهجة على
أمسياته الخاوية ..
الفراغ يقتلني ، والضجر
يميت خلاياي يوما بعد يوم ، والزمن يغزو فودي وأخاديد وجهي ..
تطلع إلي ، ثم تطلع إلى
ساعته .عيناه تلوبان بنظرة حيادية فيها قلق وحيرة تلتهمان عتبات الطريق تحيطان
بالامتداد من جهاته الأربعة ، تتنقلان ما بين الترقب وبين الساعة وبيني ، يلتف
إلى اليمين حينا ، وإلى اليسار حينا ، وإلى الخلف حينا ، ثم يعود ليشملني بنظرة
..
- ما به وما الذي جرى له
؟؟...
عبثا حاولت إغواءه
وإمطاره بالابتسامات المتوارية الخجولة .. عبثا حاولت شده إلى وضعية الهدوء
التي قدم فيها ..
بدا الضجر على تعابير
وجهه وراح الانزعاج يتسرب إلى روحه ، وعاود رأسه الحركة في شتى الاتجاهات وكأنه
ركب على نابض لا يقف ولا يتعب ولا يهدأ له حال ..
- ماذا حدث؟؟.
عدت إلى دهشتي وأنا أرى
قلبي يكاد يقفز من بين ضلوعي لشدة خفقانه ، ولسرعة النبض فيه ..
سحب نفس تبغ من سيجارته
، أخذه عميقا ، عميقا ، ثم نفخ دخانه في الهواء .. زوبعة سجائره حجبت الرؤية
بيني وبين قسماته .. أصبح المشهد أمامي غائما وضبابيا ، لكنني استطعت أن ألمح
ابتسامة مفاجئة تبتلع تقاطيع وجهه كلها ، واستطعت أن أعرف بعد قليل سبب
ابتسامته تلك ..
فقد رأيتها تتهادى نحوه
.
امرأة
ملونة كمرج ..
خضلة كغابة
منسابة كجدول ..
دافئة كقنديل ..
امرأة ليست ككل النساء ،
مختلفة عن سواها في جميع ما حباه الله لها .. تخطو إليه بلهفة ، تندفع معتذرة
عن التأخير ، موضحة أسبابه الخارجة عن إرادتها ... ينهض إليها ، يحتضن وجهها
براحتيه ، يبارك لها بعيد الحب .. تبادله التهنئة ، ثم يمضيان باتجاه معين ،
فيغدو ظهره مواجها لي ، وتبقى روحي بانتظار أحدهم أن يأتي .. وقد لا يأتي ....
بنت الدهشة
شارداً كان
... في الأويقات المتقدّمة في المساء ... مرّت أمامه غزالة منقوشة في ذاكرته
منذ قديم العهود.. استدرجته الغزالة لعالم معشوشب بالخضرة والمواعيد، تكورّ
داخله مثل طفل صغير ... أخذه الحب، والدفء، والجمال ... صاح:
- وجدتها ...!
تربعت "غاده " على عرش قلبه.. اتخذّت مملكتها هناك، ثم أغلقت الباب.. أضاءت
أيّامه، بوجه بديع، وحديث أخّاذ، ومع إصغائه إليه ... راح يحضن حلمه القديم،
وينتشي به حتى آخر قطره .
- " أنتِ من أردتكِ، أنتِ ... "
قال لها ... وسبح في ملكوت سمائها، وغيّب من عمره كلّ خطايا الانتظار.. أطلق
عليها أسماء النساء كلها، وصفات الأميرات.. فصارت دميته المدلّله الساحرة، التي
لم يستطع أي وصف أن يطولها، أو أي رسم أن يعبّر عنها.. أحبّها حتىّ غصّ قلبه
بالصخب، وبدت كل لحظة تمر عليه، تعادل مليون عام. نام، نام، ثمّ استيقظ..
نبهّته " غادة " من رقاده، أشعره قربها بشيء خفي يجتاحه لأوّل مرّه..
- " ماذا تراني أفعل بهذا الحسن ، ماذا أفعل بهذا السحر ؟.."
باح لها، وباح ... ثمّ جرى ما جرى !"
كم مضى من العمر العابر على دروب الحياة، والممزوج بأفانين الرغبة، وهو يغزل
أحلامه الواضحة، الغامضة.. والتي لم يكن خياله يتّسع لأكبر منها.. كم كان
ينسّق، يرتّب، يبني بيته المقبل، عشّه الزوجي المركون في فضاءات الصباحات
والمساءات المعطّرة بالانبهار، والمغسولة بماء الورد، يزرع أملاً يمنحه قوافل
عطاء، لا تملكها سوى زوجة رسم لها في ذاكرته نموذجاً معيّناً، لا يتخلّى عن
مواصفاته قيد أنمله ؟؟
- " أريد عروساً جميلة إلى درجة تفوق الوصف.. إذا نظرتُ إليها أسرتني.. وإذا لا
مستها صعقتني، وإذا أصغيت لحديثها، أذابني حلو الكلام، وإذا اختليت بها أصابني
مس ... الخلاصة.. أريدها.. بنت الدهشة ".
وجرى التعبير على ألسنة أصدقائه، متندرين، مشفقين:
- أحمد لن يتزوّج سوى " بنت الدهشة ".. وإن لم يجدها، فعلى زواجه السلام.
الأيّام تسحب الأيام ... والرأس يمتلئ بالشيب وقد تجاوز الأربعين.. لكن الأمل
مازال في باكورة تألّقه، ووجه الحبيبة يروح ويجئ، والصورة المرتقبة ماثلة أمامه
لا تحيد.. ملامحها مرسومة بدقّة، وتعابيرها ذات مواصفات مدروسة.. الطول، الوزن،
اللون، والعينان، النطق، الشعر خفّة الظلّ، الحضور، الثقافة، ... إلخ ضاع
الوقت، هدر على شرفات الترقّب، سرقته خديعة الأحلام ..قال:
.. حتىّ الأحلام تتقن فنّ السرقة ".
لكنّه لم يتراجع عن شروطه في الاختيار، ولم يتنازل عن الرغبة في الشكل الذي
يريد، والذي لن يقبل بديلاً عنه أبداً، فهو إن لم يردِه قتيلاً عند رؤيته له،
فلاداعي إليه على الإطلاق " وحدث ما أراد ... التقى بغادة بعد رحلة من التمنيّ
طويلة.. باغتته الظروف بها تعبر من أمامه وهو جالس على ناصية مقهى..
.. إنّها هديّة الله من السماء "
لفحته نار الحب في اللقاء المفاجئ، وصرعه الجمال منذ أوّل نظرة، وجاءت إليه على
قدميها تسعى.
قدٌّ، وعينان، وطول فارع، وشعرها كالليل، وحضور بهي.. !
"إنكِ أنتِ.. أنتِ نفسك من جريتُ وجريتُ حتّى لحقت بك"..
اعترف لها، تلاشى في حضرتها، نسي العالم بوجودها معه..
غبطه الأصدقاء، وربمّا حسدوه، وتحلّقوا كلّ يوم يتهامسون:
" لابدّ أنّه يعايش الضياء، ويطير في سموات الحبور، ويصفّق للفرح، في مطر صيفه
القائظ ندى.. هنيئاً له.. لقد صبر ونال..
أفضت القرب ما أفضت، ثم راحت الشفاه تتلمّظ بمختلف الأوجاع:
قال نبيل:
- " لقد تزوّجت رغماً عنّي.. ألزمتني رغبة الأهل ".
قال عامر:
- " سعادة الحياة أن تفتح عينيك في الصباح على وجه جميل، وليس على وجه يابس،
كما يحدث معي ".
قال سعيد:
- " لو انتظرت مثله، لكنت الآن أسبح في بحر من العسل ".
غاب أحمد عن الجميع، غادر الشلّة والرفاق، لم يعد أحد يراه.. شهر، شهران، ثلاثة
شهور.. إلى أن كان مساء..
وبينما الأصحاب يلتفوّن حول إحدى الطاولات في أحد المقاهي التي اعتادوا التواجد
فيها، يشربون القهوة والشاي، ويدخنون النراجيل.. و إذا بالعريس يدلف إليهم..
يحييّ،. يأخذ كرسيّه المعتاد، ومكانه المعتاد، وقد أمّحت عن وجهه أيّة تعابير
توحي أنّه ينتظر حلماً.. أو
دهشة ما.
|