همس الحجر
لم يبقَ منها سوى أطلال واقفة تتحدى الفناء .. أطلال مهجورة تلتهمها
الرمال .. الغبار يغطيها منذ ألفي سنة . كانت في عصرها تمتلئ بالناس والحيوية
والنشاط .. بوابات عتيقة تراكمت عليها مئات البصمات والوجوه والذكريات .. كلها
غادرت ، وبقيت كشاهد إثبات وعنوان مدينة !
حينَ تمشي في الحضر تشعر بأنك تمشي مع التاريخ . مدينة وادعة ، جميلة
.. وبوابات لا ينقصها سوى أبواب لأقرعها وأستأذن بالدخول إلى الماضي .. ما بقي
منها حجارة فقط .. حجارة تحكي قصة مدينة كانت هنا .. أسوار وبقايا بيوت حزينة
هدّها الغدر .
جئت اليوم لأسألها .. وهل يحق لي أن أسأل عن مدينةٍ كان ماضيها شمساً
تستضيء أُمم العالم من حضارتها وتقدمها .. لكني لم أجد فيها سوى أحجار منقوش
عليها حكايا زمن قد مضى .. أُحدق بأسى بالمدينة التي ركبت عربات الزمن وهربت
بالنسيان !
تبدو حزينة أمامي .. وكأنها تحدثني عن أيام مجدها .. خطوات الحاضر تمضي
بي نحو الماضي .. تأتيني الأصوات من بعيد .. تحملها رياح الزمن .. ويفيض كل شيء
فيها بالبوح . هدوءً .. هدوءً في خطوات النحيب !
يستوقفني تمثال امرأة .. أدور حوله .. بيدي أتلمس دفء الحجر .. أجلس
قبالته على حجرٍ كبير .. أتأملهُ وفي نفسي تساؤل : أيعقل أن تكون هي الخائنة
الوحيدة ؟ فهناك حكاية غريبة عزوا فيها سقوط الحضر بيد الفرس إلى خيانة "
النظيرة " بنت " الضيزن " ملكها العربي ، التي دلت " سابور " وجنوده على الطريق
لثغر أسوار المدينة المطلسمة بعد أن جزع عن حصارها لمدة سنتين .
التساؤل يدور في فكري ويحفر بعمق .. ولا أهتدي لجواب ! أتذكر حكايتها
.. صوت قوي يصخب في داخلي .. لماذا تُروى الحكايا دائماً عن خيانة المرأة ؟
الأسماء تتراصف في مخيلتي .. ولم يكن لهن ذنب سوى أنهن .. نساء قويات ! ومع هذا
كنّ المشجب الوحيد الذي وضع الرجال والزمان هزائمهم عليه .. هل أذكر الأسماء ..
أظن لا حاجة .. فالكل يعرفها !
وبينما الأفكار تأخذني .. وإذا بيدٍ تدير وجهي .. ألتفت خائفة ، فأنا
واثقة بأني وحدي هنا.. اضطربتْ.. أتكون هي ؟ وأنظر إلى التمثال.. ليسَ في
مكانهِ..لكنها لا تشبهها..استغربتْ !
_ لا تستغربي .. هم نحتوها .. هي تحمل اسمي فقط .
أهز رأسي بالإيجاب . جلستْ قبالتي على حجرٍ قريبٍ من حجري .. ومن
جلستها عرفتُ بأنها الأميرة " نظيرة بنت الضيزن " .
بدت عيناها الهادئتان مفعمتين بالفهم وهي تقول :
_ تتساءلين عن خيانتي ؟
_ هذا ما وجدناهُ في كتبنا .
نظرت إليّ بعيون حزينة :
_ وهل كل ما يكتب ويؤرخ صحيح ؟
_ بالطبع لا !
وجدتها نظرة المحيّا ، بلون الزهر .. وشعرٍ من ذهب . تغوص ذاكرتي في
بحر الحيرة .. حتى إذا ما عدتُ .. ونظرتُ إليها .. لا أُصدق الوجود الذي أنا
فيه ، ويعيدني صوتها :
_ وماذا تقول كتب تاريخكم ؟
_ حَسَب الرواية ..
(( خرجتِ إلى السور فالتقيتِ صدفة بـ" سابور " وكان قد باشر بفكِ حصاره
عن المدينة بعدما فقد الأمل في سقوط حصونها ، فنظرتِ إليه ونظر إليكِ حتى دَب
العشق بينكما ، فما عدت قادرة على ضبط نفسكِ ولسانكِ .. وأخبرته بحالكِ وقلتِ
له : " ما لي عندك إن دللتك على فتح هذهِ المدينة ؟ " . فقال : " أجعلكِ فوق
نسائي ، وأتخذكِ لنفسي " . فبُحتِ له بسر الطلسم الذي يحمي مدينة أبيكِ .
فقبلهُ .. وكان كما قلت .. ثم سار " سابور " معكِ إلى " عين تمر " جنوب غرب
بغداد ، وسألكِ : " أنتِ ما وفيت لأبويكِ حسن الصنيع ، فكيف تفين لي ؟ " . ثم
أمر ببناءٍ عالٍ ، فبني ، وأصعدكِ إليه وقال لكِ : " ألم أرفعكِ فوق نسائي ؟ "
قلتِ : " بلى " . فأمر بفرسين جموحين ، فربط ذوائبكِ في ذنبيهما ، ثم استحضرا
، فقطعاكِ " .
كانت تصغي باهتمام .. حاولت أن تبتسم .. إلاّ أن وجهها الفاتن كان
حزيناً جداً غارقاً بالألم .. لذا لم تستطع أن تبتسم .. فهزت رأسها دلالة الأسف
.. وبدأت تتكلم بهدوء تاركةً بين الجمل فترات صمت .. صوت رخيم مشرب بمرارة
الحزن . حدقتُ في عينيها ، قرأتُ الصدق . وتابعت حديثها بصوت أكثر عمقاً من ذي
قبل .
وفجأةً توقفت عن الكلام وطرأ تغيير مفاجئ على ملامحها .. وتشبثتْ
عيناها هناك .. فاستدرت وبشكل غير إرادي لأُتابع ما رأتْ وجفلت من أجلهِ .. لم
أجد شيئاً ! عدتُ ببصري إليها .. فلم أجدها قبالتي .. اندهشت .. أين اختفت ؟
التفت .. لم أجد أمامي سوى تمثال المرأة
.. تمثال عيناه جامدتان مثبتتان في نقطةٍ ما !
اللحظات أومضتْ كبرق ومثلها انطفأت .. ويهتز كل شيء أمامي ، فأتمسك
بتلابيب الحاضر !!
أضيفت في 01/06/2005 / خاص القصة السورية / الكاتبة
رياض النور
لم يهن عليّ اقتلاعها ، رغم تأكدي بأنها قد يبست . وكلما وقعَ نظري
عليها أترحم على تلك اليد التي وضعتها في هذا المكان . زرعها أَبي في ( سندانة
) كبيرة من الفخار ، ووضعها بقربِ باب المطبخ . لماذا ؟ لا أدري ! كانت
النباتات مسؤوليته لذا لم يتدخل أحد من أفراد اسرتنا بتنظيم أمكنتها أو زراعتها
أو حتى سقيها .
رغم كثرة الأصص في بيتنا إلاّ أن هذهِ السندانة بالذات أصبحت شُغلي
الشاغل . أعطيتها من اهتمامي ما لم أُعطِ لسندانةٍ أُخرى . أنبش ترابها ..
أسقيها .. أُسمدها .. لَعلها تحيا .. ولم يفد !
أتألم في قلبي .. كل يوم .. وأنا أُراقب موت شجرة الفُل ! زرعتُ
بجانبها نباتاً آخر .. بدأ ينمو .. يكبر ليتسلق خشب الشجرة اليابسة !
* * *
وصلتني رسالة من رجل _ أعرفهُ ويعرفني بالاسم فقط _ يقول فيها : بأنهُ
سيحضر للقائي بعد أيام .
رسالتهُ كانت مفاجأة جميلة لم أتوقعها _ حقيقةً _ تتدفق منها بحار من
العاطفة والمحبة السامية . أدهشتني نبرة إخلاصها وقوة تعبيرها الساحر ! استطاعت
أن تحرك المشاعر في داخلي من جديد .. كحجرٍ يُرمى في بحيرةٍ ركدت منذ زمن !
ماذا يريد مني هذا الرجل ؟!
يقولون : بأن الموت هو بداية حياة أُخرى !
هل هو كذلك فعلاً ؟ ربما !
وشجرة الفُل أكدت لي هذا . فبينما كنتُ أسقي الأصص كعادتي كل صباح لفت
انتباهي بأني أرى ما يشبه رؤوس دبابيس خضراء تلمع على ساق تلك الشجرة اليابسة
التي ظننتها ماتت مع موت أبي .. توقفت لأنظر جيداً .. انحنيت لأُمعن أكثر ..
نعم .. هاهي براعم صغيرة تتفتق !
تذكرتهُ في تلك اللحظة .. تذكرتُ رسالتهُ العذبة .. واصراره العنيد على
التقرب مني .. ووجوده الروحي الذي اخترق سماء أحزاني بشهاب من نور المحبة
البريئة ، فأضاء ليل العمر !
مرت في ذهني كلمات رسالته بسرعة الضوء .. كومضٍ خاطف .. ووعده بأنهُ
سيحضر
للقائي بعد أيام . دمعت عيناي لحظتها ، شجرة الفل ماتت مع رحيل رجل ..
وها هي تحيا مع قدوم رجلٍ آخر ! سعادة دافئة ترجرجت في بحيرة نفسي أشعرتني
بحلاوة التفاؤل !
ذهبتُ للقائهِ وأنا المقررة ألاّ أذهب ! .. بل وكنتُ متشوقة جداً
للقاءِ الرجل الذي لم ألتقِ به ولا مرة ! حضرتُ قبلهُ .. ووصلَ بعدي بثوانٍ ..
نزلَ من السيارة .. رأيتهُ ورأيت الحب من بعيد مقبلاً نحوي في مركبه الرائع
ناشراً شراعه ، معلناً سلامه !
صافحتني ابتسامةُ عينيه قبل كفهِ .. مددتُ كفي .. تعارفنا .. اضطرب في
داخلي شيء عندما التقت عيوننا ، فقد لمحتُ القوة والجرأة فيهما . مشينا معاً .
مد يده يدعوني للجلوس ، فجلست وجلسَ بقربي . لم أشعر بالغربة قط .. ولا هو ..
وكأننا نعرف بعضنا منذ ألف عام !
تحدثَ معي بأشياء كثيرة .. جذبتني _ بقوة لا تقاوم _ عذوبة روحه وسحر
كلامه .. سحبتني إلى فضاءات العشق التي لا يمكن أن يصلها كل مَن كان .. نفوس
قليلة _ فقط _ تصل بقوة الصدق والإيمان بأن الحب هو درب الحلم !
أليستْ ميزة الإنسان الفكر والحوار ؟! إذنْ .. يا لقوة كلماته التي
استطاعت أن تخرجني من منفاي !
عندما رفعتُ نظري ، وجدتهُ ينظر فيّ ملياً بنظرة دهشة واستغراب . ماذا
هناك ؟ ألم يكن يتوقع أن يراني جميلة !
الوجه مرآة النفس ، وغالباً ما يشع نور الداخل على قسمات الوجه .
راوغته بصمتي .. لكن في النهاية استسلمت .. وبإرادتي !
رجل ذكي .. تبدو عليه امارات الطيبة والنبل . أسود الشعر ، يقظ العينين
، سريع البديهية ، واثق من نفسه ، يعرف مكانته ، ويتمتع بحضورٍ طاغٍ وشخصية
آسرة جذابة .
ما كانَ هاجساً في يومٍ ما .. تحققهُ لي الحياة .. وتضعهُ أمامي وجهاً
لوجه . هل التقيتُ بحلمي أخيراً ؟!
في فجرِ ثالث أيام عيد الفطر .. فاجأني القدر بمصابٍ عظيم .. مصابٍ كسر
ظهري وأدمى قلبي ، فقد واجهني الموت بقسوة _ ولأول مرة _ مع أعز الناس .
هل أستطيع أن أمسك دموع القلم ؟
لا أظن ..
فالقلب ينزف !
أي هاجس دعاني أن أترك غرفتي وسريري لأنام في غرفته .. هل هو الإحساس
بالفراق؟؟ لم أنم ليلتها لأني غيرتُ مكاني .. ولا أعرف كيف ومتى سرقني الكرى .
حينَ استيقظت
.. وجدتهُ يصلي الفجر .. شربَ كأساً من الماء وعادَ إلى سريره . صليتُ
أنا أيضاً وعدتُ إلى النوم متعبة الروح والجسد .
كانت تلك اللحظات آخر عهد لأبي في الحياة ، فقد توقفَ القلب عن النبض .
ناديتهُ من أعماق قلبي المجروح .. ارتميتُ على صدره .. صرخت : أبي .. أبي .
لعلَ صوتي يعيده ثانيةً . قبلتُ جبينه الدافئ وشعره وفمه وكل ما في وجهه راجيةً
منهُ ألاّ يذهب ، فصعبٌ أن يكون الإنسان بدون أَب !
شيئان لا أعرفهما ككل النساء .. لا أن أُهلل ولا أن أُولول ! لم أصرخ
مولولة على رأس أبي .. بيدي أغمضتُ عينيه .. وأعدلتُ ركبتهُ التي ثناها .. ولا
أدري مَن ناولني القرآن .. جلستُ على طرفِ سريره .. وقرأت . كانت دموعي تتساقط
على صفحات القرآن ويدي على جبينه الذي لم يغيره الموت .. بقي مثل ما كان وكأنهُ
نائم وسيستيقظ بعد قليل لنتناول فطورنا !
قلبي يعتصر بالألم وأنا أنفضُ لهُ حزني لفراق أبي .. لم أبكِ أمامه ..
ووجدتهُ يصغي لكلماتي بهدوء . وتأسفت لهُ لأني حدثتهُ عن الموت في أول لقاء
يجمعنا !
وحدثتهُ عن شجرة الفُل التي تفتحت براعمها من جديد .. وكم تفاءلت بها
.. وربما كانت السبب الوحيد في وجودي معهُ الآن .
وميض من السعادة الحقيقية ، الدافئة يلمع في عينيه .. معهُ حق ..
تصورني طفلة ، ووجدني امرأة !
كانَ يحدق فيّ كخبير آثار منبهر بقطعةِ نحتٍ خرافية انقرضت منذ زمن !
شربنا الشاي من " قوري " زجاجي واحد .. وتنفسنا ذرات أوكسجين واحد
..ونظراتنا تحدق في منظر واحد . اختلطت أنفاسنا وأحلامنا وأفكارنا ووجهات نظرنا
فيما حولنا .. واكتشفنا .. ما نحن إلاّ وجهان لعملة واحدة !
وأحسست لحظتها بأن مصيري قد تقرر !
نظرتُ إلى ساعتي .. كانت تُشير إلى العاشرة .. قلتُ دون أن أنطق : _ هل
يكفي ؟
ولمحتُ في عينيه تساؤلاً وهو يصافحني مودعاً :
هاكِ يدي لِما تبقى من الطريق واكملي معي المشوار !
كنتُ كمن تبحث عن شيءٍ أضاعتهُ في زمنٍ لا تتذكرهُ ..
وفي صباح هذا اليوم _ الجميل جداً _ وجدتهُ ..
واليوم .. حلمٌ يبحثُ عن مرفأ .. !
أضيفت في 28/05/2005 / خاص القصة السورية / الكاتبة
نوافذ للذكرى
ليل كانوني ينسكب في فجوات الوجود ، ونثارة
من الثلج تنسكب معهُ في سواد ليلٍ معتم مسربلاً الكون بغلالةٍ من الريش الأبيض
لتبدد ظلمة ليل شتائي فتضيف عليه سحراً .
هدوء الليل وثلج كانون وذكريات تدق على جدار الصمت .. كل هذهِ الشواهد توقظ
الجراح في نفسي لتزرع ليلتي بالأرق .. بدأتُ أتأمل خيوط الظلام عبر نافذتي
فتنصهر أشتات الذكرى بالوجود .. تهبُ نسمات الماضي وأُحاول أن أغلق نافذة
الذكرى .. لكن دون جدوى !
ألجأ إلى المذياع ، وهو خير ما نلجأ إليه حين يغادرنا النوم ليأخذنا عبر أثيره
حيثما يشاء _ انهُ نوع من الهرب _ أدير إبرة المذياع يميناً وشمالاً كي أرسو
على شاطئ برنامج أو حديث أو أُغنية قد تبدد أرقي هذهِ الليلة .. لقد قالوها
قديماً : " مَن يهرب من الواقع يقع في المحظور " . ووقعتُ في المحظور .. إذْ
يصعقني صوت فيروز في أعماقي ويهوي بعيداً .. إنها تغني لصبي الثلج "شادي " .
رفقاً بالجرح النائم يا فيروز !
يداهمني فيض من الألم والعذاب .. وأخذت يدي تتحسس جسد ابني شادي الذي يرقد
بهدوء قربي .. انغمرت أناملي في أمواج شعره الناعم .. انحنيت نحوه وطبعت قبلات
حارة تناثرت في وجهه الملائكي البريء .. انهُ البرعم الوحيد الذي زرعهُ لي
القدر ليشد عمري للوجود ثانيةً .. برعماً ينبض دفئاً ومواساةً .
يحملني صوتها الشجي إلى أعوام مغرقة في البعد .. وبالرغم مني تشق الذكريات
دروباً إلى أيام قد مضت إلى الأبد .. أيام بعيدة إلاّ أنها مازالت محفورة بعمق
على جدار الذاكرة بكل لحظاتها .. فُتحت لي أبواب الماضي وبدأت أتسلل طريق
العودة .. وأصل إلى أيام قد ابتسمت لي آخر مرة .
في آخر يوم من إجازته الدورية من نهارٍ كانوني وقد نشر الشتاء طرحة زفاف بيضاء
على كل القمم .. فالثلج قد احتضن المدينة والطرقات .. في ذلك اليوم أصر مروان
أن نرحل بنزهةٍ قصيرة لخد الجبل المواجه لمدينتنا .. قد يكون قراره غريباً للكل
.. لكني لم أستغرب من قراره المفاجئ هذا لِما أعرفهُ فيه من حبه للثلج والجبل .
أخذتنا دروب الجبل ممسكاً بيدي .. شعرنا بالدفء رغم الجليد الذي يغمرنا ..
لعبنا كثيراً وتضاربنا بكرات الثلج .. تذكرتُ قول نيتشه : " في كل إنسان حقيقي
يختبئ طفل يرغب باللعب " . ضحكات وشهقات فرح طفولية وعيناه بالقرب مني تغمرني
بطيب دفئه .
هالة من النور الذهبي الهادئ غطت ثوب الجبل الأبيض .. أغرقتنا بفيضان من
السعادة ..
صنعنا رجلاً ثلجياً .. كان بدون ملامح ، وأصرّ مروان أن تكون لهُ ملامح ..
فتشتُ في جيوب معطفي قد أجد ملامحاً لهذا الرجل الذي صنعناه بأيدينا .. لكني لم
أجد سوى قلم أحمر غرستهُ في وسط وجهه ليكون أنفاً له .. قلت مازحة :
_ هذا الرجل كذاب .
فرد مروان ضاحكاً :
_ ما الذي يدعوكِ للتهكم عليه ؟
_ يقولون بأن أنوف الكذابين طويلة .. ألم تسمع بحكاية الصبي الخشبي الذي طال
أنفهُ لكثرة ما كان يكذب .
ودفعَ مروان بقبضة كفه القلم ، فانغمر في وجهه :
_ لا يهمكِ .. جعلناه من الصادقين .. أنفهُ قصير جداً .
وبدأ يفتش في جيوبه لعلهُ يجد ملامح منسية نكمل بها وجهه .. وغرسَ ( بندقتين )
مكان عينيه وعلبة كبريت استقرت فماً له في أسفل وجهه .. غمرتنا سعادة لم تعرف
لها حدود .. كُنا نضحك .. نضحك ملء أعماقنا إلى أن أخذَ التعب منا مأخذاً ..
فجلسنا تحت شجرة سنديان عالية مثقلة أغصانها بالثلوج ،ننظر من بعيد إلى مدينتنا
الصغيرة الغافية في حضن الجبل .. كنتُ مصغية له وبكل جوارحي وهو يحدثني بهدوء
عن الحرب .. الوطن .. الحب . يحدثني عن هذا الثالوث الذي يجعل حياة الناس
أساطير وأفعالهم بطولات .. واستغربت حينَ قال :
_ لو رُزقنا بصبي سأُسميه " شادي " .
_ شادي .. ولماذا شادي ؟ .. ما الذي يدعوك لاختيار هذا الاسم بالذات ؟
_ لا أدري ! يعجبني كثيراً .. يذكرني بالحرب التي أصبحت جزءً من حياتنا
وبالشتاء والثلج الذي أعشقهُ وأشياء كثيرة لا أُدرك معانيها الآن .
كان النهار يحاول أن ينحدر نحو المغيب والشمس تسحب أشعتها ، فيتكسر الضوء على
الجليد ليخلق ألواناً لم نعرف لها مُسميات بعد .. وحينَ ذكرني بموعد مغادرته في
ذلك اليوم .. غلفتني شرنقة من الحزن .. وللمرة الأولى اجتمعت في داخلي كل
الأحاسيس المتناقضة بين فرح الحب وحزن الفراق .. ودارينا دموعنا بعناقٍ طويل .
كل شيء مر بسرعة البرق .. وما كان يومنا ذاك إلاّ يوماً سرقناه من عمر الزمان
.. وفي المساء غادرنا مروان إلى الجبهة في قطار الساعة التاسعة .. نعم .. قطار
الساعة التاسعة !
ما حدثَ في
قرطاج
قبلَ أن أدخل أنظر من الخارج إلى الشرفة ، فإن كانَ
ذلك المكان شاغراً أعود أدراجي أو أذهب إلى مكانٍ آخر . وإن كان خالياً فاني
أصعد السلالم بسعادة وثقة . أجلس على كرسي وأضع حقيبتي على الكرسي الآخر ،
وكتابي ومجلتي على المنضدة . لا أدري لِمَ يحلو لي الجلوس هنا بالذات وفي كل
أشهر السنة ما عدا فصل الشتاء ، فهذهِ المنضدة تضاف إلى مناضد القاعة .. ولأني
زبونة دائمة فقد اقترحتُ على صاحب الكافيتريا أن يضعها بمحاذاة باب الشرفة من
الداخل .. وحينَ حضرتُ المرة التي بعدها وجدتُ اقتراحي منفذاً ، فشكرتهُ على
سعةِ صدره .
قاعةٌ واسعةٌ بجدران بيضاء تُزينها لوحات كبيرة مع ديكورات أنيقة جداً ..
والجميل انك لا تسمع فيها سوى الموسيقى الهادئة التي تجعلك تنسى الحصار ومآسيه
وما مر بنا من حروب وما يمر بالعالم من كوارث . في الشتاء أطلب الحليب الساخن ،
وفي الصيف عصير الليمون .. هكذا تعودت .. لا أُحب التغيير . وما أن أجلس لدقائق
حتى أجد طلبي مقدماً مع بسمة رضا وترحيب من فم النادل .
ذهبَ الشتاء ، وحل صيف آخر .. عدتُ إلى مكاني .. تواجهني السماء بكل سعتها
ولطفها . وفي إحدى المرات استغربت حين نظرتُ إلى الشرفة ، فقد وجدتُ مكاني
شاغراً .. وتكرر الشيء نفسه مرة بعد أُخرى . مَن هذا الذي احتلَ مكاني ؟!
الكافيتريا محل عام وليسَ لي أي حق أن أطلب من أيٍ كان أن يتخلى عن المكان
المحبب لي . صعدت .. قلت لنفسي : قد يغادر بعد قليل ، فجلستُ في مكانٍ آخر
وعينيّ على الشرفة أكثر مما على سطور الكتاب الذي أقرأهُ . شربت العصير وخرجت .
وفي طريق العودة إلى البيت قررت تغيير مواعيدي !
* * *
نظرتُ إلى الشرفة .. وجدتها خالية ، فأسرعت
بالصعود وجلست بعد تنهد وكأني قد عدتُ إلى وطنٍ فارقتهُ منذ سنين ! وحضرَ ذلك
المستعمر .. هل تفاجأ بوجودي ؟! وأحسستُ لحظتها بزهو النصر ، فقد حضرتُ قبله
وانشغلت بقراءة كتابي بنشوة .
أعجبتني مرونته بعدها ، لأنهُ احترمَ رغبتي واختار مكاناً آخر .. وكلما تقابلت
نظراتنا حيّت بعضنا بالابتسامة وحدها . أيكون مجيئه من أجلي . أم هي مجرد صدفة
؟! ربما هو لا يعلم بأن وجوده أينع بداخلي سعادة لا توصف !
_ أتسمحين لي أن أجلس ؟
ترددت قبل أن أقول : تفضل . وأهز رأسي بالموافقة دونَ أن أرفع نظري إليه ،
ولكني قلتها أخيراً وببرود : تفضل .
بدأ الكلام بصوتٍ خافت وببطء وكأنهُ يزن كل كلمة يلفظها :
_ المعرفة هي باب الإنسان إلى الحوار والحب !
لم أرد .. بل تعمدتُ إطالة الصمت للتفكير بجدية بما يتفوههُ هذا الإنسان . وأتى
النادل بفنجانين من القهوة .. وضع الأول أمامي والثاني أمامه ، فنظرتُ نحوه
متسائلة ، فقال :
_ القهوة مع القراءة متعة .
وقبلَ أن أرد .. أكمل :
_ برغبتي تركتُ لكِ المكان .
فأجبت بحدة :
_ وهل هو ملك لأحد ؟
_ ليسَ ملككِ أنتِ أيضاً ، فكلانا اعتاده .
لا إرادياً وضعتُ كتابي ومجلتي في حقيبتي ونهضت .. وقلت ببراءة مغلفة بالصدق :
_ ليبقَ لك إذاً .
ندمت على تصرفي بعد أن غادرت .. وكم من مرةٍ نندم !
* * *
شدني الحنين بعد فترةٍ ليستْ بالقصيرة ، فقصدتُ الكافيتريا .. وللمرة الأولى لم
أنظر إلى الشرفة ، ولم تكن نيتي التوجه نحوها .. لكني غيرتُ رأيي عندما وجدتهُ
يتخذ الركن المواجه للسلالم مُتظاهراً بتقليبِ صفحاتِ مجلةٍ أسبوعية وكأنهُ
يترقب وصولي . لم أستطع النظر إليه .. أدرت وجهي .. وأخذت الطريق نحو الشرفة .
يسرع قلبي خافقاً إذْ اكتشفتُ أن أحدهم يراقبني . جلست .. وما أن أخرجتُ كتابي
من الحقيبة سمعتهُ يقول :
_ أعتذر . لكن من الصعب أن نوضح رأينا في أي شيء بكلمات قليلة .
لم يتح لي الرد . جلس .. ومدَّ يده نحو الكتاب :
_ رائع .. تقرئين لماركيز .. وماذا ؟؟
أخذهُ من يدي ..
_ " خريف البطريرك " !
أغمضَ عينيهِ وكأنهُ يسعى إلى التقاطِ أفكارهِ .. ثم أضاف :
_ إني أقرأ كثيراً .. وبنظري السعادة مضمونة طالما في الدنيا كتب !
لم أطقْ تحّمل ما يقول ، فقلت بنبرة سخرية :
_ لهذا تقرأ _ فقط _ المجلات الأسبوعية .. الفنية !
انفجر ضاحكاً من كلامي ، وخُيلَ لي بأن _ حتى _ الذين في الشارع قد سمعوا صوت
ضحكته .
_ لماذا تضحك ؟!
_ أرقى أنواع الفكاهة هي التي تتفجر من قلبِ الموقف .
_ أية فكاهة يا أستاذ ؟!
_ أنا سعيد .. سعيد جداً .. لأني أَثرتُ انتباهكِ .
توقف .. وانتظر الإجابة .. لكني لم أفعل . وليغير الموضوع سألني :
_ وماذا أعجبكِ فيه ؟
قالها بصوتٍ هادئ ، عميق يدل على شخصيةٍ قوية . بدا لي مرهف الملامح ، ذو عينين
ضيقتين ، لامعتين . لأكن مرنة _ بعض الشيء _ وأترك العناد ، فأجبتْ :
_ سرد ماركيز في " خريف البطريرك " يكفي للإجابة على كل أسئلة الرعب التي حولنا!
_منذ أن تعرفت على الكلمات تعلمتُ كيفَ نهرب من الواقع عبر الكتاب .. والأدب
دائماً أجمل ، لكنه مخيف أكثر .. مفجع أكثر من أي خيال !
_ ماركيز لا يصف الوجع .. بل يرعبنا بوصف الجرح .. وسرده يكفي .
أسند خده على كفه الأيمن ، وراح ينظرني ملء عينيه .. ولم يعلق بكلمة واحدة ،
فأكملت :
_ وبنظري .. هي أجمل رواية قرأتها له .. وهي أقوى بكثير من رواية " مائة عام من
العزلة " رغم فوزها بجائزة نوبل !
_ لقد قرأتها منذ سنين .. لكن كلامكِ عنها شوقني لقراءتها ثانيةً . أعيريني
إياها وسأعطيكِ كتاباً رائعاً .
_ ماذا ؟
_ كتاب لبودلير .
_ وأي واحد ؟
_ " أزهار الشر " .
_ لا أُحبهُ .
_ مَنْ .. الكتاب أم الكاتب ؟؟
_ الاثنين .
فابتسم لكلامي :
_ بودلير .. أشعر شعراء فرنسا .. لا يُعجبكِ ؟!
_ هذا رأيي الشخصي .. وخاصةً " أزهار الشر " .
_ ولماذا ؟
_ لأنهُ يُمجد للرذيلة !
سكون رائع هيمنَ على جلستنا .. وبابتسامة رجاء قال :
_ تفضلي .
ولم يدعني أُعبر عن استغرابي ، فأردف :
_ كلما أُعجبتُ بامرأة أهديتها ساعتي ، كتذكار !
أخذتُها معي إلى البيت .. وضعتُها تحتَ وسادتي قبلَ أن أنام . وامتدت يدي إليها
ما أن استيقظت .. لكني لم أجدها ! ارتديت ملابسي بسرعة .. وذهبتُ إلى هناك ..
استغربتْ .. لم أجد كافيتريا (( القرطاج )) بل محلاً لبيع القرطاسية !!
لحن
العاصفة
متى أكتبُ عن العاصفة التي داهمتني .. بعدَ أن تنتهي ؟ إذاً .. أيةُ حقيقة وأية
معاناة ستبقى منها ! مازالت ريحها تصفعني .. تؤلمني .. تذبحني .. ومعَ هذا
سأكتبها .. بألمي ، بدمعي ، بحروفٍ لم تنتهِ !
بنيةٍ بريئة طرقتُ بابه وبالنيةِ نفسها أظنهُ فتحَ لي .. بهذا الهدوء بدأت
العاصفة تجتاحني .. ولم تُثر حينها غباراً .. بل حباً وعطاءً .
أعطيتها إياه مع باقةٍ من الكلمات الرقيقة .. أعطيتها دونَ أن أطمع حتى بكلمةِ
شكرٍ ، فعدَ تصرفي هذا في غاية الذوق والنبل ، فقابلهُ بردٍ أقوى .. فبدل السطر
الوحيد الذي كتبتهُ له دوّنَ لي عشرة على كتابهِ وأهداني إياه معَ رقم هاتف
مدون في الأسفل .
كانت ليلة رأس السنة .. يومها قلبتُ مئات البطاقات لأختار الأنسب .. وأرسلتها
له .. وكانَ كريماً مرة أُخرى فقابلني ببطاقةٍ أجمل وكلمات تهنئة أعذب من
كلماتي .. بدت كقصيدةِ شعر .. كمياهِ جدول . أعدتُ القراءة مرات عدة وفي كل
مرةٍ كنتُ أرى فيها شيئاً جديداً ومعنى آخر .. تحترق روحي مع كلماته .. فأحسست
انهُ يناديني دون كلام . اتصلتُ به لأشكره .. أتاني صوته كحلمٍ أبعد ما يكون عن
التصديق .. تحدثنا معاً بشوقٍ وودٍ حديثاً سلساً ، هادئاً ، مثيراً .. وكأنها
ليست المرة الأولى .
لم أنم ليلتها .. تذكرتُ صديقتي وهي تقول : " حينَ أُقرر النوم ، ما أن أضع
رأسي على الوسادة حتى أغط في نومٍ عميق " . كيفَ يستطيعون ذلك ؟ هل النوم عندهم
جارية تؤمر .. فتأتي ؟ بحار من الزمن انسكبت من عينيّ .. شعرت بأني لو لم
أسكبها لأغرقتني . استهوينا اللعبة .. وبدأنا نتراسل .. رسائلنا عادية السطور ،
لكنها كانت كفيلة بأن توقد النار في دواخلنا . استطاع أن يسحبني إلى عالمه
بثقافته وعقله واتزانه وأخلاقه .. والمرأة عموماً ، تعشق الرجل الجريء الذي
يتصرف بكبرياء وثقة .
الحب أسمى عاطفة لدى الإنسان وأتصورهُ أكبر وأعظم من كل الكلمات التي تُقال فيه
.. فهو نبع عذب يُفجر في قلوبنا جداول الحياة .. بدأتُ لا أشعر بالوجود إلاّ من
خلاله .. كنتُ أبحثُ _ منذ زمن _ عن ذاك الشيء الذي سأعثر عليه في مستقبلٍ لم
أكن أدري متى سيأتي .. وها قد تجسد ما أتمناه .. إذاً .. هي دعوة للحب .. لكن ،
هل هو الشاطئ الذي أقصد ؟
أعلم بأن ما أُريدهُ محاط بكومةٍ من الأشواك .. ومع هذا مددتُ يدي إلى الشيء
الذي أُريد !
بصوتٍ هادئ وأسلوبٍ رصين رحبَ بي .. فجلست .. قرأتُ في وجههِ لهفة الانتظار ..
هناك التماعة حزن في عينيه لها بريق شفاف تمنحهُ جاذبية من نوعٍ خاص .. يتلون
صوته بالشوق والإعجاب .. فضلتُ الصمت في البداية وتركتُ المشاعر والأحاسيس كي
تترجم ما نعانيه وتعكس ما في القلوب .. صوته الهادئ واشادتهُ الرقيقة بي
وعباراته المنتقاة بدقة .. حتى خُيل لي بأنَ الدنيا كرة بينَ يديه !
عيناه الرماديتان تنظران إليّ بتعبٍ عميق وفرحٍ بريء .. ووجدتهُ أكبر مني سناً
.. وبكثير .. وأوفر تجربة .. وإلى جانبه كنتُ أجدُ نفسي زنبقة تحاول أن ترفع
عنقها كي تصل قامته المديدة.
صورة أول لقاء تترسخ في الذاكرة بصورة دقيقة .. نصف ساعة أو أكثر وأنا جالسة في
غرفته وأمام مكتبه نتحدث .. ولو سألوني ماذا تحوي هذهِ الغرفة ؟ لَما عرفتُ
الجواب .. لأني كنتُ ساهية عن كل شيء !
الحب علت أمواجه ، اكتسحت سدود مقاومتي كلها .. حب ملأ روحي رضىً وأماناً
وسمواً .. إنسان وجدتُ فيه أحلامي كلها .. فيه فيض من حنان ورِقة .. ولم يكن
صوت الحب يقول لي ذلك .. بل كل مَنْ عرفهُ يرون فيه مثلما رأيت !
لقد لمستُ جمرات النار .. ومَن يلمس الجمرات يكتوي بها .. معهُ أصبحتُ مشتاقة
لِما لا يأتي .. ومعهُ بدأتُ أنتظر ما لا يُنتظر .. ففي عينيه يسكن ألق حزين ..
ويبدو حزنه جزء من تكوينه أضافَ لشخصيتهِ عمقاً ووقاراً .. وكنتُ أشعر بأنَ هذا
الحزن يتبدد كلما التقينا .. هل هو وجودي يفعل به كل هذا ؟!
الرجل لا ينال من المرأة إلاّ ما تسمح لهُ هي بهِ .. أحببتهُ بكل عواطفي ،
وأحبني بكل جوارحهِ إلاّ أن علاقتي معهُ لم تتجاوز الورقة وخط الهاتف ..
ولقاءاتنا غالباً ما تكون بالصدفة وأمام الناس .
أعرف انهُ من الصعب أن نجتمع ولو عملنا المستحيل .. فكل شيء يؤكد فراقنا ..
بيننا فصل مليء بالأمطار والرعود والبرد .
هذهِ الحقيقة كانت تتوضح أمام عينيّ يوماً بعد آخر .. حاولتُ أن أقطع آخر أوصال
هذهِ العلاقة أو أن أُبددها إلى صداقة .. ولكن هل أستطيع ؟ فمن السهولة جداً أن
تتحول الصداقة إلى حب ، ومن الصعوبة جداً أن يتحول الحب إلى صداقة .
وكانَ لابد لي من تكسير هذهِ الدائرة المفرغة بيننا والتوجه إلى عمق مشكلتنا
ومعرفة مكاننا منها بالضبط .. أنظر إلى عينيه .. أستقرئهما .. وهذهِ المرة لم
أجد أي معنى .. صمت .. وصمتهُ قال : الأمر انتهى !
لمسات الحزن بدأت تعتصر القلب .. انهُ لم يحاول أن يفعل أي شيء من أجلي .. أي
شيء ! فما أسهل أن يزعم المرء انهُ محب .. وما أصعب أن يكون !! في تلك اللحظة
انهدم صرح الحب تجاهه .. هذا الصرح الذي أقمتهُ أنا وسعيت إلى بنائه لبنة ..
لبنة !
وفراقنا .. كانَ هدية قدمناها مجاناً لكل مَن راهنَ على فشلنا !
صندوق الدنيا
العالم تجاوز الكومبيوتر وعصر الانترنيت ومازالت بعض قُرانا بدائية التعامل مع
أطفالها .. فَدُماهم مازالت من خرق .. ومازلتُ أجوب الطرقات لأُسلي أطفال الوطن
!
منذ خمسين سنة وأنا أعمل في هذهِ المهنة ، وقد تجاوزتُ السبعين . أصبح عملي
متعباً لرجلٍ في مثل سني ، لكن حبي لعملي وللأطفال يهوِّن تعبي كله .. فما أروع
أن نتحدث لأُناس في عملٍ نحبه !
كل متاعي من الحياة كوخ صغير ومسرح خشبي أحملهُ على ظهري في الطرقات .. أنصبُ
مسرحي أينما أُريد .. وتكفي دقائق قليلة ليجتمع الأطفال حوله .. وأبدأ من الخلف
بتحريك الدمى التي أصنعها بنفسي .. والحكايا .. هي بسيطة لمعارك وقصص أنا
مؤلفها .. وكثيراً .. كثيراً ما أجدُ أمام مسرحي حتى الكبار !
الشتاء طرق الأبواب بسرعة هذهِ السنة ، والأطفال لا يخرجون إلاّ نادراً ،
والطرقات مليئة بالأوحال والبرد .. آخٍ من برد هذهِ السنة ينخر العظام !
السماء في الخارج تمطر بشدّة والعاصفة تعربد . جلستُ قابعاً في كوخي أمام
مدفأتي القديمة الباردة ، فالنار قد خبت .. وحطبي قد نفد . الصقيع يخترق عظامي
بسهام الألم ، فالبرد موجع .. أحشو غليوني ببقايا تبغٍ لَعل الدخان يدفئني ..
أوقدهُ وأجذبُ منه نفساً عميقاً .. وكالحسرة أُخرج الدخان من فمي !
أحضرتُ إبريق الشاي ، ووضعتهُ على المدفأة الباردة .. نظرتُ إلى صندوق الدمى ..
تراءوا لي .. وأولهم قائدهم بجبروتهِ .. قبلَ أيام استاء الأطفال منه .. كانَ
سفاحاً .. كم قتل ؟! لقد أثار ذعرهم .. إننا نفعل كل هذا ، نصنع الدمى ونؤلف
الحكايا لنسعد الأطفال لا لنحزنهم .. سأحرقهُ .. فخوف الأطفال أقسى من أن
يتحملهُ ضمير إنسان !
سحبتهُ ووضعتهُ في المدفأة .. احترق بسرعة .. كانَ قائداً من خرق ! .. باحتراقه
تصاعدت ألسنة النار .. التمعتْ أمام وجهي .. أدفأتني قليلاً .. عدتُ إلى
الصندوق وخاطبتهم :
_ قوموا فأنتم أحرار .. ما عدتم جنوداً .. لقد انتهت الحرب ، فقد مات القائد ..
انتهت الجولة .. قلنا له ( كش ملك ) ! بفضلي أصبحتم أسياداً .. أُمراء وجنوداً
ولكم أسماء مهيبة . لكنني قررت _ قلتها بعظمة _ أن أحرقكم ! سأصنع لكم هذهِ
المرة قائداً رحيماً ، عادلاً
_ أضحكُ في سري .. هل أخدع الحياة أم أخدع نفسي _ فقد يوجد قائدٌ رحيم على وجه
الأرض ! ستتحولون إلى زُراع وعمال .. وسنبدأ بحكايا دافئة ، رومانسية ، حالمة
لبلدٍ حالم .
رميتُ بالجنود واحداً تلو الآخر .. ألسنة النار تتصاعد أكثر .. وبدأت رائحة
الشاي تغزو رأسي .. رائحة الشاي أعذب وأطيب من مذاقهِ .. صببتُ لي قدحاً ، إن
الشاي والتبغ ثنائي لا يمكن الاستغناء عنهما .. عمّرتُ غليوني ثانيةً وسحبتُ
منه نفساً طويلاً ونفثتُ دخانه ببطء لأتأمل حلقات السحب المتكونة والصاعدة إلى
فوق !
انبثق من الظلام صوت موسيقا مجسم .. أصغي إليه بصمت .. وامتلأ المكان فجأةً
بفراشاتٍ صغيرة لامعة تحوم حولي بأجنحةٍ ذهبية مضيئة تتراقص في حلقاتٍ دائرية
وكأنها في مهرجانٍ سحري .. أُراقبها وأصغي إليها بكل إحساسي الطفولي نحوها ..
أصغي إلى فردوسي ! ونمتُ مرهقاً .. وعندما استيقظت في الصباح وجدتُ كل شيء
هادئاً وبارداً !
رحل الشتاء وهو يلملم أيامه بكل ما فيها من برد وأمطار وأوحال . صنعتُ دمىً
جديدة .. جعلتُ منهم عمالاً ومزارعين وصبايا وشباباً .. وصبغتُ مسرحي بألوان
منشرحة ، وألفتُ حكايا جديدة لها حسّ إنساني !
تأخذني الدروب الترابية عبر حقول تحيط بدربي الضيق .. بيوت صغيرة سقوفها
قرميدية .. دجاجات وإوزات تتسابق معي وكأنها تدلني على الطريق نحو قريتهم .
نصبتُ مسرحي ، وتدفق الأطفال من كل صوب نحوي وجلسوا متراصفين .. وبدأ العرض ..
كانت الحكاية ( قصة حب ) !
في السابق كان الصمت يسود الجميع ، ويُزرع الخوف في تلك الوجوه البريئة وهم
يتابعون الأحداث .. لكن في هذهِ المرة لحظتُ شيئاً غريباً .. نبرة المياعة
والتهاون سادت جمهوري الصغير .. الاستهزاء ، والتصفير أسمعهُ بشكلٍ واضح ، سادَ
الهرج والمرج بينهم ، وشمل حتى الفتيات الصغيرات اللواتي تجذبهن مثل هذهِ
الحكايا !
عدتُ إلى كوخي في المساء مُستاءً ، حزيناً ، صنعتُ دميةً جديدةً وملأتها خرقاً
كثيرة لتكون أكثر قوةً وصلابةً .. وألبستُها ملابس ( خاكية ) ! .. تأملتُها
بإمعان : - تبدو قائداً جسوراً . ووضعتُ في يدها سوطاً غليظاً وطويلاً .
توقفتُ برهة ، ونظرتُ من خلال النافذة نحو القرية :
_ صنعتُ لكم قائداً أكثر شراً .. فهذا يكفي لأن تكونوا كلكم هادئين مطيعين !
( أيلول / 1999 )
بئر الصمت
الخطوبة .. دليل على اكمال الحب ! ارتبطنا بعد حبٍ عاصف .. وبدأنا بالخطوات
الأولى لتهيئة بيت الزوجية . كنتُ سعيدة وأنا أُريه بعض الأشياء التي اقتنيتها
منذ زمن ، وحتى قبل أن ألتقيه .. وتفاجأ بها حين رآها :
_ أتحبين الأطفال إلى هذا الحد ؟
فأجبت بابتسامة مشاكسة :
_ ان المرأة تتزوج الرجل لتأخذ منهُ طفلاً .
_ وماذا لو لم نُرزق ؟!
_ أرجوك .. لا تَقُلها ، فما قيمة المرأة بدون امومة .
_ القدر في بعض الأحيان يلعب دوره .
_ إذاً ، حينها سيُحكم عليّ بالإعدام .
فجأةً تحول الوجه من نيسان إلى تشرين ، واكتسى لون الغروب لحن كلماته :
_ الإعدام .. لا يُعقل !
_ بل أكثر .. فأنا أُفضل أن أموت على أن لا أكون أُماً .
بعدها لحظتُ بعض التغيير عليه ، لكني لم أعرهُ أهميةً .. قد يكون مشغولاً ..
زياراتهُ لنا قَلَتْ .. ولم يعد يتحدث معي كالسابق ، بل تحولت كل عبارات الحب
العذبة إلى عبارات مجاملة . وحينَ سألتهُ .. علتْ شفتاه ابتسامة تنم عن حزنٍ
واضح :
_ صَدقي كل شيء في العالم إلاّ " أن لا أحبك " !
اتخذنا طريقنا نحو المتنزه .. يمتد أمامنا بساط من العشب الأخضر .. بدتْ الشمس
وكأنها زورق يعوم في مياه زرقاء هادئة .. سرباً من الفراشات يقطع فضاء طريقنا
يغمرني بموجة مرح .. أنظر إليه .. يبدو لي شاحباً .. أسألهُ : _ ما بكْ ؟ لم
يتفوه بشيء .. وكتم حسرتهُ وهو يتبعني بنظرته .
كانَ قليل الكلام ، من النوع الذي لا يكشف عما في نفسهِ بسهولة :
_ أتعرف بأنكَ قد تغيرت كثيراً .. وأني لم أعد أرى منك سوى عينين مليئتين
بالحيرة والقلق .
وبدأ يتحدث في تحفظ يشوبه الود .. وختم حديثه بجملةٍ جعلتني أشعر بأني أسقط في
الفراغ .
_ ولابد أن نفترق .
كنتُ واثقة بأنهُ يحبني وبأني الأقرب إليه من كل شيء في دنياه ، فما الذي يدعوه
لقول ذلك .. لابد انهُ يمزح !
جلسنا .. بأنامل مرتجفة أشعلَ سيكارة .. امتصَ دخانها بعمق .. أسندَ رأسه
براحتيه جاعلاً من ذراعيه وتدين مستقيمين يرتكز مرفقاهما على الطاولة . أحسستُ
بوخزٍ حاد في أعماقي غمرني ببحرٍ من الأسى .. لم أعد أحتمل .. انهار جليد الغضب
من قلبي :
_ ألا يوجد سبب ؟ قلهُ .. وسأتقبلهُ بشجاعة ؟
بدا في عينيه ذبول مثير :
_ ليسَ الآن .. لا أستطيع .. في يومٍ ما سأُخبركِ .
نظرتُ إليه نظرة متشككة :
_ أهناك امرأة أُخرى ؟
تأوه .. وأجابت عيناه بالنفي قبلَ أن ينطق :
_ صدقيني .. بكِ السعادة عانقتني ، وبكِ ستفارقني !
اختنقت الدموع في الحلق .. وفهمت ان عينيه لم تَقُلْ كل شيء .. ولابد أن يكون
هناك أمر آخر !
كشخصٍ ثالث جثمَ الصمت بيننا .. كان بإمكاني سماع دقات قلبي بوضوح .. لم أستطع
إيقاف نزف الدموع . نظرتُ إلى السماء لأتيه فيها .. رميتُ نفسي في هذا البحر
الأزرق المتلألئ .. ربما لأَغرق !
الحزن شاشة الوجود في حياتنا .. هل نستنشقهُ مع الهواء ؟! .. ومتى ما اجتمع مع
الحب والألم ، اقتلع الحياة من جذورها .. ولا يُبقي منها إلاّ حفرة خاوية لا
رجاء منها !
عجلة الأيام دارت .. ومضت بسرعة مذهلة . دفنتهُ بخيالي ، وبنيتُ لهُ صرحاً ذكرى
عنه. نسيتُ ملامحهُ .. أو هكذا بدا لي ، فحبهُ وشم عميق لم أستطع رغم كل سنين
البعاد أن أمحوه عن جسد أيامي . كانَ جرحي .. والجرح ليسَ باستطاعتنا أن ننساه
بسرعة ، أدنى ذكرى تعيد النزف من جديد .. وقصتي معه لم تورثني سوى نظرة الحزن
في عينيّ وندبة عميقة في القلب !
هذا الحب العقيم جعلني أنطوي على نفسي ، فأكملتُ الدراسات العليا .. وربما هذا
الشيء حفظني من أي زواجٍ تافه . وبالدراسة انتظرت النصيب !
وجاء النصيب .. رَجُلاً بكل معنى الكلمة .. احتواني بحبهِ واخلاصهِ .. عشتُ معه
دفء البيت الذي كنتُ أرجوه وشعور الألفة التي تمنيتها .. ورُزقنا بصبي جميل
أسميناه " بيار " !
أغرقتُ نفسي في بحر امومتي .. فالأمومة عاطفة سامية ، عظيمة . ضحيتُ من أجل
بيار بشهادتي وعملي كي لا أُفارقهُ لحظة واحدة .. عدتُ معهُ طفلة صغيرة ..
آخذهُ معي أينما ذهبت ، فقد أصبحنا أصدقاء .
اضطربت عندما وجدتهُ فجأةً أمامي في السوق .. سلم عليّ .. لم أستطع الرد ! نظر
إلى بيار نظرة حنونة :
_ ابنكِ ؟
أجبت بصعوبة : _ نعم .
انحنى إليهِ .. داعبَ شعره وخديه بيديه الكبيرتين .. قبلهُ في جبينه .. واستعدل
بقامتهِ نحوي .. وبصوتٍ خافتٍ حزين :
_ أتعرفين لِمَ ابتعدتُ عنكِ ؟
صمت لحظة .. التفتُ إليهِ .. الإجهاد بدا واضحاً على ملامحه :
_ لم يكن بمقدوري أن أمنحكِ طفلاً في يومٍ ما !
ومضى .. !
أضيفت في
09/04/2005 / خاص القصة السورية
/ الكاتبة
المفتاح الذهبي
لم أسعد بشيء مثلَ
سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي . نادتني في غرفتها .. وأخرجت
من صندوقها القديم ، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير .. كانت رائعة
، فنطقت مندهشة :
_ الله .. ما أجملها !
_ استعمليها .. كتعويذة .
طلبت مني أن أستدير .. طوقت عنقي بها ، فركضت نحو المرآة .. وضعتُ يدي على
المفتاح الذهبي لأتحسس جمالهُ على صدري .. قلت مُمازحة :
_ هل بإمكانهِ أن يفتح شيئاً ؟!
_ ربما ! فقد تحتاجينهُ يوماً.
* * *
سنون مضت على تخرجي . جدتي ماتت ، ولحقها أبي . وبعدها تزوجتُ من رَجلٍ يحبني
وأُحبه .. جمعنا تخصصنا بادئ الأمر . وبينما كُنا منهمكين بالعمل ذات صباح ..
وجدتهُ يحدق في صدري .. استغربت تصرفهُ ، لأنهُ من النوع الملتزم .. لم يفعلها
لا معي ولا مع غيري من الزميلات ، فقلت :
_ ماذا هناك ؟!
رد بنبرة متعجبة :
_ المفتاح !
_ أي مفتاح ؟
_ منذ أول يوم رأيتكِ فيه ورأيتُ مفتاحكِ هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك .
ضحكتُ من كلامهِ وتذكرتُ ممازحتي مع جدتي ، فها هو يفتح لي قلباً ظننتهُ مغلقاً
! لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي ، فمن الطبيعي ،
والطبيعي جداً _ ويحصل كثيراً ومعَ غيري أيضاً _ أن أعمل في مكانٍ ما ويحبني
زميلي ويقرر الارتباط بي .. وللزمالة _ دوماً _ الدور الكبير في جمع اثنين تحت
سقفٍ واحد !
جمعنا النصيب رغم اننا كُنا طرفيّ نقيض .. غربٌ وشرق ، شمالٌ وجنوب ، موجـبٌ
وسالب .. نختلف في آرائنا ومبادئنا وأفكارنا ، ونتفق في محبتنا واحترامنا
ووفائنا لبعضنا . وفي كثير من الأحيان .. إن أردتُ شيئاً معيناً فأني أقول عكس
ما أُريد لأني متأكدة بأنهُ سيناقضني بالرأي ، وهذا التناقض ما كنتُ أُريدهُ
بالأصل !
لو نظرنا إلى أي نهر سنجد أنَ الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى ، وبكل شيء
.. هكذا كُنا أنا وهو .. ضفتان مختلفتان ، لكن .. لنهرٍ واحد !
* * *
أرى من بعيد
قصراً كبيراً ذا أسوارٍ عالية .. أسير نحوه انهُ أشبه بقصور بغداد في ( ألف
ليلةٍ وليلة ) . حينَ وصلت ، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة .. وحينَ وصلتها
وجدتها مغلقة. فتشت بنظري كل جوانبها ، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية
اليسرى ، وفي هذا الباب ثقبٌ صغير . تذكرت كلام جدتي : " ربما تحتاجينهُ يوماً
! " .
فتحتُ سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعتهُ في ثقب الباب الصغير .. دخل ..
أدرتهُ يميناً .. وفتح .. دفعتهُ ، فانفتحت البوابة الكبيرة .. ودخلت .
امتدت أمام ناظري حدائق غَناء متناسقة بألوانها وأشجارها وثمارها .. أشبه
بحدائق ( قصر فرساي ) . مشيت .. مشيت ودون أي خوف أو رهبةٍ من المكان . دروب
تقودني إلى دروب أجمل . كنتُ أسير وحدي .. لا يجرح صمت المكان سوى تغريد
البلابل وزقزقة العصافير وهديل الحمام .
وتظهر القبب الحجرية والسقوف المزخرفة بالقرميد الأخضر والأحمر . تهب نسمة
خفيفة ، فأسمع حفيف أوراق الشجر . أُتابع الدرب لأصعد ممراً مرصوفاً بالأحجار
الملساء .. أمشي بهدوء وحذر ، مثل مَنْ تسير حافية .. وتستقبلني ساحة حجرية
يحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها .. في وسطها نافورة تنثر دموعها
حكايا زمنٍ مضى ! تعبت قليلاً ، فجلست على مقعدٍ حجري تحت ظلال شجرة البنفسج
التي تبعث بشذاً يعبق المكان بطيبه .. أتنفس بعمق ليتغلغل إلى أعماق الروح .
أضع يدي على المفتاح وأتذكرهُ .. يا ليتك معي الآن . قلت مع نفسي بصمت : أينَ
أنت يا .. .. .. ، وقبل أن أهمس باسمهِ غمرتني موجة فرحٍ وأمان وأنا ألمحهُ
قادماً نحوي . واستغربت وجوده . ولم يسألني ما الذي أتى بي إلى هنا . مضينا
معاً نتجول في القصر الخالي . لا شيء سوى صوت السكينة وجدران صامتة تخفي وراءها
حكايا صعب علينا أن نفهمها ! وجدنا الأبواب مفتوحة ، فدخلناها .. قاعة تقودنا
إلى أُخرى .. ثرياتها عناقيد ضوءٍ متدلية .. تُزين جدرانها العالية لوحات فنية
كبيرة وثمينة .. رأيتُ الموناليزا لدافنشي وبورتريه لسلفادور دالي وتحتها
بالضبط لوحة لفائق حسن . أدهشني ذلك الأثاث الفاخر وتلك الشمعدانات الضخمة
المضيئة .. وتساءلت : ليسَ من أحدٍ هنا . إذنْ .. مَنْ الذي أوقد شموعها؟!
القصر الصامت يتحدث عن حياة عامرة ، مترفة كانت هنا ! وكأنهُ كانَ مسكوناً
وغادره أهله قبل أن نصل بثوان !
ومثل ظل يظهر إنساناً .. نمشي نحوه .. يخرج من الباب .. نتبعه .. لا أحد هناك !
استقبلنا موكباً من الفراشات الملونة .. جريت نحو أكبرها غير مصدقة وقلت : ياه
.. ما أجملها . ولم أنتبه للغصن النافر من شجرة التفاح ، فاصطدمت به .. ولم
أنتبه بأن السلسلة انقطعت من عنقي وانجرحت يدي . أخرج منديلاً من جيبه ليربط به
معصمي .. وحين رأيتُ منظر الدم شعرت بالإغماء .
أسمعهُ يناديني :
_ شيلان .. شيلان .
لكني لا أقوى على الرد .. وسمعتهُ مرة أُخرى :
_ شيلان .. شيلان .
فتحتُ عينيّ بصعوبة .. وجدتهُ أمامي :
_ ما بكِ .. استيقظي .. تأخرنا على الدوام .
أينَ أنا .. هل كانَ حُلماً ما رأيت ؟؟ تحسست السلسلة في رقبتي .. لم أجدها ..
وانتبهت بأن معصمي مربوط بمنديلٍ أبيض . ناديته ، فأجاب من المطبخ :
_ إني أُهيئ الفطور .
نهضت من السرير وقصدتهُ مسرعة .. رفعتُ يدي إلى جيبِ قميصهِ .. قال باستغراب :
_ ما بها يدكِ ؟ ومتى ربطتها بمنديلي ؟ كم بحثتُ عنه !
لم أرد .. أدخلتُ أصابعي في جيب القميص الذي غسلتهُ وكويتهُ بالأمس قبل أن أنام
.. تلمستْ رؤوس أناملي السلسلة .. سحبتها .. كلانا ينظر إليها بذهول .. واندهشت
أنا ، فلم يكن معها المفتاح !
أضيفت في 06/04/2005 / خاص القصة السورية / الكاتبة
الشاهد الوحيد
بأقدامي أحرقت المسافات الطويلة .. ووصلت .. تقترب الصورة .. تتوضح معالمها
أكثر فتندفع أقدامي في جريٍ سريع .. تبدو مدينتي أمامي على البعد كقلعة قديمة
منخورة بالقنابل ..شعرتُ بقلبي يغوص في صدري وينعصر بشدة .. فالموت الساكن قد
غطى المدينة .. والدمار قد أكل من كل أطرافها وشوارعها ومنازلها .. الجو هنا
معبق برائحة الحرب .. الرصاص الفارغ يملأ المكان .. يرسم خرائط غريبة على الأرض
.. تبدو مدينة هامدة حزينة مغسولة بالحريق والدمار .. الصمت يغطي أُفقها الواسع
.. كوجهِ طفلٍ سرقوا منهُ الأمل !
عندما وطئت قدماي باب منزلي .. داهمني فيض من الألم والحسرة لما رأيتُ بيتي
بهذا الشكل .. أحسستُ بحرقةٍ تكوي دواخلي .. ذرفتُ دموعاً صامتة .. آه .. لشدّ
ما تمنيتُ أن أتحول إلى ذرةٍ من ذرات الهواء حولي .
الحديقة جافة وقد تشققت أرضيتها والأشجار على وشك الموت .. لم يبقَ منها سوى
الرمق الأخير من الحياة .. فتحتُ صنابير المياه كلها باتجاه الحديقة لترتوي بعد
ذلك العطش .. وأخذت عيوني تتفحص جدران بيتي .. امتلأني حزنٌ موجع .. فالرصاص قد
نخرَ الجدران بمختلف القذائف .. الأبواب ما زالت مفتوحة كما تركناها .. أدخل
إلى الصالة .. التفت حولي .. أتفقد المكان شبراً .. شبراً ..لم يبقَ منهُ شيء
.. كل ما فيه قد التهمتهُ الحرب .. وما بقي منه .. قد نُهب .. مَن نهبهُ ؟ ..
لا أدري ! .. ويشهد لذلك آثار أقدام على الأرض .. تركَ علامات حزينة وباهتة ..
بيوت العناكب غطت كل الزوايا والغبار كوّنَ طبقة على الأشياء الباقية المبعثرة
هنا وهناك .
أقف أمام النافذة .. أتطلع نحو الحديقة .. ذوائب الأشجار تتحرك وأسأل : - هل
سينقذها الماء ؟ .. لا يهم ! حتى وإن ماتت سأزرع غيرها من جديد .. أرفع نظري
إلى السماء .. العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء .. تنزرع عيناي هناك .. لحظات
وكأنها سنين طويلة .. الصور تتزاحم .. ففي تلكَ الليلة التي كانت بلا تاريخ
أمطرت السماء بغزارة .. لم يكن يمطر فيها سوى القنابل والرصاص والبارود ..
ليلتها .. أفقنا على أصوات القذائف التي تهز الأرض .. ضياء الرصاص يلهب سماء
المدينة يغطيها بسماءٍ اخرى من الدخان .. دوي الانفجارات وعويل صفارات الإنذار
يشرخ صمت الليل .. الوقت يمضي وقصف الطائرات مستمر لا يعطي للروح بعض الأمان .
انفجار قريب يدوي في الوجود .. إنهُ قريبٌ جداً – قلت في نفسي – ياترى يانصيب
الدمار أي البيوت اختار هذهِ المرة ؟ .. ففي الحرب .. يختار الموت ضحاياه
بالصدفة !
ارتسم على الوجوه الهلع .. إنهُ فزع الحرب .. كل ما استطعنا أن نفعلهُ هو
انتزاع الأرواح من براثن الموت .. لم نفكر بأي شيء آخر .. ففي مثل تلك اللحظات
يتحول التفكير إلى شظايا.. ومضينا ليلتها نحو مدناً اخرى أكثر أماناً .
القذائف تتهاوى علينا كالمطر .. جموع الناس تفر بأرواحها فقط .. بكاء الأطفال
قد اختلط بدعاء المسنين ونفير الإنذار .. وحده الصراخ يتفجر في أرجاء المكان ..
ولم يكن لمدينتنا ذنب سوى انها في الفوهة .. قدرها أن تكون مدينة على الحدود !
توقفت الحرب وحطت أوزارها ، فالحرب مهما طالت ..لا بد أن تنتهي في يومٍ ما ..
وأول ما فكرتُ فيه بعدها .. بيتي .. نعم بيتي !
تتلاشى الصور كلها كومضةِ ضوء .. مازالت العصافير تمرح على أسلاك الكهرباء ..
وذوائب الأشجار تتحرك .. أبتعد عن النافذة .. أدخل غرفة مكتبي .. لا شيء هناك
.. حتى مكتبتي سرقوها ! .. وانتبهت فجأةً .. هناك شيء ما " لوحة الموناليزا "
لم يأخذوها ! .. أتعجب في سري .. ألم يُغرِ لغز ابتسامتها أحد ؟ .. إنها ساقطة
على وجهها .. أندفع نحوها .. أرفعها بهدوء .. يا إلهي ..لم تتأذَ ! .. الفرحة
تسري في شعاب الروح .. إنها أجمل ما أملك ! .. رُحماكِ سيدتي .. ألم تتحملي
هذهِ المأساة .. فسقطتِ ؟! .. الموناليزا .. الشاهد الوحيد على ما جرى !
- مازلتِ تبتسمين سيدتي ؟ .. رأيتِ كل ذلك وما زلتِ تبتسمين ؟ .. لو عَلِمَ
دافنشي بأنكِ سَتشهدي هذا كله .. لَما رسمكِ ! .. أي غموض يُفسر ابتسامتكِ ..
وأي لغزٍ يحويها ؟؟ .. ربما كانت ابتسامة سخرية !
مسحتُ عنها الغبار .. وثبتُها في مكانها .. لتبقى الشاهد الوحيد !
عنقود الكهرمان
رنّ الجرس في ساعةٍ متأخرة .. رنينه يشرخ هدوء الليل .. أصمت بإصغاء .. يرن
مرةً اخرى .. قلتُ لنفسي : مَن سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة .. تحركتُ
بتمهل ، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل .. ويرن للمرة الثالثة .. أُوقظ زوجي
الراقد بجانبي :
_ خالد .. خالد .. أحدهم يدق جرس الدار .
_ ليسَ هناك أحد .. نامي !
غطى رأسهُ وعاد إلى نومهِ . ويرن من جديد .. خرجتُ من الغرفة .. أنرتُ ضوء
الصالة .. فمنطقتنا أمينة ، ولا داعي لأي خوف .. وفتحتُ الباب .. امرأة ورجلان
.. المرأة سلمت عليَّ أولاً وبعدها الرجلان .. وبادرت السيدة :
_ هل تسمحين أن ندخل ؟
خجلتُ أن أقول لها : " مَن أنتم " وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى
لأسمحَ لهم بالدخول ، فقد يكونون أقارب زوجي !
ودخلت هي قبلهم .. وبعدها الرجل الأول .. انحنى نحوي بطريقةٍ وديةٍ ، فحركتُ له
رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيتهِ الجميلة .. أما الثاني .. مد كفه لمصافحتي
.. وترددتُ بعض الشيء قبلَ أن أمدّ له كفي .
جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس .. فقلتُ
بكرم : أهلاً وسهلاً.
وبعد تردد لم أستطع اخفاؤه أو تبريره :
_ لأوقظ لكم خالداً .
فردت السيدة بطيبة :
_ لا تقلقيه ، فنحن زواركِ .
بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها .. وشعرتُ بنوع من الخوف .. إذن ،
هم ليسوا أقاربه كما ظننت .. ياربي .. ماذا يريدون مني في هذا الليل ؟ .. ومَن
يكونون ؟ .. فأنا لم أفعل شيئاً !
نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل .. فدعتني السيدة للجلوس ! بدأت أنفاسي
تضيق وأحسستُ بانقباضٍ مرعب .. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها .. وربما توقف
القلب عن النبض في تلك اللحظة .. وقفتُ مدهوشة وكأني نسيتُ كل شيء ! عيناها
تلمع ببريقٍ أحمر .. شعرتْ بخوفي فقالت بهدوء :
_ نعلم انهُ وقتٌ متأخر ، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار .
الخوف تشعبَ إلى كل جسمي بقشعريرة برد .. وبومضةٍ رأيتُ قافلة من صور الجان
تعبر مخيلتي ، لكن تبادر إلى ذهني في الحال – كما قرأنا عنهم – ان الجن ليسوا
كالبشر .. نظرتُ إلى الرجلين .. عيناهما تلمع بنفس البريق .. تمالكتُ نفسي بعض
الشيء ورديت بصوت خافت يكاد يسمع :
_ بماذا أستطيع أن أخدمكم ؟
رفعَ إليّ – الرجل الذي حياني – وجهه .. وقال :
_ بالحقيقة نحنُ قصدناكِ في خدمة .. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم ، فقد جلبنا
معنا امرأة لكي تطمئني .. ولكي تسمحي لنا بالدخول .
لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ .. فقاطعته:
_ اسمح لي .. مَن أنتم ؟ .. وماذا تريدون مني ؟
نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلس بجانبي :
_ اطمئني ، فقد قصدناكِ بخير .
لم أجب مؤثرةً الصمت .. وأكمل بعدما شعرَ بأنهُ استطاع أن يُهدئني :
_ سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة "
اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط ..
والثاني لم يُكمل .. لماذا ؟
_ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال ؟
_ نحنُ لسنا من الأرض .
حينَ قالها أردتُ أن أصرخ . دقات قلبي تزداد وترتفع .. تقرع في رأسي كناقوسِ
كنيسةٍ قديمة .. ترتجف يداي .. ويجف فمي .
انصرفت عيناه عني بعدَ أن كان يُحدق فيّ ملياً .. اقتربت السيدة أكثر مني ..
وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي .. ووضعت يدها على كتفي :
_ أرجوكِ .. اهدئي .. واطمئني .. لسنا هنا لنضركِ .. بل بالعكس .
فجاوبتُ بحدة :
_ بكل بساطة .. المجلة أُغلقت !
فردَ الرجل الثاني من مكانهِ :
_ والجزء الثاني موجود لديكِ ؟
_ بالتأكيد .
_ زيارتنا من أجلِ هذا .
وتقدم هو أيضاً .. ووقفَ أمامي ، فقلت :
_ وضحوا لي أكثر ؟
_ ما نشرتهِ هنا كان يُنقل إلى مجلةٍ اخرى لدينا .. وأنا رئيس تحريرها .
قاطعتهُ بابتسامة :
_ وهل تنشرونها بالعربية ؟
فابتسم لابتسامتي :
_ لا .. بلغتنا !
وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قولهُ .. شعرتُ أن عينيّ
اغرورقت من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ ! .. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر
وزهو لا يوصفان .. فأكمل :
_ لدينا مندوبون في الأرض ، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة .. وروايتكِ لاقت
الاستحسان لدينا .. وبعدَ أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها .. والغريب ..
وصلتنا رسائل كثيرة – بالآلآف – تطلب تكملة الجزء الثاني .. ولم ندرِ ماذا نفعل
؟!
_ أتعرفون .. مر على انقطاعها أكثر من سنة .. ولم يسأل عنها أحد هنا .
_ انها رواية من طرازٍ خاص !
أحسستُ بالاشراق ينبع من أعماقي .. فنهضت .. ودخلتُ غرفة المكتب .. وأخرجتُ من
الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي " عنقود الكهرمان " .. وضعتها في ظرفٍ
أبيضٍ كبير .. وكتبتُ عليهِ بخطٍ واضح : " إلى قرائي أينَ ما كانوا " !
قدمتُها للسيد فابتسم حين قرأ تلك العبارة على الظرف .. وصافحني بقوة هذهِ
المرة .. وسألني :
_ كم تطلبين ؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ ؟
_ لا شيء .. إنها هديتي لقرء غرباء يسألون عني .
فتقدمت السيدة نحوي .. وأخرجت علبة حمراء من جيبها .. علبة ما رأيت بجمـالـها
وتصميمها البارع :
_ هدية متواضعة جداً لك .
وضعتها على الطاولة القريبة منها ..صافحوني .. وخرجوا وبقيتُ أنتظر لأعرف كيفَ
سيغادرون ! .. ابتسمت .. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها .. لم تُغير تعابير
وجهها .. فقط أضاءتها .. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها .. وقالت :
_ أرجوكِ .. اغلقي الباب .
قبلتُ رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة ، فتلألأ ما بداخلها وسطعَ أمام
عينيّ .. سحبتُ السلسلة فتدلى منها " عنقود من الكهرمان " !
البيت القديم
أُدير محرك السيارة لتنطلق بي إلى هناك .. إلى تلك الجنة التي فقدتها ذات يوم
.. أضع ذاك الشريط الذي يثير فيّ الشجن كلما دار في جهاز التسجيل .. وينفرد بي
الحزن .. يسقطني في أخاديد الذكرى العميقة .. ذكرى مؤلمة تعود منها النفس مهشمة
على تلك الصخور الجارحة في تلك الأخاديد . تتزاحم الذكريات وتدور الكلمات :
_ سأرحل .
_ وا أسفي .. أصبح الرحيل عن الوطن هو الحلم .
_ لا تتأسفي .. إذا تحول الوطن إلى منفى !
_ أيعقل ؟!
_ ربما .. وها قد حصل !
كان يتكلم بصوتٍ حزين .. وآثار التعب تبدو على وجههِ بصورة واضحة .. لذتُ
بالصمت .. فهول المفاجأة ذبح صوتي . أنا أُدرك .. بأن لكلٍ منا فلسفته في
الحياة وطريقة تفكيره الخاصة .. لم أعترض .. فماذا يفيد الكلام وقد قرر هو
وانتهى الأمر ! ابتسم .. كالتماعة آخر شعاع ساعة الغروب .. بسمة فرح ذائب ،
مغادر .. وافترقنا ! كل منا مضى على طريق نهايته .. وغابت الصورة التي التقطها
قلبي له في آخر لقاء .
منذ الأزل الحب والعذاب توأمان .. هل أستطيع أن أُغير قانون الطبيعة ؟! وتمطر
الأحزان عبر صوت فيروز ، وتبحر بي في عباب الذاكرة . غادرناها بعد أن كبرنا ..
وبعد أن استوجبَ علينا أن نتركها .. لم يكن بخاطرنا ، فهكذا حكمت الظروف في
حينها .. والإنسان يرضخ للظروف في أغلب الأحيان . حينَ ابتعدنا شعرتُ بأني
اقتربتُ أكثر .. فليست كل الأشياء يستطيع أن يقضي عليها الزمن بالنسيان .. ولم
أجد سوى الذكريات أتدثر بها في ليل الغربة البارد .. كل هذا راودني وأنا أسوق
سيارتي على طول الطريق .
وتظهر العمادية من بعيد ( إمارة بهدينان ) كما تُسمى في كتب التاريخ .. المدينة
العريقة ، الجميلة التي أشتاق إليها دائماً .. حينَ التقينا آخر مرة .. بادرتهُ
بالسؤال عنها :
_ حدثني عنها .. قُل أي شيء ؟ بلل ريقي بكلمات عنها .. حدثني عن هوائها وأهلها
ودروبها وشارعها الأوحد .
_ لم يتغير أي شيء في معالمها .. مع هذا فهي ليست هي .
دوامة الجواب أذهلتني وأحزنتني في الوقت نفسه .
على الجانبين تلمع الحقول الخضر تحت وهج الشمس .. وتقترب كلما اقتربت أكثر ..
مدينة معلقة على رأس جبل .. خصها الله بطبيعةٍ رائعة .. وأصل إليها .. توقفني
بوابتيها ( باب الموصل ، وباب الزيبار ) بابان حجريان لا يعلم سوى الزمان في أي
تاريخٍ قد شُيدا .. منحوت عليهما عقبان وأفاعٍ _ رموزاً للقوة والحكمة _ أتجول
في طرقاتها وحيدة .. هل أبكي ؟ .. فالوجه الذي أعطى كياني المعنى الكامل لا
يسكن هذهِ الديار !
وتأخذني الدروب نحو البيت القديم .. بيت واسع يغفو في حضن الجبل .. أطرق الباب
وأنا أعلم .. ليسَ فيه أحد .. أفتحهُ .. تواجهني روائح الطفولة .. ما أعذبها ..
البيت الذي ولدتُ فيه .. أول مكان أدخلهُ غرفة جدي .. أنظر من خلال النافذة ..
البيت ساكن بكل شيء .. أهله وناسه والعالم حوله والسماء أيضاً .. شجرة التين
هادئة تغرقها أشعة الشمس الذهبية .. فهي في الحديقة منذ وعيت الحياة .. للمكان
عبق سحري في قلبي ونفسي .. كم من الأشياء استيقظت في داخلي ؟! .. الكل غادر
البيت .. لم يبقَ فيه غير الأشجار .. شجرة التوت التي زرعها جدي يوم ولدت ..
كلانا كبر .. تشع ببريقها .. أصغي إلى أصوات الطيور والعصافير التي عششت فيها
.. يمتلئ المكان بغنائها .. أسترق السمع وأتلذذ .. شعرتُ بالفخر .. فشجرتي غدت
وطناً !
أخرج إلى الفناء .. أنظر من خلال السياج إلى بيت الجيران .. ليسوا هم ! ..
فهناك آخرون يسكنون الدار ، لا أعرفهم .. رمقتُ كل ما هو موجود بنظرة شرود ..
وتوقفت عند الشجرة التي جلسنا تحت ظلها .. هناك على تلك الأرجوحة تحت شجرة
الخوخ صادفني أول حب .. ورغم أن هذا المشهد أمسى بعيداً إلاّ أني ما زلتُ
أتذكرهُ بوضوح .. وكأنهُ حصل الآن .. تذكرتُ في تلك اللحظة كل الأشياء .. تجمعت
فيها بدفعة واحدة كالبؤرة : لقاء ، طموح ، أمل .. ونهاية ! هل تجدي الاعترافات
في الحب ؟ ..لا أظن ! .. فما كنا فيه يؤكد ما هو أعمق من أن نعترف به .
ما لهذا الزمن يركض بنا وتلك اللحظات هربت منا وكأنها لم تكن في قبضتنا .. أينَ
كلماته ووعوده .. في أي بئرٍ غاصت ؟؟ الزمان قد التهم تلك الأيام الرائعة ..
لكن شذاها مازال يحيا في ذاكرتي .
خرجتُ من البيت .. سألت عن كل مَن كان معنا حينها .. الكل قد غادر .. والمدينة
يسكنها الغرباء .. بعضهم غادر إلى السويد وبعضهم إلى ألمانيا وبعضهم إلى هولندا
.. و .. .. ..
و .. .. .. و .. .. .. القائمة تطول .. تركوا الأرض والوطن ، وغادروا .. حتى
دون كلمات وداع !
ركبتُ السيارة مغادرةً العمادية قاصدةً ( الريبار ) الغوطة التي تحيط بتلك
القمة .. طريق ملتو محاط من الطرفين بالأشجار .. غابة كثيفة وافرة بثمارها ..
ولكن مَن يجني خيراتها ؟ .. مجرد أُجراء !
الأفياء الوارفة تظلل المكان كله .. أرفع نظري نحو السماء .. القمم تخترق مسيرة
السحب الممتدة .. تحيط بي صور بانورامية مدهشة .. أسمع همس الطبيعة .. تراتيل
منغمة كدعاء أُم .. أستنشق الهواء بتلذذ .. نما في داخلي خشوع عميق .. خشوع نبع
من أعماق ذاتي .. تآلف بسرعة مع سمو الطبيعة وجلال الذكرى .. وأسأل نفسي :
_ كيفَ تركنا هذهِ الجنة ؟!
يوقفني الجدول الآتي من جبال سولاف .. أجلس على ضفافه الهادئة .. أسمع خريره
الخافت .. أنظر إلى المياه الصافية وهي تنساب فوق الحصى برفق .. تياره الجاري
يأخذ الفكر نحو البعيد .. كم من الزوارق الورقية صنعناها من دفاترنا المدرسية
.. وكم حملناها بالآمال ؟؟ وفي إحدى المرات صنع زورقهُ من دفتر الرسم .. سألته
:
_ لِمَ صنعتهُ كبيراً ؟
_ كي يسعنا نحن الاثنين .
ألم يقل سنُبحر معاً .. إذاً كيفَ ترك البلاد ؟! تمنينا كثيراً .. وماتت
الأمنيات مع الأيام !
السكون تكامل تماماً .. والظلام بدأ يتكاثف بسرعة .. لم تعد عيناي ترى غير أقرب
الأشياء .. دائماً نزور الذكرى ، نحج إليها .. كمن يبحث عن الحب في ماضٍ لن
يعود ! .. ننبش في رماد الذكريات عن بعض الجمر لينبض الحياة فينا من جديد .
جيش الفراشات
أشرقت شمس اليوم على عالم وردي في نفسي ، فغنت الروح بعمق وسرور . حينَ خرجتُ
من منزلنا هذا الصباح .. كانَ كل شيء عادياً ، كأي صباح يقابلني كل يوم .. مشيت
في نفس الدرب الذي يأخذني إلى دائرتي .. الشوارع مغسولة بمياه الأمطار الهاطلة
بغزارة مساء أمس .. وشعرتُ _ فعلاً _ بالربيع يتبختر عبر المدينة ، يمسح
بألوانه كل ما كان كئيباً ، ويغطي بضبابه الأخضر كل شيء .
عبرت شارع الزهور .. الذي يسمى بـ " شارع العشاق " فغالباً ما تجد فيه الشباب !
وما أن وصلت خطوط العبور لدورة السويس حتى اختفت من أمامي وتحولت الأرض في
ثوانٍ إلى تراب ! ليست الخطوط وحدها .. بل كل شيء بدأ يتسرب أمام عينيّ ..
الشوارع .. البنايات .. الناس .. المحلات .. وطلاب المدارس أيضاً .. ولم أجد
سواي أقفُ بوحشة في عالمٍ وحيد وغريب!
التفت مذعورة .. وإذا بشيء يشبه العاصفة قادم من بعيد نحوي .. أنظر من حولي ..
قد أجد لي مخبأً أحتمي فيه .. لكن ، لا شيء . يا إلهي .. أينَ أنا ؟!
العاصفة تقترب .. لكنها ليست بلون التراب .. بل عاصفة ملونة تبرق من بعيد بشتى
الألوان .. أندهش منذهلة رغم ذعري وخوفي الشديدين .. ولا إرادياً تلفظت : ما
شاء الله !
تلك العاصفة كانت جيشاً من الفراشات !
وفجأةً يمتد أمامي طريق مبلط .. كيفَ وجد ؟ ومَن أوجده وبهذهِ السرعة ؟ لا أدري
! لم يكن لديّ خيار آخر .. لابد لي أن أمضي فيه ، فربما يقودني هذا الطريق إلى
مكانٍ أحتمي به . كنتُ أركض .. أركض .. والطريق لا ينتهي ! وبينَ فترةٍ واخرى
ألتفت ، لأجد ذلك الجيش الجميل مازالَ يتبعني كقدر !
الغريب أن الشارع الطويل .. والطويل جداً مظلل بأشجار النخيل والسنديان ! أتعجب
، فأية طبيعةٍ جمعتهما ؟! أرفع نظري إلى السماء .. قطعان من الغيوم تمر في
زرقةٍ مدرجة . ورغم جري السريع هذا لم أكن أشعر بالتعب نهائياً . والغريب أيضاً
أني حينَ حاولتُ أن أنظر إلى جانبيّ الطريق مرة أُخرى .. كنتُ أرى كل ما قد مر
بي في السابق .. رأيتُ أُمي .. ولوح لي أبي .. واخوتي ، وبعدها الأصدقاء
والزملاء ، ورأيتُ بعضاً من معلماتي ، ورئيس دائرتي .. ورأيت كل مَن خطبني !
رأيتُ العمادية .. القلعة الحصينة في قمة ذلك الجبل الشامخ بوجه الزمن .. تلك
المدينة التي أشتاقها كصدر أُمي ..صورتها كافية لأشعر بأنَ آلاف الأعوام من
التاريخ تطل عليّ لتعانق عينيّ !
ورأيتُ الموصل .. ماذا أقول عنها لأُجازيها حقها ؟ هل يكفي أن أقول بأنها مدينة
ليلها قصيدة ونهارها قصة لا تنتهي !
ويطل بعدها وجه بغداد .. أشجار النخيل تلوح لي بخضرتها الداكنة .. ويغيب الوجه
في لحظات .. بغداد التي في القلبِ دوماً !
كل هذا مر بي وأنا أجري دونَ توقف .. والطريق مازالَ طويلاً .. وبين الحين
والحين ألتفت .. لكن ، دون جدوى ! فذلك الجيش مازالَ يتبعني .. وأسأله :
_ إلى أي مصيرٍ تمضي بي يا جيش الفراشات ؟!
أسرع أكثر .. ونظري إلى الأمام .. ويتراءى لي من بعيد ما يشبه تلكَ العاصفة
التي رأيتها أول مرة _ قلتُ في نفسي _ ربما غير ذلك الجيش مساره .. وألتفت
ورائي .. وإذا بهِ يتبعني .. إذن ، هذا غيره !
كيفَ لي أن أهرب .. ليسَ بيدي سوى أن أمضي .. وليحصل ما يحصل ! وكما توقعت ..
العاصفة المغبرة من بعيد .. بدأت تزهو بالألوان كلما اقتربت . يا إلهي .. جيش
من خلفي .. وجيش من أمامي . لا أدري لِمَ تذكرت مقولة طارق بن زياد الشهيرة : "
البحر من ورائكم والعدو من أمامكم " . حتماً سأكون وجبة شهية لكلا الجيشين .
ماذا أفعل ؟ .. يبدو بأن هذا قدري !
كلما مضيتُ أكثر بدأت الصورة تقترب أكثر .. ولحظت بأن ذلك الجيش الذي أمامي
يمضي خلفَ شخصٍ آخر .. لم أستطع أن أُميزه .. يا ترى مَن هو ؟! لماذا قلت مَنْ
هو ؟! لِمَ لم أقل مَن هي ؟! أجري نحوه .. ويجري نحوي .. شعرتُ ببعض الأمان ..
فلستُ الوحيدة التي تُطارد ! وبدأت هيئته تتوضح شيئاً فشيئاً .. وبعدها شكله
وملامحه .. وحينها تأكدتُ بأنهُ رَجل .. لكن ، يبدو مختلفاً وكأنهُ ليسَ من
عصرنا .. فقد وجدتهُ بزي أميرٍ سومري !
وأصل .. ويصل .. خطوة واحدة ونصطدم .. أغمض عينيّ وأرمي نفسي عليه دون أي خوف
.. بل بكل أمان .. وكأني موجة شاردة ارتطمت بشاطئها ! نسيت أمر الجيشين ..
وماذا حل بهما .. أردتُ أن أبقى هكذا ، أن لا أفتح عينيّ .. وشعرتُ بشيء يمطر
عليّ ، ثمة ما يشبه الرذاذ يتساقط .. فتحتُ عينيّ .. مطر من الألوان القزحية
الشفافة يتساقط علينا .. خجلتُ من وضعي وأنا مرتمية هكذا بينَ أحضانه .. غرقتُ
في بحرٍ من الخجل .. رفعتُ رأسي .. فابتسم لي ..
وجه مأسور بالمحبة .. مليء بالأمل المتوقع .. لمحتُ في عينيهِ بريقاً دافئاً ،
ودهشة خفيفة .. فقلت وأنا أكاد أموت خجلاً وحرجاً :
_ ماذا حل بهم ؟
وحدق فيّ .. عينان شهلاوان ، مستديرتان بالدهشة مع بسمة استغراب :
_ بعدَ التصادم .. تحولوا إلى نثارٍ من الألوان .
وبلحظة اختفى كل شيء من حولنا .. الدرب ، النثار ، وحتى بقايا الألوان .. كل
شيء .. وبقينا _ فقط _ آدم وحواء !
يمتد شعاع ليلكي يغطي الأُفق بهدوء . كنتُ منذهلة مما حدث ويحدث لي .. أردتُ أن
أنهض ، فسحبني من يدي .. شعرتُ بدفء نهايات أنامله فوق جبيني .. غمرني خجل عميق
.. وبصوتٍ واضح ، لطيف ، وابتسامة نقية ، مسالمة جعلتهُ يبدو قوياً وشجاعاً
سألني :
_ من أينَ أتيتِ أيتها الأميرة الآشورية ؟
فأجبت :
_ من " أمات " *
.
شعت ألف نجمة صافية من وجهه .. وقال :
_ وأنا من " أوروك " *
!
*
" أمات " . المدينة الآشورية .. وهي _ الآن _ تسمى " العمادية " .
*
" أوروك " . المدينة السومرية الشهيرة بـ " الوركاء " .
|