أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: إسكندر نعمة

رحلة إلى مرافئ النجوم

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

الرصيف التائه

عقارب الزمن

رحلة

هواجس 

اختراق الزمن

غربة

كان غائبا

فرصة للحلم

القرار الأخير

حالة انتظار

رسالة

 

رحلة إلى مرافئ النجوم

 

الإهـــــــــداء:

إلـى: البراعم التي أزهرت وأينعت فعطّرت حديقتي حبّاً وأملاً إلـى: الأحبّاء... فائز ، مجد -ربى أهدي قصصي هذه.

اسكندر

 

ما يغني عن المقدّمة...

" لايمكن للكاتب أن يكتب أدباً عظيماً إذا كان خائفاً..."

مكسيم غوركي

 

هواجسُ مرّة

 

* سُئِلَ الكاتب الكبير مارك توين، من قبل أحد أصدقائه : ماذا تعمل في هذه الأيام؟ فأجاب مارك توين: أكتبُ قصصاً.. أجابه صديقُه: وهل بعتَ شيئاً ؟‍‍‍‍! أجاب الكاتب: نعم...لقد بعتُ ساعتي، وأكثر ملابسي، وأفكّر الآن أن أبيع فراشي...

 

عندما دقّت ساعة الجدار معلنةً حلول منتصف الليل... كنتُ ما أزال أجرُّ خيبتي وأحلامي...قبيل الغروب جلستُ إلى الطاولة أعصرُ أعصابي وقلبي، سأكتبُ قصة..قصة قصيرة، أو قصة قصيرة جداً، لافرق .. المهمُّ أن أكتب.. البارحة .. اتصل بي أمين تحرير المجلة التي أنشرُ فيها بشكل دوري، عاتبني لغيابي الطويل عن زيارة مكتبه.. قال لي: أنت بخيلٌ علينا في هذه الأيام.. لماذا؟؟.. لم أعهد نفسي بخيلاً.. إلا أنه أصرَّ على اتهامي بالبخل، وقال لي ضاحكاً: إنك منذ أشهرٍ لم تَجُدْ علينا بقصة نملأ بها بعضَ صفحاتِ المجلّة ..

أنّبتني ضحكاتُه الهامسة، تصوّرتُ أن أسلاك الهاتف بيننا تشاركهُ ضحكاتِه الساخرة، أحسستُ بوخزاتٍ أليمةٍ تلسع صدغيَّ وصدري...

كانت الشمس تغطس وراء الأفق، والأفكار تغطس هاربة منّي.. ازداد تلاشيها مع ازدياد حلول العتمه.. تذكرتُ أستاذَ الرياضيات وشروحَه القاسية عن التناسب الطردي.. افترّت شفتاي عن ابتسامة شاحبة مرّة.. عجيبٌ أمرُ أفكاري الهاربة هذه ... أنا أعلم أن الظلام والهدوء منبعان للإبداع والموهبة، فما شأنهما هذه المَرّة ...توجَّع القلم بين أصابعي.. أناملي تنغرسُ بتوتّر شرسٍ في أنحاءِ جسده المتطاول ... تأوَّهَ بألمٍ مرير... تُرى .. هل جفَّ المداد منه بجفاف أفكاري؟!! هل ستنسحبُ المعادلة على كل شيء؟!!.. شربتُ ركوة القهوة بكاملها، كوباً إثر آخر.. لم تفعل القهوةُ فعلها المعهود، بيني وبين القهوة عهودُ صداقة متينة.. تساهم في تفجير مكامن الإحساس في نفسي، وتعرّي أفكاري من ملابسها الكتيمة.. لا لن أدخّن، لن أعود إلى التدخين ثانية.. لقد أقلعتُ عنه منذ أشهر .. لا لن أعود إلى تشنجّ الصدر والحنجرة ثانية... صوتُ سكرتير التحرير يرنُّ في أذني من جديد. نريدُ منكَ قصة جديدة... أنت بخيل..بخيل جداً

في هذه الأيام.. توغَّلَتْ لهجتُه الساخرة في أعماقي.. أبداً لم يكن يريدُ أن يسخرَ مني. ولكنه هكذا بدالي.. نهضتُ عن الطاولة بعنف، خطوتُ بسرعة إلى حيث يربضُ جهازُ الهاتف، وبيدٍ متصلّبةٍ عمدتُ إلى شريط الهاتف ونزعته من مربِطه، خفتُ من الرنين المفاجيء.. الزمنُ يوغل في دهاليز الظلام أكثر.. الساعة المعلقة على الجدار تُنبئ عن زحف الدقائق... عبرَ النافذة الوحيدة، كان الظلام يبسط جناحيه على الشوارع الممتدّة.. سرحتُ بناظري متجاوزاً حدود النافذة الضيقة.. مصابيح الكهرباء المنتشرة في كل الزوايا، تبدّد في دوائر مغلقةٍ سوادَ الظلمة، فتلّونُ الجوَّ الكئيب بخيوط لامعة.. النافذة الضّيقة لم تمنع جسدي الضئيل النحيلَ من الخروج.. خرجتُ منفلتاً دون أن أصطدم بالزجاج السّميك.. هبطتُ إلى الشارع بصمت مذهل مُجلّل بالكآبة.. لم أسمع صوتَ ارتطام قدميَّ بالأرض، ورحتُ أنتعلُ أرصفةً تائهة لاحصرَ لها.. لم أشعر بالكلل والتعب أبداً، فبيني وبين المشي صداقة حميمة، أمشي وأمشي بدون توقّف، لاأحبُّ أن أحشر جسدي في زحام السيارات والحافلات.. لم أسأل نفسي إلى أين أسير.. أفسحتُ لقدميَّ فرصة القيادة، فهما خيرُ دليل في غمرة الزّحام الصعب. ودون قرار مُسبق كنتُ أحاول أن أظلَّ متدثراً بعباءة العتمة، مبتعداً عن دوائر الضوء الصارخة وأصوات الناس ولَغَطِهم المتداخل.. صوتُ سكرتير التحرير يثقبُ أذنيَّ هذه المرة.. لعلَّ الصّمتَ والسّباتَ الرمادي الذي سقطتُ في أمواجه، جعلني أواجه الصوت قوياً ثاقباً.. أريد أن أكتب.. أكتب قصة.. أكتب أيَّ شيء... ذهني صندوق مقفل... أعصابي يلفّها الصقيع، والقلم يتأوّه بين أصابعي مستغيثاً متحسراً.. فجأة وجدتني أقف مذهولاً أمام باب عريض تنبعث منه أضواء خافتة... آه... إنه مَدْخَلُ "مَقْصِف النخيل". لم أكن من روّاده الدائمين..ولكني ألفتُ التردُّدَ إليه بين حين وآخر. وجدتُ في داخلي دافعاً يدفعني للاستراحة والابتعاد عن التسكع.. شعرتُ بيد خفيّة تسحبني إلى الداخل. وبرشاقة اعتادها جسدي النحيل، تسللتُ عبر باب المَقصِفِ الخارجي. ومن ثم الباب الداخلي... بين أشداق البهو الكبير المكتظ بالجالسين، وقفتُ طويلاً.. راقني منظر الكؤوس المترعة، والشفاهِ التي تمتصُّ منها رحيقَها، وأصواتُ فوّهاتِ الزجاجات الملّونة التي تفرغُ روحَها عبر الكؤوس.. امتدت يدي إلى جيب سترتي، تلمّستُ الليرات القليلة التي تنام في قاعها.. لعلها تكفيني لاحتساء فنجان من القهوة فحسب.. كان جو البهو العريض مشبعاً بدخان السجائر.. انتحيتُ جانباً، فتشتُ في الزوايا، لم أجد طاولة فارغة، عدا واحدة قد ابتعدت عن الزحام، يجلس إليها رجل كهل تدلُ ملامحُ وجهه وشعرُ رأسه أنه يتدحرج نحو العجز والشيخوخة. أمامه كأس طويل من الشاي الساخن يداعبه بأطراف أنامله.. عجبتُ لوجوده في مثل هذا المكان.. استأذنته بالجلوس، فأذن لي باشّاً مسروراً، لكأنّه كان ينتظر قدومَ رجل مثلي.. وقبل أن أجلس على الطرف الآخر من الطاولة، شكرتُ الرجل الكهل، وطلبتُ من النادل فنجان قهوة خالية من السكرّ.. لم تكن لديَّ رغبةٌ في أن أمكث طويلاً.. جلستُ محاذراً الخوضَ في أحاديث طويلةٍ مملّة.. أريد أن أخلو إلى نفسي، وأثيرَ كوامنَها، لعلّي أبدأُ في إمساك خيطٍ ينتهي بي إلى كتابة قصة.. صوتُ سكرتير التحرير يقرع رأسي.. ساعةُ الجدار المعلّقة تنبئني بهروب الزمن، وغرفتي الصغيرةُ تضيق وتضيق من حولي.. حدجني الرجل الكهل بنظرات متعالية.. حدّقتُ فيه ملياً، وجدتُ في نظراته رغبة ملحّة في أن يتحدث، كانت أصابعهُ تطوي بأناة وتمهّل مجلةً ملونة وتدسُّها تحت إبطه.. سألته: ماذا قرأت في هذه المجلة.. فَرَدَها من جديد على الطاولة، لم تكن بي رغبة في القراءة. قال: كل مايُكتبُ سطحيٌّ ومكرور وساذج... رفعتُ حاجبيَّ عجباً وفغرتُ فمي... تابع قائلاً: يبدو أن مهنة الكتابة أُصيبت في هذه الأيام بالجلطة، وقد تنتهي إلى السكتة القلبية.. أُعجبتُ بهذه الكلمات القليلة، شدّتني إلى الرجل أكثر، أخرجتني عن حيادي وعزلتي.. ماأجمل هذه المصادفة، لعلها تكون مَدْخلاً يفضي إلى كتابة قصة.. سألته: الستَ جائراً في حكمك على مهنة الكتابة؟؟.. ضحك ملء فمه، كشف عن أسنان صُفْرٍ غير متراصّة.. أجاب باندفاع وقور: لا.. لا أبداً.. سألتُهُ وأنا أبحث في عينيه عن شيء ما: وكيف ذلك؟؟ .. أجاب: "أنا أتابع الأدب السياسي والاجتماعي.. كل ماأقرؤه هراء وسذاجة وبعد عن الحقيقة.. يتحدثون عن الشعوب والمستقبل، فيفرشون الطريق أمامها أشواكاً وضباباً.. يسوّدون الصفحاتِ حديثاً شيقاً عن مفاهيمَ غائمةٍ أسموها، الديمقراطية والبيروسترايكا والرأسمال ومستقبل الحضارة والنفط والتكنولوجيا وتطورَ العلوم والعلاقات الإنسانيةَ.. وأشياءَ كثيرة.. الكتابُ يجهلون صورة الوجه الآخر لهذه الكلمات الطنّانة.. لايَعُون حقيقة مايتحدثون عنه... لم تكتشف أفكارُهم الطحالبَ والطفيلياتِ والهالوك المستبدَّ على جذور مايكتبون." توقّفَ قليلاً عن الكلام، حملقَ بعيداً أحسستُ أنه يريد أن يتابع.. لم يترك لي فرصة التساؤل.. تابَعَ: "إن الإصابة بالجلطة الأدبية والفكرية لم تترك شيئاً، تناولَتْ كل الموضوعات الكبرى.. كل مناحي حياة الإنسان الراهنة.. جلطة في فلسطين والصومال واليمن والخليج وأفغانستان والبوسنة.. جلطة في الجهات الأربع.."

أصابني حديث الرجل بالذهول المطلق، غبتُ عن الوعي.. أخذتُ أسمع صوتاً يتهدّج ويهدر دون أن أعي شيئاً.. دخلتُ في مساربَ متعرجة، رحتُ أبحث عن مُسبّبات الهالوك والطفيليات والجلطة.. اعترتني رعْشةٌ مفاجئة عندما أحسستُ بيد الكهل تهزني وتعيدني إلى واقعي.. ابتعد عني خطوة واحدة.. لوّح لي بيده ومضى.. نظرتُ حولي.. كل شئٍ كعهدي به، كنت أضغط كوب القهوة بين أصابعي، خفتُ أن أحطمه.. دفعتُ مابجيبي وخرجتُ كالمصعوق. غطستُ في مستنقع من التساؤل المرير.. الهالوك.. الطفيليات.. الجلطة الأدبية.. الرجل الكهل.. لماذا انسحب بسرعة!!... تقاذفتني الأرصفة، سقطتُ في نشوة من نوع غير مألوف.. استسلمتُ للأوهام والهواجس، أريد أن أكتب قصة جديدة سأقدمها غداً لسكرتير التحرير.. ولكن.. ولكن، ماذا أكتب؟ من أين أبدأ؟... تبَّاً لذلك الكهل، لقد سحب مني كل مبادرة.. أصابني بالإحباط والإحساس بقرب الجلطة... غامت المدينة في ناظري، تداخلت دوائر الظلام والضوء.. تلاشت أصوات قرع قدميَّ على بلاط الرصيف.. غطستُ في بانوراما ممتدة لانهاية لها.. دوائر تتلوها دوائر، أسبح في جو هلامي لاحدود له، فقدتُ الإحساس بنفسي، وظلَّ صدري يعلو ويهبط بفعل استمرار الحياة.. فجأة شعرتُ بيدٍ فولاذية تشدني إلى الوراء.. توقفتُ عن السباحة في هلام المدينة.. تحسستُ الرصيفَ تحت قدميّ تلاشت الدوائر المتداخلة، فتحتُ عينيَّ على غبش مفاجئ، التفتُّ إلى الوراء والتوترُ يأكلني، كانت اليد الصُّلبة ماتزال تمسك كتفي بوحشية.. شاهدتُ جسداً ضخماً يتوِّجُهُ رأس كبير.. فركتُ الغبش عن عيني، فزعتُ من الأعماق، حاولت التراجع إلى الوراء.. لم أتمكن.. كان الجسدُ جسدَ رجل، والوجهُ وجهَ ذئب.. جبنتُ عن الصّراخ، حاولت أن أدفعَ يدَه عني، لم أتمكن.. أظافيرُه انغرست في كتفي النحيل.. ضحك بشدّة، فبانت له أنيابٌ حادة، وشدق واسع مخيف.. قال لي: “ماأسرع خطواتكْ، أجهدتُ نفسي كثيراً للّحاق بك مذْخرجتَ من باب المَقْصِفْ، حتى وصلتُ إليك الآن.".. جمعتُ بقايا شجاعتي المنهارة وسألته بخوف: "وماذا تريد منيَّ." قهقه بصوت عالٍ، هزني بيده الفولاذية.. خلتُ نفسي كفأرة صغيرة بين مخالب هرشرس.. اقترب من أذني وهمس متصنعاً المودّة: "لاشيء.. لاشيء.. أريد أن أتأكد منك.. ألستَ فلاناً.".. أخرستني المفاجأة.. لم أنطق بحرف.. دفعني بأصابع يده.. كاد يقذفني في الهواء.. ابتعد عنّي وسار في الاتجاه المعاكس.. كاد قلبي ينخلعُ من مكانه.. احتميتُ بالظلمة ورحتُ أداري مخاوفي.. لم أفهم تفسيراً لما حصل.. أسرعتُ وفي سيري، انزلقتُ إلى شارع آخر، أخذتُ أعدو غير آبه بشيء.. كان خوفي أن التقيه مرة أخرى يمزق مفاصلي وقلبي.. تابعتُ العدوَ وأنا ألهث بشدّة.. أوقفني في منتصف الطريق ضوء مبهر عنيف، سدَّ علي منافذ الطرق.. خبّأتُ عينيَّ الكليلتين براحتين مرتجفتين.. اقترب الضوء أكثر، شيءٌ مايهدر بجانبي، توقفت سيارة، أطفأت أنوارها، فغطستُ في أمواج الظلمة من جديد.. امتدَّ رأسٌ ويدعبر نافذة السيارة، صَدَرَ عن الرأس فحيحٌ خافت: "تعالْ.. تعالْ.. سنوصلك إلى منزلك، ألا ترى أن الليلة باردةٌ جداً، والجو ينذر بالمطر الشديد.".. تخثرت الكلمات في حلقي، ازدردتُ لعابي مرّات ومرات، حاولتُ أن أشكر الرأس الممدود، لم تخرج من حنجرتي كلمةٌ واحدة، تسمّرتُ في مكاني كوتد مهملٍ في العراء، لم يعد عندي رَغبة في أيِّ شيء، الحياةُ والموتُ سيّان، خرج الرأسُ إليّ، قبضَ على يدي، قادني إلى باب السيارة، كنتُ مستسلماً بلا إرادة... دفعني إلى الداخل وجلس بجانبي... أيقظني صوت المحرّك، تساءَلت: ماذا يحصل؟!!. إلتفت إليَّ الرأس الذي يجلس بجانبي، بادلني نظراته، ضحك، فإذا له شدق واسع عريض وأنياب ذئيبة حادة كتلك التي شاهدتها.. افترسني الخوف أكثر واحتميتُ بالصمت تاركاً نفسي لمصير مجهول... تطاول بنا الزمن أو هكذا شعرت.. توقّفت بنا السيارة أمام مبنى كبير جداً، يتصل بالحياة عن طريق بوّابة واسعة.. قال الرأس بفحيحهِ المألوف: انزل... قلتُ له: "ولكن هذا ليس منزلي".. كشّر عن أنيابه الحادة وبسرعة البرق نزل وانقضَّ على الجانب الآخر، ضغط على كتفي بقبضته الفولاذية وأنزلني بقسوة، ثم دفعني بعنفٍ عبر البوابة وأغلقها من جديد... أصبحتُ وحيداً في عالم مجهول، سرتُ في دهليز طويل متعرّج.. في كل منعطف، كان يقف رجل له جسد ضخم، ورأس كبير، وأنيابه حادة، ويطلق فحيحاً مخيفاً، يضغط على عنقي بقبضةٍ جّبارة ويسلمني إلى الآخر... في نهاية الدهليز دُفعتُ بعنفٍ إلى غرفة واسعة مضاءَة، يجلس في صدرها رجلٌ مُهاب، أنيق الملابس، جادُّ القسمات، جميل الملامح.. تلقّفني بنظرات طويلة مستفيضة... تسمرتُ في مكاني وهو ينظر إليّ.. اضطربتُ تحت تأثير نظراته الهادئة.. كدتُ أسقط أرضاً، طلبتُ مقعداً أستريح عليه، ابتسم واعتذر فالغرفة خالية.. سألني بصوت خافت: "أنت فلان، أليس كذلك؟".. قلت: "نعم، ولكن ماذا تريدون مني.؟!!".. قال بهدوء أخافني أكثر: "لاشيء.. لاشيء، بإمكانكَ أن تنصرفَ الآن. فنحن نعلم عنك كل شيء.".. سألته: "ومن أنتم؟!"

لملمَ ابتسامتَهُ بصوت أجش: "نحن من يجب أن نعلم أمّا أنت فلا.. هيّا."

عدتُ من الطريق التي أتيتُ منها.. وعندما لفظتني البوابة الكبيرة، شعرتُ أن الحياة أخذت تدبُّ فيَّ من جديد..

انتعلتُ طريقاً فرعيّة أخرى.. كنتُ أحاذر أن ألتقي أحداًما.. رحتُ أجترُّ ماحدث لي.. حاولت أن أبصق خثرات الخوف المتدبقة في حلقي.. أسرعتُ في سيري، أنزلقُ من زقاق فرعيٍّ إلى آخر محتمياً بالظلام.. بعد قليل أحسست بأن شيئاً من الطمأنينة بدأ يتسرب إلى نفسي ، أخذتُ أطرد الموتَ من شراييني، شعرتُ بالدم يسري في داخلي ويبعث الدفءَ في مفاصلي وكفيَّ ووجهي.. عدتُ إلى قناعتي بأن الحياة أقوى من الموت، ابتسمتُ  لهذه الخاطرة التي هبطت عليّ واستلّت أكثر مخاوفي... ألّحت عليَّ من جديد فكرةُ كتابة قصة جديدة.. يجب أن أكتب، يجب أن أعبّر عن ذاتي، فأنا لاأستطيع تحمّل عتاب سكرتير التحرير.. ماذا سأقول له؟.. هل أجرؤ على كتابةِ ماأريد؟‍‍!!... لم تعد تروقني العتمة.. شعرتُ برغبة ملحّة لأن أتخلّص من الظلام.. انعطفتُ من ذلك الزقاق الفرعي وخرجتُ إلى شارع السوقِ الرئيسي، شارع طويل، عريض جداً، مكتظّ بالناس والمحلاّت.. المحلاّتُ حبلى بالبضائع والسلع.. انتعلتُ أرصفته ببطءٍ شديد وهدوء تام.. رحتُ أفرّج عن نفسي بالنظر إلى المعروضات من خلال الواجهات المُضاءَة والمزيّنة... دفعني الفضولُ نحو أشياءَ وأشياء كثيرة.. نسيتُ نفسي، أسقطتُ ذاتي من الحساب، آلمتني لوائح الأسعار الجهنميّة المعروضة بأناقة وإغراءٍ قاتل... شعرت بيدٍ باردةٍ جليدية تمسح وجهي وعنقي وتلفّني بالصقيع.. بدا لي أننّي لا أعني الحياة بشيء، وأنني خارج حدود المكان والزمان.. تساءَلت: وماذا بعد الجوع والعري؟؟.. ركبتني قشعريرة نفّاذه.. وراحت تمزّقني احتمالات كثيرة... ساعتئذ أدركتُ أن الجلطة ليست في مهنة الكتابة فحسب، إنها في كل شيء.. توحّدتُ من جديد مع الخوف والإحباط والأسى المرير، وراحت الهواجس المرّة تفترسني بتلذّذ...

صوت مفاجيء مزّق الصمت في جو الغرفة... الصوت يزداد ويتتابع.. الرنين يتواصل.. القلم يكاد يتحطم بين يدي، والطاولة تهتزُّ تحت ضغط المرفقين، والكرسي تَصرُّ وتئن... والساعة المعلّقة على الجدار تعلن برنينها الحاد حلولَ منتصف الليل...

أفقتُ من شرودي الطويل.. تخلصتُ من أحلامي اللولبية.. رجعتُ من رحلة الهواجس المرّة.. كانت صفحات الورق الأبيض أمامي تستغيث وركوة القهوة الجافة تسخر مني.. فركتُ عينيَّ، أعدتُ إلى نفسي يقظتها، نظرت عبر النافذة الضيقة، نهضتُ مسرعاً، أعدتُ شريط الهاتف إلى مأخَذه، أدرتُ رقماً أحفظه عن ظهر قلب.. أريد أن أعتذر من صديقي سكرتير التحرير، فأنا لاأستطيع الآن أن أكتب له قصة جديدة، سأرجوه أن يقبل اعتذاري...

جرسُ الهاتف في الجهة الأخرى يرنُّ ويرنُّ ويرنُّ.. آه.. الوقت متأخر الآن.. ولابدَّ أن

سكرتير التحرير قد غادر مكتبه إلى منزله...

 

 

رحلةٌ إلى مرافئ النجوم

 

بعد معاينة دقيقة حذرة، لملم الطبيبُ أشياءَه نظر إلى وجهي بأسىً،ثم التفت إلى أخي الأكبر ، وهمس في أذنه كلمات غير مقتضبة ، سمعتُ منها شيئاً ، وغابت عن مسمعي أشياء.. استطعتُ التقاط آخر جملة تهدّجت بها شفتاه.. كان يتكلم بحسرة ظاهرة.. وكان أخي يقف ذاهلاً عن كل شيء، يلتمسُ كلماتٍ مطمئنةً من صديقه الطبيب، وينظرُ إليَّ بحنانٍ لم أشهد مثيلاً له... كنتُ أنقّلُ عينيَّ الكليلتين بينهما، منتظراً كلمة تنهي هذا الصراع المريرَ الطويلَ مع المرض والألم..

افترسَ الصمتُ جوَّ الغرفة.. الكآبةُ والخوف يعتصران أخي.. وأنا أشبه بخرقة بالية ملقاة في جوف السرير، لاأقوى حتى على الأنين... اعتصرَ الطبيب بكفيه كتفي أخي، وقفزت من بين شفتيه كلمات متوترة حادّة: "لافائدة ترجى.. تشجّع.. ساعاتٌ قليلة وينتهي كلُّ شيء." وقعت تلك الكلمات في سمعي المتعبِ بكل وضوح.. لست أدري لماذا كنت مُرهفَ السمع آنذاك.. لعلي عرفتُ بحدسي أن كلماتِ الطبيب الأخيرة هي النطق بالحكم النهائي غير القابل للاعتراض أو الطعن.. غرستُ عينيَّ في الجدار المقابل، ورحتُ أستعيد قرار الحكم النهائي كلمة كلمة.. لم أجد في داخلي رَغْبةً في البكاء، أو خوفاً من المصير العاجل المحتوم، فلقد قضيت سنواتِ عمري في صراع مع الفقر والقمع والأزمات المتتالية حتى سقطتُ أخيراً بين مخالب المرض.. لعلّي الآن فقدتُ الإحساس بالحزن والفرح معاً، ولم أعد أميّز بين الأمل واليأس، ورحتُ أنتظر قدوم ضيف لايرغب فيه أحد.. كان الطبيب يشدُّ أخي محاولاً إبعاده عن الغرفة، لعلّه كان يخشى عليه، وهو يرى دموعه السخيّة وانهياره وشحوبَه.. أفلَتَ أخي من بين يدي الطبيب.. اقبل نحوي يستهدي بغبش دموعه، وضع كفّاً باردة مرتجفة على رأسي، ومسح على شعري بليونة وضعف.. لم أرَ أخي في سنوات عمري القصيرة.. متهدَّماً، منهاراً، ذليلاً.. كما أراه الآن... أغمضتُ عيني، وأدرتُ وجهي كيلا تسحقني أكثر، ملامحُ الحزن الجليديِّ في عينيه... لم أدر كم من الوقت مضى، وأخي ثابتٌ إلى جانبي، لايتحرّك، كجذع شجرة عتيقة.. كنتُ أسمع انفاسَ صدره تعلو وتهبط دون انتظام، واحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. دون انتظام، وأحسُّ بروحه تغمرني وتطوف حولي رفيقة وادعة خائفة.. ظلّت تطوقني وتدغدغ حواسّي المتلاشية شيئاً فشيئاً حتى سبحتُ في جوٍّ هيوليٍّ متأرجح.. ورحتُ أغوصُ في دهاليزَ متداخلةٍ لاحدود لها.. جدّفتُ عبر بحيراتٍ دافئة متلاحقة.. كل واحدة تفضي إلى الأخرى، ومياهٍ عميقة هادئة لها سعة المدى.. داخلني إحساس أنني أقف على تخوم مستنقع الموت.. وأنني أُطلُّ على العالم الآخر عبر كوّات واسعةٍ لاحصر لها.. تابعتُ السباحة في خضمِّ البحيراتِ الواسعة...

ليس للماء طعُم الملوحة.. لزوجةٌ دافئة تطلقُ بخاراً يعطّر الكون من حولي بعبير خاص.. الحياة هنا لها طعم آخر.. شعرتُ أنني قد تعبتُ من السباحة، وتذكرتُ أن الهيولى التي أضربُ فيها لاتحدّها شواطئ ولارمال... لُذْتُ بكوّة من الكوى المنتشرة على تخوم العالم الآخر.. تمسّكتُ بحوافيها.. مددتُ رأسي بحذر شديد.. لم أتبيّن شيئاً.. أكلتني الدهشة.. ماذا أرى؟!! فضاءٌ سحيق لانهاية له.. أتعبتني الرؤية.. سحبتُ عينيَّ الزائغتين وغطيتهما بجماع كفّي.. فجأة تناهى إلى سمعي أصواتٌ متداخلة تعلو حيناً وتنخفض أحياناً.. أصختُ السمع جيداً.. لم أفهم شيئاً.. اقتربتُ من الكوّة من جديد، نظرتُ من خلالها إلى الطرف الآخر، لاحت لي أشياءٌ تتحرك تشبه الأشباح.. غريبٌ ماأرى؟!! من هؤلاء؟؟ ماذا يعملون هنا؟!!.. انتصب في خاطري سؤال: ماذا لو انتقلتُ إلى الطرف الآخر؟؟.. حشرتُ جسدي عبر الكوّة.. لم تمنعْني من العبور.. وجدتُ نفسي أسبحُ في هلام من نوع آخر.. غمرني دفءٌ ونور أيقظا إحساسي وروحي، أبعداني عن التبلّد والخوف.. جميلة هي الحياة هنا!!.. ولكن.. ألا يوجد أحد؟؟ أين الناس؟؟ أين توارت الأشباح؟!! لابأس.. سرتُ وحيداً.. سعادةٌ غامرة ملأت كياني.. شعرتُ برَغْبة في الغناء.. لم أستطع.. وجدت أنَّ الكلماتِ تموت في حلقي.. أقنعتُ نفسي بأن الغناء ليس تعبيراً مطلقاً عن السعادة.. الصمتُ هو حالة الاكتمال.. فجأة نبتت أمامي مجموعة من الرجال.. أحاطوا بي من كل جانب.. سقطتُ في مستنقع خوفٍ مزلزل.. تفرستُ في وجوههم، رأيتُهم يبتسمون.. داخلني بعض الاطمئنان.. هتف بي أحدهم: أأنت القادم الجديد؟؟.. لم أنبس بكلمة.. كان الخوف مايزال يلازمني.. اقترب منّي أحدُهم..

قبّلني ببشاشة ورقّة.. قال لي:

-.. اطمئن.. فقد أتينا لاستقبالك.

نظرت إليه ببلاهة.. قلتُ بصوت مرتجف:

-... ولكن، من أنتم؟؟..

أجاب بصوت مشجعّ:

-... لاعليك.. كن واثقاً.. نحن هنا لجنةُ الاستقبال.

سألته والدهشة تغمرني:

-.. لَجنةُ الاستقبال!! أتعني أنكم تستقبلون الموتى؟!!

أجابني بكل هدوء:

-.. لا.. إنك لم تمت بعد.. نحن نستقبل الزوّار فحسب.

زايلني الخوف إلى حدٍّ بعيد.. سرّني أنني لم أمت بعد.. استمدّيتُ من ابتسامته وهدوء ملامحه كثيراً من الطمأنينة.. قلتُ له:

-.. أنا جديد العهد هنا . فهل لي أن أتعرف إلى شؤون حياتكم ؟

نظر إليَّ بعطف شديد ، غرس في جسدي روحاً جديدة . قال :

- عليك بادئ ذي بدء، أن تتخلّى عن كل مالازمك في حياتك هناك.. نحن نعرف كيف كنت تعيش.

صعقتني جملته الأخيرة، نظرتُ إليه بحيرْةٍ وغباء.. قلتُ له:

-.. لم أفهم ماتقصُد.

ضحك ملءَ فمه.. قال لي بنبرة هادئة:

-.. يبدو أنك لم تطمئنَّ بعد.. وأخرج من جيب سترته ورقة مطوية فردها أمامي وتابع:

-.. عليك أن تتخلّى عن كل هذا، وإلا فلن تستطيع التعايش معنا...

أخذتُ الورقة.. قرأتُ مافيها بصوت مرتفعٍ، أخذ يتلاشى شيئاً فشيئاً: الخشية -الكذب- القلق- الشعارات المزيّفة.. كما قرأتُ أشياء خطيرةً جداً.. قادتني إلى انفصام وضياع شديدين.. سألتهُ بصوت خفيض:

-.. وكيف يعيش المرءُ بعيداً عن هذه الأشياء؟؟.

هزَّ رأسه.. ابتسم برقّة.. أجاب بحزم:

-.. سترى.. أن هذه العناصر لاوجود لها عندنا.. القادمون مثلُك يحملونها إلينا فقط.. الحياة هنا شيءٌ آخر

عاجلته بسؤال كبير:

-.. وهنا.. من يضطهد مَنْ؟؟.

أجاب بوقار جادّ:

-.. لاأحد.. هنا ليس لدينا حكومات وشعوب.. ولادولٌ قوية وأخرى ضعيفة..

-.. ومن يحكمُ التجارة ودواوين الدولة، ويسيطرُ على الأسواق والاسعار؟؟.

ضحك ملء فمه.. وقال:

-.. نحن.. لانعرف شيئاً عن هذه المصطلحات.

غطستُ من جديد في بحرٍ من الدهشة والاستغراب.. أيعقُلُ ذلك؟!!.. وعاجلته بسؤال ممزّق:

-.. والنفط.. ألم يستعبدكم.. ألم يسحق الإنسان فيكم.. ألم يغيّر أسلوبَ حياتكم؟؟.

أجاب بسرعة مذهلة:

-.. النفط!! وماحاجتنا إليه؟. نحن لانعرفه، نعيش في عالم من النور والدفء، والحبِّ والحنان...

تابعتُ باندفاع شديد:

-.. وأزمةُ السكن، وأسعارُ المنازل؟؟..

ضحك بصوت مرتفع، اشعرني بالخجل من الموقف ومن نفسي ومنه.... بدا لي أن هذا المخلوقَ الغريبَ، يدفعني إلى عالم الوهم والخيال.. حاولتُ التملّصَ منه بسؤال خلتُه سيسدُّ عليه منافذَ الاستعلاء:

-.. وماشأنكم مع الحرية، والسجون والمعتقلات والأبرياء، ودول العدوان؟؟..

قاطعني بنبرة واثقة حازمة:

-.. يبدو أنك لن تفهمنا إلا بعد حين، ولن تستطيع التحرّر من علاقات حياتك السابقة.

استدار وتركني وانضمَّ إلى رفاقه.. ظللتُ وحيداً أتلفّتُ حولي.... كان الهلام المحيط بي يزداد نوراً وعبيراً... وشعرتُ بالندم.. آلمتني المفارقاتُ العجيبة.. قررّت أن أتخلّى عن ذاتي السابقة، سبحتُ بخفّة ورشاقة، ووقفتُ قريباً من لجنة الاستقبال.. رحّبوا بي ثانية.. حاولتُ أن أعتذر.. قاطعني أحدهم:

-.. نحن هنا، لانحب الاعتذار، تعالْ.

وقفتُ بينهم.. سألني ذاك الذي يقف بجانبي:

-.. ألا تريدُ أن تتعرّف إلى عالمنا؟.

أجبته:

-.. بكل سرور... ولكنني لاأزال خائفاً.

ضغط على يدي، أشار بإصبعه إلى البعيد البعيد.. قال:

-.. الخوف هناك.. يفصلنا عنه هذه الكوى الكثيرة المنتشرة على التخوم.. أمّا نحن فلانعرف الخوف..

سرنا متجاورين.. التفتُّ إلى الوراء حيث كنّا نقف.. لم أجد أحداً.. تساءَلتُ  في داخلي: أين ذهبَ الآخرون؟؟ كنتُ أسير إلى جانبه والذهول يملأ كلَّ جوانبِ عقلي وجسدي.. التفتَ إليّ وسألني:

-.. أين تريدُ أن نذهبَ الآن؟..

فكرتُ ملّياً، وقد ساورني حنين طاغٍ إلى القراءة والكتابة.. سألته بشوق:

-.. اليس لديكم صحفٌ ومجلات؟؟..

أجاب:

-.. بلى.. ولكنك لن تستطيع قراءة مايُكتبُ فيها.. لأن كتّابنا يكتبون من داخلهم بلاخوف ولامداورة ولاتكلّف.

فتحتُ فمي عجباً ، وسألته بسرعة:

-.. والرقابة؟؟..

-.. ماذا تعني؟!!.. نحن لانعرف شيئاً اسمه الرّقابة.

كدتُ لاأصدق ماأسمع.. أصحيحٌ ذلك؟!! أم أنه يُدخلني في الوهم أكثر.. أشحتُ بوجهي، واحتميتُ بالصمت.. لعل مرافقي أحسَّ بما يجول في خاطري فتوقف فجأة، كمن تذكّر شيئاً، وسألني:

-.. ماذا كنت تعمل عندما كنتَ هناك؟.. وأشار بيده عبر الكوى:

-.. كنتُ معلماً.

-.. وأين كنتَ تعلّم؟.

-.. في مكان مامن الكرة الأرضيّة.

انفجر ضاحكاً، التفت إليَّ وقال:

-.. يبدو أنك ماتزال خائفاً!!

حنيتُ رأسي.. تابع يسألني:

-.. وماذا كنت تعلّم؟..

-.. أُعلّم كلَّ شيء. كلَّ مايُكتبُ في كتبنا.

انفرجت أساريره عن ابتسامة عريضة.. قال لي:

-.. هناك مدرسة قريبة.. هل ترغبُ في زيارتها؟..

اجبتُه بسرعة طفولية.

-.. نعم... نعم... أريد أن أزور مدرسة.. أيّةَ مدرسة.

بعد قليل، كنّا نلج بابَ مدرسة كبيرة جداً.. سرنا بحذر شديد، على رؤوس أصابعنا، كنتُ أخشى أن أخدشَ الهدوء، واعكرّ صفو الأصوات الواثقة، وأسيءَ إلى النظافة التي عمّدت كل شيء.. تجولت كثيراً... وقفتُ أمام نوافذ عديدة.. أصختُ السمعَ حتى كدتُ أن أهرشَ أذنيَّ ورأسي.... سمعتُ كلاماً وكلاماً كثيراً، لم أفهم منه شيئاً بادئ الأمر.. لم أسمع أحداً يتحدث عن البرابرة والفاندال، ولاعن غزة وأريحا...

ركبني دوارٌ شديد، لذتُ بمقعد قريب أستريح إليه.. أقبل صاحبي يواسيني ويشجعني... قال لي:

-.. أما قلتُ لك... يجب أن تتخلص من أُمورٍ كثيرةٍ حتى تستطيع الحياة بيننا.. سألته وقد بدأتُ أشعر بالهزيمة والاحباط:

-.. ومتى أستطيع ذلك؟؟.. هل سيطول بي الزمن؟

أجاب بهدوء:

-.. تستطيع ذلك، عندما تنفّذ ماقرأتهُ في الورقة قبل قليل..

عُدْتُ إلى الورقة أتصفّحها.. يالَلغرابة!! وجدتُ فيها مفرداتٍ لم أقرأْها سابقاً.. قرأتُ فيها: لاتخن وطنك -لاتسرِق -لاتكذب -لاتتآمر... انفجرتُ في وجهه صارخاً:

-.. هذه حفظتُها منذ صباي.

قاطعني بحزم:

- لكنك لم تنفّذ واحدة منها..

بدأتُ أشعر بالانهيار والتلاشي.. تمنيتُ أن أخلو إلى نفسي وأستريحَ من عناء هذه المفارقات الرهيبة.. سألته بصوت متهدّج:

-.. هل لي أن أذهبَ فأنامَ قليلاً؟

-.. لك ماتريد.

-.. ولكن أين سأنام؟.

-.. في غرفتك الخاصة.

لم يمهلني لأتماهي مع الدهشة، قادني إلى جوار واحدة من الكوى الكثيرة وأشار بيده إلى بناء صغير جميل وقال:

-.. إلى اللقاء ..أدخل هنا..

دخلتُ.. تجولتُ في المنزل الجميل وحديقته وشرفاتِه.. سُرعان ما تعرّفتُ إلى غرفة النوم الأنيقة الهادئة، وغطستُ في نوم خدرٍ لذيذ...

بدأتُ أتسلّقُ صخوراً عاتية.. لاأدري متى سأصل إلى قمتها.. كان الخوف يخلع قلبي.. البحرُ في الأسفل.. والصخورُ شاهقةٌ ملساء.. كنتُ أغرسُ أظافيري في الصخر الأصم.. وأنفاسي تتلاحق بعنفٍ وقسوة.. وأعصابي مشدودةً كأوتار رفيعة.. فجأة زلّت بي القدم، ورحتُ أتدحرجُ باتجاه البحر.. أحسستُ بأنني أصرُخُ من الأعماق صراخاً حادّاً.. استيقظتُ بخوفٍ وألم شديدين، كان جسدي النحيلُ المكدودُ يسبحِ في رذاذ من العرق البارد..وعينايَ الواهنتان تلوبان بحثاً عن شيء ما.. وعَبْرَ النفسِ المتقطّع والنظر الكليل والجسد المتلاشي.. شاهدتُ أخي ينحني فوقي، ودموعُه تغسل وجهي وعنقي، وإلى جانبه إخوتي الصغار، وأشباحاً أخرى ترتدي ملابس بيضاء..

حاولتُ أن أتكلم، فلم أستطع..حركت أصابع يدي اليمنى ...ثبّتُ ناظريَّ في الوجوه الماثلة أمامي كانت واضحة حيناً، وضبابيّة أحياناً أخرى.. أخذتِ الصور تتلاشى من أمامي.. تتلاشى.. وتتلاشى.. عندئذ أدركتُ أنني بدأتُ أدخلُ في طقوسِ موتٍ حقيقي..

 

 

عقاربُ الزمن

 

ظلت عينا الأم تراقبان ابنتها في حيرة وتساؤل، لقد طالت وقفتها أمام المرآة. طالت أكثر ممّا ينبغي.. الأم تذهب وتجئ، والفتاة مشدودة بكل أحاسيسها إلى مرآة معلّقة على الجدار، تعبث بشعرها، تتلمّسُ وجهها، تتلفّت وتتلوى، تدندن لحناً شعبياً شائعاً.. ازداد توتر الأم، وتسارعت حركاتها قريباً من الفتاة.. غريبٌ أمرها؟!! ماذا تعمل أمام المرآة.. أتحدّثُها.. أتُفضي إليها بسر؟؟..

منذ الصباح الباكر، تذكرتِ الأم جيداً، أنَّ على ابنتها ديمة أن تبدأ مساءَ اليوم دورةَ التقوية في اللغة الانكليزية في معهد خاص.. أخطرتها بذلك... في الوقت المناسب، أخذت ديمة تستعد للذهاب إلى المعهد لتلقّي الدرس الأول..

صاحت الام من الغرفة المجاورة:

-.. ديمة.. ديمة.. أسرعي، لقد حان الوقت.

ضحكت ديمة في سرها. حانت منها التفاتةٌ سريعة إلى معصمها الأيسر:

-.. لايزال الوقتُ مبكراً.

صاحت الأم بعصبية:

-.. لقد أطلتِ الوقوف أمام المرآة.. أتتحدّثين إليها؟!

سكتت ديمة.. علت وجهها ابتسامةً لامعة. تفوّهت بكلمتين صغيرتين:

-.. غريب أمرك ياماما!!

وراحت أصابعها اللدنة ، تضع  آخر اللمسات على شعرها وعنقها وخدّيها.. استداراتٌ رشيقة ذات اليمين وذات الشمال.. لحن أخرس ينسابُ عبر الشفتين..

وقفت الأم تحدّق بابنتها، تكحّل عينيها بذلك الجسد الأهيف الرشيق والشعر العنقودي المبعثر في كل اتجاه، والبشرة القمحيّة الجذّابة، والأنوثة الصارخة... ومع أريج العطر الفوّاح الرقيق، المنبعث من الفتاة، تماهت الأم مع أحلام بعيدة الغور، شدّتها إلى عالم بعيد منسي..

أيقظتها ديمة من ذهولها الحالم، عندما وضعت كفّها على كتفها، وخطفت من خدها قبلة رشيقة..

-.. خاطرك ماما.. أنا ذاهبة إلى المعهد.. سأعود عقب انتهاء الدرس..

استيقظت الأم من شرودها.. أعادتها ديمة من أحضان سنوات بعيدة خلت.. لفّتِ المكان حولها بنظرات زائغة.. شاهدت ابنتها تندفع بخفّة عبر ضلفتي الباب الرئيسي.. صاحت بصوت مبحوح:

-.. الله معك.. مع السلامة.. احترسي ياديمة.. لاتتأخري.

التفتت ديمة نصف التفاته.. عطّرت المنزل بابتسامة ناعمة.. وراحت تقفز حتى غيَّبَها الدرج المتلوّي.

***

ظلت أمينة وحيدةً في المنزل.. كل شئ حولها موصد، يوحي بالرتابة والجمود والانقطاع.. زوجها محمود ذهب قبل ساعةٍ كعادته إلى المقهى. لن يعود قبل منتصف الليل.. لقد أصبح المقهى بيته الثاني.. لا. قد يكون بيتَه الأول.. بعد زواجهما بعشر سنوات كان لايبرح البيت، يعود من عمله سعيداً مستبشراً.. يقضي المساء والليل ساهراً مع امينة وديمة الصغيرة. يوزعُ الفرح والابتسام في أرجاء البيت.. منذ سنوات قادته قدماه خارج المنزل، حتى أن ابتلعه المقهى لقمةً سائغة هيّنة...

المنزل يجلّله الصمت.. صمت جليديٌّ مطبق.. أمينه، وغرف ثلاثٌ محشوّة بأثاثٍ مختلفِ الأشكال.. نظرت أمينة من الشرفة، كان الشارع المزدحم قد غيّبَ ديمة.. أمينه تدق الأرض بقدميها وهي تنتقل من غرفة إلى غرفة، ترتب الموجودات، تعيد الأمور إلى نصابها.. تنتقل بعفويّة بين غرفة النوم والمطبخ والحمام والصالة الكبيرة.. في كل مرة تغرسُ عينيها في المرآة المعلقة على الجدار، تنظرُ إلى وجهها.. لسنوات خلت لم يكن لديها فرصةٌ للوقوف أمام المرآة طويلاً.. لم تكن تجد لزوماً لذلك.. كانت المرآة شيئاً مهملاً في حسابها... تنتقل من غرفة إلى أخرى، تنتحلُ المبرّرات للتريّث أمام المرآة... لقد فجّرت ديمة في داخلها شيئاً ما.. ديمة ابنة الثامنة عشرة، وقد نالت الشهادة الثانوية قبل أسابيع.. فجرّت في نفس أمينه أشياء وأشياء.. تكاثرت النظرات المسروقة من المرآة.. تعددت مرّات الوقوف السّريع.. تباطأتِ الحركة.. تلاشى النشاط المتوتّر عبر الغرف الثلاث، همدت حركة أمينة الناشطة.. تسمّرت قدماها أمام الجدار، ابتسمت لها المرآة، صافحت وجهَها بعد فراق طويل.. كان وجه ديمة القمحي اللامع ، وجسدها النحيل ، ونظراتها المشرقة ، نبضات الحياة حول أمينة... أمعنت النظر جيداً... لم تكن ترى إلا نصفها العلوي.. وجهٌ مكتنز.. خدود مكتظّة.. شفاه ممتلئة.. عنقٌ يكاد يتفجّرُ من الامتلاء.. صدرٌ يعلو ويهبط بأثقاله... هالها المنظر، وهي ابنة السادسة والثلاثين... تذكرت ابنتها ديمة.. الرشاقة، الجاذبيّة، السحرُ والخفّة.. حقدت على المرآة.. حانت منها التفاتات بلهاء مشتّتة إلى كل الأماكن.. إلى سرير ديمة.. إلى غرفة نومها.. إلى السرير المزدوج العريض.. إلى مفروشات الغرفة.. تذكرت زوجَها محموداً، الغارقَ في المقهى بقسوة، صاحبَ الجسد الممتلئ والقامِة الفارعة والملامح الجادة والقسمات الصارمة.. تذكرت ديمة وهي واقفة طويلاً أمام المرآة، تعبث أصابعُها بكل أجزاء جسمها.. تبعثرت نظراتُها التائهة مع عناصر شتىّ.. ديمة. محمود. المقهى. غرفة النوم. المرآة. الغرف الثلاث. وجهها المكتنز. جسدها المترهل...و ...و..

سحبتها النظرات التائهة على بساط رخيٍّ من الأحلام والذكريات، تماهت مع أيام بعيدة خلت.. تلونت الأحلام بألوان قوس قزح. بألوان طيف لاينتهي.. استيقظت الذكريات حادةً من مرقدها.. حفرت في نفسها أخاديدَ عميقةً نازفة... كانت في مثل عمرها. عمرِ ديمة.. في الثامنة عشرةَ، تتباهي بمثل ذلك اللون الأسمر القمحي الجذاب، والخصر الأهيف ، والنظرات الآسرة ، في كل يوم تذهب إلى المدرسة .. مدرسة ليلية . تذهب بعد الظهر وتعود بعد الغروب بقليل... في الطريق إلى المدرسة الليلية تعرفت إليه.. لابل تعرَّفَ إليها.. كان خالدٌ طالباً مثلها، يسكن قريباً من بيت أهلها، ويدرس في المدرسة الليليّة ذاتها... وحَّدَ الصف بينهما. وكان طالباً مجدّاً. استعانت به كثيراً. أولاها مزيداً من الاهتمام.. أخذ يرافقها في طريق العودة. وعند باب دارها يفترقان، بفترقان بصعوبة.. أصبحت تحب المدرسة والدراسة لأجل خالد.. يسيران في طريق العودة ببطء، يستمهلان الزمن، يتحدثان بلاحدود.. عندما ينقطع التيارُ الكهربائي، يحتضن كفّها الصغيرة بكفِه كيلا تتعثر.. أشهرٌ قليلة مرّت بسرعة البرق، وحان فحص الفصل الأول.. عائدان من المدرسة الليليّة..الحديث المهموس يعطّر جوَّ الشتاء القارس.. وكل منهما يعرف طريق كفّهِ إلى كفِّ الآخر، ويتمنّى ألاّ ينتهي الطريق... عند باب البناء الرئيس، حيث تسكن أمينة، توقفا طويلاً.. في تلك الأثناء، خرج شخصٌ فارع القامة، ممتلئ الجسد، له نظراتٌ عقابيّة، صارم الملامح.. وقف الرجل ينظر إليهما بعنف، أخافتهما نظراتُه، افترقا على غير رغبة منهما.. أسرع كل منهما هارباً.. خالد راح يغذُّ الخطا باتجاهٍ آخر، وأمينة ولجت باب البناء الرئيس والخوف ينهشُ قلبها، ويعِقدُ لسانها.. توجهت إلى شقّةِ أهلها.. تبعها الرجل الآليّ.. أغلقت الباب وراءَها، وراحت تجترُّ المفاجأة ومنظرَ الرجل الآلي... في اليوم التالي، لم تذهب أمينة إلى المدرسة الليلّية، عاد خالدٌ وحيداً حائراً. وقف أمام باب البناء الرئيس، زفرَ كآبتَهُ ومضى... أمينةُ لم تذهب إلى المدرسة، ذاقت ألواناً من العذاب النفسي.. إلاّ أنها لم تتمرّد. لم ترفض. رضخت على غير قناعة منها... لقد خطبها الرجل الآلي. وخلال شهر واحد أصبحت أمينةُ زوجة محمود...

لفّتها تلك الأحلامُ بالأسى، ووخزتها الذكرياتُ المرّة.. أعادتها إلى واقعها.. كانت لاتزال أمام المرآة تجترُّ مشاهد الامتلاء والترهل والاهمال، لقد أصبحت خلال سنوات صورةً عن محمود، صورة عنه في كل شيء. تناوبت على صفحات ذاكرتها أسماءٌ تدور كلوحة الكترونية.. خالد. أمينة. محمود. ديمة. المدرسة. المعهد. الطريق إلى البيت... فجأة وخزتها صورةٌ محدّدة. أبعدتها عمّا حولها. أنستها كل شيء.. نسيت المفارقة العجيبة التي أنبأتها بها المرآة المعلّقة على الجدار.. تلاشت من ذاكرتها صورة الجدِّ والصرامة التي تغطّي سحنة محمود وتصرفاته.. نسيت البيت والمقهى والعمر والزمن، توحّدت مع واحدة فقط من ركام هذه الذكريات المتداخلة، جرّدتها عن كل ماعداها. اعتصرتها بعنف، تراخت بجسدها المكتنز إلى أقرب مقعد خالٍ.. رذاذٌ من التعرق ألهب جسدها. عاد التوتر يأكلها بنهم. استسلمت لهواجس مرّة جلدت أعصابها... في مثل هذه الساعة وقبل ثمانية عشر عاماً وأكثر... كانت تعود من المدرسة الليلية.. عيناها معلقتان بوجه خالد، وكفّه تحتضن كفها، والحديث العذب يزرع الدرب ياسميناً وبنفسجاً، وظهرَ وجه محمود الصارم المتجهّم، ليضعَ حداً لكل شيء.. افترستها مخاوفُ حادّة "ديمة الآن عائدة إلى البيت... أيكون هناك خالدٌ آخر.. تصورت كفها في كف خالد.. شاهدته يهرب من جديد مسرعاً أمام الرجل الآلي ذي الملامح الصارمة...لا...لا... مستحيل. آه ياخالد.. ليتك لم تهرب.. ليتك لم تتركني وتذهب.. لكان تغيرّ كل شيء."

هبّت واقفة حانت منها التفاتة إلى الساعة المعلقة على الجدار قرب المرآة.. لسعتها الدقائق أكثر. تناولت معطفها وخرجت مسرعة، وتضاريُس جسدها ترسم على الدرج أمواجاً عشوائية، إلى أن لفظها ورماها في أشداق الشارع المزدحم... سارت تدق الأرض بنعليها.. على بعد خطوات غير قليلة لمحت ديمة. توقفت كجذع شجرة هرمة، حدّقت فيها طويلاً.. الشعرُ المتماوج. القدُّ الأهيف. المشية المتثنيّة الهادئة. اللون القمحيُّ ينثرُ ألقَهُ عبر سويعات المساء البارد.. غرست فيها عينيها أكثر.. إلى جانب ديمة شابٌ أنيق.. هاهو خالدٌ آخر، هكذا حدثها قلبُها... الموكب يسير ببطء شديد.. العيون الأربع معلقة بالوجهين اللذين يفضحان أسرار الفرح والأمل والحب... تاهت أمينة من جديد في دوامة الذكريات.. تكسّرت في مشاعرها حدودُ الزمان والمكان.. تداخل شريط التذكر.. لفّها بغمامة من الضياع والعبثية.. فوجئت بصوت ناعم يصيح:

-.. ماما.. ماالذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟!!.. هل تأخرت؟؟.

صَحَتْ أمينةُ من التداخل والضّياع.. قالت برفق:

-.. لا.. أتيتُ لأرافقكِ شطراً من الطريق يابنتي.. من هذا الذي بجانبك؟.

ابتسمت ديمة.. صافحت نظراتُها اللامعةُ الواثقة وجهَ أمّها التفتت إليه، وقالت:

-.. إنه مروان.. مروان ياأمّي.

تخثَّرَ اللعاب في حلق أمينة.. تجمدّت نظراتها الكابية.. انتصب أمامها خيال خالد، أرادت ان تعاتبهُ.. سدَّ الطريقَ عليها خيال محمود، قرعت أذنيها جلبةُ المقهى والصورة الجادّة الصارمة العابسة.. ادارت وجهها لتبتسم لخالد، لتعاتبه... لم تجده.. لقد تلاشى الخيال، هرب من جديد.. وجدت أمامها مروانَ بقامته الشابّة، ووقفته الثابتة، ووجهه الباسم، ونظرته الجريئة الخجلى.. ويدٍ تحمل في كفّها المودةَ، وقد امتدت للمصافحة...

عندما أُغلق بابُ الشقّة على الأم وابنتها، استنطقت الأم المرآة بنظرة عجلى.. هزت راسَها.. غيرَّت موقع عقارب الزمن.. طوت منه سنوات طويلة.. التفتت إلى ديمة.. أمسكتها من كتفيها.. هزتها برفقٍ وقالت:

-أيتها الفتاة الواعدة، التي عرفت طريقها..

أجابت ديمة

-.. وهل كنتِ تخشين علىَّ أن أضلَّ الطريق؟.

-.. لا.. لن أخشى شيئاً. فبيني وبينك قرابة ربع قرن من الزمن، متخمٍ بالترهل والاهمال والوجوه الصارمة والمقاهي...

شُدِهت ديمة، ورفعت حاجبيها مستعلمةً مستغربة.. قالت هامسةً:

-.. لم أفهم شيئاً ياأميّ.. ماذا تقصدين؟!!.

-.. ستفهمين ذات يوم أيتها الحبيبة الغالية. فأنا لن أخشى عليكِ شيئاً.

وغابت الاثنتان في عناق طويل، بلّلتهُ دموعُ الأم، التي كادت تفضح أسراراً دفينة، انطوت عليها شقّةُ محمود بغرفها الباردة الثلاث.

 

 

الرصيف التائه

 

لم تكن الشمس قد تسلقت صفحة السماء بعد.. كانت ماتزال تلقي بتحيّة خجولة إلى الناس القابعين خلف النوافذ والجدران.. أعداد قليلة جداً قد غادرت بيوتها وراحت تدق الأرض سعياً وراء الرزق والعمل المبكّر....

كان يسيرُ على الرصيف الأيمن متدثراً معطفه القديم، يلفّ رأسه بمنديل سميك، إنه يخشى برد الصباح وزمهريره.. صحيح أن الشمس قد أخذت تداعب يوماً جديداً، إلاّ أن الأرض كانت تنفث برداً جليدياً اختزنته منذ فترة طويلة.. المسافة ليست بعيدة، عّما قريب سيصل إلى محطّة السيارات الذاهبة إلى العاصمة.. صوت نعليه يوقظ صمتَ وجليدّ الرصيف، يسيرُ بتؤدة مخافة التزحلق.. كان فيما مضى لا يخشى شيئاً، لكنه الآن وقد ودّع الكهولة، وأوغل في ردهات الشيخوخة، أصبح يخشى على نفسه من كل شيء.. اقترب كثيراً من مقصده.. المحطة غاصّة بالسيارات الكثيرة، التي اصطفت وراء بعضها كرتل أحاديّ، وقد توجهت مقدماتها صوب محور الطريق الممتد نحو العاصمة.. المحركات تجأرُ بأصوات ناشزة تقلق كينونة الصباح المبكر، والدخان الأسود ينعقد في الجو سرطاناً مدمّراً يزكم الأنوف ويخرّب الصدور.. اقترب من السيارة الأولى التي تتصدّر القافلة، التصق بها، امتدت كفه اليمنى وأمسكت قبضة الباب الأمامي المفتوح... يا الله... نهض بعزم مألوف.. دسّ جسده عبر جوف السيارة..تلفّت حواليه، نظر إلى كل الجهات.. تفحص كل المقاعد.. لم يجد مكاناً يروق له.. المقاعد المفضّلة قد امتلأت بالأجساد المتراصة.. تفحَّصَ الوجوه، لم يعرف أحداً، الملامح ساهمة، والنظرات كابية، والبخار ينعقد أمام الأنوف والأفواه،.فيشكل حالة شتائية تعمّق الإحساس بالبرد والصمت والذهول.. اتجه نحو مؤخرة السيارة، والقى جسده النحيل فوق جانب من المقعد الخلفي.. استسلم كغيره لسبات مُرهف، وراح يلعق شفتيه الجافتين، وينفخ زفيراً رطباً في راحتيه المتبلدتين...

اكتظّت السيارة بالأجساد المتراصّة.. امتلأت المقاعد والممرّات وغطاء المحرّك والزوايا الجانبية.. لم يبق شبر واحد في جوف السيارة إلا وقد تغطّى بالأقدام.. تجولت عينا السائق عبر المرآة الأمامية، تفحصتا الحاضرين، أعلنتا ابتسامة تنطوي على بعض الأسرار، تحركت كفّاه وقدماه بحركات خفيّة، تدحرجت العجلات على الاسفلت ببطء شديد.. تزايدت سرعتها شيئاً فشيئاً حتى استقرت على حالة ثابتة.. هدأت الأجساد عن التأرجح والانزياح يميناً ويساراً، وبدا لبعضهم أن الاستسلام للنوم يشكل ملجأً للفرار من الحالة الراهنة.. كان جسده النحيل قد انحشر بين أربعة من الراكبين، احتلَّ مركز الوسط بينهم، تلذّذ بالاحساس بالدفء عن الاحساس بالمضايقة والضغط ،  استسلم لحرارة ناعمة تخترق جسده ومفاصله، بينما انصبّت نظراته في جوف السيارة المتخمة على مشهد مثير...

في المقعد الأمامي من السيارة، كانت تقعد امرأة بدينة، لم يكن يرى منها سوى كتفيها ورأسها، وإلى جانبها على المقعد تقف طفلة تخيّل أنها تجتاز ربيعها الثالث.. جميلة هذه الطفلة.. يا الله.. ثبّت نظراته على وجهها الناعم.. شعرت الطفلة بنظراته تخترق وجهها.. ابتسمت له.. ضحكت.. آه.. ماأجمل ابتسامات الأطفال.. ازداد اصراراً على احتواء الوجه الطفولي بعينين متوسلتين.. أيقظ الوجه الطفولي في نفسه أحاسيس كثيرة، حرّك عوامل دفينة بعيدة.. لوّن ذكرياتٍ مرّة بألوان شيّقة.. يا الله.. ماأكثر الشّبه بينهما.. هذا الوجه الملائكي يشبه وجهها عندما كانت صغيرة مثلها.. حمله هذا التشابه والإحساس على بساط متأرجح من التذكر.. تداخلت الأحلام والذكريات، وراح الوجه الطفلي الجميل يدير شريط الذكريات المخبأة في صدر اتعبته الحياة...

السيارة تسير نحو العاصمة... ذاكرته، أحاسيسه، أعصابه، انطلقت كلها على أجنحة البرق الخاطف، وحلّت في ربوع العاصمة، اختزلت عقوداً من الزمن.. كان لايزال شاباً يسير هو وزوجته وطفلته في شوارع تائهة من العاصمة التي يقصدها الآن.. كان يسير معذّباً ينهشه الألم والضّياع، كأنه هو المسؤول عن هذا التشرّد.. لقد استطاع أن يفلت من إرهاب الاحتلال والعدوان، فخرج كما خرج الألوف من أبناء وطنه.. قصد وطناً آخر.. وصل العاصمة الأخرى.. هو وزوجته وطفلته يسيرون على غير هدى.. إنهم مشرّدون.. جائعون.. متعبون آهٍ.. ايّ عذاب هذا

السيارة تسير نحو العاصمة... أحاسيسه تسبق السيارة، تغوص في أوحال وهلام العاصمة.. انقضّت الذكريات عليه مثل أفعى مجروحة.. الجوع ينهش معدته، لابأس.. ولكن كيف يتصرّف مع جوف الطفلة الصغيرة.. زوجته وهو قد يصبران.. أما الصغيرة فلا.. لم يكن في حوزته، إلاّ مايكفي لشراء وجبة رخيصة من الأكلات الشعبية.. إنهم لايجرؤون على ولوج أحد مطاعم المدينة الكبيرة.. بين الفينة والفينة، كانت أصابع يده اليسرى تمتدّ إلى جيبه لتتحسّس الليرات القليلة القابعة في قعرها..

السيارة تسير نحو العاصمة.هو يبحث في العاصمة عن وجبة طعام شعبية تُسكت عواء الجوع في البطون الثلاث .. الأقدام تسير متعبة ، والوجوه تلوب شاحبة ، والعيون تبحث دون جدوى .. الجوع يطفئ في الرؤوس كل إحساس ..اقترب المهاجر و زوجته يسحبان طفلة لم تبلغ بعد الرابعة من عمرها .اقتربوا جميعاً من حافّة الرصيف ، التصقوا بالمحلاّت التجارية ، ينظرون بعيون مرتعدة .. أخذت الطفلة تتعلّق ببعض المعروضات ، تحاول العبث بها ، فيجرّانها مؤنبين .. كانت تشير بيدها إلى كثير من الأشياء .. تلثغ .. تتكلم .. تهمهم .. تصرخ .. تضرب الأرض بقدميها .. تتوقف .. دون أن يفيدها ذلك في شيء .. الليرات القليلة القابعة في قعر الجيب الأيسر كانت تتكلم .. تُملي على الأبوين كل تصرّف وموقف .. لكن الطفلة الصغيرة لاتعرف شيئاً ، ولاتعبأ بأي شيء.

السيارة تعدو نحو العاصمة .. الأبوان يبحثان عن دكان صغير يبيع بعض المأكولات الشعبيّة .. أتعبهم المشي .. هدّهم الجوع .. أذهلتهم لوائح الأسعار المعروضة ..لكن الطفلة ظلّت تهمهم وتلثغ وتعاند وتضرب الأرض بقدميها .. وصلوا أخيراً إلى محل ناتئ على الرصيف يبيع ما يسدّ الرمق .توقفت الأم تنظر ، تفاضل بين الأشياء ، وتسمّر الأب يعدّ الليرات ويحسبها .. طابت نفسه عندما وجد أن ما معه يكفي لإشباع ثلاث بطون خاوية .. لكنه لم يكن ليحسب حساب خدعة غير منتظرة..

السيارة تنطلق نحو العاصمة.. هناك في العاصمة حيث توقف المشردون الثلاثة أمام دكان الأطعمة الرخيصة، كان محل آخر يبيع لعب الأطفال، يجاور المطعم الشعبي، لايفصله عنه شيء، احتل هو الآخر جانباً آخر من الرصيف.. أفلتت الطفلة بإصرار من أبويها، وانقضّت على أرنب بلاستيكي، قفز في مكانه بواسطة زرٍّ ومحور يدوي.. احتوت اللعبةَ بين كفيها الصغيرتين.. نهرها الأب بشدّة، ضّمت اللعبة إلى صدرها، صرخت وأخذت تبكي.. صفعتها الأم على كتفها، فلم تتخلَّ عن الأرنب.. جرّها أبوها نحوه، عبثاً حاول تخليصها اللعبة.. فقد ملأصراخها وبكاؤها جنبات الرصيف، واتجهت إليهم أنظار الباعة والناس العابرين، وتوقف بعضهم يراقب المشهد..

السيارة تخطف الطريق نحو العاصمة.. ذاكرته هناك، في قلب العاصمة.. زوجته الجائعة، قالت له: الابأس، لنشترِ اللعبة.. واختنقت بدموعها... نقدَ المشرّد البائع ثمن اللعبة، وقد شعر بأن أزمة الجوع بدأت تتقلّص، لأنه تخلّص من أزمة الإرباك والإحراج.. نظر إلى الطفلة، كانت تقبَّل لعبتها، وترنو إلى والديها بحنان وفرح كبيرين، وقد تلاشت آثار الدموع من عينيها..

تابع المشردون سيرهم بسرعة، كان الأب يريد أن يبتعد عن دكان الأطعمة، وقد سّره أن ثمن اللعبة لم ينتشل كل مافي جيبه، فلقد بقيت بعض أجزاء الليرة تندحرج في قاع جيبه.. الطفلة تهزّ اللعبة.. تقبلها.. تدير المحور ليقفز الأرنب بين يديها.. الأبوان يأكلان الصمت والحيرة.. وبين الحين والآخر يختلسان نظرات سريعة إلى الطفلة، ليسرقا بعض ملامح السرور الطافية على وجهها الجميل..

فجأة توقف الأب أمام عربة تحتلّ زاوية من الرصيف، مثقله بقطعٍ من الحلوى الجافّة، وبسرعة لاتقبل التردّد.. ألقى أمام صاحب العربة كل مافي جيبه دفعة واحدة، ناوله البائع قطعة حلوى صغيرة معجونة بالسمسم والسكّر.. استدار وهو يبتسم، أعطاها للطفلة اللاهية بأرنبها.. أخذتها الطفلة ضاحكة وقذفتها إلى فمها الصغير دفعة واحدة...

تنفّس المشرد الصعداء.. التقت عيناه بعيني زوجته.. الشّحوب يأكل وجهيهما.. ومالبث الإثنان أن أنفجرا بضحكات مكتومة متطاولة....

السيارة الآن لاتخطف الطريق... تتهادى في سيرها.. تبطئ أكثر.. نظر إلى مقدمة السيارة، لاحت له أبنية العاصمة البرجيّة قريبة جداً.. كانت الأجساد المتراصة تتهيّأ للهبوط.. نظر إلى المقعد الأمامي، كانت الطفلة ماتزال واقفة على مقعدها، تطوّق بذراعها اليسرى عنق والدتها، وبيدها الأخرى تداعب شيئاً ما.. وعيناها تشيعان في جوف السيارة المتهادية ابتسامةً عذبة رقيقة....

 

 

اختراق الزمن

 

اندلعت نار الحرب العالمية الثالثة، دمُر الإنسان وجوده، كان ذلك مخالفاً لتوقَعات كبار رجال السياسة والاقتصاد.. كانت الحرب سريعة جداً..استمرًت ستَّ ساعات فقط.. ومضة في حساب الزمن والأحقاب.. مدمّرة جداً في حساب الحياة والفناء.. استُخدمت فيها أشد أنواع الأسلحة فتكاً، تلك التي اخترعها الإنسان عبر مسيرة القرن العشرين، من نوويّة، وحارقة، وكيماوّية، وحقد إنساني ..

حصل ذلك في الساعات الست من ضحى يوم الأول من شباط لعام2000 ميلادية.. ست ساعات فقط، وعمّ الدمار الشامل كل أنحاء المعمورة..

اختفى الإنسان من الوجود، وبقي بضع مئات تلوب كالسلاحف على سطح الأرض، تعاني من الحروق والكسور والتشوّه، وفقد الأعضاء..

مات الإنسان مختنقاً بيديه، بالأنسجة التي حاكها.. كان نسيجه أولّ الأمر فضفاضاً، موشّىً بأطيا فٍ من ألوان الثقافة والحب.. لكن ما إن حاك نسيجه بخيوط الحقد والعدوان، حتى ضاقت الأردية، فخنقته وغابت شمس الحضارة... بضع مئات فقط من الناس ظلّوا يتعثرون على سطح الأرض الخربة..

كان العاِلمُ ( س ) أحدَ أولئك القلائل الذين أتُيح لهم العيشُ بعد حرب ستِّ الساعات.. مات كل الناس من حوله.. والداه.. زوجته.. أولاده.. أصدقاؤه.. مدينته تخرّبت عن بكرة أبيها، ليس للآخرين حظ مثل حظه.. قبل حلول ساعة الصفر، كان موجوداً في تلك البناية الضخمة يعرض على المسؤلين فيها مخطّطَ اختراعٍ جديد انتهى من اختراعه قبل أيام قليلة.. عرض مخططاته على المسؤلين، لم يجد تفّهماً كافياً.. قال له أحدهم: نحن لانفهم إلاّ في القتال، نحسم الأمور عسكرياً.. ساُحيلك إلى مركز البحوث العلمية، فهناك ستجد آذاناً صاغية متفهّمة.

في مركز البحوث العلمية، كان يعرض مخططاته، عندما تزلزلت الأرض وحدث الهجوم الصَاعق غير المنتظر.. هرع مع غيره إلى الملجأ الحصين جداً، المعدّ لدرء مثل هذه المخاطر المفاجئة.. بعد ست ساعات، وانتهاء آثار الإشعاع الذي دمّر كل شيء.. كان العِالم (س) يحبو بين الأنقاض ورائحةِ الموت وا لدّخان.. وراح وهو يحمل حالة عصبيّة مفزعة، يفتّش عن بيته في مدينة لم يبق منها سوى البقايا  اهتدى أخيراً إلى بقايا بيته حيث لم يجد مكاناً آخر يأوي إليه.. استطاع الحصول على بعض بقايا الأطعمة المحفوظة...

عندما يهبط الليل، كان يشعل النار في بقايا الأخشاب الكثيرة المنتشرة حوله، ليدرأ عنه البرد والصقيع... الحالة العصبيّة التي سكنت قلبه ودماغه، قد بدأت تتراجع عبر الأيام... تسليته الوحيدة، كانت تلك الهرّة التي وجدها بين أنقاض البيت، تأكل من بقايا طعامه.. إلا أن التشويه الناتج عن الحرب قد بدا عليها، لقد أصبحت جرداء من الشعر، مقطوعة الذيل.. تسير بلا توازن.. لكنه اضطر أخيراً لأن يقتلها، لأن شهيّتها للطعام كانت بلا حدود، إذ كانت تسطو على طعامه القليل عنوة، فيظلّ جائعاً...

العالم (س).. كان قبل الحرب يعمل استاذاً للعلوم الحيويّة في أكبر جامعات المدينة، يعيش الآن كالحشرات، جائعاً أبداً، يبحث في الأرض عن أي نبات أو شيءٍ يمكن أن يأكله.. يرتدي ملابس بائسة لاتكاد تقي جسده غائلةَ البرد.. يناجي كل يوم أطلال مدينته الخربة.. إنها بقايا مدينةٍ كانت ذات يوم تتألق وتزهو بأكبر جامعات العالم، وتساهم في غزو الفضاء، وتطوير مقولات العلم.. السماء في بقايا المدينة لم تعد صافية، زرقاء، أصبحت رمادية كئيبة شاحبة...

انتهى كل شيء.. هكذا قال لنفسه، والبرد والجوع يهدّانه.. لم يبق في العالم جمال ولاثقافة.. انفجر باكياً ليس من أجل نفسه بل من أجل الإنسان..لم يحتمل هذا المصير.. بكى داخلُه.. قال: بعد أكثر من مليون سنة من التطور البشري، عاد الإنسان إلى الكهوف والعراء من جديد..

قرّر العالم (س) أن يستثمر الأرض، أن يستنبتها.. كان الجوع ضارياً.. أخذ يعمل في حديقة منزله الخرب.. أعاد إليها شكلها القديم.. أنهكته جرفاً وحفراً وزرعاً.. ذات مساء وقبل غروب الشمس، بدت له حشرة..استند إلى فأسه الطويل، أخذ يراقبها وهو يلهث بعنف، ثم انحنى والتقطها بين اصبعيه، نظر إليها بعمق.. تعجّب.. قال في سرّه: أهو تشويه آخر.. إنها تكاد تشبه الجرادة ولكنها ليست بجرادة، فصد رُها مختلف، وجناحاها قصيران جداً، وقوائمها غيرشائكة..التزم جانب الصّمت وهو يدرس الحشرة الغريبة.. إن هذه الجرادة مختلفة بعض الشيء عن الجراد المألوف، إنها أصغر حجماً، وتنفّسها ضعيف، وضربات قائميتها الخلفيّتين رخوة جداً.. لقد لعب التشوّه النووي دوره فشوه حتى الحشرات..

استمر يدرس الحشرة الغريبة.. واتتهُ فكرة عجيبة.. ماذا لو أن الجراد أكبُر حجماً!! وأتيح له وهو يعيش بهذا الشكل الجماعي المطلق، وهذا الدأب والسعي الحميم الذي نعرفه عنه.. ألايستطيع أن يحكم العالم؟؟!!.. ألا يكون بديلاً أفضل من الإنسان؟؟ الإنسان الذي مزّق أرديته، وشوّه نفسه، وقضى على حضارته، ألا يكون الجراد خيراً منه...

مرّت بخاطر العالم(س) كّل هذه التساؤلات وهو يقلّب بين يديه الجراد ةَ المشوهة.. بدا على وجهه نوع من التصميم الجاد.. توحّد مع ذاته لحظاتٍ غير طويلة.. ثبّت نظراته على الحشرة المشوهة، وبأصابعَ متأنيّة واثقة، شقَ جسد الجرادة، استخرج منها كتلة من البيوض وألقى بجسدها بعيداً... كانت الشمس آنذاك قد أفلت، وبدات خيوط العتمة تغزو أطلال بيته، وبقايا المدينة المخّربة، وهو يسائل نفسه: هل يمكن للجراد أن يحكم العالم؟؟..

****

ترك العالم (س) فأسه، وانكفأ إلى البيت ترافقه تصوراتُه وتساؤلاته.. مدّ يديه وأشعل مصباحاً متخلّفاً ليبدّد العتمة.. توقّف.. تسمّر في مكانه.. تمتم كلماتٍ حانقة مغتاظة..تباً له.. لقد نسيَ أمراً على غاية من الأهميّة.. ضغط على أسنانه حتى كاد يطحنها.. كيف حصل ذلك؟.. لعلّه شكل من أشكال التشويه أيضاً.. هرش رأسه.. تذكر كل شيء.. الآلة الراقدة تحت الركام في قبو البيت الداخلي..ابتسم العالم (س) لأول مرّة منذ فترة طويلة.. هذا هو اختراعه العظيم الذي كان يعرض مخططاته على المسؤولين في مركز البحوث العلمية.. إنه ((جهاز اختراق الزمن )) المجّهز بعقل الكتروني جبّار.. هذه الآلة التي يمكنها أن تنفذ عبر جدار الأحقاب الزمنّية صعوداً وهبوطاً، إلى الماضي والمستقبل مهما امتدّا.. الإختراع الكبير الذي أفنى فيه عصارة عمره وعقله وعلمه..

تحرّر العالم (س) من جموده وغيظه.. كان الكون قد غطس في العتمة كليّاً.. تحرّك.. حمل المصباح المتخلّف وسار باتجاه القبو.. أخذ يتحسس طريقه بيديه عبر الضوء الخافت، ويزيح من طريقه عثرات كثيرة..تراب وحجارة وحشرات لاحصر لها.. توصّل أخيراً.. كان الجهاز يرقد ضمن صندوق خشبي.. نفض عنه التراب.. أخرجه، نظر إليه بعيون وحشّية وفرحة غامرة..مسح عليه بأنامله المرتعشة كطفلٍٍ معذّب.. حمله وعاد به يتعثر في الركام من جديد.. عندما استقر في غرفته المتآكلة تمتم.. نعم..نعم.. سأتيح للجراد الفرصة لكي يحكم العالم، ربما يكون خيراً من الجنس البشري الذي مزّق رداءَه.. لعله يعمل على تحقيق السلام الذي فشل الإنسان في تحقيقه...كان الجهاز سليماً جداً.. بطاريته مشحونة بأكملها.. العقل الألكتروني ينتظر إشارة لبدء العمل.. ساوره لذلك فرح جنوني...

قدح زناد البطارية.. ضغط أزراراً كثيرة.. أخذ المحرك يهتزّ ويصدر اصواتاً رتيبة هادئة..أحكم إغلاق باب الغرفة، ضغط زرّاً آخر، تغيّر صوت المحرك وأخذ في الإرتفاع التدريجي.. أخذت اللحظات الراهنة تختفي في لوحة الحياة، الماثلة، غاصت في رحم الماضي.. ابتعدت، ابتعدت أكثر.. توقّفت قبل ملايين السنين الغابرة..

عاد العالم (س) يعيش حياة تلك الأيام قبل ملايين السّنين.. سار بين أدغال كثيفه، كان يتعثّر جرّاء الأغصان المتشابكة والتربة الرخوة اللزجة التي تنهار تحت قدميه.. غزت أذنيه أصوات غريبة.. شاهد من بعيد حيوانات عملاقة ضخمة.. ديناصورات متنوّعة، سلاحف مخيفة، أنهار تخّر بشدّة.. منظر مدهش مثير للسماء والنجوم والكواكب.. الرطوبة تغلّف الكون، والسحب تتكاثف بشدة حول رأسه وجسده، وطيور ضخمة تجدّف بأجنحتها عبر السحب المتراكمة.. على الرغم من أن العالم (س) يعرف أن جهازه قد اخترق الراهن إلى الماضي السّحيق، فقد أصابته رعدة قاسية جرّاء ما رأى.. ارتدَّ عن مخاوفه بعد فترة متذكراً مهمته العظيمة.. عمد إلى التربة الرخوة جداً، غرس فيها إحدى بيوض الجرادة المشوهة، وعلى بعد أمتار غرس ثانية وثالثة.. عندما دفن البيضة الأخيرة، وأهال عليها التراب اللزج، فرك كفيّه بشدّة، وتمتم بارتياح كبير.. لقد انتهت المهمّة، وغمرت وجهه ابتسامةً مفاجئة.. قال في داخله: سأبني التاريخ من جديد، وبطريقة أكثر إتقاناً.

ألقى نظرة شاملة عميقة على هذا العالم المغرق في القدم.. ملايين السنين تسبق الراهن.. هزّ رأسه.. ثبّت ناظريه على ((جهاز اختراق الزمن))، وهو يفكر في الجراد، مفترضاً أنه خلال ملايين السنين القادمة إلى الراهن وما بعده، سيكبر حجمه.. قد يغدو بحجم الإنسان، وسصبح له دماغ يفكر به، ويقود تصرّفاته...ترى.. ماذا سيحدث آنذاك؟؟ّّ هل سيتعايش الإنسان معه؟.. هل يرفضه لأنه عنصر غريب؟؟.. هل سيندفع الإنسان ليتحد مع أخيه الإنسان ضد عنصر غريب؟؟..مطّ شفتيه.. ازورّت عيناه.. شحب لون وجهه، وقفزت إلى رأسه أفكار جنونيّة.. ترى.. أيمكن للجراد أن يحكم العالم فيمنع حصول حرب عالمية رابعة، كتلك التي دمرت الكون والإنسان..

***

انحنى فوق جهازه العجيب، ضغط زرّ القيادة والعقل الألكتروني فيه.. حدّد المسار بملايين السنين نحو تجاوز الراهن.. هدر الجهاز من جديد، تحوّلت الأصوات الرتيبة الصادرة عنه إلى أصوات مزعجة، إشارات ضوئية، اهتزازات متداخلة.. أصوات تعلو وتهبط.. مؤشّر الاحداثيات الزمنية يتحرّك.. يتصاعد.. يتجّه إلى الأمام بلا توقّف.. توحّد العالم (س) مع جهازه.. تماهى معه في غمرة الزمن المتصاعد.. بلغا معاً مشارف النهاية.. توقّف مؤشر الإحداثيّات الزمنية عند نقطةٍ ابتعدت ملايين السنين عن زمن الديناصور والسلاحف والتربة الرخوة.. تجاوز الراهن بأشواط بعيدة.. نفث الجهاز رائحة كريهة، وأطلق ضوءاً يبهر الأبصار..

توقّف (( جهاز اختراق الزمن)) عن المسير.. انتبه العالم (س) من ذهوله ليجد نفسه في مدينة غريبة جداً لم يألفها من قبل.. لم تكن المدينة مسكونة بالإنسان.. مبانيها معدنيّة باردة.. شوارعها جليديّة تخترقها أنفاق كثيرة مظلمة.. تمخر فيها وسائط نقل تسير بقدرة ذاتية.. الهواء من حوله لزج يصعب تنفسّه، تخالطه روائح كريهة تخرّب الصدور..

أيقن أن جهازه قد اخترق الزمن نحو الأمام بمقدار ملايين السّنين، وراح ينتظر نتائج الراهن الجديد الذي بعث فيه الحياة.. اضطربت روحه بين الأمل والخوف.. فجأة بدت لعينيه أعداد مذهلة من الجراد.. كبيرة بحجم الإنسان، إلا أنها ليست كالجراد المألوف.. لاتطير، بل تمتطي متن عربات مدرّعة غريبة هي الآخرى.. كانت الجرادة ذات قوائم عديدة، بشعة المنظر، صارمة النظرات، عيونها موزّعة في سائر أنحاء جسدها، ورأسها ملطّخ ببقع تتغيّر ألوانها بين الفينة والفينة، وتصدر عنها أصوات لم يألفها العالم (س) في عالم الأصوات المعروفة...

تقدم العالم (س) قليلاً إلى الأمام .. ترجل الجرا د من عرباته ... نظر العالم (س)إلى الجراد نظرات متسائلة، كان الأمل قد سيطر على روحه وأعصابه، وتلاشى منه الاضطراب والخوف.. صمت مطبق لفترة قليلة..خرج العالم (س) عن صمته، ابتسم بمودّة.. حار في أمره.. ماذا يفعل!! تساءَل في داخله:هل يفهم الجراد اللغة الآدميّة؟.. هل يعرف معنى الابتسام.. أدرك أن عليه أن يفعل شيئاً.. أليس هو الذي قاد الحياة إلى هذا الموقف.. تذكّر اختراعه.. رفع يده إلى رأسه مشيراً بالتحيّة الإنسانية المعهودة.. انتظر... لم يفعل الجراد شيئاً.. ظلّ حاملاً على شفتيه تلك الإبتسامة البلهاء.. خرج عن صمته.. أعاد التحيّة مرة أخرى.. قال: (( أنا أنسان..أنا العالم (س).. أنتم جراد..جراد بحجم كبير.. أنا.. أنا.. حولتكم إلى هذا الشكل العظيم، وأشار بيده إلى الجهاز.. كنتم في الأحقاب السابقة حشراتٍ صغيرةً ضعيفة، أمّا الآن، فأنتم.. ماشاء الله.. حشرات عملاقة.))

استمر الجراد صامتاً عابساً، يحدّق في تينك العينين الخائفتين والشّفتين المتحركتين، والقامة المنتصبة...

العالم (س) يتابع حديثه بحذر شديد، ويشير إلى الجهاز... فجأة أحسَّ أنَّ قلبه يغور في جوفه، إذ رأى أن تلك الحشرات العملاقة بدأت تتحّرك حركات رتيبة، مشكلّة حلقة واسعة تحيط به تضيق وتضيق.. أحسَّ بالموت، وأن الحرب العالمية الثالثة لم تنته بعد.. حاول الهروب.. لم يستطع، لأن جرادة ضخمة انقضّت عليه ومنعته من الحركة.. تساءَل: ترى ألا مفرَّ من تنامى الشرّ والعدوان في هذا العالم؟!..عجز عن التفكير السليم عندما أحسّ أنّ إشعاعاً حارقاً ينبعث من عيون الحشرات العملاقة، بينما كانت حلقة الجراد تضيق من حوله.. مد يده خلسة محاولاً ضغط زرّ القيادة في جهازه.. لم يستطع.. لقد تعطّل الجهاز.. عندئذ أيقن العالم (س)، بكل جوارحه.. أن الجراد أصبح يحكم العالم...

 

 

غربة

 

هاهي الأيام المرّة، والسنواتُ الآسنة قد انقضت وولّت إلى غير رجعة، وجاءّت اللحظة السعيدة التي ترقّبتها طويلاً.أجل يامحمود... سبعٌ سنواتٍ قد انقضت بكل مافيها من مآسٍ وغربةٍ وألم وضياع... سبع سنوات قضيتها غريباً عن الوطن والأهل.. شابَ فيها شعرُ رأسك، وشاخَ قلبُك، وتلاشت روحُك وأعصابك... إفرحِ الآن يامحمود، فقد آن لك أن تعود إلى الوطن من جديد فتستريح وتطمئن.. كم كانت هذه السنواتُ السبعُ طويلةً يامحمود.. كأنّ كل يوم منها يوازي فصلّ شتاءٍ كامل، مثقل بالبرد والظلمة والأوجاع...

افرح الآن يامحمود... فتلك السنوات السبعُ الثّقال تبدو لكَ، وأنت على أبواب العودة إلى الوطن أشبهَ بحلم طويل طويل ، وكابوس متخم بالفزع والألم والتشنج  .. حلم طويل مخيف بدأ لحظةَ كرهَتْ نفسُكَ الوظيفة التي قضيتَ فيها ردحاً طويلاً ، من حياتك، وأصبحتَ تخشى على نفسك وعيالك الجوعَ والعري والفضيحة... كان لديكَ عذرُكَ آنذاك.. ففي تلك الأوقات التي تبدو الآن لناظريك بعيدة، كنت قد شارفتَ على الخمسين، وأصبحتَ مسكوناً بهمِّ زوجة وخمسة أبناء... لم تكن وظيفتُكَ التي بذلتَ في يومٍ مضى، ماءَ وجهك للحصول عليها، كافيةً لسدِّ حاجات العائلة ولو لأيامٍ قليلةٍ من الشهر..

كانت حياتُك قاسيةً يامحمود، صعبة، مخيفة... وازدادت صعوبةً وهمّاً عندما  تغيرّتِ الدنيا في رحاب الوطن، وأُصيبت الأسعارُ بالجنون المتصاعد.. حاولتَ أن تتعلّم حرفة، لكن الوقت قد فات.. لم تستطع -وقد شارفتَ على الخمسين- أن تتعلّم شيئاً جديداً.. كنتَ حريصاً ألاّ تحرمَ أبناءك من التعليم.. بعتَ قطعةَ الأرض الوحيدةَ التي تملك، المجاورةَ لمنزلك القديم الذي ورثته عن أهلك. وجاءَ يومٌ استبدَّ بك العجزُ والضّياع.. أُصبتَ بالشّلل الفكري والنفسي .. أنفقت ثمن الأرض ولم تستطع أن تصل بأكبر أبنائك إلى ردهات الجامعة.. كان ذلك حلماً وردّياً بالنسبة له... أخذ الحزنُ يامحمود يحتلُّ مساحة قلبكَ صباحَ مساء. .. ماذا كنت ستفعلُ أمام ذلك الثالوث المتجهّم.. الوظيفةُ.. الفقرُ.. العائلة.. كنتَ تبدو في أسوأ حال، عندما تعودُ من الوظيفة، فتلتقي ابنكَ الاكبر وهو ذاهبٌ ليقضي نوبتهُ الليليّة في معمل البسكويت.. كان يطمحُ أن يَتمَّ دراسته الجامعيّة.. لكن الفقر كان أقوى... كنت تداري عنه عينين مليئتين بالدموع....وقلباً مسكوناً بالفزع من يومك وغدك... لم تكن راغباً أبداً، في أن تسلكَ دروباً معوجّة، او تفعل شيئاً تخجل منه... كنت دائماً مستعداً لأي عمل شريف.. لكن الدنيا ضيّقة، والأبواب موصدة، والوجوه من حولكَ مكفهرّة، والعيونَ زجاجية.. يومها.. ضاقت مساحةُ عينيك، مسحتَ الدموع عنهما، عقدتَ مابين حاجبيك.. تعّمقت أخاديدُ وجهك، واتخذتَ قراراً حاسماً بأن تغادر الوطن... قلتَ لنفسك: بلادُ الله واسعة، والاغتراب في بلاد الغربة، أفضل من الغربة في الوطن.. وأقسمتَ يميناً معظّما... ألاّ تعود إلى الوطن إلاّ غنيّاً، او لن تعود أبداً... وقتئذ... بعتَ أكثر محتويات بيتك الصغير، وماتملكه زوجتك المسكينة، وانتزعتَ من ابنك الأكبر آخر راتب له تقاضاه من معمل البسكويت.. كل ذلك لتضمن نفقاتِ السفر، وأيام الإقامة الأولى، وحصة المقاول الذي سيظلّكَ بجناحيه...

في ليلة حزينةٍ جداً، ودّعتَ فاطمة التي لم تفارقها على مدى خمس وعشرين سنة.. احتجزتْ دموعها في حلقها.. اربدَّ وجهها، ارتجفت شفتاها وهي تودِّعكَ، وتدعو الله أن يبعدَ عنكَ سطوة الحكّام والظلاّم.. قبّلت الكبار والصّغار بوهن.. كان داخلُك يبكي بمرارة.. حملتَ حقيبتكَ الكبيرة العتيقة، ومضيتَ إلى محطة “البولمان".كان ذهنُك مشتّتاً، وأعصابك محطمة... عندما ابتلعك جوفُ السيارة الكبيرة، انتحيتَ جانباً وأسلمتَ نفسك للبكاء الحزين... هل كنت يامحمود تبكي فاطمة والأولاد؟؟.. هل كنت تبكي وظيفتك التي قَسَتْ عليك بفظاظة، ووضعتكَ على هامش الحياة؟؟.. هل كنت تبكي قطعة الأرض التي بعتها وأمتعة البيت؟؟.. أم كنت تبكي نفسكَ وغربتكَ ومستقبلكَ المجهول؟؟...

لاتحزن يامحمود.. لاتبتئس... لقد انقضى كل ذلك، وأصبح في عداد الذكريات، والذكريات كثيرةٌ ولها طعمٌ مرٌّ لاسع.. ماأكثر الأشياء التي ساءت بعد رحيلك عن الوطن .. ما أكثر ما اضطهدتك الغربة وأذلتك ..  كثيرةٌ هي الليالي التي أمضيتها مسّهداً تستجرُّ ذكرياتكَ المريرة، وتسلي روحك َ المعذّبة بشريط تسجيلٍ أرسلته لك فاطمة والأولاد... أيّامٌ عصيّة على الحصر والتعداد أمضيتها مُطارداً من رجال الأمن لأنك بلا إقامة..

لاتحزن يامحمود.. لقد انقضى كل ذلك.. أنت الآن في طريقك إلى الوطن.. تحتلُّ مقعداً في طائرة عائدةٍ إلى عاصمة بلادك.. تنظرُ بلهفةٍ إلى النافذة القريبة من مقعدك... أمامكّ المضيفةُ الجميلة الرشيقة.. تختلسُ منها نظراتٍ متشنجة.. أدهشتكَ أناقُتها، فرُحتَ تفترسُ تلك الاستدارات المذهلة في جسدها الممشوق.. كنت تراقبُ حركة أناملها وكفّيها بإعجاب شديد... ظلَّ فُمكَ مفتوحاً وأنت تغطس في بحر من الذهول.. تحرّكت الطائرة.. استيقظتَ من ذهولك.. تذكرتَ أنك عائدٌ.. أنك الآن في طريقك إلى فاطمة والوطن.. همستَ في داخلك.. آهٍ يافاطمة.. كم يمزّقني الشوقُ إليكِ... لكنّ المضيفة الجميلة أمرٌ آخر، أنستْكَ كثيراً من مأساة الغربة... تداولتكَ التناقضات.. ابتلعك الإحساس بالاحباط.. أرهقتك المفارقة بين فاطمة والمضيفة الأنيقة... صحوت أخيراً.. حّدثتكَ نفسك.. لن أغادر الوطنَ مرّة أخرى.. لن أفترقَ عنكِ يافاطمة...

أنت الآن تملك المال... جمعتّهُ يوماً بعد يوم عبر سبع سنوات مضنية طويلة، وضعتهُ في هذه الصرَّة القماشيّة الكتيمة.. الصرّةُ مستريحةٌ إلى جانب إبطك الأيسر، مربوطةٌ بحزام رقيق يشدها إلى الكتفين... بين الحين والآخر، تمدُّ إليها أناملَ مرتعشة تطمئنُّ إليها... تحدّثك نفسُك.. أنت بالطبع لن تعود إلى الوظيفة.. هذا زمنٌ قد انقضى.. لقد كبُرَ الأولاد.. الدنيا تغيرّت.. الأسعارُ ازدادت جنوناً.. لابدَّ من القيام بمشروعٍ يدرُّ أرباحاً وافرة.. أنت الآن في عصر الانفتاح والاستهلاك والاستثمار.. الأيام الآن مختلفةٌ تماماً.. مجالات الكسب متاحة لكل من يملك المالّ والخبرة.. نحن الآن في عهد جديد.. أنت تملك كلَّ شئ.. المالَ... الخبرةَ الظروفَ المواتية...

بدأت الطائرة في الإقلاع.. الطائرة تشقُّ الهواء نحو السماء... ذاكرتك يامحمود، تعود نحو الأرض.. وداعاً أيتها الشوارع والجدران.. وداعاً للتراب الذي اختلط بعرقي وأعصابي.. لم يعد هناك يامحمود ماتخاف منه.. لن يبيعك كفيل إلى كفيل آخر.. لن يطاردَك الكفيل ويقاسمك أجورَك.. لن تضطرّ تحت وطأة الملاحقة أن تنزل ضيفاً على مُغترب مثلك تعرفه، أو تبيتَ في الطريق خارج المدينة.. لقد مرّت هذه السنوات مريرةً ثقيلةً قاسية.. يحقُّ لكَ الآن أن تفرح.. أن تغني.. أن ترقص إن شئت.. لكن لاتنسَ أن تتحسَّسَ الصرّة تحت إبطك بين الحين والآخر.. آهٍ لهذه المضيفةِ ماأجملها.. لكأنّها غصن قرنفلٍ ميّاس، ينشر عبقه في كل الاتجاهات.. فاطمة.. ليتكِ .. ليتكِ آه يافاطمة...

كان التعب قد هدَّ محمود، لقد أمضى أيامه الأخيرة قبل السّفر بلانوم.. بدأت دائرتا عينيه تضيقان.. جسده يتكوّر.. كفّه اليمنى تضغط برفق ولين تحت إبطه الأيسر.. أسند رأسه إلى ظهر المعقد، لوى عنقه فوق صدره ونام مطمئناً.. لم يطل نومه.. قادته الأحلام عبر دهاليزّ معقدة متشابكة.. ضاق ذرعاً بهذه الدهاليز الموحشة.. عندما تخلص من منعطفاتها، عاد من جديد إلى أرض المطار، بدت له ساحة كبيرة موحشة.. وجد الطائرة ذاتها تكاد تقلع، إنها تنتظره... تلفّتَ حوله، لم يجد أحداً، خامرهُ خوف محيّر.. صعَد الدرج بسرعة فائقة واحتل المكان المخصّص له..أسعدتهُ ابتساماتُ المضيفة الجميلة.. اقتربت منه.. همست في أذنه.. لمَ تأخرت.. لم نشأ الإقلاع حتى تأتي.. ضحك ملءَ أعماقه.. استرخى في مقعدة، وأسند ظهره إلى الوراء... درجت الطائرة على ساحة المطار.. قبل أن تقلع، تراجعت.. توقّفت.. جمدت نهائياً عن الحركة.. تلفّت حوله مستفسراً، لم يفهم شيئاً.. فجأة رأى قائد الطائرة وثلاثة من المسافرين مثله، ذوي أجساد ضخمة، ووجوه متجهّمة ملتحية، يقتربون من المضيفة الأنيقة يسألونها عن مسافر اسمه محمود.. أدرك محمود ذلك.. رسا قلبه في قاع جوفه.. سأل نفسه بهلع: ماذا يريدون منّي؟؟ أشارت إليه عيونُ المضيفة وأناملها.. غطس في أمواج الخوف بلاحدود.. تخثر الكلام في حلقه.. أخذ يفحُّ كالأفعى المشلولة، وجمدت عيناه عن الحركة.. لم تستطع ابتسامات المضيفة ان تنقذه ممّا هو فيه.. تقدم منه الرجال وقائد الطائرة... أصدر فحيحاً شديداً... امتدّت أيديهم إليه أكثر.. أكثر.. انقلب خوفُه إلى هياجٍ عصبيٍّ شديد.. قفز محاولاً الهرب.. أمسكوه..مدّ أحدهم يده إلى صدره واستلَّ الصرّة القماشيّة.. حاول محمود انتزاعها من يده.. ضربه الآخر على قمّةِ رأسه.. أيقن محمود أن المقاومة غير مجدية.. استسلم لمصير أسود.. انفجر الرجال بضحكٍ هستيريّ.. خرجوا من باب الطائرة واحداً تلو الآخر... اندفع محمود من مكانه واقتحم باب الطائرة.. قفز بعنف نحو أرض المطار.. راح يلوب حول نفسهُ... الصرَّةُ أو الموت.. لكنه عبثاً حاول.. لقد اختفى المجرمون.. أصابه انهيار شديد.. تدحرج على أرض المطار.. استسلم لبكاءٍ مرٍّ أليم.. تحوّل بكاؤه إلى نشيج مرتفع صاخب.. استيقظ محمود.. لم يطل نومُه كثيراً.. كانت المضيفة تربت على كتفه، تحملُ له ابتسامةً عطرة وعشاءً ساخناً... أصَلحَ من جلسته.. نسي أن يشكر المضيفة، وبسرعة البرق راحت كفُّه اليمنى تتلمّسُ موضع الصرَّة القماشية تحت إبطه الأيسر.. استراحَ عندما وجدها واطمأن كثيراً.. عرف أنَّ ماجرى، كان أضغاثَ أحلام، وراح يلتهم طعامه بسرعة... بعد الانتهاء، أشعل سيجارة وراح يلهو بدخانها، وهو يُحكمُ النظرَ إلى النافذة القريبة، إلا أنه لم يرَ شيئاً.. الظلام يسودُ الكون.. ضاق ذرعاً.. تساءَل في سرّه: متى تصلُ الطائرةُ وينتهي المشوار.. أقسمَ أنه لحظة يصل الأرضَ سيقبّلُ ترابَ وطنه.. تعاظم لديه السؤال.. متى ستصل الطائرة؟؟.. خرج السؤال من سرّه.. بلغ المضيفة.. أعلنت أنَّ الوصول قريبٌ جداً، وأن الطائرة بدأت بالهبوط...

***

محمود.. أّيها المغتربُ العائد... هذي عاصمة الوطن الجميل تلوحُ لعينيك عبر الظلام.. بساطٌ متناثرٌ من الأضواء.. تجّمعاتٌ سكنية ضخمة تملأ الأرض وتشقُّ الفضاء.. إنك يامحمود تقتربُ أكثر... لعلَّك الآن تشعرُ أنك ولدتَ من جديد.. وأنك بحاجة لأن تصرخ صرخة الوليد كي تستقبل الحياة..

أخذت الطائرة تدبُّ على مدرجِ المطار، وأنت تفكُّ الحزام، وتتلمّسُ موضعَ الصرَّة من جسدك المرهق.. تقف على ساقين متعبتين، تسير نحو باب الطائرة. لكن قبل أن تغادر الطائرة نحو ردهات المطار. وتستنشق أوّل نسمةٍ من هواء الوطن العليل، عليك يامحمود أن توطّن نفسك لإرباكات وقسوة إجراءَات الجوازات والجمارك والموظفين والمراقبين. وأن تكحّل عينيك بالزحام الخانق. وتعطِّر أذنيك بالضجيج المفتعل...

***

هبط محمود من الطائرة..سار متمهلاً. نظر إلى السماء. امتصَّ نفساً طويلاً عميقاً..انحنى على الأرض. قبّلَ أرضَ المطار. بينما كانت كفّه اليمنى ماتزال تتجوّل في صدره لتطمئنَ أن شيئاً ما، ينام بهدوءٍ متوسّداً إبطه الأيسر

 

 

كان غائباً

 

فجأة صحا الاستاذ من نومه.. لم يدم نومه طويلاً.. خيل إليه أنه في حلم، أو أنّ هناك شيئاً مفزعاً داهم بيته وعائلته.. هبَّ من فراشه مذعوراً.. استعاذ بالله.. مسح وجهه ورأسه بكفّين دافئتين.. فرك عينيه محاولاً إزالة آثار النوم عنهما... أنصتَ بقلق.. التفت حوله، لم يسمع شيئاً.. قال في سرّه.. اضغاث أحلام.. حاول العودة إلى النوم.. إلاّ أنَّ طرقاتٍ قوّيةً على الباب الخارجي تتالت بتواتر متشنج.. انطلق من غرفته باتجاه الباب، تعثر في مشيته عدة مرّات.. أزاح مزلاج الباب الحديدي، وهو متدثّر بالصمت والحيرة.. لم يملك أن يقول شيئاً لأن جاره أبا الحسن اندفع إلى الداخل مستغيثاً صارخاً بأعلى صوته:

..استاذ مسعود.. أنا بعرضك...

ظل فمُ الاستاذ مفتوحاً، محاولاً استجلاء الموقف.. فهم من كلمات أبي الحسن المتهدجة المتداخلة.. أنّ ابنه مريض.. عبثاً حاول الاستاذ مسعود تهدئه روعه.. أبو الحسن لايكف عن النحيب والثرثرة، ومن جرّاء الحديث المتداخل المتقطّع عرف الاستاذ أن الفتى تنتابه نوبات صداع حادٍّ جداً تؤدي إحياناً لفقدان الرؤية والتوازن.. كان الاستاذ يعرف ذلك من قبل.. بسرعة البرق وصل الاستاذ إلى بيت أبي الحسن، أخذ الفتى بين يديه، كان ذاوياً متلاشياً... أدرك خطورة الموقف.. انسلَّ كالشّعاع دون أن ينبس بكلمة.. غاب بعض الوقت وعاد يرافقه طبيبُ القرية... لاذ الجميع بصمت جليدي.. أجرى الطبيب إجراءات تقليدية.. جمد في مكانه... انتحى بالاستاذ مسعود جانباً.. أفضى إليه بمخاوفه من أن يكون ثمة ورمٌ خبيث بالدماغ... قرّرا معاً أن لابدَّ من السفر إلى العاصمة في الغد.. صعق أبو الحسن.. غاص في متاهةٍ من الذهول والتشتت.. كان يعتقد أن طبيب القرية قادر على إسكات الألم... كان أشدَّ مايمزّقه فكرة الذهاب إلى العاصمة.. فهو عمرّه لم يغادر قريته.. حتى أنه لايعرف الطريق الموصلة إلى العاصمة... سأل بلهفة حارة عن السبب... أبدى الاستاذ مسعود تعليلاً قاصراً.. انهار الأب.. انتحبت الأم تراخى الفتى بين أمواج الألم وذراعي الاستاذ.. بعد قليل، تخلّص الاستاذ من جسد الفتى الذابل، وتركه صريعاً بين أنياب الألم، وانسلَّ متلمّساً طريقه إلى بيته، بعد أن وعد أبا الحسن بمرافقته غداً إلى العاصمة...

***

تلك الليلة لم يعرف النومُ سبيله إلى عيني الاستاذ مسعود.. قضى ليلته مسّهداً يحاور نفسه... غطس في مستنقع من الحيرة والتردّد... راح يستجرُّ وقائع الماضي الجميل... إنه منذ عهد بعيد لم يزرِ العاصمة.. كاد ينسى شوارعها وأزقتها ومبانيها.. قديمةٌ جداً هي آخر مرة زار فيها المدينة الكبيرة .. كان ذلك في أيام الشباب المبكر ، عندما  اضطرَّ للذهاب إليها ليقدّم أوراق تعيينه لدى وزارة التربية، قضى فيها أياماً عدّة، حلَّ فيها ضيفاً على عبد اللطيف النعسان، صديق عمره، وابن قريته، وزميل الدراسة.. إيه... كانت أياماً جميلة على الرغم من شراسة الظروف وقساوتها.. منعه الفقر في تلك الأيام من مواصلة دراسته الجامعية، بينما تابع صديقُ عمره عبد اللطيف النعسان دراسته الجامعية في كلية الحقوق.. منذ ذلك التاريخ اختلفت السّبُلُ بينهما، وانقطع الاتصال إلاّ من زيارة خاطفة سريعة.. عبد اللطيف النعسان ندرت زيارته لقريته الأم، واستسلم للاسترخاء الممتع في أحضان المدينة الشاسعة.. وراح يشقُّ طريقه عبر مغريات المدينة نحو العلاء وتحقيق الذات.. ترى.. هل سيتعرّف عليَّ عبد اللطيف النعسان؟؟!! هل سيتذكر صديق طفولته وأيّام صباه؟؟!!.. هل سيرحّبُ بي وأنا القرويُّ الساذج والموظف الصغير.. وهو ابن المدينة الغني وصاحب المركز والجاه الكبيرين..

عندما وصل الاستاذ مسعود بخواطره إلى هذا المنعطف، ضحك من عفويّتهِ وشكوكه.. وأنّب نفسه لأنها تطعن صديق عمره وزميلَ دراسته القديم.. لا.. لا.. إن عبد اللطيف النعسان هو السَّندُ الوحيد لنا، ولكل أبناء هذه القرية، في تلك المدينة الصخّابة المتلاطمة الامواج.

***

استيقظ الصباح.. ثلاثةُ رجالٍ، كانوا يخدشون الصمت على الطريق الترابية الضيقة.. هدرت السيارة العتيقة.. راحت تخبُّ على الطريق الاسفلتية العريضة.. وصل الركب إلى العاصمة.. الحزن والصمت يجّللان الوجوه.. صخّبُ المدينة وضجيجها يقتلعان الصمت الحزين من جذوره، ويفتتان أكبد الوافدين الثلاثة.. تماسك الاستاذ مسعود، أبدى كثيراً من التجلّد والصبر.. آهٍ... لشدَّ ماتغيرّتِ أيتها المدينة العملاقة، لقد تغيرَّ فيكِ كل شئ.. المباني.. الوجوه.. الشوارع.. نكهة الأصالة والمودّة.. هنا..لا أحدَ يعرفُ أحداً.. كان الاستاذ يقود الركبَ مسترشداً بالعنوان الذي منحه إيّاه أحمد النعسان ابن عمِّ الوجيه الكبير.. كان الصبيُّ يشدُّ رأسه بحزام حريري، ويسير إلى جوار والده شاحباً، تائهاً عن كل شئ.. أمام مبنى سامخٍ جميل، توقّفِ الركب.. نظر الجميع إلى البناء بعيون بلهاء.. تلمّظَ الاستاذ مسعود، قلّبَ كفيه.. تجوّلت عيناه لتمسح المبنى الفاره بكل نوافذه وشرفاته وبوّابته العريقة.. دلف الركبُ عبرَ البوابة.. تعرَّف الاستاذ إلى الشقّة التي يسكن فيها عبد اللطيف النعسان.. أمام باب الشقّة استسلم الركب الحزين لصمتٍ مطبق.. نظر الاستاذ مسعود طويلاً إلى زرِّ جرس أنيق مضاء.. يجثم على جانب باب الشقّة.. اقتربت إصبع كفّه اليمنى من الجرس وابتعدت مراراً.. أخيراً حزم الاستاذ أمره وغمز زر الجرس بكثير من التشنج والانفعال والحذر .. خرجت صبية صغيرة من بنات القرية تعمل خادمة في منزل الوجيه الكبير ابن قريتها . تعرفت إلى الأستاذ بسهولة وعفويّة.. ابتسمت له بعمق.. رحّبت به بحرارة.. لكنها اعتذرت بخجل مرهف.. فدخوله المنزل مستحيل، لأن سيدها غائب.. أعلمتهُ عن ضرورة ارتباطه بموعد مسبق إن أراد المجيء إلى منزل سيدها مرة ثانية.. كان الخجل من الموقف يأكل عينيها ووجهها.. عرف الاستاذ مسعود من الفتاة أن سيدها صديق طفولته وعمره، موجودٌ الآن في صالة نادي الشرق.. إذ اضطرَّ للذهاب إلى هناك إثر مكالمة هاتفية وصفها بأنها هامة.. اتجه الركب الحزين يحمل آلامه إلى النادي.. أمام مدخل النادي الخارجي وقف الألم الذي يوزّع على ثلاثة رجال.. شخص الألمُ بعيون كثيرة نحو المدخل العجيب.. بعد رجاءٍ ملحاح أذن موظف الاستقبال الأنيق، ذو القدّ الأهيف، أذن للاستاذ فقط بالدخول عبر أبهاء النادي.. سار الاستاذ متعثراً، مشدوهاً لكل شئ يراه على الجانبين.. دَلّهُ موظف الاستقبال بإشارة من يده إلى حيث يجلس الوجيه الكبير.. كان واحداً من مجموعة من الرجال يتحلقون حول مائدة مستديرة مترعة بالورود والكؤوس.. ويبدو أن حديثاً حاراً يستقطب الجميع.. عاد الارتباك من جديد يفصمُ الاستاذ مسعود ويمزّقه من الداخل.. هتف به صوت داخلي.. تشجع.. أنت زميل النعسان وصديق عمره وابن قريته الصغيرة.. ثمّة ممراتٌ ضيقة تحوطها أصص الورد والشجيرات الصغيرة.. سار عبرها متعثراً.. ندم على مغامرته هذه.. تمنى لو يعود بالألم والصبيّ إلى الضيعة.. وليقضِ الله في ذلك مشيئته.. لكنه سرعان ماتخلّص من حرجه وإرباكه.. اتجه نحو النادل القريب.. طلب منه باحترام شديد أن ينبّه السيد النعسان إلى وجوده.. لحظات قليلة.. التفت الرجل.. وقف بتثاقل.. أقبل.. واجه الاستاذ مسعود مباشرة.. آه.. إنه هو... هونفسه عبد اللطيف النعسان.. لم يغيّره الزمن.. بعضُ الشيب قد غزا شعرَ رأسه.. تمرُّ لحظات صعبة حرجة.. يمزّق الاستاذ مسعود لوحة الحرج بابتسامة طفيفة يرسمها على شفتيه.. يخرج الوجيه الكبير عن تجهّمه قليلاً.. يتذكر.. يرحب بالاستاذ مسعود ترحيباً لم يدخل إلى قلبه الطمأنينة والراحة.. يطلب النعسان من صديق عمره وابن قريته أن يجلس إلى طاولة منفردة ريثما ينتهي من مهامّه.. قفز قلب الاستاذ من صدره.. أخطره أنه جاء إليه في مهمة عاجلة جداً لاتحتمل التأجيل، وأنه قَصَده طالباً معونته، راغباً في "إيده الطايلة".. تذكر الاستاذ بمرارة أن موكب الألم الحزين لايزال ينتظر في الشارع، وأنَّ الصّداع نخرَ دماغ الفتى وأعصابه.. توجّه إلى صديق عمره بالرجاء والتوسّل.. بدا الضيق واضحاً على وجه الرجل الكبير ابن القرية الصغيرة.. لكنه غالب ضيقه، واستمهل جُلاّس مائدته المستديرة بإشارة من يده.. روى له الاستاذ القصة باهتمام بالغ وأسلوب مؤثر، محاولاً تحريض نخوته وأصالته الريفية.. ابتسم الرجل الكبير ابتسامةً باهته.. مطَّ شفتيه.. ورفع حاجبيه.. قال:

-.. لاأجد شيئاً يقتضي  السرعة‍‍!!.. ماذا تريدني أن أفعل؟؟

 صُعق الاستاذ مسعود.. غرق في مستنقع الخيبة والاحباط، واستسلم بصمت مرهفٍ لم يدم طويلاً، لأن الوجيه الكبير قطعه محدّثا نفسه:

حتى في أوقات راحتي وصفائي.. لاأجد فرصة للراحة.. هل عليَّ أن أزعج الأطباء في بيوتهم حتى أدخله المشفى..

سقطت من بين شفتي الاستاذ كلمتان صغيرتان:

.. كنتُ أظنُّك...

وكأن النعسان تذكر شيئاً وجد فيه مفتاحاً للحلِّ والخروج من الحرج.. رسم على وجهه ابتسامة عريضة.. نظر بامعانٍ في وجه الاستاذ مسعود.. وضع كفّه على كتفه.. قال له:

اسمع يااستاذ.. هذه بطاقتي.. وماعليك إلا أن تذهب بالمريض إلى أي مشفىً حكومي.. قدِّم هذه البطاقة إلى مدير المشفى.. وهو سيقوم باللازم... واستدار عائداً إلى مائدته حيث ينتظره رجال الأعمال...

لم يطل تشنّج الاستاذ مسعود في مكانه.. سرعان ماانحلّت عقدة لسانه وساقيه.. رفع البطاقة بين أنامله إلى أعلى.. مزّقها نتفاً صغيرة.. نثرها قريباً من مائدة عبد اللطيف النعسان وصحبه.. سيطر الفرح العفويّ على ملامح وجهه... عاد إلى الركب الحزين المنتظر خارجاً.. نظر إليه والد الفتى.. سأله بدهشة:

..مالكَ متهلّلاً ياأستاذ؟؟!!..

..لقد أبصرتُ بعد أن كنت أعمى.

..وهل قبل ابني في المشفى الاختصاصي؟؟

تلمّظ الاستاذ.. ازدرد ريقه..

..بلى.. لقد قُبل...

لم يعد الاستاذ مسعود بحاجة للحديث.. خلع عنه عباءة الاحراج والارتباك.. سأل شرطي المرور عن الطريق المؤدية إلى مركز الطب النوويّ.. سار الركب الحزين بأتجاه المركز.. اجتاز البوابة الرئيسة.. مثل الفتى في العيادة الاختصاصية.. أحيل إلى شعبة الأورام لاجراء الفحوص والتحاليل اللازمة .

عندما عاد الاستاذ مسعود إلى قريته الساجية.. التقاه أحمد النعسان ابن عم الوجيه الكبير.. بادرّهُ سائلاً:

.. هيه يااستاذ.. ماالأخبار؟؟

أجاب الاستاذ بهدوء تام..

.. أخبار طيبة والحمد لله..

.. طبعاً قام عبد اللطيف بالواجب وأكثر..

.. لا.. لم يفعل شيئاً.. لأنني لم أجده..

.. كيف؟؟

.. لقد كان غائباً.. ولست أدري هل سيعود أم سيطول غيابه..

 

 

فرصةٌ للحلمِ... فرصة للتشرّد

 

نظرت إلى معصمها.. فوجئت.. لم تكن تتوقّع ذلك.. راحت تدقُّ الأرض بنعليها على نحو ملحوظ... "لقد تأخرتُ.. الساعة الآن السادسةُ والربع مساءً.. لقد انقضت ربعُ ساعة على الموعد المحدد.. فترةٌ طويلة، طويلة جداً في عمر المواعيد..".. أسرعتْ أكثر.. كادت تتعثّر في مشيتها.. ".. لا.. عليَّ أن أحتفظ بالتوازن والوقار.. لعن الله الازدحام وأزمة المواصلات.. لقد خرجتُ من البيت مبكرة كي أصل في الموعد المحدّد... أتصوره من بعيد يجلس وحيداً.. يحملقُ حوله بلاهدف.. ينظر إلى ساعته بقلق.. ينقر على الطاولة بأصابع متشنجة.. لابأس سأعتذر.. إنه يعرف كيف تتقيأ "باصات" النقل الداخلي مئاتِ الناس في كل موقف.. وكيف تظل أكداسٌ بشرّيةٌ على الأرصفة تتلهّفُ بأبصارها عبرّ النوافذ."

قطع سيلَ تداعياتها بابٌ عريض ملوّن، تتضاحك الأنوار داخله عبرَ ستائر شفافة، قد ألفتهُ كثيراً.. إنه "كافتريا الزهور"... "لقد وصلت".. تأخرتُ كثيراً، ليس في اليد حيلة.. لاشك أنّه يقدّر ذلك.. سأذيب تجهّمهُ بابتسامتي المعهودة فيضحكُ وينتهي كلُّ شيء.." تباطأتْ قليلاً.. أصلحت من قيافتها.. ازدردت نفساً طويلاً، ودخلت متسلّحة بوقار أصيل.. خفّفت من طرق نعلها على الأرض الملساء اللامعة.. صوّبت نظراتها باتّجاه محدّد.. أكلتها المباغتة.. الطاولة التي اعتادت أن تجلس إليها مع سامر كانت خالية.. نظرت في كل الاتجاهات .. لم تجده.. "الكافتريا" كانت تغصُّ بالروّاد عدا بعض الطاولات المبعثرة هنا وهناك.. شعرت بالإحباط والخوف معاً.. صاحت في أعماقها "أيعقلُ ذلك؟".. تقدمت بخطوات حائرةٍ نحو الطاولة.. كانت تسدّد نظراتٍ جريئةً إلى كل الزوايا،.. "علّه يجلسُ في مكان آخر.. غير معقول.. في كل مرة كان سامرٌ يسبقني إلى الموعد ويعاتبني على التأخر.."... ألقت محفظتها على سطح الطاولة، وهبطت ببطء شديد على كرسيّها، وراحت تبعثر نظراتٍ متسائلةً.. غرقت في دهاليز صمت محيرّ.. مضغتها عيون الحاضرين.. قرأت في نظرات بعضهم عباراتٍ مشتتةً... عاشقةٌ تنتظر.. صّيادةٌ ماهرة ترمي بشباكها.. عاشقةٌ تخلى عنها صاحُبها.. تعالت ضحكاتٌ متداخلة من كل زوايا "الكافتريا".. آلمها ذلك جداً.. اعتصرها من الداخل بقسوة.. تعرّق جبينها وعنقها بحبّات من الرذاذ الساخن.. أصلحت من جلستها.. أولت ظهرها للناس.. لفّت ساقاً على ساق، وراحت تعبث بمحفظتها بحركات عشوائية... هتفت في أعماقها... "لابدَّ أن يأتي.. سيأتي لاليلتقيني فحسب.. إنني على موعد معه ليزفَّ لي بشرى هامّةً جداً.. آهٍ كم أتلّهفُ لتلقي تلك البشرى.. لا.. لاياسامر.. لاتقل انك أخفقت.. لا أبداً.."

استدرجتها تلك الأماني العذبة إلى شهور طويلة خلت.. وراح شريط الذكريات يفرز الألوان والصور.. "لا.. لن يكذب سامر.. إنه خطيبها منذ سنتين.. انتزعها من بين تلميذاتها الصغيرات.. إنه رجل شهم نبيل.. معلمٌ مثلُها.. يطعمُ تلاميذه فتاتَ قلبه وعواطفه.. فكيف يكذب... عرفتُ الحبَّ على يديه... عرفتُ معه قسوة الانتظار والحياة الصعبة .. عامان والحياة المرة تلفنا بردائها ، والأمل يتجدد .. ما أصعب حياة  الشرفاء في مجتمع الغابة."

تماهت مع أحلامها.. اضطرب شريط الذكريات أمامها.. نقلهاإلى محطات لولبيّة ضبابيّة وراحت تتخبّط.. غاصت بعيداً في أوحال المدينة الظالمة... انتشلها من الطين، شبحُ رجل يقف إلى جانبها، يمسكُ حافةَ الطاولة بأصابعَ متشنّجة... فاجأها سامر.. أعادها إلى واقعها.. حاولت أن ترحّب به، تخثّرت الكلمات في حلقها.. كان واقفاً أمامها كأنه تمثال من حجر.. مافتئ ينظر إليها بعينين خاليتين من البريق.. وما فتئت هي تتقلّب في أحضان المباغته... كسرت طوق الجليد.. رسمت على شفتيها ابتسامةً مصنوعة.. سألته بصوت هامس:

سامر.. لقد تأخرتَ كثيراً!! ألم تتوفق في العثور على بيت؟؟..

بلى ياحبيبتي لقد عثرت..

هنيئاً لنا... وكم أجرته؟؟...

غرس عينيه في عينيها.. تلّمظَ قليلاً..

فقط.. ثلاثة آلاف ليرة سورية، تُدفع في مطلع كل شهر...

سقطت الابتسامة عن شفتيها.. صاحت:

... ماذا...!!

نعم.. والوسيط يريدُ ألف ليرة...

شعرتْ بغثيان مباغت يجتاح جسدها.. توحّدت مع كرسيّها... ظل سامرٌ واقفاً كجذع شجرة كُسِرت أغصانها.. سافر كلٌّ منهما إلى شواطئ بعيدة، بينما كان السُّباتُ يفقأُ العيون....

***

وقف كبيرُ الطلاب وراء باب الصف، وراح يختلس نظراتٍ مرحةً إلى البهو.. صاح.. إجلسوا في أماكنكم.. لقد جاء الاستاذ.”.... انتصب الاستاذ بقامته الفارعة وراء طاولة الصف... وقف الجميع.. ساد صمت مذهل.. أشار بيده فجلسوا.. تبادلوا فيما بينهم نظراتٍ ذاتَ معنى.. أمسك الأستاذ قطعة حوار أبيض.. كتب: الحصة الأولى.. المادة تعبير.. الصف التاسع الإعدادي.. ثم راح يملأ فراغ السبورة...

وقف أحد الطلاب مقلّداً الاستاذ في تقطيب حاجبيه، وتجهّمِ ملامحه.. ضحك الجميع ضحكاً أخرس، واختبأ كل منهم وراء ظهر رفيقه...

استدار الاستاذ... بصوت واثق رزين قال:

إقرأ يامازن..

وقف مازن.. حزمَ أمره، وأخذ يقرأ:

المعلمُ ذلك الإنسان المعطاء.. المكافح أبداً.. يعطي ولايأخذ..

. .... " ثلاثة آلاف ليرة سورية في مطلع كل شهر.. لكأنها قصة من قصص الخيال... إذا كان راتبي لايزيد عن ألفي ليرة إلاّ قليلاً.. فمن أين أتدبَّرُ أمر الألف الثالثة!! "

جاءَه صوتُ مازن يقرأ متعثراً..-.. إنه مثالٌ للتضحية... فهو على مرِّ الأجيال شمعةٌ تحترق لتضيء الدربَ لغيرها..

. ..."كان عليَّ أن أكون واقعياً أكثر.. لقد كنتُ مسوقاً بعواطفي.. مندفعاً بأحاسيسَ تتعالى على الواقع المر.. ماذنبُكِ أنتِ ياسوسن.. سنظلُّ معاً نتقنُ لعبةَ الإغماءَة.. ونجيدُ نزيف الألم بحثاً عن الفردوس المفقود..."

.. استاذ.. مامعنى هذه العبارة: "فهو على مر الأجيال شمعة تحترق."؟؟

.. اجلس ياسعيد.. من منكم يشرح هذه العبارة؟؟...

سقطت غرفة الصف في دوّامة من الهمس الدافيء.. لم يرفع يدَه أحد.. خرج الاستاذ سامر عن تشتّته.. حنجرتُه تغصُّ بالخثرات.. صوته متهدّج.. راح يشرح..

... المعلم يحمل مَهمَّةَ تنوير الأجيال.. وهذا يقتضيه جهداً شاقاً.. فهو بذلك كالشمعة التي تذوب شيئاً فشيئاً..

ابتسم الطلاب بخبثٍ طفولي.. أحسَّ الاستاذ بشرخ حادّ في نفسه.. تابع مازن قارئاً:

.. فالمعلم أداة تطور الشعوب والأفراد، وهو عنصر رئيس من عناصر بناء المجتمع

. ...." ولكن سوسن مثلي.. نحن شريكان في مواجهة الحياة.. كلانا مسحوق، يبتلعنا رجال من اسمنت وحديد.. تلفنا دوامة الشقاء فتعركنا.. المدينة تتسع وتتسع... تبتلع الأرض والهواء.. ويغدو البيتُ حلماً.. أسطورة.."

أيقظه صمت الصف الدافيء... تنبّه.. نظر إلى مازن بعيون متسائلة..

.. لماذا لاتقرأ؟؟.. أجاب مازن:

.. لقد أنهيت.. قرأتُ كل ماكتب على السبورة..

دخل الاستاذ في متاهات غيظ حقيقيّ مر.. خشي أن يقرأ الصغار تشتتّهُ وأفكارَه الحبيسة.. عاد إلى وعيه وقال:

.. من خلال ماقرأ تم.. ليكتب كل منكم موضوعاً تعبيرياً.. وابدؤوا للحال..  تصاعدت في جو الصف همساتٌ وحركات وضجيج خافت.. مالبث أن انتهى إلى صمتٍ لايخدشه إلاّ أصوات صرير الأقلام الخرساء على السطور البيض..

ابتلع الصمتُ الغرفة من جديد.. وحلَّقَ في الغرفة بخارٌ يتلوّى ببطء....

. ..." سأواجهها بالحقيقة.. إنها فتاة طيبة وادعة.. أحبها ملءَ قلبي.. إنها معلمةٌ مثلي.. شمعة تحترق.. فلتحترق مثلي بنار رجال الاسمنت والحديد.. ودخان الألوف والملايين التي تَدُكُّ الجيوب.. سوسن.. لك الخيارُ المرُّ.. فإما صمود تحت مطارق الشقاء.. وإمّا فراق لالقاء بعده.."

قرعَ أذنيه صوتُ تلميذ من آخر القاعة.. " أستاذ لقد أنهيت كتابة الموضوع.".. أزعجه أن يتخلص من خواطره الدّبقة ويعودَ إلى الواقع المر.. راح يجوب الغرفة بين المقاعد، يدقّق فيما كتبه التلاميذ... أَحسَّ بالنزيف يتعمّق.. توقَّف فجأة إلى جانب طالب أكبَّ بمرفقيه على ورقته.. كان خيال سوسن مايزال يداعب مشاعره، والهمُّ يقتات جسده بشراهة....سحب الورقة من بين يديه.. قلّبها.. إنها بيضاء.. لم تسوّد سطورّها أيّةُ كلمة.. وجَّه إليه نظراتٍ متسائلة..

... لماذا لم تكتب شيئاً؟؟..

سكت الطالب طويلاً.. ألحَّ عليه المعلم.. أجاب بصوت هادئ:

.. لم أعرف ماذا أكتب...

رفع الاستاذ حاجبيه، وقد تمزّق أكثر.. الشروخ ازدادت عمقاً في داخله..

.. لماذا‍‍‍‍!!؟؟

أجاب الطالب بجرأة مهذّبة:

 لست أدري.. كيف يمكن للمعلم أن يحترق ويعطي بآن واحد!!...

شيٌ ماحادٌّ وخز الاستاذ  سامر .. حدّق في الطالب ملياً .. تفجرت في أعماقه أفكار مكبوتة حبيسة.. التمع في عينيه ماءٌ عذبٌ فّياض.. رحلَ إلى آفاقٍ بعيدةٍ غير محدودة.. وضع يده على السبب.. ظل لفترة غير قصيرة ساهماً شارداً... عاد لوعيه.. وضع يده على كتف الطالب ربت عليها برفق وقال له:

... أحسنتَ يابني.. ورقتُك ليست بيضاء، فلقد كتبتَ كلَّ ماينبغي كتابتُه..

وفيما كان جرس نهاية الحصة يقرع.. كان المعلم ينسحبُ من الغرفة وهو يختزل في رأسه كلَّ صور الأحلام والرغبات والذاكرة المتعبه.. ويمضغ في سره كلمات لايستطيع الصغار فهمها... " كي يحترق المعلم، يجب أن يطمئن إلى حياته وكرامته.. بعيداً عن صحراء الحياة ومستنقعاتها."

استوقفه مدير المدرسة.. قدّم إليه بطاقة صغيرة.. قرأ البطاقة: المركز الثقافي العربي يدعوكم للاستماع إلى المحاضرة التي يلقيها الدكتور (س) بعنوان " التضخم السكاني والتنمية "... وذلك في الساعة السادسة من مساء يوم الأحد

في قاعة المركز... لم يجد الاستاذ سامر مقعداً فارغاً في الصفوف الأمامية.. لاب بعينيه، التجأ أخيراً إلى مقعد في الزاوية اليسرى من الصف الخلفي.. غاص في مقعده، مسحّ المكان بعينين حادتين.. لم يجد أحداً يعرفه.. كان يرغب في أن يحدِّثَ أحداً.. غرق في متاهاته وراح ينحت تماثيل مشوهةَ ويبني قصوراً بلا أعمدة....

هل جاء متأخراً.. هكذا يبدو.. لقد كان صوت المحاضر يزرع الصمت المهيب في أرجاء المكان.. والعيون كلها مشدودة بقوة إلى مصدر الصوت.. لم ينتبه إلى ذلك لحظة دخوله.. شدَّ على أسنانه.. آلمه أن يصبح مسكوناً بالهواجس المرّة.. صبَّ كل اهتماماته باتجاه المنصّة.. في البدءِ لم يفهم شيئاً.. لقد ضاعت منه المقدمات اللازمة.. أخيراً أمسك طرف السبحة.. تواصل معها.. صوت المحاضر يملأ أذنيه.. عباراته تقرعُ ذهنه وأعصابه: "إن التضخم السكاني الذي طرأ على البلاد في السنوات الأخيرة، أربك الوضع الاقتصادي، وأحدث فيه خللاً واضحاً.. الأمر الذي فرض على الوضع الاجتماعي علاقاتٍ مضطربةً مشوّشة."..

كان يختزن كل كلمة يسمعُها.. يتوحدُ معها.. ولكنه ماعتّم أن راح يسيل .. يسيل.. نحو منحدر واسع.. منحدر هلامي، يمتدُّ خارج حدود الزمان والمكان..

قَرَعَتْ عبارات المحاضر رأسه.. أفقدته توازنه.. لفّته تيارات باردة من البخار الدّبق.. أفلت منه زمام التواصل مع المحاضر.. ضاع في زحمة التداعيات.. ظل الصوت يقرع أذنيه.. ثبّت عينيه على المنصة.. كان جسدُ المحاضر يتلاشى شيئاً فشيئاً.. غرق في العدم.. المنصة.. زالت.. صوت المحاضر حيٌّ في أذنيه.. كلمات زائفة لايفهم منها شيئاً.. ازداد توغلاً في منحدره الهلامي.. القاعة اتسعت، تهدمت جدرانها.. لم يعد يرى أحداً حوله.. أين الحضور!!؟؟.. صوت المحاضر مايزال يرنّ.. يرنّ... نبتَ مكان المنصة بناء ضخمٌ أنيق.. القاعةُ زُرعت كُلُّ جنباتها بالأبنية الشامخة.. شرفاتٌ أنيقة.. ردهاتٌ فسيحة.. شوارعُ عريضة تخترق الأبنية المترفة.. الأرصفة مسوّرة بالأشجارِ والمحلاتِ التجارية المزدانة "بالديكور" والأضواء التي تبعث النشوة.. الناس يتزاحمون عبر الشوارع وأمام المحلات.. دسَّ نفسه بين الزحام وراح يلهو بالتفرج على المعروضات.. قرأ لوائحِ الأسعار.. سقط في مستنقع الخوف.. أصيب بما يشبه الخشية.. كان أولّ من التقاه عرضاً في منتصف الطريق رجل قصير يدفع الهواء بكرشه ومنكبيه... عرف فيه الوسيطَ الذي صعقه ذات يوم.. اقترب منه هاشاً، حاول مصافحته.مرق الوسيط بسرعة مكتفياً برد التحية وغاب في الزحام... "غريب أمر الناس.. كلهم في عجلة من أمرهم"... تابع جولته كغريب يقضم الوقت.. كان صوت المحاضر مايزال يرن في أذنيه، يأتيه من كل زاوية.. من المحلات.. من الشرفات.. من مداخل الأبنية.. من الأرصفة... دخل في روعهِ أن الناس كلَّهم يستمعون للمحاضرة.. وأن عبوسهم الذي يملأ وجوههم نوعٌ من الإصغاء الدقيق... سرّه ذلك.. حاول أن يستعيد التواصل مع المحاضرة... ضبط أعصابه.. حدّق في زاوية واحدة.. أصاخ السمع أكثر... جاءَه صوت المحاضر صافياً واضحاً.. لكن أين هو المحاضر!!؟؟.. في أية زاوية يجلس!؟.. إنه لايراه.. راح يبحث بعينيه.. بأذنيه.. بجسده... فوجيء..المحلات تغلق أبوابها بسرعة .. والأنوار تبتلع ألسنتها .. والسيارات الأنيقة تتهادى فوق إسفلت الشارع وحجارة الأرصفة . سقط في ظلام مفاجىء... جلده خوف عميق.. لجأ إلى الهروب السريع.. حرك ساقيه بعصبيّة ونزق، لحظتئذ وجد نفسه يقف على قدمين متعبتين، ولهاثٌ مرٌّ يحطّم صدره ويقطع الأعصاب.. والناسُ من حوله ينسحبون من باب القاعة الرئيس، وهم يتحلّقون حول المحاضر...

عندئذ عادت خواطره ترصد له موقفاً أحادياً في علاقته بالعالم... موقفاً موشحاً بألوان الهزيمة.. حزم مخاوفه المبعثرة تأبّط أحلامه المخفقة، وأسرع يندس بين الزاحفين عبر الباب..

في طريق العودة إلى البيت كان وحيداً.. الحاضرون تفرّقوا جماعاتٍ... حاول أن يستذكر شيئاً مما قاله المحاضر... خانته الذاكرة.. جلَدَ أعصابه أكثر.. فسقط في سُباتٍ من النسيان الرمادي... فقط ثلاثةُ أشباحٍ مرّةٍ كانت تملأ صفحةً كيانه.. سوسن.. البيت.. الوسيط...

 

 

القرار الأخير

 

أخيراً.. ياأبا بالفهد، اتخذتَ قراركَ الخطير.. قرّرت أن تتخلّى نهائياً وإلى الأبد عن قبرك الذي تسكن.. لاتؤاخذني ياأبا الفهد.. قرارُكَ هذا جاء متأخراً جداً.. إذ مامعنى أن تتخذ مثل هذا القرار بعد انقضاء عشرينَ سنةً على موتكْ.. لابأسَ، أنتَ حرٌّ فيما تريد... يبدو أن رغبة عارمة استبدّت بكَ الآن، وقرّرتَ العودة إلى الحياة... ولكن اسمح لي... ليس المهمُّ أن يتخذَ المرءُ قرارَهُ.. المهم أن يستطيع حماية وتنفيذ قراراته الصعبة التي يصوغُها ويعلنُها...

نعم.. قرّرتَ العودة إلى الدنيا.. ضقتَ ذرعاً بحياة العفونة والرطوبة والظلام.. قلتَ لنفسك: لماذا لاأغيرُ هذه الحياةَ الساكنة الراكدة.. لماذا لا أمزّقُ هذه المُلاءَات الترابية القاسية.. قرّرت بحزم، قراراً لاعودة عنه.. فتحتَ عينيكَ ياأبا الفهد.. لم يكن تحريكُ الأجفان والأهداب بعد رقاد طويل بالأمر السهل.. حرّكتهما بتثاقُل مرير.. آلمتكَ اللزوجة، أحرقت مقلتيك الروائح النفّاذة الخانقة التي تتغلغل في ثنايا قبرك.. تمكّنت أخيراً... لاحت لكَ ثغراتٌ وشقوقٌ متداخلة.. رحتَ تدفعُ بكفيّكَ القويتين الترابَ اللزجَ العفن الذي أُهيلَ على جسدك الصلب منذ عشرين سنةً مضت... أخيراً وبعد عراكٍ قاسٍ مرير تغلّبت كفّاك على الحجارة والأتربة، وبضربة محكمة من منكبكَ الأيمن، دفعت بمهارةٍ عجيبة ذلك الحجرَ الثقيل الكبير الذي رزحَ فوقك عقدين من الزمن.. تدحرج الحجر الثقيل.. لاحت لك أنوارٌ وقبساتٌ من أشعةٍ فضيّة.. تنسَّمتَ بلذةٍ تُذيب الأعصاب هواءً منعشاً لاتخالطه روائح النّزيز والنّتن والصّنان.. ملأتَ رئتيكَ هواءً طازجاً.. صرخْتَ بصوت يملؤه الحنان: هاأنذا قادمٌ إليكم ياأحبّتي.. التفتَّ حولك بآليّة عجيبة، لقد أيقنت أنّ أحداً لم يسمع نداءَكَ المحمومَ هذا، وبقفزةٍ بهلوانية رشيقة صرتَ خارج القبر، منتصباً على قدمين ثابتتين، كأنك لم تستسلم للموت الكلي طيلةَ هذه السنوات العفنة.. أخذتَ تدور في المكان.. سحرتكَ الحياةُ.. شمسُها.. هواؤُها.. أشجارُها.. طيورُها.. أطلقتَ صوتاً كالرعد: أنا عائدٌ أيّها الأحبة، يامن طرقتُم بأكفكم على قبري، ووضعتم عليه أكاليلَ ورد عطرة.. لقد اشتقتُ إليكم.. عائدٌ لأعيش معكم... أحدٌ لم يردَّ عليك.. أيقنتَ أنّكَ أطلقتَ صرخةً في العراء.. قلتَ لنفسك: سأستريحُ قليلاً... أقعيْتَ في مكانك كثعلب أعيتهُ الحيلة.. أغمضتَ عينيكَ بشدّة، ورحتَ تفكّر.........

جسدُكَ الناهضُ من القبر يترّبعُ فوق التراب... ذاكرتكَ رحلت إلى البعيد البعيد... أوغلت في ثنايا الماضي.. راقت لك صورٌ في الخيال... صورٌ راسخةٌ ملوّنةٌ بألوان باهتة رمادّية.. كنتَ آنئذٍ محمولاً على الأكتاف... تمضي في رحلتك الأخيرة إلى حيث لاتدري.. رحلةٌ هادئة رصينة ممتعة.. لايزعجكَ  فيها زحام السيارات والأقدام المتراصّة.. ولاتدفُعكَ فيها الأكف والمناكب والدرّاجات.. ولايزكم أنفَك روائحُ العفونة والقُمامة في وسط النهار.. ولاتصل أذنيكَ أصوات الأغاني والألحان الرخيصة تعربدُ وتنطلق في كل مكان.. ولاتضغط صدرَكَ وروحك كوابيس الحياة .. الاجتماعية والاقتصاديّة.. رحلة هادئة صامتة تمتطي فيها متنَ راحلة غريبة عجيبة.. تستقلُّها لأول مرّة، متحرّراً من قيود الأسعار والأجور.. إذ لستَ مضطراً لأن تقلب جيوبك بحثاً عن مالٍ تسدِّدُ به ضريبةَ رحلتك هذه .. لأول مرّة ياأبا الفهد، تجدُ من يدفعُ نفقاتٍ باهظةً تتعلقُ بك.. أليس ذلك غريباً؟!! لم تكن تألفُ ذلك فيما مضى...

أجل.. ياأبا الفهد.. ظللتَ تتابع رحلتّكَ محمولاً على الاكتاف، تنظرُ إلى الحشد الهائل المحيط بك في ثنايا رحلتكَ الهادئة.. فلا تحدّثُكَ روحُكَ، ولا تتّخذُ في قلبك إزاءَ أيِّ واحد منهم حقداً أو حسداً أو عتاباً أو ملامة... عرفتَ أن الطريقَ، طريقَ الرحلة طويلٌ والمزارَ بعيد.. قلت: لامتّعْ ناظريَّ بهؤلاء الناس الذين غمروني بفضلهم، والتفّوا حولي وورائي، كما يلتفون حول زعيم أو وجيه، وتجشّموا عناءَ المسير كي يدلّوني على الطريق... هاهم رفاقُك في الوظيفة الذين قضيتَ في مصاحبتهم ردحاً من عمرك.. كنتَ وقتئذ تشغل منصب مدير عام.. أي  نعم ياأبا الفهد.. مدير عام... نظرتَ إليهم بعيون عقابّية ونظرة حادّة.. أحدٌ منهم لم يُعركَ انتباهاً.. كان يشغلُهم أمرٌ آخر.. أصابَكَ ذهول محيرّ... أنصتَّ إليهم برهافة... كانوا يتهامسون وهم يتعثرون في مشيتهم.. إلا أنّ أذنك المرهفة سمعتْ كلَّ نأمة وهمسة.. كانوا يتجادلون بعنف، ملامحُ وجوههم تفضحُ أسرارهم.. أحدهم يتهجّم.. الآخر يهادن.. الثالث يلوي أذن الرابع ليقولُ له شيئاً لايرغبُ فيه أحد.. اشتدَّ الخلاف بينهم.. كادوا يتشاجرون... من سيخلفُكَ في منصب المدير العام، وهو منصبٌ أنت أعلم به ياأبا الفهد... منصبٌ خطيرٌ وهام.. يقودُ صاحبه إلى الوجاهة والرفاهية وتحقيق الاماني الصغيرة والكبيرة.. ويقلب تفاصيلَ حياته رأساً على عقب.. ساءَكَ جداً ياأبا الفهد.. أن يختلف الناسُ من بعدك... فلجأتَ إلى الصمت المطبق ورحت تفكر....

رجلٌ يسيرُ في المقدّمة... يرسلُ بين الحين والآخر أصواتاً مترنّمةً شادية.. يطلبُ فيها الرحمة والاستغفارلك.. يقطعُ صلاتهُ ليسأل قزماً يسيرُ إلى جانبه سؤالاً على جانب من الأهمية.. لم يسمعهُ أحدٌ إلاّك.... عجيبٌ أمرُكَ أبا الفهد... لماذا تسمعُ كلَّ.شيء... من أين واتتكَ هذه المقدرة الخارقة.. لقد سمعتهُ يقول: هذا مدير عام.. يجبُ ألاّنقبلَ إلا بأجور تليقُ بمنصبه.. ثم يضغط بكفّه الكبيرةِ على كف القزم المجاور... حاولتَ أن تقول لهما شيئاَ .. خانتك حنجرتك .. تساءلت بمرارة : أين اختفى صوتي ؟؟ اعرضتَ عنهما ، كما حولتَ ناظريك عن مجموعة رفاق الأمس المتخاصِمين... تجولتَ بعينيكَ بعيداً... سيلٌ متدفّقٌ من الرجال يسير وراءَك.. انصبّت عيناك فجأة على ابنكَ الأكبر.. كان مطرقاً حزيناً.. آثار الدموع النديّة تملأ مقلتيه.. حاولتَ أن تقترب  منه لتقبلهُ وتمسحَ على شعره وخدّيه.. لم تستطع.. صرخت في أعماقك: ويلكَ ماأعجزكَ ياأبا الفهد... كان قلبكُ يتكسّر إذ تصورتَ أن ابنك سيتركُ حياتهُ الجامعية ليستطيعَ مواجهة حياته المقبلة الصعبة... وخَزَكَ الألم والنّدمُ بقسوة.. تساءَلتَ بمرارة: لماذا لم أترك له ولإخوته مايقيهم شرَّ الدنيا والحياة؟؟!!.. لماذا أنفقتُ كلَّ مالديَّ، وقد كانت جيوبي وخزائني متورّمة تضيق بما فيها!!.. شعرتَ  بالندم والاستخذاء، لأنكَ أتلفتَ كلَّ شئ.. لكنك سريعاً ماتسلّحتَ بمبرراتٍ مقنعة.. قلت لنفسك: لم أكن أتوقعُ أن أموتَ قبل الأوان هكذا فجأةً... تبّاً للموتِ ماأقساه.. كان يجب أن يمهلني كي أشبعَ من دنياي، وأتركَ أولادي من بعدي في بحبوحة من أمرهم... لكنك ياأبا الفهد... استراحت خواطرك وأعصابُكَ عندما تذكرتَ وأقنعتَ نفسكَ أن الأعمار والأسعارَ والأموال والقصور بيد الله وحدَه...

أبعدتَ ناظريكَ عن ابنك البكر.. خفتَ أن تعود إليك خواطر الندم والألم فتجلدك بقسوة من جديد .. راحت عيناك تلوبان بين الأجساد المتدفقة ُ وراءك.. فجأة تسمّرت نظراتك على وجهٍ واضحِ الملامح.. تغطّي وجههُ ابتسامةٌ موزعة بين الحزم والشّماتة.. حاولتَ أن تهرب.. أن تبتعد عنه، خانتكَ عيناك... ظلّتا مسمّرتين بقدرة عجيبة على وجهه.. أيقنتَ أنه يراك، يحدّقُ فيك بشدّة.. يحاصُركَ بعنف.. انخلع قلبُك من مكانه.. شعرتَ بخجلٍ مرير.. خجلِ مَنْ أخذ كثيراً ولم يعط شيئاً.. قرّرت أن تدير له ظهرك.. لم تستطع ياسيادة المدير.. فقدماكَ كانتا مغلولتين.. وجسدُك ملتصقٌ باتقانِ إلى راحلته الغريبة العجيبة التي لاعهد لك بها سابقاً.. وظلّت عيناك معلّقتين به تمتصّان ابتسامته اللاحياديّة... جلدتْكَ نظراتُه... أذابتكَ ابتساماتُه.. لعلّه كان يطالُبكَ بشئ ما... تذكّر جيداً ياأبا الفهد.. لعلَّ الأمرَ كذلك... مسكين ياأبا الفهد، أردتَ أن تصرخ وتقول: ارحمني.. فأنا الآن كما ترى، عاجز، ضعيف، لاأملك شيئاً... لكنك، لم تستطع أن تقول شيئاً... فجأة، واتتكَ شجاعة خبيئة.. وخزتكَ جرأة طفيليّة تطاول جسدُك في الفراغ... سبح فوق رؤوس الناس.. وضعتَ فمكَ على أذنه... همستَ بثقة: لماذا تحدّقُ فيَّ هكذا؟؟.. ألسنا شريكين في كل شئ؟!...

تراجعتَ بسرعة إلى راحلتِكَ العجيبة.. تقوقعتَ من جديد فوقها.. فإذا بصاحبك ياأبا الفهد، ينفجرُ بضحكات هستيرّية، فرقعت في الفضاء كرعد صاعق.. لكنك لذتَ بالهدوء والصمت، وحمدت ربَّكَ أنّ أحداً من السائرين وراءَكَ لم يسمع شيئاً من هذا الانفجار...

***

أيقظكَ ضحك صاحبكَ المتفجّر من تداعياتك البعيدة.. كنتَ تتربّعُ على التراب قربَ حافة القبر.. قفزتَ في مكانك على قدمين متباعدتين، ورحت تنفضُ التراب عن مؤخرتكَ.. أحسستَ أنك أوغلت كثيراً في دهاليز الماضي البعيد.. تذكرتَ قرارَكَ الأخير بالعودة إلى الحياة.. استبدَّ بك الحنين إلى أحبائِكَ وأهلِكَ وأصدقائِك.. نظرتَ خلفك، كان القبر يفتح شدقيه ببلاهة.. أعرضتَ عنه ورحتَ تغذُّ السير باتجاه المدينة.. كانت البشاشة والفرحة تملأان قسمات وجهك، عندما وجدت جسدكَ يدبُّ بين أزقة المدينة وشوارعها.. سرتَ مشدوها، مذهولاً، لم يأبه بكَ أحد.. أنت وحدّك تسير متمهلاً.. الناس من حولك يسيرون مسرعين متأفّفين... تعثرت قدماك كثيراً.. اصطدمت مراراً بالأجساد المتعّجلة.. تكورت على الاسفلت أكثر من مرّة.. لكنك كنت ماتزال فرحاً مسروراً، لأنك بدأت بتحقيق حُلْمِكَ ياأبا الفهد.. كانت عيناك تمسحان كل شئٍ حولك.. بفضول غريب وقفتَ في منتصف الشارع.. لم يتوقف أحدٌ سواك... كلهم ذاهبون ورائحون.. أنتَ وحدك توقفت... حاولتَ أن تقرأ يافطة قماشية عريضة تأكل فضاء الشارع كلَّه.. ازورّت عيناك.. تلجلجت شفتاك.. مسكين ياأبا الفهد.. لكأنك نسيتَ القراءة والكتابة.. لجأتَ إلى التهجئة.. أخيراً قرأتَ بفرح ساذج: أنتم على موعد مع فنان الشعب، ضارب الدربكّة العالمي الشهير حسوان الأسمراني... سُررتَ لأنك حللتَ لغز الكتابة.. لكنك مططتَ شفتيك، وتابعت سيرك متعجباً مما قرأت..

كنت تمتطي متن الرصيف، وتنحدرُ إلى قاع الشوارع هرباً من الأجساد البشرية المتراصّة.. شئ ماذكرّك بعفونة القبر ولزوجته وصنانه.. غيومٌ سوداءُ حارّة خانقة تخرج من أمعاء السيارات لتحطَّ على رأسك ورؤوس الآخرين.. تساءَلتَ ببلاهة.. لماذا يخفضُ الناس رؤوسهم؟؟ لماذا لايرفعُ المرءُ رأسه وهو يسير؟!! تلمظتَ.. لوّحتَ بيدكَ.. لم تعرف شيئاً...

قرّرت أن تمضي.. انحدرتَ إلى شارع آخر.. كان مكتظّاً بالمحلاّت التجارية.. عروضٌ مغرية.. ملابسُ أنيقة.. موادٌّ شهيّة.. بضائعُ آسرة... راقت لك تلك المشاهد، وقفت تراقبُ حركة البائعين والناس.. أجسادٌ فتيّة تتلوّى.. ابتسامات تتناثر.. انحناءات جسدّية تُمارسُ برقّة وأناقة، لاعهد لك بمثل هذه الطراوة واللباقة.. شدَّك المشهد أكثر.. اقتربت.. اصطدم رأسّك بواجهة زجاجية لم تكن مرئيّة.. ارتبكتَ كثيراً.. نظر إليك الغلمان من الداخل .... أعرضوا عنك ... رحت تقرأ لوائح الأسعار . لم تفهم شيئاً بادئ الأمر.. تذكّرت أنه قبل أن يطبقَ القبر أحجاره عليك، كنت تخاتل البائع بأرقام سهلة الحفظ واللفظ والقراءة.. أما الآن وبعد أن لفظَكَ القبر من بين شدقيه.. الأمرُ عجيبٌ والأرقام غريبة مخيفةٌ مذهلة... قلتَ لنفسك: لعلني نسيتُ الحساب كما نسيتُ القراءّة.. آه لسذاجتك ياأبا الفهد... أسعدتكَ خواطرُك بأنك لست بحاجة لشراء أي شئٍ  من متاع هذه الحياة الدنيا.. طربتَ لهذه المشاعر، ورحت تغذُّ السير تائها من شارع إلى آخر.. حاولتَ أن تستقرئ وجوه الناس، لم تستطع.. التجهّمُ يأكل الملامح... الحيرةُ تمزّق العيون.. الشّفاه تتمتم.. غريبٌ أمرُ الناس!! ماذا يتحدثون؟؟ أيحدّثُ الإنسان نفسه كالمجنون؟!!.. لم ترق لك هذه الظاهرة ياأبا الفهد.. وعندما تأكدتَ منها، انفجرتَ ضاحكاً بعنف.. قلت لنفسك: هذا عالم آخر، هذا عالم الجنون والكآبة.. أنت أيضاً ياأبا الفهد تحدّثُ نفسك دون أن تدري.. اشتقت كثيراً لأن تزور الدائرة الرسمّية.. آهٍ ياأبا الفهد.. لقد كنت في يوم مضى وضمن جدران تلك المؤسسة مديراً عاماً... نعم.. مديراً عاماً.. سرتَ نحوها بخطوات ثابتة واثقة، لاتزال تعرف الطريقَ إليها.. قبل أن تلج البابَ الرئيس.. شددتَ ياقتكَ.. هذّبتَ شعرَ رأسك.. أدخلتَ أزرار معطفكَ في عراها.. تنحنحتَ قليلاً، ودخلتَ بكل كبرياء.. مشيتَ ببطء شديد في ردهات المؤسَّسة.. هذه غرفتي، غرفةُ المدير العام... كانت مغلقة.. طرقتَ البابَ بأدب وكبرياء.. لاأحد في الداخل.. البابُ مُرتج.. تجولتَ في الممرات،دخلتَ إلى غرفة الديوان العام.. كان غاصاً بالناس والموظّفين... بكل أدب واندفاع، أطلقت صوتك: السلام عليكم.. لم يأتك الجواب.. لم يلتفت إليك أحد.. كرّرتَ السلام مثنى وثلاث ورباع.. لم يردَّ عليك أحد.. لم يلتفت إليك أحد، كان الجميعُ غارقين في همسٍ كفحيح الأفاعي، وإشاراتٍ خرسٍ غامضة، وحركات مثيرة.. الأيدي تخترق الجيوب، وتخرج قابضة على مغلّفات منتفخة.. ودروجٌ تفتح، وأخرى تغلقُ بتواتر منتظم.. وبين العيون الزئبقيّة يدور حديثٌ يُغني عن الشّفاهِ والكلمات....

استدرتَ ياأبا الفهد.. خرجتَ كمن يحبو على قدميه.. باطل الأباطيل ياأبا الفهد.. ألم يعرفك أحد!! كأنك لم تكن في يوم مضى الرأسَ المدبّر والقبضة الفولاذية لهذه المؤسسة..خرجت ، وقد بدأت تشعر بأنّك غريب في مجتمع أكثر غرابة ..

عندما طرق نعلاك اسفلت الشارع ، وقفت قليلاً .. تنفست الصعداء . اسندت ظهرك إلى جدار قريب . أغمضت  عينيك ورحت تفكرّ.. فكرّتَ ملّياً... هززتَ رأسك متأسفاً.. فضحتكَ ذبذبةُ شفتيك... حدثتكَ نفسُك: الأمرُ مختلفٌ جداً.. في زماننا، لم نكن هكذا... صحيحٌ أنّنا... ولكن الأمر الآن مختلفٌ جداً... سحبتَ ظهرك عن الجدار.. شمختَ ياأبا الفهد بجسدك المتكوّر.. انتعلت طريقاً جديدة، وبدأت تسير على غير قصد..  أنصتَ لنداء المعدة الخاوية.. رحتَ تلوبُ  بعينيك بحثاً عن زاوية تبتاعُ منها شطيرة تسدُّ بها الرمق.. وقفت أخيراً أمام  واجهة زجاجية صغيرة ، مددت رأسك .. أدمت النظر إلى الداخل لم تجد شيئاً مما اعتدت أن تأكله.. لفت انتباهك لائحةٌ معلّقةٌ على الزجاج مكتوبة بخط عريض.. لم تعرف أن تقرأ شيئاً.. قلت لنفسك: هذا عالمٌ آخر...

***

كان التعرّقُ قد أرهق جسدكَ ياأبا الفهد، برذاذه الحار... وسياطُ الصّداعِ بدأت تجلد رأسّك، وتضيّقُ أنفاسك.. أخذ صدرُك يعلو ويهبط بانفعال متوتر.. آلمكَ جداً ألاَّ ترى لروحك وجسدك مكاناً في هذا العالم.. لكم أشتقت لرؤية أحد أحبَّائك.. لرؤية من يعرفُك وتعرفه.. أخفقت.. وجدتَ نفسك غريباً في عالم أكثر غرابة.. تذكرتَ نداءك الحار عندما نهضتَ من قبرك، ودغدغت عينيكَ أشعة فضيّة منعشة.. جلدَكَ الصّداع أكثر.. تمزقت روحُك بين عوامل عدّة أخذت تدور حول نفسك، وتنظر ببلاهة.. لكأنّي بك ياأبا الفهد قد اتخذتَ قراراً سريعاً غامضاً.. أخذتَ تهرول باتّجاهٍ جديد. اتّسعت خطواتك أكثر.. الهرولة تحولت إلى عدوٍ سريع.. مهلاً ياأبا الفهد.. تمهّل.. علّني أستطيعُ اللحاقَ بك.. إنك تعدو بسرعةِ شابٍّ في مستهل عمره.. كان عهدي بك أنك تسير الهوينى... أيّ شئ استبدَّ بك ياأبا الفهد.. أعطني فرصة للّحاق بك أرجوك.. لن أترككَ تذهب بعيداً.. الخطوات تتسع، والجري يتحوّلُ إلى قفز في الهواء.. لم تعد قدماك ياأبا الفهد تلامسان الأرض.. إنهما يسبحان في الفراغ.. ماذا دهاك ياأبا الفهد... لن أتراجع عن اللحاق بك.. خرجتَ إلى العراء... ابتعدتَ عن شوارع المدينة.. ليتني أعرف ماذا تُضمر في نفسك ياأبا الفهد.. اللهاثُ يمزّق صدري وأنا لاحقٌ بك.. إلى أين تقصد.. من بعيد لاحت لي المقبرة تلتمع تحت آخر ضربات أشعةِ الشمس.. عجيب أمرُك ياأبا الفهد... أهو موقفٌ أم اشتياقٌ أم احتجاج.. أم ماذا؟؟!! ليتني أدري ماذا يدور في خلدك وأنت تعدو بسرعة فائقة نحو قبرك.. ألم تتخذ قراراً خطيراً بالعودة إلى الحياة؟.. ألم تشتق روحُك لممارسة الحياة من جديد.. فماذا بدا لك؟؟.. أيُّ شئٍ غيرّ توجهاتك السابقة؟؟

مهلاً ياأبا الفهد.. هاأنت تقفُ من جديد على حافّة قبرك، وقد استعدتَ كثيراً من هدوء نفسك الجيّاشة، وعادت الفرحة تملأ قسمات وجهك.. لاياأبا الفهد.. لاتفعلها.. قدماكَ بدأتا تغوصان في التراب الرخو اللزج.. وعلى وجهك ارتسمت ملامحُ القناعة والرضا.. لكأني بك كنتَ فريسة مقارنةٍ عجيبةٍ صعبة وانحزتَ إلى عالم الصمت الأبدي... مدهش قرارُك هذا ياأبا الفهد.. ركبتاك غاصتا بسهولة.. بدأ جسدُك يغيبُ رويداً رويداً.. يؤسفني أنني لاأستحقُّ منك إشارةَ وداع.. تلويحة يدٍ.. ابتسامة عينين.. التراب بلغ منك الكتفين.. العنق.. الرأس اختفيتَ تماماً ياأبا الفهد.. وداعاً.. لم تستطع تحمُّل المفارقات العجيبة.. فآثرتَ الاختفاء بصمت.. وسيأتي من يهيلُ التراب سميكاً فوق جسدك، ويدحرج الحجرَ عليك من جديد...

 

 

حالة انتظار

 

كان الليل خارج البيت، يغزل أشباح الخوف، ويحوك ألسنةَ الظلام. الرياح تعزف ألحاناً حزينة هامسةً حيناً، عاصفة أحياناً أخرى، فيهتزُّ الفراغ من حول البيت، وكأنه يؤدّي رقصة غجرية مثيرة. تلك الليلة.. كانت الأولى من ليالي عمرها الطويل، التي ضاقت بها نفسها عن كل شئ.

اعتصرها الخوف والتنبؤ. لقد تأخّر كثيراً. أوغل الليل في جوف الظلمة ولّما يأتِ ابنها بعد. لقد تأخر كثيراً على غير عادة منه. اقتربتْ من النافذة، أنصتت.. فتحتْ درفتها الصغيرة، اشرأبّت بعنقها ووجهها المتوثب. كان كل شئ يدعو للذهول والخوف. الظلمةُ تلفُّ الكون، والجوُّ داخل البيت الصغير باردٌ قاتم، لكأنما هو جزءٌ من مكوّنات الفضاء الواسع.. أحسّت أن قسوة الطبيعة خلف الجدران تطبقُ عليها بفكيّها، وأنّ المدفأة المعدنية الصغيرة، والمصباح الذابل المتدلّي من السقف، لم يستطيعا أن يعزلا البيت الموحش عمّا تحوكه عناصر الطبيعة في الخارج.

الرياحُ تنبح، ونوافذ البيت العتيق عاجزة عن الصّمود أمام زمجرتها. كانت تصطكُّ، فتصدر أصواتاً غير رتيبة، تعمّق مخاوف الأمّ وهواجسها. بينما كانت خيوطُ الهواء الجليديّة الحادّة، تتدفّق عبر الثقوب والشقوق التي تمتلئ بها أبوابُ البيت المهترئة، ونوافذه المتصدّعة.. والضوءُ الخافت يفشل في توزيع النور إلى جميع أركان البيت المضطرب.. ظلالُ الموجودات التافهة تترنح في فضاء البيت، ملقية بثقلها على كل ماحولها.. لقد تأخّر كثيراً عن موعد عودته.. إنه وحيدُها. تحيا معه ولأجله فحسب..

شعرت الأم بالبرد يخترق مفاصلها. لاذت بزاوية قريبة من المدفأة، تدثرت ببطانيّة ألقتها فوق كتفيها، تكوّر جسدها واستسلمت لصمت مطبق.. خُيّل إليها أنها تسمع وقع قدميه يطرقان الأرض خارج الجدار. انتصب نصفُ جسدها الأعلى. أرهفتِ السمع. نظرت عبر النافذة بعيني لبوة جريحة، لكنها لم تسمع شيئاً. شعرت بالخيبة والحزن الأليم، وعادت تتكوّر حول أجزائها من جديد..

منذ سنوات وهذا القلق الممزِّق يراودها كل اسبوع، يريد أن يستلب منها عزيمتها. لكن الليلة، كانت الأولى من نوعها التي يلفّها بها الخوف والهواجس والضَّياع ..نقلتها هواجسها على أشرعةٍ معتمة، قذفتها إلى محطات قديمة مؤلمة. كانت لاتريد أن تتذكرّ، فالذكرياتُ أليمةٌ حادّة، استطاعت فيما مضى أن تتغلّب على ذكرياتها المرّة، لكن الليلة هذه شرسة مضنية، أرغمتها على السقوط في سعير تلك المحطّات.. يومئذ كان ابنها ناصر، سعيداً بأعوامه التي لاتتجاوز أصابع اليدين. لم يستطع الفقرُوالبيت الصغير، أن يحدّا من رفاهيته ودلاله الممنوحين له من والديه. كان يمشي على بساط من الحب والأمل والسعادة. يكبر فيكبرُ معه الأمل.. كان كلَّ شىءٍ في حياة والديه. فجأةً دُقَّ جرسُ الانذار، بل لم يستطع أن يحمل صوته بعيداً. ففي خفقة غير منتظرة، سقط الأب ضحية سكتة قلبيّة مفاجئة، كانت أقرب إلى الومضة الزمنيّة الخاطفة، فخلّفت في قلب الأم انكساراً قاتلاً، وفي عيني طفلها ألماً وذهولاً عميقين.. أليمةٌ جداً تلك المحطّات. لم تكن ترغب في العودة إليها، إلاّ أنها سقطت في متاهاتها على الرغم منها، وراحت تغوصُ في أوحالها..

كانت ترجو أن تتخلص مع زوجها وابنها من الفقر. لم تكن العربة المتجولة، بما تحمل من بضائع تافهة وغير تافهة، لتستطيع أن تخلّص العائلة الصغيرة من الفقر، بل الجوع أحياناً.. ألّحت عليه أكثر من مرة، أن يسافر خارج الوطن ليعمل هناك، عندئذ يعود بمالٍ وفرٍ، فيغيرّ مسيرة حياتهم الراكدة. لكنه رفض. ألّحت كثيراً، وازداد الرفض. تخاصما مراراً. قال: لن أبرح وطني لأصبح غريباً. قالت له: لكننا فقراء، والفقر في الوطن غربة.

اجابها بهدوء: كذلك الغنى في الغربة فقر مدقع.

مريرة تلك المحطات. آه كم كان شامخاً. محباً. عنيداً. تجادلا بحدّة، اختلفا في الرأي كثيراً. لكن الحب كان يجمعهما كل مساء. خرج من البيت منفعلاً مراتٍ كثيرة، لكنه في كل مرة كان يعود والبسمة تزيّن شفتيه، وتكحّل عينيه، فتستقبله بروحٍ نديّةٍ وقلبٍ موّار بالحب والاعجاب. عجيبٌ أن يظل الحب صامداً منتشياً في عتمة الفقر المتجهّم. هذه البطانيّة المهترئة جمعت جسديهما في ليالي البرد الشديد، عندما كانت المدفأة تضنّ بالحرارة الكافية. إلى جانب هذه المدفأة ، وفي هذا الركن من البيت، تبادلا الأحاديث والشجون والحبَّ والأمل . جميلة وقاسية معاً تلك المحطات ، مشحونة بالألم والانتظار . لكن ناقوس المفاجأة رنَّ مجلجلاً ، فمات الأمل ، وتلاشى كل شيء.

***

زمجرت الرياح أكثر . أصدر الفضاء عواءً مخيفاً . غصّت المدفأة .بلهيبها الشحيح. طرقات منبهةٌ مخيفةٌ قرعت صدر الأم، انتصبت في مكانها كمن يواجه شبحاً مخيفاً. اقتربت من النافذة، أصغت بعمق لكنها لم تسمع إلاّ وجيب قلبها، وارتعاشة كفيّها. أخذت تلوب في فضاء الغرفة البائسة، تستنجد شيئاً ما يغرسُ في قلبها الصبر والعزيمة. لاذت من جديد في ركنها المعتاد وقد تدثرت بالبطانية من جديد، واستسلمت لهواجس مكرورة ممزِّقة.. أذنٌ ترصد النافذة، وعيونٌ زائغةٌ تخترق الظلمة خلف الأبواب، وحوار مع الذات أشبه بالنشيج، يبني عناكبه حول الأعصاب ونبض الدم. آهٍ ياناصر، لقد تأخرت الليلة كثيراً، كثيراً جداً... لا. لا.. ماأسوأ أن تكون الاحتمالات صادقة. أقبل ياناصر. أقبل إليَّ بقدك الأهيف، ووجهك الاسمر الجذّاب. لقد هدّني الانتظار. ترى.. هل يجرّبُ مدى احتمالي. هل ولد يوم مولدي. هل أراد أن يمتحنني فدخل معي في صراع غير متكافئ. آهٍ ياناصر، مذ تخطيتَ عامك العاشر وأنا أنسجُ لك من دمي وروحي وأعصابي وعيني رداءً جميلاً دافئاً يقيك الحرمان والفقر. ويكلّل هامتك وكتفيك بورود الحب والاعتزاز والشهامة. أخذتُ بيدكَ عبر قسوة الحياة وشراسة الأيام. أحميكَ بالصبر والشجاعة والأمل وأنت تكبر يوماً بعد يوم وتتخطى السنوات والمراحل، وأنا أجثو في محرابكَ أصلي، أعبدُ فيكَ الحب والأمل  والكبرياء الجريح . صلبت روحي وجسدي ، وبذلت ماء عيني رخيصة أمام صنّارتين حادتين جامدتين، تحوكان الدفْ والطمأنينة للآخرين، لقاء ليرات زهيدة أقيك بها غائلة الجوع والحاجة . وأنا سعيدة بهذا الشقاء أيّما سعادة، لأنك سكنت قلبي وأبحرتَ في شراييني. وفي كل يوم وقبل أن أخلد للنوم كنتُ أرتّل ترانيم الثقة والأمل والمستقبل. وجاء يوم. أصبحت فيه طالباً جامعياً بعد أن حققت نجاحاً متميزاً في الشهادة الثانوية. آه ياناصر. كان ذلك يعني أن يُقرع الجرس من جديد. أن يتغلغل الخوف والوهن في الأعصاب بلاحساب. أن تعود الاحتمالات المرّةُ تبني قامتها داخل روحي ودمي وجسدي. كان ذلك يعني الابتعاد والفراق المرّ... غادرتَ البيتَ الفقير والدّثار المهترئ والأبواب المهتزة إلى المدينة الكبيرة. إلى العاصمة. لأبقى وحدي أفقأ عيون الفقور بتلك الصّنانير المدبّبة البلهاء وبضع كُرات من الصّوف متعدد الألوان.

في مساء كل خميس تعود إلي شامخاً معتزاً باسماً، فيزهر الياسمين في قلبي، وتخضل أعصابي بالندّى المعطر. في مساء كل خميس أعطِّر وجهي بتلك الأيقونة الجميلة، وجهكَ أيها الحبيب، فيتضوّع في داخلي عبير الحياة بعد أن تلاشى أياماً متتالية، تنتصب في شراييني ملائكة الحب والأمل والاعتزاز.. آهٍ.. لقد تأخرتَ ياناصر. ماأقسى هذه الليلة. في كل أسبوع كنتَ توافيني قبل أن تغطس الشمس خلف جرود القرية، لماذا تأخرت؟؟.. لقد أوغل الكون في كبد الليل ولمّا تأتِ.. أقبل ياناصر قبل أن تفترسني الاحتمالات وتمزّقني الأوهام. أقبل. أقبلّ.. ادفع البابَ بقوّة واهجم عليَّ كعادتك، وخذني بين ذراعيك، ستجدُ قلباً ينبض وذراعين حانيتين وأمّا تنتظر... لعلّكَ أقبلت. أجل. لقد أقبلت. تبّاً لي ولأوهامي القاسية المبعثرة.. هاأنت ذا تقف في الباب، تسدُّ فرجته، تبتسمُ ملءَ فمك. ماأنصع أسنانك الجميلة. عيناك تفيضان حبّاً وسروراً وكرامة. ذراعاك تتّسعان شيئاً فشيئاً، تبلغان المدى، وقامتُك الرجوليّة الآسرة تستبدل جفاف البيت وبرودته بدفءٍ وخصبٍ اعتدتُ عليهما.. أقبل.. أقبل ياناصر، وألقِ جسدك الغضَّ الدافئَ بين ذراعي...

قفَزت نحو الباب بهمة صبيّة مُترفة.. تسمّرت في مكانها، ضغطها الألم واختلطت الأشياء أمام عينيها. كانت خواطرها مجرد أوهام وأضغاث أحلام. مدّت يدها متكاسلة فمسحت دموعاً واخزة غزت خدّيها وانحدرت هي الأخرى بطيئة حائرة.. انكمشت من جديد، فارقتها العزيمة والتوثب وعادت تتدثرّ ببطانيّتها وتتكوّر على أجزائها في ركنها المعتاد.

ارتفع في الخارج هزيم الريح، واهتزت أبواب البيت ونوافذه. بعد قليل سوف تمطر الدنيا، وقد تثلج. ازدادت مخاوفها. سيمتلئ البيت بالبرد والصقيع، وقد ينطفئ النور، وستبقى وحيدة في الظلام والبرد والجوع.. صرخت في أعماقها: أقبل ياناصر.. أقبل قبلَ أن.... ثم أخرسها صمتٌ مفاجئ واستبدَّ بها خوفٌ مدّمر. ليته يأتي الآن. ليته يعود. ستلفُّ ذراعيها حول عنقه وتشبعه قبلاتٍ متلهفة، تدفئ جسدها المتيبَّس بحرارة جسده. سيمتلئ قلباهما بالحب والأمل، ويستريحان...

حملت الرياحُ الصاخبة أوراق الشجر والحصى، وقذفت بهم زجاجَ النوافذ وأخشابها.. خُيِّلَ إليها أنها تسمع صوته ينادي: أمّي.. لقد أتيت. أصاخت السمع، أرهفت قلبها... لا. ليس هو. لقد أظلمت الدنيا منذ ساعات طويلة، ولاشئ خارج البيت إلاّ عواء الريح وشراشة البرد والظلام اللذين يلفّان الكون. توحّدت مع أوهامها ومخاوفها. أرادت أن تصرخَ ملء فمها. أقبل ياناصر. حرامٌ عليك.. خانتها حنجرتها الجافة. تكورت على أجزائها أكثر وانهزمت أمام دموعها واحتمالاتها الصاعقة... عوى في البعيد ذئب لاتدري من أين جاء. أو هكذا خٌيِّلَ إليها. انصتت برهافة حدأةٍ مُلتاعة. كانت الرياح تغنّي، وقطرات المطر تعزف ألحاناً رتيبة تحمل في طياتها الطمأنينة والخوف معاً. تناهى إليها صوتُه يهتف باسمها من بعيد.. هذا هو صوتُه. إنه موسيقى الملائكة. اندفعت خارج البيت كالمجنونة، ابتعدت تبحث عنه، عن مصدر الصوت. لم تعد تسمع شيئاً. لم تجده. اقتحم الخوفُ قلبها، تقلّص في صدرها. انكفأت راجعة وهي ترتعد. اخترق البرد جسدّها حتى العظام، لاذت بركنها المعتاد.. لِمَ تقسو عليَّ هكذا ياناصر؟؟ ماعهدتُك قاسياً مخيّباً للآمال. بكت بمرارة. عافت نفسها ذلك الركن البارد، كرهت الغرفة والضوءَ الشاحبَ والمدفأةَ الكسول.. كلبوةٍ سُرق ابنها منها هبّت تريد أن تفعل شيئاً. تحيّرت. ماذا تفعل؟؟.. خلّفت البيت وراءَها، أسندت ظهرها إلى بابه الخارجي. كان المطر يغسل الطبيعة ويعجن أوحالاً رخوة. راحت تبحثُ وتلوبُ في مكانها. مزّقت عيناها ستائرَ الظلمة. اكتشفت من بعيد شبحاً يقترب. صرخت في داخلها: هذا هو. لابدَّ أن يكون هو. الأم لاتخطئ. لقد سمعتُ صوتَهُ. سمعتُه بوضوحٍ هذه المرّة. غادرت باب البيت واقتحمت الظلام. نادت بملء صوتها: ناصر. ناصر. علا صوتها على صوتٍ العاصفة ومزاريب القرية النائحة. جاءَها الصوت من بعيد. أمّي. أمّي.. لقد أتيت... آهٍ. لقد عاد. لقد عدتَ ياناصر.. انهارت قواها. لم تستطع أن، تتقدم أكثر، استجمعت بقايا عزيمتها الخائرة، وتراجعت خطوات قليلة، وأسندت ظهرها إلى باب البيت من جديد. سمعت وقع خطواته وهو يخوض في الأوحال والمياه المتجمّعة.. في ضوء المصباح الشاحب، رأت وجههُ. الوجهَ الأسمرَ الصارمَ النظرات، يفيضُ حبَّاً وحناناً واعتذاراً. كانت محفظة كتبه تجثم على كتفيه يسيل منها الماء. وفي يده الأخرى محفظة صغيرة مطويّة باتقان. قال: لقد كان الجوَّ والعواصفُ والمطرُ والمواصلات في خصام شديد معي. وابتسم. ابتسم بعذوبة. لايهمّ. لقد نسيتْ آلامها، وطردت مخاوفها، وتلاشت احتمالاتُها المرّة. لاشئ في الدنيا يهمها بعد الآن.. لقد عاد... لقدعاد. وهذا يكفي.. لم تستطع أن تمنعُ الدموع. أراحت رأسها على صدره. وغابت معه في عناقٍ وقبلات مشتاقة.

 

 

رسالة من امرأة غير حاقدة

 

فتحتُ صندون البريد، تلمستُ جوفه بيدي. شئٌ ماعلق في رؤوس أصابعي.. كان مغلفاً معنوناً باسمي ورقمي.. قلّبتهُ عدة مرات على الجانبين، لم أهتدِ إلى شىءٍ يدلّني إلى مصدره.. دسستُه في جيبي وعدتُ به سريعاً إلى المنزل، تنتابني هواجس كثيرة.. ترى.. من أرسلها‍‍!! تهالكتُ إلى أقرب مقعد في غرفتي بعد أن أغلقتُ الباب ورائي بإحكام. فضضتُ الرسالة بأصابع متشنجة، ورحتُ أقرأ.

صديقي العزيز...

نسماتُ الليل منعشة عذبة، الربيع يطرق الأبواب بخجل، والشتاء يودّع الحياة آسفاً... براعم الأشجار ووريقاتها شقّت إهاب الأغصان، ومدّت أعناقها الطرّية في محاولة لاستطلاع الكون.. وحيدةً أطرق بنعليَّ حجارة رصيف الشارع الرئيس، الذي يحتضن الحديقة العامة الواسعة ويلتفُّ حولها، وقد احتواني شعورٌ عارم بعذوبة الطبيعة وجمالها، ورغبةٌ طاغية في المرح والانطلاق بلا حدود.

فجأة سمعتُ وقع خطوات تقترب منّي.. ازداد الصّدى.. التفتُّ إلى الوراء. طالعني وجهٌ مألوف لديَّ، أو لعلّي تخيلتُه هكذا. حدّقتُ فيه بشراهة، خفّفتُ من تواتر خطواتي، حتى كدتُ أتوقّف. غرستُ ابتسامتي في وجهه، تنبّه إليّ، التفتَ نحوي بكامل جسده.. كان وجهاً لاأعرفه، لكنه يوحي لمن ينظر إليه أنه يدخل القلب ويرتبط معه بصداقة حميمة.. اتّسعت ابتسامتي وازداد عمق المباغتة لديه، وعندما أحسستُ أنّ الحرج أصبح سيّدَ الموقف، اعتذرتُ منه بمودّة هامسة، وعدتُ أتأمل عذوبة الربيع وأشجار الحديقة الشاسعة.

قد تعجب، صديقي العزيز وتتساءل.. لماذا حدّقتُ فيه وابتسمت له؟؟.. لماذا توقفتُ قبالته؟؟.. لماذا جررتُهُ لمثل هذا الموقف المحرج وأنا لاأريد الدخول معه في حديث أو حوار؟؟ أجيبُكَ صديقي العزيز: بأنني خلتُه بادئ الأمر أنت.. نعم، تخيلتُكَ تسير ورائي.. تنهل مثلي من عذوبة الربيع وإيحائه الرقيق، فاستدرتُ إليك بكامل جسدي وروحي... لاتعجب أكثر، فأنا أعرف وجهك، أعرف قامتك، أعرف حركة ذراعيك وكفّيك.. صوتُكَ، منذ زمن بعيد يرنُّ في أذنيّ فيملؤهما نشوة وسعادة.. إلاّ أنك لاتعرفني. يعذّبني أننا لم نتقابل. ولكنني قابلتكَ مراراً وأنت تحيي أُمسية أدبيّة، وتلقي على جمهورك قصّة قصيرة. منذ سنوات بعيدة وأنا ألتقيكَ من جانب أحاديّ، وكانت تلوح في داخلي أسئلة كثيرة تراود ذهني وروحي. كنتُ أتمنى أن أطرح أسئلة متشابكة تحيا في داخلي إلا أنّني لم أفعل..

بعد أمسية من أمسياتك القصصية، استبدّت بي شجاعة جميلة. قررتُ أن أتّصل بك. شئٌ مافي داخلي دفعني بحزم لاتخاذ هذا القرار. امتدّت يدي  إلى جهازالهاتف وابتدأت في التنفيذ، يؤلمني أنني أعرفك ولاتعرفني. وجاءني في صوتك المتميز، حملتهُ لي أسلاك الهاتف رصيناً هادئاً. انطلقت الكلماتُ من حنجرتي رزينةً واثقة تخبركَ بأنني مستمعةٌ قارئة تودُّ طرح بعض الأسئلة. رحّبتَ بذلك، وبكلمات مقتضبة تخالطها خشونة أعهدها فيك. قلتَ: ابتدئي.

سألتك: هل ابتسامتك الدائمة المرسومة في عينيك ووجهك نابعة من داخلكَ، أم أنها طريق للوصول إلى قلوب القرّاء والسامعين، وتفرضها طبيعة المهنة؟؟

ردّدْتَ عليَّ بلا تلكؤ: بطبيعتي أحبّ الابتسام، وأتمنّى لو أستطيع أن أزرعَ الفرح في كل العيون والنفوس...

قلتُ متعجلةً: وهل نجحت في تحقيق أمنيتك؟؟

جاءَني صوتُك عميقاً: نجحت إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أنّني في أكثر الأحيان أراني عاجزاً  عن زرع الضحك والفرح في أعماق نفسي . يجلدني الحزن والألم بلاهوادة، وأمزّق نفسي في انتظار عودة الفرح من جديد.

بادرتُكَ وقد أعجبني الردّ: وهل تحسُّ وأنت تخاطب سامعيك باتّحادكَ معهم؟؟..

أجبتني بعد فترة صمت طويلة: أحياناً أحسُّ بأنني أخاطب الناس جميعاً، وأحياناً أخصُّ نفسي. لكن وراء كل قصة أكتبها، امرأةٌ تحيا في ثنايا نفسي وكلماتي... سادَ بيننا صمتٌ مرهف. أعرفٌ أنك مازلتَ في ربيع العمر، وأنك لم تتزوج بعد. فمن تكون تلك المرأة؟؟!!.. ثقبتُ جدار الصّمت الثقيل. قلتُ لك: أعتذرُ إذا كنتُ قد أثقلتُ عليك بأسئلتي، سأنهي المكالمة الآن. لكن، هل تسمح لي باتّصال آخر إذا راودتني أسئلة جديدة؟؟

قلتَ لي: يسعدني ذلك.

شعرتُ بالبسمة تتألق مجدّداً في عينيكَ وصوتك، الأمرُ الذي دفعني للابتسام من أعماقي، على الرغم من أنني كنتُ أريدُ للحديث منحىً آخرَ، يرضي أحاسيسي وينعشُ تطلعّاتي الحارّة .

شكرتك على تلك المكالمة اللطيفة والمؤلمة، وقبل أن تغادر السمّاعةُ كفّي، ندَّ عنّي سؤال مفاجىء: لقد نسيتُ أن أسألكَ عن اسم المرأة التي تحيا وراء كل ماتكتب.

أجبتني معابثاً: لاأعرف اسمها.. ولكنني أطلق عليها أسماء متعدّدة.. ليلى.. مريم.. ميسون.. دعد.. فأنا أحب الأسماء الموحية القديمة... وأردفتَ قائلاً: الأسماءُ لاتهم. يكفي أنها امرأة رائعة.

ضحكتُ دون قصد منّي. شعرتُ بالصّقيع يغزو مفاصلي، أجبتكُ بعد صمت: لايهم. عذراً لإزعاجك.

أجبتني: اتّصلي بي متى شئتِ. فأنتِ كما يبدو إنسانة ذكيّة ، يسرّني أن أسمع رأيك الناقد فيما أكتب وألقي.

قلتُ والفرحةُ تغمرني: انتظر منّي نقداً لاذعاً... إلى اللّقاء.

صديقي العزيز...

ماتزال تلك المكالمة، على الرغم من قساوتها على امرأة مثلي، مطبوعةً في مخيلتي، تملأ أذنيَّ ونفسي حرفاً حرفاً.. وماأزال أذكر أنني منذ تلك الليلة أصبحتُ متعلقة بك أكثر، ألوبُ مع نفسي مفتّشة عن قصصك، أحضرُ كلَّ أمسياتك. أجلسُ في الصفِّ الأول من المستمعين، تراني دون أن تعرفَني. يؤلمني ذلك جداً، حتى بدأتُ أحسُّ بأنك تخاطبني وتحدّثني وحدي، وكم ساقتني أوهامي لأتخيلّ أنّ اسمي هو ليلى أو مريم أو ميسون. ولكن عندما أعود وقد هدّني الإعياء والسهر كلَّ ليلة إلى عالمي الخاصّ ومكنوناتي الداخلية، أدركُ عمق السراب الذي أتصوّره وانتظره. أصحو إلى سعةِ الهوّة بيننا. فأنت شابٌّ مقبلٌ على الحياة، وأنا ألامسُ خريف العمر. أيقنُ أنَّ لك ليلاك، ولي من الحياة أوراقها الصّفر المتساقطة، وأنه لامكان لي في عالمكَ الخاص أكثر من قراءة أو استماع.

لكن مع مرور الأيام أصبحتَ أنت ياصديقي العزيز تتصلُ بي دون أن تعرفني، وتطلب منّي الحديث. كنتَ رقيقاً، سائغاً، عذباً. وكم كنتُ أتمزّقُ من الداخل وأنا أتكلّف الهدوءَ والوقار. بينما أحاسيسي وعواطفي تهفو إلى قول كلمة رقيقة مجنّحة كتلك التي كنتَ تطلقُها على مسامعي فتذيبني. ومع ذلك أرفضُ الانصهار لأنني لاأريد أن أخدش بمشاعري وكلماتي تلك التي أحسدها سواء كان اسمها ليلى أو مريم أو دعد أو ميسون. ولاأقبل وأنا الإنسانة التي تحبُّك ولاتعرفها أن أسيءَ إليك. بل قرّرتُ أن أتماسك ولو على حساب حبي وتدمير سعادتي.

صديقي العزيز...

لم أكن أبغي أن أفضي إليك بأحاسيسي. لكنّها انفجرت دون قصد منّي وعطّرت حياتي وكلماتي. ولأنني أخشى أن يتتالى الانفجار، قرّرتُ الابتعاد عن عالمك الخاص على الرغم من أنَّ إحساسي بك يغتصبني دوماً. قرّرتُ أن أودّع خريفي، وألجَ بوّابة الشتاء الجليدي المحنّط. هناك لايشعر بي أحد. ويكفيني ألماً أن أعيش في زنزانة معتمة، مع أنني بحبّي لك وأنت لاتعرفني، لا أرتكب جريمة ولاإثماً، بل أمارسُ حقّاً طبيعياً من حقوق الإنسان.

صديقي العزيز...

هل المرأة التي تعلن حبَّها ورغبتها آثمة؟؟!! أيتوجّبُ عليها دوماً أن تعاني الحرمانَ دون أن تجرأ على الشكوى منه؟؟!! أمحكومٌ عليها أن تكون نهايةُ مطافها أن تقبع في زنزانة الصقيع الأبدي.؟؟!!..

هكذا يقولون!!. لذا فقد فضّلتُ أن ابتعدَ عنك وأخنقَ حبَّكَ في زنزانة الشتاء، حيث أتعايشُ مع وحدتي وأحلامي المتلاشية.

صديقي العزيز...

إذا وصلتكَ رسالتي، فلا تستغرب. لقد آثرتُ ألاّ أبوحَ لكَ بمشاعري إلاّ بعد سنوات طويلة كي أتحوّلَ في نظرك إلى مجرّد ذكرى.

إنسَ رقمي. وشكراً لأنك لاتعرف اسمي، ولاتعرف وجهي. وحتى لاتظلَّ عاتباً متسائلاً حائراً. إذا أردتَ أن تزورني فإليك عنواني

الشارع الرئيس -زنزانة الشتاء

التوقيع :امرأة غير حاقدة

 

أضيفت في 15/06/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية